البيان في حكم التغني بالقرآن

يبين هذا الكتاب حكم التغنِّي بالقرآن من خلال دراسة الأحاديث الواردة في هذا الموضوع من أقوال الصحابة والتابعين وأدلة العلماء من سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.

البَيَان في حكم التغنِّي بالقرآن
«دراسة في ضرورة تحسين الصوت والتطريب بالقراءة »

د.بشار عواد معروف
الأستاذ بكلية الآداب بجامعة بغداد
ورئيس جامعة صدام للعلوم الإسلامية


مكتبة شبكة التفسير والدراسات القرآنية
www.tafsir.net


 
 
    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل لـه، ومن يضلل فلا هادي لـه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه وأشهد أن سيدنا وإمامنا وقدوتنا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله، ورضي عن صحابته أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
    فالقرآن العظيم هو كتاب الله الدال عليه لمن أراد معرفته وطريقه الموصلة لسالكها إليه، ونوره المبين الذي أشرقت لـه الظلمات، ورحمته المهداة التي بها صلاح جميع المخلوقات، والسبب الواصل بينه وبين عباده إذا انقطعت الأسباب، وبابه الأعظم الذي منه الدخول فلا يُغلق إذا غُلِّقت الأبواب، وهو نور البصائر من عماها وشفاء الصدور من أدوائها وجواها، وحياة القلوب، ولذة النفوس، وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، والمنادي بالمساء والصباح، يا أهل الفلاح حي على الفلاح( ). /65/
وظل العلماء مع امتداد رقعة الإسلام وتوالي الأيام يسعون إلى استخراج كنوزه وإثارة دفائنه، وصرف العناية إليه والعكوف بالهمة عليه، يتلونه فيزيدهم إيمانًا وطمأنينة، لقد كانوا كما وصفهم الله تعالى في قولـه:  إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( )، وقولـه تعالى:  اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ  ( ) .
    ومعلوم أن تزيين قراءة القرآن الكريم وتحسين الصوت بها، والتطريب عند القراءة وقع في النفوس، وأدعى إلا استمتاع والإصغاء إليه، ففيها تنفيذ للفظ القرآن إلى الأسماع، ومعانيه إلى القلوب، وذلك عون على المقصود، وهو بمنزلة الحلاوة التي تُجعل في الدواء لتنفيذه إلى موضع الداء، وبمنزلة الأفاوية والطيب الذي يجعل في الطعام، تكون الطبيعة أدعى لـه قبولاً( ).
وقد اختلف العلماء في قراءة القرآن بالألحان منذ القديم إلى يوم الناس هذا، فنص على كراهتها الإمامان أحمد بن حنبل ومالك بن أنس، ورويت هذه الكراهة عن أنس بن مالك -بسند ضعيف كما سيأتي- وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والقاسم بن محمد، والحسن /66/ البصري، ومحمد بن سيرين، وإبراهيم النخعي، وتابعهم القرطبي وغيره.
    وأجاز آخرون رفع الصوت في قراءة القرآن والجهر والتطريب والتغني به، لأنه أوقع في النفوس وأسمع في القلوب، وهم: أبوحنيفة وأصحابه، والشافعي، وعبدالله بن المبارك، والنضر بن شُمَيْل، وأبوجعفر الطبري، وأبوالحسن بن بَطّال، وأبوبكر بن العربي، وابن قيم الجوزية. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وعبدالله بن مسعود، وعبدالله بن عباس، وعطاء بن أبي رباح وغيرهم( ).
وامتد هذا الخُلف حتى وصل إلى عصرنا هذا، فكتب فيه من كتب كارهًا مانعًا أو مجوزًا، فممن منعوه وتشددوا في المنع العلامة الشيخ محمد أبوزهرة( ) وغيره، وممن جوزوه الشيخ رشيد رضا( )، والسيد لبيب السعيد( )، والدكتور أحمد عبدالمنعم البهي( ) وغيرهم.
وإذا كان بعض الأقدمين قد كرهه استنادًا إلى فهمهم لبعض كلمات أو عبارات وردت في بعض الأحاديث، وخوفهم من أن بعض القراءات /67/ بالألحان قد تؤدي إلى همز ما ليس بمهموز، ومد ما ليس بممدود وترجيع الألف الواحد ألفات، والواو واوات، والياء ياءآت، فيؤدي ذلك إلى زيادة في القرآن، فإن بعض المُحْدَثين -مما يؤسف عليه- ذهبوا إلى محاولة نفي الأحاديث الصحيحة الثابتة عن المصطفى ، واستدلوا بأحاديث ضعيفة وبنوا أحكامهم عليها، وهذه -كما هو معلوم- بَلية كبيرة نسأل الله سبحانه أن يجنبنا إياها، ويجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
