إتحاف الطلاب بتلخيص أحكام الطلاق

إتحاف الطلاب بتلخيص أحام الطلاق

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن من أهم الأبواب الفقهية: باب الطلاق، فأحكامه تعم بها البلوى وتكثر فيها الفتاوى، والفتوى فيه عظيمة الخطر، كبيرة الأثر؛ ولهذا اهتم به الفقهاء اهتماماً عظيماً، وكان بعض العلماء يوصي طلاب العلم بالاعتناء به خصيصا، روى الدارمي (2898) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "تعلموا الفرائض والطلاق والحج، فإنه من دينكم"، وقد أكثر العلماء رحمهم الله من التآليف المفردة في الفرائض والحج دون الطلاق، فأحببت أن ألخص أهم مسائل الطلاق في هذه الرسالة المختصرة، لتكون عمدة للطالب المبتدي، وتذكرة للقاضي والمفتي، والله الموفق والهادي.



إتحاف الطلاب بتلخيص أحام الطلاق
محمد بن علي بن جميل المطري

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن من أهم الأبواب الفقهية: باب الطلاق، فأحكامه تعم بها البلوى وتكثر فيها الفتاوى، والفتوى فيه عظيمة الخطر، كبيرة الأثر؛ ولهذا اهتم به الفقهاء اهتماماً عظيماً، وكان بعض العلماء يوصي طلاب العلم بالاعتناء به خصيصا، روى الدارمي (2898) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «تعلموا الفرائض والطلاق والحج، فإنه من دينكم»، وقد أكثر العلماء رحمهم الله من التآليف المفردة في الفرائض والحج دون الطلاق، فأحببت أن ألخص أهم مسائل الطلاق في هذه الرسالة المختصرة، لتكون عمدة للطالب المبتدي، وتذكرة للقاضي والمفتي، والله الموفق والهادي.
الطلاق هو: قول يرفع قيد النكاح.
وينقسم الطلاق من حيث الصيغة إلى نوعين:
1-    صريح. وألفاظه ثلاثة: الطلاق والفراق والسراح، ويقع به الطلاق من غير نية.
2-    كناية. وألفاظه غير محصورة مثل: الحقي بأهلك، اعتدي، أنتِ علي حرام، ولا يقع به الطلاق إلا بالنية.
قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في هدي خير العباد (5/ 291): " تقسيم ألفاظ الطلاق إلى صريح وكناية، وإن كان تقسيما صحيحا في أصل الوضع لكن يختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة"، وقال العلامة السعدي: "والصحيح أن ألفاظ الطلاق لا تتعين بلفظ مخصوص، فكل لفظ أفاد معنى الطلاق فإنه يصلح أن يكون من ألفاظ الطلاق"، انظر نيل المآرب للبسام (4/21).

وينقسم الطلاق من حيث وصفه الشرعي إلى قسمين:
1-    طلاق سني. وهو أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه، أو وهي حامل.
2-    طلاق بدعي. وهو أن يطلقها وهي حائض أو نفساء، أو يطلقها في طهر مسها فيه.
وينقسم الطلاق من حيث الأثر الناتج عنه إلى قسمين:
1-    رجعي. يجوز للزوج أن يرد زوجته في عدتها بلا عقد، وهو الطلاق الأول والثاني.
2-    بائن، وهو نوعان:
أ‌-    بينونة صغرى: يجوز للزوج أن يتزوجها بعقد جديد إذ انتهت عدتها.
ب‌-    بينونة كبرى: لا تحل للزوج حتى تنكح زوجا غيره نكاح رغبة لا نكاح تحليل، ثم تبين منه بموت أو طلاق، وتنقضي عدتها من الزوج الثاني، وهي المطلقة ثلاث مرات.
والطلاق البائن بينونة صغرى له ثلاث صور:
1-    إذا طلق زوجته مرة أو مرتين ولم يراجعها حتى انقضت عدتها.
2-    الخلع، وهو فراق الزوجة بعوض تدفعه لزوجها.
3-    إذا طلق زوجته قبل الدخول.
مسألة: المعتدة من طلاق رجعي يقع عليها الطلاق إذا طلقها زوجها مرة أخرى، وأما المعتدة من طلاق بائن بينونة صغرى أو كبرى فلا يقع عليها الطلاق مثل المفسوخ نكاحها، فمثلا: المطلقة قبل الدخول طلاقها بائن بينونة صغرى، فلو قال لها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، وقعت الطلقة الأولى فقط بالإجماع، والثانية والثالثة لاغيتان؛ لأنهما وقعتا على امرأة أجنبية منه، فقد بانت منه بالطلقة الأولى.
مسألة: المطلقة طلاقا رجعيا عليها العدة في بيت زوجها، لا تخرج منه ولا يخرجها حتى تنقضي عدتها، ولها التزين لزوجها لعله يراها في زينتها فتروق في عينه ويندم على طلاقها فيراجعها، وله وطؤها بنية الإرجاع، وليس له أن يستمتع بها بالنظر أو اللمس وهو لا يريد إرجاعها، ولها النفقة والسكنى حتى تنقضي عدتها، أما المطلقة البائن فلا نفقة لها ولا سكنى، وعليها العدة خارج بيت زوجها، ومن طلقت قبل الدخول فليس عليها عدة، قال الله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا}.
مسألة: المطلقة طلاقا رجعيا إن ماتت في العدة أو مات زوجها يرث أحدهما الآخر، أما المطلقة طلاقا بائنا بينونة كبرى أو صغرى فلا يرث أحد الزوجين الآخر.
مسألة: الرجعة حق للزوج ما دامت زوجته في العدة، إذا كان الطلاق رجعيا، والرجعة تحصل بالوطء مع نية الإرجاع أو بالقول، فيقول لرجلين عدلين من المسلمين: اشهدا أني قد راجعت زوجتي أو رددتها، وتحصل الرجعة من غير ولي ولا صداق، ولا يشترط رضاها.
