عن المقال

المؤلف :

Saleh ibn Abd Al-Aziz ibn Uthman Sindi

التاريخ :

Mon, Oct 12 2015

التصنيف :

للمسلم الجديد

تحميل

الحج .. موسم الدعوة إلى التوحيد

الحج .. موسم الدعوة إلى التوحيد

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن التوحيد دين الحنيفية، والحج شعار الحنفاء، قال تعالى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: ٣١]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (حجاجا لله غير مشركين به)(1)، وقال قتادة رحمه الله: (حجاجا لله مسلمين موحدين)(2).

فالتوحيد والحج أمران متلازمان لا يفترقان؛ بمنزلة الأساس والبناء، والساق والثمرة.

ومن تأمل مناسك الحج تجلّى له أنها إلى التوحيد ترجع، وبه تصطبغ.

فشعار الحج "التلبية": نداء التوحيد(3).

وكلمة التوحيد: خير القول في أعظم أركانه(4).

وفيه إفراده سبحانه بالدعاء في العرصات المباركة: عرفات ومزدلفة وعند الجمرات وعلى الصفا والمروة.

وفيه إخلاص الطواف والصلاة والذبح والحلق للواحد الأحد جل جلاله.

وفيه الذل والخضوع، والمحبة والرجاء، والتوكل والإخبات لله رب العالمين.

وإذا كان التوحيد غاية الحج ولُحمته وسَداه؛ فما أحراه أن يكون موسم الدعوة إليه، وميدان نشره، وساحة تعليمه.

وهذا قائمٌ بحمد الله من أنصار التوحيد -من مؤسسات وأفراد-، والجهود المبذولة طيبة مباركة إن شاء الله، وما هذه الأسطر إلا تذكير وتأكيد، ودعوة للمزيد.

إن ضيوف الرحمن قد أتوا إلى هذه البقاع الطاهرة من كل فج عميق، وقلوبهم ملؤها الخير والرغبة في التقرب إلى مولاهم سبحانه؛ فما أعظمها من نعمة لا يشعر بها إلا الدعاة المخلصون.

فإن الدعاة إذا كانوا يشدون الرحال إلى أنحاء الأرض ينشدون دعوة الناس؛ فها هم قد أقبلوا من أطرافها فنزلوا بساحتهم؛ فهي -وأيم الله- الغنيمة الباردة!

إنه إذا كانت الدولة -وفقها الله- قد بذلت الكثير للحجيج؛ فيجب أن يُتوَّج ذلك بأعظم هدية تُقدّم إليهم: دعوة التوحيد النقية، والسعي في تصفية ما علق بالاعتقاد من كدر؛ فإنهم إذا رجعوا وقد فازوا بالتوحيد فقد حصّلوا أعظم مقصود، وإن فاتهم ما فاتهم.

ولا يخفى أنهم قد قدموا من مجتمعات لا تكاد تخلو من مشكلات اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية؛ لكن المشكلة الكبرى في كثير منها شيء وراء ذلك؛ إنه الخلل العقدي؛ فالبصير بأحوال بلاد المسلمين ليس يجهل أن الشركيات والخرافات والجهالات قد ضربت فيها بجذور عميقة -إلا ما رحم الله-، وهنا يبرز واجب الدعاة الموفقين: أن يقدموا الصورة المشرقة للإسلام الصافي قبل أن تفشو الأهواء، وأن يميطوا اللثام عن الوجه القبيح للخرافة والدجل.

أن يصرخوا فيهم: إن العبادة حقٌ خالصٌ للكبير المتعال، وإن أعظم جريمة على وجه الأرض: أن يُعبد غيره عز سلطانه.

أن يقنعوهم بأن دين الله أجل من أن يمزج بالبدع، وأن تُشوّه محاسنه بالمحدثات.

إنها قضية حتمية لا خيار لهم فيها: التشمير عن ساعد الجد في "التوعية"، وقطب رحاها: التوحيد.

ويتأكد الواجب أكثر إذا عُلم أن كثيرا منهم متعطشون لتعلم التوحيد والسنة، ولقد رأيتُ -ورأى غيري- كثيرا من الحجاج يسألون الدعاة بحماسةٍ كتبَ التوحيد، وينزعجون إذا لم ينالوا مرادهم.