ومعلوم أن مثل هذه الأمور إنما تثبت أو تُنْفَى بالرجوع إلى سنة المصطفى  ومعرفة صحيحها من سقيمها، ودراسة الأحاديث والأدلة التي استند إليها الفريقان، فقد أمر الله -- في محكم كتابه العزيز بطاعة رسوله محمد  أمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، وسفيره بينه وبين عباده، وقرن طاعة رسوله بطاعته في العديد من الآيات الكريمة ( )، كما ذكر هذه الطاعة مفردة في العديد من الآيات الكريمات أيضًا( ). فليس لمؤمن أن يختار شيئًا بعد أمره ، بل إذا أمَرَ فأمره خَتْمٌ، وإنما الخِيَرَة في قول غيره إذا خَفِيَ أمرُه، وكان ذلك الغيرُ من أهل العلم به وبسنته، فبهذه الشروط -عندئذٍ- يكون قول غيره سائغ الاتباع لا واجب الاتباع، فلا يجب على أحد اتباع قول أحد سواه بل غايته أنّه يسوغُ لـه اتباعُه، ولو ترك الأخذ بقول غيره، لم يكن عاصيًا لله ورسوله.
ومما يؤسف عليه أن الأحاديث الضعيفة والموضوعة أصبحت تدور /68/ على ألسنة الكثرة الكاثرة من المدرسين الخطباء والوعاظ والمؤلفين، بل أن كثيرًا من كبار الفقهاء يبني أحكامه على أحاديث ضعيفة لا تثبت عن الرسول ، ولا يتحرج برد أحاديث أخرجها البخاري ومسلم، وتزداد البلية حينما يتلقاها عنهم الناس -ثقة بهم وركونًا إليهم- فيعتدون بها أو بما يستفاد منها، فيؤدي كل ذلك إلى أضرار كبيرة في جوانب من الأمور الاعتقادية والعبادية والسلوكية والفكرية والاجتماعية، ويترك آثارًا سيئة وانحرافات خطيرة وتشويه لحقائق الإسلام ومقاصده النبيلة.
وهذه الفائدة الجليلة والحقيقة الناصعة نبه إليها الإمام مسلم بن الحجاج القشيري -رحمه الله- قبل مِئين من السنين، حينما قال في مقدمة صحيحه: « فلولا الذي رأينا من سوء صنيع كثير ممن نصب نفسه محدثًا فيما يلزمهم من طرح الأحاديث الضعيفة والروايات المنكرة، وتركهم الاقتصار على الأحاديث الصحيحة المشهورة مما نقله الثقات المعروفون بالصدق والأمانة بعد معرفتهم وإقرارهم بألسنتهم أن كثيرًا مما يقذفون به الأغبياء من الناس هو مستنكر ومنقول عن قوم مرضيين ممن ذم الرواية عنهم أئمة الحديث » ثم قال -رحمه الله-: « واعلم وفقك الله تعالى أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها وثقات الناقلين لها من المتهمين أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان منها عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع »( ). /69/.
وقد وفقني الله -- إلى دراسة الأحاديث الواردة في هذا الموضوع، فثبت عندي من حديثه  -بحمد الله ومَنّه- ضرورة تحسين الصوت والتطريب والتغني بالقراءة للقرآن الكريم، ولم يثبت عندنا حديث واحد في منع ذلك أو كراهته مما يمكن أن ترد به تلك الأحاديث الصحيحة الثابتة.
فأحببت أن ينتفع بذلك إخواني من محبي كتاب الله والإنصات إليه والحنين إلى سماعه، فضلاً عما سأسوقه من أقوال الصحابة والتابعين وأدلة العلماء المتشبعين بسنة المصطفى ، وما أبينه من العلل في الأحاديث المنسوبة على رسول الله  التي استدل بها بعض العلماء في النكير على من جَوّز ذلك، وإليك دلالات ذلك:
الدليل الأول:
أخرج أحمد( ) في مسنده، والبخاري( ) ومسلم( ) في صحيحيهما، والنسائي( ) في السنن من حديث أبي هريرة -- قال: قال رسول الله : « لم يأذَنِ الله لشيء ما أَذِنَ لنبيٍّ أن يتغني بالقُران » /70/.
وقد اختلف العلماء في معنى قولـه  « يتغنى » على وجهين رئيسين:
أ- الاستغناء به، وهو من الاستغناء الذي ضد الافتقار، لا من الغِناء، يقال: تغنيت وتغانيت بمعنى استغنيت، وتغانوا: أي استغنى بعضهم عن بعض. وإلى هذا التأويل ذهب سفيان بن عيينة، كما صَرَّح به البخاري( ) وغيره، إذ قال بعد أن ساق هذا الحديث من طريق سفان عن الزهري، قال: قال سفيان: تفسيره يستغني به. وكان يقول في حديث: « ليس منا من لم يَتَغَنَّ بالقرآن » ( ): ليس منا من لم يستغن بالقرآن عن غيره، ولم يذهب إلى الصوت( ). ونصره في ذلك أبوعبيد القاسم بن سلام، فقال: وهذا جائز فاش في كلام العرب، تقول: تَغنَّيت تغنيًا بمعنى استغنيت وتغانيت تغانيًا أيضًا، واستدل بقول الأعشى( ):
وكنت امْرءاً زمنًا بالعراق        عفيف المُنَاخِ طَويلَ التَّغَنْ
    كما استدل بقول الشاعر( ): /71/.