مسألة: عدة المطلقة الحامل تنتهي بوضع حملها ولو كان سقطا إذا تبين فيه خلق إنسان، وعدة من تحيض ثلاثة قروء، أي ثلاث حيض، فتنتهي عدتها بطهرها من الحيضة الثالثة واغتسالها، وقيل: معنى ثلاثة قروء أي ثلاثة أطهار، فتنتهي عدتها بدخولها في الحيضة الثالثة، وعدة من لا تحيض لصغرها أو لكونها آيسة ثلاثة أشهر، أما عدة الوفاة فهي أربعة أشهر وعشرا.
مسألة: إذا وضعت المطلقة الحامل سقطا ليس فيه خلق إنسان فلا بد عند الجمهور من أن تعتد بالأقراء، جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: " والمراد بالحمل الذي تنقضي العدة بوضعه ما يتبين فيه شيء من خلقه ولو كان ميتاً أو مضغة تصورت، ولو صورة خفية تثبت بشهادة الثقات من القوابل، وهذا عند جمهور الفقهاء (الحنفية والشافعية والحنابلة)، وكذلك إذا كانت مضغة لم تتصور لكن شهد الثقات من القوابل أنها مبدأ خلقة آدمي لو بقيت لتصورت في المذهب عند الشافعية لحصول براءة الرحم به. وقال الحنفية: لا تنقضي به العدة، لأن الحمل اسم لنطفة متغيرة، فإذا كان مضغة أو علقة لم تتغير ولم تتصور فلا يعرف كونها متغيرة إلا باستبانة بعض الخلق، أما إذا ألقت نطفة أو علقة أو دما أو وضعت مضغة لا صورة فيها فلا تنقضي العدة به عندهم. وقال المالكية: إن كان دما اجتمع بحيث إذا صب عليه الماء الحار لم يذب يعتبر حملا تنقضي العدة بوضعه" انتهى مختصرا، وقال الأمير الصنعاني في منحة الغفار (1/353): "والحمل لغةً يصدق على غير المتخلق، ولم يأت عن الشارع اشتراط المتخلق، والآيات وردت بلفظ وضع الحمل، وقد أخرج عبد بن حميد عن الحسن البصري وابن سيرين وإبراهيم النخعي وقتادة أنها إذا أسقطت المرأة أو وضعت علقةً أو مضغةً، فقد انقضت العدة، فهذه أقوال السلف تؤيد البقاء على المعنى اللغوي، والدليل على من اشترط التخلق" انتهى كلام الصنعاني وهو الراجح الله أعلم.
وينقسم الطلاق من حيث وقت وقوع أثره إلى ثلاثة أقسام:
1-    منجز. كقوله: أنت طالق، أو طلقتك، أو يا طالق، أو زوجتي طالق.
2-    معلق على شرط. كقوله: إن خرجت من البيت فأنت طالق.
3-    مضاف إلى المستقبل. كقوله: أنت طالق أول الشهر القادم.
فالأول يقع إجماعا، والثاني يقع إن نواه على القول الصحيح، والثالث يقع عند مجيء وقته.
مسألة: الوعد بالطلاق ليس طلاقا، فمن قال لزوجته: سأطلقك إذا طهرتِ، ثم ندم وترك طلاقها؛ لا تطلق، فلا يقع الطلاق إلا بصيغة الماضي أو الإنشاء أو النداء، كأن يقول: طلقت زوجتي، أو أطلقك أو يا طالق.
مسألة: طلاق الحائض يقع، وفي حديث ابن عمر عندما طلق امرأته وهي حائض وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها، قال ابن عمر: (وحسبت علي بتطليقة) رواه البخاري (5253) ومسلم (1471)، وهو نص صحيح صريح، وقد رواه الدارقطني بإسنادين رواتهما ثقات (3912 و 3915) بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هي واحدة»، وصحح هذه اللفظة الألباني رحمه الله في كتابه إرواء الغليل، ورد على من قال بعدم وقوع طلاق الحائض ردا شافيا مفصلا لا يبقى معه أي إشكال، فانظر ما يروي غليلك في كتاب الإرواء (7/124- 137)، ومما قاله الألباني رحمه الله في البحث المذكور: " (تنبيه): من الأسباب التي حملت ابن القيم وغيره على عدم الاعتداد بطلاق الحائض ما ذكره من رواية ابن حزم عن ابن عمر رضى الله عنه أنه قال في رجل يطلق امرأته وهى حائض؟ قال ابن عمر: لا يعتد بذلك. قال ابن عبد البر: معناه لم تعتد المرأة بتلك الحيضة في العدة، قال الألباني: ويؤيده أن ابن أبى شيبة أخرج الرواية المذكورة بلفظ آخر يسقط الاستدلال به وهو: عن نافع عن ابن عمر في الذى يطلق امرأته وهى حائض؟ قال: " لا تعتد بتلك الحيضة "، انتهى كلام العلامة الألباني مختصرا، وقد كان العلامة ابن باز رحمه الله يفتي بعدم وقوع طلاق الحائض تبعا لشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ثم تراجع عن ذلك وأفتى بوقوع طلاق الحائض، وذكر أن مما يدل على وقوع طلاق الحائض أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل عن مسائل الطلاق فلا يسأل المرأة المطلقة هل كانت حائضا وقت الطلاق أو لا، وهذا يدل بوضوح على أن الحيض لا يمنع من وقوع الطلاق، انظر مجموع فتاوى ابن باز (21/278)، وفتاوى الطلاق لابن باز (1/7و41) ونيل الأماني بفتاوى القاضي العمراني (2/1026).
