عن المقال

المؤلف :

صلاح الدين بن علي بن عبد الموجود

التاريخ :

Thu, Oct 02 2014

التصنيف :

الأداب والأخلاق

تحميل

حوارٌ مع النَّفسِ

حوارٌ مع النَّفسِ 



اعلم أن أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك، وَقد خلقت أمّارةً بالسُّوء، ميالة إلى الشَّر، فرارة من الخير، وَأمرت بتزكيتها وَتقويمها، وَقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها وَخالقها، وَمنعها عَنْ شهواتها، وَفطامها عَنْ لذّاتها، فَإِن أهملتها جمحت وَشردت وَلم تظفر بها بعد ذلك، وَإن لازمتها بالتوبيخ وَالمعاتبة وَالعذل وَالملامة كانت نفسك هي النَّفس اللوامة التي أقسم الله بها وَرجوت أن تصير النفس المطمئنة المدعوة إلى أن تدخل في زمرةِ عباد الله راضيةً مرضيةً.

قَالَ: فلا تغفلن ساعة عَنْ تذكيرها وَمعاتبتها وَلا تشتغلن بوعظ غيرك ما لم تشتغل أولا بوعظ نفسك.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} ، وَسبيلك أن تُقبل عليها فتقرر عندها جهلها وَغباوتها، وَأنها أبدا تتعزز بفطنتِها وَهدايتِها وَيشتد أنفها وَاستنكافها إذا نسبت إلى الحمق فتقول لها: يا نفسُ! ما أعظم جهلك، تدّعين الحكمة والذكاء وَالفطنة؛ وَأنت أشد النّاس غباوة وَحمقا، أما تعرفين ما بين يديك من الجنةِ وَالنّار، وَأنك صائرة إلى إحداهما على القرب؟، فما لك تفرحين وَتضحكِين، وَتشتغلين باللهو وَأنت مطلوبة لهذا الخطب الجسيم، وَعساك اليوم تختطفين أَوْ غدا، فأراك ترين الموت بعيدًا وَيراه الله قريبًا، أما تعلمين أن كلّ ما هو آت قريب، وَأن البعيد ما ليس بآت؟، أما تعلمين أن الموت يأتي بغتة من غير تقديم رسول، وَمن غير مواعدةٍ وَمواطأة، وَأنه لا يأتي في شيء دون شيء، وَلا في شتاء دون صيف، وَلا في صيفٍ دون شتاء، وَلا في نهار دون ليل، وَلا في ليل دون نهار، وَلا يأتي في الصِّبا دون الشَّباب، وَلا في الشَّباب دون الصِّبا؟، بل كل نفس من الأنفاس يمكن أن يكون فيه الموت فجأة، فَإِنْ لم يكن الموت فجأة فيكون المرض فجأة ثم يفضى إلى الموت، فما لك لا تستعدين للموت وَهو أقرب إليك من كل قريب، أما تتدبرين قوله تَعَالَى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (3)} .
وَيحك يا نفسُ! إن كانت جراءتك على معصية الله لاعتقادك أن الله لا يراك؛ فما أعظم كفرك، وَإن كان مع علمك بإطلاعه عليك فما أشدّ وَقاحتك وَأقلّ حياءك.

