للأغنياء فقط




للأغنياء فقط
بيان فضل المال وفضل الغني الشاكر
والحث على التجارة وقصص وأحكام

المؤلف: محمد بن علي بن جميل المطري.

عدد الصفحات: 27.
جاء الإسلام بصلاح الدين والدنيا، وجاء بما يُسعد الإنسان في الآخرة والأولى، ومن أعظم أدعية القرآن الكريم: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾[البقرة: 201]، ومن أدعية النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((اللهم أصلِحْ لي دِيني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر))؛ رواه الإمام مسلم في صحيحه (2720) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

 

وهذا كتاب شائق، جمعتُه لأغنياء المسلمين، ونقلت فيه ما ينبغي عليهم معرفته، من فضل المال والغنى، وحث الإسلام على التجارة وعمارة الأرض وإصلاح الأموال، وذكرتُ فيه كثيرًا من أقوال الأغنياء من السلف الصالح، وقصصهم وأخبارهم؛ ففيها عبرة لمن بعدهم، وذكرت أهم الأحكام الشرعية التي يجب على الغني معرفتها، ويقبُح به أن يكون جاهلاً بها.






للأغنياء فقط
بيان فضل المال وفضل الغني الشاكر
والحث على التجارة وقصص وأحكام



بقلم
محمد بن علي بن جميل المطري

 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الغني الوهاب، يبسط الرزق لمن يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة؛ {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 26، 27].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وجده يتيمًا فآواه، وضالاًّ فهداه، وعائلاً فأغناه، وأرسله للناس بشيرًا ونذيرًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن الإسلام جاء بصلاح الدين والدنيا، وجاء بما يُسعد الإنسان في الآخرة والأولى، ومن أعظم أدعية القرآن الكريم: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]، ومن أدعية النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((اللهم أصلِحْ لي دِيني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر))؛ رواه الإمام مسلم في صحيحه (2720) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وهذا كتاب شائق، جمعتُه لأغنياء المسلمين، ونقلت فيه ما ينبغي عليهم معرفته، من فضل المال والغنى، وحث الإسلام على التجارة وعمارة الأرض وإصلاح الأموال، وذكرتُ فيه كثيرًا من أقوال الأغنياء من السلف الصالح، وقصصهم وأخبارهم؛ ففيها عبرة لمن بعدهم، وذكرت أهم الأحكام الشرعية التي يجب على الغني معرفتها، ويقبُح به أن يكون جاهلاً بها.
وأسأل الله أن ينفعَ بهذا الكتاب من قرأه، وأن يجعله سببًا في زيادة الخير في أغنياء الأمة.
 
أهمية المال وفضله
قال الله سبحانه: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 5]، أخبر الله في هذه الآية أنه جعل الأموال قيامًا لنا، قال المفسرون: أي جعلها الله لكم قِوام معايشِكم، قائمة بأموركم، والمعنى: أن الأموال صلاحٌ للحال، وثبات له؛ انظر فتح القدير للشوكاني (1/489).
وقال سبحانه: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46]، وقال تعالى: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]، وقال جل وعلا: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32].
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقوله صباحًا ومساءً: ((اللهم إني أعوذ بك مِن الكفر والفقر، وأعوذ بك مِن عذاب القبر))؛ رواه أبو داود (5090) بسند حسن.
وروى مسلم (2720) في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ((اللهم أصلح لي دِيني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياةَ زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحةً لي من كل شر)).
وقد علمنا الله في القرآن الكريم أن نقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]، وكان هذا أكثرَ دعاء النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما ثبت في الصحيحين.
وروى أحمد في مسنده (17763)، وصححه الألباني، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نِعم المالُ الصالح للمرء الصالح)).
وروى ابن أبي الدنيا في كتابه: إصلاح المال (98) عن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: "يا حبذا المال، أصِلُ منه رَحِمي، وأتقرَّب إلى ربي عز وجل".
وروى ابن ماجه (2141)، وصححه الألباني، عن يسار بن عبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس بالغنى لِمَن اتقى، والصحة لمن اتقى خيرٌ من الغنى، وطِيبُ النفس من النعيم)).
وروى ابن أبي الدنيا في كتابه إصلاح المال (64) عن عمر رضي الله عنه قال: "عليكم بالجمال واستصلاح المال، وإياكم وقول أحدكم: لا أبالي".
وروى ابن أبي الدنيا في كتابه إصلاح المال (49) عن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: (احرُثْ لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمَل لآخرتك كأنك تموت غدًا).
وروى ابن أبي الدنيا في كتابه إصلاح المال (84) عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه قال: (يأتي على الناس زمانٌ لا ينفع فيه إلا الدِّينارُ والدرهم).
وروى الحاكم في المستدرك (6565) عن الصحابي الجليل قيس بن عاصم المنقري رضي الله عنه: أنه قال لبنيه: "عليكم بإصلاح المال؛ فإنه مَنْبهةٌ للكريم، ويُستغنى به عن اللئيم".
وروى ابن أبي الدنيا في كتابه إصلاح المال (55) عن سيد التابعين سعيد بن المسيب رحمه الله قال: "لا خير فيمن لا يريد جمع المال مِن حِلِّه، يكُفُّ به وجهَه عن الناس، ويصِلُ به رحِمَه، ويُعطي منه حقَّه".
وروى ابن أبي الدنيا في كتابه إصلاح المال (60) عن سيد أتباع التابعين سفيانَ الثوري رحمه الله قال: كان من دعائهم: (اللهم زهِّدْنا في الدنيا، ووسِّع علينا منها، ولا تَزْوِها عنا فترغِّبَنا فيها).
وروى ابن أبي الدنيا في كتابه إصلاح المال (79) عن سفيان الثوري أيضًا قال: "المال في هذا الزمان سلاحُ المؤمن".

فضل الغني الشاكر
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن فقراء المهاجرين أتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ذهب أهل الدُّثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال: ((وما ذاك؟))، قالوا: يصلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفلا أعلمكم شيئًا تدركون به مَن سبقكم، وتسبِقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا مَن صنع مثل ما صنعتم))، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((تسبِّحون وتكبِّرون وتحمَدون دُبُرَ كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة))، قال أبو صالح: فرجع فقراءُ المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمع إخواننا أهلُ الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)).
قال القاضي عياض في إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/ 546): "قال أبو القاسم بن أبي صفرة: فيه نص على فضل الغني، نصًّا لا تأويلاً، إذا استوت أعمالهم بما فرض الله عليهم؛ فللغني حينئذ فضل أعمال البر المتعلقة بالأموال بما لا سبيل للفقير إليها، وإنما يفضل الفقر والغنى إذا فضل صاحبه بالعمل، فهذا ظاهر معنى قوله: ((فضل الله يؤتيه من يشاء))".
وقال النووي في رياض الصالحين (3/ 430): "باب فضل الغني الشاكر، وهو مَن أخذ المال من وجهه، وصرَفه في وجوهه المأمور بها؛ قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 5 - 7]، وقال تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 17 - 21]، وقال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271]، وقال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92]، والآياتُ في فضل الإنفاق في الطاعات كثيرة معلومةٌ".
فالغني الشاكر هو الذي يأخذ المال بحقه، ويصرفه في حقه، والآيات التي فيها ثناء على المنفقين هي في الأغنياء المحسنين، الذين ينفقون سرًّا وجهرًا؛ كما قال الله سبحانه مثنيًا عليهم: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274].
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حسَد إلا في اثنين: رجل آتاه الله مالاً، فسلَّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمةً، فهو يقضي بها ويعلِّمها))؛ متفق عليه.
وعن ابنِ عُمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا حسَد إلا في اثنين: رجل آتاه الله القُرآن، فهو يقومُ به آناء الليل وآناء النهارِ، ورجل آتاه الله مالاً، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهارِ))؛ متفق عليه.
وهذه الآيات والأحاديث تبين فضل الغني الشاكر، وقد تكلم العلماء في أيهما أفضل؛ الغني الشاكر أو الفقير الصابر، ولا شك أن الغنيَّ الشاكر أفضل من الفقير الذي لا يصبر، وكذلك لا شك أن الفقير الصابر أفضل من الغني الذي لا يشكر؛ قال ابن القيم في بدائع الفوائد (3/162): "وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عنهما فقال: أفضلُهما أتقاهما لله، فإن استويا في التقوى، استويَا في الدرجة".
 