فالطلاق البدعي وهو طلاق المرأة حال الحيض أو النفاس أو طلاقها في طهر جامعها زوجها فيه يقع مع كونه خلاف السنة، فإن السنة إذا أراد الرجل أن يطلق زوجته أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه أو وهي حامل، فإن خالف أثم ووقع طلاقه، وهذا قول الأئمة الأربعة وجمهور الأمة.
مسألة: من طُلقت وهي حائض لا تعتد بتلك الحيضة التي طلقت فيها، أي لا تحسبها من عدتها، فتعتد بثلاث حيض ليس منها الحيضة التي طلقها زوجها فيها.
مسألة: من طلق زوجته وهي حائض فيُشرع له أن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن بدا له فليطلقها في طهر لم يمسها فيه، هكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر أن يفعل عندما طلق زوجته وهي حائض.
مسألة: الطلاق الثلاث المجموعة بلفظ واحد يقع طلقة، أما إذا كانت مفرقة فتقع ثلاثا، فإن قال لزوجته: أنت طالق ثلاثا أو البتة أو طلقتين وقعت طلقة واحدة، وأما إن قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق، أو قال: طالق طالق طالق، فهي ثلاث طلقات، إلا إذ أراد بالثانية والثالثة تأكيد الأولى فيرجع إلى نيته وتحسب طلقة واحدة.
هذا التفصيل هو ظاهر الجمع بين الأدلة، وبه يفتي العلامة ابن باز رحمه الله كما في فتاواه (21/436و445)، ومذهب الجمهور أنها تقع ثلاثا بلا تفصيل، ومذهب شيخ الإسلام ابن تيمية أنها تقع واحدة بلا تفصيل، ومما يدل على هذا التفصيل قول أبي دود في سننه (2197): "وروى حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: إذا قال: أنت طالق ثلاثا، بفم واحد فهي واحدة"، وقد رجح الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان (1/129) أن هذا قول عكرمة لا ابن عباس، وعلى كلا التقديرين فهو إثبات لقول قديم للسلف في هذه المسألة، وقال عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه (11338): عن عمر بن حوشب قال: أخبرني عمرو بن دينار أن طاوسا أخبره قال: دخلت على ابن عباس ومعه مولاه أبو الصهباء، فسأله أبو الصهباء عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا جميعها، فقال ابن عباس: " كانوا يجعلونها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وولاية عمر إلا أقلها، حتى خطب عمر الناس، فقال: قد أكثرتم في هذا الطلاق، فمن قال شيئا فهو على ما تكلم به "، وعمر بن حوشب الصنعاني شيخ عبد الرزاق وثقه ابن حبان، وقال ابن القطان: لا يعرف حاله، وروى البيهقي في السنن الكبرى (14985) من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن غير واحد، عن طاوس أن رجلا يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما: " بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه وصدرا من إمارة عمر رضي الله عنه، فلما أن رأى الناس قد تتابعوا فيها قال: أجيزوهن عليهم، فهذان الطريقان عن ابن عباس وإن كان فيهما جهالة أو نكارة قد يبينان معنى حديث ابن عباس المشهور الذي في صحيح مسلم (1472) عن طاوس عن ابن عباس قال: " كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم "، فبالجمع بين جميع الأحاديث والآثار يزول الإشكال، ويؤيده أن ابن عباس كان يفتي أن الثلاث تقع ثلاثا، قال العلامة الشنقيطي في أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/ 127- 128): "الجواب الرابع عن حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن رواية طاوس عن ابن عباس مخالفة لما رواه عنه الحفاظ من أصحابه، فقد روى عنه لزوم الثلاث دفعة سعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وعكرمة، وعمرو بن دينار، ومالك بن الحارث، ومحمد بن إياس بن البكير، ومعاوية بن أبي عياش الأنصاري، كما نقله البيهقي في «السنن الكبرى» والقرطبي وغيرهما. فإن قيل: رواية طاوس في حكم المرفوع، ورواية الجماعة المذكورين موقوفة على ابن عباس، والمرفوع لا يعارض بالموقوف. فالجواب أن الصحابي إذا خالف ما روي، ففيه للعلماء قولان: وهما روايتان عن أحمد رحمه الله: الأولى: أنه لا يحتج بالحديث ; لأن أعلم الناس به راويه وقد ترك العمل به، وهو عدل عارف، وعلى هذه الرواية فلا إشكال. وعلى الرواية الأخرى التي هي المشهورة عند العلماء أن العبرة بروايته لا بقوله. فإنه لا تقدم روايته إلا إذا كانت صريحة المعنى، أو ظاهرة فيه ظهورا يضعف معه احتمال مقابله، أما إذا كانت محتملة لغير ذلك المعنى احتمالا قويا فإن مخالفة الراوي لما روى تدل على أن ذلك المحتمل الذي ترك ليس هو معنى ما روى" انتهى مختصرا، وقد أثبت شيخ الإسلام ابن تيمية هذا التفصيل في مجموع فتاواه عن جمع من السلف وجماعة من علماء الأندلس فقال رحمه الله (33/83): " قال أبو جعفر أحمد بن محمد بن مغيث في كتابه الذي سماه المقنع في أصول الوثائق وبيان ما في ذلك من الدقائق: وطلاق البدعة أن يطلقها ثلاثا في كلمة واحدة فإن فعل لزمه الطلاق. ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق كم يلزمه من الطلاق؟ فقال علي بن أبي طالب وابن مسعود رضي الله عنهما: يلزمه طلقة واحدة، وكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما؛ وذلك لأن قوله: " ثلاثا " لا معنى له؛ لأنه لم يطلق ثلاث مرات؛ لأنه إذا كان مخبرا عما مضى فيقول: طلقت ثلاث مرات يخبر عن ثلاث طلقات أتت منه في ثلاثة أفعال كانت منه فذلك يصح. ولو طلقها مرة واحدة فقال: طلقتها ثلاث مرات لكان كاذبا، وكذلك لو حلف بالله ثلاثا يردد الحلف كانت ثلاثة أيمان، وأما لو حلف بالله فقال: أحلف بالله ثلاثا لم يكن حلف إلا يمينا واحدة، والطلاق مثله. قال: ومثل ذلك قال الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف. روينا ذلك كله عن ابن وضاح يعني الإمام محمد بن وضاح الذي يأخذ عن طبقة أحمد بن حنبل وابن أبي شيبة ويحيى بن معين وسحنون بن سعيد وطبقتهم. قال: وبه قال من شيوخ قرطبة ابن زنباع شيخ هدى، ومحمد بن عبد السلام الحسيني فقيه عصره، وابن بقي بن مخلد، وأصبغ بن الحباب، وجماعة سواهم من فقهاء قرطبة، وذكر هذا عن بضعة عشر فقيها من فقهاء طليطلة المتعبدين على مذهب مالك بن أنس. قلت: وقد ذكره التلمساني رواية عن مالك، وهو قول محمد بن مقاتل الرازي من أئمة الحنفية حكاه عن المازني وغيره، وقد ذكر هذا رواية عن مالك" انتهى كلام شيخ الإٍسلام ابن تيمية، وفيه إثبات القول بالتفصيل بين من طلق ثلاث بلفظ واحد وبين من طلق ثلاثا بثلاث كلمات، مع أن ابن تيمية لا يرى هذا التفصيل، ويرى أن الطلاق في الصورتين يقع طلاقا واحدا، ولكن التفصيل أولى، وفيه الجمع بين الأدلة والعمل بها كلها، وذكرنا أن فقيه عصره العلامة ابن باز رحمه الله يفتي بهذا التفصيل كما في فتاواه (21/436و445)، والله أعلم بالصواب، وهو الهادي إلى سبيل الرشاد.
تنبيه: جمع الطلاق الثلاث أو جمع طلقتين محرم عند جماهير العلماء، فالمشروع لمن أراد أن يفارق زوجته أن يطلقها مرة واحدة، ثم يتركها من غير إرجاع حتى تنقضي عدتها.
فائدة: حالات جمع الطلقات الثلاث مفرقة: من جمع الطلقات الثلاث مفرقة ولم يرد تأكيدا ولا غيره، فإن قال: طالق طالق طالق، اعتبر ذلك تأكيدا وحسبت طلقة واحدة، وأما إذا كرر الجمل ولم يرد تأكيدا ولا غيره، كأن يقول: أنت طالق أنت طالق أنت طالق، فتقع ثلاثا ولا يعتبر هذا تأكيدا، وأما إذا كرر الجمل بحروف العطف كأن يقول: طالق وطالق وطالق، أو طالق ثم طالق ثم طالق، فهذه تقع ثلاثا. انظر فتاوى الطلاق لابن باز (1/81و90).
مسألة: من طلق امرأته ثم كرر طلاقها لكل من لقيه مشهدا أو مخبرا فهو طلاق واحد بلا خلاف؛ لأنه لم ينو بذلك طلاقا آخر، قاله العلامة ابن حزم في المحلى (10/218).
مسألة: حكم الحلف بالطلاق: الحلف بالطلاق نوعان: ما كان بصيغة القسم، وما كان بصيغة التعليق، مثال ما كان بصيغة القسم أن يقول: الطلاق يلزمني أو عليَّ الطلاق لأفعلن كذا أو لا أفعل كذا، ومثال صيغة التعليق أن يقول: إن دخلت بيت فلان فأنت طالق، ومذهب جمهور العلماء أن الطلاق يقع في النوعين؛ لأنهما طلاق صريح، ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية أن الطلاق لا يقع في النوع الأول؛ لأن الحلف بالطلاق يمين باتفاق أهل اللغة، ولا يقع الطلاق في النوع الثاني إلا إذا نوى الزوج وقوعه إذا تحقق الشرط، فإذا حلف الزوج بالطلاق للحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب فهي يمين، ويجب على الزوج كفارة يمين لعموم قوله تعالى في بيان كفارة اليمين: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم}، وقد رد العلامة السبكي على شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الدرة المضية في الرد على ابن تيمية، وذكر عن جماعة من العلماء حكاية الإجماع على وقوع هذا الطلاق، وممن حكى عنهم نقل الإجماع الشافعي وأبا عبيد وابن جرير وابن المنذر ومحمد بن نصر المروزي وابن عبد البر، ولكن في دعوى الإجماع نظر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في مجموع الفتاوى (33/ 61): " والقول بأن الحالف بالطلاق لا يلزمه الطلاق مذهب خلق كثير من السلف والخلف؛ لكن فيهم من لا يُلزمه الكفارة: كداود وأصحابه، ومنهم من يُلزمه كفارة يمين: كطاووس وغيره من السلف والخلف"، وقد نقله ابن حزم عن علي وشريح وطاوس وعكرمة، انظر المحلى لابن حزم الظاهري (10/212-213)، وذكر ابن حزم عن عطاء فيمن حلف بطلاق امرأته ثلاثا إن لم يضرب زيدا فمات زيد أو مات هو لا طلاق عليه ويرث أحدهما الآخر، قال ابن حزم: وهو قول أبي ثور، انظر