وَيحك يا نفس لو وَاجهك عبد من عبيدك بل أخ من إخوانك بما تكرهينه كيف كان غضبك عليه وَمقتك له؟، فبأي جسارة تتعرضين لمقت الله وَغضبه وَشديد عقابه!؟، أفتظنين أنك تطيقين عذابه؟ هيهات هيهات جربي نفسك إن ألهاك البطر عَنْ أليم عذابه، فاحتبسي ساعة في الشمس, أَوْ في بيت الحمَّام, أَوْ قربى إصبعك من النار ليتبين قدر طاقتك، أم تغترين بكرم الله وَفضله وَاستغنائه عَنْ طاعتك وَعبادتك؟ فما لك لا تعولين على كرم الله تَعَالَى في مهمات دنياك؟، فإذا قصدك عدو فلم تستنبطين الحيل في دفعه وَلا تكلينه إلى كرم الله تَعَالَى؟، وَإِذَا أرهقتك حاجة إلى شهوة من شهوات الدّنيا مما لا ينقضي إلا بالدينار وَالدرهم فما لك تنزعين الروح في طلبها وَتحصيلها من وَجوه الحيل فلا تعولين على كرم الله تَعَالَى حتى يعثر بك على كنز, أَوْ يسخر عبدًا من عبيده فيحمل إليك حاجتك من غير سعى منك وَلا طلب، أفتحسبين أن الله كريم في الآخرة دون الدنيا وَقد عرفت أن سنة الله لا تبديل لها، وَأن ربَّ الآخرة وَالدنيا وَاحد وَأن ليس للإنسان إلا ما سعى.
ويحك يا نفسُ! ما أعجب نفاقك وَدواعيك الباطلة، فإنك تدعين الإيمان بلسانك وَأثر النّفاق ظاهر عليك، ألم يقل لك سيدك وَمولاك: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .
وَقال في أمر الآخرة: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} ، فقد تكفَّل لك بأمر الدنيا خاصة وَصرفكِ عَنْ السَّعي فيها فكذبتِهِ بأفعالك وَأصبحتِ تتكالبين على طلبها تَكالب المدهوش المستهتر، وَوكل أمر الآخرة إلى سعيك فأعرضتِ عنها إعراض المغرور المستحقر، ما هذا من علامات الإيمان، لو كان الإيمان باللسان فلم كان المنافقون في الدَّرك الأسفلِ من النار.
وَيحك يا نفسُ! كأنك لا تؤمنين بيوم الحساب وَتظنين أنك إذا مت انفلت وَتخلصت وَهيهات، أتحسبين أنك تُتْرَكِينَ سُدَىً ألم تكوني نطفة من منى يمنى، ثم كنتِ علقةً فخلق فسوى، أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى، فَإِن كان هذا من إضمارك فما أكفرك وَأجهلك، أما تتفكرين أَنَّهُ من ماذا خلقك، من نطفة خلقك فقدرك، ثم السبيل يسرك، ثم أماتك فأقبرك، أفتكذبينه في قوله: {ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ} ، فَإِن لم تكوني مكذبة فما لك لا تأخذين حذرك، وَلو أن يهوديا أخبرك في ألذ أطعمتك بأنه يضرك في مرضك لصبرت عنه وَتركته وَجاهدت نفسك فيه، أفكان قول الأنبياء المؤيدين بالمعجزات وَقول الله تَعَالَى في كتبه المنزلة أقل عندك تأثيرا من قول يهودي يخبرك عَنْ حَدِسٍ وَتخمين، وَظن مع نقصان عقل وَقصور علم، وَالعجب أَنَّهُ لو أخبرك طفل بأن في ثوبك عقربًا لرميت ثوبك في الحال من غير مطالبة له بدليل وَبرهان، أفكان قول الأنبياء وَالعلماء وَالحكماء وَكافة الأولياء أقل عندك من قول صبي من جملة الأغبياء؟!، أم صار حرّ جهنم وَأغلالها وَأنكالها وَزقومها وَمقامعها وَصديدها وَسمومها وَأفاعيها وَعقاربها أحقر عندك من عقرب لا تحسين بألمها إلا يوما أَوْ أقل منه؟!، ما هذه أفعال العقلاء، بل لو انكشف للبهائم حالك لضحكوا منك وَسخروا من عقلك.
