أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير- ط: التفاسير - المجلد الرابع

يوجد طبعة أخرى في نفس الصفحة طبعة مكتبة العلوم والحكم بالمدينة المنورة
http://www.islamland.com/arb/books/view/13460

هذا تفسير موجز لكتاب الله تعالى القرآن الكريم وضعه الإمام "أبو بكر جابر الجزائري" مراعياً فيه حاجة المسلمين اليوم إلى فهم كلام الله تعالى الذي هو مصدر شريعتهم وسبيل هدايتهم هو عصمتهم من الأهواء وشفاؤهم من الأدواء، قال تعالى "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين".

هذا ونظراً لليقظة الإسلامية اليوم فقد عكف المصنف إلى وضع تفسيره هذا محاولاً الجمع فيه بين المعنى المراد من كلام الله، وبين اللفظ القريب من فهم المسلم اليوم. حيث بين فيه العقيدة السلفية المنجية، والأحكام الفقهية الضرورية، هادفاً من وراء هذا التفسير تربية ملكة التقوى في النفوس، بتحبيب الفضائل وتبغيض الرذائل، والحثّ على أداء الفرائض واتقاء المحارم، مع التجمل بالأخلاق القرآنية والتحلي بالآداب الربانية.

وبالعودة لمضمون هذا التفسير نجد أنه جاء متميزاً بالميزات التالية: أولاً: الوسطية بين الاختصار المخل والتطويل الممل، ثانياً: اتباع منهج السلف في العقائد والأسماء والصفات، ثالثاً: الالتزام بعدم الخروج عن المذاهب الأربعة في الأحكام الفقهية، رابعاً: إخلاؤه من الإسرائيليات صحيحها وسقيمها، إلا ما لا بد منه لفهم الآية الكريمة وكان مما تجوز روايته لحديث، خامساً: إغفال الخلافات التقسيمية، سادساً: الالتزام بما رجحه ابن جرير الطبري في تفسيره عند اختلاف المفسرين في معنى الآية، سابعاً: إخلاء الكتاب في المسائل النحوية والبلاغية والشواهد العربية، ثامناً: عدم التعرض للقراءات إلا نادراً حيث يتوقف معنى الآية على ذلك، واقتصار الأحاديث على الصحيح والحسن منها، تاسعاً: خلو التفسير من ذكر الأقوال وإن كثرت والالتزام بالمعنى الراجح الذي عليه جمهور المفسرين من السلف الصالح.

وقد جعل المؤلف الكتاب دروساً منظمة منسقة. فقد يجعل الآية الواحدة أو الآيتين أو الأكثر درساً فيشرح كلماتها ثم يبين معانيها ويذكر هدايتها المقصودة منها للاعتقاد والعمل. وجعل الآيات مشكولة على قراءة حفص.

http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



الكتاب : أيسر التفاسير
المؤلف : أبو بكر الجزائري
مصدر الكتاب : موقع التفاسير
http://www.altafsir.com
[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]



وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
شرح الكلمات :
{ أذقنا الإِنسان } : أي أنلناه رحمة أي غنى وصحة .
{ ثم نزعناها منه } : أي سلبناها منه .
{ يؤوس كفور } : أي كثير اليأس أي القنوط شديد الكفر .
{ نعماء بعد ضراء } : أي خيراً بعد شر .
{ السيئات } : جمع سيئة وهي ما يسوء من المصائب .
{ فرح فخور } : كثير الفرح والسرور والبطر .
{ صبروا } : أي على الضراء والمكاره .
{ مغفرة } : أي لذنوبهم .
{ وأجر كبير } : أي الجنة دار الأبرار .
معنى الآيات :
يخبر تعال أن الإِنسان الذي لم يستنر بنور الإِيمان ولم يتحل بصالح الأعمال إن أذاقه الله تعالى رحمة منه برخاء وسعة عيش وصحة بدن ، ثم نزعها منه لأمر أراده الله تعالى { إنه } اي ذلك الإِنسان { ليؤوس } أي كثير اليأس والقنوط { كفور } لربه الذي أنعم عليه جحود لما كان قد أنعم به عليه .
وقوله { ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء } أي أذقناه طعم نعمة ولذاذة رخاء وسعة عيش وصحة بدن بعد ضراء كانت قد أصابته من فقر ومرض { ليقولن } بدل أن يحمد الله ويشكره على إسعاده بعد شقاء وإغنائه بعد فقر وصحة بعد مرض يقول متبجحاً { ذهب السيئات عني إنه لفرح } أي كثير السرور { فخور } كثير الفخر والمباهاة ، وهذا علته ظلمة النفس بسبب الكفر والمعاصي ، أما الإِنسان المؤمن المطيع لله ورسوله فعلى العكس من ذلك إن أصابته سراء شكر ، وإن أصابته ضراء صبر ، وذلك لما في قلبه من نور الإِيمان وفي نفسه من زكاة الأعمال .
هذا ما تضمنه قوله تعالى { إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة } أي لذنوبهم { وأجر كبير } عن ربهم وهو الجنة دار السلام .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- أن الإِنسان قبل أن يطهر بالإِيمان والعمل الصالح يكون في غاية الضعف والانحطاط النفسي .
2- ذم اليأس والقنوط ولحرمتهما .
3- ذم الفرح بالدنيا والفخر بها .
4- بيان كمال المؤمن الروحي المتمثل في الصبر والشكر وبيان جزائه بالمغفرة والجنة .
(2/159)
________________________________________
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
شرح الكلمات :
{ فلعلك } : للاستفهام الإِنكاري أي لا يقع منك ترك ولا يضف صدرك .
{ ضائق به صدرك } : أي بتلاوته عليهم كراهية أن يقولوا كذا وكذا .
{ كنز } : مال كثير تنفق منه على نفسك وعلى أتباعك .
{ وكيل } : أي رقيب حفيظ .
{ افتراه } : اختلقه وكذبه .
{ من استطعتم } : من قدرتم على دعائهم لإِعانتكم .
{ فهل أنتم مسلمون } : أي أسلموا لله بمعنى انقادوا لأمره وأذعنوا له .
معنى الآيات :
بعد أن كثرت مطالبة المشركين الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يحول لهم جبال مكة ذهباً في اقتراحات منها لولا أنزل عليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك } أي لا تتلوه على المشركين ولا تبلغهم إياه لتهاونهم به وإعراضهم عنه { وضائق به صدرك } أي بالقرآن ، كراهة أن تواجههم به فيقولوا { لولا أنزل عليه كنز } أي مال كثير يعيش عليه فيدل ذلك على إرسال الله له { أو جاء معه ملك } يدعو بدعوته ويصدقه فيها ويشهد له بها فلا ينبغي أن يكون ذلك منك أي بلغ ولا يضق صدرك { إنما أنت نذير } أي محذر عواقب الشرك والكفر والمعاصي ، والله الوكيل على كل شيء أي الرقيب الحفيظ أما أنت ليس عليك من ذلك شيء .
وقوله تعالى { أم يقولون افتراه } أي بل يقولون افتراه أي افترى القرآن وقال من نفسه بدون ما أوحي إليه ، قل في الرد عليهم { فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم } دعوتهم لإِعانتكم { إن كنتم صادقين } في دعواكم أني افتريته ، فإِن لم تستطيعوا ولن تستطيعوا فتوبوا إلى ربكم وأسلموا له .
وقوله { فإِن لم يستجيبوا لكم } أي قل لهم يا رسولنا فإِن لم يستجب لنصرتكم من دعوتموه وعجزتم { فاعلموا أنما أنزل بعلم الله } أي أنزل القرآن متلبساً بعلم الله وذلك أقوى برهان على أنه وحيه وتنزيله { وأن لا إله إلا هو } أي وأنه لا إله إلا الله ولا معبود بحق سواه ، وأخيراً { فهل أنتم مسلمون } أي أسلموا بعد قيام الحجة عليكم بعجزكم ، وذلك خير لكم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان ولاية الله لرسوله وتسديده له وتأييده .
2- بيان ما كان عليه المشركون من عناد في الحق ومكابرة .
3- بيان أن الرسول صلى الله عليه وسلم لَمْ يُكَلَّفْ هداية الناس وإنما كلف إنذارهم عاقبة كفرهم وعصيانهم ، وعلى الله تعالى بعد ذلك مجازاتهم .
4- تحدي الله تعالى منكري النبوة والتوحيد بالإِتيان بعشر سور من مثل القرآن فعجزوا وقامت عليهم الحجة وثبت أن القرآن كلام الله ووحيه وأن محمد عبده ورسوله وأن الله لا إله إلا هو .
(2/160)
________________________________________
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
شرح الكلمات :
{ زينة الحياة } : المال والولد وأنواع اللباس والطعام والشراب .
{ توفّ إليهم } : نعطهم نتاج أعمالهم وافياً .
{ لا يبخسون } : أي لا نقصون ثمرة أعمالهم .
{ وحبط } : أي بطل وفسد .
{ على بينة من ربه } : أي على علم يقيني .
{ ويتلوه شاهد منه } : أي يتبعه .
{ كتاب موسى } : أي التوراة .
{ ومن يكفر به } : أي بالقرآن .
{ فالنار موعده } : أي مكان وعد به فهو لا محالة نازل به .
{ في مرية منه } : أي في شك منه .
معنى الآيات :
لما أقام الله تعالى الحجة على المكذبين بعجزهم عن الإِتيان بعشر سور من مثل القرآن مفتريات حيث ادعوا أن القرآن مفترى وأن محمداً صلى الله عليه وسلم قد افتراه ولم يبق إلا أن يختار المرء أحد الطريقين طريق الدنيا أو الآخرة الجنة أو النار فقال تعالى { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها } من مال وولد وجاه وسلطان وفاخر اللباس والرياش .
{ نوف إليهم أعمالهم فيها } نعطهم نتاج عملهم فيها وفياً غير منقوص فعلى قدر جهدهم وكسبهم فيها يعطون ولا يبخسهم عملهم فكفرهم وتركهم ، ثم هم بعد ذلك إن لم يتوبوا إلى ربهم . هلكوا كافرين ليس لهم إلا النار { وحبط ما صنعوا } في هذه الدار من أعمال وبطل ما كانوا يعملون .
هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 15 والثانية 16 ) وهو قوله تعالى { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون ، أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون } وقوله تعالى في الآية الثالثة ( 17 ) { أفمن كان على بينة من ربه } بما أوحى إليه من القرآن وما حواه من الأدلة والبراهين على توحيد الله ونبوة رسوله ، وعلى المعاد الآخر ، وقوله { ويتلوه شاهد منه } أي ويتبع ذلك الدليل دليل آخر وهو لسان الصدق الذي ينطق به وكمالاته الخُلُقَيَّة والروحية حيث نظر إليه اعرابي فقال والله ما هو بوجه كذّاب ، ودليل ثالث في قوله { ومن قبله كتاب موسى } أي التوراة { إماماً ورحمة } شاهد له حيث حمل نعوت الرسول وصفاته ونعوت أمته وصفاتها في غير موضع منه أفمن هو على هذه البينات والدلائل والبراهين من صحة دينه ، كمن لا دليل له ولا برهان إلا التقليد للضلال والمشركين ، وقوله { يؤمنون به } أي بالقرآن الحق والنبى الحق والدين الحق . وقوله تعالى { ومن يكفر به } أي بالقرآن ونبيه ودينه من الأحزاب أي من سائر الطوائف والأمم والشعوب فالنار موعده ، وحسبه جهنم وبئس المصير .
وقوله تعالى { فلا تك في مرية منه } أي فلا تك في شك منه أي في أن موعد من يكفر به من الأحزاب النار . وقوله { إنه الحق من ربك } أي القرآن الذي كذّب به المكذبون وما تضمنه من الوعد والوعيد ، والدين الحق كل ذلك هو الحق الثابت من ربك ، إلا أن { أكثر الناس لا يؤمنون } وإن ظهرت الأدلة ولاحت الأعلام وقويت البراهين .
(2/161)
________________________________________
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان حقيقة وهي أن الكفر غير مانع من أن ينتج الكافر بحسب جهده من كسب يده فيحصد إذ زرع ، ويرح إذا اتجر ، وينتج إذا صنع .
2- بيان أن الكافر لا ينتفع من عمله في الدنيا ولو كان صالحاً وأن الخسران لازم له .
3- المسلمون على بينة من دينهم ، وسائر أهل الأديان الأخرى لا بينة لهم وهم في ظلام التقليد وضلال الكفر والجهل .
5- بيان سنة الله في الناس وهي أن أكثرهم لا يؤمنون .
(2/162)
________________________________________
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)
شرح الكلمات :
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً } : أي لا أحد فالاستفهام للنفي .
{ يعرضون على ربهم } : أي يوم القيامة .
{ الأشهاد } : جمع شاهد وهم هنا الملائكة .
{ لعنة الله } : أي طرده وإبعاده .
{ على الظالمين } : أي المشركين .
{ سبيل الله } : أي الإِسلام .
{ عوجاً } : أي معوجة .
{ معجزين في الأرض } : أي الله عز وجل أي فائدتين بل هو قادر على أخذهم في أيّة الحظة .
{ من أولياء } : أي أنصار يمنعونهم من عذاب الله .
{ وما كانوا يبصرون } : ذلك لفرط كراهيتهم للحق فلا يستطيعون سماعه ، ولا رؤيته .
معنى الآيات :
بعد أن قرر تعالى مصير المكذبين بالقرآن ومن نزل عليه وما نزل به من الشرائع ذكر نوعاً من أجرام المجرمين الذين استوجبوا به النار فقال عز وجل { ومن أظلم ممن أفترى على الله كذباً } أي لا أحد في الناس أعظم ظلماً من أحد افترى على الله كذباً من أنواع الكذب وإن قل وقوله { أولئك يعرضون على ربهم } أي أولئك الكذبة يعرضون يوم القيامة على ربهم جل جلاله في عرصات القيامة ، ويقول الأِهاد من الملائكة شاهدين عليهم { هؤلاء الذين كذبوا على ربهم } ثم يُعْلِنُ مُعْلِنٌ قائلاً { ألا لعنة الله على الظالمين } أي ألا بعداً لهم من الجنة وطرداً لهم منها إلى نار جهنم .
ثم وضح تعالى نوع جناياتهم التي استوجبوا بها النار فقال { الذين يصدون عن سبيل الله } أي يصرفون أنفسهم وغيرهم عن الدين الإِسلامي ، { ويبغونها } أي سبيل الله { عوجاً } أي معوجة كما يهوون ويشتهون فهم يريدون الإِسلام أن يبيح لهم المحرمات من الربا والزنى والسفور ، ويريدون من الإِسلام أن يأذن لهم في عبادة القبور والأشجار والأحجار إلى غير ذلك ، ويضاف إلى هذا ذنب أعظم وهو كفرهم بالدار الآخرة . قال تعالى { أولئك } أي المذكورون { لم يكونوا معجزين في الأرض } أي لم يكن من شأنهم ومهما رأوا أنفسهم أقوياء أن يعجزوا الله تعالى في الأرض فإنه مدركهم مهما حالولوا الهرب ومنزل بهم عذابه متى أراد ذلك لهم ، وليس لهم من دون الله من أولياء أي أنصار يمنعونهم من العذاب متى أنزله بهم ، وقوله تعالى { يضاعف لهم العذاب } إخبار منه بأن هؤلاء الظالمين يضاعف لهم العذاب يوم القيامة لأنهم صدوا غيرهم عن سبيل الله فيعذبون بصدهم أنفسهم عن الإِسلام ، وبصد غيرهم عنه ، وهذا هو العدل وقوله تعالى فيهم { ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون } إخبار بحالهم في الدنيا انهم كانوا لشدة كراهيتهم للحق ولأهله من الداعين إليه لا يستطيعون سماعة ولا رؤية ولا رؤية أهله القائمين عليه والداعين إليه .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- عظم ذنب من يكذب على الله تعالى بنسبة الولد أو الشريك إليه أو بالقول عليه بدون علم منه .
2- عظم جرم من يصد عن الإِسلام بلسانه أو بحاله ، أو سلطانه .
3- عظم ذنب من يريد إخضاع الشريعة الإِسلاميةلهواه وشهواته بالتأويلات الباطلة والفتاوى غير المسؤولة ممن باعوا آخرتهم بدنياهم .
4- بيان أن من كره قولاً أو شخصاً لا يستطيع رؤيته ولا سماعه .
(2/163)
________________________________________
أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
شرح الكلمات :
{ وضل عنهم ما كانوا يفترون } : أي غاب عنهم ما كانوا يدعونه من شركاء لله تعالى .
{ لا جرم } : أي حقاً وصدقاً أنهم في الآخرة هم الأخسرون .
{ وأخبتوا إلى ربهم } : أي تطامنوا أو خشعوا لربهم بطاعته وخشيته .
{ مثل الفريقين } : أي فريق المؤمنين وفريق الكافرين .
{ إفلا تذكرون } : أي تتعظون ، فتستغفروا ربكم ثم تتبوا إليه . ؟
معنى الآيات :
ما زال السياق في تحديد المجرمين وبيان حالهم في الآخرة فقال تعالى { أولئك } أي البعداء { الذين خسروا أنفسهم } حيث استقروا في دار الشقاء فخسروا كل شيء حتى أنفسهم ، { وضل عنهم ما كانوا يفترون } أي وغاب عنهم ما كانوا يزعمون أن لهم شُركَاء ، وأنهم يشفعون لهم وينصرونهم قال تعالى : { لا جرم } أي حقاً { أنهم في الآخرة } أي في دار الآخرة { هم الأخسرون } أي الأكثر خسراناً من غيرهم لأنهم أضافوا إلى جريمة كفرهم جريمة تكفير غيرهم ممن كانوا يدعونهم إلى الضلال ، ويصدونهم عن الإِسلام سبيل الهدى والنجاة من النار . ولما ذكر تعالى حال الكافرين وما انتهوا إليه من خسران ، ذكر تعالى حال المؤمنين فقال { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي آمنوا بالله وبوعده ووعيده . وآمنوا برسول الله وبما جاء به ، وعملوا الصالحات التي شرعها الله تعالى لهم من صلاة وزكاة { وأخبتوا إلى ربهم } أي أسلموا له وجوههم وقلوبهم وانقادوا له بجوارحهم فتطامنوا وخشعوا أولئك أي السامون أصحاب الجنة أي أهلها { هم فيها خالدون } أي لا يبرحون منها ولا يتحولون عنها ، هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث أما الآية الرابعة ( 24 ) وهي قوله تعالى { مثل الفريقين كالأعمى والأًم والسميع والبصير هل يستويان مثلا } ؟ فقد ذكر تعالى مقارنة بين أهل الشرك وأهل التوحيد توضيحاً للمعنى وتقريراً للحكم فقال { مثل الفريقين } أي صفة الفريقين الموضحة لهما هي كالأعمى والأصم وهذا فريق الكفر والظلم والسميع والبصير . وهذا فريق أهل الإِيمان والتوحيد فهل تبايناً فأي عاقل يرضى أن يكون العمى والصمم وصفاً له ولا يكون البصر والسمع وصفاً له؟ والجواب لا أحد إذاً { أفلا تذكرون } أي أفلا تتعظون بهذا المثل وتتوبوا إلى ربكم فتؤمنوا به وتوحدوا وتؤمنوا برسوله وتتبعوه ، وبكتابه وتعملوا بما فيه؟
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- استحسان المقارنات بين الأشياء المتضادة للعبرة والاتعاظ .
2- الكافر ميت موتاً معنوياً فلذا هو لا يسمع ولا يبصر ، والمسلم حيٌّ فلذا هو سميع بصير .
3- بيان ورثة دار النعيم وهم أهل الإِيمان والطاعة ، وورثة دار الخسران وهم أهل الكفر والظلم .
(2/164)
________________________________________
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
شرح الكلمات :
{ نوحا } : هو العبد الشكور أبو البشرية الثاني نوح عليه السلام .
{ إني لكم نذير مبين } : أي مخوف لكم من عذاب بَيَّنُ النذارة .
{ عذاب يوم أليم } : هو عذابه يوم القيامة .
{ الملأ } : الأشراف وأهل الحل والعقد في البلاد .
{ أراذلنا } : جمع أرذل وهو الأكبر خسة ودناءة .
{ بادي الرأي } : أي ظاهر الرأي ، لا عمق عندك في التفكير والتصور للأشياء .
معنى الآيات :
هذه بداية قصة نوح عليه السلام وهي بداية لخمس قصص جاءت في هذه السورة سورة هود عليه السلام قال تعالى { ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين } أي قال لهم إني لكم نذير مبين أي بين النذارة أي أخوفكم عاقبة كفركم بالله وبرسوله وشرككم في عبادة ربكم الأوثان و الأصنام ، وقوله { أن لا تعبدوا إلا الله } أي نذير لكم بأن لا تعبدوا إلا الله ، وتتركوا كبادة غيره من الأصنام والأوثان وقوله { إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم } علل لهم أمرهم بالتوحيد ونهيهم عن الشرك بأنه يخاف عليهم إن أصروا على كفرهم وتركهم عذاب يوم أليم وهو عذاب يوم القيامة { فقال الملأ الذين كفروا من قومه } أي فرد على نوح ملأ قومه اشرافهم وأهل الحق والعقدة فيهم ممن كفروا بالله ورسوله فقالوا { ما نراك إلا بشرأً مثلنا } أي لا فضل لك علينا فكيف تكون رسولاً لنا ونحن مثلك هذا أولاً وثانياً { وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا } أي سفلتنا من أهل المهن المحتقرة كالحياكة والحجامة والجزارة ونحوها وقولهم بادي الرأي أي ظاهر الرأي لا عمق في التفكير ولا سلامة في التصور عندك وقولهم { وما نرى لكم علينا من فضل } أي وما نرى لكم علينا من أي فضل تستحقون به أن نصبح أتباعاً لكم فنترك ديننا ونتبعكم على دينكم بل نظنكم كاذبين فيما تقولون .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- إن نوحاً واسمه عبد الغفار أول رسول إلى أهل الأرض بعد أن أشركوا بربهم وعبدوا غيره من الأوثان والآلهة الباطلة .
2- قوله أن لا تعبدوا إلا الله هو معنى لا إله إلاّ الله .
3- التذكير بعذاب يوم القيامة .
4- اتباع الرسل هم الفقراء والضعفاء ، وخَصُومُهم الأغنياء والأشراف والكبراء .
5- احتفار أهل الكبر لمن دونهم ، وفي الحديث « الكبر بطر الحق وغمط الناس » .
(2/165)
________________________________________
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
شرح الكلمات :
{ أرأيتم } : أي أخبروني .
{ على بينة من ربي } : أي على علم علمنيه الله فعلمت أنه لا إله إلا الله .
{ فعميت عليكم } : أي خفيت عليكم فلم تروها .
{ أنُلزِمُكمُوها } : أي أجبركم على قبولها .
{ بطَارد الذين آمنوا } : أي بمبعدهم عني ومن حولي .
{ خزائن الله } : التي فيها الفضل والمال .
{ تزدري أعينكم } : تحتقر أعينكم .
معنى الآيات :
ما زال السياق في قصة نوح مع قومه فأخبر تعالى أن نوحاً قال لقومه أرأيتم أي أخبروني إن كنت على بيَّنة من ربي أي على علم يقيني تعالى وبصفاته وبما أمرنى به من عبادته وتوحيده والدعوة إلى ذلك . وقوله { وآتاني رحمة من عنده } وهي الوحي والنبوة والتوفيق لعبادته . { فعميت عليكم } أنتم فلم تروها . فماذا أصنع معكم { أنلزمكموها } أي أنجبركم أنا ومن آمن بي على رؤيتها والإِيمان بها والعمل بهداها ، { وانتم لها كارهون } أي والحال أنكم كارهون لها والكاره للشيء لا يكاد يراه ولا يسمعه ، هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 27 ) أما الآية الثانية فإِن الله تعالى يخبر أيضا عن قيل نوح لقومه : { ويا قوم لا أسألكم عليه مالا } أي لا أطلب منكم أجراً على ابلاغكم هذه الرحمة التي عميت عليكم فلم تروها . { إن أجري إلا على الله } أي ما أجري إلا على الله إذ هو الذي كلفني بالعمل بها والدعوة إليها وواعدني بالأجر عليها . وقوله { وما أنا بطارد المؤمنين } أي وما أنا بمطعيكم في طرد المؤمنين من حولي كما اقترحتم عليّ ، إنهم ملاقو ربهم ، ومحاسبهم ومجازيهم على أعمالهم فكيف يصح مني ابعادهم عن سماع الحق وتعلمه والأخذ به ليكملوا ويسعدوا إذ العبرة بزكاءة النفوس وطهارة الأرواح بواسطة الإِيمان والعمل الصالح لا بالشرف والمال والجاه كما تتصورون ولذا فأَني أراكم قوما تجهلون هذا ما دلت عليه الآية الثانية ( 28 ) ثم قال لهم في الآية الثالثة { ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم } أي من هو الذي يرد عني عذاب الله ويمنعني منه إن أنا عصيته فطردت أي فقراء ضعفاء تزدريهم أعينكم المريضة التي لا تقدر على رؤية الحق وأهله والداعين إليه ، ثم قال لهم { أفلا تذكرون } أي تتفكرون فتعلمون خطأكم وجهلكم فتثوبوا إلى رشدكم ، وتتوبوا إلى ربكم فتؤمنوا به وبرسوله وتعبدوه وحده لا شريك له ثم قال لهم في الآية الأخيرة ( 31 ) { ولا أقول لكم عندي خزائن الله } ردا على قولهم : { وما نرى لكم علينا من فضل } { ولا أعلم الغيب فأعرف ما تخفيه صدور الناس } فأطرد هذا وأبقي هذا ، ولا أقول إني ملك حتى تقولوا ما نراك إلا بشراً مثلنا { ولا أقول للذين تزدري أعينكم } لفقرهم وضعفهم { لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم } أي من صدق أو نفاق ومن حب لي أو بغض كأنهم طعنوا في المؤمنين واتهموهم بأنهم ينافقون أولهم أغراض فاسدة أو أطماع مادية من أجلها التفوا حول نوح ، وقوله { إني إذاً لمن الظالمين } أي إني إذا قلت للمؤمنين من الضعفاء لن يؤتيكم الله خيرا كنت بعد ذلك من الظالمين الذين يعتدون على الناس بهضمهم حقوقهم وامتهان كرامتهم .
(2/166)
________________________________________
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) كُرهُ الشيء يجعل صاحبه لا يراه ولا يسمعه ولا يفهم ما يقال له فيه .
2 ) كراهية أخذ الأجرة على الدعوة والتربية والتعليم الديني .
3 ) وجوب احترام الضعفاء وإكرامهم وحمة احتقارهم وازدرائهم .
4 ) عليم الغيب استأثر الله تعالى به دون سائر خلقه إلا من علمه الله شيئا منه فإِنه يعلمه .
5 ) حرمة غمط الناس وازدرائهم والسخرية منهم .
(2/167)
________________________________________
قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
شرح الكلمات :
{ جادلتنا } : أي خاصمتنا تريد إسقاطنا وعدم اعتبارنا في ديننا وما نحن عليه .
{ بما تعدنا } : أي من العذاب إن لم نؤمن بما تدعونا إليه .
{ إن كنت من الصادقين } : أي في دعواك النبوة والإِخبار عن الله عز وجل .
{ بمعجزين } : أي بغالبين ولا فائتين الله تعالى متى أراد الله عذابكم .
{ نصحي } : أي بتخويفي إياكم عذاب ربكم إن بقيتم عل الكفر به وبلقائه ورسوله .
{ أن يغويكم } : أي يوقعكم في الضلال ويبقيكم فيه فلا يهديكم أبدا .
معنى الآيات :
ما زال السياق في قصة نوح عليه السلام مع قومه فأخبر تعالى عن قول قوم نوح له عليه السلام : فقال : { قالوا يا نوح قد جادلتنا } أي خاصمتنا وأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين أي فعجل العذاب وأنزله علينا إن كنت من الصادقين فيما تقول وتدعو وتعد . فأخبر تعالى عن قول نوح لهم ردا على مقالتهم وهو ما علمه ربه تعالى أن بقوله : فقال { قل إنما يأتيكم به الله } أي بالعذاب الله إن شاء ذلك . { وما أنتم بمعجزين } أي فائتين الله ولا هاربين منه . وقوله : { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون } . أي إن نصحي لا ينفعكم بمعنى أنكم لا تقبلونه مهما أردت ذلك وبالغت فيه إن كان الله جل جلاله يريد أن يغويكم لما فرط منكم وما أنتم عليه من عناد وكفر ومجاحدة ومكابرة إذ مثل هؤلاء لا يستحقون هداية الله تعالى بل الأولى بهم الضلالة حتى يهلكوا ضالين فيشقوا في الدار الآخرة . وقوله تعالى : { هو ربّكم وإليه ترجعون } أي فالأمر له ألستم عبيده وهو ربكم إن يشأ يرحمكم وإن يشأ يعذبكم وإن كانت حكمته تنفي أن يعذب الصالحين ويرحم الغواة الظالمين .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- مشروعية الجدال لإِحقاق الحق وإبطال الباطل . بشرط الأسلوب الحسن .
2- إرادة الله تعالى قبل كل إرادة وما شاءه الله يكون وما لم يِشأه لم يكن .
3- لا ينفع نصح الناصحين ما لم يرد الله الخير للمنصوح له .
4- ينبغي عدم إصدار حكم على عبد لم يمت فيعرف بالموت مآله . إلاَّ قول الله أعلم به .
(2/168)
________________________________________
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)
شرح الكلمات :
{ وأوحى إلى نوح } : أي اعلم بطريق الوحي الذي هو الاعلام السريع الخفي .
{ فلا تبتئس } : لا تحزن ولا يشتد بك الحزن فإني منجيك ومهلكهم .
{ الفلك } : أي السفينة التي أمرناك بصنعها لحمل المؤمنين عليها .
{ سخروا منه } : أي استهزئوا به كقولهم : تحمل هذا الفلك إلى البحر أو تحمل البحر إليه .
{ يخزيه } : أي يذله ويهنيه .
{ ويحل عليه عذاب مقيم } : أي وينزل به عذاب النار يوم القيامة فلا يفارقه .
معنى الآيات :
عاد السيق بعد الاعتراض بالآية ( 35 ) إلى الحديث عن نوح وقومه فقال تعالى { وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } . وهذا بعد دعوة دامت قرابة ألف سنة إلا خمسين عاما أي فلم يؤمن بعد اليوم أحد من قومك وعليه فلا تبتئس أي لا تغتم ولا تحزن بسبب ما كانوا يفعلون من الشر والفساد والكفر والمعاصي فإِني منجيك ومن معك من المؤمنين ومهلكهم بالغرق . وقوله تعالى في الآية الثانية ( 37 ) { واصنع الفلك بأعيينا ووحينا } أي وأمرناه أن يصنع الفلك أي السفينة تحت بصرنا وبتوجيهنا وتعليمنا . إذ لم يكن يعرف السفن ولا كيفية صنعها وقوله { ولا تخاطبني في الذين ظلموا } أي لا تسألني لهم صرف العذاب ولا تشفع لهم في تخفيفه عليهم ، لأنا قضينا بإِهلاكهم بالطوفان فهم لا محالة مغرقون قوله تعالى { ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه } يخبر تعالى عن حال نوح وهو يصنع الفلك بقطع الخشب ونجره وتركيبه وقومه يمرون عليه تنقل البحر إليها ، أو تنقلها إلى البحر فيرد عليهم نوح عيله السلام بقوله { إن تسخروا منا فإِنا نسخر منكم كما تسخرون } أي منا . فسوف تعلمون أي مستقبلاً من يأتيه عذاب يخزيه أي يذله ويهينه ويكسر أنف كبريائه ، ويحل عليه عذاب مقيم وهو عذاب النار يوم القيامة وهو عذاب دائم لا ينتهى أبداً .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- كراهية الحزن والأسى والأسف على ما يقوم به أهل الباطل والشر والفساد .
2- بيان تاريخ صنع السفن وانها بتعليم الله لنوح عليه السلام .
3- بيان سنة البشر في الاستهزاء والسخرية بأهل الحق ودعاته لظلمة نفوسهم بالكفر والمعاصي .
4- بيان صدق وعد الله رسله .
(2/169)
________________________________________
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
شرح الكلمات :
{ فار التنور } : أي خرج الماء وارتفع من التنور وهو مكان طبخ الخبز .
{ زوجين اثنين } : أي من كل ذكر وأنثى من اسر أنواع المخلوقات اثنين .
{ وأهلك } : أي زوجتك وأولادك .
{ مجريها ومرساها } : أي اجراؤها وإرساؤها .
{ في موج كالجبال } : الموج ارتفاع ماء البحر وكونه كالجبال أي في الارتفاع .
{ يعصمني من الماء } : يمنعني من الماء أن يغرقني .
{ وغيض الماء } : أي نقص بنوضبه في الأرض .
{ على الجودي } : أي فوق جبل الجودي وهو جبل بالجزيرة غرب الموصل .
{ بعد للقوم الظالمين } : أي هلاكا لهم .
شرح الكلمات :
{ أم يقولون } : أي بل يقولون افتراه .
{ افتراه } : أي اختلقه وقال من نفسه ولم يوح به إليه .
{ فعلى اجرامي } : أي عاقبة الكذب الذي هو الإِجرام تعود عليَّ لا على غيري .
{ وأنا بريء } : أي أتبرأ وأتنصل من إجرامكم فلا أتحمل مسؤوليته .
{ مما تجرمون } : أى على أنفسكم فإِفسادها بالشرك والكفر والعصيان .
معنى الآية :
هذه الآية الكريمة أوقعها الله مُنَزِلُها سبحانه وتعالى بين أجزاء الحديث عن نوح وقومه ، وحسن موقعها هنا لأن الحديث عن نوح وقومه لا يتأتى لأحد إلا لنبي يوحى إليه ، وذلك لبعه في التاريخ فَقَصُّ النبيّ له اليوم دليل على أنه نبي يُوحى إليه ، فلذتا قال أم يقولون افتراه أي يقولون افترى القرآن وكذبه ولم يوحى إليه قل إن افتريته كما زعمتم فعلىّ إجرامي أي أثم كذبي وأنا بريء مما تجرمون أنتم بتكذيبكم إياي وكفركم بربكم ورسوله ووعده ووعيده .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- جواز الاعتراض في الكلام إذا حسن موقعه لإِقامته حجة أو إبطال باطل أو تنبيه على أمر مهم .
2- قص القصص أكبر دليل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوى النبوة ودعوته إلى الله تعالى .
3- تقرير مبدأ تحمل كل إنسان مسؤولية عمله وأن لا تزر وازرة وزر أخرى .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الحديث عن نوح وقومه قال تعالى { حتى إذا جاء أمرنا وفار النّور } أي واصل صنع السفينة حتى إذا جاء أمرنا أي بإِهلاك المشركين ، وفار التنور أي خرج الماء من داخل التنور وفار وتلك علامة بداية الطوفان فاحمل فيها أي في السفينة التي صنعت من كل زوجين اثنين أي من كل نوع من أنواع الحيوانات زوجين أي ذكراً وأنثى . وأهلك أي واحمل أهلك من زوجة وولد كسام وحام ويافث إلا من سبق عليه القول أي بالإِهلاك كامرأته واعلة وولده كنعان . ومن آمن أي واحمل من آمن من سائر الناس ، { وما آمن معه إلا قليل } أي نحو من ثمانين رجلاً وأمرأة هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 40 ) أما الثانية فقد أخبر تعالى فيها فيها أن نوحاً قال لجماعة المؤمنين { اركبوا فيها } أي في السفينة } باسم الله مجراها ومرساها } أي باسم الله تجري وباسم الله ترسوا أي تقف { إن ربيّ لغفور رحيم } أي فهو لا يهلكنا بما قد يكون لنا من ذنب ويرحمنا فينجينا ويكرمنا .
(2/170)
________________________________________
وقوله تعالى في الآية الثالثة ( 42 ) { وهي تجري بهم في موج كالجبال } وصف للسفينة وهي تغالب الماء وتمخر عبابه وأمواج الماء ترتفع حتى تكون كالجبال في ارتفاعها وقبلها نادى نوح ابنه كنعان ، وهو في هذه الساعة في معزل اي من السفينة حيث رفض الركوب فيها لعقوقه وكفره فقال له { يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين } فتغرق كما يغرقون فأجاب الولد قائلا { سآوي إلى جبل يعصمني من الماء } أي يمنعني منه حتى لا إغرق ، فأجابه نوح قائلا { لا عاصم اليوم من أمر الله } أي بعذاب الكافرين { إلا من رحم } أي الله فهو المعصوم . قال تعالى { وحال بينهما الموج } أي بين الولد العاق والولد الرحيم { فكان } أي الولد { من المغرقين } . وقوله تعالى { وقيل يا أرض ابلغي ماءك } أي اشربيه وابتلعيه ، ويا سماء اقلعي أي من الصب والإِمطار . والآمر للأرض والسماء هو الله تعالى : { وغيض الماء } أي نقص ونضب . { واستوت على الجودي } أي ورست السفينة بركابها لهم فلم يبق منهم أحدا إذ أخذهم الطوفان وهم ظالمون بدأ الطوفان أول يوم من رجب واستمر ستة أشهر حيث رست السفينة في أول محرم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- الإِيمان ينجيء ، والكفر يهلك ويردي .
2- مشرعية التسمية عند الركوب في سفينة أو غيرها .
3- عقوق الوالدين كثيراً ما يسبب الهلاك في الدنيا ، أما عذاب الآخرة فهو لازم له .
4- مظهر من مظاهر رحمة الوالد بولده .
5- مظاهر عظمه الرب تعالى وإطاعة الخلق أمره حتى الأرض والسماء .
(2/171)
________________________________________
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
شرح الكلمات :
{ من أهلي } : أي من جملة أهلي من ازواج وأولاد .
{ وإن وعدك الحق } : أي الثابت الذي لا يخلف .
{ إنه عمل غير صالح } : أي إن سؤالك هذا إياي عمل غير صالح .
{ أعظك } : أي أنهاك وأخوفك من أن تكون من الجاهلين .
{ من الجاهلين } : أي من الذين لا يعرفون جلالي وصدق وعدي ووفائي فتسألني ما ليس لك به علم .
{ سنمتعهم } : أي بالأرزاق والمُتع إلى نهاية آجالهم ثم يحل بهم عذابي وهم الكفرة .
{ للمتقين } : أي الذين يتقون الله فيعبدونه ولا يشركون به شيئا .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في الحديث عن نوح وقومه قال تعالى : { ونادى نوح ربّه } أي دعاه سائلا { ربّ إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين } ، وهذا كان منه حال الإِركاب في الفلك ، وامتناع ولده كنعان من الركوب أي إن ولدي كنعان من زوجتي ومن جملة أولادي ، وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي ومن معي من المؤمنين ، { وإن وعدك الحق } أي الذي لا خلف فيه ابداً ، { وأنت أحكم الحاكمين } أعلمهم وأعدلهم ، وهذا ابني قد استعصى عنّي ولم يركب معي وسيهلك مع الهالكين إن لم ترحمه يا رب العالمين فأجابه الرب تبارك وتعالى بقوله الحق : { إنه ليس من أهلك } أي الذين وعدتك بإِنجائهم لأنه على غير دينك وعلى خلاف منهجك ، { إنه عمل غير صالح } أي إن سؤالك هذا إليّ بإِنجاء ولدك وهو كافر على غير ملتك ، وقد أعلمتك إني مغرق الكافرين . سؤالك هذا عمل غير صالح يصدر عنك : { إني أعظك } أي أنهاك وأخوفك { أن تكون من الجاهلين } فتسألني ما ليس لك به علم . قال نوح { ربّ } أي يا رب إنّي أعوذ بك أي استجير وأتحصن بك أن أسألك بعد الآين ما ليس لي به علم . وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين أي الذين غبنوا أنفسهم حظوظها فهلكوا ، فأجابه الرب تعالى { يا نوح أهبط } من السفينة أنت ومن معك من المؤمنين بسلام منا أي بأمن منا وتحيات ، وبركات عليك وعلى أمم ممن معك أي من ذريّة من معك ، فلا تخافوا جوعاً ولا شقاء ، وأمم من ذريّة من معك سنمتعهم متاع الحياة الدنيا بالأرزاق ثم يمسهم منا عذاب أليم ، يوم القيامة لأنهم ينحرفون عن الإِسلام ويعيشون على الشرك والكفر . وهذا من علم الغيب الذي أخبر الله تعالى به فكان كما أخبر فقد نشأت أجيال وأجيال من ذريّة نوح منهم الكافر ومنهم المؤمن وفي الجميع ينفذ حكم الله ويتم فيهم وعده ووعيده . وقوله تعالى في الآية ( 49 ) وهي الأخيرة في هذا السياق يقول تعالى { تلك من أنباء الغيب نوحيها } أي هذه القصة التي قصصناها عليك من أنباء الغيب الذي لا يعلم تفصيله إلا الله نوحيها إليك ضمن آيات القرآن ما كنت تعلمها أنت ولا قومك على وجه التفصيل من قبل هذا القرآن إذاً فاصبر يا رسولنا على أذى قومك مبلغاً دعوة ربك حتى يأتيك نصرنا فإن العاقبة الحسنى الحميدة دائما للمتقين ربهم بطاعته والصبر عليها حتى يَلْقوهُ مؤمنين صابرين محتسبين .
(2/172)
________________________________________
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- رابطة الإِيمان التقوى أعظم من رابطة النسب .
2- حرمة العمل بغير علم فلا يحل القدوم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه .
3- ذم الجهل وأهله .
4- شرف نوح عليه السلام وانه أحد أولى العزم من الرسل .
5- بيان العبرة من القصص القرآني وهي تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين .
6- تقرير نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وإصباتها ببرهان عقلي وهو الإِخبار بالغيب الذي لا يعلم إلا من طريق الوحي .
7- بيان فضل الصبر ، وأن العاقبة الحميدة للمتقين وهم أهل التوحيد والعمل الصالح .
(2/173)
________________________________________
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
شرح الكلمات :
{ وإلى عاد أخاهم هودا } : أي وأرسلنا إلى قبيلة عاد أخاهم في النسب لا في الدين أخاهم هوداً . وهود من قبيلة عاد وعاد من ولد سام بن نوح عليه السلام .
{ اعبدوا الله } : أي اعبدوه وحده ولا تعبدوا معه غيره .
{ ما لكم من إله غيره } : أي ليس لكم معبود بحق يستحق عبادتكم غيره .
{ إن أنتم إلا مفترون } : أي ما أنتم في تأليه غير الله من الأوثان إلا كاذبون .
{ لا أسألكم عليه أجرا } : أي لا أطلب منك أجراً على إبلاغي دعوة التوحيد إليكم .
{ فطرني } : أي خلقني .
{ مدرارا } : أي كثيرة الدرور للمطر النازل منها .
{ ولا تتولوا مجرمين } : أي ولا تعرضوا عن دعوة التوحيد مجرمين على أنفسكم بالشرك بالله .
معنى الآيات :
هنا شروع في قصة هود مع قومه عاد بعد قصة نوح عليه السلام ومغزى القصة تقرير توحيد الله ونبوة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى { وإلى عاد أخاهم هوداً } أي وأرسلنا إلى قبيلة عاد أخاهم هوداً وهو أخوهم في النسب وأول من تكلم بالعربية فهو أحد أربعة أنبياء من العرب وهم هود ، وصالح ، وشعيب ، ومحمد صلى الله عليه وسلم . وقوله { قال يا قوم اعبدوا الله } أي قال هود لقومه بعد أن أرسله الله إليهم يا قوم اعبدوا الله أي وحدوه في عبادته فلا تعبدوا معه غيره فإِنه ما لكم من إله غير الله سبحانه وتعالى . وقوله { إن أنتم إلاّ مفترون } أي ما أنتم في عبادة غير الله من الأصنام والأوثان إلاّ كاذبون ، إذ لم يأمركمالله تعالى ربكم بعبادتها ، وإنما كذبتم عليه في ذلك . وقوله { يا قوم لا أسألكم عليه اجرا } يريد لا أسألكم على دعوتي إياكم إلى توحيد ربكم لتكملوا بعبادته وتسعدوا أجراً أي مالاً { إن أجري إلا على الله الذي فطرني } أي ما أجري إلا على الله الذي خلقني . وقوله { أفلا تعقلون } أي أفلا تعقلون أنّي لو كنت أبغي بدعوتي إلى التوحيد أجراً لطلبت ذلك منكم ، غير أني لم أطلب من غير ربي أجراً فبان بذلك صدقي في دعوتكم ونصحي لكم .
وقوله تعالى عن قيل هود { يا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } يخبر تعالى أن هوداً نادى قومه فقال يا قوم استغفروا ربكم أي آمنوا به واطلبوا منه المغفرة لذنوبكم ، ثم توبوا إليه أي ارجعوا إلى عبادته وحده بما شرع لكم على لسان نبيكم ، واتركوا عبادة غيره يكافئكم بأن يرسل السماء عليكم مدرارا أي بالأمطار المتتالية بعد الذي أصابكم من الجفاف والقحط والجدب ، ويزدكم قوة روحية إلى قوتكم المادية ، وقوله { ولا تتولوا مجرمين } ينهاهم ناصحاً لهم أن يرفضوا نصيحته ويرجعوا إلى عبادة الأوثان فيُجْرِمُوا على أنفسهم بإِفسادها بأوضار الشرك والعصيان . هداية الآياتمن هداية الآيات : 1- دعوة الرسل من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم واحدة هي : أن يَعُبَدَ الله وحده .
2- تقرير مبدأ لا إله إلا الله .
3- المشركون والمبتدعون الكل مفترون على الله كاذبون حيث عبدوه بما لم يشرع لهم 4- وجوب الإِخلاص في الدعوة .
5- فضل الاستغفار ووجوب التوبة .
6- تقديم الاستغفار على التوبة مشعر بأن العبد إذا لم يعترف أولا بذنبه لا يمكنه أن يتوب منه .
(2/174)
________________________________________
قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
شرح الكلمات :
{ بيّنة } : أي بحجة وبرهان على صحة ما تدعونا إليه من عبادة الله وحده .
{ وما نن بتاركي آلهتنا } : أي عبادة آلهتنا لأجل قولك إنها لا تستحق أن تعبد .
{ إلا اعتراك } : أي أصابك .
{ بسوء } : أي بِخَبَل فأنت تهذي وتقول ما لا يقبل ولا يعقل .
{ ثم لا تنظرون } : أي لاَ تمهلون .
{ آخذ بناصيتها } : أي مالكها وقاهرها ومتصرف فيها . فلا تملك نفعاً ولا ضراً إلا بإِذنه .
{ إن ربي على صراط مستقيم } : أي على طريق الحق والعدل .
{ فإِن تولوا } : أصلها تتولوا فعل مضارع حذفت منه إحدى التائبين ومعناه تُدبروا .
{ على كل شيء حفيظ } : أي رقيبٌ ولا بد انه يجزي كل نفس بما كسبت .
معنى الآيات :
ما زال السياق في قصة هود مع قومه إذ أخبر تعالى عن قيل قوم هود إلى هود فقال { قالوا يا هود ما جئتنا ببينّة } أي بحجة أو برهان على صحة ما تدعونا إليه من عبادة الله وترك عبادة آلهتنا والاعتراف بنبوتك { وما نحن بتاركي آلهتنا } أي عبادتها { عن قولك } أي من أجل قولك انها لا تستحق أن تعبد لكونها لا تنفع ولا تضر ، { وما نحن لك بمؤمنين } أي بمتابعين لك على دينك ولا مصدقين لك فيما تقول { إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء } أي ما نجد ما نقول فيك إلا أن بعض آلهتنا التي تسبها وتشتمها قد أصابتك بسوء بخبل وجنون فأنت تهذر وتهذي ولا تدري ما تقول . فأجابهم قائلا { إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون } فأعلن براءته في وضوح من آلهتهم وأنه لا يخافها إبطالا لدعواهم أنَّها أصابته بسوء ، وأعلمهم أنه يشهد الله على ذلك ، ثم أمرهم أن يشهدوا هم كذلك . وقوله { من دونه } أي من دون الله من سائر الآلهة والشركاء ثم تحداهم مستخفا بهم وبآلهتهم ، فقال { فكيدوني جميعا } أي احتالوا على ضري ثم لا تنظرون أي لا تؤخرون ولا تمهلون ، ثم كشف لهم عن مصدر قوته وهو توكله على ربّه فقال { إني توكلت على الهل ربي وربكم } أي فوضت أمري إليه وجعلت كل ثقتي فيه فهو لا يسلمني إليكم ولا يخذلني بينكم . ثم أعلمهم بإِحاطة قدرة الله بهم وقهره لهم فقال { وما من دابّة إلا هو آخذ بناصيتها } أي قاهر لها متحكم فيها يقودها حيث شاء وينزل بها من العذاب ما يشاء ، ثم أعلمهم أن ربّه تعالى على طريق العدل والحق فلا يُسلط أعداءه على أوليائه ، فقال { إن ربّي على صراط مستقيم } فلذا أنا لست بخائف ولا وجل ثم قال لهم { فإِن تولوا } أي فإِن تدبروا عن الحق وتعرضوا عنه فغير ضائري ذلك إذ أبلغتكم ما أرسلني به ربي إليكم وسيهلككم ويستخلف قوما غيركم ، ولا تضروه شيئا من الضرر لا قليلا ولا كثيراً { إن ربّي على كل شيء حفيظ } أي رقيب ، وسيجزي كلا بما كسب بعدله ورحمته .
(2/175)
________________________________________
وله الحمد والمنة .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان مدة مجاحدة ومكابرة المشركين في كل زمان ومكان .
2- تشابه الفكر الشركي وأحوال المشركين إذ قول قوم هود { إن نقول إلا اعتراك } . .
الخ . يردده جهلة السلمين وهو فلان ضربه الولي الفلاني .
3- مواقف أهل الإِيمان واحدة فما قال نوح لقومه متحدياً لهم قاله هود لقومه .
4- تقرير مبدأ أن كل شيء في الكون خاضع لتدبير الله لا يخرج عما أراده له أو به .
(2/176)
________________________________________
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
شرح الكلمات :
{ ولما جاء أمرنا } : أي بعذابهم وهي الريح الصرر .
{ برحمة منا } : أي بفضل منا ونعمة .
{ جبار عنيد } : أي مستكبر عن الحق لا يذعن له ولا يقبله .
{ ويوم القيامة } : أي ولعنة في يوم القيامة .
{ ألا بعداً لعاد } : أي هلاكاً لعاد وإبعاداً لهم من كل رحمة .
معنى الآيات :
ما زال السياق في هود وقومه قال تعالى { ولما جاء أمرنا } أي عذابنا { نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا } أي بلطف وفضل ونعمة { ونجيناهم من عذاب غليظ } هو عذاب يوم القيامة فهما نجاتان نجاة في الدنيا من عذاب الريح العقيم الصرر التي دمرت كل شيء بأمر ربها ونجاة من عذاب النار يوم القيامة وهي أعظم . وقوله تعالى { وتلك عاد } أي هذه عاد قوم هود جحدوا بآيات ربهم فلم يؤمنوا وعصوا رسله أي هوداً وجمُع لأن من كذب برسول كأنما كذب بكل الرسل { واتبعوا أمر كل جبار عنيد } أي اتبعوا أمر دعاة الضلالة من أهل لكبر والعناد للحق فقادوهم إلى سخط الله وأليم عقابه وقوله { واتبعوا في هذه الدنيا لعنة } أي اتبعهم الله غضبه وسخطه وهلاكه ، ويوم القيامة كذلك وأشد . ويختم الحديث عن هذه القصة بقوله الله تعالى { ألا إن عاداً كفروا ربهم } أي جحدوه فلم يعترفوا بألوهيته . وعبادته { ألا بعداً } أي هلاكاً لعادٍ قوم هود . فهل يعتبر مشركو قريش بهذه القصة فيؤمنو ا ويوحدوا فينجوا ويفلحوا .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير التوحيد إذ القصة كلها مسوقة لذلك .
2- بيان سنة الله في الأولين وهي انه يبعث الرسل مبشرين ومنذرين فَإِنِ استجابَ المرسل إليهم سعدوا ، وإن لم يستجيبوا يمهلهم حتى تقوم الحجة عليهم ثم يهلكهم ، وينجي المؤمنين .
3- التنديد بالكبر والعناد إذ هما من شر الصفات الخلقية في الإِنسان .
4- اتباع الطغاة والظلم والكفر والفساد لا تقود إلا إلى الدمار والخسار .
(2/177)
________________________________________
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
شرح الكلمات :
{ وإلى ثمود } : أي وأرسلنا إلى قبيلة ثمود .
{ أخاهم صالحا } : أي في النسب لأنه من قبيلة ثمود ، بينه وبين ثمود أبي القبيلة خمسة أجداد .
{ واستعمركم } : أي جعلكم عماراً فيها تعمرونها بالسكن والإِقامة فيها .
{ قريب مجيب } : أي من خلقه ، إذ العوالم كلها بين يديه ومجيب أي لمن سأله .
{ مرجوا قبل هذا } : أي قبل أن تقول ما قلت كنا نرجو أن تكون سيداً فينا .
{ أرأيتم } : أي أخبروني .
{ على بيّنة من ربي } : أي على علم بربي علمنيه سبحانه وتعالى فهل يليق بي أن أعبد غيره .
{ غير تخسير } : أي خسار وهلاك .
معنى الآيات :
هذه بداية قصة صالح مع قومه إذ قال تعالى مخبراً عن إرساله إلى قومه { وإلى ثمود أخاهم صالحا } أي وأرسلنا إلى قبيلة ثمود بالحجر بين الحجاز والشام أخاهم في القبيلة لا في الدين صالحاً . فقال { يا قوم أعبدوا الله ما لكم من إله غيره } فناداهم بعنوان القومية جمعا لقلوبهم على ما يقول لهم فقال { يا قوم اعبدوا الله } أي آمنوا به ووحدوه في عبادته فلا تعبدوا معه أحداً . إذ ليس لكم من إله غيره . إذ هو ربكم أي خالقكم ورازقكم ومدير أمركم . { أنشأكم من الأرض } أي ابتدأ خلقكم بخلق أبيكم آدم منها { واستعمركم فيها } أي جعلكم تعمرونها بالسكن فيها والعيش عليها . إذا فاستغفروه بالاعتراف بألوهيته ثم توبوا إليه فاعبدوه وحده ولا تشركوا في عبادته أحداً . وقوله { إنّ ربّي قريب مجيب } أخبرهم بقرب الربّ تعالى من عباده وإجابته لسائليه ترغيبا لهم في الإِيمان والطاعة ، وترك الشرك والمعاصي . هذا ما تضمّنته الآية الأولى ( 61 ) أما الآية الثانية فقد تضمنت رد القوم عليه عليه السلام إذ قالوا بما اخبر تعالى عنهم { يا صالح قد كنت فينا مرجاً قبل هذا } أي عنا نأمل فيك الخير ونرجوا أن تكون سيداً فينا حتى فاجأتنا بما تدعونا إليه من ترك آلهتنا لإِلهك ثم أنكروا عليه دعوته فقالوا { أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا } وأخبروه أنهم غير مطمئنين إلى صحة ما يدعوهم إليه من توحيد الله تعالى فقالوا { وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب } أي موقع في الريب وهو اضطراب النفس وعدم سكونها إلى ما قيل لها أو أخبرت به هذا ما تضمنه الآية الثانية ( 62 ) أما الآية الثالثة ( 63 ) فقد تضمنت دعوة صالح لقومه بأسلوب رفيع رغبة منه في أقامة الحجة عليهم لعلهم يؤمنون ويوحدون إذ قال بما أخبر الله تعالى في قوله : { قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربّي } أي على علم يقيني بالإِيمان بربي ووجوب عبادته وتوحيده وآتاني منه رحمةً وهي النبوة والرسالة ، فمن ينصرني من الله إن عصيته اللهم إنه لا أحد أبداً إذاً فإِنكم ما تزيدونني إن أنا أطعتكم في ترك عبادة ربّي والرضا بعباة آلهتكم إلا خساراً وضلالا في هذه الحياة وفي الحياة الآخرة .
(2/178)
________________________________________
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وحدة الوسيلة والغاية عند كافّة الرسل فالوسيلة عباة الله وحده ، والغاية رضا الله والجنة .
2- تقديم الاستغفار على التوبة في الآية سره إن المرء لا يقلع عن ذنبه حتى يعترف به .
3- بيان سنة في الناس وهي أن المرء الصالح يرجى في أهله حتى إذا دعاهم إلى الحق وإلى ترك الباطل كرهوه وقد يصارحونه بما صارح به قوم صالح نبيّهم إذ قالوا { قد كنت فينا مرجواً قبل هذا } .
4- حرمة الاستجابة لأهل الباطل بأي نوع من الاستجابة ، إذ الاستجابة لا تزيد العبد إلا خساراً .
(2/179)
________________________________________
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
شرح الكلمات :
{ آية } : أي علامة على صدقي فيما جئتم به من أنه لا إله إلا الله .
{ فذروها تأكل في أرض الله } : أي اتركوها ترعى في المراعي غير المحميّة لآحد ، منه .
{ فعقروها } : أي قتلوها بالعقر الذي هو قطع قوائمها بالسيف .
{ تمتعوا في دياركم } : أي ابقوا في دياركم تأكلون وتشربون وتتمتعون في الحياة ثلاثة أيام .
{ وعد غير مكذوب } : أي صادق لم أكذبكم فيه ولم يكذبني ربي الذي وعدكم به .
{ في ديارهم جاثمين } : أي ساقطين على ركبهم ووجوههم .
{ كأن لم يغنوا فيها } : أي كأن لم يكونوا بها أمس ولم تعمر بهم يوما .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الحديث عن صال وقومه . إنه لما دعاه صالح إلى توحيد الله تعالى كذبوه وطالبوه بما يدل على صدق مَا دَعَا إليهِ فأجابهم صالح بما أخبر تعالى به في هذه الآية { ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية } وذلك أنهم سألوا أن يخرج لهم ناقة من جبل أشاروا إليه فدعا صالح ربّه فاستجاب الله تعالى له وتمخض الجبل عن ناقة عشراء هي عجب في خلقتها وكمالها فقال عندئذ { يا قوم هذه ناقة الله } أضافها إلى الهل أنها كانت بقدرته ومشيئته { لكم آية } أي علامة لكم على صدق ما دعوتكم إليه من عبادة الله وحده وترك عباة الأوثان ، فذروها تأكل في أرض الله أي خلّوها تأكل من نبات الأرض من المراعي العامة التي ليست لأحد ، ولا تمسوها بسوء كعقرها أو ذبحها وقتلها فيأخذكم عذاب قريب قد لا يتأخر أكثر من ثلاثة أيام ، فكذبوه فعقروها فلما رأى ذك قال لهم بأمر الله { تمتعوا في اركم ثلاثة أيام } أي عِيشوا فيها . { ذلك وعد غير مكذوب } أي ذلك الوعد وعد صادق غير مكذوب فيه . هذا ما دلت عليه الآيتان ( 64 - 65 ) وقال تعالى : { فلما جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا } أي لما اكتملت المدة التي حُددت لهم وجاء أمر الله بعذابهم نجى الله تعالى رسوله صالحاً والمؤمنين برحمة منه أي بلطف ونعمة منه عز وجل وقوله { ومن خزي يومئذ } أي ونجاهم من ذلك ذلك اليوم وعذابه ، وقوله { إن ربّك قوي عزيز } أي إن ربك يا محمد صلى الله عليه وسلم قوي إذا بطش عزيز غالب لا يُغلب على أمر يريده . هذا ما دلت عليه الآية الثالثة ( 66 ) وأما الآيتان بعد فقد أخبر تعالى فيهما عن هلاك ثمود بقوله { وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين } أي إنّ الذين أشركوا بربهم وكذبوا بآياته أخذتهم الصحية فانخلعت لها قلوبهم فهلكوا وأصبحوا في ديارهم جاثمين على ركبهم كأن لم يغنوا بديارهم ولم يعمروها قال تعالى { ألا إن ثموداً كفروا ربّه ألا بعداً لثمود } أي هلاكاً لثمود ، وبهذا التنديد والوعيد بعد الهلاك والعذاب المخزي انتهت قصة صالح مع قومه ثمود الذين آثروا الكفر على الإِيمان والشرك على التوحيد .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- إعطاء الله تعالى الآيات للمطالبين بها لا يستلزم الإِيمان بها .
2- آية صالح عليه السلام من أعظم الآيات ولم يؤمن عليها قومه .
3- إقامة ثلاثة أيام لا يعد صاحبها مقيما وعليه أن يقصر الصلاة .
4- شؤم الظلم وسوء عاقبة أهله .
(2/180)
________________________________________
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
شرح الكلمات :
{ بالبشرى } : أي باسحاق ومن وراء اسحق يعقوب .
{ فما لبث } : أي ما أبطأ .
{ بعجل حنيذ } : أي مشوي على الحجارة .
{ لا تصل إليه } : أي لم يتناوله فيأكلوا منه .
{ نكرهم } : أي لم يعرفهم .
{ وأوجس } : أي أحس بالخوف وشعر به .
{ لوط } : هو ابن هاران أخي ابراهيم عليه السلام .
{ يا ويلتا } : أي يا ويلتي أحضري هذا أوان حضورك .
{ وهذا بعلي شيخا } : إشارة إلى ابراهيم إذ هو بعلها أي زوجها .
{ إن هذا لشيء عجيب } : أي أمر يتعجب منه استبعاداً له واستغراباً .
معنى الآيات :
هذه بشارة ابراهيم عليه السلام التي بشره الله تعالى بها إذ قال تعالى { ولقد جاءت رسلنا ابراهيم بالبشرى } والمراد بالرسل جبريل وميكائيل واسرافيل ، إذ دخلوا عليه داره فسلموا عليه فرد عليهم السلام وهو معنى قوله تعالى { قالوا سلاماً فقال سلام } وقوله تعالى { فما لبث أن جاء بعجل حنيذ } أي لم يبطأ حتى جاء بعجل مشوي فحنيذ بمعنى محنوذ وهو المشوي على الحجارة . فقربه إليهم وعرض عليهم الأكل بقوله { ألا تأكلون } فلما رأى أيديهم لا تصل إليه أي لم يتناولوه نكرهم بمعنى أنكرهم وأوجس منهم خيفة لأن العادة أن الضيف إذا نزل على أحد فقدم إليه طعاماً فلم يأكل عرف انه ينوي شراً ولما رأت الملائكة ذلك منه قالوا له لا تخف وبينوا له سبب مجيئهم فقالوا إنا أرسلنا إلى قوم لوط أي لإِهلاكهم وتدميرهم بسبب إجرامهم . وكانت امرأته قائمة وراء الستار تخدمهم مع ابراهيم . فلما سمعت بنبأ هلاك قوم لوط ضحكت فرحاً بهلاك أهل الخبث فعندئذ بشرها الله تعالى على لسان الملائكة باسحق ومن بعده يعقوب أي بولد وولد ولد ، فلما سمعت البشرى صكت وجهها تعجبا على عادة النساء وقالت { يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلى } تشير إلى زوجها ابراهيم { شيخا } أي كبير السن إذ كانت سنة يومئذ مائة سنة وسنها فوق التسعين . { إن هذا لشيء عجيب } أي ولادتي في هذه السن أمر يتعجب منه . قالوا أتعجبين من أمر الله } رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت } أي ذو مجد وثناء وكرم . وامرأة ابراهيم المبشرة هي سارة بنت عم إبراهيم عليه السلام ، والبشارة هنا لابراهيم { إنه حميد مجيد } أي محمود بإِفضاله وإنعامه عليكم { مجيد } أي ذو مجد وثناء وكرم . وامرأة ابراهيم المبشرة هي سارة بنت عم إبراهيم عليه السلام ، والبشارة هنا لابراهيم ، وزوجه سارة معاً وهي مزدوجة إذ هي بهلاك الظالمين ، وباسحاق ويعقوب .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- استحباب تبشير المؤمن بما هو خير له ولو بالرؤيا الصالحة .
2- مشروعية السلام لمن دخل على غيره أو قوف عليه أو مرّ به ووجوب رد السلام .
3- مشروعية خدمة أهل البيت لضيوفهم ووجوب إكرام الضيف وفي الحديث الصحيح « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه » .
4- شرف أهل بيت ابراهيم عليه السلام .
(2/181)
________________________________________
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
شرح الكلمات :
{ الروع } : الفزع الخوف .
{ البشرى } : أي الخبر السار المفرح للقلب .
{ يجادلنا } : أي يخاصمنا .
{ في قوم لوط } : أي في شأن قوم لوط ، ولوط هو رسول الله لوط بن هاران بن عم ابراهيم .