تفسير سورة البلد
سورة البلد ذكَر الله فيها حال الأغنياء المتكبرين المسرفين، والأغنياء الصالحين المحسنين، وفيها حث الأغنياء على إنفاق أموالهم في عظائم القُرَب، التي لا تستطاع إلا ببذل الأموال الكثيرة، وخلال نظري في كثير مِن التفاسير وجدتُ أكثر المفسرين لم يبرز هذا المقصد العظيم لهذه السورة، مع أن هذا المقصد واضح، كما سيأتي توضيحه، وآيات السورة متناسبة في بيانه، فلنتدبر هذه السورة العظيمة:
يقول الله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1، 2] أقسم الله بهذا البلد الحرام، وهو (مكة)، و(لا) هذه صلة للتأكيد، وليست نافية، وأنت - أيها النبيُّ - حلال في هذا (البلد الحرام) تصنع فيه ما شئت، ولم يحلَّ له إلا ساعة من نهار في فتح مكة، ففي الآية بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بفتح (مكة) على يده، وحِلِّها له في القتال، وقيل: المعنى: أُقسم بهذا البلد حال كونك حالاًّ فيه؛ أي: مقيمًا فيه؛ لأن حلول النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وإقامته فيها يزيدها شرفًا إلى شرفها.
قوله سبحانه: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 3، 4]، وأقسم الله بكل والد وما ولد، ويدخل في هذا والدُ البشرية آدم عليه السلام، وما تناسل منه من ولد، بل ويعم هذا القسم كل والد وما ولد حتى من الحيوانات.
وجواب القسم هو: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]؛ أي: في تعَبٍ وشدة وعناء من مكابدة الدنيا؛ فكل إنسان يخرج من تعبٍ إلى تَعَب، فلا أحد يسلم من التعب في هذه الدنيا منذ خروجه من بطن أمه إلى وفاته، فيكابد ضغطة الخروج من بطن أمه، ثم يكابد قطع حبل سرَّته، ثم إذا قُمِّط يكابد الضيق والتعب، ويكابد الارتضاع، ولو فاته لضاع، ثم يكابد الخِتان، ويكابد الأوجاع والأمراض، ثم يكابد نباتَ أسنانه، ثم يكابد الفِطام، ثم يكابد المعلم وصولته، والمؤدِّب وشدته، ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه، ثم يكابد شغل الأولاد، ويكابد بناء السكن وطلب الأرزاق، وإن كانت أنثى تكابد آلام الحيض وثقل الحمل وشدة الولادة، ثم تكابد الرَّضاع والتربية، وتكابد أعمال البيت والقيام بحقوق الزوج، ولا يسلم أحد طوال حياته من الأمراض والأحزان، ثم إن طال عمره أصابه الكِبَر والهَرَم، ولازمه الضعف والوهن، ثم عند الموت يكابد السكرات، فما دمتَ في هذه الدار فلا تسلم من الأكدار، سواء كنت غنيًّا أو فقيرًا، من الولادة حتى الوفاة!
وفي تفسير هذه الآية قول آخر، وهو أن معنى قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]؛ أي: منتصبَ القامة مستويًا؛ فقد خلق الله الإنسان منتصبًا، يمشي على رِجلين، وهذه نعمة جليلة ميَّز الله بها البشر، فتكون هذه الآية كقوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 1 - 4]، وكلا المعنيينِ صحيح.
قوله سبحانه: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد: 5]؛ أي: أيظُن هذا الغني بما جمعه من مال أن الله الأحدَ لن يقدر عليه؟ فالأحد هو الله؛ كما قال سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، فهذا الغني لم يعرف حقيقة الدنيا، وأنها تعَب ومشقة، فلم يغتنِمْ حياته قبل موته، ولا شبابه قبل هَرَمِه، ولا صحته قبل سقَمه، ولا فراغه قبل شُغله، ولا غناه قبل فقره، بل يفتخر ببذل الأموال في غير طاعة الرحمن!
يقول الله سبحانه عن هذا الغني: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} [البلد: 6]؛ أي: يقول هذا الغني المتكبر متباهيًا بما أنفَق في شهواته وملذَّاته: أنفقت مالاً كثيرًا، فبدلاً مِن أن ينفقها في الحلال، ويؤتي منها ذوي القربى والمساكين وابن السبيل - يبذِّرها تبذيرها؛ فهو من إخوان الشياطين.
يقول الله سبحانه منكرًا على هذا الغني: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} [البلد: 7]؛ أي: أيظن هذا الغني المبذِّر أموالَه في شهواتِه أن الله الذي مِن أسمائه "أحدٌ" لا يراه، ولا يحاسبه على ما أنفقه من الأموال في غير طاعة الله؟!
ثم قال سبحانه: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 8 - 10]؛ أي: ألم نجعل لهذا الغني المتكبر عينينِ يُبصر بهما ما أعطيناه من النِّعم، ولسانًا وشفتينِ ينطق بها ويفتخر، وبيَّنا له سبيلَيِ الخير والشر بإنزال الكتب وإرسال الرسل؟! وهذه نِعم عظيمة، دنيوية ودينية، لا تقدر بثمن، ولم يسأله الله على ذلك أجرًا، والمقصود بهذا تأنيب الغني المتكبر؛ لأنه لا يشكر الله بماله وقد أعطاه الله هذه النعم تفضلاً منه من غير حول منه ولا قوة، فلم يقُمْ بشكرها، بل استعان بعينيه على معصية الله، وتكلم بلسانه وشفتيه بما يُسخِط اللهَ، وترك اتباع طريق الشكر، واختار سلوك الطريق الذي يغضب الله!
والنَّجْد في اللغة: هو الطريق في المكان المرتفع، ففيه إشارة إلى أن طريق الخير والشر كلاهما فيه تعب ومشقة، فطوبى لمن جعل تعبه فيما يُرضي الله، لا فيما يُسخِطه.
قوله سبحانه: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد: 11]؛ أي: فهلاَّ اقتحَم هذا الغني الأمور الشاقة بإنفاق أمواله فيما يُرضي الله عنه؟! أفلا دخل في هذا الطريق الصَّعب؟!
قوله سبحانه: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 12، 13]؛ أي: وما أعلَمكَ عن هذا الطريق؟! إنه القيام بهذه الأعمالِ الصالحةِ التي لا يستطيعها إلا الأغنياء أصحاب الأموال، ثم ذكر الله بعض الأمور الشاقة التي يحث الأغنياء على إنفاق أموالهم فيها بدلاً من إنفاقها في الشهوات والملذَّات، والتفاخر بتبذيرها في السفاسف التافهات.
فمن تلك الأمور الشاقة التي لا تستطاع إلا ببذل الكثير من الأموال: عِتق رقبة من أَسْر الرِّق، إحسانًا بذلك الرقيق، وتحريرًا له من العبودية، وهذا لا يكون إلا بشرائه من سيده بالأموال الطائلة، أو التعاون مع بعض الأغنياء على شراء هذا العبد أو الأَمَة وعتقهما لوجه الله، ومن ذلك: السعي في فَكاك الأسير المسلم المأسور عند الكفار، أو عند غيرهم من الظَّلمة.
ثم ذكر الله مثالاً آخر من الأمور الشاقة التي لا تستطاع إلا ببذل الكثير من الأموال، فقال سبحانه: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 14 - 16]؛ أي: إطعام في يوم ذي مجاعة شديدة، يقلُّ فيها الطعام، ويرتفع سعر الطعام الموجود، فلا يستطيع شراءَه المساكينُ، فيقوم هذا الغني بإطعام الطعام في هذه المجاعة، فيشتريه بالمال الكثير، ويبذله للمساكين، لا سيما لليتيم - الذي لا أبَ له - مِن ذوي قرابته، فيجتمع فيه فضل الصدقة وصلة الرَّحِم، أو مسكينًا ليس من أقاربه معدِمًا، لا شيء عنده، قد لصِق التراب بثيابه وجسده من شدة الفقر، فيطعمه لوجهِ الله في تلك المجاعة الشديدة.
وهذان مثالانِ لاقتحام العقبة، ومِن اقتحام العقبة أيضًا: التنفيس عن مكروب، وإغاثة ملهوف، ونصر مظلوم، وإعانة مجاهد في سبيل الله، وقضاء دَينِ مُعسِر، وعلاج مريض، وتزويج شابٍّ لم يستطع النكاح، وبناء مسجد، أو إصلاح طريق، أو حفر بئر للناس، وغير ذلك من القُرَب العظيمة التي تنفق فيها الأموال الكثيرة.
قوله سبحانه: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: 17]؛ أي: ثم كان هذا الغنيُّ مع فعله الأعمالَ العظيمة بماله مِن الذين أخلصوا الإيمان لله، وأوصى بعضهم بعضًا بالصبر على طاعة الله، وعن معاصيه، وتواصَوْا بالرحمة بالخلق، وفي هذا ثناءٌ على الأغنياء الذين يتعاونون على البر والتقوى، فيتواصَون بالصبر؛ لأن الإنسان خُلِق في تعَب ومشقة، فيحتاج إلى مَن يحثه على الصبر على طاعة الله، ومَن يحثه على الصبر عن الشهوات المحرمة التي تشتهيها نفسُه، ويحثه على الصبر على أقدار الله المؤلمة، وأيضًا هؤلاء الأغنياء يتواصَون بالرحمة بالمساكين، فيحث بعضهم بعضًا على فعل الخير رحمة بالمساكين؛ فإن الإنسان خُلق في تعب، وقلة المال تزيد المساكين تعبًا إلى تعبهم، وشقاءً على شقائهم، فهؤلاء الأغنياء المحسنون يتواصون بالرحمة بالبؤساء؛ ليخففوا عنهم بما أعطاهم الله مِن الأموال، ويتعاوَنون على فعل المعروف بالمساكين، وتعاوُن هؤلاء الأغنياء الصالحون يُكثِّر خيرَهم ويوسِّعه؛ فإن الغنيَّ بمفرده مهما فعل من خير فإنه قد يكسل أو يمل، فبتعاونه مع غيره من الأغنياء المحسنين يستمر في فعل الخير، ويكون نفعُه أكثر وأوسع؛ ولذا أوصى الله المؤمنين بالتعاون على البِرِّ والتقوى.
قوله سبحانه: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد: 18]؛ أي: الأغنياء الذين فعلوا هذه الأفعال الطيبة هم أصحابُ اليمين، الذين يؤخذ بهم يوم القيامة ذاتَ اليمين إلى الجنة.
قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} [البلد: 19، 20]؛ أي: والذين كفروا بالقرآن هم الذين يؤخذ بهم يوم القيامة ذاتَ الشمال إلى نار جهنَّمَ، فلا تنفعهم أموالهم التي بخِلوا بها في الدنيا، فكفَروا بالله، ولم يحسِنوا إلى خَلْق الله، لا بالزكاةِ ولا بالصدقات، بل منَعوا الزكاة التي أمر بها الله، وربما تعاملوا بالرِّبا الذي يزيد المساكين ذلاًّ وفقرًا، فيدخلهم الله نار جهنم، وتكون مطبقة مغلَقة عليهم، ولا يرحمهم الله؛ لأنهم لم يرحموا خلق الله، ومَن لا يَرْحَم لا يُرْحَم، وقد ثبت في الصحيحين عن أبي ذرٍّ الغفاريِّ رضي الله عنه قال: انتهيت إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ في ظلِّ الكعبة، فلمَّا رآني قال: ((هم الأخسرون وربِّ الكعبة! هم الأخسرون وربِّ الكعبة!))، فقلت: يا رسول الله، فداك أبي وأمي، مَن هم؟! قال: ((هم الأكثرون أموالًا، إلَّا مَن قال هكذا وهكذا وهكذا - مِن بين يديه ومِن خلفه وعن يمينه وعن شماله - وقليلٌ ما هم)).
وفي الختام، أنبه إلى أن الصدقاتِ تجبُ على كل مسلم ومسلمة بقدر استطاعته؛ فإن الإسلامَ يأمر كلَّ أحدٍ بالصدقة ولو ضُيِّق عليه رزقه؛ قال الله سبحانه: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7]، وقال سبحانه في وصف المتقين: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} [آل عمران: 133، 134]، فتأمل كيف وصفهم الله بالإنفاق حتى في الضراء! وقال سبحانه في وصف المتقين في أول سورة البقرة: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 9 - 11].
 