فَإِن كنت يا نفس قد عرفت جميع ذلك وَآمنت به فما لك تسوفين العمل وَالموت لك بالمرصاد وَلعله يختطفك من غير مهلة فبماذا أمنت استعجال الأجل، وَهبك أنك وَعدت بالإمهال مائة سنة، أرأيت لو سافر رجل ليتفقه في الغربة فأقام فيها سنين متعطلا بطالا يعد نفسه بالتفقه في السنة الأخيرة عند رجوعه إلى وَطنه هل كنت تضحكين من عقله وَظنه أن تفقيه النفس مما يطمع فيه بمدة قريبة, أَوْ حسبانه أن مناصب الفقهاء تُنالُ من غير تفقهٍ اعتمادًا على كرمِ اللهِ، ثم هبي أن الجهد في آخر العمر نافع وَأنه موصل إلى الدرجات العلا فلعل اليوم آخر عمرك فلم تشتغلين فيه بذلك، فَإِنَّ أوحى إليك بالإمهال فما المانع من المبادرة؟!، وَما الباعث لك على التسويف؟!، هل له سبب إلا عجزك عَنْ مخالفة شهواتك لما فيها من التعب وَالمشقة؟! أفتنتظرين يوما يأتيك لا تعسر فيه مخالفة الشهوات؟! هذا يوم لم يخلقه الله قط وَلا يخلقه، فلا تكون الجنة قط إلا محفوفة بالمكاره، وَلا تكون المكاره قط خفيفة على النفوس، وَهذا محال وَجوده، أما تتأملين مذ كم تعدين نفسك وَتقولين: غدًا غدًا. فقد جاء الغد وَصار يومًا فكيف وَجدته؟! أما علمت أن الغد الذي جاء وَصار يومًا كان له حكم الأمس؟! لا بل الذي تعجزين عنه اليوم فأنت غدًا عنه أعجز وَأعجز؛ لأن الشَّهوة كالشَّجرة الرّاسخة التي تعبد العبد بقلعها فإذا عجز العبد عَنْ قلعها للضعف وَأخَّرَها كان كمن عجز عَنْ قلع شجرة وَهو شاب قوي فأخرها إلى سنة أخرى؛ مع العلم بأن طول المدة يزيد الشجرة قوة وَرسوخًا وَيزيد القالع ضعفا وَوهنا، فما لا يقدر عليه في الشباب لا يقدر عليه قط في المشيب، بل من العناء رياضة الهرم وَمن التعذيب تهذيب الذيب.
فإذا كنت أيتها النفس لا تفهمين هذه الأمور الجلية؛ وَتركنين إلى التسويف، فما بالك تدعين الحكمة وَأية حماقة تزيد على هذه الحماقة.
ولعلك تقولين: ما يمنعني عَنْ الاستقامة إلا حرصي على لذة الشهوات وَقلة صبري على الآلام وَالمشقات. فما أشد غباوتك!! وَأقبح اعتذارك إن كنت صادقة في ذلك!! فاطلبي التنعم بالشهوات الصافية عَنْ الكدورات الدائمة أبد الآباد وَلا مطمع في ذلك إلا في الجنة، فَإِن كنت ناظرة لشهوتك فالنظر لها في مخالفتها قرب أكلة تمنع أكلات.
وما قولك في عقل مريض؛ أشار عليه الطبيب بترك الماء البارد ثلاثة أيام ليصح وَيهنأ بشربةٍ طول عمره، وَأخبره أَنَّهُ إن شرب ذلك مرض مرضًا مزمنًا؛ وَامتنع عليه شربه طول العمر، فما مقتضى العقل في قضاء حق الشَّهوة، أيصبر ثلاثة أيام ليتنعم طول العمر؛ أم يقضي شهوته في الحال خوفا من ألم المخالفة ثلاثة أيام حتى يلزمه ألم المخالفة ثلاثمائة يوم؛ وَثلاثة آلاف يوم؛ وَجميع عمرك، بالإضافة إلى الأبد الذي هو مدة نعيم أهل الجنة وَعذاب أهل النار.
