عن المقال

المؤلف :

صالح بن عبد الله بن حمد العصيمي

التاريخ :

Mon, Aug 25 2014

التصنيف :

الأداب والأخلاق

تحميل

نصيحة الألبان

نصيحة الألبان

نصيحة الشيخ صَالح بن عبدالله العُصَيْمِيّ –حفظه الله- لشباب الألبان في المدينة النبوية 

ليلة الاثنين 29 صفر 1433 

الحمد لله وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فإن من تمام العقل الملائمة بين ما جرى به كلامُ المتكلمُ قبلُ وبينما أريد أن أقوله؛ فإن أَخانا قد ذكر في مبدأ قوله: ما يَعترينا من التعب. وهذا التعب الذي يعترينا هو مبتدأُ ما ينبغي أن نُذكر به.

فإن عمر رضى الله عنه سأل قوماً من العرب شُهروا بالشجاعة؛ فقال لهم: ما الشجاعة. فقالوا: صبر ساعة.

يعني أن العبد يصبرُ ساعةً فيكون شُجاعاً, وكذلك أخذا العبدِ للعلم خاصة وبُلوغه المقامات العالية في الدنيا والآخر يفتقر إلى صبر, قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[آل عمران/200], فأمر الله -سبحانه وتعالى- بأمرين يرجعان إلى أصل الصبر:

أحدهما: الصبر المجرد؛ وهو الذي يكون حال الابتداء.

والثاني: الصبرُ المُقترن بمقابله؛ أي الذي يدعوا إليه مُقابل ما يستحسنُه وهو المُصابرة.

وهذه الحال نحنُ فيها, فإننا في حال المُصابرة التي يوجدُ فيها مُنازعة, ومصابرتنا جميعاً هو في أمرٍ عظيم تفتقر إليه الأمة وهو العلم الذي به حياتها.

روى الدارميَّ بسندٍ صحيح, عن محمد بن شهاب الزهري أحد التابعين, قال: كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة ,[والعلم يقبض قبضاً سريعاً] , ونعشُ العلم بقاءُ الدِّين والدنيا , وذهاب العلم ذهابُهما جميعا .

فهذه الكلمة هي أصل ما ينبغي أن يجعله الإنسانُ في نفسه في هذا المطلب الذي يُحيط بنا, فإن عنايتنا بالعلم يَحصُل بها حفظ دين الناس وحفظ دنياهم, وذهابُ ذلك فيه ذهاب الدين وذهابُ الدنيا؛ فالقائم بهذه الوظيفة قائمٌ بالجهاد, بل بأعظم الجهاد, فقد ذكر ابن القيم - رحمه الله تعالى- في ((مفتاح دار السعادة)) كغيره: أن الجهاد نوعان:

أحدهما: جهادُ الحجةِ والبيان.

الثاني: جهادُ السيف والسنان.

ثم قال: والأول أشرفُ وأعظم, لأن القائم به قليل, والمساعد عليه أقل. يعني أن القائم بوظيفة الحجة والبيان في هداية الخلق قليل, والمساعد الذي يتحسُك ويعضُدك وينصُرك ويقويك قليل, واعتبر هذا في ما يجتنبك من قواطعَ تصرفك عن هذا المطلب, فربما جاء الطالبُ من بلادٍ بعيدة وبين ناظريه العلم, فما هي إلا هُنيهة حتى ينصرف قلبه عن هذا الوارد العظيم الذي جاء لأجله, ويتلهى بأمورٍ لا تجدي عليه شيئاً يُقضي بها أيامه في سنواته الأربع ثم يرجعُ إلى قومه خالياً الوفاض؛ وآخرُ يكون شعلةً يَعلمُ أن مقصوده من إتيانه إلى هذه البلاد هو طلب ما فيها من العلم, فيكون أصدق وصفٍ عليه ما ذُكر في ترجمة أبي طاهرٍ السِّلفي وغيره: أنه لما دخل بغداد مر على محدثيها فكان كالشعلة النار, يعني من شدة نشاطره كالشعلة التي تشتعل ثم تتابع كهذه الصورة التي فيها (المفلس) فيها النار هذه تتابعها كتتابعِ حاله -رحمه الله -؛ فلما كان هذا مرادهم كانت أحوالهم كذلك.

 حتى قال شُعبة بما رواه ابن السَمعانيَّ في ((أدب الإملاء والإستملاء)): ما رأيت رجلاً يركض إلا قلت: مجنون أو صاحبُ حديث. أي إما رجلٌ لا عقل له أم رجلٌ شديد العقل يعلمُ أن له مطلوباً عظيماً ينبغي أن يُنفق وقته فيه.

ومن بدائع كلمات ابن عطاء قوله: من لم تكن له بدايةٌ مُحرقة, لم تكن نهاية له مشرقة.

 فالمرء إذا لم يأخذ نفسه بالعزم ويجتهد في تحصيل مطلوبه الذي يرفعه إلى المقامات العالية في الدنيا والآخرة فإنه لا تشرق شمسه؛ وأنتم لم تأتوا هنا إلا لمقصودٍ عظيم وهو طلب العلم.