{ حليم أواه } : الحليم الذي لا يعمل بالعقوبة والأواه كثير التأوه مما يسيء ويحزن .
{ أعرض عن هذا } : أي اترك الجدال في قوم لوط .
{ غير مردود } : أي لا يستطيع أحد رده لأن الله تعالى قد قضى به فهو واقع لا محالة .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في الحديث عن بشارة ابراهيم قال تعالى فلما ذهب عن ابراهيم الروع أي الفزع والخوف من الملائكة قبل أن يعرفهم وجاءته البشرى بالولد وبهلاك قوم لوط أخذ يجادل الملائكة في شأن هلاك قوم لوط لأجل ما بينهم من المؤمنين فقال إن فيها لوطاً فأجابوه بقولهم الذي ذكر تعالى في سورة العنكبوت { نحن أعلم بمن فيها لننجيّنه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين } وقوله تعالى { إن ابراهيم لحليم أواه منيب } تعليل لمجادلة ابراهيم الملائكة في قوم لوط ، وذلك أن إبراهيم رقيق القلب حليم لا يعامل بالعقوبة فأراد تأخير العذاب عنهم لعلهم يتوبون . وكان أواهاً ضارعا قانتا يكثر من قور آه إذا رأى أو سمع ما يسوء ومنيباً أي توابا رجاعاً إلى ربّه في كل وقت . ولما الحّ ابراهيم في مراجعة الملائكة قالوا له يا إبراهيم أعرض عن هذا الجدال ، إنه قد جاء أمر ربك أي بهلاك القوم . { وإنهم آتيهم عذاب غير مردود } أي غير مدفوع من أحد وهو ما سَيُذْكَرُ في السياق بعد .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- مشروعية الجدال عمن يُرجى له الخير من الناس ، وذلك في غير الحدود الشرعية إذا رفعت إلى الحاكم .
2- فضيلة خلق الحلم .
3- فضل الإِنابة إلى الله تعالى .
4- قضاء الله لا يرد أي ما حكم الله به لا بد واقع .
(2/182)
________________________________________
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
شرح الكلمات :
{ سيء بهم } : أي حصل له غم وهم بمجيئهم إليه .
{ وضاق بهم ذرعا } : أي عجزت طاقته عن تحمل الأمر .
{ يوم عصيب } : أي شديد لا يحتمل .
{ يهرعون إليه } : أي مدفوعين بدافع الشهوة يمشون مسرعين في غير اتزان .
{ السيئات } : أي كبائر الذنوب بإِتيان الذكور .
{ ولا تخزون في ضيفي } : أي لا تذلوني ولا تهينوني بالتعرض لضيفي .
{ رجل رشيد } : أي إلى عشيرة قوية تمنعني منكم . ولم تكن له عشيرة لأنه من غير ديارهم .
معنى الآيات :
هذه فاتحة حديث لوط عليه السلام مع الملائكة ثم مع قومه قال تعالى { ولما جاءت رسلنا } وهم ضيف إبراهيم عليه السلام { لوط سيىء بهم } أي تضايق وحصل له هم وغم خوفا عليهم من مجرمي قومه . وقال هذا يوم عصيب أي شديد لما قد يحث فيه من تعرض ضيفه للمذلة والمهانة وهو بينهم هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 77 ) أما الثانية ( 78 ) فقد أخبر تعالى عن مجيء قوم لوط إليه وهو في ذلك اليوم الصعب والساعة الحرجة فقال عز وجل { وجاءه قومه يهرعون إليه } أي مدفوعين بدافع الشهوة البهيمية مسرعين ومن قبل كانوا يعملون السيئات أي من قبل مجيئهم كانوا يأتون الرجال في أدبارهم فأراد أن يصرفهم عن الضيف فقال { يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم } أي هؤلاء نساء الأمة هن أطهر لكم فتزوجوهن . واتقوا الله أي خافوا نقمته ولا تخزوني في ضيفي أي لا تهينوني ولا تذلوني فيهم . أليس منك رجل رشيد؟ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ فأجابوا لعنهم الله قائلين : لقد علمت ما لنا في بناتك من حق أي من رغبة وحاجة ، وإنك لتعلم ما نريد أي من إتيان الفاحشة في الرجال . وهنا قال لوط عليه السلام : { لو أن لي بكم قوة } أي أنصاراً ينصرونني وأعواناً يعينوني لحلت بينكم وبين ما تشتهون ، أو آوي إلى ركوب شديد يريد عشيرة قوية يحتمي بها فتحميه وضيفه من قومه المجرمين .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- فضيلة إكرام الضيف وحمايته من كل ما يسوءه .
2- فظاعة العادات السيئة وما تحدثه من تغير في الإِنسان .
3- بذل ما يمكن لدفع الشر لوقاية لوط ضيفه ببنانه .
4- أسوأ الحياة أن لا يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .
5- إظهار الرغبة في القوة لدفع الشر وإبعاد المكروه ممدوح .
(2/183)
________________________________________
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
شرح الكلمات :
فأسر بأهلك : أي اخرج بهم من البلد ليلا .
{ بقطع من الليل } : أي بجزء وطائفة من الليل .
{ الصبح } : هو من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس .
{ جعلنا عاليها } : أي عالى القرية سافلها .
{ من سجيل } : أي من طين متجحر .
{ منضود } : أي منظم واحدة فوق أخرى بانتظام .
{ مسومة } : أي معلمة بعلامة خاصة .
{ عند ربك } : أي معلمة من عند الله تعالى .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الحديث عن ضيف لوط مع قومه إنه بعد أن اشتد بلوط الخوف وتأسف من عدم القدرة على حماية الضيف الكريم وقال متمنيا لو أنّ لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد . هنا قالت له الملائكة { يا لوط إنا رسل ربك إليك لنُنَجِيّنَّكَ ونهلك قومك لن يصلوا إليك أي بأي سوء أو بأدنى أذى فأسر بأهلك أي فاخرج بهم بقطع من الليل أي بطائفة وجزء من الليل ولا يلتف منكم أحد كراهية أن يرى ما ينزل بالقوم من العذاب فيصيبه كرب من ذلك إلا امرأتك وهي عجوز السوء فخلفها في القرية وإن خرجت دعها تلتفت فإِنها مصيبها ما أصابهم . وسأل لوطً عن موعد نزول العذاب بالقوم فقالوا إن موعدهم الصبح ، وكان لوطُ قد استبطأ الوقت فقالوا له : أليس الصبح بقريب؟ وقوله تعالى : { فلما جآء أمرنا جعلنا عاليها سافلها } أي فلما جاء أمر الله بعذاب القوم أمر جبريل عليه السلام فقلبها على أهلها فجعل عالي القرية سافلها ، وسافلها عاليها وأمطر الله عليهم حجارة من سجيل فمن كان خارج القرية أصابه حجر فأهلكه وقوله تعالى { منضود مسومة } أي مركب بعضها فوق بعض معلمة كل حجر عليها اسم من يرمى به ، وقوله { عند ربك } أي معلمة من عند ربك يا رسول الله ، وما هي من الظالمين ببعيد أي وما تلك القرية الهالك من الظالمين وهم مشركوا العرب ببعيد ، أو وما تلك الحجاة التي أهلك بها قوم لوط ببعيد نزلها بالظالمين .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- استحباب السير في الليل لما فيه من البركة بقطع المسافات البعيدة بدون تعب .
2- كراهة التأسف هلاك الظالمين .
3- مظاهر قدرة الله تعالى في قلب أربع مدن في ساعة فكان الأعلى أسفل والأسفل أعلى .
4- وعيد الظالمين في كل زمان ومكان بأشد العقوبات وأفظعها .
(2/184)
________________________________________
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
شرح الكلمات :
{ وإلى مدين } : أي أرسلنا إلى مدين إلى أهل مدين .
{ المكيال والميزان } : أي إذا بعتم لأحد فلا تنقصوا المكيال والميزان .
{ عذاب يوم محيط } : أي يحيط بكم من جميع جهاتكم فلا ينجو منه أحد منهم .
{ بالقسط } : أي بالعدل أي بالمساواة والتساوي في البيع والشراء على حد سواء .
{ ولا تبسخوا } : أي لا تنقصوهم حقوقهم التي هي لهم عليكم في الكيل والوزن وفي غير ذلك .
{ ولا تعثوا في الأرض } : أي ولا تعثوا في الأرض بالفساد .
{ وما أنا عليكم بحفيظ } : أي رقيب أراقب وزنكم وكيلكم وإنما أنا واعظ لكم وناصح لا غير .
معنى الآيات :
هذا بداية قصص شعيب عليه السلام مع قومه أهل مدين قال تعالى { وإلى مدين أخاهم شعيبا } أي وأرسلنا إلى قبيلة مدين أخاهم في النسب شعيباً . { قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } أي وحّدوا الله تعالى ليس لكم إله تعبدونه بحق إلا هو إذ هو ربكم الذي خلقكم ورزقكم ويدبر أمركم . وقوله { ولا تنقصوا المكيال والميزان } أي لا تنقصوا المكيال إذا كلتم لغيركم ، والميزان إذا وزنتم لغيركم . وقوله { إني أراكم بخير } أي في رخاء وسعة من الرزق ، { واني أخاف عليكم عذاب يوم محيط } إن أصررتم على الشرك والنقص والبخس وهو عذاب يحيط بكم فلا يفلت منك أحد . وقوله { يا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط } أمر بتوفيه المكيال والميزان بالعدل بعد أن نهاهم عن النقص تأكيدا لما نهاهم عنه وليعطف عليه نهيا آخر وهو النهي عن بخس الناس أشياءهم إذ قال { ولا تبسخوا الناس أشياءهم } أي تنقصوه حقوقهم وما هو لهم بحق من سائر الحقوق . ونهاهم عما هو أعم من ذلك فقال { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } أي ولا ستعوا في الأرض بالفساد وهو شامل لكل المعاصي والمحرمات . وقوله { بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين } أي وما يبقى لكم بعد توفية الناس حقوقهم خير لكم مما تأخذونه بالنقص ووعده ووعيده وقوله { وما أنا عليكم بحفيظ } أي بمراقب لكم حين تبيعون وتشترون ، ولا بحاسب مُحصرٍ عليكم ظلمكم فأجازيكم به ، وإنما أنا واعظ لكم ناصح ليس غير .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- وحدة دعوة الرسل وهي البداية بتوحيد الله تعالى أولا ثم الأمر والنهي لإِكمال الإِنسان . وإسعاده بعد نجاته من الخسران .
2- حرمة نقص الكيل والوزن أشد حرمة .
3- وجوب الرضا بالحلال وإن قل ، وسخط الحرام وإن كثر .
4- حرمة بخس الناس حقوقهم كأجور العمال ، وأسعار البضائع ونحو ذلك .
5- حرمة السعي بالفساد في الأرض بأي نوع من الفساد وأعظمه تعطيل شرائع الله تعالى .
(2/185)
________________________________________
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
شرح الكلمات :
{ أصلاتك } : أي كثرة الصلاة التي تصليها هي التي أثرت على عقلك فأصبحت تأمرنا بما لا ينبغي من ترك عبادة آلهتنا والتصرف في أموالنا .
{ الحليم الرشيد } : أي ذو الحلم والرشد ، والحلم ضد الطيش والرشد ضد السفه ولم يكن قولهم هذا مدحاً له وإنما هو استهزاء به .
{ أن أخالفكم } : أي لا أريد أن أنهاكم عن الشيء لتتركوه ثم أفعله بعدكم .
{ أن أريد إلا الإصلاح } : أي ما أريد الإ الإصلاح لكم .
{ وما توفيقي إلا بالله } : أي وما توفيقي للعمل الإِصلاحي والقيامة به إلأ بفضل الله عليّ .
{ وإليه أنيب } : أي ارجع في أمري كله .
{ لا يجرمنكم شقاقي } : أي لا تكسبنكم مخالفتي أن يحل بكم من العذاب ما حل يقوم نوح والأقوام من بعدهم .
{ وما قوم لوط منكم ببعيد } : أي في الزمن والمكان إذ بحيرة لوط قريبة من بلاد مدين التي هي بين معان والأردن .
{ رحيم ودود } : أي رحيم بالمؤمنين ودود محب للمتقين .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في الحديث عن شعيب عليه السلام مع قومه أهل مدين إنه لما أمرهم بعبادة الله تعالى وحده ونهاهم نقص الكيل والوزن وبخس الناس أشياءهم والسعي في الأرض بالفساد ، إذ كانوا يكسرون الدراهم وينسرنها ويقطعون الطريق : فردوا عليه قوله بما أخبر تعالى به عنهم في قوله : { قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء } ؟ إنه بهذا الخطاب ينكرون عليه نهيه لهم عن عبادة الأوثان والأصنام التي كان يعبدها آباؤهم من قبلهم كما ينكرون عليه نهيه لهم عن نقص المكيال والميزان وبخس الناس أشياءهم وأمرهم إياهم بالتزام الحق والعدل في ذلك ، ينكرون عليه نهيه لهم وأمره إياهم وينسبون ذلك إلى كثرة صلاته فهي التي في نظرهم قد أصابته بضعف العقل وقلة الادراك ، وقوله له { إنك لأنت الحليم الرشيد } إنما هو تهكم واستهزاء منهم لا انهم يعتقدون حلم شعيب ورشده وإن كان في الواقع هو كا قالو حليم رشيد إذ الحليم هو الذي لا يحمله الغضب أن يفعل ما لا يفعله في حال الرضا والرشيد خلاف السفيه الذي لا يحسن التصرف في المال وغيره هذا ما تضمنته الآية الأولى ( 87 ) وأما الآيات الثلاث بعدها فقد تضمنت رد شعيب عليه السلام على مقالتهم السابقة إذ قال { يا قوم أرأيتم } أي أخبروني { إن كنت عل بيّنة من ربي } أي على برهان وعلم يقيني بألوهيته ومحابه ومساخطه ووعده لأوليائه ووعيده لأعدائه ، ورزقي منه رزقاً حسنا أي حلالا طيبا أخبروني فهل يليق بي أن أتنكر لهذا الحق والخير وأُجَارِيكُمْ على باطلكم . اللهم لا ، وشيء آخر وهو أني ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه فإِني لا آمركم بتوفية الكيل والوزن وأنقصها ولا بترك عبادة الأوثان وأعبدها ، ولا أنهاكم عن كسر الدراهم وأكسرها فأكون كمن يأمر بالشيء ولا يفعله ، وينهى عن الشيء ويفعله فيستحق اللوم والعتاب ونزع الثقة منه ، وعدم اعتباره فلا يؤخذ بقوله ولا يعمل برأيه .
(2/186)
________________________________________
وأمر آخر هو أني ما أريد بما أمرتكم به ولا بما نهيتكم عنه إلا الإِصلاح لكم ما استطعت ذلك وقدرت عليه . وما توفيقي في ذلك إلا بالله ربّي وربكم عليه توكلت في أمري كله وإليه وحده أنيب أي أقبل بالطاعة وأرجع بالتوبة . ثم ناداهم محذراً إياهم من اللجاج والعناد فقال : ويا قوم لا يجرمنكم أي لا يحملنكم شقاقي أي خلافي على الاستمرار في الكفر والعصيان فيصيبكم عذاب مثل عذاب قوم نوح وهو الغرق أو قوم هود وهو الريح المدمرة أو قوم صالح وهو الصيحة المرجفة { وما قوم لوط منك ببعيد } في الزمن والمكان وقد علمتم ما حل بهم من دمار وخراب . أي لا يحملنكم شقاقي وعداوتي على أن ينزل بكم العذاب ، واستغفروا ربكم مما أنتم عليه من الشرك والمعاصي ، ثم توبوا إليه بالطاعة ، { إن ربّي رحيم } لا يعذب من تاب إليه ودود يحب من أناب إليه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- التعريض القريب يُعطي القذف الصريح .
2- كراهية إتيان الشيء بعد النهي عنه ، وترك الشيء بعد الأمر به والحث عليه .
3- كراهيةاللجاج والعناد لما يمنع من الاعتراف بالحق والالتزام به .
4- وجوب الاستغفار والتوبة من الذنوب .
5- وصف الرب تعالى بالرحمة والمودة .
(2/187)
________________________________________
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
شرح الكلمات :
{ ما نفقه } : أي ما نفهم بدقة كثرا من كلامك .
{ ولولا رهطك } : أي أفراد عشيرتك .
{ وما أنت علينا بعزيز } : أي بقوي ممتنع .
{ ظهرياً } : أي لم تأبهوا به ولم تلتفتوا إليه كالشيء الملقى وراء الظهر .
{ على مكانتكم } : أي على ما أنتم عليه من حال التمكن والقدرة .
{ الصحية } : أي صحية العذاب التي أخذتهم .
{ جاثمين } : أي على ركبهم .
{ كأن لم يغنوا فيها } : أي كأن لم يقيموا بها يوماً .
{ ألا بعداً لمدين } : أي هلاكاً لمدين قوم شعيب .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الحديث عن شعيب وقومه إنه بعد الحوار الذي دار بين شعيب وقومه يقول ويقولون وكان عليه السلام فصيحاً مؤيداً من الله تعالى فيما يقول فأفحمهم وقطع الحجة عليهم لجأوا إلى أسلوب القوة والتهديد بل والشتم والإِهانة وكان هذا منهم إيذاناص بقرب ساعة هلاكهم فقالوا فيما قص تعالى عنهم في هذه الآيات { يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول } فق نادوه ليسمع منهم ثم أعلموه أنهم لا يفقهون كثيراً من كلامه مع أنه يخاطبهم بلغتهم ، ولكنه الصلف والكبرياء فإِن صاحبها لا يفهم ما يقوله الضعفاء . وقالوا له : وإنا لنراك فينا ضعيفاً وهو احتقار منهم له ، وقالوا : ولولا رهطك لرجمناك أي ولولا وجود جماعة من عشيرتك نحترمهم لرجمناك أي لقتلناك رمياً بالحجارة ، وأخيراً وما أنت علينا بعزيز أي بممتنع لو أردناك . وهنا رد شعيب عليه السلام عليهم بقوله فقال ما أخبر تعالى به عنه { قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريّاً } أي غير مبالين بأمره ولا نهيه كما جعلتموه وراء ظهوركم لا تلتفون إليه ولا تسمعون منه ولا تطيعونه ، يا ويلكم { إن ربّي بما تعملون محيط } أي علمه فأعمالكم معلومة له لا يخفى منها عليه شيء ولسوف يجزيكم بها عاجلا أو آجلا وقابل تهديهم له بمثله فقال لهم { ويا قوم اعملوا عللاى مكانتكم } أي على تمكنكم من عملكم { إني عامل } أي على تمكني من العمل الذي أعمله { سوف تعلمون بعد من يأتيه عذاب يخزيه } يذله ويهينه ومن هو كاذب منا فيعذب ويخزى ويذل ويهان أيضا وعليه فارتقبوا يومذاك { وارتقبوا فإِني معكم رقيب } منتظر قال تعالى { ولما جاء أمرنا } أي بالعذاب نجيّنا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منا } أي بفضل منا ونعمة من عندنا ، { وأخذت الذين ظلموا } أي بالشرك والعصيان { الصحية } أي صحية العذاب التي ارتجفت لها قلوبهم وانخلعت فبركوا على ركبهم جاثمين هلكي لا يتحركون . قال تعالى في بيان حالهم { كأن لم يغنوا فيها } أي كأن لم يقيموا في تلك الديار ويعمرها زمنا طويلا . ثم لعنهم فقال : { ألا بعداً لمدين } بعداً لها من الرحمة وهلاكاً ، كما بعدت قبلها ثمود وهلكت .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان ما أوتي نبي الله شعيب العربي من فصاحة وبيان حتى قيل فيه خطيب الأنبياء .
2- اشتداد الأزمات مؤذن بقرب انفراجها .
3- بيان فساد عقل من يهتم بتنفيذ أوامر النا سويهمل أوامر الله تعالى ولا يلتفت إليها .
4- فضل انتظار الفرج من الله تعالى وهو الرجاء المأمور به .
5- صدق وعد الله رسله وعدم تخلفّه أبداً .
(2/188)
________________________________________
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
شرح الكلمات :
{ موسى } : هو موسى بن عمران كليم الله ورسوله إلى بني اسرائيل .
{ بآياتنا } : هي التسع الآياتِ الذي ذكر أكثرها في آية الأعراف .
{ وسلطان مبين } : أي بحجة قوية على عدو الله فرعون فهزمه بها .
{ وملئه } : أي أشرف رجال دولة فرعون .
{ وما أمر فرعون برشيد } : أي بذي رشد بل هو السفه كله .
{ يقدم قومه } : أي تقدمهم إلى النار فأوردهم النار .
{ بئس الورد المورود } : أي قبح وساء ورداً يورد النار .
{ وأتبعوا في هذه لعنة } : أي ألحقتهم في دار الدنيا لعنة وهي غرقهم .
{ بئس الرفد المرفود } : أي قبح الرفد الذي هو العطاء المرفود به أي المعطى لهم . والمرا لعنة الدنيا ولعنة الآخرة .
معنى الآيات :
هذه لمحة خاطفة لقصة موسى عليه السلام مع فرعون تصمنتها أربع آيات قصار قال تعالى { ولقد أرسلنا موسى } أي بعد إرسالنا شعيباً إلى أهل مدين أرسلنا موسى بن عمران مصحوباً بآياتنا الدالة على إرسالنا له وصدق ما يدعوا إليه ويطالبه به وسلطان مبين أي أي وحجة قوية ظاهرة على وجوب توحيد الله تعالى وبطلان أولوهية من عداه كفرعون عليه لعائن الله { إذ قال ما علمت لكم من إله غيري } وقوله تعالى { إلى فرعون وملئه } أرسلناه بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وأشراف جنده وزعُماء دولته فأمرهم موسى باتباع الحق وترك الباطل فأبوا واتبعوا أمر فرعون فأَلهم . { وما أمر فرعون برشيد } حتى يهدي إلى الفلاح من اتبعه . قال تعالى { يقدم قومه يوم القيامة } أي يتقدمهم إلى النار فيوردهم حياضها { وبئس الورد المورود } أي نار جهنم قوله تعالى { واتبعوا في هذه لعنة } أي فرعون وقومه لعنوا في الدنيا ، ويوم القيامة يلعنون أيضا { فبئس الرفد المرفود } وهما لعنة الدنيا ولعنة الآخرة ، والرفد العون والعطاء والمرفود به هو المعان به والمعطى لمن يرفد من الناس .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- من كتب الله شقاءه لا يؤمن بالآيات بل يردها ويكذب بها حتى يهلك .
2- قوة الحجج وكثرة البراهين لا تستلزم إذعان الناس وإيمانهم .
3- التحذير من اتباع رؤساء الشر وأئمة الفساد والضلال .
4- ذم موارد الباطل والشر والفساد .
5- شر المعذبين من جمع له بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة .
(2/189)
________________________________________
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
شرح الكلمات :
{ ذلك } : الإِشارة إلى قصص الأنبياء الذي تقدم في السورة .
{ من أنباء القرى } : أي أخبار أهل القرى قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وقوم لوط وأصحاب مدين وفرعون .
{ منها قائم وحصيد } : منها مدن بقيت آثارها كمدائن صالح ، ومنها مدن لم يبق منها شيء كديار عاد .
{ التي يدعون } : أي يعبدونها بالدعاء وغيره كالذبح لها والنذور والحلف بها .
{ غير تتبيت } : أي تخسير وهلاك .
{ إذا أخذ القرى } : أي عاقبها بذنوبها .
{ أليم شديد } : أي موجع شديد الإِيجاع .
معنى الآيات :
لما قص تعالى على رسوله في هذه السورة ما قص من أخبار الأمم السابقة خاطبه قائلا { ذلك } أي ما تقدم في السياق { من أنباء القرى } أي أهلها نقصه عليك تقريراً لنبوتك وإثباتاً لرسالتك وتثبيتاً لفؤادك وتسلية لك . وقوله تعالى { منها قائم وحصيد } أي ومن تلك القرى البائدة منها آثار قائمة من جدران وأطلال ، ومنها ما هو كالحصيد ليس فيه قائم ولا شاخص لاندراسها وذهاب آثارها . وقوله تعالى { وما ظلمناهم } بإِهلاكنا إياهم ولكن هم ظلموا أنفسهم بالشر والمعاصي والمجاحدة لآياتنا والمكابرة لرسولنا . وقوله تعالى { فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون . من دون الله من شيء } أي لم تغن عنهم أصنامهم التي اتخذوها آلهة عبدوها بأنواع العبادات من دعاء ونذر وذبح وتعظيم إذ لم تغن عنهم شيئاً من الإِغناء { لما داء أمر ربك } بعذابهم { وما زادوهم غير تتبيت } أي تخسير ودمار وهلاك . ثم في الآية الأخيرة قال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم { وكذلك أخذ ربك } أي وكذلك الأخذ المذكور أخذ ربك { أذا أخذه أليم شديد } أي ذو وجع شديد لا يطاق فهل يعتبر المشركون والكافرون والظالمون اليوم فيترك المشركون شركهم والكافرون كفرهم والظالمون ظلمهم قبل أن يأخذهم الله كما أخذ من قبلهم؟ .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونشر رسالته وتسليته بما بقص الله عليه من أنباء السابقين .
2- تنزه الله تعالى عن الظلم في أهلاك أهل الشرك والمعاصي .
3- آلهة المشركين لم تغن عنهم عند حلول النقمة بهم شيئا .
4- التنديد بالظلم وسوء عاقبة الظالمين .
(2/190)
________________________________________
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
شرح الكلمات :
{ لآية } : أي علامة على أن الذي عذّب في الدنيا قادر على أن يعذب في الآخرة .
{ يوم مشهود } : أي يشهد جميع الخلائق وهو يوم القيامة .
{ إلا لأجل معدود } : أي أجل الدنيا المعدود الأيام والساعات .
{ إلا بإِذنه } : أي إلا بإِذن الله تعالى .
{ شقي وسعيد } : أي فمن أهل الموقف من هو شقي أزلاً وسيدخل النار ، ومنهم سعيد أزلاً وسيدخل الجنة .
{ زفير وشهيق } : أي صوت شديد وهو الزفير وصوت ضعيف وهو الشهيق .
{ عطاء غير مجذوذ } : أي غير مقطوع بل هو دائم أبداً .
{ فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء } : أي في شك من بطلان عبادة هؤلاء المشركين .
{ نصيبهم غير منقوص } : ما قدر لهم من خير أو شر رحمة أو عذاب .
معنى الآيات :
قوله تعالى { إن في ذلك لآية } أي إن في أخذ الله تعالى للأمم الظالمة وتعذيبها بأشد أنواع العذاب آية أي علامة واضحة على أن من عذّب في الدنيا قادر على أن يعذب في الآخرة فالمؤمنون بلقاء الله تعالى يجدون فيما أخبر تعالى به من إهلاك الأمم الظالمة آية هي عبرة لهم فيواصلون تقواهم لله تعالى حتى يلاقوه وهم به مؤمنون ولأوامره ونواهيه مطيعون . وقوله تعالى { ذلك يوم مجموع له الناس ولذلك يوم مشهود } أي ذلك الذي فيه عذاب الآخرة هو يوم القيامة حيث يجمع فيه الناس لفصل القضاء روذلك يوم مشهود } إذا تشهده الخلائق كلها وقوله تعالى { وما نؤخره إلا لأجل معدود } أي وما يؤخر يوم القيامة إلا لإِكمال عمر الدنيا المعدود السنين والأيام بل والساعات . وقوله تعالى { يوم يأتي } أي يوم القيامة { لا تكلّم نفس إلا بإِذنه } أي بإِذن الله تعالى وقوله { فمنهم شقي وسعيد } أي والناس فيه ما بين شقي وسعيد ، وذلك عائد إلى ما كتب لكل إنسان من شقاوة أو سعادة في كتاب المقادير ، أولاً ، ولما كسبوا من خير وشر ثانياً . وقوله تعالى { فأما الذين شقوا } أي في حكم الله وقضائه ففي النار لهم فيها زفير وهو صوت شديد وشهيق وهو صوت ضعيف والصوتان متلازمان إذ هما كأول النهيق وآخره عند الحمار . وقوله تعالى { خالدين فيها } أي في النار { ما دامت السموات والأرض } أي مدة دوامهما ، وقوله { إلا ما شاء ربك } أن لا يخلد فيها وهم أهل التوحيد ممن ماتوا على كبائر الذنوب . وقوله تعالى { إن ربك فعال لما يريد } أي إن ربك أيها الإِنسان فعال لما يريد إذا أرد شيئا فعله لا يحل بينه وبين فعله . وقوله { وأما الذين سعدوا } أي حكم الله تعالى بسعادتهم } لما وفقهم الله من الإِيمان والعمل الصالح وترك الشرك والمعاصي { ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء رَبُّك } إذ إرادة الله مطلقة لا تحد إلا بمشيئته العليا وقوله { عطاء غير مجذوذ } أي عطاء من ربك لأه لطاعته غير مقطوع أبداً وهذا دليل خلودهم فيها أبدا .
(2/191)
________________________________________
وقوله تعالى { فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء } هو خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاه ربه تعالى أن يشك في بطلان عبادة المشركين أصنامهم فإِنهم لا دليل لهم على صحة عبادتها وإنما هم مقلدون لآبائهم يعبدون ما كانوا يعبدون من الأصنام والأوثان وقوله تعالى { وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص } يخبر تعالى انه موفي المشركين ما كتب لهم من خير وشر أو رحمة وعذاب توفية كاملة لا نقص فيها بحال .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- فضل وفضيلة الإِيمان بالآخرة .
2- حتمية البعث الآخر وأنه لا شك فيه .
3- الشقاوة والسعاة مضى بهما القضاء والقدر قبل وجود الأشقياء والسعداء .
4- عجز كل نفس عن الكلام يوم القيامة حتى يؤذن لها به .
5- إرادة الله مطلقة ، لو شاء أن يخرج أهل النار لأخرجهم منها ولو شاء أن يخرج أهل الجنة لأخرجهم إلا أنه حكم بما أخبر به وهو العزيز الحكيم .
(2/192)
________________________________________
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
شرح الكلمات :
{ الكتاب } : أي التوراة .
{ ولولا كلمة سبقت } : أي لولا ما جرى به قلم القدر من تأخير الحساب والجزاء إلى يوم القيامة .
{ لفي شك منه مريب } : أي موقع في الريب الذي هو اضطراب النفس وقلقها .
{ فاسقتم كما أمرت } : أي على الأمر والنهي كما أمرك ربك بدون تقصير .
{ ولا تطغوا } : أي لا تجاوزا حدود الله .
{ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا } : أي لا تميلوا إليهم بموادة أو رضا بأعمالهم .
{ فتمسكم النار } : أي تصيبكم ولازم ذلك دخولها .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر والثبات وهو يبلغ دعوة الله تعالى ويدعو إلى توحيده مواجها صلف المشركين وعنادهم فيقول له . { ولقد آتينا موسى الكتاب } أي التوراة كما أنزلنا عليك القرآن . فاختلفت اليهود في التوراة فمنهم من آمن بها ومنهم من كفر كا اختلف قومك في القرآن فمنهم من آمن به ومنهممنكفر إذاً فلا تحزن . وقوله تعالى { ولولا كلمة سبقت من ربك } وهي تأخير الجزاء على الأعمال في الدنيا إلى القيامة { لقضي بينهم } فنجى المؤمنين وأهلك الكافرين . وقوله تعالى { وإنهم لفش شك منه مريب } وإن قومك من مشركي العرب لفي شك من القرآن هل هو وحي الله وكلامه أو هو غير ذلك مريب أن موقع في الريب الذي هو شك مع اضطراب النفس وقلقها وحيرتها وقوله تعالى { وإن كلاّ لما ليوفينهم ربك أعمالهم } أي وإن كل واحد من العباد مؤمناً كان أو كافراً باراً أو فاجراً ليوفينّه جزاء عمله يوم القيامة ولا ينقصه من عمله شيئاً وقوله { إنه بما يعملون خبير } لما أخبر به من الجزاء العادل إذ العلم بالعمل الخبرة التامة به لا بد منهما للتوفية العادلة . وقوله تعالى { فاستقم كما أمرت ومن تاب معك } أي بناء على ذلك فاستقم كما أمرك ربك في كتابه فاعتقد الحق واعمل الصالح واترك الباطل ولا تعمل الطالح أنت ومن معك من المؤمنين ليكون جزاؤكم خير جزاء يوم الحساب والجزاء . وقوله { ولا تطغوا } أي لا تتجاوزوا ما حد لكم في الاعتقاد والقول والعمل وقوله { إنه بما تعملون بصير } تحذير لهم من الطغيان الذي نهوا عنه ، وتهديد لمن طغى فتجاوز منهج الاعتدال المأمور بالتزامه . وقوله تعالى { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار } أي لا تميلوا إلى المشركين بمداهنتهم أو الرضا بشركهم فتكونوا مثلهم فتدخلوا النار مثلهم فتمسكم النار كما مستهم ، وقوله تعالى { وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون } أي إن أنتم ركنتم إلى الذين ظلموا بالشرك بربهم فكنتم في النار مثلهم فإِنكم لا تجدون من دون الله وليّاً يتولى أمر الدفاع عنكم ليخرجكم من النار ثم لا تنصرون بحال من الأحوال ، وهذا التحذير وإن وجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ابتداء فإِن المقصود به أمته إذ هي التي يمكنها فعل ذلك أما الرسول صلى الله عليه وسلم فهو معصوم من أقل من الشرك فكيف بالشرك .
(2/193)
________________________________________
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والتخفيف عنه مما يجده من جحود الكافرين .
2- بيان سبب تأخر العذاب في الدنيا ، وهو أن الجزاء في الآخرة لا في الدنيا .
3- الجزاء الأخروي حتمي لا يتخلف أبداً إذ به حكم الحق عز وجل .
4- وجوب الاستقامة على دين الله تعالى عقيدة وعبادة وحكماً وأدباً .
5- حرمة الغلو وتجاوز ما حد الله تعالى في شرعه .
6- حرمة مداهنة المشركين أو الرضا بهم أو بعملهم ، لأن الرضا بالكفر كفر .
(2/194)
________________________________________
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
شرح الكلمات :
{ وأقم الصلاة } : أي صل الصلاة المفروضة .
{ طرفي النهار } : أي الصبح ، وهي في الطرف الأول ، والظهر والعصر وهما في الطرف الثاني .
{ وزلفاً من الليل } : أي ساعات الليل والمراد صلاة المغرب وصلاة العشاء .
{ إن الحسنات يذهبن السيئات } : أي حسنات الصلوات الخمس يذهبن صغائر الذنوب التي تقع بينهن .
{ ذلك ذكرى للذاكرين } : أي ذلك المذكور من قوله وأقم الصلاة عظة للمتعظين .
{ المحسنين } : أي الذين يحسنون نياتهم وأقواله وأعمالهم بالإِخلاص فيها لله وأدائها على نحو ما شرع الله وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وهدايتهم إلى ما فيه كمالهم وسعادتهم فقال تعالى { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل } أقمها في هذه الأوقات الخمس وهي الصبح والظهر والعصر المغرب والعشاء ، ومعنى أقمها أدها على الوجه الأكمل لأدائها ، فيكون ذلك الاداء حسنات يمحو الله تعالى بها السيئات ، وقوله تعالى { ذلك } أي المأمور به وما يترتب عليه { ذكرى } أي عظة { للذاكرين } أي المتعظين وقوله { واصبر } أي على الطاعات فعلاً وتركاً وعلى أذي المشركين ولا تجزع { فإِن الله لا يضيع أجر المحسنين } أي جزاءهم يوم القيامة ، والمحسنون هم الذين يخلصون أعمالهم لله تعالى ويؤدونها على الوجه الأكمل في أدائها فتنتج لهم الحسنات التي يذهب الله بها السيئات .
هداية الآيتين :
من هداية الآيتين :
1- بيان أوقات الصلوات الخمس إذ طرفي النهار هما الصبح وفيها صلاة الصبح والعشيّ .
وفيها صلاة الظهر والعصر كما أن زلفاً من الليل هي ساعاته فيها صلاة المغرب والعشاء .
2- بيان سنة الله تعالى في أن الحسنة تمحو السيئة وفي الحديث « الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينها ما لم تغش الكبائر » .
3- وجوب الصبر والإِحسان وأنهما من أفضل الأعمال .
(2/195)
________________________________________
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
شرح الكلمات :
{ فلولا } : لولا كلمة تفيد الحض على الفعل والحث عليه .
{ من القرون } : أي أهل القرون والقرن مائة سنة .
{ أولو بقية } : أي أصحاب بقيّة أي دين وفضل .
{ ما أترفوا فيه } : أي ما نعموا فيه من طعام وشراب ولباس ومتع .
{ وكانوا مجرمين } : أي لأنفسهم بارتكاب المعاصي ولغيرهم بحملهم على ذلك .
{ بظلم } : أي منه لها بدون ما ذنب اقترفته .
{ أمة واحدة } : أي على دين واحد وهو الإِسلام .
{ ولذلك خلقهم } : أي خلق أهل الأختلاف للاختلاف وأهل الرحمة للرحمة .
معنى الآيات :
يقول تعالى لرسوله { فلولا كان من القرون } من قبلكم أيها الرسول والمؤمنون { أولو بقيّة } من فهم وعقل وفضل ودلين ينهون عن الشرك والتكذيب والمعاصي أي فهلاّ كان ذلك إنه لم يكن اللهم إلا قليلا ممن أنجى الله تعالى من اتباع الرسل عند إهلاك أممهم وقوله تعالى { واتبع الذين ظلموا ما أُترفوا فيه وكانوا مجرمين } أي لم يكن بينهم أولو بقيّة ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجى الله وما عداهم كانوا ظالمين لأنفسهم بالشرك والمعاصي متبعين ما اترفوا فيه من ملاذ الحياة الدنيا وبذلك كانوا مجرمين فأهلكهم الله تعالى ونجى رسوله والمؤمنين كما تقدم ذكره في قصة نوح وهود وصالح وشعيب عليهم السلام . وقوله تعالى { وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون } أي لم يكن من شأن ربّك أيها الرسول أن يهلك القرى بظلم من هو وأهلها مصلحون ، ولكن يهلكهم بسبب ظلمهم لأنفسهم بالشرك والتكذيب والمعاصي . وما تضمنته هذه الآية هو بيان لسنة الله تعالى في إهلاك الأمم السابقة ممن قص تعالى أنباءهم في هذه السورة . وقوله تعالى { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة } أي على الإِسلام بأن خلق الهداية في قلوبهم وصرف عنهم الموانع ، ولما لم يشأ ذلك لا يزالون مختلفين على أديان شتى من يهودية ونصرانية ومجوسيةوأهل الدين الواحد يختلفون إلى طوائف ومذاهب مختلفة وقوله { إلا من رحم ربك } أيها الرسول ولا خلاف بينهم دينهم واحد وأمرهم واحد ، وقوله { ولذلك خلقهم } أي وعلى ذلك خلقهم فمنهم كافر ومنهم مؤمن ، والكافر شقي والمؤمن سعيد ، وقوله { وتمت كلمة } أي حقت ووجبت وهي { لأملأنّ جهنم من الجنة والناس أجمعين } ولذا كان اختلاقهم مُهيّئاً لهم لدخول جهنم حيث قضى الله تعالى بامتلاء جهنم من الجن والإِنس أجمعين فهو أمر لا بد كائن .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- ما يزال الناس بخير ما وجد بينهم أولو الفضل والخير بأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن الفساد والشر .
2- الترف كثيرا ما يقود إلى الاجرام على النفس باتباع الشهوات وترك الصالحات .
3- متى كان أهل القرى صالحين فيهم آمنون من كل المخاوف .
4- الاتفاق رحمة والخلاف عذاب .
(2/196)
________________________________________
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
شرح الكلمات :
{ وكلاّ نقص } : أي وكل ما تحتاج إليه من أنباء الرسل نقصه عليك تثبيتاً لفؤادك .
{ ما نثبت به فؤادك } : أي نقص عليك من القصص ما نثبت به قلبك لتصبر على دعوتنا وتبليغها .
{ وجاءك في هذه الحق } : أي في هذه السورة الحق الثابت من الله تعالى كما جاءك في غيرها .
{ وموعظة وذكرى } : أي وجاءك فيها موعظة وذكرى للمؤمنين إذ هم المنتفعون بها .
{ ولله غيب السموات والأرض } : أي ما غاب علمه فيهما فالله يعلمه وحده وليس لغيره فيه علم .
{ فاعبده } : أي وَحِّدْهُ في العباده ولا تشرك به شيئا .
{ وتوكل عليه } : أي فوض أمرك إليه وثق تمام الثقة فيه فإِنه يكفيك .
معنى الآيات :
لما قص تعالى على رسوله في هذه السورة الشريفة ما قصه من أنباء الرسل مع أممهم مبيّناً ما لاقت الرسل من أفراد أممهم من تكذيب وعناد ومجاحدة وكيف صبرت الرسل حتى جاءها النصر أخبر تعالى رسوله بقوله { وكلاّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } أي ونقص عليك كل ما تحتاج إليه في تدعيم موقفك وقوة عزيمتك من أنباء الرسل أ ] من اخبارها مع أممها الشيء الذي نثبت به قلبك حتى تواصل دعوتك وتبلغ رسالتك . وقوله { وجاءك في هذه } أي السورة الحق من الأخبار كما جاءك في غيرها { وموعظة } لك تعظ بها غيرك ، { وذكرى } يتذكر بها المؤمنون فيثبتون على الحق ويصبرون على الطاعة والبلاء فلا يجزعوا ولا يملوا ، وقوله { وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون } أي وقل يا رسولنا للذين لا يؤمنون من قومك ممن هم مصرون على التكذيب والشرك والعصيان اعملوا على حالكم وما أنتم متمكنون منه إنا عاملون على حالنا كذلك ،
وانتظروا أيّنا ينتصرة في النهاية أو ينكسر . وقوله ولله غيب السموات والأرض فهو وحده يعلم متى يجيء النصر ومتى تحق الهزيمة . وإليه يرجع الأمر كله أمر الانتصار والانكسار كأمر الهداية والاضلال والإِسعاد والاشقاء ، وعليه فاعبده يا رسولنا وحده وتوكل عليه وحده ، فإِنه كافيك كل ما يهمك من الدنيا والآخرة ، وما ربك بغافل عما تعملون أيها الناس وسيجزي كلاّ بما عمل من خَيْرٍ أو غيرٍ وهو على كل شيء قدير .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان فائدة القصص القرآني وهي أمور منها :
أ ) تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم .
ب ) إيجاد مواعظ وعبر للمؤمنين .
ج ) تقرير نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم .
2- علم الغيب لله وحده لا يعلمه غيره .
3- مرد الأمور كلها لله بداءاً وعوداً ونهاية .
4- وجوب عبادة الله تعالى والتوكل عليه .
(2/197)
________________________________________
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
شرح الكلمات :
{ ألر } : تكتب ألر وتقرأ : ألف ، لام ، را ، والله أعلم بمراده بذلك .
{ الكتاب المبين } : أي القرآن المظهر للحق في الاعتقادات والعبادات والشرائع .
{ قرآنا عربيا } : أي بلغه العرب العدنانيّون والقحطانيون سواء .
{ نحن نقص } : نحدثك متتبعين آثار الحديث على وجهه الذي كان عليه وتم به .
{ بما أوحينا } : أي بإِيحائنا إليك فالوحي هو أداة القصص .
{ من قبله } : أي من قبل نزله عليك .
{ لمن الغافلين } : أي من قبل إيحائنا إليك غافلا عنه لا تذكره ولا تعلم منه شيئاً .
معنى الآيات :
إن المناسبة بين سورتي هود ويوسف عليهما السلام أن الثانية تتميم للقصص الذي اشتملت عليه الأولى إذ سورة يوسف اشتملت على أطول قصص في القرآن الكريم أوله { إذ قال يوسف لأبيه } رابع آية وآخره { وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم } الآية الثانية بعد المائة وأما سبب نزول هذه السورة فقد قيل للرسول صلى الله عليه وسلم لو قصصت علينا فأنزل الله تعالى { ألر تلك آيات الكتاب المبين } إلى قوله { وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم } فقص أحداث أربعين سنة تقريباً ، فقوله تعالى { ألر } من هذه الحروف المقطعة تألفّت آيات القرآن الكريم ، فأشار إليها بقوله { تلك آيات الكتاب المبين } أي المبيّن للحق المُظهر له ولكل ما الناس في حاجة إلأيه مما يصلح دينهم ودنياهم . وقوله تعالى { إن أنزلناه } أي القرآن { قرآنا عربيّاً } أي بلسان العرب ليفهموه ويعقلوا معانيه فيهتدوا عليه فيكملوا ويسعدوا . وقوله { لعلكم تعقلون } أي ليمكنكم فهمه ومعرفة ما جاء فيه من الهدى والنور . وقوله تعالى { نحن نقص عليك } يا رسول الله { أحسن القصص } أي أصحة وأصدقه وأنفعه وأجمله { بما أوحينا إليك هذا القرآن } أي بواسطة إيحائنا إليك هذا القرآن ، { وإن كنت من قبله } أي من قبل إيحائه إليك { لمن الغافلين } عنه لا تذكره ولا تعلمه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير اعجاز القرآن إذ هو مؤلف من مثل ألر ، وطس ، وق ، ومع هذا لم يستطع العرب أن يأتوا بسورة مثله .
2- بيان الحكمة في نزول القرآن باللغة العربية وهي أن يعقله العرب ليبلغوه إلى غيرهم .
3- القرآن الكريم اشتمل على أحسن القصص فلا معنى لسماع قصص غيره .
4- تقرير نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وإثباتها بأقوى برهان عقليّ واعظم دليل نقليّ .
(2/198)
________________________________________
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
شرح الكلمات :
{ لأبيه } : أي يعقوب بن اسحق بن ابراهيم الخليل عليه السلام .
{ إني رأيت } : أي في منامي .
{ أحد عشر كوكبا } : أي من كواكب السماء .
{ ساجدين } : أي نزل الكل من السماء وسجدوا ليوسف وهو طفل .
{ فيكيدوا لك } : أي يحتالوا عليك بما يضرك .
{ عدو مبين } : أي بين العداوة ظاهرها .
{ يجتبيك ربك } : أي يصطفيك له لتكون من عباده المخلصين .
{ من تاويل الأحاديث } : أي تعبير الرؤيا .
{ ويتم نعمته عليك } : أي بأن ينبّئك ويرسلك رسولاً .
معنى الآيات :
قوله تعالى { إذ قال يوسف } هذا بداية القصص أي اذكر أيها الرسول إذ قال يوسف بن يعقوب لأبيه يعقوب { يا أبتِ } أي يا أبي { إني رأيت أحد عشر كوكبا } أي من كواكب السماء { والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين } أي نزلوا من السماء وسجدوا له تحيّة وتعظيما . وسيظهر تأويل هذه الرؤيا بعد أربعين سنة حيث يجمع الله شمله بأبويه وإخوته الأحد عشر ويَسجدُ الكل له تحيّة وتعظيما . وقوله تعالى { قال يا بنيّ } أي قال يعقوب لولده يوسف { لا تقصص رؤياك على إخوتك } وهم إخوة له من أبيه دون أمه { فيكيدوا لك كيداً } أي يحملهم الحسد على أن يكيدوك بما يضرك بطاعتهم للشيطان حين يغريهم بك { إن الشيطان للإِنسان عدو مبين } إذ أخرج آدم وحواء من الجنة بتزيينه لهما الأكل من الشجرة التي ينهاهما الله تعالى عن الأكل منها . وقوله { وكذلك يجتبيك ربّك } وكما أراك ربك الكواكب والشمس والقمر ساجدين لك يجتبيك أي يصطفيك له لتكون من عباده المخلصين .
وقوله { ويعلمك من تأويله الأحاديث } أي ويعلمك معرفة ما يؤول إليه أحاديث الناس ورؤياهم المنامية ، ويتم نعمته عليك بالنبة وعلى آل يعقوب أي أولاده . { كما أتمها على أبويك من قبل ابراهيم واسحق } اسحق جد يوسف الأدنى وابراهيم جده الأعلى حيث أنعم عليهما بانعامات كبيرة أعظمها النبوة والرسالة ، وقوله تعالى { إن ربك عليم } أي بخلقه { حكيم } أي في تدبيره فيضع كل شيء في موضعه فيكرم من هو أهل للاكرام ، ويحرم من هو أهل للحرمان .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- ثبوت الرؤيا شرعاً ومشروعية تعبيرها .
2- قد تتأخر الرؤيا فلا يظهر مصداقها إلا بعد السنين العديدة .
3- مشروعية الحذر والأخذ بالحيطة في الأمور الهامة .
4- بيان إفضال الله على آل ابراهيم بما أنعم عليهم فجعلهم أنبياء آباء وأبناء وأحفاداً .
(2/199)
________________________________________
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
شرح الكلمات :
{ آيات للسائلين } : عبر للسائلين عن أخبارهم وما كان لهم من أحوال غريبة .
{ ونحن عصبة } : أي جماعة أذ هم أحد عشر رجلا .
{ أو اطرحوه أرضا } : أي ألقوه في أرض بعيدة لا يعثر عليه .
{ يخل لكم وجه أبيكم } : أي من النظر إلى يوسف فيقبل عليكم ولا يلتفت إلى غيركم .
{ في غيابة الجب } : أي ظلمة البئر .
{ بعض السيارة } : أي المسافرين السائرين في الأرض .
معنى الآيات :
ما زال السياق في قصة يوسف عليه السلام قال تعالى { لقد كان في يوسف وإخوته } أي في شأن يوسف وإخوته وما جرى لهم وما تم من أحداث جسام عبر وعظات للسائلين عن ذلك المتطلعين إلى معرفته . { إذ قالوا } أي إخوة يوسف { ليوسف وأخوه } بنيامين وهو شقيقه دونهم { أحب إلى أبينا منّا ونحن عصبة } أي جماعة فكيف يفضل الاثنين على الجماعة { إن أبانا } أي يعقوب عليه السلام { لفي ضلال مبين } أي في خطإ بيّن بإيثارة يوسف وأخاه بالمحبة دوننا . وقوله { اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم } يخبر تعالى عما قاله إخوة يوسف وهم في خلوتهم يتأمرون على أخيهم للتخلص منه فقالوا { اقتلوا يوسف } بإِزهاق روحه ، { أو اطرحوه } في أرض بعيده ألقوه فيها فيهلك وتتخلصوا منه بدون قتل منكم ، وبذلك { يخل لكم وجه أبيكم } حيث كان مشغولا بالنظر إلى يوسف ، ويحبكم وتحبونه وتتوبوا إلى الله من ذنب إبعاد يوسف عن أبيه ، وتكونوا بعد ذلك قوماً صالحين حيث لم يبق ما يورثكم ذنباً أو يكسبكم إثماً . وقوله تعالى { قال قائل منهم } يخبر تعالى عن قيل إخوة يوسف لبعضهم البعض وهم يتشاورون في شأن يوسف وكيف يبعدونه عن أبيهم ورضاه عنهم قال قائل منهم هو يهوداً أو روبيل وكان أخاه وابن خالته وكانأكبرهم سنا وأرجحهم عقلا قال : لا تقلتلوا يوسف ، لأن القتل جريمة لا تطاق ولا ينبغي ارتكابها بحال ، والقوه في غيابة الجب أي في ظلمة البئر ، وهي بئر معروفة في ديارهم بأرض فلسطين يلتقطه بعض السيارة من المسافرين إن كنتم فاعلين شيئا إزاء أخيكم فهذا أفضل السبل لذلك .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- الميل إلى أحد الأبناء بالحب يورث العداوة بين الإِخوة .
2- الحسد سبب لكثير من الكوارث البشرية .
3- ارتكاب أخف الضررين قاعدة شرعية عمل بها الأولون .
4- الشفقة والمحبة في الشقيق أكبر منها في الأخ للأب .
(2/200)
________________________________________
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)
شرح الكلمات :
{ لناصحون } : لمشفقون عليه نحب له الخير كما نحبه لأنفسنا .
{ يرتع ويلعب } : أي يأكل ويشرب ويلعب بالمسابقة والمناضلة .
{ إني ليحزنني } : أي يوقعني في الحزن الذي هو ألم النفس أي ذهابكم به .
{ الذئب } : حيوان مفترس خداع شرس .
{ ونحن عصبة } : أي جماعة قوية .
{ لخاسرون } : أي ضعفاء عاجزون عرضة للخسران بفقدنا أخانا .
معنى الآيات :
ما زال السياق في قصة يوسف إنهم بعد ائتمارهم واتفاقهم السري على إلقاء يوسف في غيابة الجب طلبوا من أبيهم أن يترك يوسف يخرج معهم إلى البر كعاتهم للنزهة والتنفه وكأنهم لاحضوا عدم ثقة أبيهم فيهم فقالوا له { ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون } أي محبون له كل خير مشفقون عليه أن يمسه أدنى سوء . { أرسله معنا غداً يرتع ويلعب } أي يرتع في البادية يأكل الفواكه ويشرب الألبان ويأكل اللحوم ويلعب بما نلعب به من السباق والمناضلة ، والمصارعة ، { وإنا له لحافظون } من كل ما قد يضره أو يُسئُ إليه . فأجابهم عليه السلام قائلا { إن يليحزنني أن تذهبوا به } أي إنه ليوقعني في الحزن وآلامه ذهابكم به . { وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون } في رتعكم ولعبكم . فأجابوه قائلين { والله لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذاً لخاسرون } أي لا خير في وجودنا ما دمنا نُغلب على أخينا فيأكله الذئب بيننا . ومع الأسف فقد اقنعوا بهذا الحديث والدهم وغداً سيذهبون بيوسف لتنفيذ مؤامرتهم الدنية .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير قاعدة : لا حذر مع القدر أي لا حذر ينفع في ردّ المقدور .
2- صدق المؤمن يحمله على تصديق من يحلف له ويؤكد كلامه .
3- جواز الحزن وأنه لا إثم فيه وفي الحديث « وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون » .
4- أكل الذئب للإِنسان إن أصاب منه غفلة واقع وكثير أيضا .
(2/201)
________________________________________
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
شرح الكلمات :
{ وأجمعوا } : أي أمرهم على إلقائه في غيابة الجب .
{ في غيابة الجب } : أي في ظلمة البئر .
{ وأوحينا إليه } : أي أعلمناه بطريق خفي سريع .
{ عشاء } : أي بعد غروب الشمس أول الليل .
{ نستبق } : أي بالمناضلة .
{ عند متاعنا } : أي أمتعتنا من ثياب وغيرها .
{ وما أنت بمؤمن لنا } : أي بمصدّق لنا .
{ بدم كذب } : أي بدم مكذوب أي دم سخلة وليس دم يوسف .
{ بل سولت لكم } : أي زينت وحسنت .
{ على ما تصفون } : أي من الكذب .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في الإِخبار عما عزم عليه إخوة يوسف أن يفعلوه فقد أقنعوا والدهم يوم أمس على إرسال يوسف معهم إلى البر وها هم أولاء وقد أخذوه معهم وخرجوا به ، وما إن بعدوا به حتى تغّيرت وجوههم عليه وصار يتلقى الكلمات النابية والوكز والضرب أحيانا ، وقد أجمعوا أمرهم على إلقائه في بئر معلومة لهم في الصحراء ، ونفذوا مؤامرتهم وألقوا أخاهم وهو يبكي بأعلى صوته وقد انتزعوا منه قميصه وتركوه مكتوفا في قعر البئر . وهنا أوحى الله تعالى إليه أي أعلمه بما شاء من وسائط العلم انه سينبئهم في يوم من الأيام بعملهم الشنيع هذا وهو معنى قوله تعالى في السياق { وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون } وبعد أن فرغوا من أخيهم ذبحوا سخلة ولطخوا بدمها قميصه ، وعادوا إلى أبيهم مساء يبكون يحملون الفاجعة إلى أبيهم الشيخ الكبير قال تعالى { وجاءوا أباهم عشاء } أي ليلا { يبكون } وقالوا معتذرين { يا أبانا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا } أي بمصدق لنا { ولو كنا صادقين } وقد دلت عباراتهم على كذبهم قال تعالى { وجاءوا على قميصه بدم كذب } أي ذي كذب أو مكذوب إذ هو دم سخلة ذبحوها فأكلوها ولطخوا ببعض دمها قميص يوسف أخيهم ونظر يعقوب إلى القميص وهو ملطخ بالدم الكذب ولم يكن به خرق ولا تمزيق فقال إن هذا الذئب لحليم إذ أكل يوسف ولم يخرق ثوبه ، ثم قال ما أخبر تعالى عنه بقوله { قال بل سولت لكم أنفسكم أمراًؤ أي لم يكن الأمر كما وصفتم وادعيتم وإنما سولت لكم أنفسكم أمراً فنفذتموه . { فصبر جميل } أي فأمري صبر جميع والصبر الجميل هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى معه . { والله المستعان على ما تصفون } أي من الكذب .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- جواز صدور الذنب الكبير من الرجل المؤمن المهيء للكمال مستقبلا .
2- لطف الله تعالى بيوسف وإكرامه له بإِعلامه إياه أنه سينّبىء إخوته بفعلتهم هذه وضمن ذلك بشره بسلامة الحال وحسن المآل .
3- اختيار الليل للاعتذار دون النهار لأن العين تستحي من العين كما يقال . وكما قيل « كيف يرجوا الحياء منه صديق . . . ومكان الحياء منه خراب . يريد عينيه لا تبصران .
4- فضيلة الصبر الجميل وهو الخالي من الجزع والشكوى معاً .
(2/202)
________________________________________
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
شرح الكلمات :
{ سيارة } : رُفْقَة من الناس تسير مع بعضها بعضا .
{ واردهم } : أي الذين يرد لهم الماء .
{ فأدلى دلوه } : أي دلى دلوه في البئر .
{ وأسروه بضاعة } : أي أخفوه كبضاعة من البضائع .
{ وشروه بثمن بخس } : أي باعوا بثمن ناقص .
{ وقال الذي اشتراه } : أي الرجل الذي اشتراه واسمه قطفير ولقبه العزيز .
{ اكرمي مثواه } : أي أكرمي موضع إقامته بمعنى اكرميه وأحسني إليه .
{ أو نتخذه ولدا } : أي نتبناه فقال ذلك لأنه لم يكن يولد له .
{ من تأويل الأحاديث } : أي تعبير الرؤيا .
{ ولما بلغ أشده } : أي قوته البدنية والعقلية .
{ حكما وعلما } : أي حكمة ومعرفة أي حكمة في التدبير ومعرفة في الدين .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في الحديث عن يوسف وإخوته إنه لما ألقى يوسف في الجب وترك هناك جاءت قافلة من بلاد مدين تريد مصر فأرسلوا وارداً لهم يستقي لهم الماء فأدلى دلوه في البئر فتعلق به يوسف فخرج معه وما إن رآه المدلي حتى صاح قائلا يا بشراي هذا غلام وكان إخوة يوسف يترددون علىلبئر يتعرفون على مصير أخيرهم فلما رأوه بأيدي الوارد ورفقائه قالوا لهم هذا عبد لنا أبق ، وإن رأيتم شراءه بعناه لكم فقالوا ذاك الذي نريد فباعوه لهم بثمن ناقص وأسره الذين اشتروا أي أخفوه عن رجال القافلة حتى لا يطالبوهم بالاشتراك فيه معهم ، وقالوا هذه بضاعة كلفنا أصحاب الماء بإِيصالها إلى صاحبها بمصر . هذا ما دل عليه قوله تعالى { وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة } { وشروه بثمن بخس دراهم معدودة } .
وكونها معدودة غير موزونة دال على قلتها { وكانوا فيه من الزاهدين } أي إخوته لا الذين اشتروه . ولما وصلوا به مصر باعوه من وزير يقال له قطفير العزيز فتفرس فيه الخير فقال لا مرأته زليخا أكرمي مقامه بيننا رجاء أن ينفعنا في الخدمة أو نبيعه بثمن غال ، أو نتخذه ولداً حيث نحن لا يولد لنا . هذا معنى قوله تعالى { وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً } قال تعالى . { وكذلك مكّنا ليوسف في الأرض } أي وكما نجيناه من القتل والجب والعطفنا عليه العزيز مكّنا له في الأرض فيما بعد فصار ملك مصر بما فيها يحكمها ويسوسها بالعد والرحمة ، وقوله تعالى { ولنعلمه من تأويل الأحاديث } أي ولنعلمه تعبير الرؤا من أحاديث الناس ومايقصونه منه . وقوله تعالى { والله غالب على أمره } أي على أمر يوسف فلم يقدر إخوته أن يبلغوا منه مرادهم كما هو تعالى غال بعلى كل أمر أراده فلا يول بينه وبين مراده أحد وكيف وهو العزيز الحكيم . وقوله { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } إذ لو علموا لفوضوا أمرهم إليه وتوكلوا عليه ولم يحاولوا معصيته بالخروج عن طاعته .
(2/203)
________________________________________
وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يجد من أقربائه من أذى إذ يوسف ناله الأذى من أخوته الذين هم أقرب الناس إليه بعد والديه . وقوله تعالى { ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلما وكذلك نجزي المحسنين } أي ولما بلغ يوسف اكتمال قوته البدنية بتجاوز سن الصبا إلى سن الشباب وقوته العقلية بتجاوزه سن الشباب إلى سن الكهولة آتيناه حكماً وعلما أي حكمة وهي الإِصابة في الأمور وعلما وهو الفقه في الدين ، وكما آتينا يوسف الحكمة والعلم نجزي المحسنين طاعتنا بالصبر والصدق وحسن التوكل وفي هذا بشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحسن العاقبة وأن الله تعالى سينصره على أعدائه ويمكن له منهم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- جواز الفرح بما يسر والإِعلان عنه .
2- جوازالاحتياط لأمر الدين والدنيا .
3- اطلاق لفظ الشراء على البيع .
4- نسخ التبنّي في الإِسلام .
5- معرفة تعبير الرؤا كرامة لمن علّمه الله ذلك .
6- من غالب الله غُلِبَ .
7- بلوغ الأشد يبتدى بانتهاء الصبا والدخول البلوغ .
8- حسن الجزاء مشروط بحسن القصد والعمل .
(2/204)
________________________________________
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
شرح الكلمات :
{ راودته } : أي طالبته لحاجتها تريد أن ينزل عن إرادته لإِرادتها وهو يأبى .
{ التي هو في بيتها } : أي زليخا امرأة العزيز .
{ وغلّقت الأبواب } : أغلقتها بالمغّاليق .
{ هيت لك } : أي تعال عندي .
{ معاذ الله } : أي أعوذ بالله أي أتحصن وأحتمي به من فعل ما لا يجوز .
{ أحسن مثواي } : أي إقامتي في بيته .
{ همت به } : أي لتبطش به ضربا .
{ وهم بها } : أي ليدفع صولتها عليه .
{ برهان ربّه } : ألهمه ربّه أن الخير في عدم ضربها .
{ السوء والفحشاء } : السوء ما يسوء وهو ضربها ، والفحشاء الخصلة القبيحة .
{ المخلصين } : أي الذين استخلصناهم لولايتنا وطاعتنا ومحبتنا .
{ وقدت قميصه } : أي قطعته من وراء .
{ وألفيا سيدها } : أي وَجَدَا العزيز زوجها وكانوا يطلقون على الزوج لفظ السيد لأنه يملك المرأة .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في الحديث عن يوسف وام جرى له من أحداث في بيت العزيز الذي اشتراه إنه ما إن أوصى العزيز امرأته بإِكرام يوسف حتى بادرت إلى ذلك فأحسنت طعامه وشرابه ولباسه وفراشه ، ونظراً إلى ما تجلبه الخلوة بين الرجل والمرأة من إثارة الغريزة الجنسية لا سيما إذا طالت المدة ، وأمن الخوف وقلت التقوى حتى راودته بالفعل عن نفسه أي طلبت منه نفسه ليواقعها بعد أن اتخذت الأسباب المؤمنّة حيث غلّقت أبواب الحجرة والبهو والحديقة ، وقالت تعالى إليّ . وكان رد يوسف على طلبها حازماً قاطعا للمع وهذا هو المطلوب في مثل هذا الموقف قال تعالى مخبراً عما جرى في القصر حيث لا يعلم أحدٌ من الناس ما جرى وما تم فيه من أحداث . { وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلّقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون } . إنها بعد أن اتخذت كل ما يلزم للحصول على رغبتها منه أجابها قائلا { إنه ربي أحسن مثواي } يريد العزيز أحسن إقامتي فكيف أخونه في أهله . وفي نفس الوقت أن سيده الحق الله جل جلاله قد أحسن مثواه بما سخّر له فكيف يخونه فيما حرم عليه . وقوله إنه لا يفلح الظالمون تعليل ثان فالظلم بِوَضْع الشيء في غير موضعه يخيب في سعيه ويخسر في دنياه وأُخراه فكيف أرضى لنفسي ولَكَ بذَلك وقوله تعالى { ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربُه } أي همت بضربه لامتناعه عن إجابتها لطلبها بعد مراودات طالت مدتها ، وهم هو بها أي بضربها دفعاً عن نفسه إلا إنه أراه الله برهاناً في نفسه فلم يضربها وآثر الفرار إلى خارج البيت ، ولحقته تجري وراءه لترده خشية أن يعلم أحد بما صنعت معه . واستبقا الباب هو يريد الخروج وهي تريد رده إلى البيت خشية الفضيحة وأخذته من قميصه فقدته أى شقته من دُبر أي من وراء لأنه أمامها وهي وراءه .