وليت شعري ألم الصبر عَنْ الشَّهوات أعظم شدة وَأطول مدة, أَوْ ألم النار في دركات جهنم؟! فمن لا يطيق الصبر على ألم المجاهدة؛ كيف يطيق ألم عذاب الله؟! ما أراك تتوانين عَنْ النظر لنفسك إلا لكفرٍ خفي, أَوْ لحمق جلي.
أما الكفر الخفي: فهو ضعف إيمانك بيوم الحساب، وَقلة معرفتك بعظم قدر الثواب وَالعقاب.
وأما الحمق الجلي: فاعتمادك على كَرِم الله تَعَالَى وَعفوه من غير التفات إلى مكره، وَاستدراجه وَاستغنائه عَنْ عبادتك، مع أنك لا تعتمدين على كرمه في لقمة من الخبز, أَوْ حبةٍ من المال, أَوْ كلمةٍ وَاحدة تسمعينها من الخلق، بل تتوصلين إلى غرضك في ذلك بجميع الحيل.
ويحك يا نفسُ! لا ينبغي أن تغرك الحياة الدنيا وَلا يغرنك بالله الغرور، فانظري لنفسك فما أمرك بمهم لغيرك، وَلا تضيعي أوقاتك فالأنفاس معدودة فإذا مضى منك نفسٌ فقد ذهب بعضك، فاغتنمي الصِّحة قبل السِّقم، وَالفراغ قبل الشغل، وَالغنى قبل الفقر، وَالشَّباب قبل الهرم، وَالحياة قبل الموت، وَاستعدي للآخرة على قدر بقائك فيها.
يا نفسُ! أما تستعدين للشتاء بقدر طول مدته فتجمعين له القوت وَالكسوة وَالحطب وَجميع الأسباب، وَلا تتكلين في ذلك على فضل الله وَكرمه حتى يدفع عنك البرد من غير جبة وَلبد وَحطب وَغير ذلك، فَإِنَّهُ قادر على ذلك، أفتظنين أيتها النفس أن زمهرير جهنم أخفُّ بردًا وَأقصر مدة من زمهرير الشّتاء، أم تظنين أن ذلك دون هذا، كلا أن يكون هذا كذلك, أَوْ أن يكون بينهما مناسبة في الشّدة وَالبرودة، أفتظنين أن العبد ينجو منها بغير سعي، هيهات كما لا يندفع برد الشتاء إلا بالجبةِ وَالنار وَسائر الأسباب فلا يندفع حرّ النار وَبردها إلا بحصن التوحيد وَخندق الطَّاعات، وَإنما كرم الله تَعَالَى في أن عرّفك طريق التحصن، وَيسر لك أسبابه؛ لا في أن يندفع عنك العذاب دون حصنه، كما أن كرم الله تَعَالَى في دفع برد الشتاء أن خلق النار، وَهداك لطريق استخراجها من بين حديدة وَحجر؛ حتى تدفعي بها برد الشتاء عَنْ نفسك، وَكما أن شراء الحطب وَالجبة مما يستغنى عنه خالقك وَمولاك، وَإنما تشترينه لنفسك إذ خلقه سببًا لاستراحتك، فطاعاتك وَمجاهداتك أيْضًا هو مستغن عنها وَإنما هي طريقك إلى نجاتك، فمن أحسن فلنفسه وَمن أساء فعليها، وَالله غني عَنْ العالمين.
ويحك يا نفسُ! انزعي عَنْ جهلك وَقيسي آخرتك بدنياك فـ{مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} ، وَ{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} وَ{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} ، وَسنة الله تَعَالَى لا تجدين لها تبديلا وَلا تحويلا.
وَيحك يا نفس! ما أراك إلا أَلِفْتِ الدُّنْيَا وَأَنِسْتِ بِهَا؛ فعسر عليك مفارقتها وَأنت مقبلة على مقاربتها، وَتؤكدين في نفسك مودتها، فاحسبي أنك غافلة عَنْ عقاب الله وَثوابه، وَعن أهوال القيامة وَأحوالها، فما أنت مؤمنة بالموت المفرِّق بينك وَبين محابك. 
