Tentang artikel

Penulis :

صلاح الدين بن علي بن عبد الموجود

Tanggal :

Thu, Oct 02 2014

Kategori :

Morals & Ethics

Download

التَّوْبَةُ

التَّوْبَةُ

 

التَّوْبَةُ لُغَةً: مِنْ تَابَ يَتُوبُ إِذَا رَجَعَ.
وَشَرْعًا:\" الرُّجُوعُ مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ إِلَى طَاعَتِهِ, فَلَيْسَ بَينَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ مَنْزِلٌ, كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بَينَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مَنْزِلٌ \".
وَأَعْظَمُهَا وَأَوْجَبُهَا : التَّوْبَةُ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيْمَانِ , قَالَ تَعَالَى : {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ (38)} [سورة الأنفال : 38]
ثُمَّ يَلِيْهَا التَّوْبَةُ مِنَ الْبِدْعَةِ إِلَى السُّنَّةِ, وَالتَّوْبَةُ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ وَصِغَارِهَا.
فَالتَّوْبَةُ هِيَ بِدَايَةُ الْعَبْدِ وَنِهَايَتُهُ, وَحَاجَتُهُ إِلَيْهَا فِي النِّهَايَةِ ضَرُورِيَّةٌ كَمَا أَنَّ حَاجَتَهُ إِلَيْهَا فِي الْبِدَايَةِ كَذَلِكَ, وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النــور : 31]
وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي سُورَةٍ مَدَنِيَّةٍ خَاطَبَ اللهُ بِهَا أَهْلَ الْإِيْمَانِ وَخِيَارِ خَلْقِهِ؛ أَنْ يَتُوبُوا إِلَيْهِ بَعْدَ إِيْمَانِهِمْ وَصَبرِهِمْ وَهِجْرَتِهِمْ وَجِهَادِهِمْ, ثُمَّ عَلَّقَ الْفَلَاحَ بِالتَّوْبَةِ تَعْلِيْقَ الْمُسَبَّبِ بِسَبَبِهِ, وَأَتَى بِأَدَاةِ\" لَعَلَّ \"الْمُشْعِرَةِ بِالتَّرَجِّي إِيْذَانًا بِأَنَّكُمْ إِذَا تُبْتُمْ كُنْتُمْ عَلَى رَجَاءِ الْفَلَاحِ, فَلَا يَرْجُو الْفَلَاحَ إِلَّا التَّائِبُونَ - جَعَلَنَا اللهُ مِنْهُمْ .
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة الحجرات : 11]
فَقَدْ قَسَّمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعِبَادَ إِلَى تَائِبٍ وَظَالِمٍ, وَمَا ثَمَّ قِسْمٌ ثَالِثٌ أَلْبَتَّةَ, وَأَوْقَعَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اسْمَ\" الظَّالِم \"عَلَى مَنْ لَمْ يَتُبْ, وَلَا أَظْلَمَ مِنْهُ لِجَهْلِهِ بِرَبِّهِ وَبِحَقِّهِ, وَبِعَيْبِ نَفْسِهِ, وَآفَاتِ أَعْمَالِهِ.
وَقَدْ جَعَلَهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَامَةً عَلَى فَلَاحِ الْعَبْدِ وَهِدَايَتِهِ, وَعُنْوانًا عَلَى صِدْقِ عُبُودِيَّتِهِ, قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [سورة هود : 3]
وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا }[سورة التحريم : 8]
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ مِنَ التَّوْبَةِ وَيَحُثُّ عَلَيْهَا .
عَنْ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:« يَا أَيُّهَا النَّاس تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ ».(1 )
وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُحِبُّ التَّائِبِينَ وَيَفْرَحُ بِتَوْبَتِهِمْ .
{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [سورة البقرة : 222]
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:« لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ من أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ, وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ, فَأَيِسَ مِنْهَا, فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ من رَاحِلَتِهِ, فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ, فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ من شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي, وَأَنَا رَبُّكَ؛ أَخْطَأَ من شِدَّةِ الْفَرَحِ ».( 2)
وَمِنْ عَظِيمِ كَرَمِهِ وَمَنِّهِ بِعِبَادِهِ؛ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُمْهِلُ عَبْدَهُ إِنْ أَسَاءَ بِالنَّهَارِ, وَيَدْعُوهُ إِلَى التَّوبَةِ, وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ؛ طَالِبًا عَبْدَهُ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ, وَكَذَلِكَ مُذْنِبُ اللَّيْلِ يُمْهِلُهُ إِلَى النَّهَارِ؛ بَلْ يَظَلُّ الْبَابُ مَفْتُوحًا إِلَى قُبَيْلِ قِيَامِ السَّاعَةِ.
عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:« إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ, وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ, حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ من مَغْرِبِهَا ».(3 )
وَالْأَمْرُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ إِلَى أَنْ تَصِلَ الرُّوحُ إِلَى الْحُلْقُومِ .
عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:« إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ ».( 4) 