(2/205)
________________________________________
وقوله تعالى : { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء } أي هكذا نصرف عن يوسف السوء فلا يفعله والفحشاء فلا يقربها ، وعلل لذلك بقوله إنه من عبادنا المخلصين أي الذين استخلصناهم لعبادتنا ومحبتنا فلا نرضى لهم أن يتلوثوا بآثار الذنوب والمعاصي . وقوله تعالى { وألفيا سيّدها لدى الباب } أي ووجدا زوجها عند الباب جالساً في حال هروبه منها وهي تجرى وراءه حتى انتهيا إلى الباب وإذا بالعزيز جالس عنده فخافت المعرة على نفسها فبادرت بالاعتذار قائلة ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أي يوما أو يومين ، أو عذاب أليم يكون جزاءاً له كأن يضرب ضربا مبرحا .
(2/206)
________________________________________
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
شرح الكلمات :
{ وشهد شاهد من أهلها } : أي ابن عمها .
{ قُدَّ من قُبل } : أي من قدام .
{ قدَّ من دبُر } : أي من وراء أي من خلف .
{ إنه من كيدكن } : أي قولها ، ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً .
{ يوسف أعرض عن هذا } : أي عن هذا الأمر ولا تذكره لكيلا يشيع .
{ من الخاطئين } : المرتكبين للخطايا الآثمين .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الحديث عن يوسف وأحداث القصة فقد ادعت زليخا أن يوسف راودها عن نفسها وطالبت بعقوبة فقالت { ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم } وهنا رد يوسف ما قذفته به ، ولولا أنها قذفته ما أخبرعن مراودتها إياه فقال ما أخبر تعالى به في هذه الآيات { هي راودتني عن نفسي } وهنا انطق الله جل جلاله طفلاً رضيعاً إكراما لعبده وصفيّه يوسف فقال هذا الطفل والذي سماه الرسول صلى الله عليه وسلم شاهد يوسف { إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين ، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين } هذا ما قضى به الشاهد الصغير . { فلما رأى قميصه قد من دبر قال } . { إنه } أي قولها { ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً } { من كيدكن } أي من صنيع النساء { إن كيدكن عظيم } ، ثم قال ليوسف يا يوسف { أعرض عن هذا } الأمر ولا تذكره لأجد لكيلا يفشوا فيضر . وقال لزليخا { استغفري لذنبك } أي اطلب العفو من زوجك ليصفح عنك ولا يؤاخذك بما فرط منك من ذنب إنك كنت من الخاطئين أي الآثمين من الناس هذا ما تضمنته الآية الأربع في هذا السياق الكريم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- مشروعية الدفاع عن النفس ولو بما يُسئُ إلى الخصم .
2- إكرام الله تعالى لأوليائه حيث أنطق طفلا في المهد فحكم ببراءة يوسف .
3- تقرير أن كيد النساء عظيم وهو كذلك .
4- استحباب الستر على المسيء وكراهية إشاعة الذنوب بين الناس .
(2/207)
________________________________________
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
شرح الكلمات :
{ في المدينة } : أي عاصمة مصر يومئذ .
{ تراود فتاها } : أي عبدها الكنعاني .
{ قد شغفها حبا } : أي دخل حبّه شغاف قلبها أي أحاط بقلبها فتملكه عليها .
{ إنا لنراها في ضلال مبين } : أي في خطأ بيّن بسبب حبها إياه .
{ فلما سمعت بمكرهن } : أي بما تحدثن به عنها في غيبتها .
{ وأعتدت لهن متكئا } : أي وأعدت لهن فراشا ووسائد للاتكاء عليها .
{ أكبرنه } : أي أعظمنه في نفوسهن .
{ فذلك الذي لمتنني فيه } : أي قلتن كيف تحب عبداً كنعانياً .
{ فاستعصم } : أي امتنع مستمسكا بعفته وطهارته .
{ الصاغرين } : الذليلين المهانين .
{ أصب إليهن } : أمل إليهن .
{ وأكن من الجاهلين } : أي المذنبين إذ لا يذنب إلا من جهل قدرة الله واطلاعه عليه .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في قصة يوسف إنه بعد الحكم الذي أصدره شاهد يوسف عليه السلام انتقلالخبر إلى نساء بعض الوزراء فاجتمعن في بيت إحداهن وتحدثن بما هو لوم لامرأة العزيز حيث راودت عبداً لها كنعانياً عن نفسه وهو ما أخبر تعالى عنه في الآيات الآتية قال تعالى { وقال نسوة في المدينة } أي عاصمة مصر يومئذ { امرأة العزيز تراود فتاها } أي عبدها { عن نفسه قد شغفها حبا } أي قد بلغ حبها إياه شغفا قلبها أي غشاءه . { إنا لنراها { أي نظنها { في ضلال مبين } أي خطأ واضح : إذ كيف تحب عبداً وهي من هي في شرفها وعلّو مكانتها . قوله تعالى { فلام سمعت بمكرهن } أي ما تحدثن به في غيبتها { أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وآتت كل واحدة منهن سكينا } أي فقابلت مكرهن بمكر أعظم منه فأعدت لهن حفلة طعام وشراب فلما أخذن في الأكل يقطعن بالسكاكين الفواكه كالأتراج وغيره أمرته أن يخرج عليهن ليرينه فيعجبن برؤيته فيذهلن عن أنفسهن ويقطعن أيديهن بدل الفاكهة التي يقطعنها للأكل وبذلك تكون قد دفعت عن نفسها المعرة والملامة ، وهذا ما جاء في قوله تعالى { وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاشا لله ما هذا بشرا } أي إنسان من الناس . { إن هذا إلا ملك } أي ما هذا إلا ملك { كريم } وذلك لجماله وما وهبه الله تعالى من حسن وجمال في خلقه وخلقه . وهنا قالت ما أخبر تعالى به في قوله { قالت فذلكن الذي لمتنني فيه } أي هذا هو التفي الجميل الذي لمتنني في حبه ومراودته عن نفسه { ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } أي راودته فعلا وامتنع عن أجابتي . { ولئن لم يفعل ما آمره } أي به مما أريده منه { ليسجنن وليكونن من الصاغرين } أي الذليلين المهانين . وهكذا اسمعته تهديدها أمام النسوة المعجبات به . ومن هنا فزع يوسف إلى ربّه ليخلصه من مكر هذه المرأة وكيدها فقال ما أخبر تعالى به عنه { قال ربّ السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه } أي يا رب فلا عد كلامه هذا سؤالاً لربه ودعاء السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه من الإِثم ، { وإلاّ تصرف عني كيدهن } أي كيد النسوة { أصب إليهن } أي أَمِلْ إليهن { وأكن } أي بفعل ذلك { من الجاهلين } أي الآثمين بارتكاب معصيتك .
(2/208)
________________________________________
وها ما لا أريده وهو مافررت منه { فاستجاب له ربه } أي أجابه في دعائه وصرف عنه كيدهن إنه تعالى هو السميع لأقوال عباده ودُعَاءِ عبده وصفيه يوسف عليه السلام العيلم بأحوال وأعمال عباده ومنهم عبده يوسف . ولذا استجاب له فطمأنه وأذهب الألم ألم الخوف من نفسه ، وله الحمد والمنة .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان طبيعة الإِنسان في حب الاطلاع وتتبع الأخبار .
2- رغبة الإِنسان في الثأر لكرامته ، وما يحميه من دم أو مال أو عرض .
3- ضعف النساء أمام الرجال ، وعدم قدرتهن على التحمل كالرجال .
4- إيثار يوسف عليه السلام السجن على معصية الله تعالى وهذه مظاهر الصديقية .
5- الجهل بالله تعالى وبأسمائه وصفاته ووعده ووعيده وشرعه هو سبب كل الجرائم في الأرض .
(2/209)
________________________________________
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
شرح الكلمات :
{ ثم بدا لهم } : أي ظهر لهم .
{ الآيات } : أي الدلائل على براءة يوسف .
{ أعصر خمرا } : أي أعصر عنباً ليكون خمرا .
{ واتبعت ملة } : أي دين .
{ ما كان لنا } : أي ما انبغى لنا ولا صح منّا .
{ أن نشرك بالله من شيء } : أي أن أشرك بالله شيئا من الشرك وإن قل ولا من الشركاء وإن عظموا أو حقروا .
{ ذلك من فضل الله علينا } : أي ذلك التوحيد والدين الحق .
{ وعلى الناس } : إذ جاءتهم الرسل به ولكنهم ما شكروا فلم يتبعوا .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الحديث عن يوسف عليه السلام وما حدث له بعد ظهور براءتة من تهمة امرأة العزيز قال تعالى { ثم بدا لهم نم بعد ما رأوا الآية ليسجننه حتى حين } أي ثم ظهر للعزيز ومن معه من بعد ما رأوا الدلائل الواضحة على براءة يوسف وذلك كقدّ القميص من دُبر ونطق الطفل وحكمه في القضية بقوله { إن كان قميصه } الخ وهي أدلة كافية في براءة يوسف إلا أنهم رأوا سجنه إلى حين ما ، أي ريثما تسكن النفوس وتنسى الحادثة ولم يبق لها ذكر بين الناس . وقوله تعالى { ودخل معه السجن فتيان } أي فقرروا سجنه وادخلوه لاسجن ودخل معه فتيان أي خادمان كانا يخدمان ملك البلاد بتهمة وجهت إليهما . وقوله تعالى { قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين } وكان هذا الطلب منهما بعد أن أعجبا بسلوكه مع أهل السجن وحسن معاملته وسألاه عن معارفه فأجابهم بأنه يعرف تعبير الرؤيا فعندئذ قالا هيا نجربه فندعي أنا رأينا كذا وكذا وسألاه فأجابهما بما أخبر تعالى به في هذه الآيات : { قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما } ولالفظ محتمل لما يأتيهما في المنام أو اليقظة وهو لما علمه الله تعالى يخبرها به قبل وصوله إليهما وبما يؤول إليه ، وعلل لهما مبيّناً سبب علمه هذا بقوله { ذلكما مما علّمني ربّي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة كافرون } وهم الكنعانيون والمصريون إذ كانوا مشركين يعبدون الشمس ويعقوب ، ثم واصل حديثه معهما دعوة لهما إلى الإِيمان بالله والدخول في الإِسلام فقال { ما كان لنا } أي ما ينبغي لنا أن نشرك بالله من شيء فنؤمن به ونَعْبُدُه معه ، ثم أخبرهما أن هذا لم يكن باجتهاد منهم ولا باحتيال ، وإنما هو من فضل الله تعالى عليهم ، فقال ذلك من فضل الله علينا ، وعلى الناس إذ خلقهم ورزقهم وكلأهم ودعاهم إلى الهدى وبيذنه لهم ولكن أكثر الناس لا يشركون فيهم لا يؤمنون ولا يعبدون .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- دخل يوسف السجن بداية أحداث ظاهرها محرق وباطنها مشرق .
2- دخول السجن ليس دائما دليلا على أنه بيت المجرمين والمنحرفين إذ دخله صفيٌ لله تعالى يوسف عليه السلام .
3- تعبير الرؤى تابع لصفاء الروح وقوة الفراسة وهي في يوسف علم لدني خاص .
4- استغلال المناسبات للدعوة إلى الله تعالى كما استغلها يوسف عليه السلام .
5- وجوب البراءة من الشرك وأهله .
6- اطلاق لفظ الآباء على الجدود إذ كل واحد هو أب لمن بعده .
(2/210)
________________________________________
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
شرح الكلمات :
{ يا صاحبي السجن } : أي يا صاحبي في السجن وهما الفتيان صاحب طعام الملك وصاحب شرابه .
{ أأرباب متفرقون } : أي آلهة متفرقون هنا وهناك أي في ذواتهم وصفاتهم وأماكنهم .
{ من دونه } : أي من دون الله سبحانه وتعالى .
{ إلا أسماء } : أي مجرد اسم إله ، وإلا في الحقيقة هو ليس بإِله إنما هو صنم .
{ ما أنزل الله بها من سلطان } : أي لم يأمر الله تعالى بعبادتها بأي نوع من أنواع العبادة .
{ فيسقي ربه خمرا } : أي يسقي سيده الذي هو ملك البلاد شراب الخمر .
{ فيصلب } : يقتل مصلوباً على خشبة كما هي عادة القتل عندهم .
{ قضي الأمر } : أي فرغ منه وبتّ فيه .
{ ظن انه ناج منهما } : أي أيقن إنه محكوم ببراءته .
{ أذكرني عند ربك } : أي أذكرني عند الملك بأني مسجون ظلما بدون جريمة .
{ فأنساه الشيطان ذكر ربه } : أي أنسى الشيطان يوسف ذكر ربّه تعالى .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في الحديث عن يوسف وهو في السجن لقد سبق أن استعبر الفتيان يوسف رؤياهما أي طلبا منه أن يعبرها لما علما منه أنه يعبر الرؤى غير أن يوسف استغل الفرصة وأخذ يحدثهما عن أسباب علمه بتعبير الرؤى وأنه تركه لملّة الكفر وإيمانه بالله تعالى وحده وأنه في ذلك متّبع ملة آبائه ابراهيم واسحق ويعقوب ، وانه لا ينبغي لهم أن يشركوا بالله وفي هذا تعريض بما عليه أهل السجن من الشرك بالله تعالى بعبادة الأصنام ، وواصل حديثه داعياً إلى الله تعالى فقال ما أخبر به تعالى في هذا السياق { يا صاحبي السجن آرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } فخاطب صاحبيه يا صاحبي السجن أخبراني واصدقاني : آرباب أي آلهة متفرقون هنا وهناك ، هذا صنم وهذا كوكب ، وهذا إنسان ، وهذا حيوان ، وهذا لونه كذا وهذا لونه كذا خير أم الله الواحد في ذاته وصفاته القهار لكل ما عداه من عداه من سائر المخلوقات ، ولم يكن لهم من جواب سوى { الله الواحد القهار } إن العقل يقضي بهذا . ثم خاطب أهل السجن كافة فقال { ما تعبدون من دونه } أي من دون الله الواحد القهار { إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم } إنها مجرد أسماء لا غير إذ كونكم تطلقون لفظ إله أو رب على صنم أو كوكب مرسوم لهصورة لا يكون بذلك ربّاً وإلهاً إن الرب هو الخالق الرازق المدبر أما المخلوق المرزوق الذي لا يملك نفعا ولا ضراً لنفسه فضلا غن غيره فإِطلاق الربّ والإِله عليه كذب وزور ، إنّها أسماء ما أنزل الله بها من سلطان حجة ولا برهاناً فتعبد لذلك بحكم أن الله أمر بعبادتها . ثم قال لهم { إن الحكم إلا الله } أي ما الحكم إلا الله ، وقد حكم بأن لا يعبد إلا هو ، إذاً فكل عبادة لغيره هي باطلة يجب تركها والتخلي عنها ، ذلك الدين القيم أخبرهم أن عبادة الله وحده وترك عبادة غيره هي الدين القويم والصراط المستقيم إلا أن أكثر الناس لا يعلمون فجهلهم بمعرفة ربهم الحق الذي خلقهم ورزقهم ويدبر حياتهم وإليه مرجعهم هو الذي جعلهم يعبدون ما ينحتون ويؤلهون ما يصنعون .
(2/211)
________________________________________
ولما فرغ من دعوته إلى ربّه التفت إلى من طلبا منه تعبير رؤياهما فقال : ما أخبر تعالى به عنه { يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربّه خمرا } أي سيطلق سراحه ويعود إلى عمله عند الملك فيسقيه الخمر كما كان يسقيه من قبل ، وأما الآخر وهو طباخ الملك المتهم بأنه أراد أن يضع في طعام الملك السم ليقتله ، فيصلب فتأكل الطير من رأسه بعد صلبه . وهنا قالا : إننا لم نر شيئا وإنما سألناك لنجربك لا غير فرد عليهما قائلا { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } أي فرغ منه وبُت فيه رأيتما أم لم تريا . ثم قال للذي ظن أنّه ناج منهما ما أخبر تعالى به عنه { اذكرني عند ربك } أي عند سيدك وكانوا يطلقون على السيد المالك لفظ الربّ . فأنساه الشيطان ذكر ربّه أي أنسى الشيطان يوسف عليه السلام ذكر ربّه تعالى حيث التفت بقلبه إلى الخادم والملك ونسى الله تعالى فعاقبه ربّه الحق فلبث في السجن بضع سنين أي سبع سنوات عداً ،
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- وجوب اغتنام الفرص للدعوة إلى الله تعالى .
2- تقرير التوحيد عن طريق أحاديث السابقين .
3- لا حكم في شيء إلا بحكم الله تعالى فالحق ما أحقه الله والباطل ما أبطله والدين ما شرعه .
4- مشروعية الاستفتاء في كل مشكل من الأمور .
5- غفلة يوسف عليه السلام بإِقباله على الفتى وقوله له اذكرني عند ربك ناسياً مولاه الحق ووليه الذي أنجاه من القتل وغيابة الجب ، وفتنة النساء جعلته يحبس في السجن سبع سنين .
(2/212)
________________________________________
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
شرح الكلمات :
{ الملك } : ملك مصر الذي العزيز وزير من وزرائه واسمه الريان بن الوليد .
{ سبع عجاف } : هزال غير سمان .
{ يا أيها الملأ } : أيها الأشراف والأعيان من رجال الدولة .
{ أفتوني في رؤياي } : أي عبروها لي .
{ أضغاث أحلام } : أي أخلاط أحلام كاذبة لا تعبير لها إلا ذاك .
{ وادّكر بعد امة } : أي وتذكر بعد حين من الزمن أي قرابة سبع سنين .
{ يوسف أيها الصديق } : أي يا سوسف أيها الصديق أي يا كثير الصدق علم ذلك منه في السجن .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في الحديث عن يوسف وهو في محنته إنه لما قارب الفرج أوانه رأى ملك مصر رؤيا أهالته وطلب من رجال دولته تعبيرها ، وهو ما أخبر تعالى به في هذه الآيات إذ قال عز وجل : { وقال الملك أي ملك البلاد أني أرى أي في منامي سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات عجاف } أي مهازيل في غاية الهزال . { وسبع سنبلات خضر وأخر أي سنبلات يابسات . ثم واجه رجال العلم والدولة حوله وقد جمعهم لذلك فقال { يا أيهال الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون } أي تؤولون . فأجابوه بما أخبر تعالى عنهم بقوله { قالوا أضغاث أحلام } أي رؤياك هذه هي من أضغاث الأحلام التي لا تعبر ، إذ قالوا { وما نن بتأويل الأحلام بعالمين } والمراد من الأضغاث الأخلاط وفي الحديث الصحيح « الرؤيا من الرحمن والحلم من الشيطان » وقوله تعالى { وقال الذي نجا منهما } أي من صاحبي السجن ، { وادّكر بعد امة } أي وتذكر ما أوصاه به يوسف وهو يودعه عند باب السجن إذ قال له { اذكرني عند ربك } بعد حين من الزمن قرابة سبع سنوات . قال ما أخبر تعالى به عنه رأنا أنبئكم بتأويله فارسلون } أي إلى يوسف في السجن فإِنه أحسن من يعبر الرؤى فأرسوله فدخل عليه وقال ما أخبر به تعالى عنه في قوله { يوسف } أي يا يوسف { أيها الصديق افتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات } وقوله { لعلي أرجع إلى الناس } أي الملك ورجاله { لعلهم يعلمون } أي ما تعبرها به أنت فينتفعون بذلك .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- جواز الرؤيا الصالحة يراها الكافر والفاسق .
2- الرؤى نوعان حلم من الشيطان ، ورؤيا من الرحمن .
3- النسيان من صفات البشر .
4- جواز وصف الإِنسان بما فيه من غير إطراء كقوله أيها الصديق .
5- لعل تكون بمعنى كي التعليلية .
(2/213)
________________________________________
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
شرح الكلمات :
{ دأبا } : أي متتابعة على عادتكم .
{ فذروه في سنبله } : أي اتركوه في سنبله لا تدرسوه .
{ سبع شداد } : أي صعاب قاسية لما فيها من الجدب .
{ بما تحصنون } : أي تحفظونه وتدخرونه للبذر والحاجة .
{ يغاث الناس } : أي يُغيثهم ربهم بالأمطار وجريان النيل .
{ وفيه يعصرون } : أي ما من شأنه أن يعصر كالزيتون والعنب وقصب السكر .
معنى الآيات :
قوله تعالى { قال تزرعون } إلى آخره هو جواب يوسف للذي استفتاه أي طلب منه تعبير رؤيا الملك قال له في بيان تأويل الرؤيا تزرعون بمعنى ارزعوا سبع سنين دأبا أي متتالية كعادتكم في الزرع كل سنة وهي تأويل السبع البقرات السمان ، فما تحصدتم من رزوع فذروه في سنبله أي اتركوه بدون درس حتى لا يفسد إلا قليلا مما تأكلون أي فادرسوه لذلك . ثم يأتي بعد ذلك أي من بعد المخصبات سبع شداد أي مجدبات صعاب وهي تأويل السبع البقرات العجاف يأكلن ما قدمتم لهن ما قدمتم لهن أي من الحبوب التي احتفظتم بها من السبع المخصبات يريد تأكلونه فيهن إلا قليلا مما تحصنون أي تدخرونه للبذور ونحوه . ثم يأتي بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون أي يأتي من بعد السبع النسين المجدبات عام فيه يغاث الناس بالمطر وفيه يعصرون العنب والزيت وكل ما يعصر لوجود الخصب فيه . وقوله ثم يأتي من بعذ ذلك عام الخ . هذا لم تدل عليه الرؤيا وإنما هو مما علّمه الله تعالى يوسف فأفادهم به من غير ما سألوه ذلك إحساناً ذلك إحساناً منه ولحكمة عالية أرادها الله تعالى . وهو الحكيم العليم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- أرض مصر أرض فلاحة وزراعة من عهدها الأول .
2- الاحتفاظ بالفائض في الصوامع وغيرها مبدأ اقتصادي هام ومفيد .
3- كمال يوسف في حسن تعبير الرؤى شيء عظيم .
4- فضل يوسف عليه السلام على أهل مصر حيث أفادهم بأكثر مما سألوا .
(2/214)
________________________________________
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
شرح الكلمات :
{ وقال الملك ائتوني به } : أي بيوسف .
{ فلما جاءه الرسول } : أي مبعوث الملك .
{ ارجع إلى ربّك } : أي سيدك .
{ ما بال النسوة } : ما حالهن .
{ ما خطبكن } : ما شأنكن .
{ حاش لله } : أي تنزيهاً لله تعالى عن العجز أن يخلق بشراً عفيفا .
{ حصص الحق } : وضح وظهر الحق .
معنى الآيات :
إن رؤيا كانت تدبيرا من الله تعالى لإِخراج يوسف من السجن إنه بعد أن رآى الملك الرؤيا وعجز رجاله عن تعبيرها وتذكّر أحد صاحبي السجن وما وصّاه به يوسف ، وطلب من الملك أن يرسله إلى يوسف في السجن ليستفتيه في الرؤيا وأرسوله واستفتاه فأفتاه وذهب به إلى الملك فأعجبه التعبير وعرف مدلوله أمر بإِحضار يوسف لإِكرامه لما ظهر له من العلم والكمال وهو ما أخبر تعالى به في قوله { وقال الملك ائتوني به } أي يوسف { فلما جاءه الرسول } أي جاء يوسف رسول الملك وهو صاحبه الذي كان معه في السجن ونجا من العقوبة وعاد إلى خدمة الملك فقال له إن الملك يدعوك فقال له عد إليه وأسأله { ما بال النسوة التي قطّعن أيديهن } أي قل له يسأل عن حال النسوة اللائي قطعن أيديهن والمرأة التي اتهمتني فجمع الملك النسوة وسألهن قائلا ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ فأجبن قائلات حاش لله ما علمنا عليه من سوء أي نُنَزِهُ الله تعالى أن يعجز أن يخلق بشرا عفيفا مثل هذا . ما علمنا عليه من سوء . وهنا قالت امرأة العزيز زليخا ما اخر تعالى به عنها { الآن حصص الحق } أي وضح وبان وظهر { أنا راودته عن نفسه } وليس هو الذي راودني ، { وإنه لمن الصادقين } وقوله تعالى { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } هذا إخبار عن يوسف عليه السلام فإِنه قال ذلك أي امتناعي من الخروج من السجن وعدم إجابتي الملك وطلب إليه أن يسأل عن حال النسوة حتى تم الذي تم من براءتي على لسان النسوة عامة ، وامرأة العزيز خاصة حيث اعترفت قطعياً ببراءتي وقررت أنها هي التي راودتني عن نفس فأبيت ورفضت فعلت هذا ليعلم زوجها العزيز أني لم أخنه في أهله في غيبته وأن عرضه مصان وشرفه لم يدنس لأنه ربي أحسن مثواي . وإن الله لا يهدي كيد الخائنين فلو كنت خائنا ما هداني لمثل هذا الموقف المشرف والذي أصبحت به مبرأ الساحة سليم العرض طاهر الثوب والساحة .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- فضل العلم وشرفه إذ به رفع الملك يوسف إلى حضرته وهو رفيع .
2- فضيلة الحلم والأناة وعدم التسرع في الأمور .
3- فضيلة الصدق وقول الحق ولو كان على النفس .
4- شرف زليخا بإِقرارها بذنبها رفعها مقاما ساميا وأنزلها درجة عالية فقد تصبح بعد قليل زوجة لصفي الله يوسف الصديق بن الصديق زوجة له في الدنيا وزوجة له في الآخرة وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
(2/215)
________________________________________
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
شرح الكلمات :
{ لأمارة بالسوء } : أي كثيرة الأمر والسوء هو ما يُسيء إلى النفس البشرية مثل الذنوب .
{ إلا ما رحم ربي } : أي إلا من رحمه الله فإِن نفسه لا تأمر بالسوء لطيبها وطهارتها .
{ استخلصه لنفسي } : أجعله من خلصائي من أهل مشورتي وأسراري .
{ مكين أمين } : أي ذو مكانة تتمكن بها من فعل ما تشاء ، أمين مؤتمن على كل شيء عندنا .
{ خزائن الأرض } : أي خزائن الدولة في أرض مصر .
{ إني حفيظ عليم } : أي أحافظ على ما تسنده إليّ واحفظه ، عليم بتدبيره .
{ يتبوأ } : أي ينزل ويحل حيث يشاء بعد ما كان في غيابة الجُب وضيف السجن .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الحديث على يوسف عليه السلام فقوله تعالى : { وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم } هذا من قول يوسف عليه السلام ، إذ قال لما طلب إلى الملك أن يحقق في قضية النسوة اللاتي قطعن أيديهن وامرأة العزيز وتم التحقيق بالإِعلان عن براءة يوسف مما اتهم به قال ذلك ، أي فعلت ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب ، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين . وهضماً لنفسه من جهة ومن جهة أخرى فقد همَّ بضرب زليخا كما تقدم ، قال : { وما أبرّىء نفسي } وعلل لذلك فقال { إن النفس } أي البشرية { لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي } إلا نفساً رحمها ربي بتوفيقها إلى تزكيتها وتطهيرها بالإِيمان وصالح الأعمال فإنها تصبح نفساً مطمئنة تأمر بالخير وتنهى عن الشر ، وقوله : { إن ربي غفور رحيم } ذكر هذه الجمرة تعليلاً لقوله : { وما أبرىء نفسي } فذكر وإن حصل منيّ هم بضرب وهو سوء فإني تبت إلى الله ، والله غفور أي يعفو ويصفح فلا يؤاخذ من تاب إليه ويرحمه فإنه رحيم بالمؤمنين من عباده . هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 53 ) أما الآية الثانية ( 54 ) والثالثة ( 55 ) فقد تضمنت استدعاء الملك ليوسف وما دار من حديث بينهما إذ قال تعالى : { وقال الملك } الريان بن الوليد { إئتوني به } أي بيوسف بعد أن ظهر له علمه وكماله الروحي { أستخلصه لنفسي } أي أجعله خالصاً لي استشيره في أمري واستعين به على مهام ملكي وجاء يوسف من السجن وجلس إلى الملك وتحدث معه وسأله عن موضوع سني الخصب والجدب فأجابه بما أثلج صدره من التدابير الحكيمة السديدة وهنا قال له ما أَخْبَر تعالى به قال له : { إنَّك اليوم لدين مكين أمين } أي ذو مكانة عندنا تمكنك من التصرف في البلاد كيف تشاء أمين على كل شيء عندنا فأجابه يوسف بما أخبر به تعالى بقوله : { قال اجعلني على خزائن الأرض } أي أرض مصر ومعنى هذا أنه حل محل العزيز الذي قد مات في تلك الأيام .
(2/216)
________________________________________
وعلل لطلبه وزارة المال والاقتصاد بقوله : { إنّي حفيظ عليم } أي حفيظ على ما أتولى تدبيره عليم بكيفية الإِدارة وتدبير الشؤون . وقوله تعالى في الآية الرابعة ( 56 ) : { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء } أي بمثل هذه الأسباب والتدابير مكنا ليوسف في أرض مصر يتبوأ منها أي ينزل حيث يشاء يتقلب فيها أخذاً وعطاء وإنشاء وتعميراً لأنه أصبح وزيراً مطلق التصرف . وقوله تعالى : { نصيب برحمتنا من نشاء } أي رحمته من عبادنا ولا نضيع أجر المحسنين ، وهذا وعد من الله تعالى لأهل الإِحسان بتوفيتهم أجورهم ، ويوسف عليه السلام من شاء الله رحمتهم كما هو من أهل الإِحسان الذين يوفيهم الله تعالى أجورهم في الدنيا والآخرة ، وأخبر تعالى أن أجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ، ترغيباً في الإِيمان والتقوى إذ بهما تنال ولاية الله تعالى عز وجل إذ أولياؤه هم المؤمنون والمتقون .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- فضيلة هضم النفس باتهامها بالنقص والتقصير .
2- تحقيق الحكمة القائلة : المرءُ مخبوء تحت لسانه .
3- جواز ذكْرِ المُرشَّح للعمل كحذق الصنعة ونحوه ولا يعد تزكية للنفس .
4- فضيلة الإِحسان في المعتقد والقول والعمل .
5- فضل الإِيمان والتقوى .
(2/217)
________________________________________
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)
شرح الكلمات :
{ وجاء إخوة يوسف } : من أرض كنعان لما بلغهم أن ملك مصر يبيع الطعام .
{ وهم له منكرون } : أي غير عارفين أنه أخوهم .
{ ولما جهزهم بجهازهم } : أي أكرمهم وزودهم بما يحتاجون إليه في سفرهم بعدما كال لهم ما ابتاعوه منه .
{ بأخ لكم من أبيكم } : هو بِنْيامين لأنه لم يجىء معهم لأن والده لم يقدر على فراقه .
{ سنراود عنه أباه } : أي سنجتهد في طلبه منه .
{ وقال فتيانه } : أي غلمانه وخدمه .
{ بضاعتهم } : أي دراهمهم التي جاءوا يمتارون بها .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في الحديث عن قصة يوسف عليه السلام وتتبع أحدايها ، إنه بعد أن ولي يوسف أمر الوزارة ومرت سنوات الخصب وجاءت سنوات الجدب فاحتاج أهل أرض كنعان الى الطعام كغيرهم فبعث يعقوب عليه السلام بنيه يمتارون وكانوا عشرة رجال بعد أن علم أن ملك مصر يبيع الطعام ، قال تعالى مخبراً عن حالهم : { وجاء إخوة يوسف } أي من أرض كنعان { فدخلوا عليه } أي على يوسف { عرفهم وهم له منكرون } أي لم يعرفوه لتغيره بكبر السن وتغير أحواله وقوله تعالى : { ولما جهزهم بجهازهم } أي كل لهم وحَمَّل لكل واحد بعيره بعد أن أكرمهم غاية الإِكرام { قال ائتوني بأخل لكم من أبيكم } ولا شك أنه قد سألهم عن أحوالهم فأخبروه عن أبيهم وأولاده بالتفصيل فلذا قال لهم { ائتوني بأخ لكم من أبيكم } وهو بنيامين ورغبهم في ذلك بقوله : { ألا ترون أني أوفِ الكيل وأنا خير المنزلين } أي خير المضيفين لمن نزل عليهم { فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون } . بعد هذا الإِلحاح عليهم أجابوه بما أخبر تعالى به عنهم بقوله : { قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون } أي سنبذل جهدنا في طلبه حتى نأَتي به ، { وإنا لفاعلون } كما أخبرناك .
وقوله تعالى : { وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم } يخبر تعالى عن قيل يوسف لغلمانه اجعلوا دراهمهم التي اشتروا بها الطعام في رحالهم من حيث لا يشعرون { لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون } كل هذا كان رغبة من يوسف في إحضار أخيه الشقيق فجعل رد الدراهم وسيلة لذلك لأنهم إذا وجدوها تحرجوا من أخذها فرجعوا بها . وجاءوا بأخيهم معهم ، وهو مطلب يوسف عليه السلام حققه الله .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- عجيب تدبير الله تعالى إذ رؤيا لملك وتعبير يوسف لها وظهورها كما عبرها كان تدبيراً لولاية يوسف ثم لمجيء إخوته يطلبون الطعام لأهليهم ولتتم سلسلة الأحداث الآتية ، فلا إله إلا الله ، ولا رب سواه .
2- حسن تدبير يوسف عليه السلام للإِتيان بأخيه بنيامين تمهيداً للإِتيان بالأسرة كلها .
3- أثر الإِيمان في السلوك ، إذ عرف يوسف أن أخوته لا يستحلون أكل مال بغير حقه فجعل الدراهم في رحالهم ليرجعوا بها ومعهم أخوهم الذي يريد إحضاره .
(2/218)
________________________________________
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
شرح الكلمات :
{ منع منا الكيل } : أي منع الملك منا الكيل حتى نأتيه بأخينا .
{ نكتل } : أي نحصل على الكيل المطلوب .
{ على أخيه من قبل } : أي كما أمنتكم على يوسف من قبل وقد فرطتم فيه .
{ ما نبغي } : أي أي شيء نبغي .
{ ونزداد كيل بعير } : أي بدل ما كنا عشرة نصبح أحد عشر لكل واحد حمل بعير .
{ ذلك كيل يسير } : أي على الملك لغناه وطوله فلا يضره أن يزدنا حمل بعير .
{ موثقاً } : أي عهدا مؤكدا باليمين .
{ إلا أن يحاط بهم } : أي تهلكوا عن آخركم .
{ إلا أن يحاط بكم } : أي أراد الله خلافه .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكيم في الحديث عن يوسف وإخوته قال تعالى مخبراً عن رجوع إخوة يوسف من مصر إلى أرض كنعان بفلسطين : { فلما رجعوا إلى أبيهم } أي يعقوب عليه السلام { قالوا يا أبانا منع منا الكيل } أي منع منا ملك مصر الكيل إلا أن نأتي بأخينا بنيامين { فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون } أن يناله مكروه بحال من الأحوال . بأجابهم يعقوب عليه السلام بما أخبر تعالى عنه بقوله : { قال هل آمنكم عليه } أي ما آمنكم عليه { إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل } يعني يوسف لمنا ذهبوا به إلى البادية . { فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين } جبى هذاالحديث بينهم عند وصولهم وقبل فتح أمتعتهم ، وأما بعد فتحها فق دقالوا ما أخبر تعالى به في قوله : { ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم } أي دراهمهم { ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا } أي فأرسل معنا أخانا نذهب به الى مصر { ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير } لأن الملك المصري لا يبيع للنفر الواحد الا حمل بعير نظراً لحاجة الناس إلى الطعام في هذه السنوات الصعبة للجدب العام في البلاد . فأجابهم يعقوب بما قال تعالى عنه { قال لن أرسله معكم حتى تؤتونِ موثقاً من الله } أي حتى تعطوني عهداً مؤكداً باليمين على أن تأتوني به { لتأتنني به إلا أن يحاط بكم } بعدو ونحوه فتهلكوا جميعاً فأطوه ما طلب منهم من عهد وميثاق ، قال تعالى : { فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل } أي شهيد على وعليكم ، أي فأشهد الله تعالى على عهدهم . ولما أرادوا السفر إلى مصر حملته العاطفة الأبوية والرحمة الإِيمانية على أن قال لهم من ما أخبر تعالى عنه : { وقال يا بنيّ لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة } أي لا تدخلوا وأنت أحد عشر رجلاً من باب واحد فتسرع إليكم العين ، وإنما ادخلوا من عدة أبواب فلا تُرون جماعة واحدة أبناء رجل واحد فلا تصيبكم عين الحاسدين ثم قال : { وما أغني عنكم من الله من شيء } ، وهو كذلك { إن الحكم إلا لله } فما شاءه كان : { عليه توكلت } أي فوضت أمري إليه { وعليه فليتوكل الموكلون } أي فليفوض إليه المتوكلون .
(2/219)
________________________________________
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان مدى يعقوب عليه السلام على الله وثقته في ربّه عز وجل ، ومعرفته بأسمائه وصفاته ، وكيف لا وهو أحد أنبياء الله ورسله عليهم السلام .
2- جواز أخذ العهد المؤكد في الأمور الهامة ولو على أقرب الناس كالأبناء مثلاً .
3- لا بأس بتخوف المؤمن من إصابة العين وأخذ الحيطة للوقاية منها مع اعتقاد أن ذلك لا يغني من الله شيئاً وأن الحكم لله وحده في خلقه لا شريك له في ذلك .
4- وجوب التوكل على الله تعالى وإمضاء العمل الذي تعيَّن وتفويض أمر ما يحدث لله تعالى .
(2/220)
________________________________________
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
شرح الكلمات :
{ إلا حاجة في نفس يعقوب } : هي إرادة دفع العين عن أولادة شفقة عليهم .
{ آوى إليه أخاه } : أي ضمه إليه أثناء الأكل وأثناء المبيت .
{ فلا تبتئس } : أي لا تحزن .
{ جعل السقاية } : أي صاع الملك وهو من ذهب كان يشرب فيه ثم جعله مكيالاً يكيل به .
{ أذن مؤذن } : نادى منادى .
{ أيتها العير } : أي القافلة .
{ صواع الملك } : أي صاع الملك . فالصاع والصواع بمعنى واحد .
{ وأنا به زعيم } : أي بالحمل كفيل .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الحديث عن إخوة يوسف فقد عهد إليهم إذا هم وصلوا إلى ديار مصر أن لا يدخلوا من باب واحد بل من أبواب متعددة خشية العين عليهم ، وقد وصلوا وعملوا بوصية أبيهم فقد قال تعالى مخبراً عنهم { ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم } أي دخولهم من أبواب متفرقة { من الله } أي من قضائه { من شيء إلا حاجة } أي لكن حاجة { في نفس يعقوب } وهي خوف العين عليهم { قضاها } أي لا غير .
وقوله تعلى { وإنه لذو علم لما علمناه } ثناء على يعقوب أي إنه لصاحب علم وعمل لتعليمنا إياه وقوله : { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } هو كما أخبر عز وجل أكثر الناس لا يعلمون عن الله تعالى صفات جلاله وكماله ومحابه ومساخطه وأبواب الوصول إلى مرضاته والحصول على رضاه ومحبته ، وما يتقي مما يحرم على العبد من ذلك . هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 68 ) .
أما الآية الثانية فقد أخبر تعالى أن إخوة يوسف لما دخلوا عليه في منزله آواى إليه أخاه أي شقيقه وهو بنيامين ، وذلك لما جاء وقت النوم جعل كل اثنين فى غرفة وهم أحد عشر رجلاً بقي بنيامين فقال هذا ينام معي ، وأنه لما آواه إليه في فراشه أعلمه أنه أخوه يوسف ، وأعلمه أن لا يحزن بسبب ما كان إخوته قد عملوه مع أبيهم ومع أخيهم يوسف وأعلمه أنه سيحتال على بقائه معه فلا يكترث بذلك ولا يخبر إخوته بشيء من هذا . هذا ما دلت عليه الآية الثانية وهي قوله تعالى : { ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون } .
أما الآية الثالثة ( 70 ) فقد تضمنت الإِخبار عن تدبير يوسف لبقاء أخيه معه دونهم وذلك أنه لما جهزهم بجهازهم أي كال لهم الطعام وزودهم بما يحتاجون إليه بعد إكرامه لهم جعل بطريق خفيّ لم يشعروا به سقاية الملك وهي الصاع أو الصواع وهي عبارة عن إناء من ذهب كان يشرب فيه ثم جعل آلة كيل خاصة بالملك عرفت بصواع الملك أو صاعه . جعلها في رحل أخيه بنيامين . ثم لما تحركت القافلة وسارت خطوات نادى منادٍ قائلاً أيتها العير أي يا أهل القافلة إنكم لسارقون .
(2/221)
________________________________________
هذا ما تضمنته الآية الكريمة إذ قال تعالى : { فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون } . قال تعالى إخباراً عنهم : { قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون } فأجابوا بقولهم : { نفقد صواع الملك ، ولمن جاء به حمل بعير } أي مكافأة له { وأنا به زعيم } أي وأنا بإعطائه حمل البعير كفيل .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان فضل العلم وأهله .
2- تقرير حقيقة وهي أن أكثر الناس لا يعلمون .
3- حسن تدبير يوسف للإِبقاء على أخيه معه بعد ذهاب إخوته .
4- مشروعية إعطاء المكافآت لمن يقوم بعمل معين وهي الجعالة في الفقه .
5- مشروعية الكفالة والكفيل غارم .
(2/222)
________________________________________
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
شرح الكلمات :
{ تالله } : أي والله .
{ لنفسد في الأرض } : أي بارتكاب المعاصي وغشيان الذنوب .
{ وما كنا سارقين } : أي لم نسرق الصواع كما أنا لم نسرق من قبل متاع أحد .
{ من وجد في رحله فهو جزاؤه } : أي يأخذ بالسرقة رقيقاً .
{ كذلك نجزى الظالمين } : أي في شريعتنا .
{ فى وعاء أخيه } : أي فى وعاء أخيه الموجود في رحله .
{ كذلك كدنا ليوسف } : أي يسرنا له هذا الكد الذي توصل به إلى أمر محمود .
{ في دين الملك } : أي في شرعه إذ كان يضرب السارق ويغرم بمثل ما سرق .
{ نرفع درجات من نشاء } : أي كما رفع يوسف عليه السلام .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الحديث عن يوسف وإخوته ، إنه لما أعلن عن سرقة صواع الملك وأوقفت القافلة للتفتيش ، وأعلن عن الجائزة لمن يأتي بالصواع وأنها مضمونة هنا قال إخوة يوسف ما أخبر تعالى به عنهم : { قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد فى الأرض } أي بالسرقة وغشيان الذنوب وإنما جئنا للميرة { وما كنا سارقين } أي في يوم من الأيام ، وهنا قال رجال الملك رداً على مقاتلهم بما أخبر تعالى به : { قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين } فأجاب الإِخوة بما أخبر تعالى عنهم بقوله : { قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه } يريدون أن السارق يُسترق أي يملك بالسرقة وقوله { كذلك نجزي الظالمين } أي في شريعتنا . وهنا أخذ يوسف بنفسه يفتش أوعية إخوته بحثاً عن الصواع ، وبدأ بأوعيتهم واحداً بعد واحد وآخر وعاء وعاء أخيه بنيامين دفعاً للتهمة والتواطؤ في القضية ، حتى استخرجها من وعاء أخيه الذي كان في رحله ، هذا ما دل عليه قوله تعالى : { فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه } وقوله تعالى : { كذلك كدنا ليوسف } أي هكذا يسرنا له هذا الكيد الذي توصل به إلى أمر محمود غير مذموم . وقوله تعالى : { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } أي لم يكن في شرع مصر أن يأخذ أخاه عبداً بالسرقة بل السارق يضرب ويغرم فقط ، { إلا أن يشاء الله } أمراً فإِنه يكون . وقوله تعالى : { نرفع درجات من نشاء } أي في العلم كما رفعنا يوسف { وفوق كل ذي علم } من الناس { عليم } إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى فهو العليم الذى لا أعلم منه بل العلم كله له ومنه ولولاه لما علم أحد شيئاً .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- جواز الحلف بالله تعالى للحاجة .
2- مشروعية دفع التهمة عن النفس البريئة .
3- معرفة حكم السرقة في شرعة يعقوب عليه السلام .
4- بيان حسن تدبير الله تعالى لأوليائه .
5- بيان حكم السرقة في القانون المصري على عهد يوسف عليه السلام .
6- علوّ مقام يوسف عليه السلام في العلم .
7- تقرير قاعدة ( وفوق كل ذي علم عليم ) : إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى .
(2/223)
________________________________________
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
شرح الكلمات :
{ إن يسرق } : أي يأخذ الصواع خفية من حرزه .
{ فقد سرق أخ له } : أي يوسف في صباه .
{ فأسرها يوسف } : أي أخفى هذه التهمة في نفسه .
{ ولم يبدها لهم } : أي لم يظهرها لهم .
{ أنتم شر مكاناً } : أي منزلةً ممن رميتموه بالسرقة .
{ بما تصفون } : أي بحقيقة ما تصفون أي تذكرون .
{ أباً شيخاً كبيراً } : أي يعقوب عليه السلام .
{ معاذ الله } : أي نعوذ بالله من أن نأخذ من لم نجد متاعنا عنده .
{ متاعنا } : أي الصواع .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الحديث مع يوسف عليه السلام وإخوته ، إنه بعد أن استخرج يوسف الصواع من متاع أخيه وتقرر ظاهراً أن بينامين قد سرق ، قال إخوته ما أخبر به تعالى عنهم في قوله : { قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من أخ له من قبل } أي إن يكن بنيامين قد سرق كما قررتم فلا عجب فقد سرق أخ له من قبل يعنون يوسف أيام صباه ، كان يسرق الطعام ويعطيه للمساكين وسرق صنماً لأبي أمه فكسره حتى لا يعبده ، وليس هذا من السرقة المحرمة ولا المذمومة بل هي محمودة . وقوله تعالى { فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم } أي أسر يوسف قولتهم { فقد سرق أخ له من قبل } ولم يظهرها لهم وقال رداً لقولتهم الخاطئة : { أنتم شر مكاناً } أي شر منزلة ممن رميتموه بالسرقة { والله أعلم بما تصفون } أي بحقيقة ما تذكرون . ولما سمعوا قول يوسف وكان فيه نوع من الصرامة والشدة قالوا مستعطفين يوسف مسترحمينه بما حكى لله تعالى عنهم في قوله : { قالوا يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً } أي لأخينا والداً كبير السن يعز عليه فراقه ولا يطيقه . { فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين } أي واحداً منا بدلاً عنهُ ومثلك يفعل ذلك لأنه إحسان وأنت من المحسنين . فأجابهم بما أخبر تعالى به في قوله : { قال معاذ الله } أي نعوذ بالله { أن نأخذ الا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً لظالمون } أي إذا أخذنا من لم يَجْنِ ونترك من جنى أي سرق فقد كنا بذلك ظالمين وهذا ما لا نرضاه ولا نوافق عليه .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- مشروعية الاعتذار عن الخطأ .
2- قد يضطر الحليم إلى أن يقول ما لم يكن يقوله لولا ما وُوجِهَ به من السوء .
3- مشروعية الاسترحام والاستعطاف لمن احتاج الى ذلك رجاء أن يرحم ويعطف عليه .
4- حرمة ترك الجاني وأخذ غيره بدلا منه إذ هذا من الظلم المحرم .
(2/224)
________________________________________
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
شرح الكلمات :
{ خلصوا نجياً } : أي اعتزلوا يناجي بعضهم بعضاً .
{ أخذ عليكم موثقاً } : أي عهداً وميثاقاً لتأتن به إلا أن يحاط بكم .
{ ومن قبل ما فرطتم } : أي ومن قبل إضاعتكم لبنْيامين فرضتم في يوسف كذلك .
{ فلن أبرح الأرض } : أي لن أفارق الأرض ، أي أرض مصر .
{ وما كنا للغيب حافظين } : أي لما غاب عنا ولم نعرفه حافظين .
{ العير التي أقبلنا فيها } : أي أصحاب القافلة التي جئنا معها وهم قوم كنعانيون .
{ سولت لكم أنفسكم } : أي زينت وحسنت لكم أمراً ففعلتموه .
{ أن يأتيني بهم جميعا } : أي بيوسف وأخويه بنيامين وروبيل .
{ وتولى عنهم } : أي معرضاً عن حديثهم .
{ وقال يا أسفى } : أي يا حزني أحضر هذا أوان حضورك .
{ فهو كظيم } : أي مغموم مكروب لا يظهر كربه .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الحديث على قصة يوسف وإخوته ، إنه بعد أن أخذ يوسف أخاه بالسرقة ولم يقبل استرحامهم له بأخذ غيره بدلاً عنه انحازوا ناحية يفكرون في أمرهم وهو ما أخبر به تعالى عنه في قوله : { فلما استيأسوا } أي يئسوا { خلصوا نجياً } أي اعتزلوا يتناجون في قضيتهم { قال كبيرهم } وهو روبيل مخاطباً إياهم { ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً } يذكرهم بالميثاق الذي أخذه يعقوب عليهم لما طلبوا منه أن يرسل معهم بنيامين لأن عزيز مصر طلبه . رومن قب لما فرطتم في يوسف } أي وذكرهم بتفريطهم في يوسف يوم ألقوه في غيابة الجب وباعوه بعد خروجه من الجب . ومن هنا قال لهم ما أخبر تعالى به : { فلن أبرح الأرض } أي أرض مصر حتى يأذن لي أبي بالرجوع إليه { أو يحكم الله لي } بما هو خير { وهو خير الحاكمين } .
ولما أقنعهم بتخلفه عنهم أخذ يرشدهم إلى ما يقولونه لوالدهم وهو ما أخبر تعالى به في قوله عنه : { ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق ما شهدنا إلا بما علمنا } أي حيث رأينا الصواع يستخرج من رحل أخينا { وما كنا للغيب حافظين } أي ولو كنا نعلم أن أخانا يحدث لههذا الذي حدث ما أخذناه معنا . كما أننا ما شهدنا بأن السارق يؤخذ بالسرقة إلا بما علمنا منك { واسأل القرية التي كنا فيها } وهي عاصمة مصر { والعير التي أقبلنا فيها } إذ فيها كنعانيون من جيرانك { وإنا لصادقون } في كل ما أخبرناك به . هذا ما أرشد به روبيل إخوته ، ولما ذهبوا به واجتمعوا بأبيهم وحدثوه بما علمهم روبيه أن يقولوه فقالوه لأبيهم . رد عليهم يعقوب عليه السلام بما أخبر تعالى به عنه في قوله : { قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً } أي زينت لكم أنفسكم أمراً ففعلتموه { فصبر جميل } أي فصبري على ما أصابني صبر جميل لا جزع فيه ولا شكاية لأحد غير الله { عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً } أي يوسف وبنيامين وروبيل { إنه هو العليم } بفقري إليه وحاجتي عنده { الحكيم } في تدبيره لأوليائه وصالحي عباده { وتولى عنهم } أي أعرض عن مخاطبتهم { وقال يا أسفى } أي يا أسفي وشدة حزني أحضر فهذا أوان حضورك { على يوسف } قال تعالى مخبراً عن حاله بعد ذلك { وابيضت عيناه من الحزن } فغلب بياضهما على سوادهما ومعنى هذا أنه فقد الإِبصار بما أصاب عينيه من البياض .
(2/225)
________________________________________
{ فهو كظيم } أي ممتلىء من الهم والكرب والحزن مكظوم لا يبثه لأحد ولا يشكوه لغير ربه تعالى .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- مشروعية المناجاة للتشاور في الأمر الهام .
2- مشروعية التذكير الالتزامات والعهود والمحافظة على ذلك .
3- قد يغلب الحياء على المؤمن فيمنعه من أمور هي خير له .
4- مشروعية النصح وتزويد المنصوح له بما يقوله ويعمله .
5- جواز إظهار التأسف والحزن الشكوى لله تعالى .
(2/226)
________________________________________
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
شرح الكلمات :
{ تالله تفتؤا تذكر } : أي والله لا تزال تذكر يوسف .
{ حرضاً } : أي مشرفاً على الهلاك لطول مرضك .
{ أشكو بثي } : أي عظيم حزني إذ البث الذي لا يصبر عليه حتى يبث الى الغير .
{ فتحسسوا } : أي اطلبوا خبرهما بلطف حتى تصلوا إلى النتيجة .
{ من روح الله } : أي من رحمة الله .
{ ببضاعة مزجاة } : أي بدراهم مدفوعة لا يقبلها الناس لرداءتها .
{ يجزي المتصدقين } : أي يثيب المتصدقين بثواب الدنيا والآخرة .
معنى الآيات :
ما زال السياق فيما جرى من حديث بين يعقوب عليه السلام وبنيه أنه بعدما ذكروا له ما جرى لهم في مصر اعرض عنهم وقال يا أسفى على يوسف وأبيضت عيناه من الحزن وهو كظيم . قالوا له ما أخبر به تعالى في قوله : { قالو تالله تفتؤا تذكر يوسف } أي والله لا تزال تذكر يوسف حتى تصبح حرضاً مشرفاً على الموت أو تكون من الهالكين أي الميتين . أجابهم بما أخبر تعالى به عنه : { قال إنما أشكوا بثي } أي همي { وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون } يريد أن رجاءه فى الله كبير وأنَ الله لا يخيب رجاءه وأن رؤيا يوسف صادقة وأن الله تعالى سيجمع سمله به ويسجد له كما رأى . ومن هنا قال لهم ما أخبر تعالى به : { يا بنيّ اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه } أي التمسوا أخبارهما بحواسكم بالسؤال عنهما والنظر إليهما ، { ولا تيأسوا من روح الله } أي لا تقنطوا من فرج الله ورحمته وعلل للنهي فقال : { إنه لا ييأس من روح الله } أي من فرجه ورحمته { إلا القوم الكافرون } .
وامتثل الأبناء أمر الوالد وذهبوا إلى مصر وانتهوا إليها ونزلوا بها وأتوا الى دار العزيز { فلما دخلوا عليه قالوا } ما أخبر تعالى به عنهم { يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر } أي من الجدب والقحط والمجاعة { وجئنا ببضاعة مزجاة } أي دراهم رديوة مدفوعة لا تقبل كما تقبل الجيدة منها { فأوف لنا الكيل } بها { وتصدق علينا } بقبولها على رداءتها { إن الله يجزي المتصدقين } أي يثيبهم على إحسانهم ويجزيهم به خيراً .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- شدة الحزن تعرض صاحبها للحرض أو الموت .
2- تحرم الشكوى لغير الله عز وجل .
3- حرمة اليأس من الفرج عند الشدة والرحمة عند العذاب .
4- جواز الشكوى إذا كان المراد بها الكشف عن الحال للاصلاح أو العلاج كأن يقول المحتاج إني جائع أو عار مثلاً وكأن يقول المريض للطبيب أشكوا ألماً في بطني أو رأسي مثلاً .
5- فضل الصدقة وثواب المتصدقين .
(2/227)
________________________________________
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
شرح الكلمات :
{ إذ أنتم جاهلون } : أي لا تعلمون ما يؤول إليه أمر يوسف .
{ قد منّ الله علينا } : أي أنعم بأن جميع بيننا بعد افتراق طويل أنتم سببه .
{ من يتق ويصبر } : أي يتق الله فيخافه فلا يعصيه ويصبر على ما يناله من وصب ونصب .
{ لقد آثرك الله علينا } : أي فضلك علينا بما منّ عليك من الإِنعام والكمال .
{ لا تثريب عليكم } : أي لا عتب عليكم ولا لوم .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الحديث مع يوسف وإخوته ، إنه لما وصلوا إليه من أرض كنعان بأمر والدهم وشكوا إليه ما هم فيه من شيق الحال إذ قالوا له : قد مسنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة ، لما سمع منهم ذلك رق قلبه وارفَضَّت عيناه بالدموع وأراد أن ينهي التكتم الذي كان عليه وهو إخفاء حاله عليهم فقال لهم : { هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه } ذكرهم بما صنعوا به من إلقائه في الجب وبيعه عبداً وبذلك فرقوا بينه وبين والده وأخيه شقيقه وقوله : { إذ أنتم جاهلون } أي بما يصير إليه أمر يوسف وهنا قالوا في اندهاش وتعجب : { أإنك لأنت يوسف } فأجبهم قائلاً بما أخبر تعالى به عنه { قال أنا يوسف وهذ أخي قد منّ الله علينا } أي أنعم علينا فجمع بيننا على أحسن حال ثم قال : { إنه من يتق ويصبر } أي يتق الله يخافه فيقيم فرائصه ويتجنب نواهه ويصبر على ذلك وعلى ما يبتليه به { فإن الهل لا يضيع أجر المحسنين } أي في طاعة ربهم والإِسلام له ظاهراً وباطناً . وهنا قالوا له ما أخبر به تعالى عنهم : { قالوا تالله لقد آثرك الله علينا } أي بالعلم والعمل والفضل { وإن كنا لخاطئين } فيما فعلنا بك ، فكان هذا توبة منهم فقال لهم : { لا تثريب عليكم اليوم } أي لا عتب ولا لوم ولا ذكر لا صنعتم لأنه يؤذي { يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين } سأل الله تعالى لهولهم المغفرة وأثنى على الله تعالى بأنه أرحم الراحمين متعرضاً لرحمته تعالى له ولإِخوته . ثم سألهم عن والده بأخبروه أنه قد عمي من الحزن عليه فقال : { اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً } أي يرجع بصيراً كما كان { وأتوي بأهلكم أجمعين } يريد أبويه والنساء والأطفال والأحفاد . وهو تحول كامل للأسرة الشريفة من أرض كنعان إلى أرض مصر تدبيراً من الله العزيز الحكيم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير مبدأ أن المعاصي لن تكون إلا نتيجة للجهل بالله تعالى وجلاله وشرائعه ووعده ووعيده .
2- فضل التقوى والصبر وما لهما من حسن العاقبة .
3- فضل الصفح والعفو وترك عتاب القريب إذا أساء .
(2/228)
________________________________________
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
شرح الكلمات :
{ ولما فصلت العير } : أي خرجت من عريش مصر متوجهة إلى أرض فلسطين .
{ أني لأجد ريح يوسف } : أشتمها لأن الريح حملتها إليه بأمر الله تعالى .
{ لولا أن تفندّون } : أي تسفّهون ، لصدقتموني فإني وجدت ريح يوسف .
{ إنك لفي ضلالك القديم } : أي خطإك بإفراطك في حب يوسف .
{ فلما أن جاء البشير } : هو يهودَا الذي حمل إليه القميص الملطخ بالدم الكذب .
{ فارتد بصيراً } : أي رجع بصيراً .
{ سوف استغفر لكم ربي } : أجَّلَ الاستغفار لهم إلى آخر الليل أو إلى ليلة الجمعة .
{ على العرش } : أي السرير .
{ وخروا له سجداً } : أي سجدو له تحية وتعظيماً .
{ من البدو } : أي البادية ، بادية الشام .
{ من بعد أن نزع } : أي أفسد .
{ لطيف لما يشاء } : أي لطيف في تدبير لمن يشاء من عباده كما لطف بيوسف .
معنى الآيات :
هذه أواخر قصة يوسف عليه السلام ، إنه بعد أن بعث بقميصه إلى والده وحمله أخوه يهودا ضمن القافلة المتجهة إلى أرض كنعان ، ولما فصلت العير من عريش مصر حملت ريح الصبا ريح يوسف إلى إبيه قال : { إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون } أي تسفهون لصدقتموني فإني أجدها فقال الحاضرون مجلسه من أفارد الأسرة والذين لم يعلموا بخبر يوسف بمصر قالوا له : { إنك لفي ضلالك القديم } أي من خطإك بإفراطك في حب يوسف . واصلت العير سيرها وبعد أيام وصلت وجاء يهودا يحمل القميص فألقاه على وجه يعقوب فاترد بصيراً كما أخبر يوسف إخوته بمصر . وهنا واجه أبناءه بالخطاب الذى أخبر تعالى به في قوله : { قال أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون } أي أعلم من لطف الله وحسن تبديره ورحمته وإفضاله ما لا تعلمون . وهنا طلبوا من الواحدهم أن يعفوا عنهم ويستغفر لهم ربهم فقالوا ما أخبر تعالى به : { قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين ، قال سوف استغفر لكم ربي إنه الغفور الرحيم } . أجَّلَ لهم طلب المغفرة إلى ساعة الاستجابة كآخر الليل وقت السحر أو يوم الجمعة . وتنفيذاً لأمر يوسف أخوته بأن يأتوه بأهلهم أجميعن تحملت الأسرة بسائر أفرادها مهاجرين إلى مصر . وكان يوسف وملك مصر وألوف من رجال الدولة وأعيان البلاد في استقبالهم ، وكان يوسف قد ضربت له خيمة أو فسطاط ، ووصلت المهاجرة إلى مشارف الديار المصرية وكان يوسف في فسطاطه { فلما دخلوا عليه آوى إليه أبويه } أي ضمّهما إلى موكبه { وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين } ولما انتهوا إلى القصر ودخلوا { ورفع } يوسف { أبويه } أمه وأباه { على العرش } سرير الملك { وخروا له سجداً } تحية وتشريفاً . وهنا قال يوسف { يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً } إذ رأى في صباه أن أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رآهم له ساجدين .
(2/229)
________________________________________
وقوله { وقد أحسن بي إذ أخرجني الله بنعمه وتذكير للحاضرين بالحادثة والطاف الله تعالى فيها . ومن كرم نفس يوسف وسمو آدابه لم يقل قد أحسن بي إذ أخرجني من الجب فيذكرهم بما يؤلمهم بل قال من من إخوته إلى الشيطان تلطيفاً للجو ومبالغة في إذهاب الهم من نفس إخوته ، وختم حديث النعمة في أعظم فرحة { إن ربي لطيف لما يشاء انه هو العليم } أي بخلقه { الحكيم } في تدبيره وصنعه .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- آية عظيمة هي حمل الريح ريح يوسف على مسافات بيعده .
2- آية أخرى هي ارتداد بصر يعقوب بعد العمى بمجرد أن أُلِقيَ القميص على وجهه .
3- كرم يعقوب وحسنعفوه وصفحه على أولاده إذ استغفر لهم ربهم فغفر لهم .
4- مشروعية الخروج خارج المدينة لاستقبال أهل الكمال والفضل كالحجاج مثلا .
5- صدق رؤيا يوسف عليه السلام إذ تمت حرفياً فجلس يوسف عل عرشه وخر له أبواه وإخوته ساجدين .
6- قد يتأخر تأويل الرؤيا عشرات السنين إذ تأخرت رؤيا يوسف أربعين سنة .
7- تجليات الألطاف الإِلهية والرحمات الربانية في هذه القصة ي مظاهر عجيبة .
(2/230)
________________________________________
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
شرح الكلمات :
{ رب } : أي يا رب خالقي ورازقي ومالك أمري ومعبودي الذي ليس لي معبوده سواه .
{ من الملك } : أي من بعض الملك إذ أصبح ملكاً لمصر فقط .
{ تأويل الأحاديث } : تعبير الرؤا .
{ فاطر السموات والأرض } : أي خالقهما على غير مثال سابق .
{ أنت وليّ } : أي متولي أمري في الحياتين الدنيا والآخرة .