فينبغي أن تتواصوا بينكم في الحرص على العلم أن يحثُ بعضُكم بعضا, والله –عز وجل- في صفاته الآمنين من الخُسر في سورة العصر:{ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ }[العصر/3], يعني أوصى بعضهم بعضاً بما يلزمهم. ومن أعظم ما يَلزمكم العلم الذي تنفعون به أقوامكم.

 ومن لطائفِ الأخبار في هذه الدار -وهي المدينة النبوية-: أن الشيخ محمد بن عبدالوهاب  -رحمه الله- وفد إليها, فتلقى العلم عن جماعة من العلماء من الحنابلة وغيرهم, فكان فيها رجلٌ حنبليٌّ يقال له: عبدالله بن إبراهيم بن سيف. أصله من أهل نجد ثم استقر في المدينة, فأخذه شيخه مرةً وقال له: تعال أُريك سلاحاً أعدتُه لأجل نجد. فأخذه معه إلى بيته ففتح له باب غرفةٍ فيها كتبٌ كثيرة فقال: هذه اعتدته لأهل نجد. يعني تحصيل هذه الكتب وتحصيل العلم الذي ينفعنكم.

فينبغي أن تجتهدوا في تحصيل هذا المطلب, وأن تعلموا أن بلادكم خاصة وبلاد المسلمين عامة تفتقرُ إلى العلم الشرعي الذي يَعرف به الناس دينهم, ولن تكون في قلوب الناس وغيرهم , ولا حميةٌ لدينهم إلا مع الإيمان الذي يُورثه العلم, أما بدون إيمان ولا علم فلا تنفع الأحساب ولا الأنساب والشعارات الإقليمية والوطنية فإنها تزول لأنها سرابٌ خداع، وإنما يبقى صدقُ الإيمان ، ولما امتلأت قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان لم يلتفتوا إلى شيءٍ من الدنيا، وانقلبت عندهم غُصص الآلام إلى حلاواتٍ تمتد بها قلوبهم، فباعوا نفوسهم لأجل الله- سبحانه وتعالى-.

ينبغي أن يجتهد كلُ واحدٍ منها ممن يَسمعُ هذا الكلام في تحصيل ما يقربهم إلى الله-عز وجل- من العلم, وما يتخذه عدةً يهدي بها الناس, وأن يُقطع الأيام والليالي بكتابه, وأن يعلم أنه ميراث النبوة؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يترك ديناراً ولا درهماً, وإنما ورث العلم, فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر, فهذا ميراث النبي صلى الله عليه وسلم, وقد قال أبو هريرة مرةً لأهل السوق: يا أهل السوق, إن ميراث محمدٍ صلى الله عليه وسلم يُقسم بالمسجد, فأصيبوا حظكم منه. فخرجوا إلى المسجد، فلما جاؤا إلى المسجد لم يجدوا ما كانوا يُؤملُونهُ من الآنية والمتاع والأثاث الذي يباع ليشتروه, فرجعوا إلى أبي هريرة فقالوا: ما عهدناك رحمك الله كَذَّابا. فقال: أما وجدتم في المسجد أقواماً يأتون حلقاً حِلقاً يقرؤون القرآن ويتفقهون في العلم. فقالوا: بلى. فقال: فذلك ميراث النبي صلى الله عليه وسلم, فخذوا حَظكم منه.

فخذوا أيها الأخوان حظكم من العلم, واجتهدوا واصبروا وصابروا, واعلموا أن الله-سبحانه وتعالى- لا يُضيعُ عمل المحسنين, وأن من اخذ بنفسه بالجد والاجتهاد, فإن الله -عز وجل- يوفقه, وأنه لا يحتاج في ذلك حسبٍ ولا نسبٍ ولا لونٍ ولا إلى غير ذلك, بل إن الله -سبحانه وتعالى- يُخرج في هذه الأمة ويرفع من صدق في طِلابِ الحق, ولو كان الناسُ لا يأبهون بجنسه أو أصله أو نسبه أو لونه, لكنه صدق الله وصَدقه.

ولما جاء هشام بن عبدالملك مع ابنيه إلى عطاءِ بن أبي رباح, يرد أن يسأله, رده عطاءُ بن أبي رباح؛ لأن الناس قبلَه يسألون, فلما انصرف هشام قال لأبنائه: يا بنيَّ اطلبوا العلم, فما رأيتنا في مقامٍ أذل منا في هذا المقام. لأن حتى الملك يحتاج إليه, فالذي يصدق مع الله -سبحانه وتعالى- يصدق الله -سبحانه وتعالى- معه.

نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يرزقنا جميعاً عِلماً نافعاً وعملاً صالحاً, وأن يُلهمنا رشدنا وأن يقينا شر أنفسنا, وأن يُقرّ أعيننا بنصرة الإسلام والمسلمين, وأن يهدي ضال المسلمين, وأن يوفق حكامهم جميعاً للعمل بشريعة الله -عز وجل- والإتباع لنبي صلى الله عليه وسلم.

والحمد لله ربِّ العالمين.