المحلى (10/213)، وفي صحيح البخاري: قال ابن عباس رضي الله عنه: الطلاق عن وطر، قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (33/ 61): "بيَّن ابن عباس أن الطلاق إنما يقع بمن غرضه أن يوقعه؛ لا لمن يكره وقوعه كالحالف به والمكره عليه"، وقال ابن القيم في إعلام الموقعين (3/53): "صح عن طاوس قال: ليس الحلف بالطلاق شيئا، وصح عن عكرمة أنها من خطوات الشيطان لا يلزم بها شيء، وصح عن شريح وابن مسعود أنها لا يلزم بها طلاق، وهو مذهب داود بن علي وجميع أصحابه" انتهى مختصرا، وقد رد ابن القيم على دعوى الإجماع في كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 89- 90) ردا شافيا فقال رحمه الله: "ومن له اطلاع وخبرة وعناية بأقوال العلماء يعلم أنه لم يزل في الإسلام من عصر الصحابة من يفتي في هذه المسألة بعدم اللزوم، وإلى الآن. فأما الصحابة فقد ذكرنا فتاواهم في الحالف بالعتق بعدم اللزوم، وأن الطلاق أولى منه، وذكرنا فتوى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بعدم لزوم اليمين بالطلاق، وأنه لا مخالف له من الصحابة. وأما التابعون فذكرنا فتوى طاوس بأصح إسناد عنه، وهو من أجل التابعين، وأفتى عكرمة، وهو من أغزر أصحاب ابن عباس علما على ما أفتى به طاوس سواء، قال سنيد بن داود في تفسيره المشهور: حدثنا عباد بن المهلبي عن عاصم الأحول عن عكرمة في رجل قال لغلامه: إن لم أجلدك مائة سوط فامرأته طالق " قال: لا يجلد غلامه ولا تطلق امرأته، هذا من خطوات الشيطان. وأما من بعد التابعين فقد حكى المعتنون بمذاهب العلماء كأبي محمد بن حزم وغيره ثلاثة أقوال في ذلك للعلماء، وقد ذكرنا فتوى القفال في قوله: (الطلاق يلزمني) أنه لا يقع به طلاق، وإن نواه، وذكرنا فتاوى أصحاب أبي حنيفة في ذلك، وحكايتهم إياه عن الإمام نصا، وذكرنا فتوى أشهب من المالكية فيمن قال لامرأته: (إن خرجت من داري أو كلمت فلانا - ونحو ذلك - فأنت طالق)  ففعلت لم تطلق، ولا يختلف عالمان متحليان بالإنصاف أن اختيارات شيخ الإسلام لا تتقاصر عن اختيارات ابن عقيل وأبي الخطاب بل وشيخهما أبي يعلى، فإذا كانت اختيارات هؤلاء، وأمثالهم وجوها يفتى بها في الإسلام ويحكم بها الحاكم فلاختيارات شيخ الإسلام أسوة بها إن لم ترجح عليها، والله المستعان وعليه التكلان" انتهى كلام ابن القيم باختصار.
 فإذا ثبت هذا فلا إجماع في مسائل الحلف بالطلاق بصيغة القسم، بل فيها ثلاثة مذاهب، أولها أنه يلزم الطلاق وهو قول الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، والثاني أنه لا يقع الطلاق ولا تلزم الكفارة، وهو مذهب الظاهرية، والثالث أنه لا يقع الطلاق وتلزم كفارة اليمين، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو القول الذي يظهر لي رجحانه، وهو ما يرجحه العلامة ابن باز كما في فتاواه (22/34)، وأما الحلف بالطلاق بصيغة التعليق فإذا نوى من علق الطلاق بالشرط وقوع الطلاق فإنه يقع عند عامة السلف والخلف، وقد نقل ابن حزم الإجماع عليه في كتابه مراتب الإجماع، وإن لم ينو الطلاق بل نوى الحلف فالراجح أنه إن حنث فعليه كفارة يمين، انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (33/ 46)، والله أعلم بالصواب.
مسألة: من قال: حرام وطلاق، فهذا حلف بالحرام والطلاق، وحكمه حكم اليمين؛ لأنها يمين لله، وعليه كفارة يمين إن حنث، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في مجموع الفتاوى (33/ 74): " إذا حلف الرجل بالحرام فالقول الراجح أن هذه يمين من الأيمان لا يلزمه بها طلاق، فالحالف بالحرام يجزيه كفارة يمين، كذلك الحلف بالطلاق يجزئ فيه أيضا كفارة يمين كما أفتى به جماعة من السلف والخلف، فكل يمين يحلف بها المسلمون في أيمانهم ففيها كفارة يمين كما دل عليه الكتاب والسنة" انتهى مختصرا، والله أعلم، وينبغي التنبه إلى أن مسألة الحلف بالحرام غير مسألة تحريم الزوجة وهي المسألة الآتية.
مسألة: من قال لزوجته: أنت علي حرام، إن أراد الطلاق أو الظهار كان ما نواه، وإن نوى اليمين فعليه كفارة يمين، روى ابن أبي شيبة (18183) عن عبد الله بن مسعود في الحرام قال: «إن نوى يمينا فيمين، وإن نوى طلاقا فما نوى»، وروى عبد الرزاق الصنعاني (11367) عن طاوس قال: «إن أراد الطلاق فهو طلاق، وإن لم يرد الطلاق فهي يمين»، وكذا قال الحسن البصري كما رواه البيهقي في السنن الكبرى (15063)، وانظر روضة الطالبين للإمام النووي (8/28) ونيل المآرب للبسام (4/122) وفتاوى ابن باز (22/84) ونيل الأماني في فتاوى القاضي العمراني (2/1055).
مسألة: من حرَّم على نفسه شيئا مباحا كوطء زوجته أو شرب العسل عليه كفارة يمين، وكذلك على المرأة إذا حرمت على نفسها شيئا مباحا كالجماع.