معنى الآية الكريمة :
هذا آخر الحديث عن قصة يوسف ، إنه بعد أن جمع الله تعالى سمله بكافة أفراد أسرته وفتح عليه من خزائن رحمته ما فتح ، وانقلبت الإِحراقات : إحراقات الإِلقاء في الجب ، والبيع رقيقاً بثمن بخس ، وفتنة امرأة العزيز ، والسجن سبع سنين؛ انقلبت إلى اشراقات ملكاً ودولة ، عزاً ورفعة ، مالاً وثراء ، اجتماعاً ووئاماً ، وفوق ذلك العلم اللدنى والوحي الإِلهي وتأويل الأحاديث . وبعد أن قبض الله تعالى والده وتاب على إخوته وهيأهم للنبوة ونبأهم . تاقت نفس يوسف إلى الملكوت الأعلى إلى الجيرة الصالحة إلى رفقة الأخيار آبائه الأطهار ابراهيم وإسحق ويعقوب رفع يديه إلى ربه وقال : { رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحادث فاطر السموات والأرض أنت وليّ في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين } واستجاب الله تعالى دعاءه فلم يلبث إلا قليلاً حتى وافاه الأجل فارتحل والتحق بأبائه وصالحي إخوانه فسلام عليه وعليهم وعلى كل صالح في الأرض والسماء ، وسلا على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
هداية الآية
من هداية الآية :
1- مشروعية دعاء الله تعالى والتوسل إليه بأسمائه وصفاته .
2- مشروعية العزوف عن الدنيا والرغبة عنها عند حصولها والتمكن منها .
3- فضل الشوق إلى الله والحنين إلى رفقة الصالحين في الملكوت الأعلى .
4- مشروعية سؤال إن لم يكن لضر أو ملل من العبادة ، أو رغبة في الراحة لحديث « لا يسألن أحدكم الموت لضر نزل به » وهو صحيح . ولكن شوقاً إلى الله تعالى والالتحاق بالصالحين . عزوفاً عن هذه الدار وشوقاً إلى الأخرى دار السلام .
(2/231)
________________________________________
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
شرح الكلمات :
{ ذلك } : اشارة إلى ما قص تعالى على رسوله من قصة يوسف وإخوته .
{ من أنباء الغيب } : أي أخبار الغيب .
{ وما كنت لديهم } : أي لدى إخوة يوسف .
{ إذ أجمعوا أمرهم } : أي اتفقوا على إلقاء يوسف في غيابة الجب .
{ وهم يمكرون } : أي يحتالون على إخراجه وإلقائه في الجب .
{ عليه من أجر } : أي على القرآن وإبلاغه من ثواب أي مال .
{ إن هو إلا ذِكْرٌ } : أي ما هو إلا ذكر أي موعظة يتعظ بها المؤمنون .
معنى الآيات :
بعد ما قص تعالى على رسوله بواسطة الوحي قصة يوسف وإخوته وهي من الغيب المحض إذ لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا قومه من العرب يعرفون عن هذه الأحداث التاريخية شيئاً ، لا سيما وأن بعض هذه الأنباء تم في ظلام الليل وبضعها فى ظلام البئر وبعضها وراء الستور ، وبعضها فى طبقات السجون وبعضها في قصور الملوك وبعضها في الحضر وبعضها في البدو ، وبعد تطاول الزمن وتقادم العصور . بعد أن قص ما قص قال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : { ذلك من أنباء الغيب } أي من أخبار الغيب { نوحيه إليك } أي نعلمك به بطريق الوحي { وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون } ويؤكد وحيه إليه بذلك فيقول ، وما كنت لدى إخوة يوسف فى الوقت الذي أجمعوا فيه أمرهم على التخلص من يوسف بأي ثمن وهم يحتالون على إخراجه من بين يدي أبويه ليلقوه في غيابة الجب تخلصاً منه حيث رأوا أنه حجب عنهم وجه أبيهم وذهب بعطفه وحنانه دونهم . وقوله تعالى : { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } يخبره تعالى أن الإِيمان بك وبما جئت به من الوحي والتوحيد والبعث الآخر مثل هذا القصص كافٍ في التدليل على صحة نبوتك وعلى وجوب الإِيمان بما جئت به وتدعو إليه ومع هذا فأكثر الناس ولو حرصت على إيمانهم ما هم بمؤمنين ، ولذلك عوامل من أبرزها أن الإِيمان يتعارض مع ما ألفوا من الباطل والشر والفساد ، لا سيما شهواتهم وأغراضهم الدنيوية ومن قبل ذلك أن من كتب الله شقاءه لا يؤمن بحال ، ولذا فلا تحزن ولا تكرب ، وقوله تعالى : { وما تسألهم عليه من أجر } أي على هذا القرآن وإبلاغه إليهم من مال إذ لو كنت سائلهم أجراً على قراءتك عليهم وإبلاغك لهم لكان لك مانعاً من قبول ما تدعوهم إليه ، ولكن ما دام ذلك يقدم لهم مجاناً فلا معنى لعدم إيمانهم إلا ما كتب الله من خسرانهم فهم عاملون للوصلول إليه .
وقوله تعالى : { إن هو إلا ذكر للعالمين } أي ما هذا القرآن وما يحمله من هدى ونور وقراءتك له إلا ذكرى أي موعظة يتعظ بها من يسمعها من أهل البصرة والإِيمان من العالمين من هيأه الله تعالى للسعادة والكمال ، وقوله تعالى : { وكأين من آية في السموات والأرض } أي وكثر من الآيات الدالة على الله وعلى وجوب عبادته وتوحيده فيها في السموات كالشمس والقمر والكواكب والسحب والأمطار ، والأرض كالجبال والأنهار والأشجار والمخلوقات المختلفة يمرون عليها صباح مساء وهم معرضون غير ملتفتين إليها ولا متفكرين فيها فلذا هم لا يؤمنون ولا يهتدون .
(2/232)
________________________________________
وقوله تعالى في الآية الأخيرة ( 106 ) { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } يخبر تعالى رسوله أن من يدعوهم إلى الإيمان به وبما جاء به ما يؤمن أكثرهم بالله رباً خالقاً رازقاً إلا وهم مشركون به أصناماً وأوثاناً يعبدونها وهي حقيقة قائمة لو سئل يهودي أو نصراني عن الخالق الرازق المحيي المميت المدبر للكون لقال الله ، ولكن هو به مشرك يعبد معه غيره وكذلك حال المشركين الذين أخبر تعالى عنهم ، وكثر من أهل الجهل فى هذه الآمة القرآنية يدعون غير الله ويذبحون لغير الله وينذرون لغير الله وهم مؤمنون بالله وبما جاء به رسوله من التوحيد والبعث والجزاء والشرع .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير النبوة المحمدية بأصدق برهان وأعظم حجة .
2- بيان حكم الله في الناس وهو أن أكثرهم لا يؤمنون فلا يحزن الداعي ولا يكرب .
3- دعوة الله ينبغي أن تقدم إلى الناس مجّاناً ، وأجر الداعي على الله تعالى الذي يدعو إليه .
4- ذم الغفلة وعدم التفكر في الآيات الكونية .
5- بيان حقيقة ثابتة وهي أن غير أهل التوحيد وإن آمنوا بالله رباً خالقاً رازقاً مدبراً أكثرهم يشركون به غيره في بعض صفاته وعباداته .
(2/233)
________________________________________
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
شرح الكلمات :
{ غاشية من عذاب الله } : أي نقمة من نقمه تعالى تغشاهم أي تحوط بهم .
{ بغتة } : فجأة وهم مقيمون على شركهم وكفرهم .
{ هذه سبيلي } : أي دعوتي وطريقتي التي أنا عليها .
{ على بصيرة } : أي على علم يقين مني .
{ وسبحان الله } : أي تنزيهاً لله وتقديساً أن يكون له شريك في ملكه أو معبود سواه .
{ من أهل القرى } : من أهل المدن والأمصار لا من أهل البوادي .
{ للذين اتقوا } : أي الله بأداء فرائضه وترك نواهيه .
{ أفلا تعقلون } : أي أفلا يعقل هؤلاء المشركون هذا الذي يتلى عليهم ويبين لهم فيؤمنوا ويوحدوا .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الدعوة إلى الإِيمان بالوحي الإِلهي والتوحيد والبعث والجزاء وهي أركان الدين العظمى ، فقال تعالى : { أفأمن هؤلاء المشركون والذين لا يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } والذين يمرون بالكثير من آيات الله وهم معرضون . أفأمن هؤلاء { أن تأتيهم غاشية من عذاب الله } أي عقوبة من عذاب تغشاهم وتجللهم بالعذاب الذي لا يطاق { أو تأتيهم الساعة } أي القيامة { بغتة } أي فجأة { وهم لا يشعرون } بوقت مجيئها فتعظم البلية وتشتد عليهم الزرية ، وكيف يأمنون وهل يوجد من يؤمنهم غير الله تعالى فما لهم إذاً لا يؤمنون ولا يتقون حتى ينجوا مما يتوقع لهم؟ هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 107 ) أما الثانية فقد أمر الله تعالى رسوله أن يواصل دعوته دعوة الخير هو والمؤمنون معه فقال : { قل هذه سبيلي } أي قل أيها الرسول للناس هذه طريقتي في دعوتي إلى ربي بأن يؤمن به ويعبد وحده دون سواه . { أدعو إلى الله على بصيرة } أي على علم يقين بمن أدعو إليه وبما أدعو به وبالنتائج المترتبة على هذه الدعوة ، { أنا ومن اتبعني } من المؤمنين كلنا ندعو إلى الله على بصيرة .
وقوله تعالى : { وسبحان الله } أي وقل سبحان الله أي تنزيهاً له عن أن يكون له شريك أو ولد ، وقل كذلك معلناً براءتك من الشرك والمشركين { وما أنا من المشركين } . هذا ما دلت عليه الآية الثانية . أما الآية الثالثة فإن الله تعالى يخبر رسوله بأنه ما أرسل من قبله من الرسل وهم كثر إلا رجالاً أي لا نساء ولا ملائكة { نوحي إليهم من أهل القرى } أي الأمصار والمدن ، وهذا إبطال لإِنكارهم أن يكون الرسول رجلاً من الناس ، وقوله تعالى : { أفلم يسيروا } أي هؤلاء المكذبون من قريش وغيرهم { في الأرض } للاعتبار { فينظروا } كيف كان عاقبة من سبقهم من الأمم كعاد وثمود فإنا أهلكناهم ونجينا أهل الإِيمان والتوحيد من بينهم مع رسلهم هذه النجاة ثمرة من ثمرات الإيمان والتقوى ، { ولدار الآخرة خير للذين اتقوا } فإنها دار النعيم المقيم والسلامة من الآهات والعاهات والكبر والهرم والموت والفناء .
(2/234)
________________________________________
وقوله تعالى في نهاية الآية { أفلا تعقلون } يوبخ أولئك المشركين المصرين على التكذيب والشرك على عدم تعقلهم وتفهمهم لما يتلى عليه وما يسمعون من الآيات القرآنية وما يشاهدون من الآيات الكونية .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- التحذير من العقوبات المترتبة على الشرك والمعاصي .
2- تقرير عقيدة البعث الآخر .
3- تعين الدعوة إلى الله تعالى على كل مؤمن تابع للرسول صلى الله عليه وسلم .
4- تعين العلم اليقيني للداعي إلى الله إذ هو البصيرة المذكورة في الآية .
5- وجوب توحيد الله تعالى في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته .
6- الرسالة من خصوصيات الرجال وليس في النساء رسولة .
7- بيان ثمرات التوحيد والتقوى في الدنيا والآخرة .
(2/235)
________________________________________
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
شرح الكلمات :
{ استيأس الرسل } : أي يئسوا من إيمان قومهم .
{ وظنوا أنهم قد كذبوا } : أي ظن الأمم المرسل إليهم أن الرسل قد أخلفوا ما وعدوا به من النصر .
{ ولا يرد بأسنا } : أي عذابنا الشديد .
{ عن القوم المجرمين } : أي الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك والمعاصي وأجرموا على غيرهم بصرفهم عن الإِيمان .
{ لقد كان في قصصهم } : أي الرسل عليهم السلام .
{ ما كان حديثاً يفترى } : أي ما كان هذا القرآن حديثاً يختلق .
{ تصديق الذي بين يديه } : أي ما قبله من الكتب الإِلهية إذ نزل مصدقاً لها في الإِيمان والتوحيد .
معنى الآيتين :
ما زال السياق في الدعوة إلى الإيمان والتوحيد بقوله تعالى : { وما أرسلنا } أي ما زال مَنْ أرسلنا من رسلنا يدعون إلينا ويواصلون دعوتهم ويتأخر نصرهم حتى يدب اليأس إلى قلوبهم ويظن أتباعهم أنهم قد أخلفوا ما وعدوا به من نصرهم وإهلاك أعدائهم { جاءهم } بعد وجود اليأس نصرنا { فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين } . هذا ما جاء في الآية الأولى { حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فننجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين } وهم أهل الشرك والمعاصي .
وقوله تعالى : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } أي كان في قصص الرسل مع أممهم بذكر أخبارهم وتبيان أحوالهم من نجاة المؤمنين وهلاك الكافرين المكذبين عبرة يعتبر بها المؤمنون فيثبتون على إيمانهم ويواصلون تقواهم لربهم بأداء فرائضه واجتناب نواهيه .
وأولوا الألباب هم أصحاب العقول ، وقوله تعالى : { ما كان حديثاً يفترى } أي لم يكن هذا القرآن العظيم بالحديث الذي في إمكان الإِنسان أن يكذب ويختلق مثله بحال من الأحوال ولكنه أي القرآن هو { تصديق الذي بين يديه } أي تقدم في النزول عليه كالتوراة والإِنجيل فهو مصدق لهما في أصول الإِيمان والتوحيد ولا يتنافى معهما وهذا أكبر دليل على أنه وحي إلهي مثلهما ، وليس بالكلام المختلق كما يقول المبطلون ، وقوله تعالى : { وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } أي كما هو مصدق لما بين يديه هو أيضاً يفصل كل شيء تحتاج إليه البشرية في دينها المزكي لأنفسها الموجب لها رحمة ربها ورضاه عنها وهدى ينير الطريق فيهدي من الضلالة ورحمة تنال المؤمنين به العاملين به . المطبقين لشرائعه وأحكامه .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان سنة الله تعالى في تأخر النصر على رسله وعباده المؤمنين زيادة في الإِعداد التمحيص ثم يأتي نصر الله فيعز أولياء الله ويذل أعداءه .
2- التنديد بالإِجرام وهو الإِفساد للعقائد والأخلاق والشرائع والأحكام .
3- بيان فضل القرآن وما فيه من الهدى والرحمة لمن طلب ذلك منه .
4- المؤمنون باعتبار أنهم أحياء هم الذين ينتفعون بهداية القرآن ورحمته .
(2/236)
________________________________________
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
{ شرح الكلمات } :
{ المر } : هذه الحروف المقطعة تكتب المر ألف لام ميم را . والله اعلم بمراده بها .
{ بغير عمد ترونها } : العمد جمع عمود اي مرئية لكم اذ الجملة نعت .
{ ثم استوى علىلعرش } : استواء يليق به عزوجل .
{ وسخر الشمس والقمر } : أي ذللها بمواصلة دروانها لبقاء الحياة الى اجلها .
{ هو الذي مد الأرض } : أي بسطها للحياة فوقها .
{ رواسى } : أي جبال ثوابت .
{ زوجين اثنين } : أي نوعين وضربين كالحلو والحامض والأصفر والأسود مثلا .
{ لآيات } : أي دلالات على وحدانية الله تعالى .
{ قطع متجاورات } : اي بقاع متلاصقات .
{ ونخيل صنوان } : أي عدة نخلات في أصل واحد يجمعها ، والصنو الواحد والجمع صنوان .
{ في الأكل } : أي في الطعم هذا حلو وهذا مر وهذا حامض ، وهذا لذيذ وهذا خلافه .
{ معنى الايات } :
قوله تعالى { المر } الله اعلم بمراده . وقوله { تلك آيات الكتاب } الإشارة الى ما جاء في قصص سورة يوسف ، فالمراد بالكتاب التوراة والانجيل فمن جملة آياتها ما قص الله تعالى على رسوله . وقوله { والذي انزل اليك من ربك } وهو القرآن العظيم { الحق } اي هناك الحق الثابت ، وقوله { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } اي مع ان الذي انزل اليك من ربك هو الحق فان اكثر الناس من قومك وغيرهم لا يؤمنون بانه وحي الله وتنزيله فيعلموا به فيكملوا ويسعدوا ، وقوله تعالى : { الله الذي رفع السموات والأرض بغير عمد ترونها } : اي ان الهكم الحق الذي يجب ان تؤمنوا به وتعبدوه وتوحدوه الله الذي رفع السموات على الارض بغير عمد مرئية لكم ولكن رفعها بقدرته وبما شاء من سنن . وقوله : { ثم استوى على العرش } اي خلق السموات والارض ثم استوى علىعرشه استواء يليق بذاته وجلاله يدبر أمر الملكوت وقوله : { وسخر الشمس والقمر } اي ذللهما بعد خلقهما يسيران في فلكهما سيراً منتظماً الى نهاية الحياة ، وقوله { كل يجري } اي في فلكه فالشمس تقطع فلكها في سنة كاملة والقمر في شهر كامل وهما يجريان هكذا الى نهاية الحياة الدنيا فيخسف القمر وتنكدر الشمس وقوله : { يدبر الأمر } اي يقضي ما يشاء في السموات والأرض ويدبر أمر مخلوقاته بالاماتة والاحياء والمنع والاعطاء كيف يشاء وحده لا شريك له في ذلك . وقوله { يفصل الايات } اي القرآنية بذكر القصص وضرب الامثال وبيان الحلال والحرام كل ذلك ليهيئكم ويعدكم للايمان بلقاء ربكم فتؤمنوا به وتعبدوا الله وتوحدوه في عبادته فتكملوا في أرواحكم واخلاقكم وتسعدوا في دنياكم واخرتكم . وقوله تعالى : { وهو الذي مد الأرض } اي بسطه { وجعل فيها رواسي } اي جبالاً ثوابت { وانهاراً } اي واجرى فيها انهاراً { ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين } اي نوعين وضربين فالرمان منه الحلو ومنه الحامض والزيتون منه الاصفر والاسود ، والتين منه الابيض والاحمر وقوله : { يغشى الليل النهار } اي يغطي سبحانه وتعالى النهار بالليل لفائدتكم لتناموا وتستريح ابدانكم من عناء النهار .
(2/237)
________________________________________
وقوله { ان في ذلك } اي المذكور في هذه الآية الكريمة من مد الارض وجعل الرواسي فيها واجراء الانهار ، وخلق أنواع الثمار واغشاء الليل النهار ، في كل هذا المذكور { لآيات } اي علامات ودلائل واضحات على وجود الله تعالى وعلمه وقدرته وحكمته وعلى وجوب عبادته وتوحيده وعلى الايمان بوعده ووعيده ، ولقائه وما اعد من نعيم لأوليائه وعذاب لأعدائه ، وقوله تعالى : { في الارض قطع متجاورات } أي بقاع من الارض بعضها الى جنب بعض متلاحقات هذه تربتها طيبة خبيثة ملح سبخة وفي الارض أيضاً اي بساتين من أعناب وفيها زرع ونخيل { صنوان } النخلتان والثلاث في أصل واحد ، { غير صنوان } كل نخلة قائمة على اصلها ، وقوله : { تسقى } اي تلك الاعناب والزروع والنخيل { بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الاكل } وهو ما يؤكل منها فهذا حلو وهذا حامض وهذا لذيذ وهذا سمج ، وقوله : { ان في ذلك } اي المذكور من القطع المتجاورات مع اختلاف الطيب وعدمه وجنات الاعناب والنخيل وسقيها بماء واحد واختلاف طعومها وروائحها وفؤائدها { لآيات } علامات ودلائل باهرات على وجوب الايمان بالله وتوحيده ولقائه ، ولكن { لقوم يعقلون } اما الذين فقدوا عقولهم لاستيلاء المادة عليها واستحكام الشهوة فيما فإنهم لا يدركون ولا يفهمون شيئاً فكيف اذا يرون دلائل وجود الله وعلمه وقدرته وحكمته فيؤمنون به ويعبدون ويتقربون اليه .
{ هداية الآيات }
{ من هداية الآيات } :
1- تقرير عقيدة الوحي الالهي ونبوة محمد ( ص ) .
2- تقرير عقيدة التوحيد وانا لا اله الا الله .
3- تقرير عقيدة البعث الآخر والجزاء على الكسب في الدنيا .
4- فضيلة التفكر في الآيات الكونية .
5- فضيلة العقل للاهتداء به الى معرفة الحق واتباعه للاسعاد ولإكمال .
(2/238)
________________________________________
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)
{ شرح الكلمات } :
{ وان تعجب } : اي ياخذك العجب من انكارهم نبوتك والتوحيد .
{ فعجب } : اي فاعجب منه انكارهم للبعث والحياة الثانية مع وضوح الادلة وقوة الحجج .
{ لفي خلق جديد } : اي نرجع كما كنا بشراً احياء .
{ الاغلال في اعناقهم } : اي موانع من الايمان والاهتداء واغلال تشد بها أيديهم الى اعناقهم في الاخرة .
{ بالسيئة } : اي العذاب .
{ قبل الحسنة } : اي الرحمة وما يحسن بهم من العاقبة والرخاء والخصب .
{ المثلاث } : اي العقوبات واحدها مقله التي قد اصابت والمكذبين في الأمم الماضية .
{ لولا انزل هليه } : أي هلا أنزل ، ولولا أداة تحضيض كهلاً .
{ آية من ربه } : اي معجزة كعصا موسى موسى وناقة صالح مثلا .
{ ولكل قوم هاد } : اي نبي يدعوهم الى ربهم ليعبدوه وحده ولا يشركون به غيره .
{ ما تحمل كل أنثى } : اي من ذكر أو انثى واحداُ أو اكثر ابيض أو اسمر .
{ وما تغيض الأرحام } : اي تنقص من دم الحيض ، وما تزداد منه .
{ معنى الآيات } :
ما زال السياق الكريم في دعوة المشركين الى الايمان بالتوحيد والنبوة المحمدية والبعث يوم القيامة للسحاب والجزاء ، فقوله تعالى في الآية الأولى ( 5 ) { وان تعجب } يا نبينا من عدم إيمانهم برسالتك وتوحيد ربك فعجب اكبر هو عدم ايمانهم بالبعث الآخر ، اذ قالوا في انكار وتعجب : { أئذا متنا ومنا تراباً أئنا لفي خلق جديد } أي يحصل لنا بعد الفناء والبلى ، قال تعالى مشيراً اليهم مسجلاً الكفر عليهم ولازمه وهو الهداية كالتقليد الأعمى والكبر والمجاحدة والعناد ، وفي الآخرة اغلال توضع في اعناقهم من حديد تشد بها أيديهم الى اعناقهم ، { وأولئك أصحاب النار } اي أهلها { هم فيها خالدون } اي ماكثون ابداً لا يخرجون منها بحال من الأحوال .
وقوله تعالى في الآية الثانية ( 6 ) { ويستعجلونك بالسيئة الحسنة } يخبر تعالى رسوله مقرراً ما قال أولئك الكافرون بربهم ولقائه ونبي الله وما جاء به ، ما قالوه استخفافاً واستعجالاً وهو طلبهم العذاب الدنيوي ، اذا كان الرسول ( ص ) يخوفهم من عذاب الدنيا وعذب الاخرة ، فهم يطالبون به كقول بعضهم : { فأمطر علينا حجارة من السماء أو أئتنا بعذاب اليم } قبل طلبهم الحسنة وهذا لجهلهلم وكفرهم ، والا لطالبوا بالحسنة التي هي العافية والرخاء والخصب قبل السيئة التي هي الدمار والعذاب .
وقوله تعالى : { وقد خلت من قبلهم المثلات } أي والحال ان العقوبات قد مضت في الأمم من قبلهم كعقوبة الله لعاد وثمود وأصحاب الأيكة والمؤتفكات فما لهم يطالبون بها استبعاداً لها واستخفافاً بها اين ذهبت عقولهم ؟ وقوله تعالى : { وان ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } وهو ظاهر مشاهد اذ لو كان يؤاخذ بالظلم لمجرد وقوعه فلم يغفر لأصحابه لما ترك على الارض من دابة ، { وان ربك لشديد العقاب } اي على من عصاه بعد ان انذره وبين له من يتقي فلم يتق ما يوجب العذاب من الشرك والمعاصي .
(2/239)
________________________________________
وقوله تعالى في الآية ( 7 ) { ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه أية من ربه } ! يخبر تعالى رسوله والمؤمنين عن قيل الكافرين بالتوحيد والبعث والنبوة : { لولا } اي هلا انزل على محمد ( ص ) آية من ربه كعصا موسى وناقة صالح ، حتى نؤمن بنبوته ونصدق برسالته ، فيرد تعالى عليهم بقوله : { إنما أنت منذر } والمنذر المخوف من العذاب وليس لازماً ان تنزل معه الآيات ، وعليه فلا تلتفت الى ما يطالبون به من الايات ، واستمر على دعوتك فإن لكل قوم هادياً وأنت هادي هذه الأمة ، وداعيها الى ربها فادع واصبر .
وقوله تعالى في الآية الرابعة ( 8 ) { الله يعلم ما تحمل كل اثنى } اي من ذكر وانثى واحداً او اثنين أبيض أو اسمر سعيداً او شقياُ ، وقوله : { وما تغيض الارحام وما تزداد } اي ويعلم ما تغيض الأرحام من دماء الحيض وما تزداد منها اذ غيضها ينقص من مجة الحمل وازديادها يزيد في مدة الحمل فقد بلغ السنة أو اكثر ، وقوله : { وكل شيء عنده بمقدار } اي وكل شيء في حكمه وقضائه وتدبيره بمقدار معين لا يزيد ولا ينقص في ذات ولا صفة ولا حال ، ولا زمان ولا مكان ، وقوله : { عالم الغيب والشهادة } اي كل ما غاب عن الخلق ، وما لم يغب مما يشاهدونه اي العليم بكل شيء وقوله : { الكبير المعتال } اي الذي لا اكبر منه وكل كبير أمامه صغير المعتال على خلقه المنزه عن الشريك والشبيه والصاحبة والولد هذا هو الله وهذه صفاته فهل يليق بعاقل ان ينكر استحقاقه للعبادة دون سواه ؟ فهل يليق بعاقل ان ينكر عليه ان يوحي بما شاء على من يشاء من عباده ؟ فهل يليق بعاقل ان ينكر عليه أن ان يوحي بما شاء على من يشاء من عباده ؟ فهل يليق بعاقل ان ينكر على هذه قدرته وعمله ان يحي العباد بعد ان يميتهم ليسألهم عن كسبهم ويحاسبهم عليه ويجزيهم به ؟ اللهم لا اذا فالمنكرون على الله ما دعاهم الى الايمان به لا يعتبرون عقلاء وان طاروا في السماء وغاصوا في الماء .
{ هداية الآيات }
{ من هدية الآيات } :
1- تقرير أصول العقيدة الثلاثة : التوحيد والنبوة البعث والجزاء الآخر .
2- صوارف الإيمان والتي هي كالأغلال هي التقليد الأعمى ، والكبر والعناد .
3- عظيم قدرة الله تعالى وسعة علمه .
4- تقرير عقيدة القضاء والقدر .
(2/240)
________________________________________
سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
{ شرح الكلمات } :
{ وسارب بالنهار } : أي ظاهر في سربه اي طريقه .
{ له معقبات } : أي ملائكة تتعقبه بالليل والنهار .
{ من أمر الله } : اي بامر الله تعالى وعن اذنه وأمره .
{ لا يغير ما بقوم } : أي من عافية ونعمة الى بلاء وعذاب .
{ ما بإنفسهم } : من طهر وصفاء الإيمان والطاعات الى الذنوب والآثام .
{ وما لهم من دونه من وال } : اي وليس لهم من دون الله من يلبي أمرهم فيدفع عنهم العذاب .
{ من خفيته } : أي من الخوف منه وهيبته وجلاله .
{ وهو شديد المحال } : اي القوة والمماحلة .
{ معنى الآيات } :
ما زال السياق في ذكر جلال الله وعظيم قدرته وسعة علمه ، قال تعالى في هذه الآية : { سواء منكم من أسر القول ومن جهر به } فالله يعلم السر والجهر وأخفى { ومن هو مستخف بالليل } يمشي في ظلامه ومن هو { سارب بالنهار } أي يمشي في سربه وطريقه مكشوفاً معلوماً لله تعالى ، وقوله تعالى : { له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظومه من أمر الله } جائز ان يعود الضمير في « له » على من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ، فيكون المراد من المعقبات الحرس والجلاوزة الذين يحرسون السلطان من أمر الله تعالى في نظرهم ، ولكن اذا اراده الله بسوء فلا مرد له ماله من دون الله من وال يتولى حمايته والدفاع عنه ، وجائز ان يعود على الله تعالى ويكون المراد من المعقبات الملائكة الحفظة والكتبة للحسنات والسئيات ويكون معنى من أمر الله اي بأمره تعالى وإذنه ، والمعنى صحيح في التوجيهين للآية والى الاول ذهب ابن جرير والى الثاني ذهب جمهور المفسرين ، وقوله تعالى : { ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } يخبر تعالى عن سنة من سننه في خلقه ماضية فيهم وهي انه تعالى لا يزيل نعمة انعم بها على قوم من عافية وأمن ورخاء بسبب إيمانهم وصالح اعمالهم حتى يغيروا ما بأنفسهم من طهارة وصفاء بسبب ارتكابهم للذنوب وغشيانهم للمعاصي نتيجة الإعراض عن كتاب الله وإهمال شرعه وتعطيل حدوده والانغماس في الشهوات والضرب في سبيل الضلالات ، وقوله تعالى : { وإذا اراد الله بقوم فلا مرد له ومالهم من دونه من وال } هذا اخبار منه تعالى بانه اذا اراد بقوم أو فرد او جماعة سوءاً ما أي يسوءهم من بلاء وعذاب فلا مرد له بحال من الأحوال بل لا بد وان يمسهم ، ولا يجدون من دون الله من وال يتولى صرف العذاب عنهم ، اما من الله تعالى فإنهم اذا أنابوا اليه واستغفروه وتابوا اليه فإنه تعالى يكشف عنهم السوء ، ويصرف عنهم العذاب ، وقوله تعالى : { هو الذي يريكم البرق خوفاً } من الصواعق من جهة وطمعاً في المطر من جهة اخرى { وينشئ السحاب الثقال } اي وهو الذي ينشئ اي يبدء السحاب الثقال الذي يحمل الأمطار ( ويسبح الرعد بحمده ) اي وهو الذي يسبح الرعد بحمده وهو ملك موكل بالسحاب يقول : سبحان الله وبحمده ، وقوله : { والملائكة من خيفته } اي خيفة الله وهيبته وجلاله فهي لذلك تسبحه اي تتزهه عن الشريك والشبيه والولد بألفاظ يعلمها الله تعالى ، وقوله تعالى : { ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهو يجادلون في الله } اي في وجوده وصفاته وتوحيده وطاعته { وهو شديد المحال } هذه الآية نزلت فعلاً في رجل بعث اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من يدعوه الى الاسلام فقال الرجل الكافر لمن جاء من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم : من رسول الله ؟ وما الله امن ذهب هو او فضة او من نحاس ؟ فنزلت عليه صاعقة أثتاء كلامه فذهبت بقحف رأسه ، ومعنى شديد المحال اي القوة والاخذ والبطش .
(2/241)
________________________________________
{ هداية الآيات }
{ من هداية الآيات } :
1- سعة علم الله تعالى .
2- الحرس والجلاوزة لمن يستخدمهم لحفظه من امر الله تعالى لن يغتنموا عنه من امر الله شيئاً .
3- تقرير عقيدة ان لكل فرد ملائكة يتعاقبون عليه بالليل والنهار منهم الكرام الكاتبون ، ومنهم الحفظة للإنسان من الشياطين والجان .
4- بيان سنة ان النعم لا تزول الا بالمعاصي .
5- استجاب قول سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته عند سماع الرعد لورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ مختلفة .
(2/242)
________________________________________
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
{ شرح الكلمات } :
{ له دعوة الحق } : اي لله تعالى الدعوة الحق اي فهو الاله الحق الذي لا اله الا هو .
{ ليبلغ فاه } : اي الماء فمه .
{ الا في ضلال } : اي في ضياع لا حصول منه على طائل .
{ بالغدو والآصال } : أي بالبكر جمع بكرة ، والعشايا جمع عشية .
{ معنى الآيات } :
ما زال السياق في تقرير عقيدة التوحيد بالادلة والبراهين ، وقال تعالى : { له دعوة الحق } اي لله سبحان وتعالى الدعوة الحق وهي انه الاله الحق الذي لا اله الا هو ، اما غيره فإطلاق لفظ الاله اطلاق باطل ، فالاصنام والاوثان وكل ما عبد من دون الله اطلاق لفظ اله عليه باطل ، والدعوة الى عبادته باطلة ، اما الدعوة الحق فانها لله وحده .
وقوله تعالى : { والذين يدعون من دونه } اي من دون الله من سائر المعبودات { لا يستجيبون لهم بشيء } اي لا يجيبونهم بإعطائهم شيئاً مما يطلبون منهم { الا كباسط كفيه الى الماء } اي كاستجابة من بسط يديه أي فتحهما ومدهما الى الماء والماء في قعر البئر فلا كفاه تصل الى الماء ولا الماء يصل الى كفيه وهو عطشان ويظل كذلك حتى يهلك عطشاً ، هذا مثل من يعبد غير الله تعالى بدعاء او ذبح او نذر او خوف او رجاء فهو محروم الاستجابة خائب في مسعاه ولن تكون له عاقبته الا النار والخسران وهو معنى قوله تعالى { وما دعاء الكافرين الا في ضلال } اي بطلان وخسران ، وقوله تعالى : { ولله يسجد من في السماوات } أي الملائكة { والأرض } أي من مؤمن يسجد طوعاً ، ومنافق اي يسجد كرها ، { وظلالهم } أيضاً { بالغدو } اوائل النهار ، { والآصال } اواخر النهار ، ومعنى الاية الكريمة : اذا لم يسجد الكافرون ان لم ينقادوا لعبادة الله وحده تعالى فإن لله يسجد من في السماوات من الملائكة ، ومن في الأرض من الجن والأنس المؤمنون يسجدون طائعين والكافرون يسجدون اذا اكرهوا على السجود والمنافقون يسجدون مكرهين ، وظلالهم تسجد في البكر والعشايا كما انهم منقادون لقضاء الله تعالى وحكمه فيهم لا يستطيعون الخروج عنه بحال فهو الذي خلقهم وصورهم كما شاء ورزقهم ما شاء ويميتهم متى شاء فأي سجود وخضوع وركوع أظهر من هذا ؟ وقوله تعالى : { قل من رب السماوات والأرض } اي من خالقهما ومالكهما ومدبر الأمر فيهما ؟ وأمر رسوله ان يسبقهم الى الجواب { قل الله } اذ لا جواب لهم الا هو ، وبعد ان ان أقروا بان الرب الحق هو الله ، امر رسوله صلى الله عليه وسلم ان يقول لهم موبخاً مقرعاً { أفاتخذتم من دونه اولياء } اي شركاء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فضلاً عن ان يملكوا لكم نفعاً او يدفعون عنكم ضراً فأين يذهب بعقولكم ايها المشركون ، ومبالغة في البيان وإقامة للحجة والبرهان على وجوب التوحيد وبطلان الشرك والتنديد امر رسوله ان يقول لهم : { هل يستوي الأعمى والبصير ، أم هل تستوي الظلمات والنور } ؟ والجواب قطعاً لا اذ فكيف يستوى المؤمن والكافر ، وكيف يستوي الهدى والضلال ، فالمؤمن يعبد الله على بصيرة على علم انه خالقه ورازقه يعلم سره ونجواه اذا دعاه أرسل اليه رسوله وانزل عليه كتابه ، والكافر المشرك يعبد مخلوقاً من مخلوقات الله لا تملك لنفسها فضلاً عن عابديها نفعاً ولا ضراً لا تسع نداءً ولا تجيب دعاء ، المؤمن يعبد الله بما شرع له من عبادات وبما طلبت منه من طاعات وقربات ، والكافر المشرك يعبد الباطل بهواه ، ويسلك الغيّ في الحياة .
(2/243)
________________________________________
وقوله : { أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم } اي بل جعلوا لله شركاء فخلقت تلك الشركاء خلقوا كخلق الله فتشابه الخلق على المشركين فعبدوها ظناً منهم انها خلقت كخلق الله ؟ والجواب لا فإنها لم تخلق ولا تستطيع خلق ذبابة فضلاً عن غيرها اذا فكيف تصح عبادتها وهي لم تخلق شيئاً ، وقوله تعالى : { قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار } اي قل أيها الرسول للمشركين عند اعترافهم بان آلهتهم لم تخلق شيئاً قل لهم : الله خالق كل شيء وهو الواحد الذي لا شريك له ولا ند ولا مثل ، القهار لكل جبار والمذل لكل معاند كفار ، هو المستحق للعبادة الواجب له الطاعة ، الإيمان به هدى والكفر به ضلال .
{ هداية الآيات }
{ من هداية الآيات } :
1- دعوة الحق لله وحده فهو المعبود بحق ل اله غيره ولا رب سواه .
2- حرمان المشركين من دعائهم وسائر عباداتهم .
3- الخلق كلهم يسجدون لله طوعاً او كرهاً اذ الكل خاضع خاضع لحكم الله وتدبيره فيه .
4- مشروعية السجود للقارئ والمستمع اذا بلغ هذه الآية ( وظلالهم بالغدو والآصال ) ويستحب ان يكون ظاهراً مستقبلاً القلبة ، ويكبر عند الخفض والرفع ولا يسلم .
5- بطلان الشرك اذ لا دليل عليه من عقل ولا نقل .
6- وجوب العبادة لله تعالى .
(2/244)
________________________________________
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
{ شرح الكلمات } :
{ فسألت أودية بقدرها } : أي بمقدار مائها الذي يجري فيها .
{ زبداً رابياً } : اي غثاء اذ الزبد هو وضر غليان الماء او جريانه في الانهار .
{ ومما يوقدون عليه في النار } : أي كالذهب والفضة والنحاس .
{ ابتغاء حيلة او متاع } : اي طلباً لحيلة من ذهب او فضة او متاع من الأواني .
{ زبد مثله } : أي مثل زبد السيل .
{ فأما الزبد } : أي زبد السيل او زبد ما اوقد عليه النار .
{ فيذهب جفاء : اي باطلاً مرمياً بعيداً إذ هو غثاء ووضر لا خير فيه .
{ فيمكث في الأرض } : اي يبقى في الأرض زمناً ينتفع به الناس .
{ للذين استجابوا لربهم الحسنى } : أي للذين آمنوا وعملوا الصالحات الجنة .
{ لم يستجيبوا } : أي لم يؤمنوا به ولم يطيعوه .
{ لافتدوا به } : وهي المؤاخذة بكل ذنب عملوه لا يغفر لهم منه شيء .
{ وبئس المهاد } : أي الفراش الذي اعدوه لأنفسهم وهو جهنم .
{ معنى الايات }
ما زال السياق في تقرير التوحيد والتنديد بالكفر والشرك ففي هذه الآية الكريمة ضرب الله تعالى مثلاً للحق والباطل ، للحق في بقائه ، والباطل في اضمحلاله وتلاشيه فقال : { أنزل } اي الله { من السماء ماءً فسالت اودية بقدرها } أي بحسب كبرها وصغرها لأن الوادي قد يكون كبيراً وقد يكون صغيراً ، فاحتمل السيل اي حمل سيل الماء في الوادي زبداً رابياً اي غثاء ووضراً على سطح الماء ، هذا مثل مائي ، ومثل ناري قال فيه عز وجل : { ومما يوقدون عليه في النار } اي ومما يوقد عليه الصاغة والحدادون ( ابتغاء حلية ) اي طلباً للحلية ، { او متاع } اي طلباً لمتاع يتمتع به الأواني اذ الضائغ او الحداد يضع الذهب او الفضة او النحاس في البوتقة وينفخ عليها بالكير فيعلو ما كان فاسداً غير صالح على الصورة الزبد وما كان صالحاً يبقى في البوتقة وهو الذي يصنع منه الحيلة والمتاع ، وقوله تعالى : { كذلك } أي المذكور من الأمور الأربعة مثلي الحق وهما الماء والجوهر ومثلي الباطل وهما زبد الماء وزبد الجوهر { فأما الزبد فيذهب جفاء } اي باطلاً مرمياً به يرميه السيل الى ساحل الوادي فيعلق بالاشجار والاحجار ويرميه الصائغ عن بوتقته ، وأما ما ينفع الناس من الماء للسقي والري فيمكث في الأرض ، وكذا ما ينفع من الحلي والمتاع يبقى في بوتقة الصائغ والحداد وقوله تعالى : { كذلك يضرب الله الأمثال } أي مثل هذا المثل الذي ضربه للحق في بقائه والباطل في ذهابه وتلاشيه وان علا وطغا في بعض الأوقات ، { يضرب } أي بين الامثال ، ليعلموا فيؤمنوا ويهتدوا فيكملوا ويسعدوا .
هذا ما تضمنته الآية الأولى ( 17 ) واما الآية الثانية ( 18 ) فق اخبر تعالى بوعد له ووعيد اما وعده فلأهل طاعته بان لهم الحسنى الجنة وأما وعيده فلأهل معصيته وهو أسوأ وعيد وأشده ، فقال تعالى في وعده : { للذين استجابوا لربهم الحسنى } وقال في وعيده : ( والذين لم يستجيبوا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ) اي من مال ومتاع { ومثله معه } أيضاً لافتدوا به من العذاب الذي الذي تضمنه هذا الوعيد الشديد ، ويعلن عن الوعيد فيقول { أولئك } اي الأشقياء { لهم سوء الحساب } وهو أن يحاسبوا على صغيرة وكبيرة في أعمالهم ولا يغفر لهم منها شيء { ومأواهم جهنم } اي مقرهم ومكان إيوائهم { ويئس المهاد } أي الفراش جهنم لهم .
(2/245)
________________________________________
{ هداية الآيات }
{ من هداية الآيات } :
1- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني الى الاذهان .
2- ثبات الحق ، واضمحلال الباطل سنة من سنن الله تعالى .
3- بيان وعد الله للمستجيبين له بالايمان والطاعة وهي الجنة .
4- بيان وعيد الله لمن لم يستجب له بالايمان والطاعة .
(2/246)
________________________________________
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
{ شرح الكلمات } :
{ كمن هو اعمى } : أي لا يرى الحق ولا يعمله ولا يؤمن به .
{ أولوا الألباب } : أي أصحاب العقول .
{ يصلون ما امر الله به ان يوصل } : أي من الإيمان والتوحيد والأرحام .
{ ويدرءون بالحسنة } : أي يدفعون بالحلم الجهل ، وبالصبر الأذى .
{ عقبى الدار } : أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة .
{ جنات عدن } : أي جنات إقامة دائمة .
{ معنى الآيات } :
لقد تضمنت هذه الآيات مقارنة ومفاضلة بين شخصيتين : الأولى شخصية مؤمن صالح كحمزة بن عبدالمطلب والثانية شخصية كافر فاسد كأبي جهل المخزومي وبين ما لهما من جزاء في الدار الآخرة ، مع ذكر صفات كل منهما ، تلك الصفات المقتضية لجزائهما في الدار الآخرة قال تعالى : { أفمن يعلم أنما انزل اليك من ربك الحق } فيؤمن به بعد العلم ويستقيم على منهجه في عقيدته وعبادته ومعاملاته وسلوكه كله . هذه الشخصية الأولى { كمن هو اعمى } لم يعلم الحق ولم يؤمن به ولم يفعل بما انزل الى الرسول من الشرع .
والجواب قطعاً انهما لا يستويان ولا يكونان في ميزان العدل والحق متساويين وقوله تعالى : { إنما يتذكر أولوا الألباب } اي يتعظ بمثل هذه المقارنة أصحاب العقول المدركة للحقائق ، والمفرقة بين المتضادات كالحق والباطل والخير والشر والنافع والضار . وقوله تعالى : ( الذين يوفون ) هذا مشروع في بيان صفاتهم المقتضية إنعامهم وإكرامهم نذكر لهم ثماني صفات هي كالتالي : ( 1 ) الوفاء بالعهود وعدم نقضها : { الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق } اذ لا دين لمن لا عهد له . ( 2 ) وصل ما امر الله به ان يوصل من الايمان والاسلام والاحسان والارحام : { والذين يصلون ما امر الله به ان يوصل } .
( 3 ) خشية الله المقتضية لطاعته : { ويخشون ربهم } . ( 4 ) الخوف من سوء الحساب يوم القيامة المقتضي لمحاسبة النفس على الصغيرة والكبيرة : { ويخافون سوء الحساب } . ( 5 ) الصبر طلباً لمرضاة الله على الطاعات وعن المعاصي ، وعلى البلاء : { والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم } . ( 6 ) اقامة الصلاة وهي إداؤها في أوقاتها جماعة بكامل الشروط والاركان والسنن والآداب : { واقاموا الصلاة } . ( 7 ) الانفاق مما رزقهم الله في الزكاة والصدقات الواجبة والمندوبة : { وأنفقوا مما رزقناهم } . ( 8 ) دفع السيئة بالحسنة فيدرءون سيئة الجهل عليهم بحسنة الحلم ، وسيئة الأذى بحسنة الصبر .
وقوله تعالى : { أولئك لهم عقبى الدار } اي العاقبة المحمودة وفسرها بقوله { جنات عدن } أي إقامة لا ظعن منه يدخلونها هم { ومن صلح من آبائهم وازواجهم وذرياتهم } والصلاح هنا الايمان والعمل الصالح . وقوله : { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب } هذا عند دخولهم الجنة تدخل عليهم الملائكة تهنئهم بسلامة الوصول وتحقيق المأمول وتسلم عليهم قائلة : { سلام عليكم بما صبرتم } أي بسبب صبركم والايمان والطاعة { فنعم عقى الدار } . هذه تهنئة الملائكة لهم وأعظم بها تهنئة وأبرك بها بركة اللهم اجعلني منهم ووالدي واهل بيتي والمسلمين اجمعين .
{ هداية الآيات }
{ من هداية الآيات } :
1- المؤمن حي يبصر ويعلم ويعمل والكافر ميت أعمى لا يعلم ولا يعمل .
2- الاتعاظ بالمواعظ يحصل لذي عقل راجح سليم .
3- فضل هذه الصفات الثمانية المذكورة في هذه الآيات . أولها الوفاء بعهد الله وآخرها درء السيئة بالحسنة .
4- تفسير عقبى الدار وأنها الجنة .
5- بيان ان الملائكة تهنئ اهل الجنة عند دخولهم وتسلم عليهم .
(2/247)
________________________________________
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
{ شرح الكلمات } :
{ والذين ينقضون عهد الله } : أي يحلونه ولا يلتزمون به فلم يعبدوا ربهم وحده .
{ ويقطعون ما امر الله به أن يوصل } : أي من الإيمان والأرحام .
{ ويفسدون في الأرض } : أي بترك الصلاة ومنع الزكاة ، وبارتكاب السيئات وترك الحسنات .
{ لهم اللعنة } : أي البعد من رحمة الله تعالى .
{ ولهم سوء الدار } : أي جهنم وبئس المهاد .
{ ويقدر } : أي يضيق ويقتر .
{ الا متاع } : قدر يسير يتمتع به زمناً ثم ينقضي .
{ طوبى لهم وحسن مآب } : أي لهم طوبى شجرة في الجنة وحسن منقلب وهو دار السلام .
{ معنى الآيات } :
قوله تعالى : { والذين ينقضون } الآيات ، هذا هو الطرف المقابل او الشخصية الثانية وهو من لم يعلم ولم يؤمن كأبي جهل المقابل لحمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه ذكر تعالى هنا صفاته الموجبة لعذابه وحرمانه فذكر له ولمن شاكلته الصفات التالية : ( 1 ) نقض العهد فلم يعبدوا الله ولم يوحدوه وهو العهد الذي أخذ عليهم في عالم الأوراح : { والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } .
( 2 ) قطع ما أمر الله به ان يوصل من الايمان وصلة الأرحام : { ويقطعون ما أمر الله به ان يوصل } .
( 3 ) الإفساد في الارض بالشرك والمعاصي : { يفسدون في الأرض } بهذه الصفات استوجبوا هذا الجزاء ، قال تعالى : { اولئك لهم اللعنة } اي البعد من الرحمة { ولهم سوء الدار } أي جهنم وبئس المهاد ، وقوله تعالى : { الله يبسط الرزق لمن شاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا ، وما الحياة الدنيا في الاخرة الا متاع } يخبر تعالى عن سنة من سننه في خلقه وهي يبسط الرزق اى يوسعه على من يشاء امتحاناً هل يشكر ام يكفر ويضيق ويفتر على من يشاء ابتلاء هل يصبر او يجزع ، وقد يبسط الرزق لبعض اذ لا يصلحهم الا ذاك ، وقد يضيق على بعض اذ لا يصلهم الا ذاك ، فلن يكون الغنى دالاً على رضى الله ، ولا الفقر دالاً على سخطه تعالى على عباده ، وقوله { وفرحوا بالحياة الدنيا } اي فرح اولئك الكافرون بالحياة الدنيا لجهلهم بمقدارها وعاقبتها وسوء آثارها وما الحياة الدنيا بالنسبة الى ما اعد الله لأوليائه وهو اهل الايمان به وطاعته الا متاع قليل ككف التمر أو قرص الخبز يعطاه الراعي غذاء له طول النهار ثم ينفذ ، وقوله تعالى في الآية ( 27 ) : { ويقول الذين كفروا لولا انزل عليه آية من ربه } فقد تقدم مثل هذا الطلب من المشركين وهو مطالبة المشركين النبي صلى الله عليه وسلم ان تكون له آية كناقة صالح عصا موسى ليؤمنوا به وهم في ذلك كاذبون فلم يحملهم على هذا الطلب الا الاستخفاف والعناد والا آيات القرآن أعظم من آية الناقة والعصا ، فلذا قال تعالى لرسوله : { قل إن الله يضل من يشاء } ضلاله ولو رأى وشاهد ألوف الآيات { ويهدي اليه من أناب } ولو لم ير آية واحدة الا انه أناب الى الله فهداه اليه وقبله وجعله من اهل ولايته ، وقوله تعالى في الآية ( 8 ) { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله } أولئك الذين أنابوا اليه تعالى إيماناً وتوحيداً فهداهم إليه صراطاً مستقيماً هؤلاء تطئمن قلوبهم أي تسكن وتستأنس بذكر الله وذكره وعده وذكر صالحي عباده محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقوله تعالى : { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } اي قلوب المؤمنين اما قلوب الكافرين فإنها تطمئن لذكر الدنيا وملاذها وقلوب المشركين تطمئن لذكر أصنامهم ، وقوله تعالى { والذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب } إخبار من الله تعالى بما أعد لأهل الإيمان والعمل الصالح وهو طوبى حال من الحسن الطيب يعجز البيان عن وصفها أو شجرة في الجنة وحسن منقلب وهو الجنة دار السلام والنعيم المقيم .
(2/248)
________________________________________
{ هداية الآيات }
{ من هداية الآيات } :
1- حرمة الاتصاف بصفات اهل الشقاء وهي نقض العهد ، وقطع أمر الله به أن يوصل والإفساد في الأرض بالشرك والمعاصي .
2- بيان ان الغنى والفقر يتمان حسب علم الله تعالى امتحاناً وابتلاء فلا يدلان على رضا الله ولا على سخطه 3- حقارة الدنيا وضالة ما فيها من المتاع .
5- وعد الله تعالى لأهل الإيمان والعمل الصالح بطوبى وحسن المآب .
(2/249)
________________________________________
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)
{ شرح الكلمات } :
{ كذلك أرسلناك } : أي مثل ذلك الإرسال الذي أرسلنا أرسلناك .
{ لتتلو عليهم } : أي لتقرأ عليهم القرأن تذكيراً وتعليماً ونذارة وبشارة .
{ وهو يكفرون بالرحمن } : اذا قالوا وما الرحمن وقالوا لا رحمن الا رحمان اليمامة .
{ سيرت به الجبال } : أي نقلت من اماكنها .
{ او قطعت به الارض } : اي شققت فجعلت انهاراً وعيوناً .
{ أو كلم به الموتى } : اي احيوا وتكلموا .
{ أفلم ييأس } : أي يعلم .
{ قارعة } : أي داهية تقرع قلوبهم بالخوف والحزن وتهلكهم وتستأصلهم .
{ او تحل قريباً من دارهم } : أي القارعة او الجيش الإسلامي .
{ فأمليت } : اي امهلت وأخرت مدة طويلة .
{ معنى الآيات }
ما زال السياق في تقرير أصول العقائد : التوحيد والنبوة والبعث والجزاء الآخر ففي الآية الأولى من هذا السياق وهي قوله تعالى : { كذلك أرسلناك } فقرر نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله كذلك اي الارسال الذي ارسلنا من قبلك انت الى امة قد خلت من قبلها امم ، وبين فائدة الارسال فقال : { لتتلو عليهم الذي أوحينا اليك } وهو رحمة والهدى والشفاء { وهو يكفرون بالرحمن } الرحمن الذي ارسلك لهم بالهدى ودين الحق لإكمالهم وإسعادهم يكفرون به ، اذا فقل انت ايها الرسول هو ربي لا اله الا هو اي لا معبود بحق الا هو عليه توكلت واليه متاب اي توبتي ورجوعي فقرر بذلك مبدأ التوحيد بأصدق عبارة وقوله تعالى في الآية الثانية ( 31 ) { ولو أن قرآناً } الخ : لا شك ان مشركي مكة كانوا بما ذكره في هذه الاية اذا قالوا ان كنت رسولاً فادع لنا ربك فيسر عنا هذه الجبال التي تكتنف وادينا فتتسع ارضنا للزراعة والحراثة وقطع ارضنا فاخرج لنا منها العيون والانهار واحيي لنا فلان وفلاناً حتى نكملهم ونسألهم عن صحة ما تقول وتدعي بأنك نبي فقال تعال : { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال او قطعت به الأرض أو كلم به الموتى } اي لكان هذا القرأن ، ولكن ليست الآيات هي التي تهدي بل الله الامر جميعاً يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، ولما صرفهم الله تعالى عن الآيات الكونية لعلمه تعالى أنهم لو اعطاهم اياها لما آمنوا عليها فيحق عليهم عذاب الإبادة كالأمم السابقة ، وكان من المؤمنين من يود الآيات الكونية ظناً منه ان المشركين لو شاهدوا أمنوا وانتهت المعركة الدائرة بين الشرك والتوحيد قال تعالى : { أفلم ييأس الذين آمنوا } أي يعملوا { أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً } بالآيات وبدونها فليترك الأمر له سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وقوله تعالى : { ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا } اي من الشرك والمعاصي { قارعة } أي داهية تفرع قلوبهم بالخوف والفزع ونفوسهم بالهم والحزن وذلك كالجدب والمرض والقتل والأسر { أو تحل قريباً من دارهم } أي يحل الرسول بجيشه الإسلامي ليفتح مكة حتى يأتي وعد الله بنصرك أيها الرسول عليهم والآية عامة فيمن بعد قريش ويكون الوعيد متناولاً امم الكفر عامة وها هي ذي الحروب تقرعهم كل قرن مرة ومرتين والحرب الذرية على أبوابهم ولا يزال أمرهم كذلك حتى يحل الجيش الإسلامي قريباً من دارهم ليدخلوا في دين الله او يهلكوا ، { ان الله لا يخلف المعياد } وقد أنجز ما وعد قريشاً ، وفي الآية الأخيرة ( 32 ) يخبر تعالى رسوله مسلياً إياه عما يجد من تعب وألم من صلف المشركين وعنادهم فيقول له : { ولقد استهزئ برسل من قبلك } أي كما استهزئ بك فصبروا فاصبر أنت ، { فأمليت للذين كفروا } أي امهلتهم وأنظرتهم حتى قامت الحجة عليهم ثم أخذتهم فلم أبق منهم احداً { فكيف كان عقاب } أي كان شديداً عاماً واقعاً موقعه ، فكذلك أفعل بمن استهزا بك يا رسولنا اذا لم يتوبوا ويسلموا .
(2/250)
________________________________________
{ هداية الآيات }
{ من هداية الآيات } :
1- تقرير التوحيد .
2- لا توكل الا على الله ، ولا توبة لأحد إليه .
3- عظمة القرآن الكريم وبيان فضله .
4- إطلاق لفظ اليأس والمراد به العلم .
5- توعد الرب تعالى الكافرين بالقوارع في الدنيا الى يوم القيامة .
6- الله جل جلالة يملي ويمهل ولكن لا يهمل بل يؤاخذ ويعاقب .
(2/251)
________________________________________
أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
{ شرح الكلمات } :
{ أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } : أي حافظها ورازقها وعالم بها وبما كسبت و يجازيها بعملها .
{ قل سموهم } : أي صفوهم له من هم ؟
{ أم تنبونه بما لا يعلم } : أي اتخبرونه بما لا يعمله ؟
{ بظاهر من القول } : أي بظن باطل لا حقيقة له في الواقع .
{ أشق } : أي أشد .
{ واق } : أي مانع يمنعهم من العذاب .
{ مثل الجنة } : أي صفتها التي نقصها عليك .
{ أكلها دائم وظلها } : أي ما يؤكل فيها دائم لا يفنى وظلها دائم لا ينسخ .
{ معنى الآيات } :
ما زال السياق في تقرير التوحيد وإبطال التنديد بقوله تعالى : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } أي حافظها ورازفها وعالم بها وبما كسبت من خير وشر ومجازيها كمن لا يحفظ ولا يرزق ولا يعلم ولا يجزي وهو الاصنام ، اذا فبطل تأليهها ولم يبق الا الاله الحق الله الذي لا اله الا هو ولا رب سواه ، وقوله تعالى : { وجعلوا لله شركاء } أي يعبدونهم معه { قل سموهم } اي قل لهم يا رسولنا سموا لنا تلك الشركاء صفوهم بينوا من هم ؟ { أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض } أي أتنبئون الله بما لا يعلم في الأرض ؟ { أم بظاهر من القول } أي بل بظاهر من القول أي بظن باطل لا حقيقة له في الواقع .
وقوله تعالى { بل زين للذين كفروا مكرهم } اي قولهم الكاذب وافتراؤهم الماكر فبذلك صدوا عن السبيل سبيل الحق وصرفوا عنه فلم يهتدوا اليه ، { ومن يضلل الله فما له من هاد } وقوله تعالى : { لهم عذاب في الحياة الدنيا } بالقتل والأسر ، و { العذاب الآخرة أشق } أي أشد من عذاب الدنيا مهما كان { وما لهم من الله من واق } أي وليس لهم من دون الله من يقيهم فيصرفه عنهم ويدفعه حتى لا يذوقوه ، وقوله تعالى : { مثل الجنة التي وعد المتقون } أي لما ذكر عذاب الآخرة لأهل الكفر والفجور ذكر نعيم الاخرة لأهل الايمان والتقوى ، فقال : { مثل الجنة التي وعد المتقون } أي صفة الجنة ووصفها بقوله : { تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظللها } دائم كذلك فطعامها لا ينفذ ، وظلها لا يزول ولا ينسخ بشمس كظل الدنيا ، وقوله : { تلك } اي الجنة { عقبى الذين اتقوا } أي ربهم فآمنوا به وعبدوه ووحدوه واطاعوه في أمر ونهيه ، { وعقبى الكافرين النار } والعقبى بمعنى العاقبة في الخير والشر .
{ هداية الآيات }
{ من هداية الآيات } :
1- تقرير التوحيد اذ الاصنام لا تحفظ ولا ترزق ولا تحاسب ولا تجزي ، والله هو القائم على كل نفس فهو الاله الحق وما عداه فآلهة باطلة لا حقيقة لها الا مجرد أسماء .
2- استمرار الكفار على كفرهم هو نتيجة تزيين الشيطان لهم ذلك فصدهم عن السبيل .
3- ميزة القرآن الكريم في الجمع بين الوعد والوعيد إذ بهما تمكن هداية الناس .
(2/252)
________________________________________
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
{ شرح الكلمات } :
{ والذين آتيناهم الكتاب } : أي كعبد بن سلام ومن أمن من اليهود .
{ يقفرحون بما انزل اليك } : أي يسرون به لأنهم مؤمنون صادقون ولأنه موافق لما عندهم .
{ ومن الأحزاب } : اي من اليهود والمشركين .
{ من ينكر بعضه } : أي بعض القرآن فالمشركون أنكروا لفظ الرحمن وقالوا لا رحمن الا رحمن اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب .
{ وكذلك أنزلناه حكماً عربياً } : أي بلسان العرب لتحكم به بينهم .
{ لكل أجل كتاب } : أي لكل مدة كتاب كتبت فيه المدة المحددة .
{ يمحو الله ما يشاء } : أي يمحو من الاحكام وغيرها ويثبت ما يشاء فما محاه هو المنسوخ وما أبقاه هو المحكم .
{ معنى الآيات }
ما زال السياق في تقرير أصول العقيدة : التوحيد والنبوة والبعث والجزاء ، فقوله تعالى : { والذين آتيناهم الكتاب } كعبدالله بن سلام يفرحون بما انزل اليك وهو القرآن وفي هذا تقرير للوحي وإثبات له ، وقوله { ومن الأحزاب } ككفار اهل الكتاب والمشركين { من ينكر بعضه } فاليهود انكروا اغلب ما في القرآن من الاحكام ولم يصدقوا الا بالقصص ، والمشركون انكروا { الرحمن } وقالوا لا رحمن الا رحمان اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب عليه لعائن الله ، وقوله تعالى : { قل إنما أمرت ان أعبد الله ولا أشرك به } أي امرني ربي أن اعبد ولا اشرك به ، اليه تعالى ادعو الناس اي الى الايمان به والى توحيده وطاعته ، { وإليه مآب } اي رجوعي وإيابي وفي هذا تقرير للتوحيد ، وقوله تعالى : { وكذلك أنزلناه حكماً عربياً } أي وكهذا الانزال للقرآن أنزلناه بلسان العرب لتحكم بينهم به ، وفي هذا تقرير للوحي الالهي والنبوة المحمدية ، وقوله : { ولئن اتبعت اهواءهم بعد ما جاءك من العلم } بان وافقتهم على مللهم وباطلهم في اعتقادهم ، وحاشا رسول الله ( ص ) ان يفعل وإنما الخطاب من باب . . . إياك اعني واسمعي يا جارة . . . { ما لك من الله من ولي ولا واق } اي ليس لك من دون الله من ولي يتولى امر نصرك وحفظك ، ولا واق يقيك عذاب الله اذا اراده بك لأتباعك اهل الباطل وتركك الحق واهله ، وقوله تعالى : { ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم ازواجاً وذرية } فلا معنى لما يقوله المبطلون : لم يتخذ محمد أزواجاً ولم تكون له ذرية ؟ وهو يقول انه نبي الله ورسوله ، فان الرسل قبلك من نوح وإبراهيم الى موسى وداوود وسليمان الكل كان لهم ازواج وذربة ، ولما قالوا { لولا أنزل عليه آية } رد الله تعالى عليهم بقوله : { وما كان لرسول ان يأتي بآية الا باذن الله } فالرسل كلهم مربوبون لله مقهرون لا يملكون مع الله شيئاًَ فهو المالك المتصرف ان شاء اعطاهم وان شاء منعهم ، وقوله : { لكل أجل كتاب } اي لكل وقت محدد يعطي الله تعالى فيه او يمنع كتاب كتب فيه ذلك الأجل وعين فلا فوضى ولا انف ، وقوله : { يمحمو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب } رد على قولهم لم يثبت الشيء ثم يبطله كاستقبال بيت المقدس ثم الكعبة وكالعدة من الحول الى اربعة أشهر وعشرة فاعلهم ان الله تعالى يمحو ما يشاء من الشرائع والاحكام بحسب حاجة عباده ويثبت كذلك ما هو صالح لهم نافع ، { وعنده أم الكتاب } اي الذي حوى كل المقادير فلا يدخله تبديل ولا تغيير كالموت والحياة والسعادة والشقاء ، وفي الحديث :
(2/253)
________________________________________
« رفعت الأقلام وجفت الصحف » رواه مسلم .
{ هداية الآيات }
{ من هداية الآيات } :
1- تقرير عقيدة الوحي والنبوة .
2- تقرير عقيدة التوحيد .
3- تقرير ان القضاء والحكم في الاسلام مصدره الأول القرآن الكريم ثم السنة لبيانها للقرآن ، ثم القياس المأذون فيه بإجماع الامة لاستحالة اجتماعها على غير ما يحب الله تعالى ويرضى به .
4- التحذير من اتباع أصحاب البدع والأهواء والملل والنحل الباطلة .
5- تقرير عقيدة القضاء والقدر .
6- بيان النسخ في الاحكام بالكتاب والسنة .
(2/254)
________________________________________
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
{ شرح الكلمات } :
{ نعدهم } : اي من العذاب .
{ أو نتوفينك } : اي قبل ذلك .
{ ننقصها من اطرافها } : أي بلداً بعد بلد بالفتح ودخول الإسلام فيها وانتهاء الشرك منها .