كِلانا غَنِيًّ عن أخيه حَياتَهُ        ونحن إذا متنا أشد تَغَانيا
    وبهذا أيضًا قال وكيع بن الجراح ولعله اختيار محمد بن إسماعيل البخاري لإتباعه ترجمة الباب( ) بقولـه تعالى:  أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ( ). وقال أبوالعباس ثعلب: « الذي حصلناه من حفاظ اللغة في قولـه  « كأذَنه لنبي يتغنى بالقرآن » أنه على معنيين على الاستغناء، وعلى التطريب، قال الأزهري: فمن ذهب به إلى الاستغناء فهو من « الغِنَى » مقصورة، ومن ذهب إلى التطريب فهو من « الغِناء » الصوت، ممدود( ).
ب- تحسين الصوت، والتحزن به، والتلذذ والاستحلاء، كما يستلذ أهل الطرب بالغناء، فأطلق عليه تغنيًا من حيث أنه يفع عنده ما يفعل عند الغناء، كما سيأتي مفصلاً
    وتفسير سفيان بن عيينة ومن تابعه مردود من عدة وجوه نذكر منها ما يتيسر:
1- إنّ مسلم بن الحجاج أخرج في صحيحه هذا الحديث بلفظ آخر صَرّح فيه بحسن الصوت، فقال: حدثني بشر بن الحكم، قال: حدثنا عبدالعزيز بن محمد، قال: حدثنا يزيد وهو ابن العاد، عن محمد بن إبراهيم (التيمي) عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أنه سمع رسول /72/ الله  يقول: « ما أذن الله لشيء ما أذِنَ لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به »( ).
2- وروى عبدالأعلى، عن معمر، عن الزهري في حديث الباب بلفظ: « ما أذن لنبي في الترنم في القرآن » أخرجه الطبري. وعنده في روياة عبدالرزاق عن معمر، عن الزهري: « ما أذِنَ لنبي حسن الصوت » -أي كما أوردناه من صحيح مسلم. ووقع عند ابن أبي داود والطحاوي من رواية عمرو بن دينار، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: « حسن الترنم بالقرآن »( ).
    قال الطبري: ومعقول عند ذي الحجا أن الترنم لا يكون إلا بالصوت إذا حَسَّنه المترنُم وطَرَّبَ به( ).
3- وأخرجه البخاري( ) هذا الحديث في موضع آخر، ومسلم( )، من حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة أنه سمع النبي  يقول: « ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به ».
وأخرج البخاري( ) في موضع آخر من صحيحه من طريق الليث، عن عُقيل، عن الزهري، عن أبي سلمة، عبارة « يجهر به » /73/ خارجة عن قول النبي ، فقال إثر روايته الحديث: « وقال صاحب لـه: يُريد يجهر به ».
قال الحافظ ابن حجر: فإنها إن كانت مرفوعة قامت الحجة، وإن كانت غير مرفوعة فالراوي أعرف بمعنى الخبر من غيره لاسيما إذا كان فقيهًا. وقد جزم الحليمي أنها من قول أبي هريرة، والعرب تقول: سمعت فلانًا يتغنى بكذا أي يجهر به، ومنه قول ذي الرمة:
أحب المكان القفر من أجل أنني         به أتغنى باسمها غير معجم
أي أجهر ولا أكني( ).
وقال الطبري: وهذا الحديث من أبين البيان أن ذلك كما قلنا، ولو كان كما قال ابن عيينة -يعني: يستغني به عن غيره- لم يكن لذكر حسن الصوت والجهر به معنى. والمعروف في كلام العرب أن التغني إنما هو الغناء الذي هو حسن الصوت بالترجيع، قال الشاعر( ):
تَغَنَّ بالشعر إما كُنتَ قائلَهُ         إن الغِناء لهذا الشعر مِضْمار( )
4- وسُئِل الشافعي -رحمه الله- عن تأويل ابن عيينة، فقال: نحن أعلم بهذا، لو أراد به الاستغناء، لقال: لم يستغن بالقرآن، ولكن لما قال: يتغنى بالقرآن، علمنا أنه أراد به التغني( ). /74/.
5- وقال عمر بن شيبة: ذكر لأبي عاصم النبيل -الضحاك بن مَخْلد- تأويل ابن عُيينة، فقال: لم يصنع ابن عيينة شيئًا( ).
6- وممن أنكر تفسير يتغنى بيستغني أيضًا الإسماعيلي، فقال: الاستغناء به لا يحتاج إلا استماع لأن الاستماع أمر خاص زائد على الاكتفاء به. وأيضًا: فالاكتفاء به عن غيره أمر واجب على الجميع، ومن لم يفعل ذلك خرج عن الطاعة. ثم ساق الإسماعيلي من وجه آخر عن ابن عيينة قال: « يقولون إذا رفع صوته فقد تغنى »( ).
7- قال الطبري: وأما ادعاء الزاعم أن تغنيت بمعنى استغنيت فاش في كلام العرب فلم نعلم أحدًا قال به من أهل العلم بكلام العرب. وأما احتجاجه لتصحيح قولـه بقول الأعشى:
وكنت امرءًا زمنا بالعراق         عفيف المناخ طويل التَّغَنْ