فائدة: قال شيخ الإٍسلام ابن تيمية رحمه الله كما في مجموع الفتاوى (33/ 47-50): " أنواع الأيمان ثلاثة: الأول: أن يعقد اليمين بالله. والثاني: أن يعقدها لله. والثالث: أن يعقدها بغير الله أو لغير الله. فأما الأول فهو الحلف بالله. فهذه يمين منعقدة مكفرة بالكتاب والسنة والإجماع. وأما الثالث وهو أن يعقدها بمخلوق أو لمخلوق مثل: أن يحلف بالطواغيت أو بأبيه أو الكعبة أو غير ذلك من المخلوقات: فهذه يمين غير محترمة لا تنعقد ولا كفارة بالحنث فيها باتفاق العلماء؛ وأما النوع الثاني وهو المعقود لله فعلى وجهين: أحدهما أن يكون قصده التقرب إلى الله؛ لا مجرد أن يحض أو يمنع، وهذا هو النذر، والثاني أن يكون مقصوده الحض أو المنع أو التصديق أو التكذيب فهذا هو الحلف بالنذر والطلاق والحرام، وللعلماء فيه ثلاثة أقوال: قال الجمهور: يلزمه ما حلف به إذا حنث؛ لأنه التزم الجزاء عند وجود الشرط وقد وجد الشرط فيلزمه، والقول الثاني: هذه يمين غير منعقدة فلا شيء فيها إذا حنث؛ لا كفارة ولا وقوع؛ لأن هذا حلف بغير الله، والقول الثالث: أن هذه أيمان مكفرة إذا حنث فيها كغيرها من الأيمان، والقول الثالث هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار وعليه تدل أقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجملة، قال تعالى: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم}، وقال تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم}، وهذا يتناول جميع أيمان المسلمين" انتهى باختصار وتصرف يسير، وقال رحمه الله: "وأما قول القائل: إن هذا حالف بغير الله فلا يلزمه كفارة؟ فيقال: النص ورد فيمن حلف بالمخلوقات؛ ولهذا جعله شركا؛ لأنه عقد اليمين بغير الله؛ فمن عقد اليمين لله فهو أبلغ ممن عقدها بالله؛ ولهذا كان النذر أبلغ من اليمين؛ فوجوب الكفارة فيما عقد لله أولى من وجوبها فيما عقد بالله. والله أعلم". انتهى من مجموع الفتاوى (33/ 57).
مسألة: من قال: علي الطلاق أني رأيت زيدا، ثم تبين له أنه أخطأ، فإن طلاقه لا يقع؛ لأنه في حكم اليمني اللاغية، فإن اليمين التي يحنث بها الإنسان ما كانت في المستقبل لا الماضي، كأن يقول: والله لن أدخل بيت فلان، ثم دخله، أو يقل لاحبه: والله إنك ستدخل بيتي فلم يدخل، وانظر فتاوى ابن باز(1/126).

مسألة: حكم التّراجع عن الطلاق المعلّق، والتنازل عنه بعد صدوره: مذهب الأئمة الأربعة وجمهور الأمة أنّ من علّق الطّلاق على حصول شيء، لا يمكنه التراجع عن ذلك التعليق. فمن قال مثلا: إن دخلت بيت فلان فأنت طالق، ونوى الطلاق فإنه يقع، ولا ينفعه أن يقول لزوجته بعد ذلك: أذنت لك أن تدخلي، وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى جواز التّراجع عن الطلاّق المعلّق. وقول الجمهور أصح ورجحه ابن عثيمين رحمه الله كما في الشرح الممتع على زاد المستقنع (13/ 130) وانظر الفروع لابن مفلح (5/356) وفتاوى الشبكة الإٍسلامية (241255).
تنبيه مهم: إذا علق الزوج الطلاق بشيء ثم وقع الحرج فينبغي للزوج أن ييسر ولا يعسر، فيتفق مع زوجته على إيقاع الطلاق ثم يراجعها إن كانت هذه الطلقة الأولى أو الثانية، وأما إن كانت هي الطلقة الثالثة وأراد التخلص من هذا التعليق الذي أوقعهما في الحرج فتوجد حيلة شرعية ذكرها ابن القيم رحمه الله، وهي خلع اليمين، قال رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 84-87):" فإذا دعت الحاجة إليه أو إلى التحليل كان أولى من التحليل من وجوه عديدة؛ أحدها: أن الله تعالى شرع الخلع رفعا لمفسدة المشاقة الواقعة بين الزوجين، وتخلص كل منهما من صاحبه؛ فإذا شرع الخلع رفعا لهذه المفسدة التي هي بالنسبة إلى مفسدة التحليل كتفلة في بحر فتسويغه لدفع مفسدة التحليل أولى. يوضحه الوجه الثاني أن الحيل المحرمة إنما منع منها لما تتضمنه من الفساد الذي اشتملت عليه تلك المحرمات التي يتحيل عليها بهذه الحيل، وأما حيلة ترفع مفسدة هي من أعظم المفاسد فإن الشارع لا يحرمها. يوضحه الوجه الثالث أن هذه الحيلة تتضمن مصلحة بقاء النكاح المطلوب للشارع بقاؤه، ودفع مفسدة التحليل التي بالغ الشارع كل المبالغة في دفعه والمنع منه ولعن أصحابه، فحيلة تحصل المصلحة المطلوب إيجادها وتدفع المفسدة المطلوب إعدامها لا يكون ممنوعا منها. الوجه الرابع: أن ما حرمه الشارع فإنما حرمه لما يتضمنه من المفسدة الخالصة أو الراجحة، فإذا كانت مصلحة خاصة أو راجحة لم يحرمه ألبتة، وهذا الخلع مصلحته أرجح من مفسدته. الوجه الخامس: أن غاية ما في هذا الخلع اتفاق الزوجين ورضاهما بفسخ النكاح بغير شقاق واقع بينهما، وإذا وقع الخلع من غير شقاق صح، وكان غايته الكراهية؛ لما فيه من مفسدة المفارقة، وهذا الخلع أريد له لم شعث النكاح بحصول