عن المقال

المؤلف :

محمد بن علي بن جميل المطري

التاريخ :

Sat, Apr 11 2015

التصنيف :

حول القرآن والحديث

تحميل

تفسير سورة البلد

تفسير سورة البلد


 
سورة البلد ذكَر الله فيها حال الأغنياء المتكبرين المسرفين، والأغنياء الصالحين المحسنين، وفيها حث الأغنياء على إنفاق أموالهم في عظائم القُرَب، التي لا تستطاع إلا ببذل الأموال الكثيرة، وخلال نظري في كثير مِن التفاسير وجدتُ أكثر المفسرين لم يبرز هذا المقصد العظيم لهذه السورة، مع أن هذا المقصد واضح، كما سيأتي توضيحه، وآيات السورة متناسبة في بيانه، فلنتدبر هذه السورة العظيمة:
يقول الله تعالى: ﴿ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴾ [البلد: 1، 2] أقسم الله بهذا البلد الحرام، وهو (مكة)، و(لا) هذه صلة للتأكيد، وليست نافية، وأنت - أيها النبيُّ - حلال في هذا (البلد الحرام) تصنع فيه ما شئت، ولم يحلَّ له إلا ساعة من نهار في فتح مكة، ففي الآية بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بفتح (مكة) على يده، وحِلِّها له في القتال، وقيل: المعنى: أُقسم بهذا البلد حال كونك حالاًّ فيه؛ أي: مقيمًا فيه؛ لأن حلول النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وإقامته فيها يزيدها شرفًا إلى شرفها.
 
قوله سبحانه: ﴿ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 3، 4]، وأقسم الله بكل والد وما ولد، ويدخل في هذا والدُ البشرية آدم عليه السلام، وما تناسل منه من ولد، بل ويعم هذا القسم كل والد وما ولد حتى من الحيوانات.
 
وجواب القسم هو: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4]؛ أي: في تعَبٍ وشدة وعناء من مكابدة الدنيا؛ فكل إنسان يخرج من تعبٍ إلى تَعَب، فلا أحد يسلم من التعب في هذه الدنيا منذ خروجه من بطن أمه إلى وفاته، فيكابد ضغطة الخروج من بطن أمه، ثم يكابد قطع حبل سرَّته، ثم إذا قُمِّط يكابد الضيق والتعب، ويكابد الارتضاع، ولو فاته لضاع، ثم يكابد الخِتان، ويكابد الأوجاع والأمراض، ثم يكابد نباتَ أسنانه، ثم يكابد الفِطام، ثم يكابد المعلم وصولته، والمؤدِّب وشدته، ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه، ثم يكابد شغل الأولاد، ويكابد بناء السكن وطلب الأرزاق، وإن كانت أنثى تكابد آلام الحيض وثقل الحمل وشدة الولادة، ثم تكابد الرَّضاع والتربية، وتكابد أعمال البيت والقيام بحقوق الزوج، ولا يسلم أحد طوال حياته من الأمراض والأحزان، ثم إن طال عمره أصابه الكِبَر والهَرَم، ولازمه الضعف والوهن، ثم عند الموت يكابد السكرات، فما دمتَ في هذه الدار فلا تسلم من الأكدار، سواء كنت غنيًّا أو فقيرًا، من الولادة حتى الوفاة!
 
وفي تفسير هذه الآية قول آخر، وهو أن معنى قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4]؛ أي: منتصبَ القامة مستويًا؛ فقد خلق الله الإنسان منتصبًا، يمشي على رِجلين، وهذه نعمة جليلة ميَّز الله بها البشر، فتكون هذه الآية كقوله تعالى: ﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ [التين: 1 - 4]، وكلا المعنيينِ صحيح.
 
قوله سبحانه: ﴿ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ﴾ [البلد: 5]؛ أي: أيظُن هذا الغني بما جمعه من مال أن الله الأحدَ لن يقدر عليه؟ فالأحد هو الله؛ كما قال سبحانه: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1]، فهذا الغني لم يعرف حقيقة الدنيا، وأنها تعَب ومشقة، فلم يغتنِمْ حياته قبل موته، ولا شبابه قبل هَرَمِه، ولا صحته قبل سقَمه، ولا فراغه قبل شُغله، ولا غناه قبل فقره، بل يفتخر ببذل الأموال في غير طاعة الرحمن!
 
