أَرْبَعُ رَكَائِز لِلتَّاجِرِ الْمُسْلِم

أَرْبَعُ رَكَائِز لِلتَّاجِرِ الْمُسْلِم

 

روى الإمام أحمد في «مسنده» من حديث عبد الله بن عمرو، أن رسول الله ? قال: ((أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلاَ عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا : حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ))؛ هذا حديث عظيم جدير بكلِّ تاجر مسلم أن يتأمله وأن يكون نصب عينه، بل ينبغي أن يُشاع بين التجار وفي المحلات التجارية وبين الشركات حتى يُصَحِّحَ لمن اشتغل بالتجارة مساره وطريقته في البيع والشراء والتعامل، وذلك بأن تكون هذه الأمور الأربعة أسسًا ثابتةً عنده لا يساوم فيها مهما كان الربح، ففي الحديث معالجة حكيمة وعظيمة جداً للفساد الكبير الذي يحصل لأخلاق الناس عند الإقبال على الدنيا وحطامها والتجارة واكتساب المال وطلب الأرباح؛ وأنَّه لا سلامة من ذلك إلا بأن يحافظ التاجر على هذه الأسس الأربعة المذكورة في الحديث، ويحرص على أن لا يخرم منها شيئا، ويجعلها بمثابة الركائز التي لا يقبل أن تضيع، ثم هو لا يبالي إن فاته شيء من الدنيا في سبيل محافظته على هذه الركائز، حتى وإن كان بين يديه مكاسب كبيرة وأرباح كثيرة، فإنها لا تحطّم شيئا من هذه الأسس؛ مستحضرًا دومًا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فَلاَ عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا))، فهو غير مبال بما يفوته من الدنيا في سبيل محافظته وتمسكه بهذه الخلال الجليلة والخصال العظيمة المذكورة في الحديث.

والإنسان يُمتَحن امتحانا شديدا في هذه الأمور الأربعة عندما يدخل مجال التجارة؛ فأحيانًا تعرض له أرباح كثيرة مغرية جداً لكنها تحتاج منه إلى أن يكذب أو أن يغش ونحو ذلك، فيدخل في مساومة مع نفسه، هل يُحصِّل هذا الربح بمثل هذه المسالك ؟ أم يقول كما دلَّ الحديث: لا عليَّ ما فاتني من الدنيا، ولْتبقَ لي هذه الأسس؟ حتى لو كان في ظاهر الأمر أنه لن يربح، وأنه يخسر الصفقة أو التجارة أو يفوته شيء من الأرباح والمكاسب، فإنَّ الله سبحانه تعالى يعوِّضه خيراً؛ لأن الرزق والفضل بيده سبحانه وتعالى.

فقول النبي عليه الصلاة والسلام ((فَلاَ عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا)) يعدُّ ضمانًا للتاجر؛ أي فلا تأسَ على ما فات من الربح وإن كبر ولا تأسف، فإنك في خير وغنيمة حتى وإن فاتك هذا المال. ولك العوض المبارك من الله، ولهذا ينبغي على كل مَنْ يُقدِم على تجارة أن يتنبه لهذه الأسس الأربعة العظيمة، وأن تكون ثابتة عنده:

الأول ((حِفْظُ أَمَانَةٍ))؛ أي هو أمين في تعاملاته؛ لا يغش، ولا يخدع، ولا يمكر، أمينٌ في حفظ حقوق الناس، وفي إعادة أموالهم، فلا يضيع حقوق الناس بل يرعى للأمانة حقّها . وقد يبتلى الإنسان عندما يدخل باب التجارة ويمتحن؛ هل يحافظ على الأمانة ؟ أو يضيِّعها في سبيل أن يُحصّل مالاً أو يُحصّل شيئًا من حطام الدنيا ؟ فكثير من الناس يسقط في هذا الامتحان ويضيِّع الأمانة في سبيل أن يكسب مالًا أو عرضاً من عرض الدنيا ومتاعها الزائل. ومن الناس من يتعامل بالأمانة في حدودٍ ضيقةٍ وفي مصالحَ محدودةٍ، فهو يتعامل بالأمانة في حدود من يعاملُه بها جزاءً له من جنسِ عملهِ، فإذا وجد أمينا عامَلَه بالأمانة، وإذا وجد خائِناً عاملَه بالخيانَة، وليس هذا شأنُ المؤمن، ففي «المسند» وغيره بإسناد صحيح من حديث أنس بن مالك ? أن النبي ? قال : ((أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ )) ، فالأمانة مطلوبة في كل وقتٍ وحين وفي جميع الأحوال وهي ممدوحة في جميع أحوالها، والخيانةُ مذمومة وقبيحةٌ في جميع أحوالها، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (( وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ )) ؛ نعم طالِبْهُ بحقِّك لكن لا تعامِلْه بالخيانة فإن الخيانة مذمومةٌ في كل وقت وحين.

الثاني ((صِدْقُ حَدِيثٍ))؛ أي أنه لا يكذب بل يحافظ على الصدق، وعندما يُحدِّث الناس في بيعه وشرائه دائماً يكون صادقاً، إذا قال لهم "هذه البضاعة جديدة" فهو صادق في كلامه، إذا قال "هذا النوع أصيل " يكون صادقاً في كلامه، إذا قال "هذا من اليوم ليس من الأمس" يكون صادقا في كلامه، وهو في نفسه يقول: "ماذا يغنيني إذا كسبت من هذا ريـالا ومن ذاك ريالين أو عشرة أو ألفا أو أكثر وضاع مني خُلق الصدق وأصبحتُ كذّاباً ؟! "، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّار )) ؛ مؤمنًا بأن الرزق بيد الله سبحانه وتعالى، وليست الريالات أو الدراهم بالتي تضيِّع خُلق الصدق عنده، لأن الصدق أصل ثابت وأساس لا يساوم فيه ولا يضيِّعه.