نماذج مِن كرم النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وجوده
النبي قدوة كل مسلم في حال غناه وفقره، وصحته ومرَضه، وأمنه وخوفه، وفرحه وحزنه؛ فهو قدوةُ الفقراء في حال فقرهم، وقدوة الأغنياء في حال غناهم، وهو قدوةُ الرئيس والقائد والقاضي والمعلم والزوج والجد والقريب والجار والصديق، ولقد أغناه الله بعد فقره، وكان صلى الله عليه وسلم المثَل الأعلى والقدوة الحسنة في الجُود والكَرَم، حتى في حال فقره، فضلاً عن حال غناه، فكان أجودَ النَّاس، وكان أجودُ ما يكون في رمضان، فكان أجودَ بالخير مِن الرِّيح المرسلة.
وكان يعطي عطاء مَن لا يحسب حسابًا للفقر ولا يخشاه؛ ثقةً بعظيم فضل الله، وإيمانًا بأنَّه هو الرزَّاق ذو الفضل العظيم.
روى مسلم عن أنسٍ قال: ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئًا إلَّا أعطاه، قال: فجاءه رجلٌ فأعطاه غنمًا بين جبَلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قومِ، أسلِموا؛ فإنَّ محمَّدًا يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة.
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كان لي مِثل أُحُدٍ ذهبًا، ما يسرُّني ألا يمرَّ عليَّ ثلاثٌ وعندي منه شيءٌ، إلَّا شيءٌ أُرصِدُهُ لدَينٍ)).
وروى البخاريُّ عن جُبير بن مطعمٍ: أنَّه بينا هو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه النَّاس، مقبلًا مِن حنينٍ، عَلِقَتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الأعرابُ يسألونه، حتى اضطروه إلى سَمُرَةٍ، فخَطِفَتْ رداءه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أعطوني ردائي، فلو كان عددُ هذه العِضَاهِ نَعَمًا، لقسمته بينكم، ثمَّ لا تجدوني بخيلًا، ولا كَذُوبًا، ولا جبانًا)).