    وزعم أنه أراد بقولـه: طويل التغني: طويل الاستغناء، فإنه غلط منه وإنما عنى الأعشى بالتغني في هذا الموضع: الإقامة، من قول العرب: غني فلان بمكان كذا: إذا أقام به، ومنه قولـه تعالى:  كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا ( )، واستشهاده بقول الآخر:
كَلانا غَني عن أخيه حياته         ونحن إذا متنا أشد تغانيا
    فإنه إغفال منه؛ وذلك لأن التغاني تفاعل من تَغنَّى: إذا استغنى /75/ كل واحد منهما عن صاحبه، كما يقال: تضارب الرجلان، إذا ضرب كل واحد منهما صاحبه، وتشاتما، وتقاتلا. ومَن قال: هذا فعل اثنين لم يجز أن يقول مثله في فعل الواحد، فيقول: تغانى زيد، وتضارب عمرو، وذلك غير جائز أن يقول: تغنى زيد بمعنى استغنى، إلا أن يريد به قائله أنه أظهر الاستغناء، وهو غير مستغن، كما يقال: تجلَّد فلان: إذا أظهر جَلَدًا من نفسه وهو غير جليد، وتشجَّعَ، وتَكَرَّم؛ فإن وَجّه موجَّه التغني بالقرآن على هذا المعنى على بُعده من مفهوم كلام العرب، كانت المصيبة في خطئه في ذلك أعظم، لأنه يُوجب على من تأوله أن يكون الله تعالى ذِكُره لم يأذن لنبيه أن يستغني بالقرآن، وإنما أذِنَ لـه أن يُظهر من نفسه لنفسه خلاف ما هو به من الحال، وهذا لا يخفى فساده( ).
8- وقال الطبري أيضًا: ومما يُبين فساد تأويل ابن عيينة أيضًا أن الاستغناء عن الناس بالقرآن من المحال أن يوصف أحد به أنه يؤذن لـه فيه أو لا يؤذن، إلا أن يكون الأذن عند ابن عيينة بمعنى الإذن الذي هو إطلاق وإباحة( )، وإن كان كذلك، فهو غلط من وجهين، أحدهما: من اللغة، والثاني: من إحالة المعنى عن وجهه. أما اللغة، فإن الأذن مصدر قولـه أذن فلان لكلام فلان، فهو يأذن لـه: إذا استمع وأنصت /76/، كما قال تعالى: وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ( )، بمعنى: سمعت لربها وحُقَّ لها ذلك، كما قال عدي بن زيد:
إن همي في سَمَاع وأَذَن( ).
    بمعنى: في سماع واستماع. فمعنى قولـه: « ما أذن الله لشيء » إنما هو: ما استمع الله لشيءٍ من كلام الناس ما استمع لنبي يتغنى بالقرآن.
    وأما الإحالة في المعنى، فلأن الاستغناء بالقرآن عن الناس غير جائز وصفه بأنه مسموع ومأذون لـه( ).
9- ومع أن الحافظ ابن حجر حاول جاهدًا الدفاع عن تفسير سفيان بن عيينة ومن تابعه، لكنه لم ينكر أيضًا أنه أيضًا بمعنى تسحين الصوت به والجهر والترنم عن طريق التخزين لتظافر ظواهر الأخبار الصحيحة على ترجيح هذا المعنى، فقال: « والحاصل أنه يمكن الجمع بين أكثر التأويلات المذكورة، وهو أنه يُحَسِّن به صوته جاهرًا به مترنمًا على طريق التحزن، مستغنيًا به عن غيره من الأخبار، طالبًا به غنى النفس، راجيًا به غنى اليد، وقد نظمتُ ذلك في بيتين:
تَغَنَّ بالقرآن حَسِّن به الصوت        حزينًا جاهرًا رنم /77/
واستغن عن كتب الأُلى طالبًا        غنى يد والنفس صم الزم( )
10- وإذا جمعت هذه الآراء والتأويلات إلى الأحاديث الصحيحة التي سوف نسوقها بعد قليل تبيّن صحة تأويل( ) من قال أنه بمعنى تحسين الصوت والتطريب والغناء المعقول الذي هو تحزين القارئ سامعَ قراءته كما أن الغناء بالشعر هو الغناء المعقول الذي يطرب سامعه.
الدليل الثاني:
    أخرج أحمد( ) في مسنده، والبخاري( ) ومسلم( ) في صحيحها، وأبوداود( ) في السنن من حديث عبدالله بن مغَفَّل --، قال: « رأيت النبي  يقرأ وهو على ناقته -وهي تسير به، وهو يقرأ سورة الفتح- أو من سورة الفتح- قراءة لينة، يقرأ وهو يرجع ».
وبين عبدالله بن مُغَفَّل -- كيفية ترجيعه وأنه آ آ آ ثلاث مرات، قال شعبة عن معاية بن قرة المُزني راوي الحديث عن عبدالله بن مغفل: ثم قرأ معاوية، يحكي قراءة ابن مُغَفَّل، وقال: لولا أن يجتمع /78/ الناس عليكم لرجعتُ كما رَجَّع ابن مُغَفَّل، يحكي النبي . فقلت لمعاوية: كيف كان ترجيعه قال: « آ آ آ ثلات مرات ». أخرجه البخاري( ) ومسلم( ) في صحيحيهما.
    وزعم القرطبي أن ذلك مجموع على إشباع المد في موضعه، ويحتمل أن يكون حكاية صوته عند هز الراحلة، كما يعتري رافع صوته إذا كان راكبًا من انضغاط صوته وتقطيعه لأجل هز المركوب، وإذا احتمل هذا فلا حجة فيه( ).