وَيحك يا نفس! أتعلمين أن كلّ من يلتفت إلى ملاذ الدنيا وَيأنس بها مع أن الموت من وَرائه, فإنما يستكثر من الحسرة عند المفارقة, وَإنما يتزود من السُّم المهلك وَهو لا يدري, أَو ما تنظرين إلى الذين مضوا كيف بنوا وَعلوا, ثم ذهبوا وَخلوا, وَكيف أورث الله أرضهم وَديارهم أعداءهم؟! أما ترينهم كيف يجمعون ما لا يأكلون، وَيبنون ما لا يسكنون، وَيؤملون ما لا يدركون؟، يبني كُلُّ وَاحدٍ قصرًا مرفوعًا إلى جهةِ السماءِ, وَمقره قبر محفور تحت الأرض. فهل في الدنيا حمق وَانتكاس أعظم من هذا؟ يعمر الواحد دنياه وَهو مرتحل عنها يقينا, وَيخرب آخرته وَهو صائر إليها قطعا؟.
وَيحك يا نفس! أما تستحيين من مساعدةِ هؤلاء الحمقى على حماقتهم؟
وَاحسبي أنك لست ذات بصيرة تهتدي إلى هذه الأمور, وَإنما تميلين بالطَّبع إلى التشبه والإقتداء، فقيسي عقل الأنبياء وَالعلماء والحكماء بعقل هؤلاء المنكبين على الدنيا, وَاقتدي من الفريقين بمن هو أعقل عندك إن كنت تعتقدين في نفسك العقل وَالذكاء.
وَيحك يا نفس! ما أعجب أمرك, وَأشد جهلك وَأظهر طغيانك! عجبا لك كيف تعمين عَنْ هذه الأمور الواضحة الجليلة! وَلعلك يا نفسُ أسكرك حبُّ الجاه، وَأدهشك عَنْ فهمها, أَو ما تتفكرين أَنَّ الجاهَ لا معنى له إلا ميل القلوب من بعض النّاس إليك، فاحسبي أن كل من على وَجه الأرض سجد لك وَأطاعك, أفما تعرفين أَنَّهُ بعد خمسين سنة لا تبقين أنت وَلا أحد ممن على وَجه الأرض ممن عبدك وَسجد لك، وَسيأتي زمان لا يبقى ذِكْرك وَلا ذكر من ذكرك, كما أتى على الملوك الذين كانوا من قبلك، فـ{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} .
فكيف تبيعين يا نفسُ ما يبقى أبد الآباد بما لا يبقى أكثر من خمسين سنة إن بقي؟، هذا إن كنت ملكا من ملوك الأرض سلم لك الشرق وَالغرب حتى أذعنت لك الرقاب, وَانتظمت لك الأسباب، كيف ولا يسلم لك من ذلك شيئا؟، فَإِن كنت يا نفسُ لا تتركين الدنيا رغبة في الآخرة لجهلك وَعمى بصيرتك, فما لك لا تتركينها ترفعًا عَنْ خسة شركائها, وَتنزها عَنْ كثرة عُنَّائها, وَتوقيا من سرعة فنائها, أم ما لك لا تزهدين في قليلها بعد أن زهد فيك كثيرها، وَما لك تفرحين بدنيا إن ساعدتك فلا تخلو بلدك من جماعة من اليهود وَالمجوس يسبقونك بها؟ وَيزيدون عليك في نعيمها وَزينتها, فأف لدنيا يسبقك بها هؤلاء الأخساء، فما أجهلك وَأخس همتك وَأسقط رأيك إذ رغبت عَنْ أن تكوني في زمرة المقربين من النبيين وَالصديقين في جوار رب العالمين أبد الآبدين، لتكوني في صف النعال من جملة الحمقى الجاهلين أياما قلائل، فيا حسرة عليك إن خسرت الدنيا وَالدين.
وَيحك يا نفس! فبادري -وَيحك- فقد أشرفت على الهلاك وَاقترب الموت وَورد النذير فمن ذا يصلي عنك بعد الموت؟، وَمن ذا يصوم عنك بعد الموت؟، وَمن ذا يترضى عنك ربك بعد الموت؟.