من أخبار أغنياء الصحابة
روى هشام بن عروة عن أبيه قال: أسلم أبو بكر وله أربعون ألفًا، فأنفقها في سبيل الله، وأعتق سبعةً كلهم يعذَّبُ في الله: أعتق بلالًا، وعامرَ بن فُهيرة، وزنيرة، والنهدية، وابنتها، وجارية بني المؤمل، وأم عُبَيس.
وروى أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبيه: كان أبو بكر معروفًا بالتجارة، ولقد بُعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم وعنده أربعون ألفًا، فكان يعتق منها، ويَعُول المسلمين، حتى قدم المدينة بخمسة آلاف، وكان يفعل فيها كذلك.
وروى ابن ماجه، وصححه الألباني، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما نفَعني مالٌ قطُّ، ما نفَعني مالُ أبي بكرٍ))، فبكى أَبو بكر وقال: وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟!
وروى أبو داود، وحسنه الألباني، عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعتُ عمر بن الخطَّاب يقول: أمَرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدَّق، فوافق ذلك عندي مالًا، فقلتُ: اليوم أسبق أبا بكرٍ إن سبقته يومًا، قال: فجئت بنِصف مالي، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أبقيتَ لأهلك؟))، قلت: مثله، وأتى أبو بكرٍ بكلِّ ما عنده، فقال: ((يا أبا بكرٍ، ما أبقيتَ لأهلك؟))، قال: أبقيتُ لهم اللهَ ورسوله، قلت: لا أسبقه إلى شيءٍ أبدًا!
واشترى عُثمان رضي الله عنه بئر رُومة، وكانت ليهوديٍّ يبيع المسلمين ماءَها، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ (‏(من يشتري رومة فيجعلَ دلوَه فيها كدِلاءِ المسلمين بخيرٍ له منها في الجنة))‏، فأتى عثمانُ اليهوديَّ فاشتراها منه، وجعلها للمسلمين.
وجَهَّزَ عثمان جيشَ العُسْرَة، وذلك في غزوةِ تَبُوك، بتسعمائة وخمسين بعيرًا، وأتمَّ الألف بخمسين فرَسًا.
ووصل عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه أزواجَ النبي صلى الله عليه وسلم بما بِيعَ بأربعين ألفًا، وأوصى بحديقةٍ لأمهات المؤمنين، بِيعَتْ بأربعمائة ألف.
وقال المسور بن مخرمة: باع عبدالرحمن بن عوف أرضًا من عثمان بأربعين ألف دينار، فقسَم ذلك المال في بني زُهرةَ، وفقراء المسلمين، وأمهات المؤمنين، وبعث إلى عائشةَ معي مِن ذلك المال، فقالت عائشة: سقى اللهُ ابنَ عوف سلسبيلَ الجنة.
وروى الزهري قال: تصدَّق عبدالرحمن بن عوف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشَطْرِ ماله أربعة آلاف، ثم تصدَّق بألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرَس في سبيل الله عز وجل، ثم حمل على ألف وخمسمائة راحلة في سبيل الله، وكان عامةُ ماله من التجارة.
وعن طلحة بن عبدالرحمن بن عوف قال: كان أهلُ المدينة عيالًا على عبدالرحمن بن عوف، ثُلُث يُقرِضهم ماله، وثُلُث يقضي دَينهم بماله، وثُلُث يصِلهم.
وعن عروة بن الزبير قال: أوصى عبدالرحمن بن عوف بخمسين ألف دينار في سبيل الله تعالى.
قال أبو عمر بن عبدالبر: كان عبدالرحمن بن عوف تاجرًا مجدودًا في التجارة، فكسب مالاً كثيرًا، وخلَّف ألف بعير، وثلاثة آلاف شاة، ومائةَ فرس ترعى بالبقيع، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحًا، قال الطائي: قسم ميراثه على ستة عشر سهمًا، فبلغ نصيبُ كل امرأة من نسائه، وهن أربع، ثمانين ألف درهم!
وروى الحسن أن طلحة بن عُبيدالله رضي الله عنه باع أرضًا له من عثمان بن عفان بسبعمائة ألف، فحملها إليه، فلما جاء بها قال: إن رجلًا تبيتُ هذه عنده في بيته لا يدري ما يطرُقُه مِن أمر الله، لغَرير بالله، فبات ورسُلُه مختلف بها في سِكَكِ المدينة حتى أسحَرَ وما عنده منها درهم!
قال قَبيصة بن جابر: ما رأيت أحدًا أعطى لجزيل مالٍ من غير مسألة من طلحة بن عُبيدالله.
وقال موسى بن محمد بن إبراهيم عن أبيه قال: كان طلحةُ بن عُبيد الله يُغِلُّ بالعراق ما بين أربعمائة ألفٍ إلى خمسمائة ألف، ويُغِلُّ بالسراة عشرة آلاف دينار أو أقلَّ أو أكثر، وبالأعراض له غلاَّتٌ، وكان لا يدَعُ أحدًا من بني تَيْم عائلًا إلا كفاه مؤونته ومؤونة عياله، وزوج إماءَهم، وأخدَمَ عائلهم، وقضى دَيْنَ غارمِهم، ولقد كان يُرسل إلى عائشة إذا جاءت غلَّته كلَّ سنة بعشرة آلاف، ولقد قضى عن صُبيحة التيميِّ ثلاثين ألف درهم.
وقال السائب بن يزيد: صَحِبْتُ طلحة بن عُبيدالله في السفر والحضر، فلم أَخْبُرْ أحدًا أعَمَّ سخاءً على الدِّرهم والثوبِ والطعام من طلحة.
قال المدائني: إنَّما سمِّي طَلْحَةُ بن عبيدالله الخزاعي: طَلْحَةَ الطَّلَحَات؛ لأنَّه اشترى مائةَ غلام وأعتقهم وزوَّجهم، فكلُّ مولود له سمَّاه: طلحة.
وقال موسى بن طلحة: إن معاوية سأله: كم ترك أبو محمَّد، يرحمه الله، من العين؟ قال: ترك ألفي ألف درهم، ومائتي ألف درهم، ومائتي ألف دينار، وكان يُغِلُّ كلَّ سنة من العراق مائة ألف، سوى غلاته من السراة وغيرها، ولقد كان يدخِلُ قُوتَ أهله بالمدينة سَنَتَهم من مزرعة بقناة، كان يزرَعُ على عشرين ناضحًا، وأولُ من زرع القمح بقناة هو، فقال معاوية: عاش حميدًا سخيًّا شريفًا رحمه الله.
وكان عبدالله بن عمر كثير الصدقة، وربما تصدق في المجلس الواحد بثلاثين أَلفًا.
وروى نافع قال: أُتيَ ابنُ عمر ببضعةٍ وعشرين ألفًا، فما قام من مجلسه حتى أعطاها، وزاد عليها، قال: لم يزل يُعطي حتى أنفذ ما كان عنده، فجاءه بعض من كان يُعطيه، فاستقرض من بعض مَن كان أعطاه فأعطاه!
وروى نافع أن ابن عمر كان لا يكاد يتعشَّى وحده.
قال نافع: كان ابنُ عمر إذا اشتدَّ عَجَبُه بشيء من ماله قرَّبه لربِّه، واشتهى مرة حوتًا، فشَوَوْها له ووضَعوها بين يديه، فجاء سائل، فأمر بالحوت فدُفِعَت إليه!
قال ابن سيرين: كان أهل الصُّفَّة إذا أمسَوا انطلق الرجل بالواحد، والرجل بالاثنين، والرجل بالجماعة، فأما سعد بن معاذ فكان ينطلق بثمانين!
وروى الدارقطني في كتابه الأسخياء من طريق هشام بن عروة عن أبيه قال: كان منادي سعد بن معاذ ينادي بمكان عالٍ في المدينة: من كان يريد شحمًا ولحمًا، فليأتِ سعدًا، وكان سعد يقول: اللهم هَبْ لي مجدًا، لا مجد إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال، اللهم إنه لا يُصلِحني القليلُ، ولا أصلُحُ عليه.
وعن بَرزة بنت رافع قالت: لما خرج العطاء أرسل عمر إلى زينبَ بنت جَحْش بالذي لها، فلما أُدخل عليها قالت: غَفَرَ الله لعمر، غيري من أخواتي كان أقوى على قسم هذا مني، قالوا: هذا كلُّه لكِ، قالت: سبحان الله! فقالت: صُبُّوه واطرحوا عليه ثوبًا، ثم قالت لي: أدخلي يدك فاقبضي منه قبضة فاذهبي بها إلى بني فلان، وبني فلان، من أهل رَحِمها وأيتامها، حتى بقيت بقيَّة تحت الثوب، فقالت لها برزة بنت رافع: غَفَرَ الله لكِ يا أمَّ المؤمنين! والله لقد كان لنا في هذا حقٌّ، فقالت: فلكم ما تحت الثوب، فوجدنا تحته خمسةً وثمانين درهًما.
وروى البخاري ومسلم عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة: أنَّه سمع أنس بن مالك يقول: كان أبو طَلْحَة أكثرَ أنصاريٍّ بالمدينة مالًا، وكان أحبَّ أمواله إليه بيرحى، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخُلها ويشرب مِن ماءٍ فيها طيِّبٍ، قال أنسٌ: فلمَّا نزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، قام أبو طَلْحَة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ الله يقول في كتابه: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، وإنَّ أحبَّ أموالي إليَّ بيرحى، وإنَّها صدقةٌ لله، أرجو برَّها وذُخرَها عند الله، فضَعْها يا رسول الله حيث شئتَ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بخٍ، ذلك مالٌ رابحٌ، ذلك مالٌ رابحٌ، قد سمعتُ ما قلتَ فيها، وإنِّي أرى أن تجعَلَها في الأقربين))، فقسمها أبو طَلْحَة في أقاربه وبني عمِّه.
ومَرِض قيس بن سعد بن عبادة، فاستبطأ إخوانه، فقيل له: إنَّهم يستحيون ممَّا لك عليهم مِن الدَّيْن! فقال: أخزى اللهُ مالًا يمنَعُ الإخوانَ مِن الزِّيارة، ثمَّ أمر مناديًا فنادى: مَن كان عليه لقيس بن سعد حقٌّ، فهو منه بريء، قال: فانكسَرَتْ درجتُه بالعشي؛ لكثرة مَن زاره وعاده!
وقال عطاء: ما رأيت مجلسًا قطُّ أكرَمَ مِن مجلس ابن عبَّاس، أكثر فقهًا، وأعظم جَفْنَةً، إنَّ أصحاب القرآن عنده، وأصحاب النَّحو عنده، وأصحاب الشِّعر، وأصحاب الفقه، يسألونه كلُّهم، يصدرهم في وادٍ واسعٍ.
وعن أبان بن عثمان قال: أراد رجلٌ أن يضار عبيدالله بن عبَّاس، فأتى وجوه قريش فقال: يقول لكم عبيدالله: تغدَّوْا عندي اليوم! فأتَوْه حتى ملؤوا عليه الدَّار، فقال: ما هذا؟ فأُخبِرَ الخبر، فأمر عبيدالله بشراء فاكهة، وأمر قومًا فطبخوا وخبزوا، وقدِّمت الفاكهة إليهم، فلم يفرغوا منها حتى وُضِعَت الموائد، فأكلوا حتى صدروا، فقال عبيدالله لوُكَلَائه: أوَموجود لنا هذا كلَّ يومٍ؟ قالوا: نعم، قال فليتغدَّ عندنا هؤلاء في كلِّ يوم!
قال المدائني: أوَّل مَن فطَّر جيرانه على طعامه في الإسلام عبيدالله بن عبَّاس رضي الله عنهما، وهو أوَّل مَن وضع موائده على الطَّريق، وكان إذا خرج مِن بيته طعامٌ لا يعاود منه شيءٌ، فإن لم يجد مَن يأكله تركه على الطَّريق.