وهذا الذي ذهب إليه القرطبي -رحمه الله- مردود بمن هو أفضل منه في فهم حديث رسول الله ، قال العلامة ابن القَيّم: « أن هذا الترجيع منه  كان اختيارًا لا اضطراراً لهز الناقة لـه، فإن هذا لو كان لأجل هز الناقة لما كان داخلاً تحت الاختيار، فلم يكن عبدالله بن مُغَفَّل يحكيه ويفعلُه اختيارً ليُؤتسى به، وهو يرى هز الراحلة لـه حتى ينقطع صوتًه، ثم يقول: كان يُرَجِّع في قراءته، فنسب الترجيع إلى فعله، ولو كان من هز الراحلة، لم يكن منه فعل يسمى ترجيعًا »( ).
وقال الحافظ ابن حجر متعقبًا القرطبي: وهذا فيه نظر، لأن في /79/ رواية علي بن الجعد عن شعبة عند الإسماعيلي: « وهو يقرأ قراءة لينة، فقال: لولا أن يجتمع الناس علينا لقرأت ذلك اللحن » وكذا أخرجه أبوعبيدة في « فضائل القرآن » عن أبي النضر، عن شعبة( ).
الدليل الثالث:
أخرجه البخاري( )، ومسلم( )، والترمذي( )، من حديث أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري -- قال: قال رسول الله  لأبي موسى: « لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود ».
وأخرج البيهقي ( ) بإسناد مسلم نفيه « داود بن رشيد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا طلحة، عن أبي بردة، عن أبي موسى » زيادة أنه قال لرسول الله  « لو علمت لحبرته لك تحبيرًا » وقد نص البيهقي على أن هذه هي رواية مسلم، ومع أن الزيادة ليست فيه، فهي زيادة صحيحة لورودها بالإسناد نفسه، فكأنما مسلمًا اقتصر منه على ما ذكر.
وأخرجها ابن سعد أيضًا من حديث أنس بإسناد على شرط مسلم، وفيها: وكان حلو الصوت( ). /80/.
قال الخطابي: قولـه « آل داود » يريد داود نفسه، لأنه لم ينقل أن أحدًا من أولاد داود ولا من أقاربه كان أعطي من حسن الصوت ما أعطي( ). وداود -- إليه المنتهى في حسن الصوت بالقراءة.
وفي هذا الحديث شبه  حسن الصوت وحلاوة نغمته بصوت المزمار، وأصل الزمر: الغناء، قال النووي: قال العلماء: المراد بالمزمار هنا الصوت الحسن. وأصله الآلة أطلق اسمه على الصوت للمشابهة( ).
الدليل الرابع:
أخرج مالك( ) في الموطأ، وأحمد( ) في مسنده، والحميدي( )، والبخاري( )، ومسلم( ) في صحيحيهما، وابن ماجه( ) وأبوداود( ) /81/ والترمذي( ) والنسائي( ) في سننهم، وابن خزيمة( ) في صحيحه من حديث البراء بن عازب، قال: « سمعت النبي  يقرأ في العشاء بالتين والزيتون، فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا منه »
قال الحافظ ابن حجر: ومراده منه هنا: بيان اختلاف الأصوات بالقراءة من جهة النغم( ).
الدليل الخامس:
أخرجه البخاري ( ) في التوحيد من حديث أبي هريرة --، قال: قال رسول الله : « ليس منا من لم يَتَغَنَّ بالقرآن ».
وهذا الحديث أخرجه أبوداود( ) في الصلاة من حديث أبي لبابة، بسند قوي، وأخرجه أحمد( ) وأبوداود( ) بإسناد صحيح من حديث سعد بن أبي وقاص.
وأخرجه البيهقي( ) بسنده إلى الربيع بن سليمان، قال: سمعت /82/ الشافعي يقول: ليس منا من لم يتغن بالقرآن. فقال لـه رجل: ليستغني به. فقال: لا، ليس هذا معناه، معناه: يقرؤه حَدْوًا وتحزينًا.
وذكر أبوداود في روايته أن عبدالجبار بن الورد قال لابن أبي مليكة عند روايته للحديث: يا أبا محمد أرأيت أن لم يكن حسن الصوت؟ قال: يُحَسِّنه ما استطاع.
وقال أبوسعيد ابن الأعرابي في هذا الحديث: كانت العرب تتغنى بالركباني إذا ركبت وإذا جلست في الأفنية وعلى أكثر أحوالها، فلما نزل القرآن أحب النبي  أن تكون هِجّيراهم بالقرآن مكان التغني بالركباني( ).
الدليل السادس:
عن فَضَالة بن عُبيد، قال: قال رسول الله : « لَلَّهُ أَشَدُّ أَذَنَا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن، يَجْهَر به، من صاحب القَنْة إلى قينته » والقينة: المغنية.
قلت: هذا حديث صحيح أخرجه أحمد( )، وابن ماجه ( ) من طريق الوليد بن مسلم، قال حديثنا الأوزاعي، قال حدثنا إسماعيل بن عُبيدالله عن ميسرة مولى فضالة، فذكره /83/.
وقد صَرّح الوليد بن مسلم بالسماع من الأوزاعي، فهو ثقة عند تصريحه، وإسماعيل ثقة، وميسرة مولى فضالة وثقه ابن حبان، وذكره أبوزرعة الدمشقي في الطبعة العليا التي تلي الصحابة، ولم نجد فيه جرحًا.