يقول الله سبحانه عن هذا الغني: ﴿ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا ﴾ [البلد: 6]؛ أي: يقول هذا الغني المتكبر متباهيًا بما أنفَق في شهواته وملذَّاته: أنفقت مالاً كثيرًا، فبدلاً مِن أن ينفقها في الحلال، ويؤتي منها ذوي القربى والمساكين وابن السبيل - يبذِّرها تبذيرها؛ فهو من إخوان الشياطين.
 
يقول الله سبحانه منكرًا على هذا الغني: ﴿ أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ﴾ [البلد: 7]؛ أي: أيظن هذا الغني المبذِّر أموالَه في شهواتِه أن الله الذي مِن أسمائه "أحدٌ" لا يراه، ولا يحاسبه على ما أنفقه من الأموال في غير طاعة الله؟!
 
ثم قال سبحانه: ﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد: 8 - 10]؛ أي: ألم نجعل لهذا الغني المتكبر عينينِ يُبصر بهما ما أعطيناه من النِّعم، ولسانًا وشفتينِ ينطق بها ويفتخر، وبيَّنا له سبيلَيِ الخير والشر بإنزال الكتب وإرسال الرسل؟! وهذه نِعم عظيمة، دنيوية ودينية، لا تقدر بثمن، ولم يسأله الله على ذلك أجرًا، والمقصود بهذا تأنيب الغني المتكبر؛ لأنه لا يشكر الله بماله وقد أعطاه الله هذه النعم تفضلاً منه من غير حول منه ولا قوة، فلم يقُمْ بشكرها، بل استعان بعينيه على معصية الله، وتكلم بلسانه وشفتيه بما يُسخِط اللهَ، وترك اتباع طريق الشكر، واختار سلوك الطريق الذي يغضب الله!
 
والنَّجْد في اللغة: هو الطريق في المكان المرتفع، ففيه إشارة إلى أن طريق الخير والشر كلاهما فيه تعب ومشقة، فطوبى لمن جعل تعبه فيما يُرضي الله، لا فيما يُسخِطه.
 
قوله سبحانه: ﴿ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ﴾ [البلد: 11]؛ أي: فهلاَّ اقتحَم هذا الغني الأمور الشاقة بإنفاق أمواله فيما يُرضي الله عنه؟! أفلا دخل في هذا الطريق الصَّعب؟!
 
قوله سبحانه: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ ﴾ [البلد: 12، 13]؛ أي: وما أعلَمكَ عن هذا الطريق؟! إنه القيام بهذه الأعمالِ الصالحةِ التي لا يستطيعها إلا الأغنياء أصحاب الأموال، ثم ذكر الله بعض الأمور الشاقة التي يحث الأغنياء على إنفاق أموالهم فيها بدلاً من إنفاقها في الشهوات والملذَّات، والتفاخر بتبذيرها في السفاسف التافهات.
 
فمن تلك الأمور الشاقة التي لا تستطاع إلا ببذل الكثير من الأموال: عِتق رقبة من أَسْر الرِّق، إحسانًا بذلك الرقيق، وتحريرًا له من العبودية، وهذا لا يكون إلا بشرائه من سيده بالأموال الطائلة، أو التعاون مع بعض الأغنياء على شراء هذا العبد أو الأَمَة وعتقهما لوجه الله، ومن ذلك: السعي في فَكاك الأسير المسلم المأسور عند الكفار، أو عند غيرهم من الظَّلمة.
 
ثم ذكر الله مثالاً آخر من الأمور الشاقة التي لا تستطاع إلا ببذل الكثير من الأموال، فقال سبحانه: ﴿ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ﴾ [البلد: 14 - 16]؛ أي: إطعام في يوم ذي مجاعة شديدة، يقلُّ فيها الطعام، ويرتفع سعر الطعام الموجود، فلا يستطيع شراءَه المساكينُ، فيقوم هذا الغني بإطعام الطعام في هذه المجاعة، فيشتريه بالمال الكثير، ويبذله للمساكين، لا سيما لليتيم - الذي لا أبَ له - مِن ذوي قرابته، فيجتمع فيه فضل الصدقة وصلة الرَّحِم، أو مسكينًا ليس من أقاربه معدِمًا، لا شيء عنده، قد لصِق التراب بثيابه وجسده من شدة الفقر، فيطعمه لوجهِ الله في تلك المجاعة الشديدة.
 