{ لا معقب لحكمه } : أي لا راد له بحيث لا يتعقب حكمه فيبطل .
{ ومن عنده علم الكتاب } : من مؤمني اليهود والنصارى .
{ معنى الآيات } :
قوله تعالى : { واما نرينك الذي نعدهم او نتوفينك } اي ان أريتك بعض الذي نعد قومك من العذاب فذاك ، وان نتوفينك قبل ذلك فليس عليك الا البلاغ فقد بلغت وعلينا الحساب فسوف نجزيهم بما كانوا يكسبون ، فلا تأس أيها الرسول ولا تضق ذرعاً بما يمكرون ، وقوله { أو لم يروا } اي المشركون الجاحدون الماكرون المطالبون بالآيات على صدق نبوة نبينا { أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } أي نفتحها للاسلام بلداً بعد بلد أليس ذلك آية دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة دعوته ، وقوله : { الله يحكم ولا معقب لحكمه } اي والله جل جلاله يحكم في خلقه بما يشاء فيعز ويذل ويعطي ويمنع وينصر ويهزم ، ولا معقب لحكمه اي ليس هناك من يعقب على حكمه فيبطله فإذا حكم بظهور الاسلام وإدبار الكفر فمن يرد ذلك على الله ، وقوله : { وهو سريع الحساب } اذا حاسب على كسب فحسابه سريع يجزي الكاسب بما يستحق دون بطء ولا تراخ وقوله تعالى : { وقد مكر الذين من قبلهم } أي وقد مكرت اقوام قبل قريش وكفار مكة فكيف كان عاقبة مكرهم ؟ وقوله : { فلله المكر جميعاً } اي اذا فلا عبرة بمكرهم ولا قيمة له فلا يرهب ولا يلتفت اليه وقوله : { يعلم ما تكسب كل نفس } من خير وشر فأين مكر من لا يعلم من مكر كل شيء فسوف يصل بالممكور به الى حافة الهلاك وهو لا يشعر ، أفلا يعني هذا كفار قريش فيكفوا عن مكرهم برسول الله ودعوته ، وقوله تعالى : { وسيعلم الكفار لمن عقيى الدار } أي سيعلم المشركون خصوم الوحيد يوم القيامة لمن عقبى الدار اي العاقبة الحميدة لمن دخل الجنة وهو محمد صلى الله عليه وسلم واتباعه او لمن دخل النار وهم دعاة الشرك والكفر واتباعهم ، وقوله تعالى : { ويقول الذين كفروا لست مرسلاً } أي يواجهونك بالانكار عليك والجحود لنبوتك ورسالتك قل لهم يا رسولنا الله شهيد بيني وبينكم وقد شهد لي بالرسالة وأقسم لي عليها مرات في كلامه مثل { يسَ والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين } وكفى بشهادة الله شهادة ، { ومن عنده علم الكتاب } الأول التوارة والانجيل وهم مؤمنوا اهل الكتاب من اليهود والنصارى كعبدالله بن سلام وسلمان الفارسي والنجاشي وتميم الداري وغيرهم .
{ هداية الآيات }
{ من هداية الآيات } :
1- انتصار الإسلام وانتشاره في ظرف ربع قرن أكبر دليل على أنه حق .
2- احكام الله تعالى لا ترد ، ولا يجوز طلب الاستئناف على حكم من احكام الله تعالى في كتابه او سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
3- شهادة الله أعظم شهادة ، فلا تطلب بعدها شهادة اذا كان الخصام بين مؤمنين .
4- فضل العالم على الجاهل ، اذ شهادة مؤمني أهل الكتاب تقوم بها الحجة على من لا علم لهم من المشركين .
(2/255)
________________________________________
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
{ شرح الكلمات } :
{ آلر } : هذا احد الحروف المقطعة تكتب آلر وتقرأ ألف لام رَا والتفويض فيها أسلم وهو قول الله أعلم بمراده بذلك .
{ كتاب } : اي هذا كتاب عظيم .
{ أنزلناه إليك } : يا محمد صلى الله عليه وسلم .
{ من الظلمات } : أي من ظلمات الكفر الى نور الإيمان .
{ العزيز الحميد } : أي المحمود بالآئه .
{ عن سبيل الله } : أي الإسلام .
{ عوجاً } : أي معوجة .
{ بآياتنا } : أي المعجزات التسع : العصا ، اليد ، الطوفان ، الجراد ، القمل ، الضفادع ، الدم ، والطمس والسنين ونقص الثمرات .
{ وذكرهم بأيام الله } : أي ببلائه ونعمائه .
{ معنى الآيات } :
قوله تعالى : { الر } الله اعلم بمراده وقوله : { كتاب أنزلناه } اي هذا كتاب عظيم القدر انزلناه إليك يا رسولنا لتخرج الناس من الظلمات اي من الظلمات الكفر والجهل الى نور الايمان والعلم لاشرعي ، وذلك { بإذن ربهم } اي بتوقيفه ومعونته { الى صراط العزيز الحميد } اي الى طريق العزيز الغالب الحميد اى المحمود بآلائه وافضلاته على عباده وسائر مخلوقاته { الله الذي له ما في السموات وما في الأرض } خلقاً وملكاً وتصريفاً وتدبيراً ، هذا هو الله صاحب الموصل الى الاسعاد والاكمال البشري ، والكافرون معرضون بل ويصدون عنه فويل لهم من عذاب شديد ، الكافورن { الذين يستحبون الحياة الدنيا } اي يفضلون الحياة الدنيا فيعلمون للدنيا ويتركون العمل للاخرة لعدم إيمانهم بها { ويصدون } أنفسهم وغيرهم ايضاً { عن سبيل الله } اي الاسلام { ويبغونها عوجاً } اي معوجة انهم يريدون من الاسلام ان يوافقهم في اهوائهم وما يشتهون حتى يقبلوه ويرضوا به دنيا قال تعالى : { أولئك في ضلال بعيد } إنهم بهذا السلوك المتثمل في ايثار الدنيا على الاخرة والصد على الاسلام ، ومحاولة تسخير الاسلام لتحقيق اطماعهم وشهواتهم في ضلال بعيد لا يمكن لصاحبه ان يرجع منه الى الهدى ، وقوله تعالى في الآية ( 4 ) من هذا السياق { وما ارسلنا من رسول الا بلسان قومه } اي بلغتهم التي يتخاطبون بها ويتفاهمون لحمكة ان يبين لهم ، والله بعد ذلك يضل من يشاء إضلاله حسب سنته في الاضلال ويهدي من يشاء كذلك { وهو العزيز } الغالب الذي لا يمانع في شي ، اراده { الحكيم } الذي يضع مل شيء في موضعه فلذا هو لا يضل الا من رغب في الاضلال وتكلف له وأحبه وآثره ، وتنكر للهدى وحارب المهتدين والداعين الى الهدى ، وليس من حكمته تعالى ان يضل من يطلب الهدى ويسعى اليه ويلتزم طريقه ويحبه ويحب اهله ، وقوله تعالى : { ولقد ارسلنا موسى } اي موسى نبي بني إسرائيل { بآياتنا } اي بحججنا وادلتنا الدالة على رسالته والهادية الى ما يدعو اليه وهي تسع آيات منها اليد والعصى { ان أخرج قومك من الظلمات الى النور } أي اخرج قومك من ظلمات الشرك الى نور التوحيد ، { وذكرهم بأيام الله } أي وقلنا له : ذكرهم بأيام الله وهي بلاؤه ونعمه اذا انجاهم من عذاب آل فرعون وأنعم عليهم بمثل المن والسلوى ، وذلك ليحملهم على الشكر لله بطاعته وطاعة رسوله ، وقوله تعالى : { ان في ذلك لآيات لكل صبار شكور } أي إن في ذلك التذكير بالبلاء والنعماء لدلالات في التذكير هم أهل الصبر والشكر بل هم الكثيروا الصبر والشكر ، ون غيرهم فلا يرى في ذلك دلالة ولا علامة .
(2/256)
________________________________________
{ هداية الآيات } :
{ من هداية الآيات } :
1- اقامة الحجة على المكذبين بالقرآن الكريم ، اذ هو مؤلف من الحروف المقطعة مثل آلر وطسم وآلم وحم ، ولم يستطيعوا بمثله بل بسورة مثله .
2- بيان ان الكفر ظلام ، والايمان نور .
3- بيان الحكمة في ارسال الله تعالى الرسل بلغات اقوامهم .
4- تقرير ان الذي يخلق الهداية هو الله واما العبد فليس له اكثر من الكسب .
5- فضيلة التذكير بالخير والشكر ليشكر الله ويتقى .
6- فضيلة الصبر والشكر .
(2/257)
________________________________________
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
{ شرح الكلمات } :
{ وإذ قال موسى } : أي اذكر اذ قال موسى .
{ يسومونكم } : يذيقونكم .
{ ويستحون نساءكم } : أي يستبقونهنَّ .
{ بلاء من ربكم عظيم } : أي ابتلاء واختبار ، ويكون الخير والشر .
{ وإ ذ تأذن ربكم } : اي اعلم ربكم .
{ بالبينات } : بالحجج الواضحة على صدقهم في دعوة النبوة والتوحيد والبعث الاخر .
{ فردوا أيديهم في أفواههم } : أي فرد الأمم ايديهم في أفواههم اي اشاروا اليهم ان اسكتوا .
{ مريب } : موقع في الريبة .
{ معنى الآيات } :
{ واذ قال موسى لقومه } اي اذكر يا رسولنا اذ قال موسى لقومه من بني إسرائيل { اذكروا نعمة الله عليكم } أي لتشكروها بتوحيده وطاعته ، فإن من ذكر شكر وبين لهم نوع النعمة وهي انجاؤهم من فرعون وملائه اذ كانوا يعذبونهم بالاضطهاد والاستعباد ، فقال : { يسومونكم سوء العذاب } اي يذيقونكم سوء العذاب وهو اسوأة وأشده ، { ويذبحون أبناءكم } اي الاطفال المولودين ، لان النكهة او رجال السياسة قالوا لفرعون : لا يبعد ان يسقط عرشك وتزول دولتك على أيدي رجل من بني اسرائيل فأمر بقتل المواليد فور ولادتهم فيقتلون الذكور ويستبقون الإناث للخدمة ولعدم الخوف منهن وهو معنى قوله : { ويستحيون نساءكم } وقوله تعالى : { وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } فهو بالنظر الى كونه عذاباً بلاء الشر ، وفي كونه نجاة منه ، بلاء الخير ، وقوله تعالى : { وإذ تأذن ربكم ) هذا من قول موسى لبني إسرائيل اي اذكر لهم اذ أعلم ربكم مقسماً لكم ( لئن شكرتم } نعمي بعبادتي وتوحيدي فيها وطاعتي وطاعة رسولي بامتثال الأوامر واجتناب النواهي { أزيدنكم } في الانعام والاسعاد { ولئن كفرتم } فلم تشكروا نعمي فعصيتموني وعصيتم رسولي اي لأسلبنها منكم واعذبكم بسلبها من ايديكم { ان عذابي لشديد } فاحذروه واخشوني فيه ، وقوله تعالى : { وقال موسى } أي لبني إسرائيل { إن تكفروا أنتم } نعم الله فلم تشكروها بطاعته { ومن في الأرض جميعاً } وكفرها من في الارض جميعاً { فان الله لغني } عن سائر خلفه لا يفتقر الى احد منهم { حميد } اي محمود بنعمه على سائر خلقه ، وقوله : { ألم يأتكم } هذا قول موسى لقومه وهو يعظهم ويذكرهم : { الم يأتيكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم } اي لا يعلم عددهم ولا يحصيهم { الا الله ) جاءتهم رسلهم بالبينات } اي الحجج والبراهين على صدق دعوتهم وما جاء به من الدين الحق ليعبد الله وحده ويطاع وتطاع رسله فيكمل الناس بذلك ويسعدوا ، وقوله : { فردوا أيديهم } اي ردت الامم المرسل اليهم الى افواهم تغيظاً على أنبيائهم وحنقاً ، او اشاروا اليهم بالسكوت فاسكتوهم رداً لدعوة الحق التي جاؤوا بها ، وقالوا لهم : { إنا كفرنا بما ارسلتم به } اي بما جئتهم به من الدين الاسلامي والدعوة اليه ، { وإنا لفي شك مما تدعوننا اليه مريب } اي موقع في الريبة التي هي قلق النفس واضطرابها بها لعدم سكونها للخبر الذي يلقى اليها ، وهذا ما زال السياق طويلاً وينتهي بقوله تعالى : { واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد } { هداية الآيات } :
{ من هداية الآيات } :
1- مشروعية التذكير بنعم الله لنشكر ولا نكفر .
2- وعد الله تعالى بالمزيد من النعم لمن شكر نعم الله عليه .
3- كفر النعم سبب زوالها .
4- بيان غنى الله تعالى المطلق على سائر خلقه فالناس ان شكروا لأنفسهم وإن كفروا كفروا على أنفسهم اي شكرهم ككفرهم عائد على انفسهم .
5- التذكير بقصص السابقين وأحوال الغابرين مشروع وفيه فوائد عظيمة .
(2/258)
________________________________________
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
{ شرح الكلمات } :
{ أفي الله شك } : أي لا شك في وجود الله ولا في توحيده ، اذ الاستفهام . إنكاري .
{ الى أجل مسمى } : أي الى أجل الموت .
{ بسلطان مبين } : بحجة ظاهرة تدل على صدقكم .
{ يمن على من يشاء } : أي بالنبوة والرسالة على من يشاء لذلك .
{ وقد هدانا سبلنا } : اي طرقة التي عرفناه بها وعرفنا عظيم قدرته وعز سلطانه .
{ لنخرجكم من ارضنا } : أي من ديارنا لو لتعودون في ديننا .
{ لمن خاف مقامي } : أي وقوفه بين يدي يوم القيامة للحساب والجزاء .
{ معنى الآيات } :
ما زال السياق في ما ذكر به موسى قومه بقوله : { ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح . . . } فقوله تعالى : { قالت رسلهم } اي قالت الرسل الى اولئك الامم الكافرة { افي الله شك } ؟ اي كيف يكون في توحيد الله شك وهو فاطر السموات والأرض ، فخالق السموات والارض وحده لا يعقل ان يكون له شريك في عبادته ، ان لا اله الا هو وقوله : { يدعوكم } الى الايمان والعمل الصالح الخالي من الشرك { ليغفر لكم من ذنوبكم } وهو كل ذنب بينكم وبين ربكم من كبائر الذنوب وصغائرها اما مظالم الناس فردها اليهم تغفر لكم وقوله : { ويؤخركم الى اجل مسمى } اي يؤخر العذاب عنكم لتموتوا بآجالكم المقدرة لكم ، وقوله : { قالوا } اي قالت الأمم الكافرة لرسلهم ( إن أنتم الا بشر مثلنا ) أي ما أنتم الا بشر مثلنا ، ( تريدون ان تصدونا ) اي تصرفونا { عما كان يعبد آباؤنا } من آلهتنا أي اصنامهم وأوثانهم التي يدعون انها آلهة ، وقولهم : { فأتونا بسلطان مبين } قال الكافرون للرسل ائتونا بسلطان مبين اي بحجة ظاهرة تدل على صدقكم انكم رسل الله الينا فاجابت الرسل قائلة ما اخبر تعالى به عنهم بقوله : { قالت لهم رسلهم ان نحن الا بشر مثلكم } اي ما نحن الا بشر مثلكم فمالا تستطيعونه أنتم لا نستطيعه نحن { ولكن الله يمن على من يشاء } اي الا ان الله يمن على من يشاء بالنبوة فمن علينا بها فنحن ننبئكم بما أمرنا الله ربنا وربكم ان ننبئكم به كما نامركم وندعوكم لا من تلقاء أنفسنا ولكن بما أمرنا ان نأمركم به وندعوكم اليه ، { ووما كان لنا ان نأتيكم بسلطان الا باذن الله } اي بإرادته وقدرته فهو ذو الارادة التي لا تحد والقدرة التي لا يعجزها شيء ولذا توكلنا عليه وحده وعليه { فليتوكل المؤمنون } فإنه يكفيهم كل ما يهمهم ، ثم قالت الرسل وهي تعظ اقوامها بما تقدم : { وما لنا الا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا } أي طرقنا التي عرفناه بها وعرفنا عظمته وعزة سلطانه فأي شيء يجعلنا لا نتوكل عليه وهو القوي العزيز { ولنبصرن على ما آذيتمونا } بالسنتكم وأيديكم متوكلين على الله حتى ينتقم الله تعالى لنا منكم ، { وعلى الله فليتوكل المتوكلون } إذ هو الكافل لكل من يثق فيه ويفوض امره اليه متوكلاً عليه وحده دون سواه ، وقوله تعالى : { وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من ارضنا او لتعودن في ملتنا هذا اخبار منه تعالى على ما قالت الأمم الكافرة لرسلها : قالوا موعدين مهددين بالنفي والابعاد من البلاد لكل من يرغب عن دينهم ويعبد غير آلهتكم :
(2/259)
________________________________________
{ لنخرجنكم من ارضنا او لتعودن في ملتنا } أي ديننا الذي نحن عليه وهذا أوحى الله تعالى الى رسله بما اخبر تعالى به : { فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم } قال لنهلكن الظالمين ولم يقل لنهلكنهم إشارة الى علة الهلاك وهي الظلم هو الشرك والافساد ليكون ذلك عظة للعالمين ، وقوله تعالى : { ذلك } أي الانجاء للمؤمنين والاهلاك للظالمين جزاءً { لمن خاف مقامي } أي الوقوف بين يدي يوم القيامة { وخاف وعيد } على ألسنة رسلي بالعذاب لمن كفر بي واشرك في عبادتي ومات على غير توبة الى من كفره وشركه وظلمه .
{ هداية الآيات }
{ من هداية الآيات } :
1- بطلان الشك في وجود الله وعلمه وقدرته وحكمته ووجوب عبادته وحده لذلك لكثرة الادلة وقوة الحجج ، وسطوع البراهين .
2- بيان ما كان اهل الكفر يقابلون به رسل الله والدعاة اليه سبحانه وتعالى وما كانت الرسل ترد به عليهم .
3- وجوب التوكل على الله تعالى ، وعدم صحة التوكل على غيره إذ لا كافي الا الله .
4- وجوب الصبر على الاذى في سبيل الله وانتظار الفرج باخذ الظالمين .
5- عاقبة الظلم وهي الخسران والدمار لا تتبدل ولا تتخلف وإن طال الزمن .
(2/260)
________________________________________
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
{ شرح الكلمات } :
{ واستفتحوا } : أي طلب الرسل الفتح لهم اي النصر على اقوامهم الظالمين .
{ وخاب } : أي خسر وهلك .
{ كل جبار عنيد } : أي ظالم يجبر الناس على مراده عنيد كثير العناد .
{ من ماء صديد } : أي هو ما يخرج سائلاً من اجواف اهل النار مختلطاً من قيح ودم وعرق .
{ يتجرعه ولا يكاد يسيغه } : أي يبتلعه مرة بعد مرة لمرارته ولا يقارب ازدراده لقبحه ومراراته .
{ ويأتيه الموت من كل مكان } : أي لشدة ما يحيط به من العذاب فكل أسباب الموت حاصلة ولكن لا يموت .
{ اعمالهم كرماد } : أي الصالحة منها كصلة الرحم وبر الوالدين وإقراء الضيف وفك الأسير والفاسدة كعبادة الأصنام بالذبح لها والنذر والحلف والعكوف حولها كرماد .
{ لا يقدرون مما كسبوا على شيء } : أي لا يحصلون من اعمالهم التي كسبوها على ثواب وان قل لأنها باطلة بالشرك .
{ وما ذلك على الله بعزيز } : أي بصعب ممتنع عليه .
معنى الآيات : هذا اخر حديث ما ذكر به موسى قومه من انباء الامم السابقة على بنى اسرائيل ، قال تعالى في الاخبار عنهم : { واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد } أي واستفتح الرسل أي طلبوا من الله تعالى ان يفتح عليهم بنصر على اعدائه واستجاب الله لهم ، { وخاب كل جبار عنيد } اي خسر وهلك كل ظالم طاغ معاند للحق وأهله ، وقوله { من ورائه جهنم } أي امامة جهنم تنتظره سيدخلها بعد هلاكه ويعطش ويطلب الماء فتسقيه الزبانية { من ماء صديد } اي وهو صديد اهل النار وهو ما يخرج من قيح ودم وعرق ، { يتجرعه } ، اي يبتلعه جرعة بعد اخرى لمرارته { ولا يكاد يسيغه } أي يدخله جوفه الملتهب عطشاً لقبحه ونتنه ومرارته وحرارته ، وقوله تعالى : { ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت } أي ويأتي هذا الجبار العنيد والذي هو في جهنم يقتله الظمأ فيسقى بالماء الصديد يأتيه الموت لوجود أسبابه وتوفرها من كل مكان اذ العذاب محيط به من فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله وما هو بميت لأن الله تعالى لم يشأ ذلك قال تعالى : { لا يموت فيها ولا يحيا } وقال : { لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها } ومن وراء ذلك العذاب الذي هو فيه { عذاب } أي لون آخر من العذاب { غليظ } أي شديد لا يطاق ، وقوله تعالى : { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف } اي شديد هبوب الرياح فيه { لا يقدرون مما كسبوا } أي من اعمال في الدنيا { على شيء } أي من الثواب والجزاء والحسن عليها ، هذا مثل أعمالهم الصالحة كأنواع الخير والبر والطالحة والكفر وعبادة غير الله مما كانوا يرجعون نفعه ، الكل يذهب ذهاب رماد حملته الريح وذهبت به ، مشتدة في يوم عاصف شديد هبوب الريح فيه .
(2/261)
________________________________________
وقوله تعالى : { ذلك هو الضلال البعيد } أي ذلك الذي دل عليه المثل هو الضلال البعيد لمن وقع فيه إذ ذهب كل عمله سدى بغير طائل فلم ينتفع بشيء منه وأصبح من الخاسرين .
وقوله تعالى : { ألم تر ان الله خلق السموات والأرض بالحق } أي الم تعلم أيها الرسول ان الله خلق السموات والأرض بالحق أي من اجل الانسان ليذكر الله تعالى ويشكره فإذا تنكر لربه فكفر به وأشرك غيره في عبادته عذبه بالعذاب الأليم الذي تقدم وصفه في هذا السياق لان الله تعالى لم يخلق السموات والأرض عبثاً وباطلاً بل خلقهما وخلق ما فيهما من أجل ان يذكر فيهما ويشكر ترك الذكر والشكر عذبه أشد العذاب وأدومه وأبقاه ، وقوله تعالى : { أن يشأ يذهبكم } ايها الناس المتمردون على طاعته المشركون به { ويأت بخلق جديد } غيركم يعبدونه ويوحدونه { وما ذلك على الله بعزيز } اي بممتنع ولا متعذر لآن الله على كل شيء قدير .
{ هداية الآيات }
{ من هداية الآيات } :
1- إنجاز وعد لله لرسله في قوله : ( فأوحى اليهم ربهم لنهلكن الظالمين ) الآية .
2- خيبة وخسران عامة أهل الشرك والكفر والظلم .
3- عظم عذاب يوم القيامة وشدته .
4- بطلان أعمال المشركين والكافرين وخيبتهم فيها اذ لا ينتفعون بشيء منها .
5- عذاب اهل الكفر والشرك والظلم لازم لانهم لم يذكروا ولم يشركوا والذكر والشكر علة الوجود كله فلما عبثوا بالحياة استحقوا عذاباً أبدياً .
(2/262)
________________________________________
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
{ شرح الكلمات } :
{ وبرزوا لله جميعاً } : أي برزت الخلائق كلها لله وذلك يوم القيامة .
{ إنا كنا لكم تبعاً } : أي تابعين لكم فيما تعتقدون وتعلمون .
{ فهل أنتم مغنون عنا } : أي دافعون عنا بعض العذاب .
{ ما لنا من محيص } : أي من ملجأ ومهرب أو منجا .
{ لما قضي الأمر } : بإدخال اهل الجنة واهل النار النار .
{ ما انا بمصرخكم } : أي بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب والكرب .
{ تجري من تحتها الأنهار } : أي من تحت قصورها وأشجارها الأنهار الأربعة : الماء واللبن والخمر والعسل .
{ معنى الآيات } :
في هذه الآية عرض سريع للموقف وما بعده من استقرار اهل النار في النار وأهل الجنة في الجنة يقرر مبدأ الوحي والتوحيد والبعث الآخر بأدلة لا ترد ، قال تعالى : { وبرزوا لله جميعاً } أي خرجت البشرية من قبورها مؤمنوها وكافروها صالحوها وفاسدوها { فقال الضعفاء } اي الاتباع { للذين استكبروا } اي الرؤساء والموجهون للناس بما لديهم من قوة وسلطان { إنا كنا لكم تبعاً } أي أتباعاً في عقائدهم وما تدينون به ، { فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء } ؟ أي فهل يمكنكم ان ترفعوا عنا بعض العذاب بحكم تعيتنا لكم فاجابوهم بما أخبر تعالى به عنهم : { قالوا لة هدانا الله لهديناكم } اعترفوا الان ان الهداية بيد الله واقروا بذلك ، ولكنا ضللنا فاضللناكم { سواء علينا اجزعنا } اليوم { أم صبرنا مالنا من محيص } اي من مخرج من هذا العذاب ولا مهرب ، وهنا يقوم إبليس خطيباً فيهم بما اخبر تعالى عنه بقوله : { وقال الشيطان } اي ابليس عدو بنى آدم { لما قضى الأمر } بأذن اهل الجنة الجنة وادخل اهل النار النار { ان الله وعدكم وعد الحق } بان من آمن وعمل صالحاً مبتعداً عن الشرك والمعاصي ادخله جنته وأكرمه في جواره ، وان من كفر وأشرك وعصى ادخله النار وعذبه عذاب الهون في دار البوار { ووعدكتم } بان الله ووعيده ليس بحق ولا واقع { فاخلفتكم } فيما وعدتكم به ، وكنت في ذلك كاذباً عليكم مغرراً بكم ، { وما كان لي عليكم من سلطان } اي من قوة مادية اكرهتكم على اتباعي ولا معنوية ذات تأثير خارق للعادة اجبرتكم بها على قبول دعوتي { الا أن دعوتكم } اي لكن دعوتكم { فاستجبتم لي } اذا { فلا تلموموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم } أي مزيل صراخكم بنا اغثيكم به من نصر وخلاص من هذا العذاب { وما انتم } أيضاً { بمصرخي } ، اي بمغيثي { إني كفرت بما اشركتمون من قبل } اذ كل عابد لغير الله في الواقع هو عابد للشيطان اذ هو الذي زين له ذلك ودعاه اليه ، و { ان الظالمين لهم عذاب اليم } اي المشركين لهم عذاب اليم موجع ، وقوله تعالى : { وادخل الذين آمنوا } اي وادخل الله الذين آمنوا اي صدقوا بالله وبرسوله وبما جاء به رسوله { وعملوا الصالحات } وهي العبادات التي تعبد الله بها عباده فشرعها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم { جنات } بساتين { تجري من تحتها الأنهار } اي من خلال قصورها وأشجارها انهار الماء واللبن والخمر والعسل { خالدين فيها } لا يخرجون منها ولا يبغون عنها حولاً ، وقوله تعالى : { بإذن ربهم } أي ان ربهم هو الذي اذن لهم بدخولها والبقاء فيها ابداً ، وقوله : { تحيتهم فيها سلام } اي السلام عليكم يحييهم ربهم وتحييهم الملائكة ويحيي بعضهم بعضاً بالسلام وهي كلمة دعاء بالسلامة من كل العاهات والمنغصات وتحية بطلب الحياة الأبدية .
(2/263)
________________________________________
{ هداية الآيات }
{ من هداية الآيات } :
1- بيان ان التقيلد والتبعية لا تكون عذراً لصاحبها عند الله تعالى .
2- بيان ان الشيطان هو المعبود من دون الله تعالى اذ هو الذي دعا الى عبادة غير الله وزينها للناس .
3- تقرير لعلم الله بما لم يكن كيف يكون اذ ما جاء في الايات من حوار لم يكن بعد ولكنه في علم الله كائن كما هو وسوف يكون كما جاء في الآيات لا يختلف منه حرف واحد .
4- وعيد الظالمين بأليم العذاب .
5- العمل لا يدخل الجنة الا بوصفه سبباً لا غير ، والا فدخول الجنة يكون بإذن الله تعالى ورضاه .
(2/264)
________________________________________
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
{ شرح الكلمات } :
{ كلمة طيبة } : هي لا اله الا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ كشجرة خبيثة } : هي النخلة .
{ كشجرة خبيثة } : هي الحنظل .
{ اجتثت } : أي اقتلعت جثتها اي جسمها وذاتها .
{ بالقول الثابت } : هو لا اله الا الله .
{ وفي الآخرة } : اي في القبر فيجيب الملكين هما لا يسألانه عنه حيث يسالانه عن ربه ودينه ونبيه .
{ بدلوا نعمة الله كفراً : أي بدلوا التوحيد والاسلام بالجحود والشرك .
{ دار البوار } : أي جهنم .
{ وجعلوا لله اندادا } : أي شركاء .
{ معنى الايات } :
الآيات في تقرير التوحيد والعبث والجزاء ، قوله تعالى : { ألم تر } أيها الرسول أي ألم تعلم { كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة } هي كلمة الايمان يقولها المؤمن { كشجرة طيبة } وهي النخلة { أصلها ثابت } في الأرض { وفرعها } عال { في السماء } ، { تؤتي أكلها } تعطي اكلها اي ثمرها الذي يؤكل منها كل حين بلحا وبسراً ومنصفاً ورطباً وتمراً وفي الصباح والمساء { بإذن ربها } أي بقدرته وتسخيره فكلمة الايمان لا اله الا الله محمد رسول الهه تثمر للعبد اعمالاً صالحة كل حين فهي في قلبه والاعمال الصالحة الناتجة عنها ترفع الى الله عز وجل ، وقوله تعالى : { ويضرب الله الامثال لناس لعلهم يتذكرون } أي كما ضرب هذا المثال للمؤمن والكافر في هذا السياق يضرب الامثال للناس مؤمنهم وكافرهم لعلهم يتذكرون اي رجاء ان يتذكروا فيتعظوا فيؤمنوا ويعملوا الصالحات فينجوا من عذاب الله ، وقوله : { ومثل كلمة خبيثة } هي كلمة الكفر في قلب الكافر { كشجرة خبيثة } هي الحنظل مُرة ولا خير فيها ولا اصل لها ثابت ولا فرع لها في السماء { اجتثت } اي اقتلعت واستؤصلت { من فوق الأرض مالها من قرار } اي لاثبات لها ولا تثمر الا ما فيها من مرارة وسوء طعم بركة وقوله تعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } هذا وعد الله تعالى لعباده المؤمنين الصادقين بانه يثبتهم على الايمان مهما كانت الفتن والمحن حتى يموتوا على الايمان { وفي الآخرة } أي في القبر اذ هو عتبة الدار الآخرة عندما يسألهم الملكان عن الله وعن الدين والنبي من بك ؟ ما دينك ؟ من نبيك ؟ فيثبتهم بالقول الثابت وهو الايمان واصله لا اله الا الل محمد رسول الله والعمل الصالح الذي هو الاسلام وقوله تعالى : { ويضل الله الظالمين } مقابل هداية المؤمنين فلا يوقفهم للقول الثابت حتى يموتوا فيهلكوا على الكفر ويخسروا ، ذلك لإصرارهم على الشرك ودعوتهم اليه وظلم المؤمنين وأذيتهم من اجل ايمانهم ، وقوله تعالى : { ويفعل الله ما يشاء } تقرير لارادته الحرة فهو عز وجل يثبت من يشاء ويضل من يشاء فلا اعتراض عليه ولا نكير مع العلم انه يهدي ويضل بحكم عالية تجعل هدايته كاضلاله رحمة وعدلاً .
(2/265)
________________________________________
وقوله تعالى : { ألم تر } اي الم ينته الى عملك ايها الرسول { الى الذين بدلوا نعمة الله } التي هي الاسلام الذي جاءهم به رسول الله بما فيه من الهدى والخير فكذبوا رسول الله وكذبوا بما جاء به ورضوا بالكفر وأنزلوا بذلك قومهم الذين يحثونهم على الكفر ويشجعونهم على التكذيب انزلوهم { دار البوار } فهلك من هلك في بدر كافراً الى جهنم ، ودار البوار هي جهنم يصلونها اي يحترقون بحرها ولهيبها { وبئس القرار } أي المقر الذي أحلوا قومهم فيه ، وقوله تعالى : { وجعلوا لله انداداً ليضلوا عن سبيله } اي جعل اولئك الذين بدلوا نعمة الله كفراً وهو كفار مكة لله انداداً اي شركاء عبدوها وهي اللات والعزى وهبل ومناة ، وغيرها من آلهتهم الباطلة ، جعلوا هذه الأنداد ودعوا الى عبادتها ليضلوا ويضلوا غيرهم عن سبيل الله التي هي الاسلام الموصل الى رضا الله تعالى وجواره الكريم ، وقوله تعالى : { قل تمتعوا } أي بما أنتم فيه من متاع الحياة الدنيا { فإن مصيركم } اي نهاية امركم { الى النار } حيث تصبرون اليه بعد موتكم ان اصررتم على الشرك والكفر حتى متم على ذلك .
هداية الايات
من هداية الآيات :
1- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني الى الاذهان .
2- المقارنة بين الايمان والكفر ، وكلمة التوحيد وكلمة الكفر وما يثمره كل واحد من هذه الأصناف من خير وشر .
3- بشري المؤمن بتثبيت الله تعالى له على إيمانه حتى يموت مؤمناً وبالنجاة من عذاب القبر حيث يجيب منكراً ونكيراً على سؤالهما إياه بتثبيت الله تعالى له .
4- الأمر في قوله تعالى تمتعوا ليس للإباحة ولا للوجوب وإنما هو للتهديد والوعيد .
(2/266)
________________________________________
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
{ شرح الكلمات } :
{ لا بيع فيه ولا خلال } : هذا هو يوم القيامة لا بيع فيه ولا فداء ولا مخالة تنفع ولا صداقة .
{ الفلك } : اي السفن فلفظ الفلك دال على متعدد ويذكر ويؤنث .
{ دائبين } : جاريين في فلكهما لا يفتران أبداً حتى نهاية الحياة الدنيا .
{ لظلوم كفار } : كثير الظلم لنفسه ولغيره ، كفار عظيم الكفر هذا ما لم يؤمن ويهتد فإن آمن واهتدى سلب هذا الوصف منه .
{ معنى الايات } :
لما امر الله تعالى رسوله ان يقول لأولئك الذين بدلوا نعمة الله كفراً { قل تمتعوا فإن مصيركم الى النار } أمر رسوله أيضاً ان يقول للمؤمنين . . يقيموا الصلاة وينفقوا من اموالهم سراً وعلانية ليتقوا ذلك العذاب يوم القيامة الذي توعد به الكافرون فقال : { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة } اي يؤدوها على الوجه الذي شرعت عليه فيتموا ركوعوها وسجودها ويؤدوها في اوقاتها المعنية وفي جماعة وعلى طهارة كاملة مستقبلين بها القبلة حتى تثمر لهم زكاة انفسهم وطهارة ارواحهم { وينفعوا } ويوالوا الانفاق في كل الاحيان { سراً وعلانية } ، { من قبل ان يأتي يوم } وهو يوم القيامة { لا بيع فيه ولا خلال } لا شراء فيحصل المرء على ما يفدي به نفسه من طريق البيع ، ولا خلة اي صداقة تنفعه ولا شفاعة الا باذن الله تعالى .
وقوله تعالى { الله الذي خلق السماوات والأرض } اي انشاهما وابتدأ خلقهما { وانزل من السماء ماء } هو ماء الأمطار { فأخرج به من الثمرات } والحبوب { رزقاً لكم } تعيشون به وتتم حياتكم عليه { وسخر لكم الفلك } اي السفن { لتجري في البحر بأمره } اي بإذنه وتشخيره تحملون عليها البضائع والسلع من اقيلم الى اقليم وتركبونها كذلك { وسخر لكم الانهار } الجارية بالمياه العذبة لتشربوا وتستقوا مزارعكم وحقولكم { وسخر لكم الشمس والقمر دائبين } لا يفترن ابدأ في جربهما وتنقلهما في بروجهما لمنافعكم التي لا تتم الا على ضوء الشمس وحرارتها ونور القمر وتنقله في منازله { وسخر لكم الليل والنهار } الليل لتسكنوا فيه وتستريحوا والنهار لتعملوا فيه وتكسبوا ارزاقكم { وآتاكم من كل ما سألتموه } مما انتم في حاجة إليه لقوام حياتكم ، هذا هو الله المستحق لعبادتكم رغبة فيه ووهبة منه ، هذا هو المعبود الحق الذي يجب ان يعبد وحده لا شريك له وليس الك الاصنام والاوثان التي تعبدونها وتدعون الى عبادتها حتى حملكم ذلك على الكفر والعناد بل والظلم والشر والفساد .
وقوله تعالى { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } اي بعد ان عدد الكثير من نعمة اخبر انه لا يمكن للانسان ان يعد نعم الله عليه ولا ان يحصيها عداً بحال من الاحوال ، وقرر حقيقة في آخر هذه الموعظة والذكرى وهي ان الانسان اذا حرم الايمان والهداية الربانية ( ظلوم ) اي كثير الظلم كفور كثير الكفر عظيمة ، والعياذ بالله تعالى من ذلك .
هداية الآيات
من هداية الايات :
1- وجوب إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والاكثار من الصدقات لاتقاء عذاب النار .
2- جواز صدقة العلن كصدقة السر وان كانت الاخيرة افضل .
3- التعريف بالله عز وجل اذ معرفة الله تعالى هي التي تثمر الخشية منه تعالى .
4- وجوب عبادة الله تعالى وبطلان عبادة غيره .
5- وصف الانسان بالظلم والكفر وشدتهما ما لم يؤمن ويستقيم على منهج الاسلام .
(2/267)
________________________________________
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
{ شرح الكلمات } :
{ هذا البلد آمنا } : أي اجعل مكة بلداً آمناً يأمن كل من دخله .
{ واجنبيني } : بعدني .
{ أن نعبد الأصنام } : عن أن نعبد الأصنام .
{ اضللن كثيراً من الناس } : أي بعبادتهم لها .
{ من تبعني فإنه مني } : أي من اتبعني على التوحيد فهو من اهل بيتي .
{ من ذريتي } : أي من بعض ذريتي وهو إسماعيل عليه السلام وأمه هاجر .
{ بواد غير ذي زرع } : أي مكة اذ لا مزارع فيها ولا حولها يومئذ .
{ تهوي إليهم } : تحن اليهم وتميل رغبة في الحجو والعمرة .
{ على الكبر إسماعيل واسحق } : أي مع الكبر إذ كانت سنه يومئذ تسعاً وتسعين سنة وولد له إسحق وسنه مائة واثنتا عشرة سنة .
{ ولوالدي } : هذا قبل أن يعرف موت والده على الشرك .
{ يوم يقوم الحساب } : أي يوم يقوم الناس للحساب .
معنى الآيات :
ما زال السياق في تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجزاء وقد تضمنت هذه الآيات ذلك ، فقوله تعالى : { وإذ قال إبراهيم } أي أذكر إذ قال إبراهيم فكيف يذكر ما لم يوح الله تعالى إليه بذلك ففسر هذا نبوة الله ونزل الوحي إليه ، وقوله : { رب اجعل هذا البلد آمنا } أي ذا فيأمن من دخله على نفسه وماله والمراد من البلد مكة .
وقوله : { واجنبني وبني ان نعبد الأصنام } فيه تقرير للتوحيد الذي هو عبادة الله وحده ومعنى اجنبني أبعدني أنا وأولادي وأحفادي وقد استجاب الله تعالى له فلم يكن في أولاده وأولاد اولاده مشرك ، وقوله : { رب إنهن أظللنن كثيراً من الناس } تعليل لسؤاله ربه أن يجنبه وبنيه عبادتها ، واضلال الناس كان بعبادتهم لها فضلوا في أودية الشرك ، وقوله : { فمن تبعني } أي من اولادي { فإنه مني } أي على ملتي وديني ، { ومن عصاني } فلم يتبعني على ملة الاسلام ان تعذبه فذاك وان تغفر له ولم تعذبه ( فإنك غفور رحيم ) ، وقوله : ( ربنا إني اسكنت من ذريتي ) أي من بعض ذريتي وهو اسماعيل مع امه هاجر ( بواد غير ذي زرع ) هو مكة اذ ليس فيها ولا حولها زراعة يومئذ والى آماد بعيدة وأزمنة عديدة ( عند بيتك المحرم ) قال هذا بإعلام من الله تعالى له انه سيكون له بيت في هذ الوادي ومعنى المحرم أي الحرام وقد حرمته تعالى فمكة حرام الى يوم القيامة لا يصاد صيدها ولا يختلي خلاها ولا تسفك فيها دماء ولا يحل فيها قتال ، وقوله : ( ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم ) هذا دعاء بان ييسر الله تعالى عيش سكان مكة ليعبدوا الله تعالى فيها بإقام الصلاة ، فإن قلوب بعض الناس عندما تهفوا الى مكة وتميل الى الحج والعمرة تكون سبباً في نقل الأرزاق والخيرات الى مكة ، وقوله : ( وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) دعاء آخر بأن يرزق الله بنيه من الثمرات ليشكروا الله تعالى على ذلك فوجود الأرزاق والثمرات موجبة للشكر ، إذ النعم تقتضي شكراً ، وقوله : ( ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الارض ولا في السماء ) اراد به أم ما سأل إنما سأل إنما هو من باب إظهار العبودية لله والتخشع لعظمته والتذلل لعزته والافتقار الى ما عنده ، وإلا فالله اعلم بحاله وما يصلحه هو وبنيه ، وما هم في حاجة إليه لأنه تعالى يعلم كل شيء ولا يخفى عنه شيء في الارض ولا في السماء . .
(2/268)
________________________________________
وقوله : ( الحمد الله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل واسحق على كبر سنه ، والاعلام بان الله تعالى سميع دعاء من يدعوه وينيب اليه ، وقوله : ( رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ) أيضاً من يقيم الصلاة ، لان الصلاة هي علة الحياة إذ هي الذكر والشكر فمتى أقام العبد الصلاة فأداها بشروطها وأركانها كان من الذاكرين الشاكرين ، ومتى تركها العبد كان من الناسين الغافلين وكان من الكافرين ، وأخيراً ألح على ربه في قبول دعائه وسأل المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين يوم يقوم الناس للحساب وذلك يوم القيامة .
{ هداية الايات } :
{ من هداية الآيات } :
1- فضل مكة وشرفها وأنها حرم آمن من أي ذو أمن .
2- الخوف من الشرك لخطره وسؤال الله تعالى الحفظ من ذلك .
3- علاقة الايمان والتوحيد اولى من علاقة الرحم والنسب .
4- اهمية إقام الصلاة وان من لم يرد ان يصلي لا حق له في الغذاء ولذا يعدم ان أصر على ترك الصلاة .
5- بيان استجابة دعاء إبراهيم عليه السلام فيما سأل ربه تعالى فيه .
6- وجوب حمد الله وشكره على ما ينعم به على عبده .
7- مشروعية الاستغفار للنفس وللمؤمنين والمؤمنات .
8- تقرير عقيدة البعث والحساب والجزاء .
(2/269)
________________________________________
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
{ شرح الكلمات } :
{ عما يعمل الظالمون } : أي المشركون من اهل مكة وغيرهم .
{ ليوم تشخص فيه الأبصار } : أي تنفتح فلا تغمض لشدة ما ترى من الأهوال .
{ مهطعين مقنعي رؤوسهم } : أي مسرعين الى الداعي الذي دعاهم الى الحشر ، رافعي رؤوسهم .
{ وأفئدتهم هواء } : أي فارغة من العقل لشدة الخوف والفزع .
{ نجب دعوتك } : أي على لسان رسولك فنعبدك ونوحدك ونتبع الرسل .
{ ما لكم من زوال } : أي عن الدنيا الى الآخرة .
{ وقد مكروا مكرهم } : أي مكرت قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث أرادوا قتله او حبسه أو نفيه .
{ وإن كان مكرهم لتزول منه } : أي لم يكن مكرهم بالذي تزول منه الجبال فإنه تافه { الجبال } : لا قيمة له فلا تعبأ به ولا تلتفت اليه .
معنى الآيات : في هذا السياق الكريم تقوية رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر ليواصل دعوته الى ربه الى ان ينصرها الله تعالى وتبلغ المدى المحدد لها والأيام كانت صعبة على رسول الله وأصحابه لتكالب المشركين على أذاهم ، وازدياد ظلمهم لهم فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : { ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون } من قومك انه ان لم ينزل بهم نقمة ولم يحل بهم عذابه إنما يريد ان يؤخرهم { ليوم تشخص فيه الابصار } أي تنفتح فلا تغمض ولا تطرف لشدة الأهوال وصعوبة الأحوال ، { مهطعين } أي مسرعين { مقنعي رؤوسهم } اي حال كونهم مهطعين مقنعي رؤوسهم أي رافعين رؤوسهم مسرعين للداعي الذي دعاهم الى المحشر ، قال تعالى : { واستمع يوم يناد المنادي من مكان قريب } { لا يرتد إليهم طرفهم } أي لا تغمض أعينهم من الخوف { وأفئدتهم } أي قلوبهم { هواء } أي فارغة من الوعي والادراك لما اصابها من الفزع والخوف ثم امر تعالى رسوله في الآية ( 44 ) بإنذار الناس مخوفاً لهم من عاقبة امرهم اذ استمروا على الشرك بالله والكفر برسوله وشرعه ، { يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا } أي أشركوا بربهم ، وآذوا عباده المؤمنين ( ربنا أخرنا الى أجل قريب ) أي يطلبون الإنظار والإمهال { نجب دعوتك } أي نوحدك ونطيعك ونطيع رسولك ، فيقال لهم : توبيخاً وتقريعاً وتكذيباً لهم : { أو لم تكونوا اقسمتم } أي حلفتم { من قبل ما لكم من زوال } اي أطلبتم الآن التأخير ولم تطلبوه عندما قلتم ما لنا من زوال ولا ارتحال من الدنيا الى الآخرة ، { وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم } بالشرك والمعاصي { وتبين لكم } أي عرفتم { كيف فعلنا بهم } أي بإهلاكنا لهم وضربنا لكم الأمثال في كتبنا وعلى ألسنة فيوبخون هذا التوبيخ ولا يجابون لطلبهم ويقذفون في الجحيم ، وقوله تعالى : { وقد مكروا مكرهم } أي وقد مكر كفار قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قرروا حبسه مغالاً في السجن حتى الموت او قتله ، أو نفيه وعزموا على القتل ولم يستطيعوه { وعند الله مكرهم } أي علمه ما أرادوا به ، وجزاؤهم عليه ، وقوله : { وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال } أي ولم يكن مكرهم لتزول منه الجبال فإنه تافه لا وزن ولا اعتبار فلا تحفل به أيها الرسول ولا تلتفت ، فإنه لا يحدث منه شيء ، وفعلاً قد خابوا فيه أشد الخيبة .
(2/270)
________________________________________
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تأخير العذاب عن الظلمة في كل زمان ومكان لم يكن غفلة عنهم ، وإنما هو تأخيرهم الى يوم القيامة او الى ان يحين الوقت المحدد لأخذهم .
2- بيان أهوال يوم القيامة وصعوبة الموقف فيه حتى يتمنى الظالمون الرجوع الى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا ويوحدوا ربهم في عبادته .
3- التنديد بالظلم وبيان عقاب الظالمين بذكر أحوالهم .
4- تقرير جريمة قريش في ائتمارها على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(2/271)
________________________________________
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
{ شرح الكلمات } :
{ إن الله عزيز } : أي غالب لا يحال بينه وبين مراده بحال من الأحوال .
{ ذو انتقام } : أي صاحب انتقام ممن عصاه وعصى رسوله .
{ يوم تبدل الأرض } : أي اذكر يا رسولنا للظالمين يوم تبدل الأرض .
{ وبرزوا لله } : أي خرجوا من القبور لله ليحاسبهم ويجزيهم .
{ مقرنين } : أي مشدودة أيديهم وأرجلهم الى رقابهم .
{ في الأصفاد } : الأصفاد جمع صفد وهو الوثائق من حبل وغيره .
{ سرابيلهم } : أي قمصهم التي يلبسونها من قطران .
{ أولوا الألباب } : أصحاب العقول .
معنى الآيات :
ما زال السياق في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وهم يعانون من صلف المشركين وظلمهم وطغيانهم فيقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : { فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله } إنه كما لم يخلف رسلة الأولين لا يخلفك أنت ، إنه لا بد منجز لك ما وعدك من النصر على أعدائك فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تسعجل لهم . { إن الله عزيز } أي غالب لا يغلب على أمره ما يريده لا بد واقع { ذو انتقام } شديد ممن عصاه وتمرد على طاعته وحارب اولياءه ، واذكر { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات } كذلك { وبرزوا } أي ظهروا بعد خروجهم من قبورهم في طريقهم الى المحشر إجابة منهم لدعوة الداعي وقد برزوا { لله والواحد القهار } ، و { ترى المجرمين يومئذ } يا رسولنا تراهم { مقرنين في الاصفاد } مشدودة أيديهم وأرجلهم الى اعناقهم ، هؤلاء المجرمون اليوم بالشرك والظلم والشر والفساد اجرموا على انفسهم أولاً ثم على غيرهم ثانياً سواء ممن ظلموهم وآذوهم أو منن دعوهم الى الشرك وحملوهم عليه ، الجميع قد اجرمو في حقهم ، { سرابيلهم } قمصانهم التي على أجسامهم { من قَطران } وهو ما تدهن به الإبل : مادة سوداء محرفة للجسم أو من نحاس إذ قُريء من قِطرٍآن أي من نحاس أحمي عليه حتى بلغ المنتهى في الحرارة { وتغشى وجوهم النار } أي وتغطي وجوهم النار بلهبها ، هؤلاء هم المجرمون في الدنيا بالشرك والمعاصي ، وذها هو جزاؤهم يوم القيامة ، فعل تعالى هذا بهم { ليجزي الله كل نفس بما كسبت ان الله سريع الحساب } فما بين إن وجدوا في الدنيا ان انتهوا الى نار جهنم واستقروا في أتون جحيمها الا كمن دخل مع باب وخرج مع آخر ، وأخيراً يقول تعالى : { هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو اله واحد وليذكروا أولوا الألباب } اي هذا القرآن بلاغ للناس من رب الناس قد بلغه إليهم رسول رب الناس { ولينذروا به } أي بما فيه من العظات والعبر والعرض الألوان العذاب وصنوف الشقاء لأهل الإجرام والشر والفساد ، { وليعلموا } أي بما فيه من الحجج والدلائل والبراهين { أنما هو إله واحد } أي معبود واحد لا ثاني له وهو الله جل جلاله ، فلا يعبدوا معه غيره إذ هو وحده الرب والإله الحق ، وما عداه فباطل ، { وليذكر اولوا الألباب } أي وليتعظ بهذا القرآن أصحاب العقول المدركة الواعية فيعلموا على إنجاء انفسهم من غضب الله وعذابه ، وليفوزوا برحمته ورضوانه .
(2/272)
________________________________________
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان صدق وعد الله من وعدهم من رسله واوليائه .
2- بيان أحوال المجرمين في العرض وفي جهنم .
3- بيان العلة في المعاد الآخر وهو الجزاء على الكسب في الدنيا .
4- قوله تعالى في آخر آية من هذه السورة : ( هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب ) هذه الآية صالحة لأن تكون عنواناً للقرآن الكريم إذ دلت على مضمونة كلاملاً مع وجازة اللفظ وجمال العبارة ، والحمد لله اولاً وآخراً .
(2/273)
________________________________________
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
{ شرح الكلمات } :
{ آلر } : الله أعلم بمراده بذلك ، تكتب آلر . ويقرأ : ألف ، لام ، را .
{ تلك آيات الكتاب } : الآيات المؤلفة من مثل هذه الحروف المقطعة تلك آيات الكتاب أي القرآن .
{ يود } : يحب ويرغب متمنياً أن لو كان من المسلمين .
{ ويتمتعوا } : أي بالملذات والشهوات .
{ ويلههم الأمل } : أي بطول العمر وبلوغ الأوطار وإدراك الرغائب الدنيوية .
{ إلا ولها كتاب معلوم } : أي أجل محدود لإهلاكها .
{ ما تسبق من امة أجلها } : أي لا يتقدم أجلها المحدد لها ومن زائدة للتأكيد .
معنى الآيات :
بما أن السورة مكية فإنها تعالج قضايا العقيدة وأعظمها التوحيد والنبوة والبعث . قوله تعالى : { آلر } : الله أعلم بمراده به ، ومن فؤائد هذه الحروف المقطعة تنبيه السامع وشده بما يسمع من التلاوة ، إذ كانوا يمنعون سماعه خشية التأثر به ، فكانت هذه الفواتح التي لم يألفوا مثلها في كلامهم تشدهم الى سماع ما بعدها من القرآن ، وقوله : { تلك آيات الكتاب } من الجائز القول : الآيات المؤلفة من مثل هذه الحروف الر ، آلم ، طمس ، حم عسق . { تلك آيات الكتاب وقرآنٍ مبين } المبين : المبين للحق والباطل والهدى والضلال وقوله تعالى : { ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين } : بخير تعالى ان يوماً سيأتي هو يوم القيامة عندما يرى الكافر المسلمين يدخلون الجنة ويدخل هو النار يود يومئذ متمنياً أن لو كان من المسلمين . وقد يحدث الله تعالى ظروفاً في الدنيا وأموراً يتمنى الكافر فيها لو كان من المسلمين . وقوله تعالى : { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلهمم الأمل فسوف يعلمون } أي اتركهم يا رسولنا ، أي اترك الكافرين يأكلوا ما شاءوا من الأطعمة ، ويتمتعوا بما حصل لهم من الشهوات والملذات ، ويلههم الأمل عن التفكير في عاقبة أمرهم . إذ همهم طول اعمارهم ، وتحقيق أوطاهم ، فسوف يعلمون إذا رُدوا الى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا في الدنيا مخطئين بإعراضهم عن الحق ودعوة الحق والدين الحق وقوله : { وما أهلكنا من قرية } أي من قرية بعذاب الإبادة والاستئصال . وقوله { . . . ما تسبق من امةٍ أجلها وما يستأخرون } أي بناءً على كتاب المقادير فإن أمة كتب الله هلاكها يمكن ان يتقدم هلاكها قبل ميقاته المحدد ، ولا أن يستأخر عنه ولو ساعة . وفي هذا تهديد وتخويف لأهل مكة وهو يحاربون دعوة الحق ورسول الحق لعل قريتهم قد كتب لها كتاب وحدد لها أجل وهم لا يشعرون .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- القرآن الكريم مبين لكل ما يحتاج في إسعاد الإنسان وإكماله .
2- إنذار الكافرين وتحذيرهم من مواصلة كفرهم وحربهم للإسلام فإن يوماً سيأتي يتمنون فيه أن لو كانوا مسلمين .
3- تقرير عقيدة القضاء والقدر فما من شيء الا وسبق به علم الله وكتبه عنده في كتاب المقادير الحياة كالموت ، والربح كالخسارة ، والسعادة كالشقاء ، جميع ما كان وما هو كائن وما سيكون سبق به علم الله وكتب في اللوح المحفوظ .
(2/274)
________________________________________
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11)
{ شرح الكلمات } :
{ نزل عليه الذكر } : أي القرآن الكريم .
{ بو ما تاتينا بالملائكة } : أي هلا تأتينا بالملائكة تشهد لك انك نبي الله .
{ وما كانوا منظرين } : أي مهملين ، بل يأخذهم العذاب فور نزول الملائكة .
{ إنا نحن نزلنا الذكر } : أي القرآن .
{ في شيع الأولين } : أي في فرق وطوائف الأولين .
معنى الايات :
قوله تعالى { وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر } أي قال الكافرون المنكرون للوحي والنبوة { إنك لمجنون } أي قابل عاقل وإلا لما اعديت النبوة . وفي قولهم هذا استهزاء ظاهر بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو ثمرة ظلمة الكفر التي في قلوبهم وقوله : { لو ما تأتينا بالملائكة } لو ما هنا بمعنى هلا التحضيضية أي هلا تأتينا بالملائكة نراهم عياناً يشهدون لك بإنك رسول الله { إن كنت من الصادقين } في دعواك النبوة والرسالة فأت الملائكة تشهد لك . قال تعالى { ما ننزل الملائكة الا بالحق } أي نزولاً ملتبساً بالحق . أي لا تنزل الملائكة الا لاحقاق الحق وإبطال الباطل لا لمجرد تشهي الناس ورغبتهم ولو نزلت الملاكئة ولم يؤمنوا لنزل بهم العذاب فوراً { وما كانوا إذاً منظرين } أي مهملين بل يهلكون في الحال . وقوله تعالى في الآية ( 9 ) { إنا نحن نزلنا الذكر } أي القرآن { وإنا له لحافظون } أي من الضياع ومن الزيادة والنقصان لأن حجتنا على خلقنا الى يوم القيامة . أنزلنا الذكر هدى ورحمة وشفاء ونوراً . هو يريدون العذاب والله يريد الرحمة . مع ان القرآن نزلت به الملائكة ، والملائكة إن نزلت ستعود الى السماء ولم يبق ما يدل على الرسالة الا القرآن ولكن القوم لا يريدون أن يؤمنوا وليسوا في ذلك الكفر والعناد وحدهم بل سبقتهم طوائف وأمم أرسل فيهم فكذبوا وجاحدوا وهو قوله تعالى : { ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين } أي في فرقهم وأممهم { وما يأتيهم من رسول الا كانوا به يستهزءون } لأن علة المرض واحدة إذاً فلا تيأس يا رسول الله ولا تحزن بل اصبر وانتظر وعد الله لك بالنصر فإن وعده حق : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز } هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان ما كان يلقاه رسول الله ( ص ) من استهزاء وسخرية من المشركين .
2- مظهر من مظاهر رحمة الله بالانسان ، يطلب نزول العذاب والله ينزل الرحمة .
3- بيان حفظ الله تعالى للقرآن الكريم من الزيادة والنقصان ومن الضياع .
4- بيان سنة الله تعالى في الأمم والشعوب وهي أنهم ما يأتيهم من رسول ينكر عليهم مألوفهم ويدعوهم الى جديد من الخير والهدى الا وينكرون ويستهزءون .
(2/275)
________________________________________
كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)
{ شرح الكلمات } :
{ كذلك نسلكه } : أي التكذيب بالقرآن أو النبي صلى الله عليه وسلم .
{ وقد خلت سنة الأولين } : أي مضت سنة الأمم السابقة .
{ فظلوا فيه يعرجون } : أي يصعدون .
{ إنما سُكرت } : أي سدت كما يُسَكر النهر او الباب .
{ في السماء بروجا } : أي كواكب ينزلها الشمس والقمر .
{ شيطان رجيم } : أي مرجوم بالشهب .
{ شهاب مبين } : كوكب يرجم به الشيطان يحرقه أو يمزقه أو يخبله أي يفسده .
معنى الآيات :
ما زال السياق في المكذبين للنبي المطالبين بنزول الملائكة لتشهد للرسول بنبوته حتى يؤمنوا بها . قال تعالى : { كذلك نسلكه } أي التكذيب في قلوب المجرمين من قومك ، كما سلكناه حسب سنتنا في قلوب من كذبوا الرسل من قبلك فسلكه { في قلوب المجرمين } من قومك فلا يؤمنون بك ولا بالذكر الذي أنزل عليك ، وقوله تعالى : { وقد خلت سنة الأولين } أي مضت وهي تعذيب المكذبين للرسل المستهزئين بهم لأنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم . وقوله تعالى : { ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا } أي الملائكة او المكذبون { فيه } أي في ذلك الباب { يعرجون } أي يصعدون طوال النهار طالعين هابطين ولقالوا في المساء { إنما سكرت أبصارنا } أي منعت من النظر الحقيقي فلم نر الملائكة ولم نرى السماء { بل نحن قوم مسحورون } فأصبحنا نرى أشياء لا حقيقة لها ، وقوله تعالى : { ولقد جعلنا في السماء بروجاً } أي كواكب هي منازل للشمس والقمر ينزلان بها وعلى مقتضاها يعرف عدد السنين والحساب . وقوله : { زيناها } أي السماء بالنجوم { للناظرين } فيها من الناس . وقوله : { وحفظناها } أي السماء الدنيا { من كل شيطان رجيم } أي مرجوم ملعون . وقوله : { إلا من استرق السمع } الا مارد من الشياطين طلع الى السماء لاستراق السمع من الملائكة لينزل بالخبر الى وليه من الكهان من الناس { فاتبعه شهاب } من نار { مبين } أي يبين أثره في الشيطان إما بإخباله وإفساده وإما بإحراقه . هذه الآيات وهي مقولة تعالى : { ولقد جعلنا في السماء بروجاً } الى آخر ما جاء في هذا السياق الطويل ، القصد منه إظهار قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته وكلها مقتضية لإرسال الرسول وإنزال الكتاب لهداية الناس الى عبادة ربهم وحده عبادة يكملون عليها ويسعدون في الدنيا والآخرة ، ولكن المكذبين لا يعلمون . هداية الآيات
من هداية الايات :
1- بيان سنة الله تعالى في المكذبين المعاندين وهي أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم .
2- مطالبة المكذبين بالآيات كرؤية الملائكة لا معنى لها إذ القرآن أكبر آية ولم يؤمنوا به فلذا لو فتح باب من السماء فظلوا فيه يعرجون لما آمنوا .
3- بيان مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته فما حملت الآيات من مظاهر لذلك ، بدءاً من قوله : { ولقد جعلنا في السماء بروجاً } الى الآية السابعة والعشرين من هذا السياق الكريم .
(2/276)
________________________________________
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
{ شرح الكلمات } :
{ والأرض مددناها } : أي بسطناها .
{ وألقينا فيها رواسي } : أي جبالاً ثوابت لئلا تتحرك الأرض .
{ موزون } : أي مقدر معلوم المقدار لله تعالى .
{ معايش } : جمع معيشة أي ما يعيش عليه الانسان من الأغذية .
{ ومن لستم برازقين } : كالعبيد والإماء والبهائم .
{ وما ننزله الا بقدر معلوم } : أي المطر .
{ وأرسلنا الرياح لواقح } : أي تلقح السحاب فيمتلئ ماءً ، كما تنقل مادة اللقاح من ذكر الشجر الى أنثاه .
{ وما انتم له بخازنين } : أي لا تملكون خزائنه فتمنعونه أو تعطونه من تشاءون .
{ المستقدمين منكم والمستأخرين } : أي من هلكوا من بني آدم الى يومكم هذا والمستأخرين ممن هم أحياء وممن لم يوجدوا بعد الى يوم القيامة .
معنى الآيات :
ما زال السياق في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته وهي موجبات الإيمان به وعبادته وتوحيده والتقرب إليه بفعل محابه وترك مساخطه . قوله تعالى : { الأرض مددناها } أي بسطناها { وألقينا فيها رواسي } أي جبالاً ثوابت تثبت الأرض حتى لا تتحرك او تميد باهلها فيهلكوا ، { وأنبتنا فيها من كل شيء موزون } أي مقدر معلوم المقدار لله تعالى . وقوله : { وجعلنا لكم فيها معايش } عليها تعيشون وهي انواع الحبوب والثمار وغيرها ، وقوله : { ومن لستم له برازقين } بل الله تعالى هو الذي يرزقه وإياكم من العبيد والإماء والبهائم . وقوله : { وإن من شيء الا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم } أي ما من شيء نافع للبشرية هي في حاجة اليه لقوام حياتها عليه الا عند الله خزائنه ، ومن ذلك الأمطار ، لكن ينزله بقدر معلوم حسب حاجة المخلوقات وما تتوقف عليه مصالحها ، وهو كقوله : { بيده الخير وهو على كل شيء قدير } وكقوله : { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما شاء الله إنه بعباده خبير بصير } وقوله : { وأرسلنا الرياح لقواح } أي تلقح السحاب فتمتلئ ماء ، { فأنزلنا من السماء ماء } بقدرتنا وتدبيرنا ( فأسقيناكموه وما أنتم بخازنين ) أي لا تملكون خزائنه فتمنعونه من تشاوءن وتعطونه من تشاءون بل الله تعالى هو المالك لذلك ، فينزله على أرض قوم ويمنه آخرين . وقوله : { إنا لنحن نحي ونميت ونحن الوارثون ، ولقد علمنا المستقدمين منكم } أي الذين ماتوا من لدن آدم { ولقد علمنا المستأخرين } ممن هم أحياء ومن لم يوجدوا وسيوجدون ويموتون الى يوم القيامة ، الجميع عَلِمَهُم الله ، وغيره لا يعلم فلذا استحق العبادة وغيره لا يستحقها ، وقوله { وإن ربك } أيها الرسول { هو يحشرهم } أي إليه يوم القيامة ليحاسبهم ويجازيهم ، وهذا متوقف على القدرة والحكمة والعلم ، والذي أحياهم ثم أماتهم قادرٌ على إحيائهم نرةً اخرى والذيى علمهم قبل خلقهم وعلمهم بعد خلقهم قادر على حشرهم والحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه لا يخلقهم عبثاً بل خلقهم ليبلوهم ثم ليحاسبهم ويجزيهم أنه هو الحكيم العليم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته المتجلية فيما يلي :
أ- خلق الأرض ومدّها وإلقاء الجبال فيها . إرسال الرياج لواقح للسحب .