مِن قصص أغنياء التابعين ومَن بعدهم
ذكر المؤرخون أنه كان ناسٌ مِن أهل المدينة يعيشون لا يدرون مِن أين كان معاشهم، فلمَّا مات علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله فقَدوا ذلك الذي كانوا يُؤتَون باللَّيل.
وقال أبو السَّوَّار العدويُّ: كان رجالٌ مِن بني عدي يصلُّون في هذا المسجد، ما أفطر أحدٌ منهم على طعامٍ قطُّ وحده، إن وجد مَن يأكل معه أكل، وإلَّا أخرج طعامه إلى المسجد، فأكله مع النَّاس، وأكل النَّاس معه.
وقال عبدالله بن الوسيم الجمَّال: أتينا عمران بن موسى بن طَلْحَة بن عبيدالله نسأله في دَيْنٍ على رجلٍ مِن أصحابنا، فأمر بالموائد فنُصِبَت، ثمَّ قال: لا، حتى تصيبوا مِن طعامنا، فيجب علينا حقُّكم وذمامكم، قال: فأصبنا مِن طعامه، فأمر لنا بعشرة آلاف درهمٍ في قضاء دَينه، وخمسة آلاف درهمٍ نفقةً لعياله.
وفي ترجمة عبدالله بن المبارك في سير أعلام النبلاء لمؤرخ الإسلام الذهبي (8/ 409 - 410): كان عبدالله بن المبارك غنيًّا، شاكرًا، رأس ماله نحو الأربع مائة ألف.
قال حبان بن موسى: رأيت سفرة ابن المبارك حملت على عجلة.
وقال أبو إسحاق الطالقاني: رأيت بعيرينِ محملين دجاجًا مشويًّا لسفرة ابن المبارك.
وعن محمد بن عبدالرحمن بن سهم، قال: كنت مع ابن المبارك، فكان يأكل كل يوم، فيشوى له جَدْيٌ، ويتخذ له فالوذق [وهو حلوى فاخرة]، فقيل له في ذلك، فقال: إني دفعتُ إلى وكيلي ألف دينار، وأمرته أن يوسِّعَ علينا.
قال نعيم بن حماد: قدم ابن المبارك أيلة على يونسَ بن يزيد، ومعه غلام مفرَّغ لعمل الفالوذج، يتخذه للمحدِّثين.
قال الحسن بن حماد: دخل أبو أسامة على ابن المبارك، فوجد في وجهه عبدالله أثرَ الضر، فلما خرج، بعَث إليه أربعة آلاف درهم، وكتب إليه:
وفتًى خلا من ماله = ومِن المروءة غيرُ خال
أعطاك قبل سؤاله = وكفاك مكروه السؤال
وقال المسيب بن واضح: أرسل ابن المبارك إلى أبي بكر بن عياش أربعة آلاف درهم، فقال: سُدَّ بها فتنة القوم عنك.
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة الوزير ابن هبيرة (15/ 298 - 301):
الوزير العادل علي بن عيسى بن داود البغدادي، الإمام، المحدِّث، الصادق، الوزير، العادل، أبو الحسن علي بن عيسى بن داود بن الجراح البغدادي، كان على الحقيقة غنيًّا شاكرًا، ينطوي على دِينٍ متين، وعلم وفضل، وكان صبورًا على المِحَن، ولله به عناية، وهو القائل يعزِّي ولدَي القاضي عمر بن أبي عمر القاضي في أبيهما: مصيبةٌ قد وجَب أجرها خيرٌ مِن نعمة لا يؤدى شكرها.
وكان - رحمه الله - كثيرَ الصدقات والصلوات، مجلسه موفورٌ بالعلماء، قال الصولي: لا أعلم أنه وزر لبني العباس مثله؛ في عفَّتِه وزهده، وحفظه للقرآن، وعلمه بمعانيه، وكان يصوم نهاره، ويقوم ليله، وكان الوزير متواضعًا، قال: ما لبستُ ثوبًا بأزيدَ من سبعة دنانير، قال أحمد بن كامل القاضي: سمعتُ علي بن عيسى الوزير، يقول: كسبت سبعمائة ألف دينار، أخرجت منها في وجوه البِرِّ ستمائة ألف وثمانين ألفًا، توفي في آخر سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة.
 