وأيضًا فهو متابع عليه، فقد أخرج البيهقي( ) من طريق العباس بن الوليد بن مزيد، وهو صدوق، عن أبيه، وهو ثقة ثبت، عن الأوزاعي، به، ولكن ليس فيه (عن ميسرة) فرواه عن فضالة بن عبيد مباشرة، وفي سماعه منه نظر كما قال المزي في تهذيب الكمال( )، على أن المتن صحيح لما ذكرنا أولاً، وإن سقط اسم ميسرة من مسند أحمد، فهو في الأصل، كما نص على ذلك الحافظ ابن كثير في جامع المسانيد والسنن( ). كما حققناه في مسند فضالة بن عبيد من كتابنا المسند الجامع( ).
الدليل السابع:
أخرج أحمد( ) في مسنده، والدارمي( ) في سننه، والبخاري في /84/  خلق أفعال العباد( )، وأبوداود( )، وابن ماجه( )، والنسائي( ) في سننهم، وابن حبان( ) في صحيحه، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي من حديث البراء بن عازب أن رسول الله  قال: « زينوا القرآن بأصواتكم ».
وهو حديث صحيح( ) ومعناه تحسين الأصوات عند القراءة، فإن الكلام الحسن يزيد حُسنًا وزينة بالصوت الحسن، وهو أمر مشاهد. ولكن لما رأى بعضهم أن القرآن أعظم من أن يُحَسّن بالصوت، بل الصوت أحق بأن يُحَسَّن بالقرِآن، قال: معناه زينوا أصواتكم بالقرآن، وزعم بعضهم أنه من باب القلب، فقد رواه معمر عن منصور، عن طلحة: زينوا أصواتكم بالقرآن.
على أن الأمر بالتزيين -كما أورده القرطبي عن بعضهم( )- هو اكتساب القراءات وتزيينها بأصواتنا، وتقدير ذلك: أي زينوا القراءة بأصواتكم فيكون القرآن بمعنى القراءة، كما قال تعالى:  وَقُرْآنَ /85/ الْفَجْرِ  ( ) أي قراءة الفجر، وقولـه تعالى:  فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ  ( ) أي: قراءته.
ومع أن البخاري علّق هذا الحديث في كتاب التوحيد من صحيحه ( ) لإثبات كون التلاوة فعل العبد فيدخلها التزيين والتحسين والتطريب من فعل القارئ وتتصف بما تتصف به الأفعال، فإنه يدل في الوقت نفسه على جواز التزيين والتحسين والترجيع والتطريب، فالمراد واحد إن شاء الله.
الدليل الثامن:
وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه( )، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: حدثنا موسى بن عُلَيّ بن رباح، عن أبيه، عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله : « تعلموا القرآن، وغَنّوا به، واكتبوه، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصِّيا من المخاض من العُقُل ».
قال بشار: هذا حديث صحيح، رجاله رجال مسلم، زيد بن الحُباب، هو أبوالحسن التميمي العُكلي وثقه الأئمة: يحيى بن /86/ معين( )، وعلي بن المديني( )، والعِجلي( )، والدارقطني( )، وتكلم بعضهم في حديثه عن الثوري( )، فهو ثقة في غيره، خَبِر ابن عدي أحاديث فوجدها مستقيمة، وقال: وهو من أثبات مشايخ الكوفة ممن لا يُشك في صدقه»( ).
وموسى بن عُلَي بن رباح اللخمي المصري، ثقة، وثقه البخاري( )، وابن سعد( )، ويحيى بن معين( )، وأحمد بن حنبل( )، والعجلي( )، وأبوحاتم الرازي( )، والنسائي( )، وابن /87/ حبان( )، والذهبي( )، وما أظن الحافظ ابن حجر أصاب حينما قال في التقريب: صدوق ربما أخطأ( ).
أما أبوه عُلَي بن رباح فهو من ثقات التابعين المعروفين لا يحتاج إلى بيان.
وأخرجه من طريق موسى بن عُلَيّ، عن أبيه: أحمد( )، والدارمي( )، والنسائي في « فضائل القرآن »( ) -واللفظ لـه-: « تعلموا القرآن وتَغَنوا به، واقتنوه، والذي نفسي بيده لـه أشد. تفلتا من المخاص في العُقُل ».
وأخرجه أحمد( )، والنسائي في « فضائل القرآن »( )، من طريق قُباث بن رزين -وهو صدوق- عن عُلَيّ بن رباح، فتابع موسى في روايته عن أبيه /88/.
وقد جاء في بعض الروايات مقتصرًا على قولـه: « واقتنوه » من غير قولـه « وتعنوا به » فقال قُباث: ولا أعلمه إلا قال: وتغنوا به( )، وفي رواية أخرى، قال( ): وحسبته قال: وتغنوا به.
الدليل التاسع:
أخرج أحمد( ) في مسنده، والبخاري في صحيحه( ) وفي خلق أفعال العباد( )، وأبوداود( )، وابن ماجه( )، والترمذي في الشمائل( )، والنسائي( ) من حديث قتادة، قال: سألت أنس بن مالك عن قراءة النبي ، قال: كان يمد مدًا، وفي رواية أخرى عن قتادة: سُئِل أنس: كيف كانت قراءة النبي ، فقال: كانت مدًا، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، يمد ببسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم( ). /89/.