وَلَمَّا كَانَتِ التَّوبَةُ هِيَ رُجُوعَ الْعَبْدِ إِلَى اللهِ, وَمُفَارَقَتَهُ لِصِرَاطِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِينَ؛ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِهِدَايَةِ اللهِ لَهُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيْمِ, وَلَا تَحْصُلُ هِدَايَتُهُ إِلَّا بِإِعَانَتِهِ وَتَوحِيْدِهِ, فَلَا تَسْتَقِيْمُ الْعُبُودِيَّةُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ, فَإِنَّ الْهِدَايَةَ التَّامَّةَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيْمِ لَا تَكُونُ مَعَ الْجَهْلِ بِالذُّنُوبِ, وَلَا مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا, بَلْ بِشُعُورِ الْعَبْدِ الدَّائِمِ بِعِظَمِ تَفْرِيْطِهِ , وَسُوءِ حَالِهِ إِنْ لَمْ يَرْحَمْهُ رَبُّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى , فَلِذَلِكَ لَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الذَّنْبِ وَالاعْتِرَافِ بِهِ, وَطَلَبِ التَّخَلُّصِ مِنْ سُوءِ عَوَاقِبِهِ أَوَّلًا وَآخِرًا, وَمَتَى اعْتَصَمَ الْعَبْدُ بِرَبِّهِ نَصَرَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الشَّيْطَانِ, قَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [سورة الحـج : 78] 
وَوُقُوعُ الْعَبْدِ فِي الذَّنْبِ هُوَ حَقِيْقَةُ الْخُذْلَانِ , فَمَا خَلَّى اللهُ بَيْنَكَ وَبَينَ الذَّنْبِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ خَذَلَكَ وَخَلَّى بَيْنَكَ وَبَينَ نَفْسِكَ , وَلَوْ عَصَمَكَ وَوَفَّقَكَ لَمَا وَجَدَ الذَّنْبُ إِلَيْكَ سَبِيْلًا , وَإِذَا وَقَعْتَ فِي الذَّنْبِ فَتَدَارَكَكَ اللهُ بِرَحْمَةٍ فَأَحْسَسْتَ بِخُطُورَةِ مَا أَنْتَ فِيْهِ , وَعَلَا قَلْبَكَ النَّدَمُ , وَشَمِلَتْكَ الْحَسْرَةُ , فَهَذِهِ بَادِرَةُ خَيرٍ ؛ أَنْ يَجْبُرَ اللهُ كَسْرَكَ , وَيُعِيْنَكَ عَلَى تَدَارُكِ مَا فَاتَكَ مِنْ غَفْلَةٍ . 
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :« النَّدَمُ تَوْبَةٌ ».( 5)
فَهَذَا النَّدمُ إِنْ لَمْ يعصرِ القَلْبَ , وينغصْ عَيْشَ العَبْدِ ؛ فَهُوَ جَاهِلٌ بِحَقِيْقَةِ فِعْلِهِ , إِذِ الفَرَحُ بِالْمَعْصِيَةِ دَلِيْلٌ عَلَى شِدَّةِ الرَّغبةِ فِيْهَا , وَالْجَهْلِ بِقَدْرِ مَنْ عَصَاهُ , وَالْجَهْلِ بِسُوءِ عاقبَتِهَا وعظمِ خَطَرِهَا , ففرحُهُ بها غطَّى عَلَيْهِ ذَلِكَ كُلَّهِ , وفرحُهُ بها أشدُّ ضررًا عليه من مُوَاقَعَتِهَا , والمؤمنُ لا تتمُ له لذَّةٌ بمعصيةٍ أبدًا , ولا يكملُ بها فرحُهُ , بل لا يباشِرُهَا إلا والحزنُ مُخَالِطٌ لِقَلْبِهِ , ولكنْ سُكْرُ الشَّهوةِ يَحْجُبُهُ عنِ الشُّعورِ بِهِ , وَمَتَى خَلَى قلبُهُ من هذا الحزنِ , واشتدتْ غبطتُهُ وسرورُهُ بمعصيَتِهِ وَفِعْلِهِ ؛ فَلْيَتَّهِمْ إيمانَهُ , وَلْيَبْكِ عَلَى موتِ قلبِهِ ؛ فإنه لو كَانَ حيًّا لأحزنه ارتكابُهُ للذنبِ وغاظَهُ , وصعبَ عليه , ولا يحس القلبُ بذلك , فحيث لم يحسَّ به فما لجرحٍ بميتٍ إيلام , وهذه النُّكتة فِي الذنب قَلَّ من يهتدي إليها أو يَنْتَبِهُ لها ؛ وهي موضعٌ مَخُوفٌ جِدًّا مترامٍ إِلَى هلاكِ العبدِ بالكليةِ ؛ إن لم يتداركْ نفسَهُ بثلاثةِ أشياءَ :
أَوَّلًا : خَوفُ الْقُدُومِ عَلَى رَبِّهِ قَبلَ التَّوبَةِ .
ثَانِيًا : نَدَمٌ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ اللهِ بِمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ .
ثَالِثًا : وَتَشْمِيرٌ لِلْجِدِّ فِي اسْتِدْرَاكِ مَا فَاتَ مِنْ تَفْرِيْطٍ وَتَقْصِيرٍ .
وَقَدْ نَادَى سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُسْرِفِينَ مِنْ عِبَادِهِ بِأَحَبِّ نِدَاءٍ مُرَغِّبًا إِيَّاهُمْ فِي الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ , وَعَدَمِ الْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَتِهِ قَالَ تَعَالَى : {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذين أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا من رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [سورة الزمر : 53]
وَقَالَ تَعَالَى : {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)} [سورة الشورى : 25]
وَفَتَحَ بَابَ التَّوْبَةِ أَمَامَ عَبْدٍ عَلِمَ مِنْهُ الرُّجُوعَ وَالْإِنَابَةَ. 
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ :« أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي , فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ , وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ . ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ , فَقَالَ : أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي , فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ , وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ . ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ , فَقَالَ : أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي , فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ , وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ ؛ اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ ». ( 6)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :« إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ , فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ , وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ , وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[سورة المطففين : 14] »(7 )
مِنْ صُوَرِ التَّائِبِينَ
الَّذِي يُطَالِعُ سِيَرَ الْأُوَلِ يَجِدُ سِجِلًّا حَافِلًا مِمَّنْ تَابَ وَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ وَمَوْلَاهُ ؛ بَعْدَ تَفْرِيْطٍ وَعِصيَانٍ وَجَهْلٍ بِحَقِيْقَةِ النَّفْسِ , وَيَرَى رَحْمَةَ اللهِ بِعَبْدِهِ مِنْ تَوْفِيْقِهِ إِلَى التَّوْبَةِ , وَإِعَانَتِهِ عَلَيْهَا ؛ فَضْلًا مِنْهُ وَتَكَرُّمًا .
فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْغَفُورُ الْوَدُودُ التَّوَّابُ الرَّحِيْمُ , فَقَدْ غَفَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِمَنْ تَابَ بَعْدَ قَتْلِ مِائَةِ نَفْسٍ .
فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :« كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا , ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ , فَأَتَى رَاهِبًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ هَلْ من تَوْبَةٍ ؟ قَالَ : لَا , فَقَتَلَهُ . فَجَعَلَ يَسْأَلُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ عَالِمٌ : ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ , فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا , فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ , فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي , وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي , وَقَالَ : قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا , فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ ». (8 )
.وَغَفَرَ لِرَجُلٍ شَكَّ فِي قُدْرَةِ اللهِ عَلَى جَمْعِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:« كَانَ رَجُلٌ يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ , فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ لِبَنِيه :ِ \"إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي , ثُمَّ اطْحَنُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي فِي الرِّيحِ , فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا . فَلَمَّا مَاتَ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ فَأَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَقَالَ : اجْمَعِي مَا فِيكِ مِنْهُ فَفَعَلَتْ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ فَقَالَ : مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ ! قَالَ : يَا رَبِّ خَشْيَتُكَ فَغَفَرَ لَهُ \".. »( 9)
تَوْبَةُ زَانٍ وَزَانِيَةٍ :
وَقَبِل توبةَ زانٍ وزانيةٍ , وشهدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصحةِ توبتهما .
عَنْ بُرَيْدَةَ :« أَنَّ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ الْأَسْلَمِيَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَزَنَيْتُ , وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي فَرَدَّهُ , فَلَمَّا كَانَ من الْغَدِ أَتَاهُ , فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ , فَرَدَّهُ الثَّانِيَةَ , فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْمِهِ , فَقَالَ : أَتَعْلَمُونَ بِعَقْلِهِ بَأْسًا , تُنْكِرُونَ مِنْهُ شَيْئًا , فَقَالُوا : مَا نَعْلَمُهُ إِلَّا وَفِيَّ الْعَقْلِ من صَالِحِينَا فِيمَا نُرَى , فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ , فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَيْضًا , فَسَأَلَ عَنْهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ وَلَا بِعَقْلِهِ , فَلَمَّا كَانَ الرَّابِعَةَ , حَفَرَ لَهُ حُفْرَةً ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ , قَالَ : فَجَاءَتْ الْغَامِدِيَّةُ , فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي , وَإِنَّهُ رَدَّهَا , فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ , قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! لِمَ تَرُدُّنِي ! لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا ! فَوَاللَّهِ إِنِّي لَحُبْلَى , قَالَ : إِمَّا لَا فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي , فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي خِرْقَةٍ , قَالَتْ : هَذَا قَدْ وَلَدْتُهُ , قَالَ : اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ , فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ , فَقَالَتْ : هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ فَطَمْتُهُ وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ , فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى رَجُلٍ من الْمُسْلِمِينَ , ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا , وَأَمَرَ النَّاس فَرَجَمُوهَا , فَيُقْبِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا ؛ فَتَنَضَّحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ فَسَبَّهَا , فَسَمِعَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّهُ إِيَّاهَا , فَقَالَ : مَهْلًا يَا خَالِدُ ! فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ , ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ ».( 10)
تَوْبَةُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ :
وَإِلَيْكَ أَشْهَرُ تَوْبَةٍ وَقَعَتْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ - يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ قِصَّةِ تَبُوكَ - لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ , غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ ؛ وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا , إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ , وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ , وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ , وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاس مِنْهَا . كَانَ من خَبَرِي أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ , وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ , وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ , وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا وَعَدُوًّا كَثِيرًا , فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ , وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرٌ وَلَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ - يُرِيدُ الدِّيوَانَ - قَالَ كَعْبٌ : فَمَا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلَّا ظَنَّ أَنْ سَيَخْفَى لَهُ ؛ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيُ اللَّهِ . وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتْ الثِّمَارُ وَالظِّلَالُ , وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ , فَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا , فَأَقُولُ فِي نَفْسِي أَنَا قَادِرٌ عَلَيْهِ , فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حَتَّى اشْتَدَّ بالنَّاسِ الْجِدُّ , فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَلَمْ أَقْضِ من جَهَازِي شَيْئًا , فَقُلْتُ أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ , فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا لِأَتَجَهَّزَ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا , ثُمَّ غَدَوْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا , فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ , وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ , فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ , فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاس بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَطُفْتُ فِيهِمْ أَحْزَنَنِي أَنِّي لَا أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ , أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ من الضُّعَفَاءِ , وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ , فَقَالَ : وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ : مَا فَعَلَ كَعْبٌ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ من بَنِي سَلِمَةَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَنَظَرُهُ فِي عِطْفِهِ , فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ : بِئْسَ مَا قُلْتَ , وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا , فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ : فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّهُ تَوَجَّهَ قَافِلًا حَضَرَنِي هَمِّي , وَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ , وَأَقُولُ بِمَاذَا أَخْرُجُ من سَخَطِهِ غَدًا , وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ من أَهْلِي , فَلَمَّا قِيلَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا ؛ زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ , وَعَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا بِشَيْءٍ فِيهِ كَذِبٌ , فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ , وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَادِمًا وَكَانَ إِذَا قَدِمَ من سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ , ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ , فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ , وَيَحْلِفُونَ لَهُ وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا , فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَانِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ , فَجِئْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ ؛ ثُمَّ قَالَ : تَعَالَ , فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ , فَقَالَ لِي : مَا خَلَّفَكَ؟! أَلَمْ تَكُنْ قَدْ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ ! فَقُلْتُ : بَلَى , إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ من أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ من سَخَطِهِ بِعُذْرٍ , وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا , وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي , لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ , وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ , لَا وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي من عُذْرٍ , وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ , فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ , فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ من بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِي , فَقَالُوا لِي : وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا , وَلَقَدْ عَجَزْتَ أَنْ لَا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْمُتَخَلِّفُونَ , قَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَ , فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي , ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ : هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي أَحَدٌ ؟ قَالُوا : نَعَمْ رَجُلَانِ قَالَا مِثْلَ مَا قُلْتَ , فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لَكَ , فَقُلْتُ مَنْ هُمَا : قَالُوا مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَمْرِيُّ , وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ , فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا , فِيهِمَا أُسْوَةٌ فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي , وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ من بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ , فَاجْتَنَبَنَا النَّاس , وَتَغَيَّرُوا لَنَا , حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِي الْأَرْضُ ؛ فَمَا هِيَ الَّتِي أَعْرِفُ , فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً , فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ , وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ , فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلاة مَعَ الْمُسْلِمِينَ , وَأَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ , وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ , وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاة , فَأَقُولُ فِي نَفْسِي هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ عَلَيَّ أَمْ لَا , ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلَاتِي أَقْبَلَ إِلَيَّ , وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ من جَفْوَةِ النَّاس ؛ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّي , وَأَحَبُّ النَّاس إِلَيَّ , فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ , فَقُلْتُ : يَا أَبَا قَتَادَةَ ! أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ , هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ؟ فَسَكَتَ , فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتَ , فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ , فَقَالَ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ , فَفَاضَتْ عَيْنَايَ , وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ , قَالَ : فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ , إِذَا نَبَطِيٌّ من أَنْبَاطِ أَهْلِ الشّام مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ , يَقُولُ : مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ؟ فَطَفِقَ النَّاس يُشِيرُونَ لَهُ حَتَّى إِذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا من مَلِكِ غَسَّانَ , فَإِذَا فِيهِ : أَمَّا بَعْدُ . فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ , وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ , فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ , فَقُلْتُ لَمَّا قَرَأْتُهَا وَهَذَا أَيْضًا من الْبَلَاءِ , فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُ بِهَا , حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً من الْخَمْسِينَ , إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِينِي , فَقَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ , فَقُلْتُ : أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ ؟ قَالَ : لَا , بَلْ اعْتَزِلْهَا وَلَا تَقْرَبْهَا , وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ مِثْلَ ذَلِكَ , فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي : الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَتَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ , قَالَ كَعْبٌ : فَجَاءَتْ امْرَأَةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ ؛ فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ ؟ قَالَ : لَا , وَلَكِنْ لَا يَقْرَبْكِ , قَالَتْ : إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ , وَاللَّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ من أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا . فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي : لَوْ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَتِكَ كَمَا أَذِنَ لِامْرَأَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ , فَقُلْتُ : وَاللَّهِ لَا أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَمَا يُدْرِينِي مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا , وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ , فَلَبِثْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ حَتَّى كَمَلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً ؛ من حِينَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلَامِنَا , فَلَمَّا صَلَّيْتُ صَلَاةَ الْفَجْرِ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً وَأَنَا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ من بُيُوتِنَا , فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ ؛ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي , وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ , سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ : يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ ! أَبْشِرْ , قَالَ : فَخَرَرْتُ سَاجِدًا , وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ , وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ , فَذَهَبَ النَّاس يُبَشِّرُونَنَا , وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ , وَرَكَضَ إِلَيَّ رَجُلٌ فَرَسًا , وَسَعَى سَاعٍ من أَسْلَمَ فَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ , وَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ من الْفَرَسِ , فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُ إِيَّاهُمَا بِبُشْرَاهُ , وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ , وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَيَتَلَقَّانِي النَّاس فَوْجًا فَوْجًا يُهَنُّونِي بِالتَّوْبَةِ , يَقُولُونَ : لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ , قَالَ كَعْبٌ : حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاس , فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّانِي , وَاللَّهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ من الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ , وَلَا أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ . قَالَ كَعْبٌ : فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ من السُّرُورِ : أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ ! قَالَ : قُلْتُ : أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ من عِنْدِ اللَّهِ ؟! قَالَ : لَا بَلْ من عِنْدِ اللَّهِ , وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ , وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ , فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ من تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ من مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ , وَإِلَى رَسُولِ اللَّهِ , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ , قُلْتُ : فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ , فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا نَجَّانِي بِالصِّدْقِ , وَإِنَّ من تَوْبَتِي أَنْ لَا أُحَدِّثَ إِلَّا صِدْقًا مَا بَقِيتُ , فَوَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا من الْمُسْلِمِينَ أَبْلَاهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلَانِي , مَا تَعَمَّدْتُ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِبًا , وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ فِيمَا بَقِيتُ , وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} إِلَى قَوْلِهِ {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} فَوَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ من نِعْمَةٍ قَطُّ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي من صِدْقِي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا أَكُونَ كَذَبْتُهُ ؛ فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذين كَذَبُوا , فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أَنْزَلَ الْوَحْيَ شَرَّ مَا قَالَ لِأَحَدٍ , فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ} إِلَى قَوْلِهِ {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} قَالَ كَعْبٌ : وَكُنَّا تَخَلَّفْنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الَّذين قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَلَفُوا لَهُ , فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ , وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَنَا حَتَّى قَضَى اللَّهُ فِيهِ , فَبِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذين خُلِّفُوا} وَلَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ مِمَّا خُلِّفْنَا عَنْ الْغَزْوِ , إِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْهُ .( 11)
أَبُو مِحْجَنٍ الثَّقَفِيُّ :
وَهَذَا سَجِينُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ كَانَ مُتَّهَمًا بِشُربِ الْخَمْرِ , قِيْلَ: كَانَ يَشْرَبُهَا، وَقِيْلَ: كَانَ يَذْكُرُهَا فِي شِعْرِهِ , إِنَّهُ أَبُو مِحْجَنٍ الثَّقَفِيُّ الْبَطَلُ الشُّجَاعُ الكَرَّارُ أَمْسَكَ بِهِ سَعْدٌ ؛ وَكَانَ قَدْ حُبِسَ فِي الْقَصْرِ وَقُيِّدَ , فَهُوَ فِي الْقَصْرِ فَصَعِدَ حِينَ أَمْسَى إِلَى سَعْدٍ يَسْتَعْفِيْهِ وَيَسْتَقِيْلَهُ , فَزَبَرَهُ وَرَدَّهُ , فَنَزَلَ فَأَتَى سَلْمَى بِنْتَ خَصَفةَ -زَوْجَةُ سَعْدٍ - فَقَالَ : يَا سَلْمَى يَا بِنْتَ آلِ خَصَفَةَ هَلْ لَكِ إِلَى خَيْرٍ ؟ قَالَتْ : وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ : تُخَلِّينَ عَنِّي وَتُعِيرِيْنَنِي الْبَلْقَاءَ ؛ فَلِلهِ عَلَيَّ إِنْ سَلَّمَنِي اللهُ أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكِ حَتَّى أَضَعَ رِجْلِي فِي قَيْدِي , فَقَالَتْ : وَمَا أَنَا وَذَاكَ ! فَرَجَعَ يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ , يَقُولُ :