وهذان مثالانِ لاقتحام العقبة، ومِن اقتحام العقبة أيضًا: التنفيس عن مكروب، وإغاثة ملهوف، ونصر مظلوم، وإعانة مجاهد في سبيل الله، وقضاء دَينِ مُعسِر، وعلاج مريض، وتزويج شابٍّ لم يستطع النكاح، وبناء مسجد، أو إصلاح طريق، أو حفر بئر للناس، وغير ذلك من القُرَب العظيمة التي تنفق فيها الأموال الكثيرة.
 
قوله سبحانه: ﴿ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ﴾ [البلد: 17]؛ أي: ثم كان هذا الغنيُّ مع فعله الأعمالَ العظيمة بماله مِن الذين أخلصوا الإيمان لله، وأوصى بعضهم بعضًا بالصبر على طاعة الله، وعن معاصيه، وتواصَوْا بالرحمة بالخلق، وفي هذا ثناءٌ على الأغنياء الذين يتعاونون على البر والتقوى، فيتواصَون بالصبر؛ لأن الإنسان خُلِق في تعَب ومشقة، فيحتاج إلى مَن يحثه على الصبر على طاعة الله، ومَن يحثه على الصبر عن الشهوات المحرمة التي تشتهيها نفسُه، ويحثه على الصبر على أقدار الله المؤلمة، وأيضًا هؤلاء الأغنياء يتواصَون بالرحمة بالمساكين، فيحث بعضهم بعضًا على فعل الخير رحمة بالمساكين؛ فإن الإنسان خُلق في تعب، وقلة المال تزيد المساكين تعبًا إلى تعبهم، وشقاءً على شقائهم، فهؤلاء الأغنياء المحسنون يتواصون بالرحمة بالبؤساء؛ ليخففوا عنهم بما أعطاهم الله مِن الأموال، ويتعاوَنون على فعل المعروف بالمساكين، وتعاوُن هؤلاء الأغنياء الصالحون يُكثِّر خيرَهم ويوسِّعه؛ فإن الغنيَّ بمفرده مهما فعل من خير فإنه قد يكسل أو يمل، فبتعاونه مع غيره من الأغنياء المحسنين يستمر في فعل الخير، ويكون نفعُه أكثر وأوسع؛ ولذا أوصى الله المؤمنين بالتعاون على البِرِّ والتقوى.
 
قوله سبحانه: ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ﴾ [البلد: 18]؛ أي: الأغنياء الذين فعلوا هذه الأفعال الطيبة هم أصحابُ اليمين، الذين يؤخذ بهم يوم القيامة ذاتَ اليمين إلى الجنة.
 
قوله سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ ﴾ [البلد: 19، 20]؛ أي: والذين كفروا بالقرآن هم الذين يؤخذ بهم يوم القيامة ذاتَ الشمال إلى نار جهنَّمَ، فلا تنفعهم أموالهم التي بخِلوا بها في الدنيا، فكفَروا بالله، ولم يحسِنوا إلى خَلْق الله، لا بالزكاةِ ولا بالصدقات، بل منَعوا الزكاة التي أمر بها الله، وربما تعاملوا بالرِّبا الذي يزيد المساكين ذلاًّ وفقرًا، فيدخلهم الله نار جهنم، وتكون مطبقة مغلَقة عليهم، ولا يرحمهم الله؛ لأنهم لم يرحموا خلق الله، ومَن لا يَرْحَم لا يُرْحَم، وقد ثبت في الصحيحين عن أبي ذرٍّ الغفاريِّ رضي الله عنه قال: انتهيت إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ في ظلِّ الكعبة، فلمَّا رآني قال: ((هم الأخسرون وربِّ الكعبة! هم الأخسرون وربِّ الكعبة!))، فقلت: يا رسول الله، فداك أبي وأمي، مَن هم؟! قال: ((هم الأكثرون أموالًا، إلَّا مَن قال هكذا وهكذا وهكذا - مِن بين يديه ومِن خلفه وعن يمينه وعن شماله - وقليلٌ ما هم)).
 
وفي الختام، أنبه إلى أن الصدقاتِ تجبُ على كل مسلم ومسلمة بقدر استطاعته؛ فإن الإسلامَ يأمر كلَّ أحدٍ بالصدقة ولو ضُيِّق عليه رزقه؛ قال الله سبحانه: ﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 7]، وقال سبحانه في وصف المتقين: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ﴾ [آل عمران: 133، 134]، فتأمل كيف وصفهم الله بالإنفاق حتى في الضراء! وقال سبحانه في وصف المتقين في أول سورة البقرة: ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 3]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 9 - 11].