عن المقال

المؤلف :

محمد بن علي بن جميل المطري

التاريخ :

Sat, Apr 11 2015

التصنيف :

للمسلم الجديد

تحميل

كم ترك الأول للآخر!

كم ترك الأول للآخر!



العلم رزقٌ، يرزقه الله جلَّ جلاله من يشاء من عباده؛ ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾ [البقرة: 255]، وهو سبحانه يبثُّه بين عباده كيف يشاء، فيبسطه لمن يشاء، ويصرفه عمَّن يشاء، وهو سبحانه الكريم الوهَّاب الفتاح، قد يهب الصِّغار ما لا يهبه للكبار، وقد يفتح على بعض المتأخِّرين ما لم يفتحه على المتقدمين.
 
روى عبدالرزَّاق الصَّنعانيُّ (20946): عن مَعمرٍ عن الزُّهري قال: كان مجلسُ عمرَ مغتصًّا من القرَّاء؛ شبابًا كانوا أو كهولاً، فربَّما استشارهم، فيقول: "لا يمنَعْ أحدًا منكم حداثةُ سنِّه أن يُشير برأيه؛ فإنَّ العلم ليس على حداثة السنِّ ولا قِدَمه، ولكن الله يَضعه حيث شاء".
 
وقد أخبر الله في كتابه أنه فهَّم سليمانَ مسألةً لم يفهمها داودُ عليهما الصلاة والسلام، مع كونه نبيًّا ملكًا قد علَّمه الله مما يشاء، فقال سبحانه: ﴿ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ [الأنبياء: 78، 79]، فهذان نبيَّان كريمان حكَما في حكومة واحدة، فخصَّ الله أحدهما بفَهمها مع صِغره، ومع وجود أبيه داودَ عليه الصلاة والسلام.
 
قال ابن مالك (ت672هـ) في مقدِّمة كتابه "تسهيل الفوائد، وتكميل المقاصد": "وإذا كانت العلومُ مِنَحًا إلهية، ومواهبَ اختصاصيةً فغيرُ مستبعَدٍ أن يُدَّخَر لبعض المتأخِّرين ما عسُرَ على كثيرٍ من المتقدِّمين، أعاذنا الله من حسدٍ يسدُّ بابَ الإنصاف، ويصدُّ عن جميل الأوصاف".
 
وعلَّق المرتضى الزَّبيديُّ (ت 1205هـ) على كلام ابنِ مالك فقال: "والمعنى أنَّ تَقدُّم الزمان وتأخُّرَه ليست له فضيلةٌ في نفسه؛ لأنَّ الأزمانَ كلَّها متساويةٌ، وإنما المعتَبَر الرجالُ الموجودون في تلك الأزمان، فالمصيبُ في رأيه ونقلِه ونقدِه لا يَضرُّه تأخُّرُ زمانِه الذي أظهره اللهُ فيه، والمخطئ الفاسدُ الرأيِ الفاسدُ الفهمِ لا ينفعه تقدُّم زمانِه، وإنما الْمُعاصَرة كما قيل: حِجابٌ، والتقليد الْمَحْضُ وبالٌ على صاحبه وعذاب، وأنشدَنا شيخنا الأديب عبد الله بن سلامة المؤذن:
قُلْ لِمَن لا يَرى الْمُعاصِرَ شيئًا 
ويرى للأوائلِ التَّقْديما 
إنَّ ذاك القديمَ كانَ حديثًا 
وسَيُسمَى هذا الحديثُ قَديما 
 
وقال حاجي خليفة (ت1067هـ) في مقدِّمة "كشف الظُّنون": "واعلم أن نتائجَ الأفكار لا تقف عند حدٍّ، وتصرُّفاتِ الأنظار لا تنتهي إلى غاية، بل لكل عالم ومتعلم منها حظٌّ يُحْرزه في وقته المقدَّر له، وليس لأحدٍ أن يزاحمه فيه؛ لأن العالَم المعنوي واسعٌ كالبحر الزاخر، والفيضَ الإلهي ليس له انقطاعٌ ولا آخِر، والعلومُ منحٌ إلهية، ومواهبُ صَمَدانيَّة، فغير مستبعَد أن يُدَّخَر لبعض المتأخِّرين ما لم يُدَّخر لكثير من المتقدِّمين، فلا تغترَّ بقول القائل: "ما ترك الأولُ للآخر"، بل القول الصحيح الظاهر: "كم ترك الأول للآخر!"؛ فإنما يُستجَاد الشيء ويُسترذَل؛ لجَوْدته ورداءته، لا لقِدَمه وحدوثه.
 