إضــاءة:
وقد كان السلف يحبون الصوت الحسن ويطربون لقراءته، فتكون قراءته أوقع في قلوبهم وأحلى، قال: أبوعثمان النهدي: « ما سمعت مزمارًا ولا طنبورًا ولا صنجًا أحسن من صوت أبي موسى الأشعري، إن كان ليصلي بنا فنود أنه يقرأ البقرة من حسن صوته »( )، لذلك كان عمر بن الخطاب -- يقول لأبي موسى: ذكرنا ربنا، فيقرأ أبوموسى( ).
وروي أن أسيد بن الحضير --، أحد النقباء الإثني عشر ليلة العقبة كان من أحسن الناس صوتًا بالقرآن( ).
وذكر حنظلة بن أبي سفيان عن عبدالرحمن بن سابط، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: استبطأني رسول الله  ذات ليلة فقال: « ما حبسك؟ » قلت: إن في المسجد لأحسن من سمعت صوتًا بالقرآن، فأخذ رداءه وخرج يسمعه، فإذا هو سالم مولى أبي حذيفة، فقال: « الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك »( ). /90/.
والمسلمون يستحبون البكاء وخشوع القلب عند سماع القرآن، قال تعالى:   خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا  ( ).
وعقد البخاري في فضائل القرآن من صحيحه بابًا للبكاء عند قراءة القرآن( ).
وقال العزالي: « يستحب البكاء مع القراءة وعندها، وطريق تحصيله أن يحضر قلبه الحزن والخوف يتأمل القارئ ما فيه من التهديد والوعيد والمواثيق والعهود، ثم يتأمل تقصيره في أوامره وزواجره، فيحزنه لا محالة، ويبكي »( ).
وقال النووي: البكاء عند قراءة القرآن صفة العارفين وشعار الصالحين( ).
وقال الحافظ ابن حجر ولا شك أن النفوس تميل إلى سماع القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم، لأن للتطريب تأثير في رقة القلب وإجراء الدمع( ).
ومعلوم أنه لابد للنفس من طرب واشتياق إلى الغناء فعوضت عن طرب الغناء بطرب القرآن، كما عوضت عن كل محرم ومكروه بما هو خيرٌ لها منه، وكما عوضت عن الاستقسام بالأزلام بالاستخارة التي هي محض /91/ التوحيد والتوكل، وعن السفاح بالنكاح، وعن القمار بالمراهنة بالنضال وسباق الخيل، وعن السماع الشيطاني بالسماع الرحماني القرآني، ونظائره كثيرة جدًا.
وقد أحب الناس للمصحف المكتوب أن يكون جميل الخط، وبذل المسلمون في هذا جهودًا باهرة ضخمة، ولا شك أن الحاجة إلى تجميل القراءة وتحسين الصوت ليست أدنى من الحاجة إلى تجميل الكتابة، فكلها تؤدي إلى غاية واحدة.
وغني عن البيان أن نؤكد هنا -ونحن نتكلم على جواز تحسين الصوت والتطريب والتغني بالقراءة للقرآن الكريم- أن المقصود بها التطريب من القارئ نفسه، لا تلك الدعوة الآثمة التي نادى بها البعض ودعا أن تكون القراءة بالتلحين مع أنغام الموسيقى( )، فهذه الدعوى لا تستند إلى أي أساس من الدين، ولا كادت أن تتجاوز جناحر الذين نادوا بها، ولم تلق رواجًا ولا نصيبًا من الظهور بحمد الله، لأنها أرادت الخروج بالقراءة عن قصدها والمراد منها. وكذلك الدعوة إلى وضع تلحين /92/ موحد للقراءة يلتزمونه في القراءة باللحن لأن كل قارئ لـه طبيعة صوته وطريقته في الأداء، والقرآن الكريم ليس أغنية حتى نلتزم في قراءته لحنًا معينًا.
أما المانعون فاستدلوا بأحاديث لا تثبت عن المصطفى ، منها:
1- ما قيل إن حذيفة بن اليمان روي عن النبي  أنه قال: « اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكمُ ولحونَ أهلِ الكتاب والفِسْق، فإنه سيجيء من بعدي أقوام بُرَجِّعون بالقرآن ترجيع الغناء والنَّوح، لا يجاوز حناجرَهُم، مفتونةٌ قُلُوبُهم، وقلوبُ الذين يَعْجِبُهُم شأنهم ».
    رواه أبوالحسن رزين في تجريد الصحاح، ورواه أبوعبدالله الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، واحتج به القاضي أبويعلى في "الجامع" وأخرجه الطبراني في "الأوسط"، والبيهقي في "شعب الإيمان" من حديث بقية بن الوليد، عن الحُصين الفزاري، عن أبي محمد، عن حذيفة( ).