قصص معاصرة لأغنياء بررة
جاء في موسوعة الأخلاق التابعة لموقع الدرر السنية:
•    كرم الشَّيخ عبدالعزيز بن باز المتوفي سنة 1420هـ:
لا يكاد يُعلم في زمان سماحة الشَّيخ أحدٌ أسخى ولا أجود ولا أكرم مِن سماحة الشَّيخ عبدالعزيز بن باز، وذلك في وجوه السَّخاء، وصوره المتعدِّدة، ومِن هذه الصُّور:
1 - كان مجبولًا على حبِّ الضُّيوف، والرَّغبة في استضافتهم منذ صغره.
2 - كان يوصي بشراء أحسنِ ما في السُّوق مِن الفاكهة، والتَّمر، والخضار، وسائر الأطعمة التي تقدَّم لضيوفه.
3 - وكان يلحُّ إلحاحًا شديدًا إذا قَدِم عليه أحدٌ أو سلَّم عليه، فكان يلحُّ عليهم بأن يحِلُّوا ضيوفًا عنده على الغداء، والعشاء، والمبيت، ولو طالت مدَّة إقامتهم.
4 - وكان يرغِّب القادمين إليه بأن يتواصلوا معه في الزِّيارة، فيذكِّرهم بفضل الزِّيارة، والمحبَّة في الله، ويسُوقُ لهم الآثارَ الواردة في ذلك؛ ممَّا يحثّهم على مزيد مِن الزِّيارة؛ لأنَّ بعضهم لا يرغب في الإثقال على سماحة الشَّيخ، وإضاعة وقته، فإذا سمع منه ذلك انبعث إلى مزيد مِن الزِّيارات.
5 - وكان لا يقوم مِن المائدة حتى يسأل عن ضيوفه: هل قاموا؟ فإذا قيل له: قاموا، قام؛ كيلا يعجلهم بقيامه قبلهم، وإذا قام قال: كلٌّ براحته، لا تستعجلوا.
6 - وإذا قَدِم الضُّيوف مِن بعيد، ثمَّ استضافهم وأكرمهم، وأرادوا توديعه ألحَّ عليهم بأن يمكثوا، وأن يتناولوا وجبة أخرى، وأن يبيتوا عنده، فلا ينصرفون منه إلَّا بعد أن يتأكَّد بأنَّهم مسافرون أو مرتبطون، بل إذا قالوا: إنَّهم مرتبطون، قال: ألا يمكن أن تتخلَّصوا مِن ارتباطكم؟ ألَا تهاتفون صاحب الارتباط، وتعتذروا منه؟!
7 - وكان يفرح بالقادم إليه ولو لم يعرفه مِن قبل، خصوصًا إذا قدم مِن بعيد، أو لمصلحة عامَّة.
8 - ومِن لطائف كرمه أنَّه إذا قدم عليه قادم وهو في السَّيَّارة، أخذ يتحفَّز، ويتحرَّك، ويدعو القادم للركوب معه، ولو كان المكان ضيِّقــًا، لكن سماحته يريه أنَّه محبٌّ لصحبته، أو أن يأمر أحد السَّائقين التَّابعين للرِّئاسة ليوصله، أو أن يأخذ سيارة للأجرة؛ لتنقل مَن يأتون إليه إذا كانوا كثيرين.
9 - كان منزل أسرة سماحة الشَّيخ في الرِّياض لا يتَّسع لكثرة الضُّيوف القادمين إليه، وكثيرًا ما يأتيه أناس بأُسَرِهم، إمَّا مِن المدينة أو غيرها، إمَّا طلبًا لشفاعة أو مساعدة، أو نحو ذلك، فكانوا يسكنون عند سماحة الشَّيخ في المنزل.
•    قال الشيخ الشريف حاتم العوني في صفحته في الفيس بوك: "لقيت لليلتين متواليتين تجارًا كبارًا في تركيا، ممن يدعمون العمل الإسلامي الخيري، وتعلمت منهم معانيَ في التواضع وفي البذل وحب الخير للناس ما لا أكاد أعرف بعضه إلا في قصص السابقين!
١ - أحدهم مع بذله الشديد، الذي يبلغ عشرات الملايين سنويًّا، قد أقسم ألا يقضي العيد في بلده، وأن يقضيه في زيارة الفقراء، وتفقد أحواله في تركيا وخارجها.
٢ - أحدهم يبكي حتى تبكي لبكائه إذا أثنى عليه أحد لعطائه، ويقول: أنا أخدُم نفسي بهذا العطاء، فكيف تُثنون على من يحبُّ نفسه؟! أنا أتاجر، لكن مع الله!
٣ - وآخر بنى مسجدًا ضخمًا في دولة جنوب إفريقيا، بتكلفة مائة وخمسين مليون دولار، ووقف على بنائِه بنفسه، وشارَك العمال في بنائه، حتى تم.
٤ - وآخر يتبرع بتسع "ڤلل" في أجمل منطقة في إستانبول، كان ينوي أن يسكن في إحداها، ويعطي ابنه واحدة، وبنته أخرى، وهي تساوي مئات الملايين، وخلال جلسة مع شيخ فاضل، قال له الشيخ: ألا تبيعها لله؟ فقال مباشرة: بِعْتُها، وكانوا في المساء، وبعد أن رجع إلى بيته: اتصل بالشيخ وطالبه بأن يعجل بكاتبٍ عدل، وإلا سيرجع في عطائه، وكانوا في منتصف الليل، فظنوا أنه يريد التراجع، لكنهم بحثوا عن صديق وكاتب عدل، فذهبوا به إليه، وتمم نقل الملكية إلى تلك الجهة الخيرية، لتكون تلك "الڤلل" مدارس، فلما تم البيع سألوه: لماذا فعلتَ ذلك؟! فقال: خشيتُ أن أموت قبل أن أتمم بيعتي مع الله، فينكر البيع أبنائي، فيفوتني شرف: وربح بيع مع الله!
هذه قصص حقيقية، وليست من نسج الخيال، والتقيت بهؤلاء التجار، وكانوا في غاية التواضع والانضباط، يجلس بعضهم على الأرض، ولا يستقبلون اتصالات هاتف؛ احترامًا لنا، بل لا نسمع رنين هواتفهم، يستبشرون بدعائنا، وتتهلَّل وجوههم إن ذكرنا لهم نجاحات مشروعاتهم الخيرية".
•    في تاريخ 15 رجب 1435 هـ أعلن رئيس مجموعة البنك الإسلامي للتنمية بالكويت الدكتور أحمد محمد علي أن البنك تلقى تبرعًا بقيمة 267 مليون دولار من "فاعل خير" سيخصص لإنشاء 75 عيادة طبية في عدة بلدان، بينها 15 عيادة في اليمن.
 