ويقال: ليس بكلمةٍ أضرَّ بالعلم من قولهم: "ما ترك الأول شيئًا"؛ لأنه يقطع الآمال عن العلم، ويحمل على التقاعد عن التعلم، فيقتصر الآخر على ما قدَّم الأولُ من الظواهر، وهو خطر عظيم، وقول سقيم، فالأوائل وإن فازوا باستخراج الأصول وتمهيدها، فالأواخر فازوا بتفريع الأصول وتشييدها، كما قال عليه الصلاة والسلام: (أمتي أمة مباركة، لا يُدْرَى أوَّلها خير أو آخرها)).
 
وقال محمد بن الحسن الفاسي في كتابه "الفكر السامي، في تاريخ الفقه الإسلامي" (2/ 516) معلقًا على قول الشاعر:
لم يدَع مَن مضى للَّذي قد غبَرْ 
فضْلَ علمٍ سوى أخْذِه بالأثَرْ 
 
هذا خيال شاعر، ليست حجَّة عقلية ولا شرعية، أوجبها تأخر الأفكار الإسلامية وركونها للجمود، وقد قال فيه اليوسي في القانون: لا أضرَّ بالعلماء والمتعلمين منه، وتحجير لفضل الله الذي لم يوقَّت بزمان ولا مكان، ويقابلها قول الشاعر الذي صدَّقه الأوائل والأواخر:
كم ترَك الأولُ للآخر!
قال زروق في "قواعده" قاعدة: إنَّ النظر للأزمنة والأشخاص لا من حيث أصلٌ شرعي - أمرٌ جاهلي؛ حيث قال الكفار: ﴿ لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾ [الزخرف: 31]، فرد الله عليهم بقوله: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ﴾ [الزخرف: 32]؟! وقالوا: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 23]، فرد الله عليهم بقوله: ﴿ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ﴾ [الزخرف: 24]، فلزم النظر لعمومِ فضل الله، من غير مبالاة بزمن ولا شخص، إلا من حيث ما خصَّه الله به... إلى آخر كلامه.
 
وقال أيضًا: إذ حُقِّق أصل العلم، وعُرفت موادُّه، وجرَت فروعه، ولاحَت أصوله، كان الفَهمُ مبذولاً بين أهله، فليس المتقدم فيه بأولى من المتأخر، وإن كان له فضيلةُ السَّبق، فالعلم حاكم، ونظر المتأخرين أتمُّ؛ لأنه زائدٌ على المتقدم، والفتح من الله مأمولٌ لكل أحد.
 
ولا يعني هذا أن يخالف المتأخِّرُ الإجماع، أو يتكلم في العلم بالهوى والظنون والأوهام؛ فإن هذا ضلال مبين، وجهلٌ عظيم؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115]، وإنما المراد أن المتأخِّر قد يَفتح الله عليه بأشياءَ من العلم فاتت كثيرًا من المتقدمين، فيستنبط من الكتاب والسنة الصحيحةِ ما لم يَستنبطه مَن قبله، أو يظهر له دليلٌ فات الاستدلالُ به مَن قبله، أو يظهر له ضعفُ قولٍ راج على كثير ممن قبله، ونحو ذلك مما لا يخالف النصوص ولا الإجماعَ الصحيح.
 
قال أبو منصور الثعالبي في كتابه "يتيمة الدهر" (3/ 464): ومن ذا حظر على المتأخر مضادَّةَ المتقدم؟! ولِمَه تأخذ بقول من قال: ما ترك الأول للآخر شيئًا، وتدع قول الآخر: كم ترك الأول للآخر؟! وهل الدنيا إلا أزمانٌ، ولكل زمان منها رجال؟! وهل العلوم بعد الأصول المحفوظةِ إلا خطراتُ الأوهام، ونتائج العقول؟! ولمه لا يَنظر الآخر مثل ما نظر الأول؛ حتى يؤلِّف مثل تأليفه، ويجمع مثل جمعه، ويرى في كل ذلك مثل رأيه؟! وما تقول لفقهاء زماننا إذا نزلَت بهم من نوادر الأحكام نازلةٌ لم تخطر على بال مَن كان قبلهم؟! أوَما علمتَ أن لكل قلب خاطرًا، ولكل خاطر نتيجة؟! انتهى مختصرًا.
 
وقال الشيخ بكر أبو زيد في كتابه "حِلية طالب العلم" (ص: 174): احذر غلطَ القائل: ما ترك الأول للآخر، وصوابه: كم ترك الأول للآخر! فعليك بالاستكثار من ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، وابذل الوُسع في الطلب والتحصيلِ والتدقيق، ومهما بلغتَ في العلم، فتذكَّر: "كم ترك الأول للآخر"!