ب- إنبات النباتات بموازين دقيقة . إحياء المخلوقات ثم إماتتها .
ج- إنزال المطر بمقادير معينة . علمه تعالى بمن مات ومن سيموت .
2- تقرير التوحيد ان من هذه آثار قدرته هو الواجب أن يعبد وحده دون سواه .
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
4- تقرير نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم إذ هذا الكلام كلام الله أوحاه إليه صلى الله عليه وسلم .
(2/277)
________________________________________
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)
{ شرح الكلمات } :
{ ولقد خلقنا الإنسان } : أي آدم عليه السلام .
{ من صلصال من حمإ مسنون } : أي طين له صلصلة من حمإ أي طين أسود متغير .
{ من نار السموم } : نار لا دخان لها تنفذ في المسام وهي ثقب الجلد البشري .
{ فإذا سويته } : أي أتممت خلقه .
{ فقعوا له ساجدين } : أي خِرّوا له ساجدين .
معنى الآيات :
ما زال السياق في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته . قوله تعالى : { ولقد خلقنا الإنسان } أي آدم { من صلصال } أي طين يابس يسمع له صوت الصلصلة . { من حمإ مسنون } أي طين أسود متغير الريح ، هذا مظهر من مظاهر القدرة والعلم ، وقوله : { والجان خلقناه من قبل } من قبل خلق آدم والجان هو أبن الجن خلقناه { من نار السموم } ونار السموم نار لا دخان لها تنفذ في مسام الجسم . . . وقوله { وإذا قال ربك } اي اذكر يا رسولنا اذ قال ربك للملائكة اسجدوا لآدم أي سجود تحية وتعظيم لا سجود عبادة لآدم ، إذ المعبود هو الآمر المطاع وهو الله تعالى . فسجدوا { الا إبليس ابى } أي امتنع أن يكون مع الساجدبن . وقول : { قال إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين } أي أيُ شيء حصل لك حتى امتنعت أن تكون من جملة الساجدين من الملائكة ؟ فأظهر اللعين سبب امتناعه وهو حسده لآدم واستكباره ، فقال { لك أكن لأسجد لبشرٍ خلقته من صلصالٍ من حماءٍ مسنون } . وفي الآيات التالية جواب الله تعالى ورده عليه .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان أصل خلق الإنسان وهو الطين ، والجان وهو لهب النار .
2- فضل السجود ، إذ أمر تعالى به الملائكة فسجدوا أجمعون الا إبليس .
3- ذم الحسد وأنه شر الذنوب وأكثرها ضرراً .
4- ذم الكبر وأنه عائق لصاحبه عن الكمال في الدنيا والسعادة في الآخرة .
5- فضل الطين على النار لأن من الطين خلق آدم ومن النار خلق إبليس .
(2/278)
________________________________________
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
شرح الكلمات :
{ قال فاخرج منها } : أي من الجنة .
{ فإنك رجيم } : أي مرجوم مطرود ملعون . { الى يوم الوقت المعلوم } : أي وقت النفخة الأولى التي تموت فيها الخلائق كلها .
{ بما أغويتني } : أي بسبب إغوائك لي أي إضلالك وإفسادك لي .
{ المخلصين } : أي الذين استخلصتهم لطاعتك فإن كيدي لا يعمل فيهم .
{ هذا صراط علي مستقيم } : أي هذا طريق مستقيم موصل الي وعليّ مراعاته وحفظه .
{ لها سبعة أبواب } : أي أبواب طبقاتها السبع التي هي جهنم ، ثم لظى ، ثم الحُطمة ، ثم السعير ، ثم سَقَر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية .
معنى الآيات :
قوله تعالى : { فاخرج منها } هذا جواب عن قول ابليس ، { لم أكن لأسجد لبشر } الآية اذا فاخرج منها أي من الجنة { فإنك رجيم } أي مرجوم مطرود مُبعد ، { وإن عليك } لعنتي أي غضبي وإبعادي لك من السموات { الى يوم الدين } أي الى يوم القيامة وهو يوم الجزاء . فقال اللعين ما أخبر تعالى به عنه : { فإنك من المنظرين } أي الممهلين { الى يوم الوقت المعلوم } وهو فناء بني آدم حيث لم يبق منهم أحد وذلك عند النفخة الأولى . فلما سمع اللعين ما حكم به الرب تعالى عليه قال ما أخبر الله عنه بقوله : { قال رب بما أغويتني } أي بسبب إغوائك { لأزينن لهم في الأرض } أي الكفر والشرك وكبائر الذنوب ، و { لأغوينهم } أي لأضلنهم { أجمعين } { الا عبادك منهم المخلصين } فاستثنى اللعين من استخلصهم الله تعالى وأكرمهم بولايته وهم الذين لا يَسْتَبِدُ بهم غضبٌ ولا تتتحكم فيهم شهوة ولا هوى . وقوله تعالى : { قال هذا صراط علي مستقيم } اي هذا طريق مستقيم الي ارعاه واحفظه وهو { إن عبادي لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين } { وإن جهنم } لموعدك وموعد أتباعك الغاوين أجمعين { لها سبعة أبواب } اذ هي سبع طبقات لكل طبقة باب فوقها يدخل معه أهل تلك الطبقة ، وهو معنى قوله تعالى : { لكل بابٍ منهم جزء مقسوم } أي نصيب معين وطبقاتها هي : جهنم ، لظى ، الحطمة ، السعير ، سقر ، الجحيم ، الهاوية .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- حرمان إبليس من التوبة لاستمرار غضب الله عليه الى يوم القيامة .
2- استجاب الله لشر خلقه وهو إبليس فمن الجائز ان يستجيب الله دعاء الكافر لحكمة يريدها الله تعالى .
3- أمضى سلاح يغوي به إبليس بني آدم هو التزين الاشياء حتى ولو كانت دميمة قبيحة يصيرها بوسواسة زينة حسنة حتى يأتيها الآدمي .
4- عصمة الرسل وحفظ الله للاولياء حتى لا يتلوثوا بأوضار الذنوب .
5- طريق الله مستقيم الى الله تعالى يسلكه الناس حتى ينتهوا الى الله سبحانه فيحاسبهم ويجزيهم بكسبهم الخير بالخير والشر بالشر .
7- بيان أن لجهنم طبقات واحدة فوق اخرى ولكل طبقة بابها فوقها يدخل معه اهل تلك الطبقة لا غير .
(2/279)
________________________________________
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
شرح الكلمات :
{ إن المتقين } : أي الذين خافوا ربهم فعبدوه بما شرع لهم من العبادات .
{ ونزعنا ما في صدروهم من غل } : أي حقد وحسد وعداوة وبغضاء .
{ على سرر متقابلين } : أي ينظر بعضهم الى بعض ما داموا جالسين وإذا انصرفوا دارت بهم الأسرة فلا ينظر بعضهم الى قفا بعض .
{ لا يمسهم فسها نصب } : أي تعب .
{ العذاب الأليم } : أي الموجع شديد الإيجاع .
{ ضيف إبراهيم } : هم ملائكة نزلوا عليه وهم في طريقهم الى قوم لوط لإهلاكهم كان من بينهم جبريل وكانوا في صورة شباب من الناس .
{ إنا منكم وجلون } : اي خائفون وذلك لما رفضوا أن يأكلوا .
{ بغلام عليم } : أي بولد ذي علم كثير هو أسحق عليه السلام .
{ فيم تبشرون } : أي تعجب من بشارتهم مع كبره بولد .
{ من القانطين } : أي الآيسين .
معنى الآيات : لما ذكر تعالى جزاء اتباع ابليس الغاوين ، ناسب ذكر جزاء عباد الرحمن أهل التقوى والإيمان فقال تعالى مخبراً عما أعد لهم من نعيم مقيم : { إن المتقين } أي الله بترك الشرك والمعاصي { في جنات وعيون } يقال لهم { ادخلوها بسلامٍ آمنين } أي حال كونكم مصحوبين بالسلام آمنين من الخوف والفزع . وقوله { ونزعنا ما في صدورهم من غل } أي لم يبق الله تعالى في صدور أهل الجنة ما ينغص نعيمها ، او يكدر صفوها كحقد او حسد او عداوة او شحناء . وقوله : { إخواناً على سررٍِ متقابلين } لما طهر صدورهم مما من شأنه ان ينغص أو يكدر ، أصبحوا في المحبة لبعضهم بعضاً أخواناً يضمهم مجلس واحد يجلسون فيه على سررٍ متقابلين وجهاً لوجه ، واذا ارادوا الانصراف الى قصورهم تدور بهم الأسرة فلا ينظر احدهم الى قفا أخيه . وقوله تعالى : { لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين } فيه الإخبار بنعيمين : نعيم الراحة الأبدية اذ لا نصب ولا تعب في الجنة ونعيم البقاء والخلد فيها اذ لا يخرجون منها ابداً ، وفي هذا التقرير لمعتقد البعث والجزاء بأبلغ عبارة واوضحها . وقوله تعالى : { نبئ عبادي اني أنا الغفور الرحيم } أي خبر يا رسولنا عبادنا المؤمنين الموحدين أن ربهم غفور لهم ان عصوه وتابوا من معصيتهم . رحيم بهم فلا يعذبهم . { وأن عذابي هو العذاب الأليم } ونبئهم أيضاً أن عذابي هو العذاب الأليم فليحذروا معصيتي بالشرك بي ، أو مخالفة أوامري وغشيان محارمي . وقوله تعالى : { ونبئهم عن ضيف إبراهيم . إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً } أي سلموا عليه فرد عليهم السلام وقدم لهم قرى الضيف وكان عجلاً حيذا ، كما تقدم في هود وعرض عليهم الأكل فامتنعوا وهنا قال : { إنا منكم وجلون } أي خائفون ، وكانوا جبريل وميكائيل وإسرافيل في صورة لشباب حسان . فلما أخبرهم بخوفه منهم ، لأن العادة أن النازل على الانسان اذا لم ياكل طعامه ذل ذلك على انه يريد به سوء .
(2/280)
________________________________________
{ قالوا لا توجل } اي لا تخف ، { إنا نبشرك بغلام عليم } أي بولد ذي علم كثير . فرد إبراهيم قائلاً بما أخبر تعالى عنه بقوله : { قال أبشرتموني على أن مسنى الكبر فيم تبشرون } أي هذه البشارة بالولد على كبر سني أو عجيب ، فلما تعجب من البشارة وظهرت عليه علامات الشك والتردد في صحة الخبر قالوا له : { بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين } أي الآيسين . وهنا ورد عليهم قائلاً نافياً القنوط عنه لأن القنوط حرام . { ومن يقنط من رحمة به الا الضالون } أي الكافرون بقدرة الله ورحمته لجهلهم بربهم وصفاته المتجلية في رحمته لهم وإنعامه عليهم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير نعيم الجنة ، وأن بعضها جسماني روحاني معاً دائم أبداً .
2- صفاء نعيم الجنة من كل ما ينغصه أو يكدره .
3- وعد الله بالمغفرة لمن تاب من أهل الإيمان والتقوى من موحديه .
4- وعيده لأهل معاصيه إذ لم يتوبوا إليه قبل موتهم .
5- حرمة القنوط واليأس من رحمة الله تعالى .
(2/281)
________________________________________
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
شرح الكلمات :
{ قال فما خطبكم } : أي ما شأنكم ؟
{ الى قوم مجرمين } : هم قوم لوط عليه السلام .
{ إنا لمنجوهم أجمعين } : أي لإيمانهم وصالح اعمالهم .
{ الغابرين } : اي الباقين في العذاب .
{ قوم منكرون } : أي لا أعرفكم .
{ بما كانوا فيه يمترون } : أي بالعذاب الذي كانوا يشكون في وقوعه بهم .
{ حيث تؤمرون } : أي الى الشام حيث أمروا بالخروج إليه .
{ وقضينا إليه ذلك الأمر } : أي فرغنا الى لوط من ذلك الامر ، وأوحينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الحديث عن ضيف إبراهيم ، وها هوذا قد سألهم بما اخبر به تعالى عنه بقوله : { قال فما خطبكم أيا المرسلون } أي ما شأنكم أيها المرسلون من قبل الله تعالى اذ هم ملائكته ؟ { قالوا إنا ارسلنا الى قوم مجرمين } أي على أنفسهم ، وعلى غيرهم وهو اللوطيون لعنهم الله . وقوله تعالى : { الا آل لوط } أي آل بيته والمؤمنين معه ، { إنا لمنجوهم أجمعين الا امرأته قدرنا } أي قضينا { إنها لمن الغابرين } أي الباقين في العذاب ، أي قضى الله وحكم بإهلاكها في جملة من يهلك لأنها كافرة مثلهم ، الى هنا انتهى الحديث مع إبراهيم وانتقلوا الى مدينة لوط عليه السلام قال تعالى { فلما جاء آل لوط المرسلون } أي انتهوا اليهم ودخلوا عليهم الدار قال لوط عليه السلام لهم { إنكم قوم منكرون } أي لا أعرفكم وأجابوه قائلين : نحن رسل ربك جئناك بما كان قومك فيه يمترون أي يشكون وهو عذابهم العاجل جزاء كفرهم وإجرامهم ، { وأتيناك بالحق } الثابت الذي لا شك فيه { وإنا لصادقون } فيما أخبرناك به وهو عذاب قومه المجرمين . وعليه { فأسر بأهلك بقطع من الليل } أي أسر بهم في جزء من الليل ، و { اتبع أدبارهم } أي امش وراءهم وهو أمامك { ولا يلتفت منكم أحد } بأن ينظر وراءه ، أي حتى لا يرى ما يسوءه عند نزول العذاب بالمجرمين ، وقوله { وامضوا حيث تؤمرون } أي يأمركم ربكم وقد أمروا بالذهاب الى الشام ، وقوله تعالى : { وقضينا اليه ذلك الأمر ان دابر هؤلاء مقطوع مصبحين } أي وفرغنا الى لوط من ذلك الأمر ، وأوحينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين ، أي أنهم مهلكون عن آخرهم في الصباح الباكر ما أن يطلع الصباح حتى تقلب بهم الأرض ويهلكوا عن آخرهم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- التنديد بالإجرام وبيان عقوبة المجرمين .
2- لا قيمة للنسب ولا للمصاهرة ولا عبرة بالقرابة إذا فصل الكفر والإجرام بين الأنساب والأقرباء فأمراة لوط هلكت مع الهالكين ولم يشفع لها أنها زوجة نبي ورسول عليه السلام .
3- مشروعية المشي بالليل لقطع المسافات البعيدة .
4- مشروعية مشي المسئول وكبير القوم وراء الجيش والقافلة أحوالهم ، والاطلاع على من يتخلف منهم لأمر ، وكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل .
5- كراهية الإشفاق على الظلمة الهالكين ، لقوله : ولا يلتفت منكم أحد أى : بقلبه .
(2/282)
________________________________________
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
شرح الكلمات :
{ وجاء أهل المدينة يستبشرون } : أي ومدينة سدوم ، أي فرحين بإتيانهم الفاحشة .
{ واتقوا الله ولا تخزون } : أي لا تذلوني في انتهاك حرمة ضيفي .
{ أو لم ننهك عن العالمين } : أي عن إجارتك لهم واستضافتك .
{ لفي سكرتهم يعمهون } : أي غوايتهم ، وشدة غلمتهم التي أزالت عقولهم ، يترددون .
{ مشرقين } : أي وقت شروق الشمس .
{ من سجيل } : أي طين طبخ بالنار .
{ لآيات للمتوسمين } : أي الناظرين المعتبرين .
{ لبسيل مقيم } : أي طريق قريش الى الشام مقيم دائم ثابت .
{ أصحاب الأيكة } : أي قوم شعيب عليه السلام ، والأيكة غيصة شجر بقرب مدين .
{ وإنهما لبإمام مبين } : أي قوم لوط ، وأصحاب الأيكة لبطريق مبين واضح .
معنى الآيات : ما زال السياق مع لوط عليه السلام وضيفه من الملائكة من جهة ، وقوم لوط من جهة . قال تعالى : { جاء أهل المدينة } أي مدينة سدوم وأهلها سكانها من اللوطيين ، وقوله { يستبشرون } أي فرحين مسرورين لطعمهم في ايتان الفاحشة ، فقال لهم لوط ما أخبر الله تعالى به : { قال إن هؤلاء } يشير الى الملائكة { ضيفي فلا تفضحون } أي فيه وأي بطلبكم الفاحشة ، { وتقوا الله } أي خافوه { ولا تخزون } أي تهينوني وتذلوني . فأجابوا بما اخبر تعالى به عنهم : { قالوا أو لم ننهك عن العالمين } أي أتقول ما تقول ولم تذكر أنا نهيناك عن استضافة أحد من الناس أو تجيره ، فأجابهم لوط عليه السلام بما أخبر تعالى به عنه : { قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين } أي هؤلاء بناتي فتزوجوهن إن كنتم فاعلين ما آمركم به أو أرشدكم إليه . وقوله تعالى : { لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون } أي وحياتك يا رسولنا ، إنهم أي قوم لوط { لفي سكرتهم } غوايتهم التي أذهبت عقولهم فهبطوا الى درك أسفل من درك الحيوان ، { يعمهون } أي حيارى يترددون ، { فأخذتهم الصيحة مشرقين } أي صيحة جبريل عليه السلام مشرقين مع إشراق الشمس . وقوله تعالى { وأمطرنا عليهم } فوق ذلك { حجارة من سجيل } أي من طين مطبوخ بالنار . . وقوله تعالى : { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } أي ان في ذلك المذكور من تدمير مدن كاملة بما فيها لآيات وعبر وعظات للمتوسمين أي الناظرين نظر تفكر وتأمل لمعرفة الأشياء بسماتها وعلاماتها . وقوله تعالى : { وإنها لسبيل مقيم } أي وإن تلك القرى الهالكة لبطريق ثابت باق يمر به أهل مكة في أسفارهم الى الشام . وقوله : { إن في ذلك لآية للمؤمنين } أي لعبرة للمؤمنين فلا يقدمون على محارم الله ، ولا يرتكبون معاصيه . وقوله تعالى : { وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين } . هذا إشارة خاطفة الى قصة شعيب عليه السلام مع قومه أصحاب الأيكة ، والأيكة الفيضة من الشجر الملتف . . وكانت منازلهم بها وكانوا مشركين وهو الظلم في قوله { وأن كان أصحاب الأيكة لظالمين } لأنفسهم بعبادة غير الله تعالى ، وقوله تعالى : { فانتقمنا منهم } أي أهلكناهم بحر شديد يوم الظله وسيأتي الحديث عنهم في سورة الشعراء قال تعالى هناك فأخذتهم عذاب يوم الظله أنه كان عذاب يوم عظيم .
(2/283)
________________________________________
وقوله : { وإنهما لبإمام مبين } الإمام الطريق لأن الناس يمشون فيه وهو أمامهم ، ومبين واضح . والضمير في قوله وإنهما عائد على قوم لوط ، وقوم شعيب وهم اصحاب الأيكة لا أصحاب مدين لأنه ارسل الى اصحاب الأيكة والى اهل مدين ، والطريق طريق قريش الى الشام ، والقصد من ذكر هذا وعظ قريش وتذكرهم ، فهل يتعظون ويتذكرون ؟
هداية الآيات
من هداية الايات :
1- بيان إهلاك قوم لوط .
2- إنكار الفاحشة وأنها أقبح فاحشة تعرفها الإنسانية هي إيتان الذكور .
3- بيان دفاع لوط عليه السلام عن ضيفه حتى فداهم .
4- شرف النبي صلى الله عليه وسلم حيث أقسم تعالى بحياته في قوله { لعمرك } .
5- الحث على نظر التفكير والاعتبار والتفرس فإنه أنفع للعقل البشري .
6- بيان نقمة الله تعالى من الظالمين للاعتبار والاتعاظ .
7- تقريرنبوة الرسول صلى وسلم إذ مثل هذه الأخبار لن تكون الا عن وحي إلهي .
(2/284)
________________________________________
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
شرح الكلمات :
{ أصحاب الحجر } : هم قوم صالح ومنازلهم بين المدينة النبوية والشام .
{ وآتيناهم آياتنا } : أي في الناقة وهي أعظم آية .
{ ما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون } : من بناء الحصون وجمع الأموال .
{ الصفح الجميل } : أي اعراض عنهم اعراضاً لا جزع فيه وهذا قبل الأمر بقتالهم .
{ سبعاً من الثماني } : هي آيات سورة الفاتحة السيع . { أزواجاً منهم } : أي أصنافاً من الكفار . { واخفض منهم } : أي أصنافاً من الكفار . { واخفض جناحك : أي ألن جانبك للمؤمنين . معنى الآيات :
هذا مشروع في موجز قصة أخرى هي قصة أصحاب الحجر وهم ثمود قوم صالح ، قال تعالى : { ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين } وفي هذا موعظة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كذبه قومه من أهل مكة فليصبر على تكذيبهم فقد كذبت قبلهم أقوام . وقال تعالى { المرسلين } ولم يكذبوا الا صالحاً باعتبار ان من كذب رسولاً فقد كذب عامة الرسل ، لأن دعوة الرسل واحدة وهي ان يعبد الله وحده بما شرع لإكمال الإنسان وإسعاده في الحالتين . وقوله { وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين } إن المراد من الآيات القائمة بالناقة منها أنها خرجت من صخرة ، وأنها تشرب ماء البلد يوماً ، وانها تقف أمام كل بيت ليحلب اهله منها ما شاءوا ، وإعراضهم عنها ، عدم ايمانهم وتوبتهم الى الله تعالى بعد أن آتاهم ما طلبوا من الآيات . وقوله { وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً } أي كانوا يتخذون بالنحت بيوتاً داخل الجبال يسكونها شتاء آمنين من ان تسقط عليهم لقوتها ومن ان ينالهم برد أو حر لوقايتها لهم ، وقوله تعالى { فأخذتهم الصيحة مصبحين } وذلك صيحة اليوم الرابع وهو يوم السبت فهلكوا أجمعين ، { فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون } من المال والعتاد وبناء الحصون بل هلكوا ولم ينجح منهم أحد الا من آمن وعمل صالحاً فقد نجاه الله تعالى مع نبيه صالح عليه السلام . وقوله تعالى : { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما الا بالحق } أي الا من أجل أن أذكر وأشكر ، فلذا من كفر بي فلم يذكرني وعصاني فلم يشكرني اهلكته . لأني لم أخلق هذا الخلق العظيم لهواً وباطلاً وعبثاً . وقوله { وإن الساعة لآتية } أي حتماً لا محالة وثم يجزي كل بما كسب فلا تحزن على قومك ولا تجزع منهم فإن جزاءهم لازم وآت لا بد ، فأصبر واصفح عنهم وهو معنى قوله تعالى { فاصفح الصفح الجميل } أي الذي لا جزع معه . وقوله { إن ربك هو الخلاق العليم } خلق كل شيء وعلم بما خلق فعلة كثرة المخلوقات يعلم نياتها ، وأعمالها ، واحوالها ولا يخفى عليه شيء من أمرها كما بدأها ويحاسبها ويجزيها بما كسبت . وهذا من شأنه أن يساعد الرسول صلى الله عليه وسلم على الصبر والثبات على دعوته حتى ينصرها الله تعالى في الوقت الذي حدده لها .
(2/285)
________________________________________
وقوله تعالى : { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم } أي أعطيناك سورة الفاتحة أم القرآن وأعطيناك القرآن العظيم وهو خير عظيم ولا يقادر قدره . إذاً { لا تمدن عينيك } متطلعاً { إلى ما متعنا به أزواجاً منهم } أي أصنافاً من رجالات قريش . فما آتيناك خير مما هم عليه من المال والحال التي يتمتعون فيها بلذيذ الطعام والشراب . وقوله : { ولا تحزن عليهم } إن هم لم يؤمنوا بك ولم يتابعوك على ما جئت به ، فإن أمرهم الى الله تعالى ، وأمره تعالى أن يلين جانبه لأصحابه المؤمنين فقال : { واخفض جناحك للمؤمنين } فحسبك ولاية الله لك فذر المكذبين أولي النعمة ، وتعايش مع المؤمنين ، ولين جانبك لهم ، واعطف عليهم فإن الخير فيهم وليس في أولئك الأغنياء الأثرياء الكفرة الفجرة .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- إذا أراد الله هلاك امة فإن قوتها المادية لا تغني عنها شيئاً .
2- لم يخلق الله الخلق عبثاً بل خلقه ليعبد بالذكر والشكر ، فمن عبده نجا ، ومن اعرض عن ذكره وترك عبادته أذاقه عذاب الخزي في الدنيا والآخرة أو في الاخرة وهو أشد وأخرى .
3- بيان أن الفصح الجميل هو الذي لا جزع معه .
4- بيان أن من أوتي القرآن لم يؤت أحد مثله من الخير قط .
5- فضل الفاتحة إذ هي السبع المثاني .
6- على الدعاء الى الله ان لا يلتفتوا الى ما في أيدي الناس من مالٍ ومتاع ، فإن ما آتاهم الله من الايمان والعلم والتقوى خير مما آتى أولئك من المال والمتاع .
7- استحباب لين الجانب للمؤمنين والعطف عليهم والرحمة لهم .
(2/286)
________________________________________
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
{ شرح الكلمات } :
{ النذير المبين } : المبين النذارة .
{ على المقتسمين } : أي الذين قسموا كتاب الله فقالوا فيه شعر ، وقالوا سحر ، وقالوا كهانة .
{ جعلوا القرآن عضين } : هم المقسمون للقرآن وجعلوه عضين جمع عضة وهي القطعة والجزء من الشيء .
{ فاصدع بما تؤمر } : أي اجهر به وأعرضه كما أمرك ربك .
{ يضيق صدرك بما يقولون } : أي من الاستهزاء والتكذيب لك .
{ حتى يأتيك اليقين } : أي الموت ، أي الى أن تتوفى وأنت تعبد ربك .
معنى الآيات : ما زال السياق في إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم وتعليمه ما ينبغي أن يكون عليه فأمره تعالى بقوله : { وقل إني أنا النذير المبين } أي أعلن لقومك بأنك النذير البين النذارة لكم يا قوم ان ينزل بكم عذاب الله ان اصررتم على الشرك والعناد والكفر ، وقوله : { كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرأن عضين } انذركم عذاباً كالذي أنزله الله وينزله على المقتسمين الذين قسموا التوارة والانجيل فآمنوا ببعض وكفروا ببعض وهم اليهود والنصارى ، والمقتسمين الذين تقاسموا أن يبيتوا صالحاً فأنزل الله بهم عقوبته والمقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين أي أجزاء فقالوا فيه شعر وسحر وكهانة ، المقتسمين الذين قسموا طرق مكة وجعلوها نقاط تفتيش يصدون عن سبيل الله كل ما جاء يريد الإسلام وهؤلاء كلهم مقتسمون وحل عذاب الله ونقمته . وقوله تعالى : { فوربك لنسألنهم اجمعين عما كانوا يعملون } يقسم الجبار تبارك وتعالى لرسوله أن ليسألنهم يوم القيامة عما كانوا يعملون ويجزيهم به فلذا لا يهولنك أمرهم واصبر على أذاهم . وقوله { فاصدع بما تؤمر } أي أجهر بدعوة لا اله الا الله محمد رسول الله ، وما تؤمر ببيانه والدعوة إليه أو التنفير منه ، { وأعرض إلهاً آخر فسوف يعلمون } والمراد بهؤلاء المستهزئين الذين واعد تعالى بكفاية رسوله شرهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل ، وعدي بن قيس . وقوله تعالى : { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون } أي من الاستهزاء بك والسخرية ، ومن المبالغة في الكفر والعناد فنرشدك الى كما يخفف عنك الألم النفسي { فسبح بحمد ربك } أي قل سبحان الله وبحمده أي أكثر من هذا الذكر ( وكن من الساجدين ) أي المصلين إذ لا سجود الا في الصلاة أو تلاوة القرآن . إذا فافزع عند الضيق الى الصلاة فلماذا كان صلى الله عليه وسلم إذا أحزنه أمر فزع الى الصلاة ، وقوله : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } أي واصل العبادة وهي الطاعة في غاية الذل والخضوع لله تعالى حتى يأتيك اليقين الذي هو الموت فإن القبر أول عتبة الآخرة وبموت الإنسان ودخوله في الدار الأخرة أصبح إيمانه يقيناً محضاً .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- حرمة الاختلاف في كتاب الله تعالى على نحو ما اختلف فيه أهل الكتاب .
2- مشروعية الجهر بالحق وبيانه لا سيما اذا لم يكن هناك اضطهاد .
3- فضل التسبيح بجملة : سبحان الله وبحمده ومن قالها مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر وهذا مروي في الصحيح .
4- مشروعية صلاة الحاجة فمن حزبه أمر أو ضاق به فليصل صلاة يفرج الله تعالى بها ما به او يقضي حاجته أن شاء وهو العليم الحكيم .
(2/287)
________________________________________
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)
شرح الكلمات :
{ أتى أمر الله } : أي دنا وقرب أمر الله بعذابكم ايها المشركون فلا تستعجلون . { ينزل الملائكة بالروح } : أي بالوحي الذي به حياة الأرواح والمراد من الملائكة جبريل . { خلق الإنسان من نطفة } : أي من قطرة المني . { دفء ومنافع } : أي ما تستدفئون به ، ومنافع من العسل واللبن واللحم والركوب . { حين تريحون } : أي حين ترونها من مراحها . { وحين تسرحون } : أي وحين إخراجها من مراحها الى مسارحها أي الأماكن التي تسرح فيها . { الا بشق الأنفس } : أي بجهد الأنفس ومشقة عظيمة . { معنى الآيات } : لقد استعجل المشركون بمكة العذاب وطالبوا به غير مرة فأنزل الله تعالى قوله : { أتى أمر الله } أي بعذابكم أيها المستعجلون له . لقد دنا منكم وقرب فالنضر بن الحارث القائل : { اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو أئتنا بعذاب أليم } ، جاءه بعد سُنيات قلائل فهلك ببدر صبراً ، الى جهنم ، وعذاب يوم القيامة لمن استعجله قد قرب وقته ولذا عبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه مجيئه فلا معنى لاستعجاله فلذا قال الله تعالى : { فلا تستعجلوه } وقوله { سبحان وتعالى عما يشركون } أي تنزه وتقدس عما يشكرون به من الآلهة الباطلة اذ لا اله الا هو : وقوله { ينزل الملائكة بالروح من أمره } أي بإرادته وإذنه { على من يشاء من عباده } . أي ينزل جبريل عليه السلام بالوحي على من يشاء من عباده وهو محمد صلى الله عليه وسلم وقوله { أن أنذروا انه لا إله الا أنا فاتقون } أي بأن انذروا اي خوفوا المشركين عاقبة شركهم فإن شركهم باطل سيجر عليهم عذاباً لا طاقة لهم به ، لأنه لا اله الا الله ، وكل الآلهة دون باطلة . أذ فاتقوا الله بترك الشرك والمعاصي والا تعرضتم للعذاب الأليم . في هاتين الآيتين تقرير للوحي والنبوة للنبي صلى الله عليه وسلم وتقرير التوحيد أيضاً وقوله تعالى في الآيات التالية : { خلق السموات والأرض بالحق تعالى عما يشركون } استدلال على وجوب التوحيد وبطلان الشرك فالذي خلق السموات والأرض بقدرته وعمله وحده دون ما معين له ولا مساعد حق ان يعبد ، لا تلك الآلهة الميتة التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنطق { تعالى عما يشركون } أي تنزه وتقدس تعالى عما يشركون به من أصنام وأوثان . وقوله : { خلق الانسان من نطفة } أي من أضعف شيء واحقره قطرة المني خلقه في ظلمات ثلاث وأخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئاً حتى إذ رباه وأصبح رجلاً إذا هو خصيم لله يجادل ويعاند ، ويقول من يحيى العظام وهي رميم . وقوله تعالى { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون } فهذه مظاهر القدرة الإلهية والعلم والحكمة والرحمة وهي الموجبة لعبادته تعالى وترك عبادة ما سواه .
(2/288)
________________________________________
فالأنعام وهي الإبل والبقر والغنم خلقها الله تعالى لبني آدم ةلم يخلقها لغيرهم ، لهم فيها دفء إذ يصنعون الملابس والفرش والأغطية من صوف الغنم ووبر الإبل ولهم فيها منافع كاللين والزبدة والسمن والجبن والنسل جيث تلد كل سنة فينتفعون بأولادها . ومنا يأكلون اللحوم المختلفة فالمنعم هو الواجب العبادة دون غيره من سائر . مخلوقاته وقوله : { ولكم فيها جمال } أي منظر حسن جميل حين تريحونها عشية من المرعى الى المراح { وحين تسرحون } اي تخرجونها صباحاً من مراحها الى مراعيها ، فهذه لذة روحية ببهجة المنظر . وقوله ( وتحمل أثقالكم الى بلدٍ لم تكونوا بالغيه الا بشق وبذل الجهو والطاقة ، لولا الإبل سفن الصحراء ومثل الإبل الخيل والبغال والحمير في حمل الأثقال . فالخلق لهذه الأنعام هو ربكم لا اله الا هو فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وقوله تعالى : { إن ربكم } أي خالقكم ورازقكم ومربيكم وإلهكم الحق الذي لا اله لكم غير لرؤوف رحيم ، ومظاهر رحمته ورأفته ظاهره في كل حياة الإنسان فلولا لطف الله بالانسان ورحمته له لما عاش ساعة في الحياة الدنيا فلله الحمد وله المنة .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- قرب يوم القيامة فلا معنى لاستعجاله فإنه آتٍ لا محالة ، وكل أتٍ قريب .
2- تسمية الوحي بالروح من أجل أنه يحيى القلوب ، كما تحيى الأجسام بالأرواح .
3- تقرير التوحيد والنبوة والبعث الآخر بذكر مظاهر القدرة الإلهية والعلم والحكمة والرأفة والرحمة .
(2/289)
________________________________________
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
شرح الكلمات :
{ ويخلق ما لا تعلمون } : من سائر الحيوانات ومن ذلك السيارات والطائرات والقطر .
{ وعلى الله قصد السبيل } : أي تفضلاً وامتناناً ببيان السبيل القاصده وهي الإسلام .
{ ومنها جائر } : أي عادل عن القصد وهو سائر الملل كاليهودية والنصرانية .
{ ومن شجر } : أي وبسببه يكون الشجر وهو هنا عام في سائر النباتات .
{ فيه تسيمون } : ترعون مواشكيم .
{ مسخرات بأمره } : أي بإذنه وقدرته .
{ وما ذرأ لكم في الأرض } : أي خلق لكم في الأرض من الحيوان والنباتات المختلفة .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد بذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته إذ قال تعالى : { والخيل والبغال والحمير } أي خلقها وهو خالق كل شيء لعله ركوبهم إياها اذ قال : { لتركبوها وزينة } أي ولأجل أن تكون زينة لكم في حياتكم وقوله { ويخلق مالا تعلمون } أي مما هو مركوب وغير مركوب من مخلوقات عجيبة ومن المركوب هذه السيارات على اختلافها والطائرات والقطر السريعة والبطيئة هذا كله إفضاله وإنعامه على عباده فهل يليق بهم أن يكفوره ولا يشكروه ؟ وهل يليق بهم أن يشركوا في عبادته سواه . وقوله { وعلى الله قصد السبيل } ومن إفضاله وإنعامه الموجب لشكره ولعبادته دون غيره أن بين السبيل القاصد الموصل الى رضاه وهو الإسلام ، في حبن أن ما عدا الإسلام من سائر الملل كاليهودية والنصرانية والمجوسية وغيرها سبل جائره عن العدل والقصد سالكوها ضالون غير مهتدين الى كمال ولا الى إسعاد هذا معنى قوله تعالى { وعلى الله قصد السبيل } وقوله { ولو شاء لهداكم أجمعين } أي لو تعلقت بإرادته هداية الناس أجمعين لهداهم أجمعين وذلك لكمال قدرته وعلمه ، الا أن حكمته لم تقتض هداية لكل الناس فهدئ من رغب في الهداية وأضل من رغب في الضلال . ومن مظاهر ربوبيته الموجبة لألوهيته أي عبادته ما جاء في الآيات التالية ( 10 ، 11 ، 12 ، 13 ، 14 ، 15 ) إذ قال تعالى : { هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب } تشربون منه وتطهرون ، { ومنه } اي من الماء الذي أنزل من السماء شجر لأن الشجرة والمراد هنا سائر النباتات يتوقف وجوده على الماء وقوله { فيه تسيمون } أي في ذلك النبات ترعون مواشيكم . يقال سام الماشية أي ساقها الى المرعى وسامت الماشية أي رعت بنفسها . وقوله تعالى : { ينبت لكم به } أي بما أنزل من السماء من ماء { الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات } كالفواكه والخضر على اختلافها إذ كلها متوقفة على الماء . وقوله { إن في ذلك } أي المذكور من نزول الماء وحصول المنافع الكثيرة به { لآية } أي علامة واضحة على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته وهي مقتضية لعبادته وترك عبادة غيره . ولكن { لقوم يتفكرون } فيتعظون . أما اشباه البهائم الذين لا يفكرون في شيء فلا يجدون آية ولا شبه آية في الكون كله وهو يعشيون فيه .
(2/290)
________________________________________
وقوله تعالى : { وسخر لكم الليل والنهار } الليل للسكون والراحة ، والنهار للعمل ابتغاء الرزق وتسخيرهما كونهما موجودين باستمرار لا يفترقان أبداً الى أن ياذن الله بانتهائهما وقوله : { والشمس والقمر } أي سخرهما كذلك للانتفاع بضوء الشمس وحرارتها ، وضوء القمر لمعرفة عدد السنين والحساب ، وقوله { والنجوم مسخرات بأمره } كذلك ومن فؤائد النجوم الاهتداء بها في ظلمات البر والبحر وكونها زينة وجمالاً للسماء التي هي سقف دارنا هذه . وقوله { إن في ذلك } المذكور من تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم { لآيات } عدة يستدل بها على الخالق وعلى وجوب عبادته وعلى توحيده فيها ، ولكن { لقوم يعقلون } أي الذين يستخدمون طاقة عقولهم في فهم الأشياء وإدراك اسرارها وحقائقها أما أشباه البهائم والمجانين الذين لا يفكرون ولا يتعقلون ولا يعقلون ، فليس لهم في الكون كله آية واحدة يستدلون بها على ربهم ورحمته بهم وواجب شكره عليهم وقوله تعالى : { وما ذرأ لكم في الأرض } أي وما خلق لكم في الأرض من إنسان وحيوان ونبات { مختلفاً ألوانه } وخصائصه وشيانه ومنافعه وآثاره { إن في ذلك } الخلق العجيب { لآية } أي دلالة واضحة على وجود الخالق عز وجل ووجوب عبادته وترك عبادة غيره ولكن { لقومٍ يذكرون } فيتعظون فينتبهون الى ربهم فيعبدونه وحده بامتثال أمره واجتناب نهيه فيكملون على ذلك ويسعدون في الحياتين .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- كون الخيل والبغال والحمير خلقت للركوب والزينة لا ينفي منفعة اخرى فيها وهي أكل لحوم الخيل لثبوت السنة بإباحة لحوم الخيل ، ومنع لحوم البغال والحمير كما في الصحيحين .
2- الإسلام هو السبيل التي بينها تعالى فضلاً منه ورحمة وما عداه فهى سبل جائرة عن العدل والحق .
3- فضيلة التفكر والتذكر والتعقل وذم أضدادها لأن الايات الكونية كالآيات القرآنية إذا لم يتفكر فيها العبد لا يهتدي الى معرفة الحق المنشود وهو معرفة الله تعالى ليعبده بالذكر والشكر وحده دون سواه .
(2/291)
________________________________________
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)
شرح الكلمات :
{ حلية تلبسونها } : هي اللؤلؤ والمرجان .
{ مواخر فيه } : أي تشقه بجريها فيه مقبلة ومدبرة بريح واحدة وبالبخار اليوم .
{ من فضله } : أي من فضل الله تعالى بالتجارة .
{ ان تميد بكم } : أي تميل وتتحرك فيخرب ما عليها ويسقط .
{ لا تحصوها } : أي عداً فتضبطوها فضلاً عن شكرها للمنعم بها عز وجل .
{ ما تسرون وما تلعنون } : عن المكر بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن أذاه علانية هذا بالنسبة الى اهل مكة ، إذ الخطاب يتناولهم أولاً ثم اللفظ عام فالله يعلم كل سرٍ وعلانية في أي أحد .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته تلك المظاهر الموجبة لتوحيده وعبادته وشكره وذكره قال تعالى : { وهو الذي سخر لكم البحر } وهو كل ماء غمر كثير عذباً كان او ملحاً وتسخيره تيسير الغوص فيه وجرى السفن عليه . وقوله { لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها } بيان لعلة تسخير البحر وهي ليصيد الناس منه السمك يأكلونه ، ويستخرجون اللؤلؤ والمرجان حيلة لنسائهم . وقوله : { وترى الفلك مواخر فيه } أي وترى أيها الناظر الى البحر ترى السفن تمخر الماء أي تشقه ذاهبة وجائية . وقوله : { ولتبتغوا } أي سخر البحر والفلك لتطلبوا الرزق بالتجارة بنقل البضائع والسلع من إقليم الى إقليم وذلك كله من فضل الله وحوله { لعلكم تشكرون } أي كي تشكروا الله تعالى . أي سخر لكم ذلك لتحصلوا على الرزق من فضل الله فتأكلوا وتشكروا الله على ذلك والشكر يكون بحمد الله والاعتراف بنعمته وصرفها في مرضاته وقوله : { وألقى في الأرض رواسي } أي ألقى في الأرض جبالاً ثوابت { أن تميد بكم } كي لا تميد بكم ، وميدانها ميلها وحركتها إذ لو كانت تتحرك لما استقام العيش عليها والحياة فيها . وقوله { وأنهاراً } أي وأجرى لكهم أنهاراً في الأرض كالنيل والفرات وغيرهما { وسبلاً } أي وشق لكم طرقاً { لعلكم تهتدون } الى منازلكم في بلادكم وقوله { وعلامات } أي وجعل لكم علامات للطرق وأمارات كالهضاب والأودية والأشجار وكل ما يستدل به على الطريق والناحية ، وقوله { وبالنجم } أي والنجوم { هم يهتدون } فركاب البحر لا يعرفون وجهة سيرهم في الليل الا النجوم وكذا المسافرون في الصحارى والوهاد لا يعرفون وجهة سفرهم الا بالنجوم وذلك قبل وجود آلة البوصلة البحرية ولم توجد الا على ضوء النجم وهدايته وقوله في الآية ( 17 ) { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } هذا تأنيب عظيم لأولئك الذين يصرون على عبادة الأصنام ويجادلون عليها ويجالدون فهل عبادة من يخلق ويرزق ويدبر حياة الإنسان وهو الله رب العالمين كعبادة من لا يخلق ولا يرزق ولا يدير ؟ فمن يسوي من العقلاء بين الحي المحيي الفعال لما يريد واهب الحياة كلها وبين الأحجار والأوثان ؟ فلذا وبخهم بقوله { أفلا تذكرون } فتذكرون فتعرفون ان عبادة الأصنام باطلة وان عبادة الله حق فتتوبوا الى ربكم وتسلموا له قبل أن يأتيكم العذاب .
(2/292)
________________________________________
وقوله تعالى : { وإن تعدو نعمة الله لا تحصوها } بعدما عدد في هذه الآيات من النعم الكثيرة أخبر أن الناس لو أرادوا أن يعدوا نعم الله ما استطاعوا عدها فضلاً عن شكرها ، ولذا قال { إن الله لغفور رحيم } ولولا ان كذلك ليؤاخذهم على تقصيرهم في شكر نعمه عليهم ولسلبها منهم عند كفرها وعدم الاعتراف بالمنعم بها عز وجل وقوله تعالى : { والله يعلم ما تسرون وما تعلنون } هذه آخر مظاهر القدرة والعلم والحكمة والنعمة في هذا السياق الكريم فالله وحده يعلم سر الناس وجهرهم فهو يعلم إذا حاجاتهم وما تتطلبه حياتهم ، فإذا عادوه وكفروا به فكيف يأمنون على حياتهم ولما كان الخطاب في سياق دعوة مشركي مكة الى الايمان والتوحيد فالآية اخطار لهم بان الله عليم بمكرهم برسوله وتبييت الشر له وأذاهم له بالنهار . فهي تحمل التهديد والوعيد لكفار مكة .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان العلة في الرزق وانها الشكر لله سبحانه وتعالى يرزق لِيُشكر .
2- إباحة أكل الحوت وكل دواب البحر .
3- لا زكاة في اللؤلؤ والمرجان لأنه من حيلة النساء .
4- المقارنه بين الحي الخلاق العليم ، وبين الأصنام الميتة المخلوقة لتقرير بطلان عبادة غير الله تعالى لأن من يَخلُق ليس كمن يَخلَق .
5- عجز الإنسان عن شكر نعم الله تعالى يتطلب منه أن يشكر ما يمكنه منها وكلمة ( الحمد لله ) تعد رأس الشكر والاعتراف بالعجز عن الشكر من الشكر ، والشكر صرف النعم فيما أجله أنعم الله تعالى بها .
(2/293)
________________________________________
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
شرح الكلمات :
{ وهم يخلقون } : أي يصورون من الحجارة وغيرها .
{ وما يشعرون إيان يبعثون } : أي وما تشعر الأصنام ولا تعلم الوقت الذي تبعث فيه وهو يوم القيامة . ولا يبعث فيه عابدوها من دون الله .
{ قلوبهم منكرة } : أي جاحدة للوحدانية والنبوة والبعث والجزاء .
{ وهو مستكبرون } : لظلمة قلوبهم بالكفر يتكبرون .
{ لا جرم } : أي حقاً .
{ أساطير الأولين } : أي أكاذيب الأولين .
{ ليحملو أوزارهم } : أي ذنوبهم يوم القيامة .
{ ألا ساء ما يزرون } : أي بئس ما يحملون من الأوزار .
{ معنى الآيات } : في هذا السياق مواجهة صريحة للمشركين بعد تقدم الأدلة على اشراكهم وضلالهم فقوله تعالى : { والذين يدعون من دون الله } أي تعبدونهم أيها المشركون { أموات غير احياء } اي هم اموات اذ لا حياة لهم ودليل ذلك أنهم لا يسمعون ولا يبصرون ولا ينطقون ، وقوله { وما يشعرون أيان يبعثون } اي لا يعلمون متى يبعثون وهو أموات ولا يعلمون متى يبعثون للاستنطاق والاستجواب والجزاء على الكسب في هذه الحياة ، وقوله { إلهكم إله واحد } هذه النتيجة العقلية التي ينكرها العقلاء وهي أن المعبود واحد لا شريك له ، وهو الله جل جلاله ، إذ هو الخالق الرازق المدبر المحي المميت ذو الصفات العلا والاسماء الحسنى ، وما عداه فلا يخلق ولا يرزق ولا يدبر ولا يحيي ولا يميت فتأليهه سفه وضلال ، وبعد تقرير ألوهية الله تعالى واثباتها بالمنطق السليم قال تعالى : { فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون } ذكر علة الكفر لدى الكافرين والفساد عند المفسدين وهي تكذيبهم بالبعث الآخر اذ لا يستقيم عبد على منهج الحق والخير وهو لا يؤمن باليوم الآخر يوم الجزاء على العمل في الحياة الدنيا ، فأخبر تعالى أن الذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة لكل ما يسمعون من الحق الذي يدعو اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبينه آيات القرأن الكريم ، وهم مع إنكار قلوبهم لما يسمعون من الحق مستكبرون عن قبول الحق والاذعان ، وقوله تعالى : { لا جرم الله يعلم ما يسرون وما يعلنون انه لا يحب المستكبرين } أي حقاً ان الله يعلم ما يسر أولئك المكذبون بالآخرة وما يعلنون وسيحصى ذلك عليهم ويجزيهم به لا محالة في يوم كانوا به يكذبون . . ويا للحسرة ويا للندامة!! وهذا الجزاء كان بعذاب النار متسبب عن بغض الله للمستكبرين وعدم حبه لهم ، وقوله تعالى : { وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين } يخبر تعالى عن أولئك المنكرة قلوبهم للوحي الإلهي وما جاء به رسول الله هؤلاء المستكبرون كانوا اذا سئلوا عن القرآن من قبل من يريد ان يعرف ممن سمع بالدعوة المحمدية فجاء من بلاد يتعرف عليها قالوا : { أساطير الأولين } أخبار كاذبة عن الأولين مسطره عند الناس فهو يحكيها ويقول بها ، وبذلك يصرفون عن الاسلام ويصدون عن سبيل الله ، قال تعالى : { ليحملوا أوزارهم } أي تبعة آثامهم وتبعة آثام من صدوهم عن سبيل الله كاملة غير منقوصة يوم القيامة ، وهو لا يعلمون ذلك ولكن الحقيقة هي : أن من دعا الى ضلالة كان عليه وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزار من عملها شيء ، وكذا من دعا الى هدى فله أجر من عمل به من غير أن ينقص من أجر بهى شيء ، وقوله تعالى : { ألا ساء ما يزرون } أي قبح الوزر الذي يزرونه فإنه قائدهم الى النار موبقهم في نار جهنم .
(2/294)
________________________________________
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بطلان الشرك وتقرير التوحيد .
2- التكذيب باليوم الآخر والبعث والجزاء هو سبب كل شر وفساد يأتيه العبد .
3- التنديد بجريمة الاستكبار عن الحق والإذعان له .
4- بيان اثم وتبعة من يصد عن سبيل الله بصرف الناس عن الإسلام .
5- بيان تبعة من يدعو الى ضلالة فإنه يتحمل وزر كل من عمل بها .
(2/295)
________________________________________
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
شرح الكلمات :
{ من قبلهم } : أي من قبل كفار قريش بمكة كالنمرود وغيره .
{ فأتى الله بنيانهم } : أي قصد إليه ليدمره فلسط عليه الريح والزلزلة فسقط من أسسه .
{ وخر عليهم السقف } : أي سقط لتداعي القواعد وسقوطها .
{ كنتم تشاقون فيهم } : أي تخالفون المؤمنين فيهم بعبادتكم إياهم وجدالكم عنه ، وتشاقون الله بمخالفتكم إياه بترك عبادته إياها .
{ وقال الذين أوتوا العلم } : أي الأنبياء والمؤمنون .
{ ظالمي أنفسهم } : بالشرك والمعاصي .
{ فألقوا السلم } : اي استسلموا وانقادوا .
{ فلبئس مثوى المتكبرين } : مثوى المتكبرن : أي قبح منزل المتكبرين في جهنم مثلاُ .
{ وقيل للذين اتقوا } : أي اتقوا الشرك والمعاصي .
{ للذين أحسنوا } : أي أعمالهم وأقوالهم ونياتهم فأتوا بها وفق مراد الله تعالى .
{ حسنة } : أي الحياة الطيبة حياة العز والكرامة .
{ ولنعم دار المتقين } : أي الجنة دار السلام .
{ طيبين } : أي الأرواح بما زكوها من الايمان والعمل الصالح . وبما ابعدوها عنه من الشرك والمعاصي .
{ يقولون سرم عليكم } : أي لقبض ملك الموت « عزرائيل » واعوانه .
{ هل ينظرون الا ان تأتيهم الملائكة } : أي لقبض أرواحهم وعند ذلك يؤمنون .
{ أو يأتي أمر ربك } : أي بالعذاب أو بقيام الساعة وحشرهم الى الله عز وجل .
{ وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } : أي نزل بهم العذاب وأحاط بهم وقد كانوا به يستهزئون .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم مع كفار قريش في تذكيرهم وتبصرهم بما هم فيه من الجهالة والصلالة . فيقول تعالى : { قد مكر الذين من قبلهم } أي من قبل مكر كفار قريش وذلك كالنمرود وفرعون وغيرهم كم الجبابرة الذين تطاولوا على الله عز وجل ومكروا برسلهم ، فالنمرود ألقى بإبراهيم في النار ، وفرعون قال ذروني اقتل موسى وليدع ربه . . وقوله : { فأتى الله بنيانهم من القواعد } اي أتاه أمر الله بهدمه وإسقاطه على الظلمة الطغاة { فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون } . وذهب باطلهم وزال مكرهم . ألم يتعظ بهذا كفرة قريش وهم يمكرون بنبيهم ويبيتون له السوء بالقتل او النفي أو الحبس ؟ وقوله تعالى : { ثم يوم القيامة يخزيهم } أي يهينهم ويذلهم ويوبخهم بقوله : { أين شركائي الذين تشتاقون فيهم } أي أصنامكم وأوثانكم الذين كنتم تخالوني بعبادتكم إياهم دوني كما تشتاقون اوليائي المؤمنين أي تخالفونهم بذلك وتحاربونهم فيه . وهنا يقول الأشهاد والذين أوتوا العلم من الأنبياء والعلماء الربانيين : { إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين } أي إن الذل والهون والدون على الكافرين . وقوله تعالى : { الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } بالشرك والمعاصي ومن جملة المعاصي ترك الهجرة والبقاء بين ظهراني الكافرين والفساق المجرمين حيث لا يتمكن المؤمن من عبادة الله تعالى بترك المعاصي والقيام بالعبادات . وقوله { فألقوا السلم } أي عند معانيتهم ملك الموت وأعوانه أي استسلموا وانقادوا وحاولوا الاعتذار بالكذب وقالوا { ما كنا نعمل من سوء } فترد عليهم الملائكة قائلين : { بلى } أي كنتم تعملون السوء { أن الله عليم بما كنتم تعملون } ويقال لهم أيضاً { فادخلوا أبواب جهنم } اي ابواب طبقاتها { خالدين فيها فلبئس } جهنم { مثوى } اي مقاماُ ومنزلاً { للمتكبرين } عن عبادة الله وحده .
(2/296)
________________________________________
وقوله تعالى : { وقيل للذين اتقوا } أي ربهم فلم يشركوا به ولم يعصوه في أمره ولا نهيه واطاعو رسوله كذلك : { ماذا أنزل ربكم } أي إذا سألهم من أتى مكة يتعرف على ما بلغه من دعوة الإسلام فيقولون له : { خيراً } أي أنزل خيراً لأن القرآن خير وبالخير نزل بخلاف تلاميذ المشركين يقولون اساطير الاولين كما تقدم في هذا السياق .
كما ذكر تعالى جزاء الكافرين من العذاب في نار جهنم وهم الذين أساءوا في هذه الحياة الدنيا الى أنفسهم بشركهم بالله ومكرهم وظلمهم للمؤمنين ، ذكر جزاء المحسنين . فقال : { للذين أحسنوا } أي آمنوا وعملوا الصالحات متبعين شرع الله في ذلك فأخلصوا عبادتهم لله تعالى ودعوا الناس الى عبادة الله وحثوهم على ذلك فكانوا بذلك محسنين لأنفسهم ولغيرهم لهؤلاء الذين أحسنوا في الدنيا { حسنة } وهي الحياة الطيبة حياة الطهر والعزة والكرامة ، ولدار خيرٌ لهم من دار الدنيا مع ما فيها من حسنة وقوله تعالى : { ولنعم دار المتقين } ثناء ومدح لتلك الدار الآخرة لما فيها من النعيم المقيم وإضافتها الى المتقين باعتبار أنهم اهلها الجديرون بها إذ هي خاصة بهم ورثوها بإيمانهم وصالح أعمالهم بتركهم الشرك والمعاصي .
وقوله تعالى : { جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون } هو وصف وبيان لدار المتقين فأخبر أنها جنات جمع جنة وهي البستان المشتمل على الأشجار والانهار والقصور وما لذ وطاب من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والمراكب وقوله تعالى : { لهم فيها ما يشاءون } هذا نهاية لإكرام والإنعام اذ كون العبد يجد كل ما يشتهي ويطلب هو نعيم لا مزيد عليه وقوله تعالى : { كذلك يجزي الله المتقين } أي كهذا الجزاء الحسن العظيم يجزي الله المتقين في الدنيا والاخرة . وقوله تعالى : { الذين تتوفاهم الملائكة طيبين } أي طاهري الأرواح لأرواحهم ريح طيبة ثمرة إيمانهم وصالح أعمالهم ونتيجة بعدهم عما يدنس انفسهم من أوضار الشرك وعفن المعاصي وقوله : { يقولون } أي تقول لهم المكلائكة وهم ملك الموت واعوانه { سلام عليكم } تحييهم وفي ذلك بشارة لهم برضا ربهم وجواره الكريم . { ادخلوا الجنة } بأرواحهم اليوم وبأجسامهم غداً يوم القيامة . وقوله { بما كنتم تعملون } أي بسبب ما كنتم تعملونه من الطاعات والمسابقة في الخيرات بعد عمل قلوبكم بالايمان واليقين والحب في الله والبغض فيه عز وجل والرغبة والتوكل عليه . هذا ما تضمنته الآيات ( 31 ، 32 ) وأما الآيات بعد ذلك فيقول الله مستبطئاً ايمان قريش وتوبتهم بعد تلك الحجج والبراهين والدلائل والبينات على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى وجوب التوحيد وبطلان الشرك وعلى الايمان باليوم الآخر .
(2/297)
________________________________________
{ هل ينظرون الا أن تأتيهم الملائكة } أي ما ينظرون بعد هذا الا ان تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم { أو يأتي أمر ربك } بإبادتهم واستئصالهم ، إذ لم يبق ما ينتظرونه الا أحد هذين الأمرين وكلاهما مر وشر لهم . وقوله تعالى : { كذلك فعل الذين من قبلهم } من كفار الأمم السابقة فحلت بهم نقمة الله ونزل بهم عذابه فأهلكهم . ( وما ظلمهم الله ) تعالى في ذلك أبداً { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بإصرارهم على الشرك والعناد والمجاحدة والمكابرة { فأصابهم سيئات } أي جزاء سيئات { ما عملوا } من الكفر والظلم { وحاق بهم } أي نزل بهم وأحاط بهم { ما كانوا يستهزئون } إذ كانت رسلهم إذا خوفتهم من عذاب الله وسخروا منهم واستهزأوا بالعذاب واستخفوا به حتى نزل بهم والعياذ بالله تعالى .
من هداية الآيات :
1- سوء عاقبة المكر وأنه يحيق بأهله لا محالة والمراد به المكر السيء .
2- بيان خزي الله تعالى يوم القيامة لأهل الشرك به والمعاصي له ولرسوله .
3- فضل أهل العلم إذ يتخذ منهم شهداء يوم القيامة ويشتمون بأهل النار .
4- بيان استسلام الظلمة عند الموت وانهزامهم وكذبهم .
5- تقرير معتقد البعث والحياة الاخرة بأروع أسلوب وأحكمه وأمنته .
6- إطلاق لفظ خير على القرآن وهو حق خير فالذي أوتي القرآن أوتي الخير كله ، فلا ينبغي ان يرى احداً من أهل الدنيا خيراً منه والا سخط نعمة الله تعالى عليه .
7- سعادة الدارين لأهل الإحسان وهم أهل الإيمان والإسلام والإحسان في إيمانهم بالاخلاص وفي إسلامهم بموافقة الشرع ومراقبة الله تعالى في ذلك .
8- بشرى أهل الإيمان والتقوى عند الموت ، وعن القيام من القبور بالنعيم المقيم في جوار رب العالمين .
9- إعمال القلوب والجوارح سبب في دخول الجنة وليست ثمناً لها لغلائها ، وإنما الأعمال تزكي النفس وتطهر الروح وبذلك يتأهل العبد لدخول الجنة .
10- ما ينتظر المجرمون بإصرارهم على الظلم والشر والفساد الا العذاب ، عاجلاً أو آجلاً فهو نازل بهم حتماً مقضياً إن لم يبادروا الى التوبة الصادقة .
(2/298)
________________________________________
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
شرح الكلمات
{ وقال الذين اشركوا } : هم كفار قريش ومشركوها .
{ ولا حرمنا من دونه من شيء } : كالسوائب والبحائر والوصائل والحمامات .
{ فها على الرسل الا البلاغ } : أي ما على الرسل الا البلاغ فالاستفهام للنفي .
{ واجتنبوا الطاغوت } : أي عبادة الأصنام والاوثان .
{ حقت عليه الضلالة } : أي وجبت في علم الله أزلاً .
{ جهد ايمانهم } : أي غايتها حيث بذلوا جهدهم فيها مبالغة منهم .
{ بلى وعداً عليه حقاً } : أي بلى يبعث من يموت وقد وعد به وعداً وأحقه حقاً . فهو كائن لا محالة .
{ يختلفون فيه } : أي بين المؤمنين من التوحيد والشرك .
{ انهم كانوا كاذبين } : أي في قولهم « لا نُبعث بعد الموت » .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الحجاج مع مشركي قريش فيقول تعالى مخبراً عنهم { وقال الذين أشركوا } أي مع الله آلهة اخرى وهي أصنامهم كهبل واللات والعزى وقالوا لو شاء الله عدم إشراكنا به ما أشركنا نحن ولا آباؤنا ، ولا حرمنا من دون تحريمه شيئاً فهل قالوا هذا إيماناً بمشيئة الله تعالى ، أو قالوه استهزاء وسخرية دفاعاً عن شركهم وشرعهم الباطل في التحريم والتحليل بالهوى ، والأمران محتملان . والرد عليهم بأمرين أولهما ما دام الله قد نهاهم عن الشرك والتشريع فإن ذلك أكبر دليل على تحريمه تعالى لشركهم وحرماتهم من السوائب أن من سبقهم من الأمم والشعوب الكافرة قالوا قولتهم هذه محتجين به على باطلهم فلم يلبثوا حتى أخذهم الله ، فدل ذلك قطعاً على عدم رضاه بشركهم وشرعهم اذ قال تعالى في سورة الانعام رداً على هذه الشبهة كذلك قال الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا أي عذاب انتقاماً منهم لما كذبوا رسلنا وافتروا علينا . وقوله تعالى : { كذلك فعل الذين من قبلهم } من الأمم السابقة قالوا هؤلاء لرسلهم وفعلوا فعلهم حتى أخذهم الله بالعذاب . وقوله { فهل على الرسل الا البلاغ المبين } أي ليس على الرسول إكراه المشركين على ترك الشرك ولا إلزامهم بالشرع وانما عليه أن يبلغهم أمر الله تعالى ونهيه لا غير . فلذا كان في الجملة تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمله في هذا السياق ( 35 ) وقوله في الآية الثانية ( 36 ) { ولقد يعثنا في كل امة رسولاً ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } فأخبر تعالى بأنه ما أخلى أمة من الأمم من إرسال رسول إليها لهدايتها وبيان سبيل نجاتها وتحذيرها من طرق غوايتها وهلاكها . كما أخبر عن وحدة الدعوة بين الرسل وهي لا إله الا الله المفسرة بعبادة الله تعالى وحده ، واجتناب الطاغوت وهو كل ما عبد من دون الله مما دعا الشيطان الى عبادته بالتزيين والتحسين عن طريق الوسواس من جهة ومن طريق اوليائه من الناس من جهة أخرى .
وقوله تعالى : { فمنهم } أي من الأمم المرسل إليهم { من هدى الله } فعرف الحق واعتقده وعمل به فنجا وسعد ، { ومنهم من حقت عليه الضلالة } أزلاً في كتاب المقادير لأنه أصر على الضلال وجادل عنه وحارب من أجله باختياره وحريته فحرمه الله لذلك التوفيق فضلَّ ضلالاً لا أمل في هدايته .