وَيحك يا نفس! مالك إلا أيام معدودة هي بضاعتك إن اتجرت فيها وَقد ضيعت أكثرها فلو بكيت بقية عمرك على ما ضيعت منها لكنت مقصرة في حق نفسك فكيف إذا ضيعت البقية وَأصررت على عادتك؟، أما تعلمين يا نفس أن الموت موعدك، وَالقبر بيتك، وَالتراب فراشك، وَالدود أنيسك، وَالفزع الأكبر بين يديك؟، أما علمت يا نفس أن عسكر الموتى عندك على باب البلد ينتظرونك وَقد آلوا على أنفسهم كلهم بالأيمان المغلظة أنهم لا يبرحون من مكانهم ما لم يأخذوك معهم، أما تعلمين يا نفس أنهم يتمنون الرجعة إلى الدنيا يوما ليشتغلوا بتدارك ما فرط منهم, وَأنت في أمنيتهم وَيوم من عمرك لو بيع منهم بالدنيا بحذافيرها لاشتروه لو قدروا عليه, وَأنت تضيعين أيامك في الغفلة وَالبطالة.
وَيحك يا نفس! أما تستحيين تزينين ظاهرك للخلق, وَتبارزين الله في السر بالعظائم، أفتستحيين من الخلق وَلا تستحيين من الخالق، وَيحك أهو أهون الناظرين عليك؟! أتأمرين النّاس بالخير وَأنت متلطخة بالرذائل؟! تدعين إِلَى اللهِ وَأنت عنه فارة؟! وَتذكرين بالله وَأنت له ناسية؟! أما تعلمين يا نفس أن المذنب أنتن من العذرة وَأن العذرة لا تطهر غيرها، فلم تطمعين في تطهير غيرك وَأنت غير طيبة في نفسك؟!
وَيحك يا نفس! لو عرفت نفسك حق المعرفة لظننت أن النّاس ما يصيبهم بلاء إلا بشؤمك.
وَيحك يا نفس! قد جعلت نفسك حمارًا لإبليس يقودك إلى حيث يريد وَيسْخَر بك, وَمع هذا فتعجبين بعملك وَفيه من الآفات ما لو نجوت منه رأسا برأس لكان الربح في يديك، وَكيف تعجبين بعملك مع كثرة خطاياك وَزللك، وَقد لعن الله إبليس بخطيئة وَاحدة بعد أن عبده ما عبده مائتي ألف سنة، وَأخرج آدم من الجنة بخطيئة وَاحدة مع كونه نبيه وَصفيه.
وَيحك يا نفس! ما أغدرك!!
وَيحك يا نفس! ما أوقحك!!
وَيحك يا نفس! ما أجهلك!! وَما أجرأك على المعاصي!!
وَيحك كم تعقدين فتنقضين!!
وَيحك كم تعهدين فتغدرين!!
وَيحك يا نفس! أتشتغلين مع هذه الخطايا بعمارة دنياك كأنك غير مرتحلة عنها؟!, أما تنظرين إلى أهل القبور كيف كانوا جمعوا كثيرا، وَبنوا مشيدا، وَأمَّلوا بعيدا، فأصبح جمعهم بورا، وَبنيانهم قبورا، وَأملهم غرورا؟!
وَيحك يا نفس! أما لك بهم عبرة؟ أما لك إليهم نظرة؟ أتظنين أنهم دعوا إلى الآخرة وَأنت من المخلدين؟! هيهات هيهات ساء ما تتوهمين ما أنت إلا في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك, فابني على وَجه الأرض قصرك فَإِنَّ بطنها عَنْ قليل يكون قبرك، أما تخافين إذا بلغت النفس منك التراقي أن تبدو رسل ربك منحدرة إليك بسواد الألوان، وَكلح الوجوه، وَبشرى بالعذاب، فهل ينفعك حينئذ الندم؟ أَوْ يقبل منك الحزن؟ أَوْ يرحم منك البكاء؟ وَالعجب كل العجب منك يا نفس أنك مع هذا تدعين البصيرة وَالفطنة، وَمن فطنتك أنك تفرحين كل يوم بزيادة مالك وَلا تحزنين بنقصان عمرك وَما نفع مال يزيد وَعمر ينقص.
وَيحك يا نفس! تعرضين عَنْ الآخرة وَهى مقبلة عليك، وَتقبلين على الدنيا وَهى معرضة عنك، فكم من مستقبل يوما لا يستكمله، وَكم من مؤمل لغد لا يبلغه، فأنت تشاهدين ذلك في إخوانك وَأقاربك وَجيرانك، فترين تحسرهم عند الموت ثم لا ترجعين عَنْ جهالتك، فاحذري أيتها النفس المسكينة يوما آلى الله فيه على نفسه أن لا يترك عبد أمره في الدنيا وَنهاه حتى يسأله عَنْ عمله دقيقه وَجليله، سره وَعلانيته، فانظري يا نفس بأي بدن تقفين بين يدي