فوائد الزكاة والصدقات
1. امتثال أمر الله تعالى ورسولِه عليه الصلاة والسلام؛ فعن ابن عمر رضى الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان))؛ رواه البخاري ومسلم.
2. التنزُّه عن صفة البخل المُهلك.
3. التعاون على البِر والتقوى.
4. الصدقة برهان على إيمان صاحبها.
5. الزكاة والصدقات تطهِّر النفوس وتزكِّيها.
6. مضاعَفة الحسنات.
7. الزكاة والصدقات دليل على شكر نعمة المال.
8. مغفرة الذنوب، وتكفير السيئات، وإطفاء نار الخطايا.
9. السلامة مِن وبالِ المال بالآخرة.
10. نيل درجة البِرِّ؛ قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92].
11. الإنفاق من صفات المتقين.
12. تنمية الأخلاق الحسنة والأعمال الصالحة.
13. الأمان من الخوف يوم الفزع الأكبر.
14. تحصين المال وحفظه وزيادته.
15. الصدقة دواء كثير من الأمراض القلبية والبدنية.
16. الصدقة سببٌ لدفع البلايا وسيِّئ الأسقام عن النفسِ والأهل.
17. الصدقة سبب لجَلْب المودة بين الناس.
18. صاحبُ الزكاة والإنفاق موعودٌ بالخلَف والتوفيَة؛ قال تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]، وقال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276].
19. صاحب الزكاة والإنفاق موعودٌ أيضًا بالزيادة في الدنيا على ما أنفَق؛ كما وعد الله في قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]، وروى مسلم في صحيحه (2588) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما نقصت صدقةٌ مِن مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله))؛ فالصدقة مِن أعجب الأشياء؛ فالله هو الذي رزَق المال ويسَّره، ثم أمر بالصدقة منه، ووعَد بالخلَف، والصدقة لا تنقص المال، بل يُخلِف الله لِمَن تصدَّق مِثلَ ما أنفق وأزيدَ، وهذا أمر معروف عند المتصدقين، فما أعجب أمر الصدقة! وصدق الله إذ يقول: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
20. الزكاة والصدقات سببٌ لإضعاف مادة الحسد والحقد والبغضاء بين الناس.
21. بالصدقة والإنفاق يتصف العبدُ بأوصاف الكرماء وأهل الفضل، ويتخلَّص مِن الأوصاف والأسماء الرَّذيلة؛ كالشحيح، والبخيل، والمقتر.
22. الزكاة والصَّدقات سبب لنزول القَطْرِ، ومنعُ الزكاة سبب لمنع القَطْر.
23. الفوز بالجنة، والنجاة من النار؛ فعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبِرْني بعمل يدخلني الجنة قال: (( تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصِلُ الرَّحِم))؛ أخرجه البخاري ومسلم.
24. النجاة من عذاب القبر.
25. الاستظلالُ بظلِّ عرش الله يوم لا ظلَّ إلا ظله؛ ففي الصحيحينِ عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سبعةٌ يُظلُّهم اللهُ تعالى في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظله: إمامٌ عادل، وشابٌّ نشأ في عبادة الله، ورجل قلبُه معلَّق في المساجد، ورجلانِ تحابَّا في الله، اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه، ورجل دعَتْه امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلمَ شمالُه ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه)).
26. الاستظلال بظل الصدقة يوم القيامة؛ ففي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (17333) قال: حدثنا علي بن إسحاق، قال: أخبرنا عبدالله بن مبارك، قال: أخبرنا حرملة بن عمران: أنه سمع يزيد بن أبي حبيب، يحدث أن أبا الخير حدثه أنه سمع عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كلُّ امرئٍ في ظل صدقته حتى يُفصل بين الناس - أو قال: يُحكم بين الناس))، قال يزيد: وكان أبو الخير لا يخطئه يومٌ إلا تصدَّق فيه بشيء ولو كعكة أو بصلة أو كذا!
27. استحقاق الثناء من الله.
28. الصدقة سبب في زيادة الأعمار.
29. الصدقة سببٌ في دفع ميتة السوء.
30. الصدقة سبب في التواضع، وذهابِ الكِبْر والفخر والخيلاء.
31. الصدقة تطفئ غضب الرب.
32. الصدقة سبب لمحبة الله عز وجل.
33. الصدقة سبب للسلامة مِن كفر نعمة الله.
34. الصدقة تفُكُّ صاحبها من النار.
35. الصدقة سبب لدعاء الملائكة للمتصدِّق.
36. الصدقة سبب لاستجابة الدعاء وكشف الكُربة.
37. الصدقة سبب لسَعة الرزق.
38. الصدقة سبب للنصر على الأعداء.
39. الصدقة سبب للفرَج بعد الشدة.
40. الصدقة سبب للخيرية؛ كما قال صلى الله علية وسلم: ((اليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى))؛ متفق عليه.
41. للمتصدق على المجاهدين في سبيل الله أجر المجاهد.
42. الصدقة سبب في إعانة المتصدق على الطاعة، وتيسيره لليسرى؛ كما قال الله سبحانه: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل: 5 - 11].
43. إخراج الزكاة والصدقات سببٌ في حصول البركة في مال المتصدق وعُمُره وذريته.
44. إخراج الزكاة سبب في النجاة من الهلاك العام، والابتلاءِ بالسنين.
45. المتصدق على الأيتام بكفالتهم يفوز بمجاورة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة.
46. الصدقة سببٌ في إطعام الله للمتصدق وسقيِه وكسائه.
47. الصدقة في بناء المساجد سبب في بناء بيتٍ للمتصدق في الجنة.
48. الصدقة من أسباب سُكْنى الغرفات العالية في الجنة.
49. أجر الصدقة ثابتٌ، ولو كان على البهائم والطيور.
50. الصدقة خير ما يهدى للميِّت، لا سيما إن كان من الوالدين والأقربين.
51. الزكاة والصدقة من أسباب حلِّ الأزمات الاقتصادية، ومن أسباب ترابط الأمة الإسلامية.
52. الصدقة علاج لقسوة القلب.
53. الزكاة والصدقة تنجي العبد من الاتصاف بخصال المنافقين؛ فهي برهانٌ على إيمان صاحبها.
54. الزكاة تنجي العبد من نهش الشجاع الأقرع يوم القيامة، وهو ثعبان يعَضُّ مانعَ الزكاة؛ كما ثبت ذلك في الحديث.
55. إخراج الزكاة والصدقات يؤلم الشيطان ويَغيظه ويكيده.
56. الصدقة سبب لمعية الله عز وجل؛ كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128].
57. ثواب الصدقة الجارية يبقى للعبد بعد موته، وطوبى لِمَن مات واستمرَّتْ حسناته!
 