بينما بعض الناس أخلاقياته تَفسُد مع ممارسة البيع والحرص على الدنيا والمكاسب فيُبتَلى بصفقات معيّنة يجد نفسه منساقاً إلى الكذب فيها، بل ربما يحلف أيمانا مغلّظة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) وذكر منهم: ((الْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ)). فيبيع الصدقَ ويصبح كذابًا من أجل اكتساب شيء من الدنيا ومتاعها الزائل - والعياذ بالله-.

الثالث ((حُسْنُ خَلِيقَةٍ)) أي يعامل الناس بالأخلاق الحسنة وبالآداب الكريمة، والمشتغل بالتجارة والبيع والشراء يشاهد من أصناف أخلاقيات الناس واختلاف طبائعهم بل سيئي المعاملة منهم شيئاً كثيراً، ودوام الاحتكاك بالناس في البيع والشراء والمعاملات تؤثر على الأخلاق تأثيراً سلبياً إن لم يُحافظ على هذه الركيزة المبيَّنة في هذا الحديث «حُسْنُ الخَلِيقَة»؛ فيصبح التاجر حينئذ في صراع مع نفسه للمحافظة على حُسن خلقه، لا أن يبيع أخلاقه في السوق باحتكاكه بسيئي الأخلاق من الناس، إذ إنّ بعض الناس بسبب معايشته لأصنافٍ من الناس وحاجته للبيع والتجارة أصبح لعّاناً طعّاناً بذيئاً سيء الخلق، اكتسب هذا في تجارته وفي معاملته للناس، فضيّع هذه الخصلة بسبب اقتحامه التجارة ودخوله فيها دون محافظةٍ على هذه الركيزة العظيمة.

والتاجر المسلم الناصح لنفسه لا يجعل التجارة واحتكاكه بالناس سببًا لضياع الأخلاق، وماذا يربح الإنسان إذا حصَّل مالاً وفسدت أخلاقه ؟! وماذا تغني عنه أمواله وماذا تنفعه إذا فسدت الأخلاق ؟!

الرابع قال: ((عِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ))؛ أي أن يتعفف في طعامه وذلك بالحرص على اكتساب الحلال والبُعد عن الحرام والمتشابه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (( إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ)). فهو حريص على عفّة مطعمه؛ أي الطعام العفيف الذي ليس فيه حرام وليس فيه شائبة حرام، فإذا كان البيع فيه ربا، أو غش، أو تدليس، أو صورة من صور البيوع المحرمة في الشريعة ابتعد عنه تمامًا ؟ لأن من الأصول الثابتة عنده عفّة المطعم، لا يفرط فيه، ويبحث عن الربح بحثًا لا ينخرم فيه هذا الأمر.

بينما بعض الناس يدخل التجارة وميدان اكتساب الربح ولا يبالي في قضية عفة المطعم، ولا يبالي بالمال الذي اكتسبه هل هو من حلال أو من حرام ؟ بل بعضهم قاعدته في هذا الباب: « الحلال ما حلَّ بيدك، والحرام ما حُرِمتَ منه»، فالذي حلّ بيده وصار في حيازته من أي طريق كان هو الحلال، والحرام ما لم تَطَله يده ولم ينله، فلا يبالي بحلال أو حرام، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ)) ، وذكر عليه الصلاة والسلام (( الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ؛ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ )) أي: كيف يستجاب لمن كانت هذه حاله ؟! ولهذا قال بعض السلف: «من سرَّه أنْ يستجيب الله دعوته، فليُطِب طُعمته».فهذا باب حري بالتاجر المسلم أن يعنى به تفقهًا وفهمًا فلا يُدخل على نفسه من الطعام والشراب شيئًا إلا بعد تفقه فإذا كان طيِّباً طَعِمَهُ وشَرِبَه، وإذا كان حراماً أو مشتبهًا تركه وابتعد عنه، لأن من الأصول الثابتة عنده: طيب المطعم، لا يُساوَم في هذا الأمر بل هو من الأمور الثابتة الراسخة عنده.

فلتحافظ أخي التاجر المسلم على هذه الركائز الأربعة ولا تُضيِّع منها شيئاً ولتحذر من الشيطان و النفس الأمّارة بالسوء كأن يقال " دخلت السوق بالصدق وبضاعتي كسدت، ولا تنفق إلا بضاعةُ الكذّابين أو الغشاشين من حولي، الذين يكذبون على الناس ويقولون والله هذا جديد ويحلفون "، فهو ميدان تمحيص للأخلاق ، ولا يضرُّك ما فاتك من الدنيا، نصيحةً لك من نبيك عليه الصلاة والسلام، وسترى ذلك عند صبرك على السُّنة ومحافظتك على وصايا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام. والعاقبة الحميدة لك في الدنيا والآخرة.

أعاذك الله ـ أخي الكريم ـ من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء، ورزقك المال الحلال والعيش الهنيء إنه سميع مجيب، والله أعلم، وصلى الله وسلَّم على عبد الله ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.