كَفَى حَزَنًا أَنْ تَرْتَدِيَ الْخَيْلُ بِالْقَنَا 

وَأُتْرَكَ مَشْدُودًا عَلَيَّ وَثَاقِيا 

 

إِذَا قُمْتُ عَنَّانِي الْحَدِيدُ وَأُغْلِقَتْ 

مَصَارِيعُ دُونِي قَدْ تَصُمُّ الْمُنَادِيا 

 

وَقَدْ كُنْتُ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ وَإِخْوَةٍ 

فَقَدْ تَرَكُونِي وَاحِدًا لَا أَخَا لِيَا 

 

وَللهِ عَهْدٌ لَا أَخِيسُ بِعَهْدِهِ 

لَئِنْ فُرِّجَتْ أَلَّا أَزُورَ الْحَوَانِيا 


فَقَالَتْ سَلْمَى : إِنِّي اسْتَخَرْتُ اللهَ وَرَضِيْتُ بِعَهْدِكَ ؛ فَأَطْلَقَتْهُ , وَقَالَتْ : أَمَّا الْفَرَسُ فَلَا أُعِيْرُهَا، وَرَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا , فَاقْتَادَهَا فَأَخْرَجَهَا مِنْ بَابِ الْقَصْرِ الَّذِي يَلِي الْخَنْدَقَ , فَرَكِبَهَا ثُمَّ دَبَّ عَلَيْهَا , حَتَّى إِذَا كَانَ بِحِيَالِ الْمَيْمَنَةِ , كَبَّرَ ثُمَّ حَمَلَ عَلَى مَيْسَرَةِ الْقَوْم يَلْعَبُ بِرُمْحِهِ وَسلاحه بين الصَّفين , ثم رجع من خلفِ المسلمين إِلَى الميْسَرَةِ فَكَبَّرَ وحملَ عَلَى ميمنةِ القومِ يلعبُ بين الصَّفين برمحِهِ وسلاحِهِ , ثم رجع من خلفِ المسلمين إِلَى القلب فَنَدَرَ أمام النَّاس , فَحَمَلَ عَلَى القومِ يلعبُ بَينَ الصَّفَّينِ برمحهِ وَسِلَاحِهِ , وَكَانَ يَقْصِفُ النَّاسَ ليلتئذ قصفًا منكرًا , وَتَعَجَّبَ النَّاسُ منه وهم لا يعرفونه، ولم يروه من النَّهار . وجعل سعدٌ يقول - وهو مشرفٌ عَلَى النَّاس مكبٌّ من فوق القصرِ : والله لولا محبسُ أبي محجن لقلتُ : هَذَا أَبُو مِحْجَنٍ وَهَذِهِ الْبَلْقَاءُ . وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إِنْ كَانَ الخضرُ يَشْهَدُ الحروبَ فَنَظُنُّ صاحبَ البلقاءِ الخضرَ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لولا أَنَّ الملائكةَ لَا تُبَاشِرُ القتالَ لَقُلْنَا مَلَكٌ يُثَبِّتُنَا , ولا يَذْكُرُهُ النَّاسُ ولا يَأْبَهُونَ له ؛ لِأَنَّهُ بَاتَ فِي مَحْبَسِهِ , فَلَمَّا انْتَصَفَ الليلُ ؛ حَاجَزَ أهل فارس , وَتَرَاجَعَ الْمُسْلِمُونَ , وَأَقْبَلَ أَبُو مِحْجَنٍ حَتَّى دَخَلَ مِنْ حَيْثُ خَرَجَ , وَوَضَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ دَابَّتِهِ , وَأَعَادَ رِجْلَيْهِ فِي قَيْدَيْهِ , وَقَالَ :

لَقَدْ عَلِمَتْ ثَقِيفٌ غَيْرَ فَخْرٍ 

بِأَنَّا نَحْنُ أَكْرَمُهُمْ سُيُوفَا 

 

وَأَكْثَرُهُمْ دُرُوعًا سَابِغَاتٍ 

وَأَصْبَرُهُمْ إِذَا كَرِهُوا الْوُقُوفَا 

 

وَأَنَّا وَفْدُهُم فِي كُلِّ يَوْمٍ 

فَإِنْ عَمِيُوا فَسَلْ بِهِمُ عَرِيفَا 

 

وَلَيْلَةَ قَادِسٍ لَمْ يَشْعُرُوا بِي 

وَلَمْ أُشْعِرْ بِمَخْرَجِيَ الزُّحُوفَا

 

فَإِنْ أُحْبَسْ فَذَلِكُمُ بَلَائِي 

وَإِنْ أُتْرَكْ أَذِيقُهُمُ الْحُتُوفَا 



فَقَالَتْ لَهُ سَلْمَى : يَا أَبَا مِحْجَنٍ ! فِي أَيِّ شيءٍ حَبَسَكَ هَذَا الرَّجُلُ ؟ قَالَ : أَمَا واللهِ مَا حَبَسَنِي بِحَرَامٍ أَكَلْتُهُ وَلَا شَرِبْتُهُ , وَلَكِنِّي كُنْتُ صَاحِبَ شَرَابٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ , وَأَنَا امْرُؤٌ شَاعِرٌ يَدُبُّ الشِّعْرُ عَلَى لِسَانِي يَبْعَثُهُ عَلَى شَفَتَيَّ أَحْيَانًا , فَيُسَاءُ لِذَلِكَ ثَنَائِي , وَلِذَلِكَ حَبَسَنِي , قُلْتُ :

إِذَا مِتُّ فَادْفِنِّي إِلَى أَصْلِ كَرْمَةٍ 

تُرَوِّي عِظَامِي بَعْدَ مَوْتِي عُرُوقُهَا 

 

وَلَا تَدْفِنَنِّي بِالْفَلَاةِ فَإِنَّنِي 

أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَلَّا أَذُوقُهَا 

 