الله، وَبأي لسان تجيبين، وَأعدي للسؤال جوابا، وَللجواب صوابا، وَاعملي بقية عمرك في أيام قصار لأيام طوال، وَفي دار زوال لدار مقامة، وَفي دار حزن وَنصب لدار نعيم وَخلود، اعملي قبل أن لا تعملي، اخرجي من الدنيا اختيارا خروج الأحرار قبل أن تخرجي منها على الاضطرار، وَلا تفرحي بما يساعدك من زهرات الدنيا فرب مسرور مغبون، وَرب مغبون لا يشعر، فويل لمن له الويل ثم لا يشعر, يضحك وَيفرح وَيلهو وَيمرح وَيأكل وَيشرب وَقد حق له في كتاب الله أَنَّهُ من وَقود النار.
فليكن نظرك يا نفس إلى الدنيا اعتبارا، وَسعيك لها اضطرارا، وَرفضك لها اختيارا، وَطلبك للآخرة ابتدارا، وَلا تكوني ممن يعجز عَنْ شكر ما أوتي، وَيبتغي الزيادة فيما بقي، وَينهى النّاس وَلا ينتهي، وَاعلمي يا نفس أَنَّهُ ليس للدين عوض، وَلا للإيمان بدل، وَلا للجسد خلف، وَمن كانت مطيته الليل وَالنهار فَإِنَّهُ يسار به وَإن لم يسر.
فاتعظي يا نفس بهذه الموعظة وَاقبلي هذه النصيحة، فَإِنَّ من أعرض عَنْ الموعظة فقد رضي بالنار، وَما أراك بها راضية، وَلا لهذه الموعظة وَاعية، فَإِن كانت القساوة تمنعك عَنْ قبول الموعظة فاستعيني عليها بدوام التهجد وَالقيام، فَإِن لم تزل فالمواظبة على الصيام، فَإِن لم تزل فبقلة المخالطة وَالكلام، فَإِن لم تزل فبصلة الأرحام وَاللطف بالأيتام، فَإِن لم يبق فيك مجال للوعظ؛ فاقنطي من نفسك وَالقنوط كبيرة من الكبائر نعوذ بالله من ذلك, فلا سبيل لك إلى القنوط وَلا سبيل لك إلى الرّجاء مع انسداد طرق الخير عليك, فَإِنَّ ذلك اغترار وَليس برجاء، فانظري الآن هل يأخذك حزن على هذه المصيبة التي ابتليت بها وَهل تسمح عينك بدمعة رحمة منك على نفسك فَإِن سمحت فمستقى الدّمع من بحر الرَّحمة فقد بقى فيك موضع للرجاء فواظبي على النياحة وَالبكاء.
وَاستعيني بأرحم الراحمين، وَاشتكي إلى أكرم الأكرمين، وَأدمني الاستغاثة، وَلا تملي طول الشّكاية لعله أن يرحم ضعفك وَيغيثك، فَإِنَّ مصيبتك قد عظمت، وَبليتك قد تفاقمت، وَتماديك قد طال، وَقد انقطعت منك الحيل، وَراحت عنك العلل، فلا مذهب، وَلا مطلب، وَلا مستغاث، وَلا مهرب، وَلا ملجأ، وَلا منجا إلا إلى مولاك، فافزعي إليه بالتضرع، وَاخشعي في تضرعك على قدر عظم جهلك وَكثرة ذنوبك؛ لأنه يرحم المتضرع الذليل, وَيغيث الطالب المتلهف, وَيجيب دعوة المضطر وَقد أصبحت إليه اليوم مضطرة، وَإلى رحمته محتاجة، وَقد ضاقت بك السبل وَانسدت عليك الطرق، وَانقطعت منك الحيل، وَلم تنجح فيك العظات، وَلم يكسرك التوبيخ، فالمطلوب منه كريم، وَالمسئول جواد، وَالمستغاث به بر رءوف وَالرحمة وَاسعة وَالكرم فائض وَالعفو شامل وَقولي: \"يا أرحم الراحمين يا رحمن يا رحيم يا حليم يا عظيم يا كريم, هذا مقام المتضرع المسكين، وَالبائس الفقير، وَالضعيف الحقير، وَالهالك الغريق فعجل إغاثتي وَفرجي, وَأرني آثار رحمتك, وَأذقني برد عفوك وَمغفرتك، وَارزقني قوة عصمتك يا أرحم الراحمين\".(1)


( 1) مختصرا من «إحياء علوم الدين»(4/423).