قلت: لا يَصُح، فبقية يدلس عن الضعفاء، وقد عنعن، والحصين بن مالك الفزاري ليس بمعتمد، قال الذهبي في الميزان: « الحصين بن مالك الفزاري، عن رجل، عن حذيفة « اقرأوا القرآن بلحون العرب وأصواتها ». تفرد عن بقية، ليس بمعتمد، والخبر منكر( )، وأبومحمد مجهول، ففيه ثلاث علل ».
2- واستدلوا بحديث عابس بن عبس الغفاري في شرائط الساعة فذكر أشياء منها: « أن يُتَّخَذَ القرآنُ مزامير يُقَدِّمون أحَدَهم ليس بأقرئِهم ولا أفضلهم ما يُقَدِّمونه إلا ليُغَنِّيهُم غناءً ».
    أخرجه أحمد( ) في مسنده من حديث شريك، عن أبي اليقظان عثمان بن عمير، عن زاذان، عن عُلَيْم( )، عن عابس وسنده ضعيف لضعف أبي اليقظان( ).
    وأخرجه الطبراني( ) وابن شاهين من طريق موسى الجهني عن زاذان، قال: كنت مع رجل من أصحاب النبي  يقال لـه عابس أو ابن عابس.. وذكر الحديث من غير ذكر عُلَيْم، ولم يضبط الصحابي. ومدار الحديث على زاذان، وهو متكلم في عقيدته، كان كثير الكلام، كما في ضُعفاء العقيلي( ) والتهذيب( ) وغيرهما وأيضًا: فإنني لم أجد أحدًا من أهل العلم ذكر أن موسى الجهني /94/ قد روى عن زاذان( )، فلا يحتج بمثل هذا الحديث المضطرب السند تجاه الأحاديث الصحيحة التي سقناها.
3- وقالوا: وقد منع النبي  المُؤَذِّن المطرِّب في أذانه من التطريب، واستدلوا بحديث أخرجه الدارقطني في سننه ( ) من حديث ابن عباس، قال: كان لرسول الله  مؤذن بُطَرِّب، فقال النبي : « إن الأذان سهلٌ سَمْح فإن كان أذانك سَهْلاً سَمْحًا، وإلاّ فلا تؤذن».
    قلت: هذا حديث ضعيف جدًا، ففي سنده إسحاق بن أبي يحيى الكعبي: ضَعّفهُ الدارقطني نفسه، وعَدّ الذهبي حديثه هذا عن ابن جريج من أوابده، وقال في الميزان: هالك يأتي بالمناكير عن الأثبات( ).
4- واستدلوا على كراهية أنسٍ بن مالك -- للتطريب بالقرآن ما روي عن زياد النميري أنه جاء مع القراء إلى أنس بن مالك فقيل لـه: اقرأ فرفع صوته وطَرَّب، وكان رفيع الصوات، فكشف أنس عن وجهه، وكان على وجهه خرقة سوداء فقال: يا هذا ما هكذا كانوا يفعلون، وكان إذا رأى شيئًا ينكره كشف الخرقة عن وجهه( ) /95/.
ولم نعرف لهذا الخبر راويًا عن أنس غير زياد بن عبدالله النميري، فعليه مدار الحديث، وهو ضعيف، قال يحيى بن معين: ضعيف الحديث( )، وقال أبوعبيد الآجري: سألت أبا داود عنه فضعفه( ).
وقال أبوحاتم: « يُكتب حديثه ولا يُحتج به( )، وذكره ابن حبان في كتابه "الثقات" أولاً، وقال( ): يخطئ، ثم عاد فذكره في "المجروحين" وقال ( ): منكر الحديث يروي عن أنس أشياء لا تشبه حديث الثقات، لا يجوز الاحتجاج به، تركه يحيى بن معين ». وقال الدارقطني في السنن( ): ليس بالقوي. وضعفه الحافظان: الذهبي( ) وابن حجر( ) وكفاك بهما. /96/.
القول الفصل:
بعد كل هذا الذي قدمنا نرى من المفيد أن نقتبس خلاصة رأي واحد من أعاظم المحدثين الفقهاء ممن تشبعوا بالهدي النبوي وعرفوه حق معرفته، في هذه المسألة هو حافظ عصره ابن حجر العسقلاني، وهو خلاصة هذا البحث وهو الذي نعتقده ونؤمن به لما تحصّل عندنا من الأدلة.
قال الحافظ ابن حجر: « والذي يتحصل من الأدلة أن حسن الصوت بالقرآن مطلوب، فإن لم يكن حسنًا فليحسنه ما استطاع كما قال ابن أبي مليكة أحد رواة الحديث، وقد أخرج ذلك عنه أبوداود بإسناد صحيح.
ومن جملة تحسينه أن يراعي فيه قوانين النغم، فإن الحَسَن الصوت يزداد حُسْنًا بذلك، وإن خرج عنها أَثَّر ذلك في حُسْنه، وغير الحَسَن ربما انجبَر بمراعاتها ما لم يخرج عن شَرْط الأداء المعتبر عند أهل القراءآت، فإن خرج عنها لم يف تحسين الصوت بقبح الأداء، ولعل هذا مستند من كرة القراءة بالأنغام لأن الغالب على من راعى. الأنغام أن لا يراعي الأداء، فإن وُجِدَ من يراعيهما معًا فلا شك في أنه أرجح من غيره، لأنه يأتي بالمطلوب من تحسين الصوت ويجتنب الممنوع من حُرمة الأداء( ) /97/.

 

البيان في حكم التغني بالقرآن

تحميل

عن الكتاب

المؤلف :

بشار عواد معروف

الناشر :

www.islamland.com

التصنيف :

التعريف بالإسلام