(2/299)
________________________________________
وقوله تعالى : { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } أمر لكفار قريش المجادلين بالباطل المحتجين على شركهم وشرعهم الباطل أمر لهم أن يسيروا في الأرض جنوباً أو شمالاً فلينظروا كيف كانت عاقبة المكذبين أمثالهم من أمة عاد في الجنوب وثمود في الشمال ، ومدين ولوط وفوعون في الغرب . وقوله تعالى في تسلية رسوله والتخفيف من الهم عنه : { إن تحرص } يا رسولنا { على هداهم } أي هدايتهم الى الحق { فإن الله لا يهدي من يضل } فخفف على نفسك وهون عليها فلا تأسف ولا تحزن وادع الى ربك في غير حرص يضر بك وقوله { لا يهدي من يضل } أي لا يقدر احد أن يهدي من أضله الله ، لأن اضلال الله تعالى يكون على سنن خاصة لا تقبل التبديل ولا التغيير لقوة سلطانه وسعة عمله . وقوله { وما لهم من ناصرين } أي وليس لأولئك الضرل الذين أضلهم الله حسب سنته من ناصرين ينصرونهم على ما سينزل بهم من العذاب وما سيحل بهم من خسران وحرمان ، وقوله تعالى في الآية ( 38 ) { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت } اخبار عن قول المشركين والمكذبين باليوم الآخر أصحاب القلوب المنكرة ، ومعنى { أقسموا بالله جهد أيمانهم } أي حلفوا أشد الأيمان اذ كانوا في الامور التافهة يحلفون بآلهتهم وآبائهم . وإذا كان الأمر ذا خطر وشأن أقسموا بالله وبالغوا في الاقسام حتى يبلغوا جهد أيمانهم والمحلوف عليه هو أنهم إذا ماتوا لا يبعثون أحياء فيحاسبون ويجزون فرد الله تعالى عليهم بقوله { بلى } أي تبعثون وعد الله حقاً فلا بد ناجز { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } فلذا ينفون البعث وينكرونه لجهلهم بأسرار الكون والحياة وعلل الوجود والعمل فيه فلذا أشار الله تعالى الى بعض تلك العلل في قوله : { ليبين لهم الذي يختلفون فيه } فلولا البعث الآخر ما عرف المحق من المحق من المبطل في هذه الحياة والخلاف سائد ودائم بين الناس . هذا أولاً . وثانياً : { وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين } في اعتقاداتهم وأعمالهم ونفيهم الحياة الثانية للجزاء على العمل في دار العمل هذه أما استعادهم البعث بعد الموت نظراً الى وسائلهم ووسائطهم الخاصة بهم فقد اخبرهم تعالى بان الامر ليس كما تقدرون انتم وتفكرون : إنه مجرد ما تتعلق إرادتنا بشيء نريد أن يكون ، نقول له كن فيكون فوراً ، والبعث الآخر من ذلك ، هذا ما دل عليه قوله في الآية ( 40 ) { إنما قولنا لشيء إذا اردناه أن نقول له كن فيكون } ولا يقولن قائل كيف يخاطب غير الموجود فيأمره ليوجد فإن الله تعالى إذا اراد شيئاً علمه أولاً ثم قال له كن فهو يكون .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- الرد على شبهة المشركين في احتجاجهم بالمشيئة الإلهية .
2- تفسير لا اله الا الله .
3- التحذير من تعمد الضلال وطلبه والحرص فإن من طلب واضله الله لا ترجى هدايته .
4- بيان بعض الحكم في البعث الآخر .
5- لا يستعظم على الله خلق شيء وإيجاده ، لانه يوجد بكلمة التكوين فقط .
(2/300)
________________________________________
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
شرح الكلمات :
والذين هاجروا في الله : أي خرجوا من مكة في سبيل الله ونصرة لدينه وإقامته بين الناس .
{ لنبوئنهم في الدنيا حسنة } : أي لننزلهم داراً حسنة هي المدينة النبوية هذا بالنسبة لمن نزلت فيهم الآية .
{ الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون } : أي على أذى المشركين وهاجروا متوكلين على ربهم في دار هجرتهم .
{ فاسألوا أهل الذكر } : أي ايها الشاكون فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فاسألوا أهل التوارة والإنجيل لإزالة شككم ووقوفكم على الحقيقة وأن ما جاء به محمد حق وأن الرسل قبله كلهم كانوا بشراً مثله .
{ بالبينات والزبر } : أي ارسلناهم بشراً بالبينات والزبر لهداية الناس . { وانزلنا إليك الذكر } : أي القرآن . { لتبين للناس ما نزل إليهم } : علة لإنزال الذكر إذ وظيفة الرسل ، البيان . معنى الايات :
أنه بعد اشتداد الأذى على المؤمنين لعناد المشركين وظغيانهم ، أذن الله تعالى على لسان رسوله للمؤمنين بالهجرة من مكة الى الحبشة ثم الى المدنية فهاجر رجال ونساء فذكر تعالى ثناء عليهم وتشجيعاً على الهجرة من دار الكفر فقال عز وجل { والذين هاجروا في الله } أي في ذات الله ومن أجل عبادة الله ونصرة دينه { من بعد ما ظلموا } أي من قبل المشركين { لنبوئنهم } أي لننزلهم ولنسكننهم { في الدنيا حسنة } وهي المدينة النبوية ولنرزقنهم فيها رزقاً حسناً هذا بالنسبة لمن نزلت فيهم الآية ، والا فكل من هاجر في الله ينجز له الرب هذا الوعد كما قال تعالى : { ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الارض مراغماً كثيراً واسعة } أي في العيش والرزق { ولأجر الآخرة } المعد لمن هاجر في سبيل الله { اكبر لو كانوا يعلمون } . هذا ترغيب في الهجرة وتشجيع للمتباطئين على الهجرة وقوله : { الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون } بيان لحالهم وثناء عليهم بخير لأنهم صبروا أولاً على الأذى في مكة لما أذن لهم بالهجرة وهاجروا متوكلين على الله تعالى مفوضين امورهم اليه ، واثقين في وعده . هذا ما دلت عليه الآيتان ( 41 ) ، ( 42 ) . وأما الآية الثالثة ( 43 ) والرابعة من هذا السياق فهما تقرير حقيقة علمية بعد إبطال شبهة المشركين القائلين كيف يرسل الله محمداً رسولاً وهو بشر مثلنا لم يرسل ملكاً . . وهو ما أخبر الله تعالى في قوله { وما أرسلنا من قبلك } اي من الرسل { إلا رجالاً } لا ملائكة { نوحي إليهم } بأمرنا وهو الكتاب الأول أي أسالوا علماء أهل الكتاب اليهود والنصارى هل كان الله تعالى يرسل الرسل من غير البشر { إن كنتم لا تعمون } فإنهم يخبرونكم . وما موسى ولا عيسى الا بشر ، وقوله : { بالبينات والزبر } أي أرسلنا أولئك الرسل من البشر بالبينات أي الحجج والدلائل الدالة على وجوب عبادتنا وترك عبادة من سوانا . والزبر أي الكتب . ثم يقول تعالى لرسوله : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } وفي هذا تقرير لنبوته وقوله : { ولعلهم يتفكرون } فيعرفون صدق ما جئتهم به فيؤمنوا . ويتوبوا الى ربهم فينجوا ويسعدوا . هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- فضل الهجرة ووجوبها عند اضطهاد المؤمن وعدم تمكنه من عبادة الله تعالى .
2- وجوب سؤال أهل العلم على كل من لا يعلم أمور دينه من عقيدة وعبادة وحكم .
3- السنة لا غنى عنها لأنها المبينة لمجمل القرآن والموضحة لمعانيه .
(2/301)
________________________________________
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
شرح الكلمات :
{ مكروا السيئات } : أي مكروا المكرات السيئات فالسيئات وصف للمكرات التي مكروها .
{ في تقلبهم } : أي في البلاد مسافرين للتجارة وغيرها .
{ على تخوف } : أي تنقص .
{ يتفيئوا ظلاله } : أي تتميل من جهة الى جهة .
{ سجداً لله } : أي خضعاً لله كلما أراد منهم .
{ داخرون } : أي صاغرون ذليلون .
{ من فوقهم } : من أعلى منهم إذ هو تعالى فوق كل شيء ذاتاً وسلطاناً وقهراً .
{ ما يؤمرون } : أي ما يأمرهم ربهم تعالى به .
معنى الآيات :
ما زال السياق في تخويف المشركين وتذكيرهم لعلهم يرجعون بالتوبة من الشرك والجحود للنبوة والبعث والجزاء . قال تعالى : { أفأمن الذين مكروا } المكرات { السيئات } من محاولة قتل النبي صلى الله عليه وسلم والشرك والتكذيب بالنبوة والبعث وظلم المؤمنين وتعذيب بعضهم ، أفامنوا { أن يخسف الله بهم الأرض } من تحتهم فيقرون في اعماقها ، { أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون } ولا يتوقعون من ريح عاصف تعصف بهم أو وباء يشملهم أو قحط يذهب بمالهم . وقوله تعالى : { أو يأخذهم في تقلبهم } أي في تجارتهم وأسفارهم ذاهبين آيبين من بلد الى بلد . { فما هم بمعجزين } له تعالى لو أراد أخذهم وإهلاكهم . وقوله تعالى : { او يأخذهم على تخوف } أي تنقص بان يهلكهم واحداً أو جماعة بعد جماعة حتى لا يبقى منهم أحداً ، وقد أخذ منهم ببدر من اخذ وفي أحد . وقوله تعالى : { فإن ربكم لرؤوف رحيم } تذكير لهم برأفته ورحمته اذ لولاهما لأنزل بهم نقمته وأذاقهم عذابه بدون إنظار لتوبة أو إمهال لرجوع الى الحق . وقوله تعالى : { أو لم يروا الى ما خلق الله من شيء } من شجر وجبل وإنسان وحيوان { يتفيئوا ظلاله } بالصباح والمساء { عن اليمين والشمائل } « جمع شمال » { سجداً لله } خضعاً بظلالهم { وهم داخرون } اي صاغرون ذليلون . أما يكفيهم ذلك دلالةً على خضوعهم لله وذلتهم بين يديه ، فيؤمنوا به ويعبدونه ويوحدونه فينجوا من عذابه ويفوزوا برحمته . وقوله تعالى : { ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة } أي ولله لا لغيره يسجد بمعنى يخضع وينقاد لما يريده الله تعالى من إحياء او إماتة أو صحة او مرض أو خير أو غيره من دأبة من كل يدب من كائن على هذه الأرض { والملائكة } على شرفهم يسجدون { وهم لا يستكبرون } عن عبادة ربهم { ويخافون ربهم منم فوقهم } إذ هو العلي الأعلى وكل الخلق تحته . { ويفعلون ما يؤمرون } فلا يعصون ربهم ما أمرهم . إذا كان هذا حال الملائكة فما بال هؤلاء المشركين يلجون في الفساد والاستكبار والجحود والمكابرة وهم أحقر سائر المخلوقات ، وشر البريات إن بقوا على كفرهم وشركهم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- حرمة الأمن من مكر الله .
2- كل شيء ساجد لله ، اي خاضع لما يريده منهم ، الا ان السجود الطوعي الاختياري هو الذي يثاب عليه العبد ، أما الطاعة اللا إرادية فلا ثواب فيها ولا عقاب .
3- فضل السجود الطوعي الاختياري .
4- مشروعية السجود عند هذه الآية : إذا قرأ القارئ أو المستمع : { يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون } ، عليه أن يسجد ان كان متطهراً الى القبلة أن امكن ويسبح في السجود ويكبر في الخفض والرفع ولا يسلم ، ولا يسجد عند طلوع الشمس ولا عند غروبها .
(2/302)
________________________________________
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)
شرح الكلمات :
{ لا تتخذوا إلهين } : أي تعبدونهما إذ ليس لكم الا اله واحد .
{ وله ما في السموات والأرض } : أي خلقنا وملكاً ، إذا فما تعبدونه مع الله هو لله ولم يأذن بعبادته .
{ فإليه تجأرون } : أي ترفعون أصواتكم بدعائه طالبين الشفاء منه .
{ فتمتعوا فسوف تعلمون } : تهديد على كفرهم وشركهم ونسائهم دعاء الله تعالى .
{ ويجعلون لما لا يعلمون نصيباً } : أي يجعلون لآلهتهم نصيباً من الحرث والأنعام .
{ عما كنتم تفترون } : أي تختلفون بالكذب وتفترون على الله عز وجل .
معنى الآيات :
بعد إقامة الحجج على التوحيد وبطلان الشرك اخبرهم ان الله ربهم رب كل شيء قد قال لهم : أيها الناس { لا تتخذوا إلهين اثنين } فلفظ اثنين توكيد للفظ إلهين اي لا تعبدوا إلهين بل اعبدوا غلهاً واحداً وهو الله إذ ليس من اله الا هو فكيف تتخذون الهين والحال انه { إله واحد } لا غير وهو الله الخالق الرازق المالك ، ومن عداه من مخلوقاته كيف تُسوى به وتعبد معه ؟ وقوله تعالى : { فإياي فارهبون } أي ارهبوني وحدي ولا ترهبوا سواي إن بيدي كل شيء ، وليس لغيري شيء فأنا المحيي المميت ، الضار النافع ، يوبخهم على رهبتهم غيره سبحانه وتعالى من لا يستحق ان يرهب لعجزه وعدم قدرته على ان ينفع أو يضر . وقوله تعالى : { وله ما في السموات والأرض } برهان على بطلان رهبة غيره أو الرغبة في سواه ما دام له ما في السموات والأرض خلقاً وملكاً . وقوله { وله الدين واصباً } أي العبادة والطاعة دائماً وثابتاً واجياً ، الا لله الدين الخالص . وقوله تعالى : { أفغير الله تتقون } يوبخهم على خوف سواه وهو الذي يجب ان يرهب ويخاف لانه الملك الحق القادر على إعطاء النعم وسبلها ، فكيف يتقى من لا يملك ضراً ولا نفعاً ويعصى من بيده كل شيء وإليه مرد كل شيء ، وما شاءه كام وما لم يشأه لم يكن . وقوله { وما بكم من نعمةٍ فمن الله } يخبرهم تعالى بالواقع الذي يتنكرون له فيخبرهم أنه ما بهم من نعمة جلت أو صغرت من صحةٍ أو مالٍ أو ولد فهي من الله تعالى خالقهم وهو أنهم إذا مسهم الضر من فقرٍ أو مرض أو تغير حال كخوف غرقٍ في البحر فإنهم يرفعون أصواتهم الى أعلاها مستغيثين بالله سائلينه أن يكشف ضرهم أو ينجيهم من هلكتهم المتوقعة لهم فقال عزوجل : { ثم إذا مسكم الضر فإليه } دون غيره { تجأرون } رفع أصواتكم بالدعاء والإستغاثة به سبحانه وتعالى وقوله : { ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق } كبير { منكم بربهم يشركون } فيعبدون غيره بأنواع العبادات متناسين الله الذي كشف ضرهم وأنجاهم من هلكتهم .
وقوله : { ليكفروا بما آتيناهم ) أي ليؤول أمرهم الى كفران ونسيان ما آتاهم الله من نعمٍ وما أنجاهم من محن .
(2/303)
________________________________________
أفهكذا يكون الجزاء ؟ أينعم بكل أنواع النعم وينجى من كل كرب ثم ينسى له ذلك كله ، ويعبد غيره ؟ بل ويحارب دينه ورسوله ؟ إذا { فتمتعوا } أيها الكافرون { فسوف تعلمون } عاقبة كفركم وإعراضكم عن طاعة الله وذكره وشكره . وقوله تعالى : { ويجعلون لما لا يعلمون نصيباً مما رزقناهم } وهذا ذكر لعيب آخر من عيوبهم وباطلٍ من باطلهم أنهم يجعلون لأوثانهم التي لا يعلمون عنها شيئاً من نفعٍ أو ضر أو إعطاء أو منع أو إماتة أو أحياء يجعلونها لها طاعة للشيطان نصيباً وحظاً من أموالهم يتقربون به إليها فسيبوا لها السوائب ، وبحروا لها البحائر من الأنعام ، وجعلوا لها من الحرث والغرس كذلك كما جاء ذلك في سورة الأنعام والمائدة قبلها : وقوله تعالى : { تالله لتسئلن عما كنتم تفترون } أقسم الجبار لهم تهديداً لهم وتوعداً أنهم سيسألون يوم القيامة عما كانوا يفترون أي من هذا التشريع الباطل حيث يحرمون ويحللون ويعطون آلهتهم ما شاءوا وسوف يوبخهم عليه ويجزيهم به جهنم وبئس المهاد .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير التوحيد بعبادة الله تعالى وحده .
2- وجوب الرهبة من الله دون سواه .
3- وجوب الدين لله إذ هو الإله الحق دون غيره .
4- كل نعمة بالعبد صغرت أو كبرت فهي من الله سبحانه وتعالى .
5- تهديد المشركين إن أصروا على شكرهم وعدم توبتهم .
6- التنديد بالمشركين وتشريعهم الباطل بالتحليل والتحريم والاعطاء والمنع .
(2/304)
________________________________________
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
شرح الكلمات :
{ ويجعلون لله البنات } : إذ قالوا الملائكة بنات الله .
{ ولهم ما يشتهون } : أي الذكور من الأولاد .
{ ظل وجهه مسوداً } : أي متغيراً بالسواد لما عليه من كرب .
{ وهو كظيم } : أي ممتلئ بالغم .
{ أم يدسه في التراب } : أي يدفن تلك المولودة حية وهو الوأُد { مثل السوء } : أي الصفقة القبيحة .
{ والمه المثل الأعلى } : أي الصفة العليا وهي لا إله الا اله .
{ تن لهم الحسنى } : أي الجنة إذ قال بعضهم ولئن رجعت الى ربي ان لي عنده للحسنى .
{ وأنهم مفرطون } : أي مقدمون الى جهنم متروكون فيها .
معنى الآيات :
ما زال السياق في بيان أخطاء المشركين في اعتقادهم وسلوكهم فقال تعالى : { ويجعلون لله البنات - سبحانه - ولهم ما يشتهون } وهذا من سوء أقوالهم وأقبح اعتقادهم حيث ينسبون الى الله تعالى البنات ، إذ قالوا الملائكة بنات الله في الوقت الذي يكرهون نسبة البنات إليهم ، حتى اذا بشر أحدهم بأنثى بأن اخبر بانه ولدت له بنت ظل نهاره كاملاً في غم وكرب { وجهه مسوداً وهو كظيم } ممتلئ بالغم والهم . { يتوارى } أي يستتر ويختفي عن أعين الناس خوفاً من المعرة ، وذلك { من سوء ما بشر به } وهو البنت وهو في ذلك بين أمرين إزاء هذا المبشر به : إما أن يمسكه . أن يبقيه في بيته بين أولاده { على هون } أي مذلة وهوان ، وإما أن { يدسه في التراب } أي يدفنه حياً وهو الوأد المعروف عندهم . قال تعالى مندداً بهذا الإجرام : { ألا ساء ما يحكمون } في حكمهم هذا من جهة نسبة البنات لله وتبرئهم منها ، ومن جهة وأد البنات أو إذلالهن ، قبح حكمهم الجاهلي هذا من حكم . هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 57 ) وهي قوله : { ويجعلون لله البنات } حيث قالوا الملائكة بنات الله { سبحانه } أي نزه تعالى نفسه عن الولد والصحابة فلا ينبغي أن يكون له ولد ذكراً كان أم أنثى لأنه كل شيء ومليكه فما الحاجة الى الولد إذا ؟ والآية الثانية ( 58 ) وهي قوله تعالى : { وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً } أي أقام النهار كله مسود الوجه من الغم { وهو كظيم } أي ممتلئ بالغم والهم ، { يتوارى من القوم من سوء ما بشر به } أي البنت { أيمسكه على هون أم يدسه في التراب الا ساء ما يحكمون } وقوله تعالى : { الذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء } يخبر تعالى ان الذين لا يؤمنون بالآخرة وهو منكروا البعث الاخر لهم المثل السوء اي الصفة السوء وذلك لجهلهم وظلمة نفوسهم لأنهم لا يعلمون خيراً ولا يتركون شراً ، لعدم إيمانهم بالحساب والجزاء فهؤلاء لهم الصفة السوأى في كل شيء . { ولله المثل الأعلى } أي الصفة الحسنى وهو أنه لا إله الا الله منزه عن النقائص رب كل شيء ومالكه ، بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، لا شريك له ولا ند له ولا ولد وقوله : { وهو العزيز الحكيم } ثناء على نفسه بأعظم وصف العزة والقهر والغلبة لكل شيء والحكمة العليا في تدبيره وتصريفه شؤون عباده ، وحكمه وقضائه لا اله الا هو رب سواه .
(2/305)
________________________________________
وقوله تعالى في الآية ( 61 ) { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها } أي على الأرض ( من دابة ) أي نسمة تدب على الأرض من إنسان أو حيوان فهذه علة عدم مؤاخذة الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم يفسدون ويجرمون وهذا الإهمال تابع لحكم عالية أشار الى ذلك بقوله : { ولكن يؤخرهم الى أجل مسمى } اي وقت معين محدد قد يكون نهاية عمر كل أحد ، وقد يكون نهاية الحياة كلها فإذا جاء ذلك الأجل لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون عنه أخرى ثم يجزيهم بأعمالهم السيئة بمثلها وما هو عز وجل بظلام للعبيد .
وآخر آية في هذا السياق ( 62 ) تضمنت التنديد بسوء الحال الذين لا يؤمنون بالآخرة وذلك أنهم لجهلهم بالله وقبح تصورهم لظلمه نفسوهم أنهم يجعلون لله تعالى ما يكرهونه لأنفسهم من البنات والشركاء وسب الرسول وازدرائه ، ومع هذا يتبجحون بالكذب بان لهم الحسنى أي الجنة يوم القيامة . فرد تعالى على هذا الأفتراء والهراء السخيف بقوله : ( لا جرم ) أي حقاً وصدقاً ولا محالة { أن لهم النار } بدل الجنة { وأنهم مفرطون } إليها مقدرون متروكون فيها أبداً . هذا ما تضمنته الآية في قوله تعالى : { ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب ان لهم الحسنى لا جرم ان لهم النار وأنهم مفرطون } وإن قرئ مفرطون باسم الفاعل فهم حقاً مفرطون في الشر والفساد والكفر والضلال والانحطاط الى ابعد حد .
هداية الآيات : من هداية الآيات : 1- بيان الحال الإجتماعية التي كان عليها المشركون وهي كراهيتهم للبنات خوف العار .
2- بيان جهلهم بالرب تعالى فهم يؤمنون به ويجهلون صفاته حتى نسبوا اليه الولد والشريك .
3- بيان العلة في ترك الظلمة يتمادون زمناً في الظلم والشر والفساد .
4- بيان سوء اعتقاد الذين لا يؤمنون بالآخرة وهو أنهم ينسبون الى نفوسهم الحسنى ويجعلون لله ما يكرهون من البنات والشركاء وسب الرسل وامتهانهم .
(2/306)
________________________________________
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
شرح الكلمات :
{ تالله } : أي والله .
{ أرسلنا الى أمم من قبلك } : أي رسلاً .
{ فزين لهم الشيطان أعمالهم } : فكذبوا لذلك الرسل .
{ فهو وليهم اليوم } : أي الشيطان هو وليهم اي في الدنيا .
{ إن في ذلك لآية } : أي دلالة واضحة على صحة عقيدة البعث الآخر .
{ لآية لقوم يسمعون } : أي سماع تدبر وتفهم .
{ لعبرة } : أي دلالة قوية يعبر بها من الجهل الى العلم لان العبرة من العبور .
{ من بين فرثٍ } : أي ثفل الكِرْش ، أي الروث الموجود في الكرش .
{ لبناً خالصاً } : أي ليس فيه شيء من الفرث ولا الدم ، لا لونه ولا رائحته ولا طعمه .
معنى الآيات :
يقسم الله تعالى بنفسه لرسوله فيقول بالله يا رسولنا { لقد أرسلنا } رسلاً { الى أمم من قبلك } كانوا مشركين كافرين كأمتك { فزين لهم الشيطان اعمالهم } فقاموا رسلنا وحاربوهم واصروا على الشرك والكفر فتولاهم الشيطان ، لذلك ( فهو وليهم اليوم ) أي في الدنيا { ولهم } في الآخرة { عذاب أليم } ، والسياق الكريم في تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذا قال تعالى في الآية الثانية : { وما أنزلنا عليك الكتاب } أي لإرهاقك وتعذيبك ولكن لأجل أن تبين للناس الذي اختلفوا فيه من التوحيد والشرك والهدى والضلال . كما أنزلنا الكتاب هدى يهتدى به المؤمنون الى سبل سعادتهم ونجاحهم ، ورحمة تحصل لهم بالعمل به عقيدة وعبادة وخلقاً وأدباً وحكماً ، فيعيشون متراحمين تسودهم الأخوة والمحبة وتغشاهم الرحمة والسلام .
بعد هذه التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عاد السياق الى الدعوة الى التوحيد وعقيدة البعث والجزاء بعد تقرير النبوة المحمدية بقوله تعالى : { تالله لقد أرسلنا } الآية فقال تعالى : { والله انزل من السماء ماء فأحيا بها الارض بعد موتها } الماء هو ماء المطر وحياة الارض بالنبات انزل بعدما كانت ميتة لا نبات فيها وقوله { إن في ذلك } المذكور من إنزال الماء من السماء واحياء الارض بعد موتها { لآية } واضحة الدلالة قاطعة على وجوده تعالى وقدرته وعمله ورحمته كما هو آية على البعث بعد الموت من باب أولى . وقوله تعالى : { وإن لكم في الأنعام لعبرة } أي حالاً تعبرون بها من الجهل الى العلم . . . من الجهل بقدرة الله ورحمته ووجوب عبادته بذكره وشكره الى العلم بذلك والمعرفة به فتؤمنوا وتوحدوا وتطيعوا . . وبين وجه العبرة العظمية فقال : { نسقيكم مما في بطونه } أي بطون المذكور من الأنعام { من بين فرث ودم ةولبناً خالصاً سائغاً للشاربين } فسبحان ذي القدرة العجيبة والعلم الواسع والحكمة التي لا يقادر قدرها . . اللبن يقع بين الفرث والدم ، فينتقل الدم الى الكبد فتوزعه على العروق لبقاء حياة الحيوان ، واللبن يساق الى الضرع ، والفرث يبقى أسفل الكرش ، ويخرج اللبن خالصاً من شائبة الدم وشائبة الفرث فلا يرى ذلك في لون اللبن ولا يشم في رائحته ولا يوجد في طعامه بدليل انه سائع للشاربين ، فلا يغص به شارب ولا يشرق به ، حقاً انها عبرة من اجل العبر تنقل صاحبها الى نور العلم والمعرفة بالله في جلاله وكماله ، فتورثه محبة الله وتدفعه الى طاعته والتقرب إليه .
(2/307)
________________________________________
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان ان الله يقسم بنفسه وبما شاء من خلقه .
2- بيان ان الله ارسل رسلاً الى أمم سبقت وان الشيطان زين لها اعمالها فخذلها .
3- تقرير النبوة وتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم من جراء ما يلقاه من المشركين .
4- بيان مهمة رسول الله وأنها بيان ما انزل الله تعالى لعباد وحيه في كتابه .
5- بيان كون القرآن الكريم هدىً ورحمة للمؤمنين الذين يعملون به .
6- دليل البعث والحياة الثانية احياء الأرض بعد موتها فالقادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الأموات بعد فنائهم وبلاهم .
(2/308)
________________________________________
وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
شرح الكلمات
ومن ثمرات النخيل والأعناب : أي ومن بعض ثمرات النخيل والأعناب ثمر تخذون منه سكراً أي خمراً ورزقاً حسناً أي والتمر والزبيب والخل والدبس الحسن .
{ وأوحى ربك الى النحل } : أي إلهمها أن تفعل ما تفعله بإلهام منه تعالى .
{ ومما يعرشون } : اي يبنون لها .
{ سبل ربك ذللاً } : أي طرق ربك مذللة فلا يعسر عليك السير فيها ولا تضلين عنها .
{ شراب } : أي عسل .
{ فيه شفاء للناس } : أي من الامراض ان شرب بنية الشفاء ، أو بضميمته الى عقار آخر .
{ الى ارذل العمر : أي أخسه من الهرم والخوف ، والخوف فساد العقل .
معنى الآيات : ما زال السياق في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته الموجبة لعبادته وحده والمقررة لعقيدة النبوة والبعث الآخر . قال تعالى في معرض بيان ذلك بأسلوب الامتنان المقتضي للشكر { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً } ورزقاً حسناً أي ومن بعض ثمرات النخيل والاعناب ثمر تتخذون منه سكراً اي شراباً مسكراً . وهذا كان قبل تحريم الخمر { ورزقاً حسناً } وهو الزبيب والخل من العنب والتمر والدبس العسل من النخل وقوله { ان في ذلك لآية لقوم يعقلون } أي أن فيما ذكرنا لكم لآية اي دلالة واضحة على قدرتنا وعلمنا ورحمتنا لقوم يعقلون الأمور ويدركون نتائج المقدمات ، فذو القدرة والعلم والرحمة هو الذي يستحق التأليه والعبادة . . وقوله : { وأوحى ربك الى النحل ان اتخذى من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون } هذا مظهر آخر عظيم من مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته يتجلى بإعلامه حشرة النحل كيف تلد العسل وتقدمه للانسان فيه دواء من كل داء ، فقوله { وأوحى ربك } أيها الرسول { الى النحل } بأن ألهمها { أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر } أيضاً بيوتاً ، { ومما يعرشون } أي ومما يعرش الناس لك أي يبنون لك ، اتخذي من ذلك بيوتاً لك إذ النحلة تتخذ لها بيتاً داخل العريش الذي يعرش لها تبنيه بما تفرزه من الشمع وقوله تعالى : { ثم كلي من كل الثمرات } اي ألهمها ان تاكل من كل ما تحصل عليه من الثمرات من الأشجار والنباتات اي من ازهارها ونوارها وقوله لها { فاسلكي سبل ربك ذللاً } بإلهام منه تسلك ما سخر لها وذلك من الطرق فتنتقل من مكان الى آخر تطلب غذاءها ثم تعود الى بيوتها لا تعجز ولا تضل وذلك بتذليل الله تعالى وتسخيره لها تلك الطرق فلا تجد فيها وعورة ولا تنساها فتخطئها . وقوله تعالى { يخرج من بطونها } اي بطون النحل { شراب } أي عسل يشرب { مختلف ألوانه } ما بين أبيض وأسود ، او ابيض مشرب بحمرة أو يضرب الى صفرة . وقوله تعالى : { فيه شفاء للناس } أي من الادواء ، هذا التذكير في قوله شفاء دال على بعض دون بعض جائز هذا حتى يضم اليه بعض الأدوية او العقاقير الأخرى ، أما مع النية أي أن يشرب بنية الشفاء من المؤمن فإنه شفاء لكل داء وبدون ضميمة اي شيء اخر له .
(2/309)
________________________________________
وفي حديث الصحيح وخلاصته ان رجلاً شكا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم استطلاق بطن اخيه اي مشي بطنه عليه فقال له اسقه عسل ، فسقاه فعاد فقال ما اراه زاده الا استطلاقاً فعاد فقال مثل ما قال اولاً ثلاث مرات وفي الرابعة او الثالثة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق الله وكذب بطن اخيك اسقه العسل فسقاه فقام كأنما نشط من عقال . وقوله تعالى { إن في ذلك } أي المكذور من إلهام الله تعالى للنحل وتعليمها كيف تصنع العسل ليخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس لدلالة واضحة على علم الله وقدرته ورحمته وحكمته المقتضية عبادته وحده وتأليهه دون سواه ولكن لقوم يتفكرون في الأشياء وتكوينها وأسبابها ونتائجها فيهتدون الى المطلوب منهم وهو أن يذكروا فيتعظوا فيتوبوا الى خالقهم ويسلموا له بعبادته وحده دون سواه وقوله تعالى في الآية الأخرى ( 70 ) { والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد الى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئاً } هذه آية أخرى أجل وأعظم في الدلالة على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته ، وهي موجبة لعبادته وحده وملزمة بالايمان بالبعث الاخر فخلق الله تعالى لنا وحده وهو واحد ونحن لا يحصى لنا عد ، ثم إماتته لنا موتاً حقيقياً يقبض أرواحنا ولا يستطيع احد أن يموت ولا يتوفى أبداً ثم من مظاهر الحكمة ان يتوفانا من أجال مختلفة اقتضها الحكمة لبقاء النوع واستمرار الحياة الى نهايتها . فمن الناس من يموت طفلاً ومنهم من يموت شاباً ، وكلها حسب حكمة الابتلاء والتربية الإلهية ، وآية اخرى ان منا من يرد الى أرذل عمره ، أي أرداه وأخسه فيهرم ويخرف فيفقد ما كان له من قوة بدنٍ وعقل ولا يستطيع أحد أن يخلصه من ذلك الا الله ، مظهر قدرة ورحمة أرأيتم لو شاء الله أن يرد الناس كلهم الى أرذل العمر ولو في قرنٍ أو قرنين من السنين فكيف تصبح حياة الناس يؤمئذٍ ؟ وقوله : { إن الله عليم قدير } تقرير لعلمه وقدرته ، إذ ما نتج وما كان ما ذكره من خلقنا ووفاتنا ورد بعضنا الى ارذل العمر الا بقدرة قادر وعلم عالم وهو الله العليم القدير .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان منة الله تعالى على العباد بذكر بعض ارزاقهم لهم وليشكروا الله على نعمه .
2- بيان آيات الله تعالى الدالة على قدرته وعلمه وحكمته في خلق شراب الإنسان وغذائه ودوائه .
3- فضيلة العقل والتعقل والفكر والتفكر .
4- تقرير عقيدة الإيمانلا باليوم الآخر الدال عليه القدرة والعلم الإلهيين ، إذ من خلق وأمات لا يستنكر منه أن يخلق مرة اخرى ولا يميت .
(2/310)
________________________________________
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
شرح الكلمات :
{ فضل بعضكم على بعض في الرزق } : أي فمنكم الغني ومنكم الفقير ، ومنكم المالك ومنكم المملوك .
{ برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم } : أي بجاعلي ما رزقناهم شركة بينهم وبين مماليكهم من العبيد .
{ والله جعل لكم من انفسكم ازواجاً } : إذ حواء خلقت من آدم وسائر النساء من نطف الرجال .
{ وحفدة } : أي خدماً من زوجه وولد وولد ولد وخادم وختن .
{ أفبالباطل يؤمنون } : أي بعبادة الأصنام يؤمنون .
{ رزقاً من السموات والأرض } : أي بإنزال المطر من السماء ، وإنبات النبات من الأرض .
معنى الآيات :
ما زال السياق العظيم في تقرير التوحيد وإبطال التنديد . فقوله تعالى : { والله فضل بعضكم على بعض في الرزق } فمنكم من اغناه ومنكم من افقره ايها الناس ، وقد يكون لأحدكم ايها الأغنياء عبيد مملوكين له ، لم لا يرضى أن يشرك عبيده في أموال حتى يكونوا فيها سواء لا فضل لأحدهما على الآخر ؟ والجواب أنكم تقولون في استنكار عجيب كيف أسوي مملوكي في رزقي فأصبح وإياه سواء ؟ هذا لا يعقل أبداً إذا كيف جوزتم إشراك آلهتكم في عبادة ربكم وهي مملوكة لعه تعالى إذ هو خالقها وخالقكم ومالك جميعكم ؟ فأين يذهب بعقولكم أيها المشركون ؟ وقوله تعالى : { أفبنعمة الله يجحدون } ؟ حقاً إنهم جحدوا نعمة العقل اولاً فلم يعترفوا بها فلذا لم يفكروا بعقولهم ، ثم جحدوا نعمة الله عليهم في خلقهم ورزقهم فلم يعبدوه بذكره وشكره وعبدوا غيره من أصنام وأوثان لا تملك ولا تضر ولا تنفع . هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 71 ) أما الآية الثانية فيقول تعالى فيها مقرراً إنعامه تعالى على المشركين بعد توبيخهم على إهمال عقولهم في الآية الأولى وكفرهم بنعم ربهم فيقول : { والله } أي وحده { جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات } أي جعل لكم من أنفسكم ازواجاً أي بشريات من جنسكم تسكنون إليهن وتتفاهمون معهن وتتعاونون بحكم الجنسية وهي نعمة عظمى ، وجعل لكم من أولئك الأزواج بنين بطريق التناسل والولادة وحفدة أيضاً والمراد من الحفدة كل من يحفد أي يسرع في خدمتك وقضاء حاجتك من زوجتك وولدك وولد ولدك وختنك أي صهرك ، وخامدك إذ الكل يحفدون لك أي يسارعون في خدمتك بتسخير الله تعالى لك ، وثالثاً { ورزقكم من الطيبات } أي حلال الطعام والشراب على اختلافه وتنوع مذاقه وطعمه ولذته . هذا هو الله الذي تدعون الى عبادته وحده فتكفرون فأصبحتم بذلك تؤمنون بالباطل وهي الأصنام . وعبادتها ، وتكفرون بالمنعم ونعمه ولذا استحقوا التوبيخ والتقريع فقال تعالى : { أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون } ؟ إذ عدم عبادتهم للمنعم عز وجل هو عين كفرانهم بنعمة الله تعالى .
(2/311)
________________________________________
وقوله { ويعبدون من دون الله } أي أصناماً لا تملك لهم { رزقاً من السماء } بإنزال المطر ، { والأرض } بإنبات الزروع والثمار شيئاً ولو قل ولا يستطيعون شيئاً من ذلك لعجزهم القائم بهم لأنهم تماثيل منحوتة من حجر أو خشب وفي هذا من التنبيه لهم على خطأهم ما لا يقادر قدره . وقوه تعالى : { فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون } أي ينهاهم تعالى عن ضرب الأمثال لله باتخاذ الأصنام آلهة بإطلاق لفظ إله عليها ، والله لا مثل له ، وباعتقاد أنها شافعة لهم عند الله وانها تقربهم إليه تعالى ، وأنها واسطة بمثابة الوزير للأمير الى غير ذلك ، فنهاهم عن ضرب هذه الأمثال لله تعالى لانه عز وجل يعلم أن لا مثل له ولا مثال ، بل هو الذي لا اله الا هو تعالى عن الشبيه والمثيل والنظير ، وهو لا يعلمون فلذا هم متحيرون متخبطون في ظلمات الشرك وأودية الضلال .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- قطع دابر الشرك في المثل الذي حوته الآية الأولى : { والله فضل بعضكم على بعضٍ في الرزق } .
2- وجوب شكر الله تعالى على نعمه وذلك بذكره وشكره وإخلاص ذلك له .
3- قبح كفر النعم وتجاهل المنعم بترك شكره عليها .
4- التنديد بمن يرضون لله الأمثال وهم لا يعلمون بإتخاذ وسائط له تشبيهاً لله تعالى بعبادة فهم يتوسطون بالأولياء والانبياء بدعائهم والاستغاثة بهم بوصفهم مقربين الى الله تعالى يستجيب لهم ، ولا يستجيب لغيرهم .
(2/312)
________________________________________
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
شرح الكلمات :
{ ضرب الله مثلاً } : أي هو عبداً مملوكاً الخ . .
{ عبداً مملوكاً } : أي ليس بحرٍ بل هو عبد مملوك لغيره .
{ هل يستوون } : أي العبيد العجزة والحر المتصرف ، والجواب : لا يستوون قطعاً .
{ وضرب الله مثلاً } : اي هو رجلين الخ . .
{ أبكم } : أي ولد اخرس وأصم لا يسمع .
{ لا يقدر على شيء } : أي لا يَفهَمْ ولا يُفهِمْ غيره .
{ ولله غيب السموات والأرض } : أي ما غاب فيهما .
{ وما أمر الساعة } : أي أمر قيامها ، وذلك بإماته الأحياء وإحيائهم مع من مات قبل وتبديل صور الأكوان كلها .
{ الأفئدة } : أي القلوب .
معنى الآيات :
ما زال السياق في تقريرالتوحيد والدعوة اليه وإبطال الشرك والتنفير منه وقد تقدم ان الله تعالى جهل المشركين في ضرب الأمثال له وهو لا مثل له ولا نظير ، وفي هذا السياق ضرب تعالى مثلين وهو العليم الخبير . . فالأول قال فيه : { ضرب الله مثلاُ عبداً مملكوكاً } أي غير حر من أحرار الناس ، { لا يقدر على شيء } إذ هو مملوك لا حق له في التصرف في مال سيده الا بإذنه ، فلذا فهو لا يقدر على إعطاء او منع شيء هذا طرف المثل ، والثاني { ومن رزقناه رزقاً حسناً } صالحاً واسعاً { فهو ينفق منه سراً وجهراً } ليلاً ونهاراً لأنه حر التصرف بوصفه مالكاً { هل يستوون } ؟ الجواب لا يستويان . . . إذا { الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون } والمثل مضروب للمؤمن والكافر ، فالكافر أسير للأصنام عبد لها لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً ، لا يعمل في سبيل الله ولا ينفق لأنه لا يؤمن بالدار الآخرة ، والجزاء فيها ، وأما المؤمن فهو حر يعمل بطاقة الله فينفق في سبيل الله سراً وجهراً يبتغي الآخرة والمثوبة من الله ، ذا علم وإرادة ، لا يخاف الا لا الله ولا يرجو الا هو سبحانه وتعالى . وقوله { وضرب الله مثلاً رجلين } هو المثال الثاني في هذا السياق وقد حوته الثانية ( 76 ) فقال تعالى فيه { وضرب الله مثلاً } هو { رجلين احدهما أبكم } ولفظ الأبكم قد يدل على الصم فالغالب ان الأبكم لا يسمع { لا يقدر على شيء } فلا يفهم غيره لأنه من اقربائه يقومون بإعاشته ورعايته لعجزه وضعفه وعدم قدرته على شيء . وقوله : { أينما يوجهه لا يأت بخير } أي أينما يوجهه مولاه وابن عمه ليأتي بشيء لا يأتي بخير ، وقد يأتي بشر ، أما النفع والخير فلا يحصل منه شيء .
وهذا مثل الأصنام التي تعبد من دون الله اذ هي لا تسمع ولا تبصر فلا تفهم ما يقال لها ، ولا تفهم عابديها شيئاً وهي محتاجة إليهم في صنعها ووضعها وحملها وحمايتها . وقوله تعالى { هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراطٍ مستقيم } وهو الله تعالى يأمر بالعدل أي التوحيد والاستقامة في كل شيء .
(2/313)
________________________________________
وهو قائم على كل شيء ، وهو على صراط مستقيم يدعو الناس الى سلوكه لينجوا ويسعدوا في الدارين ، فالجواب ، لا يستويان بحال ، فكيف يرضى المشركون بعبادة وولاية الأبكم الذي لا يقدر على شيء ويتركون عبادة السميع البصير ، القوي ، القدير ، الذي يدعوهم الى كمالهم وسعادتهم في كلتا حياتهم ، أمر يحمل على العجب ، ولكن لا عجب مع اقدار الله وتدابير الحكيم العليم . وقوله تعالى في الاية ( 77 ) { ولله غيب السموات والأرض } وحده يعلم ما غاب عنا فيهما فهو يعلم من كتبت له السعادة ومن حكم عليه بالشقاوة ، ومن يهتدي ومن لا يهتدي ، والجزاء آتٍ بإيتان الساعة { وما أمر الساعة } أي إيتانها { الا كلمح البصر أو هو أقرب } إذ لا يتوقف امرها الا على كلمة { كن } فقط فتنتهي هذه الحياة بكل ما فيها ، وتأتي الحياة الاخرى وقد تبدلت صور الاشياء كلها { ان الله على كل شيء قدير } ومن ذلك قيام الساعة ، وجيء الساعة . وقوله تعالى : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً } حقيقة لا تنكر ، الله الذي اخرجنا من بطون أمهاتنا بعد أن صورنا في الأرحام ونمانا حتى صرنا بشراً ثم اذن بإخراجنا ، فأخرجنا ، وخرجنا لا نعلم شيئاً قط ، هذه آية القدرة الآلهية والعلم الإلهي والتدبير الإلهي ، فهل للأصنام شيء من ذلك ، والجواب لا ، لا وثانياً جعل الله تعالى لنا الاسماع والابصار والأفئدة نعمة اخرى ، إذ لو لا ذلك ما سمعنا ولا أبصرنا ولا عقلنا وما قيمة حياتنا يومئذ ، إذ العدم خير منها . وقوله : { لعلكم تشكرون } كشف كامل عن سر هذه النعمة وهي أنه جعلنا نسمع ونبصر ونعقل ليكلفنا فيأمرنا وينهانا فنطيعه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، وذلك شكره منا مع ما في ذلك الشكر من خير . إنه إعداد للسعادة في الدارين . فهل من متذكر يا عباد الله ؟!
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- استحسان ضرب الأمثال وهو تشبيه حال بحال على أن يكون ضارب المثل عالماً .
2- بيان مثل المؤمن في كماله والكافر في نقصانه .
3- بيان مثل الأصنام في جمودها وتعب عبدتها علبها في الحماية وعدم انتفاعهم بها . ومثل الرب تبارك وتعالى في عدله ، ودعوته الى الإسلام وقيامه على ذلك مع استجابة دعاء اوليائه ، ورعايتهم ، وعلمه بهم وسمعه لدعائهم ونصرتهم في حياتهم وإكرامهم والانعام عليهم في كلتا حياتهم . ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم .
(2/314)
________________________________________
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
شرح الكلمات :
{ مسخرات في جو السماء } : أي مذللات في الفضاء بين السماء والأرض وهو الهواء .
{ ما يمسكهن } : أي عند قبض أجنحتها وبسطها الا الله تعالى بقدرته وسننه في خلقه .
{ من بيوتكم سكناً } : أي مكاناً تسكنون فيه وتخلدون للراحة .
{ من جلود الأنعام بيوتاً } : أي خياماً وقباباً .
{ يوم ظعنكم } : أي ارتحالكم في أسفاركم .
{ أثاثاً ومتاعاً الى حين } : كبسط وأكسية تبلى وتتمزق وتُرمى .
{ ظلالاً ومن الجبال أكناكاً } : أي ما تستظلون به من حر الشمس ، وما تسكنون به في غيران الجبال .
{ وسرابيل } : أي قمصاناً تقيكم الحر والبرد .
{ وسرابيل تقيكم بأسكم } : أي دروعاً تقيكم الضرب والطعان في الحرب .
{ لعلكم تسلمون } : أي رجاء ان تسلموا له قلوبكم ووجوهكم فتعبدوه وحده .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد والدعوة إليه وإبطال الشرك وتركه فيقول تعالى : { ألم يروا الى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن الا الله } فإن في خلق الطير على اختلاف أنواعه وكثره أفراد ، وفي طيرانه في جو السماء ، اي في الهواء وكيف يقبض جناحيه وكيف يبسطها ولا يقع على الأرض فمن يمسكه غير الله بما شاء من تدبيره في خلقه وأكوانه إن في ذلك المذكور لآيات عدة تدل على الخالق وقدرته وعلمه وتوجب معرفته والتقرب إليه وطاعته وحده ، كما تدل على بطلان تأليه غيره وسواه ، وكون الآيات لقوم يؤمنون هو باعتبار أنهم احياء القلوب يدركون ويفهمون بخلاف الكافرين فإنهم أموات القلوب فلا ادراك ولا فهم لهم ، فلم يكن لهم في ذلك آية . . وقوله : { والله جعل لكم من بيوتكم سكناً } اي موضع سكون وراحة ، { وجعل لكم من جلود الأنعام } الإبل والبقر والغنم { بيوتاً } أي خياماً وقباباً { تستخفونها } اي تجدونها خفيفة المحمل { يوم ظعنكم } أي ارتحالكم في أسفاركم وتنقلاتكم { ويوم إقامتكم } في مكان واحد مذلك . وقوله : { ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها } أي جعل لكم منه { أثاثاً } كالبسط الفرش والأكسية { متاعاً } أي تتمتعون بها الى حين بلاها وتمزقها وقوله : { والله جعل لكم مما خلق } من أشياء كثيرة { ظلالاً } تستظلون بها من حر الشمس { وجعل لكم من الجبال أكناناً } تكنون فيها انفسكم من المطر والبرد أو الحر وهي غير أن وكهدف في الجبال { وجعل لكم سرابيل } قمصان { تقيكم الحر } والبرد { وسرابيل } هي الدروع { تقيكم بأسكم } في الحرب تتقون بها ضرب السيوف وطعن الرماح . أليس الذي جعل لكم من هذه كلها أحق بعبادتكم وطاعتكم ، وهكذا { يتم نعمته عليكم } فبعث إليكم رسوله وأنزل عليكم كتابه ليعدكم للإسلام فتسلموا . وهنا وبعد هذا البيان الواضح والتذكير البليغ يقول لرسوله { فإن تولوا } أي أعرضوا عما ذكرتهم به فلا تحزن ولا تأسف اذ ليس عليك هداهم { فإنما عليك البلاغ المبين } وقد بلغت وبينت . فلا عليك بعد شيء من التبعة والمسؤولية .
(2/315)
________________________________________
وقوله : { يعرفون نعمت الله } أي نعمة الله عليهم كما ذكرناهم بها { ثم ينكرونها } فيعبدون غير المنعم بها { وأكثرهم الكافرون } أي الجاحدون المكذبون بنبوتك ورسالتك والإسلام الذي جئت به .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- لا ينتفع بالآيات الا المؤمنون لحياة قلوبهم ، أما الكافرون فهم في ظلمة الكفر لا يرون شيئاً من الآيات ولا يبصرون .
2- مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ونعمه تتجلى في هذه الآيات الأربع ومن العجب ان المشركين كالكافرين عمي لا يبصرون شيئاً منها واكثرهم الكافرون .
3- مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست هداية القلوب وإنما هي بيان الطريق بالبلاغ المبين .
(2/316)
________________________________________
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
شرح الكلمات :
{ ويوم يبعث } : أي اذكر يوم نبعث .
{ شهيداً } : هو نبيها .
{ لا يؤذن للذين كفروا } : أي بالاعتذار فيتعذرون .
{ ولا هم يستعتبون } : أي لا يطلب منهم العتبى أي الرجوع الى اعتقاد وقول وعمل ما يرضى الله عنه .
{ وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم } : أي الذين كانوا يعبدونهم من دون الله كالأصنام والشياطين .
{ فألقوا إليهم القول } : أي ردوا عليهم قائلين لهم إنكم لكاذبون .
{ وضل عنهم ما كانوا يفترون } : من ان آلهتهم لهم عند الله وتنجيهم من عذابه ، ومعنى ضل غاب .
{ عذاباً فوق العذاب } : انه عقاب وحيات كالنخل الطوال والبغال الموكفة .
{ تبياناً لكل شيء } : أي لكل ما بالأمة من حاجة إليه في معرفة الحلال والحرام والحق والباطل والثواب والعقاب .
معنى الآيات :
انحصر السياق الكريم في هذه الآيات الست في تقرير البعث والجزاء مع النبوة فقوله تعالى : { يوم نبعث } أي اذكر يا رسولنا محمد يون نبعث { من كل أمة } من الأمم { شهيداً } هو نبيها نبئ فيها وأرسل إليها { ثم لا يؤذن للذين كفروا } اي بالاعتذار فيعتذرون { ولا هم يستعتبون } أي لا يطلب منهم العتبى أي الرجوع الى اعتقاد وقول وعمل يرضى الله عنهم اي اذكر هذا لقومك ، علهم يذكرون فيتعظون ، فيتوبون ، فينجون ويسعدون . وقوله في الآية الثانية ( 85 ) { وإذا رأى الذين ظلموا العذاب } أي يوم القيامة { فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون } أي يمهلون . اذكر هذا أيضاً تذكيراً وتعليماً ، واذكر لهم { إذا رأى الذين أشركوا شركاءهم } في عرصات القيامة أو في جهنم صاحوا قائلين { ربنا } أي يا ربنا { هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك } أي نعبدهم بدعائهم والإستغاثة بهم ، { فألقوا إليهم القول } فوراً { إنكم لكاذبون } . { وألقوا الى الله يومئذ السلم } أي الإستسلام فذلوا لحكمه { وضل عنهم ما كانوا يفترون } في الدنيا من ألوان الكذب والترهات كقولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، وأنهم ينجون من النار بشفاعتهم ، وأنهم وسيلتهم الى الله كل ذلك ضل أي غاب عنهم ولم يعثروا منه على شيء . وقوله تعالى : { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } غيرهم بالدعوة الى الكفر وأسبابه والحمل عليه احياناً بالترهيب والترغيب { زدناهم عذاباً فوق العذاب } الذي استوجبوه بكفرهم . ورد ان هذه الزيارة من العذاب أنها عقارب كالبغال الدهم ، وانها حيات كالنخل الطوال والعياذ بالله تعالى من النار وما فيها من أنواع العذاب ، وقوله تعالى : { ويوم نبعث } أي اذكر يا رسولنا يوم نبعث { في كل أمةٍ شهيداً } أي يوم القيامة { عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء } أي على من أرسلت إليهم من امتك . فكيف يكون الموقف إذ تشهد على أهل الإيمان بالإيمان وعلى أهل الكفر بالكفر . وعلى اهل التوحيد بالتوحيد ، وعلى أهل الشرك بالشرك إنه لموقف صعب تعظم فيه الحسرة وتشتد الندامة . .
(2/317)
________________________________________
وقوله تعالى في خطاب رسوله مقرراً نبوته والوحي إليه { ونزلنا عليك الكتاب } أي القرآن { تبياناً لكل شيء } الأمة في حاجة الى معرفته من الحلال والحرام والأحكام والأدلة ( وهدى ) من كل ضلال { ورحمة } خاصة بالذين يعملون به ويطبقونه على أنفسهم وحياتهم فيكون رحمة عامة بينهم { وبشرى للمسلمين } أي المنقادين لله في أمر ونهيه بشرى لهم بالأجر العظيم والثواب الجزيل يوم القيامة ، وبالنصر والفوز والكرامة في هذه الدار . وبعد إنزالنا عليك هذا الكتاب فلم يبق من عذر لمن يريد ان يعتذر يوم القيامة ولذا ستكون شهادتك على امتك اعظم شهادة وأكثرها أثرأ على نجاة الناجين وهلاك الهالكين ولا يهلك على الله الا هالك .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث الآخر بما لا مزيد عليه لكثرة ألوان العرض لما يجرى في ذلك اليوم .
2- براءة الشياطين والاصنام الذين أشركهم الناس في عبادة الله من المشركين بهم والتبرؤ منهم وتكذيبهم .
3- زيادة العذاب لمن دعا الى الشرك والكفر وحمل الناس على ذلك .
4- لا عذر لأحد بعد أن أنزل الله تعالى القرآن تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين .
(2/318)
________________________________________
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
شرح الكلمات :
{ العدل } : الانصاف ومنه التوحيد .
{ الإحسان } : أداء الفرائض وترك المحارم مع مراقبة الله تعالى .
{ وإيتاء ذي القربى } : أي إعطاء ذي القربى حقوقهم من الصلة والبر .
{ عن الفحشاء } : الزنا .
{ يعظكم } : أي يأمركم وينهاكم .
{ تذكرون } : أي تعظون .
{ توكيدها } : أي تغليظها .
{ نقضت غزلها } : أي أفسدت غزلها بعد ما غزلته .
{ من بعد قوة } : أي أحكام له وبرم .
{ أنكاثاً } : جمع نكث وهو ما ينكث ويحل بعد الإبرام .
{ كالتي نقضت غزلها } : هي حمقاء مكة وتدعى ريطة بنت سعد بن تيم القرشية .
{ دخلاً بينكم } : الدخل ما يدخل في الشيء وهو ليس منه للإفساد والخديعة .
{ أرى من أمة } : أي أكثر منها عدداً وقوة .
معنى الآيات :
قوله تعالى : { إن الله يأمر بالعدل } أي ان الله يأمر في الكتاب الذي أنزله تبياناً لكل شيء ، يأمر بالعدل وهو الإنصاف ومن ذلك أن يعبد الله بذكره وشكره لأنه الخالق المنعم وتترك عبادة غيره لأنهم غيره لم يخلق ولم يرزق ولم ينعم بشيء . ولذا فسر هذا اللفظ بلا إله الا الله ، { والإحسان } وهو أداء الفرائض واجتناب المحرمات مع مراقبة الله تعالى في ذلك حتى يكون الأداء على الوجه المطلوب إتقاناً وجودة والاجتناب خوفاً من الله حياء منه ، وقوله { وإيتاء ذي القربى } اي ذوي القرابات حقوقهم من البر والصلة . هذا مما أمر الله تعالى به في كتابه ، ومما ينهى عنه الفحشاء وهو الزنا واللواط وكل قبيح اشتد قبحه وفحش حتى البخل { والمنكر } وهو كل ما انكر الشرع وانكرته الفطر السليمة والعقول الراجحة السديدة ، وينهى عن البغي وهو الظلم والاعتداء ومجاوزة الحد في الأمور كلها ، وقوله { لعلكم تذكرون } أي أمر بهذا في كتابه رجاء ان تذكروا فتتعظوا فتمتثلوا الأمر وتجتنبوا النهي . وبذلك تكملون وتسعدون . ولذا ورد ان هذه الآية : { أن الله يأمر بالعدل والإحسان } الى { تذكرون } هي أجمع آية في كتاب الله للخير والشر . وهي كذلك فما من خير الا وأمرت به ولا من شر الا ونهت عنه . وقوله تعالى { وأفوا بعهد الله اذا عاهدتم } امر من الله تعالى لعبادة المؤمنين بالوفاء بالعهود فعلى كل مؤمن بايع أماماً أو عاهد احداً على شيء ان يفي له بالعهد ولا ينقصه . { اذ لا ايمان لمن لا امانة له ، ولا دين لمن لا عهد له } كما في الحديث الشريف . . وقوله تعالى { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } الأيمان جمع يمين وهو الخلف بالله وتوكيدها تغليظها بالألفاظ الزائدة { وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } اي وكيلاً ، أي أثناء حلفكم به تعالى ، فقد جعلتموه وكيلاً ، فهذه الآية حرمت نقض الأيمان وهو نكثها وعدم الألتزام بها بالحنث فيها لمصالح مادية . وقوله تعالى { إن الله يعلم ما تفعلون } فيه وعيد شديد لمن ينقض أيمانه بعد توكيدها .
(2/319)
________________________________________
وقوله تعالى { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها } ، وهي أمرأة بمكة حمقاء تغزل ثم تنكث غزلها وتفسده بعد إبرامه وإحكامه فنهى الله تعالى المؤمنين أن ينقضوا أيمانهم بعد توكيدها فتكون حالهم كحال هذه الحمقاء . وقوله تعالى : { تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم } أي إفساداً وخديعة كأن تحالفوا جماعة وتعاهدوها ، ثم تنقضون عهدكم وتحلون ما أبرتم من عهد وميثاق وتعاهدون جماعة اخرى لأنها أقوى وتنتفعون بها أكثر . هذا معنى قوله تعالى { أن تكون أمة هي أربى من أمة } أي جماعة اكثر من جماعة رجالاً وسلاحاً أو مالاً ومنافع . وقوله تعالى : { إنما يبلوبكم الله به } أي يختربكم فتعرض لكم هذه الأحوال وتجدون أنفسكم تميل إليها ، ثم تذكرون نهي ربكم عن نقض الأيمان والعهود فتتركوا ذلك طاعة لربكم أولاً تفعلوا إيثاراً للدنيا عن الآخرة ، { وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون } ثم يحكم بينكم ويجزيكم ، المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته . . وقوله تعالى { ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة } على التوحيد والهداية لفعل . . ولكن اقتضت حكمته العالية ان يهدي من يشاء هدايته لأنه رغب فيها وطلبها ، ويضل من يشاء إضلاله لأنه رغب في الضلال وطلبه وأصر عليه بعد النهي عنه . وقوله تعالى : { لتسألن } أي سؤال توبيخ وتأنيب { عما كنتم تعملون } من سوء وباطل ، ولازم ذلك الجزاء العادل من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، ومن جاء بالسئية فلا يجزى الا بمثلها وهو لا يظلمون .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان أجمع آية للخير والشر في القرآن وهي آية { إن الله يأمر بالعدل والإحسان . . } الآية ( 90 ) .
2- وجوب العدل والإحسان وإعطاء ذوي القربى حقوقهم الواجبة من البر والصلة .
3- تحريم الزنا واللواط وكل قبيح اشتد قبحه من الفواحش الظاهرة والباطنة .
4- تحريم البغي وهو الظلم بجميع صوره وأشكاله .
5- وجوب الوفاء بالعهود وحزمة نقضها .
6- حرمة نقض الأيمان بعد توكيدها وتوطين النفس عليها لتخرج لغو اليمين .
7- من بايع أميرأ أو عاهد احداً يجب عليه الوفاء ولا يجوز النقض والنكث لمنافع دنيوية أبداً .
(2/320)
________________________________________
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
شرح الكلمات :
{ دخلاً بينكم } : أي لأجل الإفساد والخديعة .
{ وتذوقوا السوء } : أي العذاب .
{ ما عندكم ينفد } : يفنى وينتهى .
{ وهو مؤمن } : أي والحال أنه عندما عمل صالحاً كان مؤمناً ، إذ بدون إيمان لا عمل يقبل .
{ حياة طيبة } : في الدنيا بالقناعة والرزق الحلال وفي الآخرة هي حياة الجنة .
{ بأحسن ما اكانوا يعملون } : أي يجزيهم على كل أعمالهم حسنها وأحسنها بحسب الأحسن فيها .
ما زال السياق في تربية المؤمنين أهل القرآن الذي هو تبيان كل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين . وقال تعالى { ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً } أي الخديعة { بينكم } لتتوصلوا بالايمان الى غرض دنيوي سافل ، { فتزل قدم بعد ثبوتها } بأن يقع احدكم في كبيرة من هذا النوع ، يحلف الله بقصد الخداع والتضليل فتذقوا السوء في الدنيا بسبب صدكم عن سبيل الله من تعاهدونهم أو تبايعونهم وتعطونهم أيمانكم وعهودكم ثم تنقضوها فهؤلاء ينصرفون عن الإسلام ويعرضون عنه بسبب ما رأوا منكم من النقض والنكث ، وتتحملون وزر ذلك ، ويكون لكم العذاب العظيم يوم القيامة . فإياكم والوقوع في مثل هذه الورطة ، فاحذروا ان تزل قدم احدكم عن الاسلام بعد ان رسخت فيه . وقوله : { ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً } وكل ما في الدنيا قليل وقوله تعالى إنما عند الله هو خير لكم قطعاً ، لأن ما عندكم من مال او متاع ينفذ أي يفنى ، { وما عند الله باق } لانفاذ له ، فاذكروا هذا ولا تبيعوا الغالي بالرخيص والباقي بالفاني ، وقوله تعالى : { ولنجزين الذين صبروا } على عهودهم { أجرهم } على صبرهم { بأحسن ما كانوا يعملون } أي يضاعف لهم الاجر فيعطيهم سائر أعمالهم حسنها وأحسنها بحسب أفضلها واكملها حتى يكون أجر النافلة ، كأجر الفريضة وهذا وعد الله تعالى لمن يصبر على إيمانه واسلامه ولا يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل ، ووعد ثان في قوله : { من عمل صالحاً من ذكر وأنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } الا ان اصحاب هذا الوعد هم أهل الايمان والعمل الصالح ، الايمان الحق الذي يدفع الى العمل الصالح ، ولازم ذلك أنهم تخلوا عن الشرك والمعاصي ، هؤلاء وعدهم ربهم بأنه يحييهم في الدنيا حياة طيبة لا خبث فيها قناعة وطيب طعام وشراب ورضا ، هذا في الدنيا وفي الآخرة الجنة والجزاء يكون بحسب أحسن عمل عملوه من كل نوع ، من الصلاة كأفضل صلاة وفي الصدقات بأفضل صدقة وهكذا . { ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم وآتنا ما وعدتنا إنك بر رحيم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- حرمة اتخاذ الأيمان طريقاً الى الغش والخديعة والافساد .
2- ما عند الله خير مما يحصل عليه الأنسان بمعصيته الرحمن من حطام الدنيا .
3- عظم أجر الصبر على طاعة الله تعالى فعلاً وتركاً .
4- وعد الصدق لمن آمن وعمل صالحاً من ذكر وانثى بالحياة الطبية في الدنيا والآخرة .
(2/321)
________________________________________
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
شرح الكلمات :
{ فإذا قرأت القرآن } : أي أردت أن تقرأ القرآن .
{ فاستعذ بالله من الشيطان } : أي قل أعوذ من الشيطان الرجيم لحمايتك من وسواسه .
{ إنه ليس له سلطان } : أي قوة وتسلط على إفساد الذين آمنوا وإضلالهم ، ما داموا متوكلين على الله .
{ وإذا بدلنا آية مكان آية } : أي بنسخها وإنزاله آية أخرى غيرها لمصلحة العباد .
