الحجُّ والتوبة

الحجُّ والتوبة



إنَّ الحجَّ بابٌ مبارك من أبواب التوبة والإنابة إلى الله والخروج من الذنوب والعتق من النار.

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من حجَّ ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمُّه )) (1).

وروى مسلم في صحيحه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن العاص رضي الله عنه عند إسلامه: (( أما علمتَ أنَّ الإسلامَ يهدم ما كان قبله، وأنَّ الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأنَّ الحجَّ يهدم ما كان قبله ))(2).

وروى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( العمرةُ إلى العمرة كفَّارةٌ لِما بينهما والحجُّ المبرور ليس له جزاء إلاَّ الجنَّة )) (3).

وروى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة وأنَّه ليدنو ثم يُباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء )) (4).

وروى النسائي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( تابعوا بين الحجِّ والعمرة، فإنَّهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكيرُ خبث الحديد )) (5).

ففي هذه الأحاديث دلالة على عظم شأن الحجِّ وأنَّه بابٌ عظيمٌ لحطِّ الأوزار وإقالة العثرات وغفران الذنوب والعتق من النار.

والواجب على المسلم أن يُبادر إلى التوبة إلى الله عزَّ وجلَّ لينال بذلك الفلاح وليحصل وافر الأجر وعظيم الأرباح.

يقول الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(6) ، ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}(7) ، ويقول سبحانه: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }(8).

والتوبةُ من أنبل الأعمال وأجلِّها، وهي من أحبِّ الأعمال إلى الله وأكرمها، وللتائبين عنده محبَّة خاصة، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ }(9) ، بل إنَّه سبحانه يفرح بتوبة التائبين مع أنَّه سبحانه غنيٌّ حميد.

ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( لله أفرحُ بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضلَّه في أرض فلاة ))، وفي رواية لمسلم: (( لله أشدُّ فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيِسَ منها، فأتى شجرةً فاضطجع في ظلِّها قد أَيِسَ من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمةً عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدَّة الفرح: اللهمَّ أنت عبدي وأنا ربُّك، أخطأ من شدَّة الفرح ))(10).

وليُعلم أنَّ بابَ التوبة مفتوح مهما بلغ الجُرْمُ وعَظُم الإثمُ، قال الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}(11) ، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}(12) ، وقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(13).

بل لقد قال جلَّ وعلا في شأن المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا}(14) ، وقال في شأن النصارى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(15) ، وقال في شأن أصحاب الأخدود الذين خدُّوا الأخاديد لفتنة المؤمنين وإضلالهم عن دينهم {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}(16).

قال الحسن البصري رحمه الله: (( انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياء الله وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة ))(17).

ولهذا لا يحلُّ لأحد أن يقنط الناسَ من رحمة الله مهما بلغت ذنوبُهم وكثرت وتعدَّدت، كما لا يحلُّ له أن يجرأهم على فعل المعاصي واقتراف الذنوب.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: (( من آيس عباد الله من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله عزَّ وجلَّ )) (18).

وعلى العبد أن يُبادر إلى التوبة وأن يُسارع إلى تحقيقها، قبل فوات الأوان، قال صلى الله عليه وسلم: (( إنَّ الله عزَّ وجلَّ يقبل توبةَ العبد ما لم يُغَرْغِر )) رواه الترمذي(19)، وقال صلى الله عليه وسلم : (( من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه )) رواه مسلم(20).

والواجب كذلك أن يتوب العبد من كلِّ ذنب وأن يستوفي شروط التوبة لتكون توبتُه مقبولةً.

قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في كتابه العظيم رياض الصالحين: (( قال العلماء: التوبة من كلِّ ذنب، فإن كانت المعصيةُ بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلَّق بحقِّ آدميٍّ فلها ثلاثة شروط:

أحدها: أن يُقلعَ عن المعصية.

والثاني: أن يندم على فعلها.

والثالث: أن يعزم أن لا يعود إليها أبداً.

فإن فُقد أحدُ الثلاثة لم تصح التوبةُ، وإن كانت المعصيةُ تتعلَّق بآدميٍّ فشروطها أربعة، هذه الثلاثة، وأن يبرأ من حقِّ صاحبها، فإن كانت مالاً أو نحوه ردَّه إليه، وإن كان حدَّ قذف ونحوه مكَّنه أو طلب عفوَه، وإن كانت غيبة استحلَّه منها، ويجب أن يتوب من جميع الذنوب، فإن تاب من بعضها صحَّت توبتُه عند أهل الحقِّ من ذلك الذنب وبقي عليه الباقي )) (21). اهـ.

ونسأل الله أن يَمُنَّ على الجميع بالتوبة النَّصوح، وأن يتقبَّل توبتَنا، وأن يغسل حوْبَتنا، وأن يجيب دعوتنا إنَّه سميع مجيب.

* * *

----------

(1) صحيح البخاري (1820)، وصحيح مسلم (1350).

(2) صحيح مسلم (121).

(3) صحيح مسلم (1349).

(4) صحيح مسلم (1348).

(5) سنن النسائي (5/115)، وصححه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (2901).

(6) سورة النور، الآية: 31.

(7) سورة التحريم، الآية: 8.

(8) سورة الفرقان، الآية: 70.

(9) سورة البقرة، الآية: 222.

(10) صحيح البخاري (6309)، وصحيح مسلم (2747).

(11) سورة الشورى، الآية: 25.

(12) سورة النساء، الآية: 110.

(13) سورة الزمر، الآية: 53.

(14) سورة النساء، الآيتان: 145، 146.

(15) سورة المائدة، الآيتان: 73، 74.

(16) سورة البروج، الآية: 10.

(17) ذكره ابن كثير في تفسيره (8/393).

(18) ذكره ابن كثير في تفسيره (7/99).

(19) سنن الترمذي (3537)، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (1903).

(20) صحيح مسلم (2703).

(21) رياض الصالحين (ص:7).