ولا أنسى ذاك الحاج الذي طلبني كتابا عن الحج؛ فقلتُ: ما عندي إلا كتاب في التوحيد؛ فقال: هاتِه؛ حجٌ بلا توحيد؛ ما الفائدة منه! .. وصدق!

ولا يفوت التذكير بأن أداء هذه الأمانة لا يكون بخطبة يتيمة أو كلمة عابرة أو درسٍ من جملة دروس؛ وإنما أن يكون شغل الداعية وهجّيراه.

والموفق هو من يحسن عرض التوحيد بالأسلوب المناسب، والكلمة المؤثرة، والوسيلة الجاذبة.

ومن يجيد اقتناص دروس التوحيد ولطائفه ولو كان مجال الحديث قصة من قصص القرآن، أو فصلا من السيرة، أو حديثا في الأذكار.

وليبشر أن المستفيد من دعوته اثنان لا واحد: الحاج نفسه، وأهله الذين سيرجع إليهم حاملا الخير الذي ساقه الله إليه بسبب كلمة سمعها منه أو كُتيب ناوله إياه، وكم سمعنا عن أناس في قرى نائية هداهم الله إلى التوحيد والسنة بسبب كتاب حمله حاجٌ إليهم.

هذا وينبغي أن يُنبه على أنه لن تكون الدعوة إلى التوحيد نافعة كما ينبغي حتى تكون دعوة تفصيلية لا إجمالية؛ تجلِّي أفراد التوحيد، وتبرز مسائله، وتبيِّن نواقضه وقوادحه.

كما أنها لن تصل إلى الغاية المنشودة -بتوفيق الله- إلا إذا كانت تتصف بالوضوح؛ بحيث تعطي كل شيء حقه، وتعظِّم ما عظمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وتضع الهدى والضلال في محلهما بدقة بلا تلكّؤ أو تردد؛ فهذا الذي ينفع السامعين ويؤثر فيهم، وكل هذا يجب أن يصطحب مع الحكمة، وينتهج رعاية المصلحة.

فأجمِل بها من دعوةٍ صدّاعة بالحق، متحليةٍ بالرفق والعقل.

وإذا أريد لهذه الدعوة أن تؤتي أكلها فيتعين أن يكون خطابها سهلا لا متكلفا، ولغتها مفهومة لا معقدة، وأسلوبها محببا لا منفرا.

وأختم بالتذكير بأن التوحيد -يا أهل التوحيد- نعمة، والدعوة إليه من شكرها.

وربنا سبحانه يقول: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: ١١]، قال القرطبي: (وعنه [أي مجاهد] قال: بالنبوة. أي بلّغ ما أُرسلتَ به، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والحكم عام له ولغيره)(5)، والتوحيد أعظم ما أُرسل به، بل ليس في رسالات المرسلين ولا كتب رب العالمين شيء أعظم منه.

فمن أراد أن يكون من شاكري هذه النعمة مؤدي حقها؛ فليعط الدعوة إلى التوحيد أصول وقته واهتماماته، وليكن ذا همة وحماسة وحرص على هداية الخلق،  والله سبحانه قد وعَد وعْد الصدق: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: ٦٩].

أسأل الله أن يوفق دعاة التوحيد وأنصاره ويسددهم ويقوي عزائمهم ويصلح بالهم ويبارك في جهودهم. وصلى الله وسلم على سيد ولد آدم، وعلى آله وصحبه أجمعين.

د. صالح بن عبد العزيز بن عثمان سندي  -  23/8/1435هـ

 


(1)  تفسير ابن أبي حاتم (7/2491)، والدر المنثور (10/489).

(2) تفسير البغوي (5/383).

(3) جاء في حديث جابر رضي الله عنه الطويل في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم : (فأهلَّ [صلى الله عليه وسلم] بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) أخرجه مسلم (1218).

(4) قال صلى الله عليه وسلم : (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) أخرجه الترمذي (3585).

(5) الجامع لأحكام القرآن (20/69).