وَتَرْوِي بِخَمْرِ الْحُصِّ لَحْدِي فَإِنَّنِي

أَسِيرُ لَهَا من بَعْدِ مَا قَدْ أَسُوقُهَا 


وَلَمْ تَزَلْ سَلْمَى مُغَاضِبَةً لِسَعْدٍ عَشِيَّةَ أَرْمَاث , وَلَيْلَةَ الهدأةِ , وَلَيْلَةَ السَّوادِ( 12) , حَتَّى إِذَا أَصْبَحَتْ أَتَتْهُ وَصَالَحَتْهُ , وَأَخْبَرَتْهُ خَبَرَهَا وَخَبَرَ أَبِي مِحْجَنٍ , فَدَعَا بِهِ فَأَطْلَقَهُ , وَقَالَ : اذْهَبْ فَمَا أَنَا مُؤَاخِذُكَ بِشَيءٍ تَقُولُهُ ؛ حَتَّى تَفْعَلَهُ , قَالَ : لَا جَرَمَ واللهِ , لَا أُجِيْبُ لِسَانِي إِلَى صِفَةِ قَبِيْحٍ أَبَدًا .( 13)

زَاذَانُ الْكِنْدِيُّ :
وَهَذَا أَحَدُ الشَّبَابِ مِمَّنْ كَانَ مُنْهَمِكًا فِي اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ , مِمَّنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ بِالتَّوبَةِ حَتَّى كَانَ مِنْ أَعْلَامِ زَمَانِهِ .
زَاذَانُ الْكِنْدِيُّ : قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي السِّيَرِ : تَابَ عَلَى يَدِ ابْنِ مَسْعُودٍ .
قَالَ زَاذَانُ: كُنْتُ غُلاَماً حَسَنَ الصَّوْتِ، جَيِّدَ الضَّرْبِ بِالطُّنْبُوْرِ، فَكُنْتُ مَعَ صَاحِبٍ لِي، وَعِنْدَنَا نَبِيْذٌ، وَأَنَا أُغَنِّيْهِمْ، فَمَرَّ ابْنُ مَسْعُوْدٍ، فَدَخَلَ، فَضَرَبَ البَاطِيَةَ، بَدَّدَهَا، وَكَسَرَ الطُّنْبُوْرَ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ كَانَ مَا يُسْمَعُ مِنْ حُسْنِ صَوْتِكَ يَا غُلاَمُ بِالقُرْآنِ، كُنْتَ أَنْتَ أَنْتَ.
ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ لأَصْحَابِي: مَنْ هَذَا؟
قَالُوا: هَذَا ابْنُ مَسْعُوْدٍ.
فَأَلْقَى فِي نَفْسِي التَّوْبَةَ، فَسَعَيْتُ أَبْكِي، وَأَخَذْتُ بِثَوْبِهِ، فَأَقْبَلَ عَلَيَّ، فَاعْتَنَقَنِي، وَبَكَى، وَقَالَ: مَرْحَباً بِمَنْ أَحَبَّهُ اللهُ، اجْلِسْ.
ثُمَّ دَخَلَ، وَأَخْرَجَ لِي تَمْراً.(2)
ابْنُ الْمُبَارَكِ :
وَهَذَا ابْنُ الْمُبَارَكِ سَيِّدُ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِهِ , قِيْلَ : كَانَ فِي أَوَّلِ شَبَابِهِ مُنْشَغِلًا بِاللَّهْوِ .
قَالَ حسينُ بْنُ الحسنِ : سُئلَ ابنُ المباركِ وأنا حَاضِرٌ عَنْ أوَّلِ زُهْدِهِ ؟ فَقَالَ : إِنِّي كُنْتُ يومًا فِي بُسْتَانٍ وَأَنَا شَابٌ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَتْرَابِي , وَذَلِكَ فِي وَقْتِ الْفَوَاكِهِ فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا , وَكُنْتُ مُولِعًا بِضَربِ العُودِ , فَقُمْتُ فِي بَعْضِ اللَّيلِ وَإِذَا غُصْنٌ يَتَحَرَّكُ عِنْدَ رَأْسِي , فَأَخَذْتُ العُودَ لِأَضْرِبَ بِهِ ؛ فَإِذَا بِالْعُودِ يَنْطِقُ وَهُوَ يَقُولُ : {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ من الْحَقِّ} [سورة الحديد : 16] قَالَ : فَضَرَبْتُ بِالْعُودِ الأَرْضَ فَكَسَرْتُهُ , وَصَر