عقد بعده يتمكن الزوجان فيه من المعاشرة بالمعروف، وبدونه لا يتمكنان من ذلك، بل إما خراب البيت وفراق الأهل، وإما التعرض للعنة من لا يقوم للعنته شيء، وإما التزام ما حلف عليه، وإن كان فيه فساد دنياه وأخراه كما إذا حلف ليقتلن ولده اليوم، أو ليشربن هذا الخمر، أو ليطأن هذا الفرج الحرام، أو حلف أنه لا يأكل ولا يشرب ولا يستظل بسقف ولا يعطي فلانا حقه، ونحو ذلك، فإذا دار الأمر بين مفسدة التزام المحلوف عليه أو مفسدة الطلاق وخراب البيت وشتات الشمل أو مفسدة التزام لعنة الله بارتكاب التحليل وبين ارتكاب الخلع المخلص من ذلك جميعه لم يخف على العاقل أي ذلك أولى. الوجه السادس: أنهما لو اتفقا على أن يطلقها من غير شقاق بينهما، بل ليأخذ غيرها، لم يمنع من ذلك، فإذا اتفقا على الخلع ليكون سببا إلى دوام اتصالهما كان أولى، وأحرى ... ثم قال: وهذه المواضع وأمثالها لا تحتملها إلا العقول الواسعة التي لها إشراف على أسرار الشريعة ومقاصدها وحكمها، وأما عقل لا يتسع لغير تقليد من اتفق له تقليده وترك جميع أقوال أهل العلم لقوله فليس الكلام معه. قال: وليس كل حيلة باطلة محرمة، والحيلة المحرمة الباطلة هي التي تتضمن تحليل ما حرمه الله أو تحريم ما أحله الله أو إسقاط ما أوجبه، وأما حيلة تتضمن الخلاص من الآصار والأغلال والتخلص من لعنة الكبير المتعال فأهلا بها من حيلة وبأمثالها {والله يعلم المفسد من المصلح}، والمقصود تنفيذ أمر الله ورسوله بحسب الإمكان والله المستعان" انتهى باختصار، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (12/85): " والخلع مكروه إلا في حال مخافة أن لا يقيما أو واحد منهما ما أُمر به، وقد ينشأ ذلك عن كراهة العشرة إما لسوء خُلُق أو خَلْق، وكذا تُرفع الكراهة إذا احتاجا إليه خشية حنث يؤول إلى البينونة الكبرى".
مسألة: إذا علق الرجل طلاق زوجته على شرط، ثم طلقها لسبب آخر، ثم أرجعها إلى عصمته، فهل يبقى تعليق الطلاق على الشرط السابق قائما، بحيث إذا تحقق الشرط وقع الطلاق أو هو تعليق ملغى بما تم بعده من طلاق وبينونة وإرجاع؟
اتفق الفقهاء أنه إذا أرجعها قبل انتهاء عدتها فحكم التعليق بالشرط السابق باق، فإذا تحقق وقع الطلاق من جديد؛ وذلك لأن المرأة في عدتها الرجعية في حكم الزوجة في كثير من الأمور، كالميراث والنفقة ونحو ذلك، فيبقى حكم تعليق الطلاق أيضا، فلو قال مثلا: إن دخلت بيت فلان فأنت طالق، ونوى الطلاق، ثم طلقها لسبب آخر، وأرجعها في العدة، فلو دخلت ذلك البيت بعد أن أرجعها وقعت طلقة بالاتفاق.
أما إذا انتهت عدتها فبانت، ثم عقد عليها عقدا جديدا، كأن قال لها مثلا: إذا سافرت خارج البلد فأنت طالق، ولم تسافر، ثم طلقها لسبب آخر، فانتهت عدتها، ثم تزوجها مرة أخرى بعقد جديد، فالصحيح من قولي العلماء أن الطلاق والبينونة السابقة تَهدِم وتُلغي الشرط المعلق عليه الطلاق، وهذا مذهب الشافعية، وهو اختيار موقع الإسلام سؤال وجواب (182816)، ومنه نقلت تحرير هذه المسألة، وعللوا ترجيح هذا القول بأنه أقرب إلى المعقول؛ إذ من المستبعد أن تنقطع آثار النكاح بالبينونة وانقضاء العدة، ثم يبقى تعليق الطلاق على الشرط نافذا، وأنه أيسر على الناس، وأقرب إلى تيسير مخرج في حالات الحرج والمشقة، وأبعد لهم من التلاعب بالطلاق والخلع على وجه لم يشرعه الشارع، لأجل التحيل على حل الطلاق المعلق، وهذا اختيار الشيخ ابن عثيمين كما في الشرح الممتع (12/495-496).
فائدة: قال ابن المنذر رحمه الله:" أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا قال لزوجته: أنت طالق ثلاثا إن دخلت الدار، فطلقها ثلاثا، ثم نكحت غيره، ثم نكحها الحالف، ثم دخلت الدار؛ أنه لا يقع عليها الطلاق " انتهى من المغني لابن قدامة (7/361).
مسألة: من طلق زوجته بما دون الثلاث، فتزوجت من غيره بعد عدتها ودخل بها ثم مات عنها أو طلقها، ثم تزوجها زوجها الأول بعد انتهاء عدتها، فإنه يملك عليها ما بقي له من الطلاق، وهذا قول أكثر الفقهاء، وهو قول عمر وعلي رضي الله عنهما، وقال أبو حنيفة: إنه يملك عليها ثلاث طلقات، وهو قول ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، والقول الأول أصح، والله أعلم. 
مسألة: طلاق الغضبان يقع، إلا إذا وصل إلى حد لم يعد يعلم ما يقول، وصار ينطق بلا اختياره، فلا يقع حينئذ، وأكثر الناس يطلقون في حال الغضب ثم يندمون، ولا شك في وقوع طلاقهم ما دام أحدهم يعلم ما يقول، وقد قسم ابن القيم طلاق الغضبان ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يحصل له مبادئ الغضب بحيث لا يتغير عقله، ويعلم ما يقول ويقصده، وهذا لا إشكال في وقوع طلاقه.
الثاني: أن يبلغ النهاية، فلا يعلم ما يقول ولا يريده، فهذا لا ريب أنه لا ينفذ شيء من أقواله.