فائدة مهمة في معرفة قدر الزكاة
تجب الزكاة في الذهب والفضة، ومقدار الزكاة الواجبة في الذهب والفضة ربع العشر، ونصاب الذهب الخالص عيار 24 = 85 جرامًا، ونصاب عيار 21 = 97 جرامًا، ونصاب عيار 18 = 113جرامًا.
ونصاب الفضة = 595 جرامًا.
والعملات النقدية يقدَّر نصابها بقيمة نصاب الذهب، وقيل: بقيمة نصاب الفضة‏.‏
فمن أراد أن يعرف هل عليه زكاة أو لا، فعليه أن يستخرجَ نِصابَ المال، فيسأل تجار الذهب عن القيمة التي يشترون بها جِرام الذهب عيار 21، ثم يضرب العددَ الذي يقوله الصيارفةُ في نصاب الذهب (97)، والناتج من ذلك هو نِصاب المال الذي تَجبُ فيه الزكاة.
مثال ذلك: لو قال تاجر الذهب: إنَّ قيمة شراء الغرام من الذهب عيار 21 = 1000ريال، يكون الحساب كالآتي:
1000 ريال ×97= 97.000 ريالًا، فهذا هو النِّصاب، فمَن عنده هذا المال فعليه زكاةٌ، ومن كان عنده دون ذلك فلا زكاةَ عليه.
ومن أراد أن يعرف مقدار ربع العشر الذي هو مقدار زكاته، فعليه أن يقسم المبلغ المراد زكاته على العدد (40)، والناتج هو مقدار الزكاة.
مثال ذلك: لو كان مالك 1000.000، فزكاته = 1000.000 ÷40 = 25.000، وهو ربع العشر.
 
هل في المال حق سوى الزكاة؟
بعض الأغنياء الصالحين يظن أنه إذا أخرج زكاة أمواله فقد برئت ذمَّته من كل حقٍّ مالي، ولم يعُدْ مطالبًا بإخراج الصدقات، ولا التعاون على البر والتقوى، وهذا خطأ، ففي المال حق سوى الزكاة، وقد روى أبو عبيد في الناسخ (48) من طريق هشيم قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم قال: سمعت الشعبي وسئل: هل في المال حق سوى الزكاة؟ قال: نعم، وتلا هذه الآية: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177] إلى آخرها.
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه (2/411)، بسند صحيح، عن إبراهيم النَّخَعي قال: كانوا يرون في أموالهم حقًّا سوى الزكاة.
وروى أيضًا، بإسناد صحيح، عن مجاهد: {فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] قال: سوى الزكاة.
وروى أيضًا، بإسناد صحيح، عن قزعة قال: قلت لابن عمر: إن لي مالاً، فما تأمرني إلى من أدفع زكاته؟ قال: ادفعها إلى وليِّ القوم، يعني الأمراء، ولكن في مالك حقٌّ سوى ذلك يا قزعة.
وعن مزاحم بن زفر قال: كنت جالسًا عند عطاء، فأتاه أعرابي فسأله: إن لي إبلاً، فهل علَيَّ فيها حق بعد الصدقة؟ قال: نعم.
وروى أيضًا عن عبدالأعلى، عن هشام، عن الحسن قال: في المال حق سوى الزكاة.
ويدلُّ على أن في المال حقًّا سوى الزكاة ما ذكرناه في هذه الرسالة من آيات كثيرة فيها الحث على الصدقة، والأمر بها، والثناء على من يتصدق بأمواله سرًّا وجهرًا، وليلاً ونهارًا، وفي كثيرٍ من الأحاديث الصحيحة ما يدل على أن في المال حقًّا سوى الزكاة، ومن ذلك الحديث الصحيح: ((ليس المؤمن بالذي يشبَعُ وجارُه جائع إلى جنبه))؛ رواه الطبراني عن ابن عباس، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (5382)، وفي الصحيحين عن أبي ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه قال: انتهيتُ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ في ظلِّ الكعبة، فلمَّا رآني قال: ((هم الأخسرون وربِّ الكعبة!))، قال: فجئت حتى جلست، فقلت: يا رسول الله، فداك أبي وأمي، مَن هم؟! قال: ((هم الأكثرون أموالًا، إلَّا مَن قال هكذا وهكذا وهكذا - مِن بين يديه ومِن خلفه، وعن يمينه وعن شماله - وقليلٌ ما هم)). 
الخاتمة
يجب على أغنياء المسلمين أن يشكُروا ما هم فيه من نعمة المال؛ ففضل المال لا يُجهل، وفضل الغنيِّ الشاكر لا يُنكر، وفي الحديث: ((المؤمن القويُّ خيرٌ مِن المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير))، وإن من أعظم قوة المؤمن: قوة المال؛ فبالمال يستطيع الغنيُّ الموفَّق أن يعمل مِن الخير ما لا يستطيعه الفقراء؛ ولذا حث الإسلامُ على جمع المال مِن حِلِّه، وأثنى الله في كتابه على مَن لهم تجاراتٌ وبيوعٌ لا تُلهيهم عن ذِكره، ولا تشغَلُهم عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
وكم في القرآن مِن آيات فيها الثناء على المنفقين أموالَهم، والمحسنين على غيرهم، ولا تجب الزكاة إلا على الأغنياء، وورَدت الأحاديثُ الصحيحة في الحث على الصدقة والجود والسخاء، وأعظم مَن يقوم بهذا أهلُ السَّعة والفضل من المسلمين؛ ولذا كان كثير من علماء السلف يحثُّون الناسَ على جمع المال والتجارة فيه، وكانوا يُوصُون صاحبَ المال أن يترك العجز والكسل، وأن يحرِص على ما ينمي ماله؛ لينفَع نفسه وغيره، وكان السلف الصالح يعُدُّون إصلاحَ المال وتنميتَه مِن المروءة.
والناظرُ في سيرةِ أغنياء السلف يجد أنهم كانوا يتوسَّعون في جمع المال بما يستطيعون مِن حِلِّه، مع زهدهم وورَعِهم، وكان قصدُهم بجمع المال أن يتقرَّبوا به إلى الله؛ بإخراج الزكاة، والتصدق من الأرباح، فكانوا ينفقون من أموالهم سرًّا وجهرًا، وليلاً ونهارًا.
وقد ذكَرْنا في هذه الرسالة مِن فوائد الزكاة والصدقات وأخبار المحسنين ما يحمِل الغنيَّ الموفَّق على المسارَعة في الخيرات، والمبادَرة بإنفاقِ الأموال في مرضاتِ الله، وهذا إحسانٌ منه لنفسِه قبل أن يكونَ إحسانًا لغيره، والمُوفَّق مَن وفَّقه الله.
أسأل الله أن يبارك في هذا الكتاب، وأن ينفعَ به كل مَن اطلع عليه من المسلمين، وأن يجعلَه من الأغنياء المحسنين: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 18].