الثالث: من توسط بين المرتبتين بحيث لم يصر كالمجنون، فهذا محل النظر، والأدلة تدل على عدم نفوذ أقواله. قال ابن عابدين رحمه الله: والذي يظهر أن كلا من المدهوش والغضبان لا يلزم فيه أن يكون بحيث لا يعلم ما يقول، بل يكتفى فيه بغلبة الهذيان واختلاط الجد بالهزل كما هو المفتى به في السكران، فالذي ينبغي التعويل عليه في المدهوش ونحوه: إناطة الحكم بغلبة الخلل في أقواله وأفعاله الخارجة عن عادته، فما دام في حال غلبة الخلل في الأقوال والأفعال: لا تعتبر أقواله، وإن كان يعلمها ويريدها؛ لأن هذه المعرفة والإرادة غير معتبرة لعدم حصولها عن إدراك صحيح انظر الموسوعة الفقهية الكويتية (29/18) كتاب ابن القيم إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان وفتاوى ابن تيمية (33/117) وفتاوى الطلاق لابن باز (1/25).
مسألة: طلاق السكران لا يقع، خلافا لجمهور العلماء، وذهب إلى عدم وقوع طلاقه عثمان وابن عباس وجماعة من التابعين واختاره المزني وأبو ثور والطحاوي ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، انظر الموسوعة الفقهية الكويتية (29/16) وتيسير الفقه الجامع لاختيارات ابن تيمية (2/784).
مسألة: طلاق الهازل يقع قضاء لا ديانة، فمن طلق هازلا وهو لا يريد الطلاق فلا يقع طلاقه فيما بينه وبين الله، ولكن إذا رفع الأمر إلى القاضي الشرعي فإنه لا ينفع الهازل دعواه أنه لم يرد الطلاق، والقاضي الشرعي يحكم بحسب الظاهر والله يتولى السرائر، فالطلاق جده جد وهزله جد، وقد ذهب جمهور العلماء إلى وقوع طلاق الهازل قضاء وديانة، وذهب الثوري وسعيد بن جبير والشعبي وابن حزم إلى وقوعه قضاء لا ديانة، وهو الراجح إن شاء الله، قال عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه (6/ 369): عن الثوري في رجل قيل له: أطلقت امرأتك عام الأول؟ قال: نعم قال: أما في القضاء فيلزمه، وأما فيما بينه وبين الله فكذبة، هذا الذي نأخذ به. قال: وسئل عنها سعيد بن جبير قال: «هي كذبة» انتهى بلفظه من مصنف عبد الرزاق، وكذلك قال الشعبي: هي كذبة كما في مصنف ابن أبي شيبة (18366)، وقال سيد سابق في فقه السنة (2/ 250): " يرى جمهور الفقهاء أن طلاق الهازل يقع، كما أن نكاحه يصح، لما رواه أحمد، والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة ". وهذا الحديث وإن كان في إسناده عبد الله بن حبيب، وهو مختلف فيه، فإنه قد تقوى بأحاديث أخرى. وذهب بعض أهل العلم إلى عدم وقوع طلاق الهازل. منهم: الباقر، والصادق، والناصر. وهو قول في مذهب أحمد ومالك، إذ إن هؤلاء يشترطون لوقوع الطلاق الرضا بالنطق اللساني، والعلم بمعناه، وإرادة مقتضاه، فإذا انتفت النية والقصد، اعتبر اليمين لغوا، لقول الله تعالى: {وإن عزموا الطلاق، فإن الله سميع عليم }. وإنما العزم ما عزم العازم على فعله، ويقتضي ذلك إرادة جازمة بفعل المعزوم عليه، أو تركه ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إنما الاعمال بالنيات ". والطلاق عمل مفتقر إلى النية، والهازل لا عزم له ولا نية" انتهى مختصرا.
وقال محمد عليش المالكي رحمه الله في فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك (2/ 8): "وإن طلق هازلا ففيه ثلاثة أقوال أحدها: أنه يلزمه. والثاني: أنه لا يلزمه، والثالث: أنه إن قام دليل أنه كان به هازلا لم يلزمه" انتهى، وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان ص60: "وقد ألغى طلاق الهازل بعض الفقهاء وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد حكاها أبو بكر عبد العزيز وغيره، وبه يقول بعض أصحاب مالك إذا قام دليل الهزل"، وبهذا يتبين أنه لا يصح نقل الإجماع على وقوع طلاق الهازل كما ذكره بعض الفقهاء، بل الخلاف واقع بين الفقهاء، وإن حمل الإجماع على وقوعه قضاء لا ديانة فهو أقرب إلى الصحة، والعلم عند الله.
مسألة: الطلاق بالكتابة يقع إن نواه، ولو لم تصل الرسالة إلى زوجته، لكن لو كتب: إذا وصلك كتابي فأنت طالق، فلا يقع الطلاق إلا إذا وصلها.
مسألة: الظهار أن يقول الرجل لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي أو أختي أو ابنتي، وهذا منكر من القول وزور، ولا يقع به الطلاق، ولكن لا تحل له حتى يكفِّر بتحرير رقبة من قبل أن يتماسا، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا من قبل أن يتماسا، ويحرم عليه وطؤها قبل الكفارة، وكذا يحرم عليه الاستمتاع بما دون الجماع كالقبلة واللمس.
 مسألة: حكم الظهار خاص بالرجال، فلا يقع الظهار من الزوجة لزوجها، فلو قالت لزوجها: أنت عليّ كظهر أبي، لا كفارة عليها، لكن يجب عليها التوبة من قول الزور.
مسألة: لكل مطلقة متاع بالمعروف إذا انقضت عدتها ولم يراجعها، قال الله تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين} إلا التي لم يدخل بها زوجها وقد فرض لها صداقا فلها نصف الصداق وهو يغني عن المتعة، قال تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير}.