{ قل نزله روح القدس } : أي جبريل عليه السلام .
{ ليثبت الذين آمنوا } : أي على إيمانهم .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في هداية المسلمين وتكليمهم ، فقوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن } يا محمد أنت أو أحد من المؤمنين أتباعك { فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } أي إذا كنت قارئا عازماً على القراءة فقال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فإن ذلك يقيك من وسواسه الذي قد يفسد عليك تلاوتك ، وقوله : { إنه ليس له } أي الشيطان { سلطان } يعني تسلط وغلبه وقهر { على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } وهذه بشرى خير للمؤمنين { إنما سلطانه على الذين يتولونه } بطاعته والعمل بتزيينه للشر والباطل ، { والذين هم به مشركون } . هؤلاء هم الذين يتسلط الشيطان عليهم فيغويهم ويضلهم حتى يهلكهم . وقوله تعالى : { وإذا بدلنا آية مكان آية } أي نسخنا بحكم آخر بآية أخرى قال المشركون المكذبون بالوحي الإلهي { إنما أنت } يا محمد { مفترٍ } تقول بالكذب والخرص ، أي يقول اليوم شيئاً ويقول غداً خلافه . وقوله تعالى : { والله أعلم بما ينزل } فإنه ينزله لمصلحة عباده فينسخ ويثبت لأجل مصالح المؤمنين . وعلم الله تعالى رسوله كيف يرد على هذه الشبهة وقال له { قل نزله القدس من ربك بالحق } فلست أنت الذي تقول ما تشاء وإنما هو وحي الله وكلامه ينزل به جبريل عليه السلام من عند ربك بالحق الثابت عند الله الذي لا يتبدل ولا يتغير ، وذلك لفائدة تثبيت الذين آمنوا على إيمانهم وإسلامهم . فكلما نزل قرآن ازداد المؤمنون إيماناً فهو كالغيث ينزل على الأرض كلما نزل ازدادت حياتها نضرة وبهجة فكذلك نزول القرآن تحيا بها المؤمنين ، وهو أي القرآن هدى من كل ضلالوة . وبشرى لكل المسلمين بفلاح الدنيا وفوز الآخرة .
هداية الايات
من هداية الآيات :
1- استحباب الاستعاذة عند قراءة القرآن بلفظ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
2- بيان أنه لا تسلط للشيطان على المؤمنين المتوكلين على ربهم .
3- بيان ان سلطان الشيطان على أوليائه العاملين بطاعته المشركين بربهم .
4- بيان أن القرآن فيه الناسخ والمنسوخ .
5- بيان فائدة نزول القرآن بالناسخ والمنسوخ وهي تثبيت الذين آمنوا على إيمانهم وهدى من الضلالة وبشرى للمسلمين بالفوز والفلاح في الدارين .
(2/322)
________________________________________
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
شرح الكلمات :
{ بشر } : يعنون قينا ( حداداً ) نصرانياً في مكة .
{ لسان الذي يلحدون إليه } : أي يميلون إليه .
{ وهذا لسان عربي } : أي القرآن فكيف يعلمه اعجمي .
{ الا من أكره } : أي على التلفظ بالكفر فتلفظ به .
{ ولكن من شرح بالكفر صدرا } : أي فتح صدره الكفر وشرحه له فطابت نفسه له .
{ واولئك هم الغافلون } : أي عما يراد بهم .
{ لا جرم } : أي حقاً .
{ هم الخاسرون } : أي لمصيرهم الى النار خالدين فيها أبدا .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في الرد على المشركين الذين اتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم بالافتراء فقال تعالى : { ولقد تعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر } أي يعلم محمداً بشر أي انسان من الناس ، لا انه وحي يتلقاه من الله . قال تعالى في الرد على هذه الفرية وإبطالها { لسان الذين يلحدون إليه } أي يميلون إليه بانه هو الذي يعلم محمد لسانه { أعجمي } لأنه عبد رومي ، { وهذا } أي القرآن { لسان عربي مبين } ذو فصاحة وبلاغة وبيان فكيف يتفق هذا مع ما يقولون أنهم يكذبون لا غير ، وقوله تعالى { إن الذين لا يؤمنون بآيات الله } وهي نور وهدى وحجج قواطع ، وبرهان ساطع { لا يهديهم } الى معرفة الحق وسبيل الرشد لأنهم أعرضوا عن طريق الهداية وصدوا عن سبيل العرفان وقوله { ولهم عذاب أليم } أي جزاء كفرهم بآيات الله . وقوله { إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون } أي إنما يختلق الكذب ويكذب فعلاً الكافر بآيات الله لأنه لا يرجو ثواب الله ولا يخاف عقابه ، فلذا . لا يمنعه شيء عن الكذب ، أم المؤمن فإنه يرجو ثواب الصدق ويخاف عقاب الكذب أبداً ، وبذا تعين ان النبي لم يفتر الكذب وإنما يفترى عقاب الكذب اولئك المكذبون بآيات الله وهم حقاً الكاذبون . وقوله تعالى : { ومن كفر بالله من بعد إيمانه الا من أكره } على التلفظ بالكفر { وقلبه مطمئن بالإيمان } لا يخامره شك ولا يجد اضطراباً ولا قلقاً فقال كلمة لفظاً فقط ، فهذا كعمار بن ياسر كانت قريش تكرهه على كلمة الكفر فأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في قولها بلسانه ولكن المستحق للوعيد الآتي { من شرح بالكفر صدراً } أي رضي بالكفر وطابت نفسه وهذا وأمثاله { فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم } أي باءوا بغضب الله وسخطه ولهم في الاخرة عذاب عظيم ، وعلل تعالى لهذا الجزاء العظيم بقوله { ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الاخرة } بكفرهم بالله وعدم إيمانهم به لما في ذلك من التحرر من العبادات ، فلا طاعة ولا حلال ولا حرام ، وقوله تعالى : { وإن الله لا يهدي القوم الكافرين } هذا وعيد منه تعالى سبق به علمه وان القوم الكافرين يحرمهم التوفيق للهداية عقوبة لهم على اختيارهم الكفر وإصرارهم عليه .
(2/323)
________________________________________
وقوه تعالى : { أولئك الذين طبع على قلوبهم } وعلى سمعهم وأبصارهم أولئك الذين توعدهم الله بعدم هدايتهم هم الذين طبع على قلوبهم فهم لا يفهمون { وسمعهم } فهم لا يسمعون المواعظ ودعاء الدعاة الى الله تعالى { وأبصارهم } فهم لا يبصرون آيات الله وحججه في الكون ، وما حصل لهم من هذه الحال سببه الإعراض المتعمد وإيثار الحياة الدنيا ، والعناد ، والمكابرة ، والوقوف في وجه دعوة الحق والصد عنها . وقوله { وأولئك هم الغافلون } أي عما خلقوا له ، وعما يراد لهم من نكال في الآخرة وعذاب أليم ، وقوله تعالى { لا جرم } أي حقاً { أنهم في الآخرة هم الخاسرون } المغبرنون حيث وجدوا أنفسهم في عذاب أليم دائم لا يخرجون منه ولا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون .
هداية الآياتمن هداية الآيات : 1- دفاع الله تعالى عن رسوله ودرء كل تهمة توجه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
2- المكذبون بآيات الله يحرمون هداية الله ، لأن طريق الهداية هو الايمان بالقرآن . فلما كفروا به فعلى أي شيء يهتدون .
3- المؤمنون لا يكذبون لإيمانهم بثواب الصدق وعقاب الكذب ، ولكن الكافرين هم الذين يكذبون لعدم ما يمنعهم من الكذب اذ لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً .
4- الرخصة في كلمة الكفر في حال التعذيب بشرط اطمئنان القلب الى الايمان وعدم انشراح الصدر بكلمة الكفر .
5- إيثار الدنيا على الاخرة طريق الكفر وسبيل الضلال والهلاك .
(2/324)
________________________________________
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
شرح الكلمات :
{ هاجروا } : اي الى المدينة .
{ من بعد ما فتنوا } : أي فتنهم المشركون بمكة فعذبوهم حتى قالوا كلمة الكفر مكرهين .
{ ان ربك من بعدها } : أي من بعد الهجرة والجهاد والجهاد والصبر على الإيمان والجهاد .
{ لغفور رحيم } : أي غفور لهم رحيم بهم .
{ يوم تأتي } : أي اذكر يا محمد يوم يأتي كل نفس تجادل عن نفسها .
{ مثلا قربة } : هي مكة .
{ رزقها رغداً } : أي واسعاً .
{ فكفرت بأنعم الله } : أي بالرسول والقرآن والأمن ورغد العيش .
{ فأذاقها الله لباس الجوع } : أي بسبب قحط اصابهم حتى أكلوا العهن لمدة سبع سنين .
{ والخوف } : حيث أصبحت سرايا الإسلام تغزوهم وتقطع عنهم سبل تجارتهم .
معنى الآيات :
بعدما ذكر الله رخصة كلمة الكفر عند الإكراه وبشرط عدم إنشراح الصدر بالكفر ذكر مخبراً عن بعض المؤمنين ، تخلفوا عن الهجرة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما ارادوا الهجرة منعتهم قريش وعذبتهم حتى قالوا كلمة الكفر ، ثم تمكنوا من الهجرة فهاجروا وجاهدوا وصبروا فأخبر الله تعالى عنهم بانه لهم مغفرة ورحمته ، فلا يخافون ولا يحزنون فقال تعالى { ثم إن ربك } أيها الرسول { للذين هاجروا من بعدما فتنوا } أي عذبوا { ثم جاهدوا وصبروا ان ربك من بعدها لغفور رحيم } أي غفور لهم رحيم بهم .
وقوله تعالى : { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها } أي اذكر واعظاً به المؤمنين أي تخاصهم طالبة النجاة لنفسها { وتوفى كل نفس ما عملت } أي من خيراً أو شر { وهم لا يظلمون } لا الله عدل لا يجوز في الحكم ولا يظلم ، وقوله تعالى : ( وضرب الله مثلاً قرية ، أي مكة { كانت آمنة } من غارات الأعداء { مطمئنة } لا ينتابها فزع ولا خوف ، لما جعل الله تعالى في قلوب العرب من تعظيم الحرم وسكانه ، { يأتيها رزقها رغداً } أي واسعاً { من كل مكان } حيث يأتيها من الشام واليمن في رحلتيهما في الصيف والشتاء { فكفرت بأنعم الله } وهي تكذيبها برسول الله صلى الله عليه وسلم وإنكارها للتوحيد ، وإصرارها على الشرك وحرب الإسلام { فأذاقها الله لباس الجوع } فدعا عليهم الرسول اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين السبع الشداد ، فأصابهم القحط سبع سنوات فجاعوا حتى اكلوا الجيف والعهن ، وأذاقها لباس الخوف إذ أصبحت سرايا الإسلام تعترض طريق تجارتها والخوف بسبب صنيعهم الفاسد وهو اضطهاد المؤمنين بعد كفرهم وشركهم وإصرارهم على ذلك . وقوله تعالى : { ولقد جاءهم رسول منهم } هو محمد صلى الله عليه وسلم ( فكذبوه ) أي اجحدوا رسالته وانكروا نبوته وحابروا دعوته { فأخذهم العذاب } عذاب الجوع والخوف والحال أنهم { ظالمون } أي مشركون وظالمون لأنفسهم حيث عرضوها بكفرهم الى عذاب الجوع والخوف .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- فضل الهجرة والجهاد والصبر ، وما تكفر هذه العبادات من الذنوب وما تمحو من خطايا .
2- وجوب التذكير باليوم الآخر وما يتم فيه من ثواب وعقاب للتجافي عن الدنيا والإقبال على الآخرة .
3- استحسان ضرب الأمثال من أهل العلم .
4- كفر النعم بسبب زوالها والانتقام من أهلها .
5- تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم في ما جاء به ، ولو بالإعراض عنه وعدم العمل به يجر البلاء والعذاب .
(2/325)
________________________________________
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
شرح الكلمات :
{ فكلوا } : أي أيها الناس .
{ حلالاً طيباً } : أي غير حرام ولا مستقذر .
{ واشكروا نعمة الله عليكم } : أي بعبادته وبالانتهاء الى ما أحل لكم عما حرمه عليكم .
{ إن كنتم إياه تعبدون } : أي إن كنتم تعبدونه وحده فامتثلوا أمره ، فكلوا مما أحل لكم وذروا ما حرم عليكم .
{ الميتة } : أي ما مات من الحيوان حتف أنفه من غير تذكية شرعية .
{ والدم } : أي الدم المسفوح السائل لا المختلط باللحم والعظم .
{ وما أهل لغير الله به } : أي ما ذكر عليه غير اسم الله تعالى .
{ غير باغٍ ولا عادٍ } : أي غير باغ على احد ، ولا عاد اي متجاوز حد الضرورة .
{ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب } : أي لا تحللوا ولا تحرموا بألسنتكم كذباً على الله فتقولوا هذا حلال وهذا حرام بدون تحليل ولا تحريم من الله تعالى .
{ وعلى الذين هادوا } : أي اليهود .
{ حرمنا ما قصصنا عليك من قبل } : أي في سورة الأنعام .
معنى الآيات :
امتن الله عز وجل على عباده ، فأذن لهم أن يكلوا مما رزقهم من الحلال الطيب ويشكروه على ذلك بعبادته وحده وهذا شأن من يعبد الله تعالى وحده ، فإنه يشكره على ما أنعم به عليه ، وقوله تعالى : { إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به } فلا ترحموا ما يحرم عليكم كالسائبة والبحيرة والوصيلة التي حرمها المشركون افتراء على الله وكذبا . وقوله { فمن اضطر } منكم أي خاف على نفسه ضرر الهلاك بالموت لشدة الجوع وكان { غير باغ } على أحد ولا معتد ما أحل له ما حرم عليه . فليأكل ما يدفع به غائلة الجوع ولا إثم عليه { فإن الله غفور رحيم } فيغفر للمضطر كما يغفر للتائب ويرحم المضطر فيأذن له في الأكل دفعاً للضرر رحمة به كما يرحم من أناب إليه .
وقوله : { ولا تقولوا لما تضف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب } أي ينهاهم عن التحريم والتحليل من تلقاء أنفسهم بأن يصفوا الشيء بأنه حلال أو حرام لمجرد قولهم بألسنتهم الكذب : هذا حلال وهذا حرام كما يفعل المشركون فحللوا وحرموا بدون وحي إلهي ولا شرع سماوي . ليؤول قولهم وصنيعهم ذلك الى الإفتراء على الله والكذب عليه . مع ان الكاذب على الله لا يفلح ابداً لقوله { إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل } وإن تمتعوا قليلاً في الدنيا بمال أو ولد أو عزة وسلطان فإن ذلك متاع قليل جداً ولا يعتبر صاحبه مفلحاً ولا فائزاً . فإن وراء ذلك العذاب الآخروي الأليم الدائم الذي لا ينقطع . وقوله تعالى : { وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل } يخاطب الله تعالى رسوله فيقول : كما حرمنا على هذه الأمة المسلمة الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله ، حرمنا على اليهود ما قصصنا عليك من قبل في سورة الانعام .
(2/326)
________________________________________
إذ قال تعالى { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها الا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما اختلط بعظم } . وحرم هذا الذي حرم عليهم بسبب ظلم منهم فعاقبهم الله فحرم عليهم هذه الطيبات التي أحلها لعباده المؤمنين . ولذا قال تعالى { وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- يجب مقابلة النعم بالشكر فمن غير العدل أن يكفر العبد نعم الله تعالى عليه قلا يشكره عليها بذكره وحمده وطاعته بفعل محابه وترك مساخطه .
2- بيان المحرمات من المطاعم وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله .
3- بيان الرخصة في الأكل من المحرمات المذكورة لدفع غائلة الموت .
4- حرمة التحريم والتحليل بغير دليل شرعي قطعي ولا ظني الا ما غلب على الظن تحريمه .
5- حرمة الكذب على الله وان الكاذب على الله لا يفلح في الآخرة وفلاحه في الدنيا جزيء 6- قد يحرم العبد النعم بسبب ظلمه فكم حرمت أمة الإسلام من نعم بسبب ظلمها في عصور انحطاطها .
(2/327)
________________________________________
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
شرح الكلمات :
{ ثم إن للذين عملوا السوء بجالهة } : اي ثم ان ربك غفور رحيم للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا .
{ من بعدها } : أي من بعد الجهالة والتوبة .
{ إن إبراهيم كان امة } : اي إماماً جامعاً لخصال الخير كلها قدوة يقتدى به في ذلك .
{ قانتاً لله حنيفاً } : اي مطيعاً لله حنيفاً : مائلاً الى الدين القيم الذي هو الإسلام .
{ اجتباه } : اي ربه اصطفاه للخلة بعد الرسالة والنبوة .
{ وآتيناه في الدنيا حسنة } : هي الثناء الحسن من كل أهل الأديان السماوية .
{ إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه } : أن اليهود أمروا بتعظيم الجمعة فرفضوا وأبوا الا السبت ففرض الله عليهم ذلك وشدد لهم فيه عقوبة لهم .
معنى الآيات :
بعدما نددت الآيات في سياق طويل بالشرك وإنكار البعث والنبوة من قبل المشركين الجاحدين المعاندين ، وقد أوشك سياق السورة على الانتهاء فتح الله تعالى باب التوبة لهم وقال : { ثم إن ربك } أي بالمغفرة والرحمة { للذين عملوا السوء بجهالة } فأشكروا بالله غيره وأنكروا وحيه وكذبوا بلقائه { ثم تابوا من بعد ذلك } فوحدوه تعالى بعبادته وأقروا بنبوة رسوله وآمنوا بلقائه واستعدوا له بالصالحات { وأصلحوا } ما كانوا قد أفسدوه من قلوبهم وأعمالهم وأحوالهم { إن ربك من بعدها } من بعد هذه التوبة والأوبة الصحيحة { لغفور رحيم } بهم . فكانت بشرى لهم على لسان كتاب ربهم . شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه الى صراط مستقيم . وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين . ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين } إنه لما كان من شبه المشركين انهم على دين أبيهم إبراهيم باني البيت وشارع المناسك ومحرم الحرم ، واليهود والنصارى كذلك يدعون أنهم على ملة إبراهيم فأصر الجميع على أنه متبع لملة إبراهيم وأنه على دينه ورفضوا الإسلام بدعوى ما هم هو دين اله الذي جاء به إبراهيم أبو الأنبياء عليه السلام ، ومن باب إبطال الباطل وإزاحة ستار الشبه وتنقية الحق لدعوة الحق والدين الحق ذكر تعالى جملة من حياة إبراهيم الروحية والدينية كمثال حي ناطق لكل عاقل إذا نظر اليه عرف هل هو متبع لإبراهيم يعيش على ملته أو هو على غير ذلك . فقال تعالى { إن إبراهيم كامة أمة } أي أماماً صالحاً جامعاً لخصال الخير ، يقتدي به كل راغب في الخير . هذا أولاً وثانياً انه كان قانتاً أي مطيعاً لربه فلا يعصى له امراً ولا نهياً ثالثاً لم يك من المشركين بحال من الأحوال بل هو برئ من الشرك وأهله ، ورابعاً كان شاكراً لأنعم الله تعالى عليه أي صارفاً نعم الله فيما يرضي الله ، خامساً اجتباه ربه أي اصطفاه لرسالته وخلته لأنه أحب الله أكثر من كل شيء فتخلل حب الله قلبه فلم يبق لغيره في قلبه مكان .
(2/328)
________________________________________
فخالة الله أي بادلة خلة فكان خليل الرحمن . سادساً وهداه الى صراط مستقيم الذي هو الإسلام ، سابعاً وآتاه في الدنيا حسنة وهي الثناء الحسن والذكر الجميل من جميع أهل الأديان الإلهية الأصل . ثامناً وأنه في الآخرة لمن الصالحين الذين قال الله تعالى فيهم : اعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وهي منزلة من أشرف المنازل وأسماها . تاسعاً مع جلال قدر النبي محمد صلى الله عليه وسلم ورفعة مكانته أمره الله تعالى أن يتبع ملة إبراهيم حنيفاً .
هذا هو إبراهيم فمن أحق بالنسبة إليه ، المشركون ؟ لا! اليهود ؟ لا ، النصارى ؟ لا! المسلمون الموحدون ؟ نعم نعم اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم وأكرمنا يوم تكرمهم .
وقالى تعالى : { إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه } فيه دليل على بطلان دعوى اليهود أنهم على ملة إبراهيم ودينه العظيم ، إذ تعظيم السبت لم يكن من دين إبراهيم ، وإنما سببه ان الله تعالى اوحى الى أحد انبيائهم ان يأمر بني إسرائيل بتعظيم الجمعة فاختلفوا في ذلك وآثروا السبت عناداً ومكابرة فكتب الله عليهم تعظيم السبت . وقوله { وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } فيه وعد لهم وأنه سيجزيهم سوءاً على تمردهم على أنبيائهم واختلافهم عليهم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- باب التوبة مفتوح لكل ذي ذنب عظم أو صغر على شرط صدق التوبة بالاقلاع الفوري والندم والاستغفار الدائم وإصلاح الفاسد .
2- تقرير التوحيد والإعلان من شأن إبراهيم عليه السلام وبيان كمالاته وإنعام الله عليه .
3- بيان أن سبت اليهود هو من نقم الله عليهم لا من نعمه وافضاله عليهم .
(2/329)
________________________________________
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
شرح الكلمات :
{ إلى سبيل ربك } : أي الى طاعته إذ طاعة الله موصلة الى رضوانه وإنعامه فهي سبيل الله .
{ بالحكمة } : أي بالقرآن والمقالة المحكمة الصحيحة ذات الدليل الموضح للحق .
{ والموعظة الحسنة } : هي مواعظ القرآن ، والقول الرقيق الحسن .
{ وجادلهم بالتي هي أحسن } : أي بالمجادلة التي هي أحسن من غيرها .
{ لهو خير للصابرين } : أي خيرٌ من الانتقام عاقبة .
{ ولا تك في ضيق مما يمكرون } : أي لا تهتم بمكرهم ، ولا يضيق صدرك به .
{ مع الذين اتقوا } : أي اتقوا الشرك والمعاصي .
{ والذين هم محسنون } : أي في طاعة الله ، ومعيته تعالى هي نصره وتأييده لهم في الدنيا .
معنى الآيات :
يخاطب الرب تعالى رسوله تشريفاً وتكليفاً : { ادع الى سبيل ربك } أي الى دينه وهو الإسلام سائر الناس ، وليكن دعاؤك { بالحكمة } التي هي القرآن الكريم الحكيم . { والموعظة الحسنة } وهي مواعظ القرآن وقصصه وأمثاله ، وترغيبه وترهيبه ، { وجادلهم بالتي هي أحسن } أي خاصمهم بالمخاصمة التي هي أحسن وهي الخالية من السب والشتم والتعريض بالسوء ، فإن ذلك ادعى لقبول الخصم الحق وما يدعى اليه ، وقوله تعالى : { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله } من الناس { وهو أعلم بالمهتدين } وسيجزيهم المهتدي بهداه ، والضال بضلاله ، كما هو أعلم بمن ضل واهتدى أزلاً . فهون على نفسك ولا تشطط في دعوتك فتضر بنفسك ، والأمر ليس إليك . بل لربك يهدي من يشاء ويضل من يشاء وما عليك الا الدعوة بالوصف الذي وصف لك ، بالحكمة والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، وقوله تعالى { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } لا أكثر ، { ولئن صبرتم } وتركتم المعاقبة { لهو } أي صبركم { خيرٌ } لكم من المعاقبة على الذنب والجناية ، وقوله تعالى : { واصبر } على ترك ما عزمت عليه أيها الرسول من التمثيل بالمشركين جزاء تمثيلهم بعمك حمزه ، فأمره بالصبر ولازمه ترك المعاقبة والتمثيل معاً ، وقوله : { وما صبرك الا بالله } أي إلا بتوفيقه وعونه ، فكن مع ربك تستمد منه الصبر كما تستمد منه العون والنصر ، وقوله تعالى : { ولا تحزن عليهم } أي على عدم اهتدائهم الى الحق والأخذ به والسير في طريقة الذي هو الإسلام { ولا تك في ضيق } نفسي يؤلمك { مما يمكرون } بك فإن الله تعالى كافيك مكرهم وشرهم إنه معك فلا تخف ولا تحزن لأنه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، وأنت منهم . وقوله ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) يخبر تعالى رسوله والمؤمنين أنه عزوجل بنصره وتأييد ومعونته وتوفيقه مع الذين اتقوا الشرك والمعاصي فلم يتركوا فرائض دينه ، ولم يغشوا محارمه والذين هم محسنون في طاعة ربهم اخلاصاً في النية والقصد ، وأداء على نحو ما شرع الله وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وجوب الدعوة الى الله تعالى أي الى الإسلام وهو واجب كفائى ، إذا قامت به جماعة أجزأ ذلك عنهم .
2- بيان اسلوب الدعوة وهو أن يكون بالكتاب والسنة وأن يكون خالياً من العنف والغلظة والشدة ، وأن تكون المجادلة بالتي هي أحسن من غيرها .
3- جواز المعاقبة بالأخذ بقدر ما أخذ من المرء ، وتركها صبراً واحتساباً أفضل .
4- معية الله تعالى ثابتة لأهل التقوى والإحسان ، وهي معية نصر وتأييد وتسديد .
(2/330)
________________________________________
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
شرح الكلمات :
{ سبحان } : أي تنزه وتقدس عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله وهو الله جل جلاله .
{ بعبده } : أي بعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم .
{ من المسجد الحرام } : أي الذي بمكة .
{ الى المسجد الأقصى } : أي الذي ببيت المقدس .
{ من آياتنا } : أي من عجائب قدرتنا ومظاهرها في الملكوت الأعلى .
معنى الآية الكريمة :
نزه الرب تبارك وتعالى نفسه عما نسب إليه المشركون من الشركاء والبنات وصفات المحدثين ، فقال : { سبحان الذي أسرى بعبده } أي محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم القرشي العدناني « ليلاً من المسجد الحرام » أي بالليل من المسجد الحرام بمكة اذا خرج من بيت أم هانئ وغسل قلبه بماء زمزم وحشي إيماناً وحكمة ، ثم أسرى به من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى بيت المقدس ، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه جمع الله تعالى له الانبياء في المسجد الأقصى وصلى بهم إماماً فكان بذلك إمام الأنبياء وخاتمهم ثم عرج به الى السماء سماء يجد في كل سماء مقربيها الى أن انتهى الى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى ثم عرج به الى ان انتهى الى مستوى سمع فيه صرير الأقلام وقوله تعالى : { الذي باركنا حوله } أي حول المسجد الأقصى معنى حوله خارجة وذلك بالأشجار والأنهار والثمار أما داخلة فالبركة الدينية بمضاعفة الصلاة فيه أي أجرها اذ الصلاة فيه بخمسمائة صلاة أجراً ومثوبة وقوله تعالى { لنريه من أياتنا } تعليل للاسراء والمعراج وهو أنه تعالى اسرى بعبده وعرج به ليريه من عجائب صنعه في مخلوقاته في الملكوت الأعلى ، وليكون ما عمله من طريق الوحي قد عمله بالرؤية والمشاهدة . وقوله تعالى { إنه هو السميع البصير } يعني تعالى نفسه بأنه هو السميع لأقوال عباده البصير باعمالهم وأحوالهم فاقتضت حكمته هذا الاسراء العجيب ليزداد الذين آمنوا إيماناً وليرتاب المرتابون ويزدادون كفراً وعناداً .
هداية الآية الكريمة :
من هداية الآية الكريمة :
1- تقرير عقيدة الإسراء والمعراج بالنبي صلى الله عليه وسلم بالروح والجسد معاً من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى ، ثم الى السماوات العلى ، الى مستوى سمع فيه صرير الأقلام وأوحى إليه تعالى ما اوحى وفرض عليه وعلى أمته الصلوات الخمس .
2- شرف المساجد الثلاثة : الحرام ، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، والمسجد الأقصى أما المسجدان الحرام والأقضى فقد ذكرا بالنص وأما مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ذكر بالاشارة والإيماء إذ قول الأقصى يقتضي قصياً ، فالقصي هو المسجد النبوي والأقصى هو مسجد بيت المقدس .
3- بيان الحكمة في الأسراء والمعراج وهي أن يرى الرسول صلى الله عليه وسلم بعيني رأسه ما كان آمن به وعلمه من طريق الوحي فاصبح الغيب لدى رسول الله شهادة .
(2/331)
________________________________________
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
شرح الكلمات :
{ وآتينا موسى الكتاب } : أي التوراة .
{ وجعلناه هدى } : أي جعلنا الكتاب أو موسى هدى أي هادياً لبني إسرائيل .
{ وكيلاً } : أي حفيظاً أو شريكاً .
{ من حملنا } : أي في السفينة .
{ وقضينا } : أي أعلمناهم قضاء نافيهم .
{ في الكتاب } : أي التوارة .
{ علواً كثيراً } : أي بغياً عظيماً .
{ أولاهما } : أي أولى المرتين .
{ فجاسوا خلال } : أي ترددوا جائين ذاهبين وسط الديار يقتلون ويفسدون .
{ وعداً مفعولاً } : أي منجزاً لم يتخلف .
معنى الآيات :
يخبر تعالى أنه هو الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى وأنه هو الذي آتى موسى الكتاب أي التوارة فهو تعالى المتفضل على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أمته بالإسراء به والمعراج وعلى موسى بإعطائه الكتاب ليكون هدى وبياناً لبني إسرائيل فهو متفضل أيضاً على بني إسرائيل فله الحمد وله المنة .
وقوله : { جعلناه } أي الكتاب { هدى } أي بياناً لبني إسرائيل يهتدون الى سبل الكمال والاسعاد وقوله : { الا تتخذوا من دوني وكيلاً } أي آتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل من أجل الا يتخذوا من غيري حفيظاً لهم يشركونه بي التوكل عليه وتفويض أمرهم إليه ناسين لي وأنا ربهم وولي نعمتهم . وقوله تعالى : { ذرية من حملنا مع نوح } أي يا ذرية من حملنا مع نوح اشكورني كما شكرني نوح على انجائي إياه في السفينة مع أصحابه فيها ، إنه أي نوحاً { كان عبداً شكوراً } فكونوا انتم مثله فاشكروني بعبادتي ووحدوني ولا تتركوا طاعتي ولا تشركوا بي سواي .
وقوله تعالى { وقضينا الى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدون في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً } يخبر تعالى بأنه أعلم بني إسرائيل بقضائه فيهم وذلك في كتابهم التوارة أنهم يفسدون في الأرض بارتكاب المعاصي وغشيان الذنوب ، ويعلون في الأرض بالجراءة على الله وظلم الناس { علواً كبيراً } أي عظيماً . ولا بد أن ما قضاه وقوله تعالى : { فإذا جاء وعد أولهما } أي وقت المرة الأولى وظلموا بانتهاك حدود الشرع والإعراض عن طاعة الله تعالى حتى قتلوا نبيهم « أرميا » عليه السلام وكان هذا على يد الطاغية جالوت فغزاهم من أرض الجزيرة ففعل بهم مع جيوشه ما أخبر تعالى به في قوله : { فجاسوا خلال الديار } ذاهبين جائين قتلاً وفتكاً وإفساداً نقمة الله على بني إسرائيل لإفسادهم وبغيهم البغي العظيم .
ووقوله تعالى : { وكان وعداً مفعولاً } أي ما حصل لهم في المرة الأولى من الخراب والدمار ومن أسبابه كان بوعد من الله تعالى منجزاً فوفاة لهم ، لأنه قضاه وأعلمهم به في كتابهم . وقوله : { ثم رددنا لكم الكرة عليهم } أي بعد سنين طويلة وبنو إسرائيل مضطهدون مشردون نبتت منهم نابتة وطالبت بأن يعين لهم ملكاً يقودهم الى الجهاد وكان ذلك كما تقدم في سورة البقرة جاهدوا وقتل داود جالوت وهذا معنى { ثم رددنا لكم الكرة عليهم } وقوله : { وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً } أي رجالاً في الحروب وكثرت أموالهم وأولادهم وتكونت لهم دولة سادت العالم على عهد داود وسليمان عليهما السلام .
(2/332)
________________________________________
هداية الآيات :
1- بيان إفضال الله تعالى على الامتين الاسلامية والاسرائيلية .
2- بيان سر إنزال الكتب وهو هداية الناس الى عبادة الله تعالى وتوحيده فيها .
3- وجوب شكر الله على نعمه إذ كان نوح عليه السلام إذا أكل الأكلة قال الحمد لله ، وإذا شرب الشربة قال الحمد لله ، وإذا لبس حذاءه قال الحمد لله وإذا قضى حاجة قال الحمد لله فسمى عبداً شكوراً وكذا كان رسول الله والصالحون من أمته الى اليوم .
4- ما قضاء الله تعالى كائن ، وما وعد به ناجز ، والايمان بذلك واجب .
5- التنديد بالإفساد والظلم والعلو في الأرض ، وبيان سوء عاقبتها .
(2/333)
________________________________________
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
شرح الكلمات :
{ إن احسنتم } : أي طاعة الله وطاعة رسوله بالاخلاص فيها وبأدائها على الوجه المشروع لها .
{ أحسنتم لأنفسكم } : أي أن الأجر والمثوبة والجزاء الحسن يعود عليكم لا على غيركم .
{ وإن أساءتم } : أي في الطاعة فإلى أنفكسم سوء عاقبة الإساءة .
{ وعد الآخرة } : أي المرة الآخرة المقابلة للأولى وقد تقدمت .
{ ليسوءوا وجوهكم } : اي يقبحوها بالكرب واسوداد الحزن وهم الذل .
{ وليتبروا ما علو تيبيرا } : أي وليدمروا ما غلبوا عليه من ديار بني إسرائيل تدميراً .
{ وإن عدتم عدنا } : أي وأن رجعتم الى الفساد والمعاصي عدنا بالتسليط عليكم .
{ حصيراً } : أي محبساً وسجناً وفراشهم يجلسون عليها فهي من فوقهم ومن تحتهم .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الحديث عن بني إسرائيل فبعد ان أخبرهم تعالى بما حكم به عليهم في كتابهم أنهم يفسدون في الأرض مرتين ويعلون علواً كثيراً . وأنه اذ جاء مقيات أولى المرتين بعث عليهم عباداً أشداء أقوياء وهم جالوت وجنوده فقتلوهم وسبوهم ، أنه تعالى رد لهم الكرة عليهم فانتصروا عليهم وقتل داود جالوت وتكونت لهم دولة عظيمة كانت أكثر الدول رجالاً واوسعها سلطاناً وذلك لرجوعهم الى الله تعالى بتطبيق كتابه والتزام شرائعه وهناك قال تعالى لهم : { إن أحسنتم احسنتم لأنفسكم } أي أن أحسنتم باتباع الحق والتزام الطاعة لله ورسوله بفعل المأمورات واجتناب المنهيات والأخذ بسنن الله تعالى في الاصلاح البشري ان أساتم بتعطيل الشريعة والانغماس في الملاذ والشهوات فإن نتائج ذلك عائدة على أنفسكم حسب سنة الله تعالى : { ومن يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً } وقوله تعالى : { فإذا جاء وعد الآخرة } أي وقتها لها ، وهي المرة الآخرة بعد الأولى بعث أيضاً عليهم عباداً له وهم بختنصر وجنوده بعثهم عليهم ليسودوا وجوههم بما يصيبونهم به من الهم والحزن والمهانة والذل { وليدخلوا المسجد } أي بيت المقدس كما دخلوه أول مرة { وليتبروا } أي يدمروا ما علو أي ما غلبوا عليه من ديارهم ( تتبيرا ) أي تدميراً كاملاً وتحطيما تاماً وحصل لهم هذا لما قتلوا زكريا ويحيى عليهما السلام وكثيراً من العلماء وبعد أن ظهر فيهم الفسق وفي نسائهم التبرج والفجور واتخاذ الكعب العالي . كما اخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقوله تعالى : { عسى ربكم ان يرحمكم } فهذا خير عظيم لهم لو طلبوه بصدق لفازوا به ولكنهم أعرضوا عنه وعاشوا على التمرد على الشرع والعصيان لله ورسله . وقوله وإن عدتم عدنا أي وإن عدتم الى الفسق والفجور عدنا بتسليط من نشاء من عبادنا فانجزهم الله تعالى ما وعدهم فسلط عليهم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فاجلى بني قينقاع وبني النضير من المدنية وقتل بني قريضة كما سلط عليهم ملوك أروبا فطاردهم وساموهم الخسف وأذاقوهم سوء العذاب في قرون طويلة وقوله تعالى : { وجعلنا للكافرين حصيراً } أي كان عذاب الدنيا بالتسلط على الظالمين وسلبهم حريتهم وإذاقتهم عذاب القتل والأسر والتشريد فإن عذاب الآخرة هو الحبس والسجن في جهنم تكون حصيراً للكافرين لا يخرجون منها للكافرين أي الذين يكفرون شرائع الله ونعمه عليهم بتعطيل الأحكام وتضييع الفرائض وإهمال السنن والانغماس في الملاذ والشهوات .
(2/334)
________________________________________
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- صدق وعد الله تعالى .
2- تقرير نبوة النبي صلى الله عليه وسلم اذ مثل هذه الأنباء لا يقصها الا نبي يوحى إليه .
4- وجوب الرجاء في الله وهو انتظار الفرج والخير منه وان طال الزمن .
5- قد يجمع الله تعالى للكافرين بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، وكذا الفاسقون من المؤمنين .
(2/335)
________________________________________
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
شرح الكلمات :
{ للتي هي اقوم } : أي الطريقة التي هي أعدل وأصوب .
{ إن لهم أجراً كبيراً } : أنه الجنة دار السلام .
{ اعتدنا لهم كبيراً } : انه عذاب النار يوم القيامة .
{ ويدع الانسان بالشر } : أي على نفسه وأهله إذا هو ضجر وغضب .
{ وكان الانسان بالشر } : أي سريع التأثر بما يخطر على باله فلا يتروى ولا يتأمل .
{ آيتين } : أي علامتين دالتين على وجود الله وقدرته وعلمه ورحمته وحكمته .
{ فمحونا آية الليل } : أي طمسنا نورها بالظلام الذي يعقب غياب الشمس .
{ عدد السنين والحساب } : أي عدد السنين وانقضائها وابتداء دخولها وحساب ساعات النهار والليل وأوقاتها كالايام والأسابيع والشهور .
معنى الآيات :
يخبر تعالى ان هذا القرآن الكريم الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليع وسلم الذي أسرى به ليلاً من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى يهدي بما فيه من الدلائل والحجج والشرائع والمواعظ للطريقة والسبيل التي هي أقزم أي أعدل واقصد من سائر الطرق والسبيل انها الدين القيم الإسلام سبيل السعادة والكمال في الدارين ، { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي وبشر القرآن الذين أمنوا بالله ورسوله ولقاء الله ووعده ووعيده وعملوا الصالحات وهي الفرائض والنوافل بعد تركهم الكبائر والمعاصي بأن لهم أجراً كبيراً الا وهو الجنة ، كما يخبر الذين لا يؤمنون بالآخرة ان الله تعالى أعد أي هيأ لهم عذاباً أليماً في جهنم .
وقوله تعالى { ويدع الانسان بالشر دعاءه بالخير } يخبر تعالى عن الانسان في ضعفه وقلة إدراكه لعواقب الأمور من أنه اذا ضجر او غضب يدعو على نفسه وأهله بالشر غير مفكر في عاقبة دعائه لو استجاب الله تعالى له . يدعو بالشر دعاءه بالخير أي كدعائه بالخير ، وقوله : { وكان الانسان عجولاً } أي كثير العجلة يستعجل في الأمور كلها هذا طبعه ما لم يتأدب بآداب القرآن ويتخلق بأخلاقه فإن هو استقام على منهج القرآن تبدل طبعه وأصبح ذا توارة وحلم وصبر وأناة . وقوله تعالى : { وجعلنا الليل والنهار آيتين } أي علامتين على وجودنا وقدرتنا وعلمنا وحكمتنا ، وقوله { فمحونا آية الليل } أي بطمس نورها ، وجعلنا آية النهار مبصرة أي مضيئة وبين علة ذلك بقوله : { لتبتغوا فضلاً من ربكم } أي لتطلبوا رزقكم بالسعي والكسب في النهار ، هذا من جهة ومن جهة اخرى { لتعلموا عدد السنين والحساب } أي عدد السنين وانقضائها وابتداء دخولها وحساب ساعات النهار والليل وأوقاتها كالايام والاسابيع والشهور . لتوقف مصالحكم الدينية والدنيوية على ذلك . وقوله تعالى : { وكل شيء فصلناه تفصيلاً } أي وكل يحتاج اليه في كمال الانسان وسعادته بيناه تبيناً أي في هذا الكتاب الذي يهدي للتي هي أقوم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان فضل القرآن الكريم ، بهدايته الى الاسلام الذي هو سبيل السعادة للانسان .
2- الوعد والوعيد بشارة المؤمنين العاملين للصالحات ، ونذارة الكافرين باليوم الآخر .
3- بيان طبع الانسان قبل تهذيبه بالآداب القرآنية والأخلاق النبوية .
4- كون الليل والنهار آيتين تدلان على الله تعالى وتقرران علمه وقدرته وتدبيره .
5- مشروعية علم الحساب وتعلمه .
(2/336)
________________________________________
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
شرح الكلمات :
{ طائره } : أي عمله وما قدر له من سعادة وشقاء .
{ في عنقه } : أي ملازم له لا يفارقه حتى يفرغ منه .
{ عليك حسيبا } : أي كفى نفسك حاسباً عليك .
{ ولا تزر وازرة وزر اخرى } : أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى .
{ مترفيها } : منعميها من أغنياء ورؤساء .
{ فحق عليها القول } : أي بالعذاب .
{ وكم أهلكنا } : أي اهاكنا كثيراً .
{ من القرون } : أي من أهل القرون السابقة .
{ خبيرا بصيرا } : أي عليماً بصيرا بذنوب العباد .
معنى الآيات :
يخبر تعالى أنه عزوجل لعظيم قدرته ، وسعة علمه ، وحكمته في تدبيره ألزم كل انسان ما قضى به له من عمل وما يترتب على العمل من سعادة أو شقاء في الدراين ، الزمه ذلك بحيث لا يخالفه ولا يتأخر عنه بحال حتى كأنه مربوط بعنقه . هذا معنى قوله تعالى : { وكل انسان ألزمناه طائره في عنقه } . وقوله تعالى : { ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً } أي وفي يوم القيامة يخرج الله تعالى لكل انسان كتاب عمله فيلقاه منشوراً أي مفتوحاً أمامه . ويقال له : إقرأ كتابك الذي أحصى لك عملك كله فلم يرد يغادر صغيرة ولا كبيرة . وقوله : { كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } أي يكفيك نفسك حاسباً لأعمالك محصياً لها عليك أيها الأنسان . وقوله تعالى : { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه } ، أي بعد هذا الإعلام والبيان ينبغي ان يعلم ان من اهتدى اليوم فآمن بالله ورسوله ، ولقاء الله ، ووعده ووعيده وعمل صالحاً وتخلى عن الشرك والمعاصي فإنما عائد ذلك له ، هو الذي ينجو من العذاب ، ويسعد في دار السعادة ، وان من ضل طريق الهدى فكذب ولم يؤمن ، وأشرك ولم يوحد ، وعصى ولم يطع فإن ذلك الضلال عائد عليه ، هو الذي يشقى به ويعذب في جهنم دار العذاب والشقاء . وقوله { ولا تزر وازرة وزر اخرى } الوزر الإثم والذنب والوازرة الحاملة له لتؤخذ به ومعنى الكلام ولا تحمل يوم القيامة نفس آثمة إثم نفس أخرى ، بل كل نفس تتحمل مسئوليتها بنفسها ، والكلام تقرير لقوله : { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها } . وقوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } أي لم يكن من شأن الله تعالى وهو العدل الرحيم أن يهلك أمة بعذاب إبادة واستئصال قبل أن يبعث فيها رسولاً يعرفها بربها وبمحابة ومساخطه ، ويأمرها بفعل المحارب وترك المساخط التي هي الشرك والمعاصي . وقوله تعالى : { وإذا أردنا أن نهلك قربة } أي أهل قرية { أمرنا مترفيها } أي أمرنا منعميها من اغنياء ورؤساء وأشراف من أهل الحل والعقد أمرناهم بطاعتنا بإقامة الشرع وأداء الفرائض والسنن واجتناب كبائر الإثم والفواحش فلم يستجيبوا للأمر ولا للنهي وهو معنى { ففسقوا فيها فحق عليها القول } أي وجب عليها العذاب { فدمرناها تدميراً } أي اهلكناها إهلاكاً كاملاً ، وهذا الكلام بيان لقوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } إذ الرسول يامر وينهى بإذن الله تعالى فإن لم يطع استوجب الناس العذاب فعذبوا .
(2/337)
________________________________________
وقوله تعالى : { وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح } هو تقرير لهذا الحكم أيضاً إذ علمنا تعالى ان ما اخبر به كان واقعاً بالفعل فكثيراً من الأمم اهلكها من بعد هلاك قوم نوح كعاد وثمود وقوم لوط واصحاب الأيكة وآل فرعون . . وقوله : { وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً } : فإن القول وإن تضمن علم الله تعالى بذنوب عباده فإن معناه الوعيد الشديد والتهديد الأكيد ، فإنه تعالى لا يرضى باستمرار الجرائم والآثام انه يمهل لعل القوم يستفيقون ، لعل الفساق يكفون ، ثم اذا استمروا بعد الاعلام إليهم والتنديد بذنوبهم والتخويف بظلمهم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر . الا فليحذر ذلك المصرون على الشرك والمعاصي!!
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة القضاء والقدر .
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
3- تقرير العدالة الإلهية يوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً .
4- بيان سنة الله تعالى في إهلاك الأمم غير انها لا تهلك الا بعد الإنذار والاعذار إليها .
5- التخدير من كثرة التنعم والترف فإنه يؤدي الى الفسق بترك الطاعة ثم يؤدي الفسق الى الهلاك والدمار .
(2/338)
________________________________________
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
شرح الكلمات
{ العاجلة } : أي الدنيا لسرعة انقضائها .
{ يصلاها مذموماً مدحور } : أي يدخلها ملوماً مبعداً من الجنة .
{ وسعى لها سعيها } : أي عمل لها العمل المطلوب لدخولها وهو الايمان والعمل الصالح .
{ كان سعيهم مشكورا } : أي عملهم مقبولاً مثاباً عليه من قبل الله تعالى .
{ كلا نمد هؤلاء وهؤلاء } : أي كل فريق من الفريقين نعطي .
{ وما كان عطاء ربك محظورا } : أي لم يكن عطاء الله في الدنيا محظوراً أي ممنوعاً عن أحد .
{ كيف فضلنا بعضهم على بعض } : اي في الرزق والجاه .
{ لا تجعل مع الله إلهاً آخر } : أي لا تعبد مع الله تعالى غيره من سائر المعبودات الباطلة .
{ فتقعد ملوماً مخذولاً } : أي فتصير مذموماً من الملائكة والمؤمنين مخذولاً من الله تعالى .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في أخبار الله تعالى الصادقة والمتضمنة لأنواع من الهدايات الإلهية التي لا يحرمها الا هالك ، فقال تعالى في الآية الكريمة ( 18 ) { من كان يريد العاجلة } أي الدنيا { عجلنا له فيها ما نشاء } ، لا ما يشاؤه العبد ، وقوله { لمن نريد } لا من يريد غيرنا فالأمر كله لنا ، { ثم } بعد ذلك { جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً } اي ملوما { مدحوراً } أي مطروداً من رحمتنا التي هي الجنة دار الأبرار أي المطعين الصادقين . وقوله تعالى في الآية الثانية ( 19 ) { ومن أراد الآخرة } يخبر تعالى ان من أراد الآخرة أس سعادة الآخرة { وسعى لها سعيها } أي عمل لها عملها اللائق بها وهو الإيمان الصحيح والعمل الصالح الموافق لما شرع الله في كتابه وعلى لسان رسوله ، واجتنب الشرك والمعاصي وقوله { وهو مؤمن } قيد في صحة العمل الصالح أي لا يقبل من العبد صلاة ولا جهاد الا بعد إيمانه بالله ورسوله وبكل ما جاء به رسوله وأخبر به من الغيب .
وقوله { فأولئك } أي المذكورن بالايمان والعمل الصالح { كان سعيهم مشكوراً } أي كان عملهم متقبلاً يثابون عليه بالجنة ورضوان الله تعالى . وقوله تعالى : { كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً } أي أن كلا من مريدي الدنيا ومريدي الآخرة يمد الله هؤلاء وهؤلاء من عطائه أي فضله الواسع فالكل يأكل ويشرب ويكتسي بحسب ما قدر له من الضيق والوسع ثم يموت وثم يقع التفاضل بحسب السعى الفاسد أو الصالح وقوله { وما كان عطاء ربك محظوراً } يعنى ان من أراد الله إعطاءه شيئاً لا يمكن لأحد أن يصرفه منه ويحرمه منه بحال من الأحوال وقوله تعالى : { أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض } أي انظر يا رسولنا ومن يفهم خطابنا كيف فضلنا بعض الناس على بعض في الرزق الذي شمل الصحة والعافية والمال والذرية والجاه ، فإذا عرفت هذا فاعرف ان الاخرة أكبر درجات واكبر تفضيلا وذلك عائد الى فضل الله اولاً ثم الى الكسب صلاحاً وفساداً وكثرة وقلة كما هي الحال أيضاً في الدنيا فبقدر كسب الإنسان الصالح للدنيا يحصل عليها ولو كان كافراً لقوله تعالى من سورة هود
(2/339)
________________________________________
{ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم اعمالهم وهم فيها لا يبخسون } أي لا ينقصون ثمرات عملهم لكونهم كفاراً مشركين .
وقوله تعالى : { لا تجعل مع الله إلهاً آخر } أي لا تجعل يا رسولنا مع الله إلهاً اخر تؤمن به وتعبده وتقرر إلهيته دوننا فإنك ان فعلت - وحاشاه ان يفعل لان الله لا يريد له ذلك { فتقعد في جهنم مذموماً } اي ملوماً يلومك الؤمنون والملائكة مخذولاً من قبل ربك لا ناصر لك والسياق وان كان في خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم فإن المراد به كل انسان فالله تعالى ينهى عبده ان يعبد معه غيره فيترتب على ذلك شقاؤة والعياذ بالله تعالى .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- كلا الدارين السعادة فيها أو الشقاء متوقف على الكسب والعمل هذه سنة الله تعالى في العباد .
2- سعى الدينا التجارة والفلاحة والصناعة .
3- سعى الاخرة الايمان وصالح الأعمال والتخلية عن الشرك والمعاصي .
4- يعطي الله تعالى الدنيا من يحب ومن لا يحب وعطاؤه قائم على سنن له في الحياة يجب معرفتها والعمل بمقتضاها لمن أراد الدنيا والآخرة .
5- ما اعطاه الله لا يمنعه أحد فوجب التوكل على الله والاعراض عما سواه .
6- تحريم الشرك والوعيد بالخلود في نار جهنم .
(2/340)
________________________________________
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
شرح الكلمات :
{ وقضى ربك } : اي امر وأوصى .
{ وبالوالدين إحساناً } : أي وان تحسنوا بالوالدين إحساناً وذلك ببرورهما .
{ فلا تقل لهما أف } : أي تبأ أو قبحاً أو خسراناً .
{ ولا تنهمرهما } : أي ولا تزجرهما بالكلمة القاسية .
{ قولاً كريما } : جميلاً ليناً .
{ جناح الذل } : أي ألن لهما جانبك وتواضع لهما .
{ كان للأوابين } : أي الرجاعين الى الطاعة بعد المعصية .
{ وآت ذا القربى } : أي اعط أصحاب القرابات حقوقهم من البر والصلة .
{ ولا تبذر تبذيرا } : أي ولا تنفق المال في غير طاعة الله ورسوله .
{ لربه كفورا } : أي كثير الكفر كبيرهُ لنعم ربه تعالى ، فكذلك المبذر اخوه .
معنى الآيات :
لما حرم الله تعالى الشرك ونهى عنه رسوله بقوله { ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً } أمر بالتوحيد فقال : { وقضى ربك } أي حكم وأمر ووصى { ألا تعبدوا الا إياه } أي بأن لا تعبدوا الا الله عزوجل ، وقوله تعالى : { وبالوالدين إحساناً } أي وأوصى بالوالدين وهما الأم والأب إحساناً وهو برهما وذلك بإيصال الخير إليهما وكف الأذى عنهما ، وطاعتهما في غير معصية الله تعالى . وقوله تعالى : { إما يبلغن عندك الكبر أحدهما او كلاهما فلا تقل لهما اف ولا تنهمرهما } أي ان يبلغ سن الكبر عندك واحد منهما الاب او الام او يكبران معاً وانت حي موجود بينهما في هذه الحال يجب ان تخدمهما خدمتهما لك وأنت طفل فتغسل بولهما وتطهر نجاستها وتقدم لهما ما يحتاجان اليه ولا تتتضجر او تتأفف من خدمتهما كما كانا هما يفعلان ذلك معك وأنت طفل تبول وتخرأ وهما يغسلان وينظفان ولا يتضجران أو يتأففان ، وقوله : { ولا تنهمرهما } اي لا تزجرهما بالكلمة العالية النابية { وقل لهما قولاً كريماً } أي جميلاً سهلاً لينا يشعران معه الكرامة والاكرام لهما وقوله تعالى : { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } أي ألن لهما وتطامن وتعطف عليهما وترحم . وادع لهما طوال حياتك بالمغفرة والرحمة ان كانا موحدين ( وماتا على ذلك لقوله تعالى : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى } وهو معنى قوله تعالى : { وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا } ، وقوله تعالى : { ربكم أعلم بما في نفوسكم ان تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفوراً } يخبر تعالى أنه أعلم بنا من أنفسنا فمن كان يضمر عدم الرضاء عن والديه والسخط عليهما فالله يعلمه منه ، ومن كان يضمر حبهما واحترامهما والرضا بهما وعنهما فالله تعالى يعلمه ويجزيه فالمحسن يجزيه بالاحسان والمسئ يجزيه بالاساءة ، وقوله { إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفوراً } بحكم ضعف الإنسان فإنه قد يضمر مرة السوء لوالديه او تبدر منه البادرة السئية من قول أو عمل وهو صالح مؤد لحقوق الله تعالى وحقوق والديه وحقوق الناس فهذا العبد الصالح يخبر تعالى انه غفور له متى آب الى الله تعالى مستغفراً مما صدر منه نادماً عليه .
(2/341)
________________________________________
وقوله تعالى : { وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل } هذا أمر الله للعبد المؤمن بايتاء قرابته حقوقهم من البر والصلة وكذا المساكين وهو الفقراء الذين مسكنتهم الفاقة وأذلهم الفقر فهؤلاء أمر تعالى المؤمن باعطائهم حقهم من الإحسان إليهم بالكساء او الغذاء والكلمة الطيبة ، وكذا ابن السبيل وهو المسافر يعطي حقه من الضيافة والمساعدة على سفره ان احتاج الى ذلك مع تأمينه وإرشاده الى طريقه . وقوله تعالى { ولا تبذر تبذيرا } اي ولا تنفق مالك ولا تفرقه في غير طاعة الله تعالى . وقوله { إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين } لأنهم بتبذيرهم المال في المعاصي كانوا عصاة الله فاسقين عن أمره وهذه حال الشياطين فتشابهوا فكانوا إخواناً ، وقوله ان الشيطان كان لربه كفوراً لأنه عصى الله تعالى وكفر نعمه عليه ولم يشكره بطاعته فالمبذر للمال في المعاصي فسق عن أمر ربه ولم يشكر نعمه عليه فهو إذا شيطان فهل يرضى عبدالله المسلم ان يكون شيطاناً ؟
هداية الايات
من هداية الآيات :
1- وجوب عبادة الله تعالى وحده ووجوب بر الوالدين ، وهو الاحسان بهما ، وكف الأذى عنهما ، وطاعتهما في المعروف .
2- وجوب الدعاء للوالدين بالمغفرة والرحمة .
3- وجوب مراقبة الله تعالى وعدم إضمار أي سوء في النفس .
4- من كان صالحاً وبدرت منه البادرة وتاب منها فإن الله يغفر له ذلك .
5- وجوب إعطاء ذوي القربى حقوقهم من البر والصلة ، وكذا المساكين وابن السبيل .
6- حرمة التبذير وحقيقته إنفاق المال في المعاصي والمحرمات .
(2/342)
________________________________________
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
شرح الكلمات :
{ وإما تعرضن عنهم } : أي عن المذكورين من ذي القربى والمساكين وابن السبيل فلم تعطهم شيئاً .
{ ابتغاء رحمة من ربك ترجوها } : أي طلباً لرزق ترجوه من الله تعالى .
{ قولاً ميسوراً } : أي ليناً سهلاً بان تعدهم بالعطاء عند وجود الرزق .
{ مغلولة الى عنقك } : أي لا تمسك عن النفقة كأن يدك مربوطةالى عنقك فلا تستطيع ان تعطي شيئاً .
{ ولا تبسطها كل البسط } : أي ولا تنفق كل ما بيدك ولم تبق شيئاً .
{ فتقعدوا ملوماً } : أي يلومك من حرمتهم من الانفاق .
{ محسوراً } : أي منقطعاً عن سيرك في الحياة اذا لم تبق لك شيئاً .
{ يبسط الرزق ويقدر } : أي توسعه ، ويقدر اي يضيقه امتحاناً وابتلاء .
{ خشية املاق } : اي خوف الفقر وشدته .
{ خطئاً كبيراً } : أي خصلة قبيحة شديدة القبح ، وسبيلاً بئس السبيل .
{ لوليه سلطان } : أي لوارثه تسلطاً على القاتل .
{ فلا يسرف في القتل } : أي لا يقتل غير القاتل .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في وصايا الرب تبارك وتعالى والتي هي حكم أوحاها الله تعالى الى رسوله للاهتداء بها ، والكمال والاسعاد عليها . فقوله تعالى : { وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولاً ميسوراً } أي إن أعرضت عن قرابتك أو عن مسكين سألك أو ابن سبيل احتاج اليك ولم تجد ما تعطيهم فاعرضت عنهم بوجهك ايها الرسول { فقل لهم قولاً ميسوراً } أي سهلاً ليناً وهو العدة الحسنة كقولك إن رزقي الله سأعطيك أو عما قريب سيحصل لي كذا وأعطيك وما اشبه ذلك من الوعد الحسن ، فيكون ذلك عطاء منك عاجلاً لهم يسرون به ، ولا يحزنون . وقوله تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك } اي لا تبخل بما أتاك الله فتمنع ذوي الحقوق حقوقهم كأن يدك مشدودة الى عنقك فلا تستطيع ان تنفق ، وقوله : { ولا تبسطها كل البسط } أي تفتح يديك بالعطاء فتخرج كل ما بجيبك أو خزانتك فلا تبق شيئاً لك ولأهلك . وقوله : { فتقعد ملوماً محسوراً } أي ان أنت امسكت ولم تنفق لامك سائلوك اذ لم تعطهم ، وان انت انفقت كل شيء عندك انقطعت بك الحياة ولم تجد ما تواصل به سيرك في بيقة عمرك فتكون كالبعير الذي أعياه السير فانقطع عنه وترك محسوراً في الطريق لا يستطيع صاحبه رده الى اهله ، ولا مواصلة السير عليه الى وجهته . وقوله : { إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء } أي يوسع على من يشاء امتحاناً له أيشكر أم يكفر ويقدر لمن يشاء ابتلاء له أيصبر أم يضجر ويسخط ، { إنه كان بعباده خبيراً بصيراً } فلذا هو يوسع ويضيق بحسب علمه وحكمته ، إذ من عباده من لا يصلحه الا السعة ، ومنهم من لا يصلحه الا الضيق ، وقوله تعالى : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } أي ومما حكم به وقضى ووصى { ألا تقتلوا أولادكم } أي اطفالكم { خشية إملاق } أي مخافة الفاقه والفقر ، أذ كان العرب يئدون البنات خشية العار ويقتلون الأولاد كالإناث مخافة الفاقه فأوصى تعالى بمنع ذلك وقال متعهداً متكفلاً برزق الأولاد وآبائهم فقال : { نحن نرزقهم وإياكم } واخبر تعالى ان قتل الاولاد { كان خطئاً كبيراً } أي إنما عظيماً فكيف يقدم عليه المؤمن .
(2/343)
________________________________________
وقوله : { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً } أي ومن جملة ما حكم به ووصى أن لا تقربوا أيها المؤمنون الزنا محرد قرب منه قبل فعله ، لأن الزنا كان في حكم الله فاحشة أي خصلة قبيحة شديدة القبح ممجوجة طبعاً وعقلاً وشرعاً ، وساء هذه الفاحشة سبيلاً أي بئس الطريق الموصل الى الزنا طريقاً للآثار السيئة والنتائج المدمرة التي تترتب عليه أولها أذية المؤمنين في أعراضهم وآخرها جهنم والاصطلاء بحرها والبقاء فيها أحقاباً طويلة . وقوله : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق } أي ومما حكم تعالى به وأوصى ان لا تقتلوا أيها الؤمنون النفس التي حرم الله أي قتلها الا بالحق ، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم الحق الذي تقتل به نفس المؤمن وهو واحدة من ثلاث : القتل العمد العدوان ، الزنا بعد الاحصان ، الكفر بعد الايمان . وقوله { ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً } أي من قتل له قتيل ظلماً وعدواناً أي غير خطأ فقد أعطاه تعالى سلطة كاملة على قاتل وليه ان شاء قتله أو شاء اخذ دية منه ، وان شاء عفا عنه لوجه الله تعالى : وقوله : { فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً } أي لا يحل لولي الدم اي لمن قتل له قتيل ان يسرف في القتل فيقتل بدل الواحد أكثر من واحد أو بدل المرأة رجلا . او يقتل غير القاتل ، وذلك ان الله تعالى اعطاه سلطة تمكنه من قتل قاتله فلا يجوز ان يقتل غير قاتله كما كانوا في الجاهلية يفعلون .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- العدة الحسنة تقوم مقام الصدفة لمن لم يجد ما يتصدق به على من سأله .
2- حرمة البخل ، والأسراف معاً وفضيلة الاعتدال والقصد .
3- تجلى حكمة الله تعالى في التوسعة على أناس ، والتضيق على آخرين .
4- حرمة القتل قتل الاولاد بعد الولادة أو اجهاضها قبلها خوفاً من الفقر أو العار .
5- حرمة مقدمات الزنا كالنظر بشهوة والكلام مع الاجنبية ومسها وحرمة الزنا وهو أشد .
6- حرمة قتل النفس التي حرم الله قتلها الا بالحق والحق قتل عمد عدواناً ، وزناً بعد احصان ، وكفر بعد إيمان .
(2/344)
________________________________________
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
شرح الكلمات :
{ الا بالتي هي أحسن } : أي ألا بالخصلة التي هي أحسن من غيرها وهي تنميته والإنفاق عليه منه بالمعروف .
{ حتى يبلغ أشده } : أي بلوغه سن التكليف وهو عاقل رشيد .
{ وأوفوا بالعهد } : أي اذا عاهدتم الله او العباد فأوفوا بما عاهدتم عليه .
{ إن العهد كان مسؤلاً } : أي عنه وذلك بأن يسال العبد يوم القيامة لم نكث عهدك ؟
{ أوافوا الكيل } : أي اتموه ولا تنقصوه .
{ بالقسطاس } : أي الميزان السوي المعتدل .
{ واحسن تاويلاً } : أي مآلاً وعاقبة .
{ ولا تقف } : أي ولا تتبع .
{ والفؤاد } : اي القلب .
{ كان عنه مسئولاً } : أي عن واحد من هذه الحواس يوم القيامة .
{ مرحاً } : أي ذا مرح بالكبر والخيلاء .
{ لن تخرق الأرض } : أي لن تثقبها أو تشقها بقدميك .
{ من الحكمة } : أي التي هي معرفة المحاب لله تعالى للتقرب بها إليها ومعرفة المساخط لتتجنبها تقرباً إليه تعالى بذلك .
{ ملوماً مدحوراً } : أي تلوم نفسك على شركك بربك مبعداً من رحمة الله تعالى . معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في بيان ما قضى به الله تعالى على عباده المؤمنين ووصاهم به فقال تعالى : { ولا تقربوا } أي أيها المؤمنون { مال اليتيم الا بالتي هي أحسن } اي بالفعلة التي هي أجمل وذلك بأن تتصرفوا فيه بالتثمير له والاصلاح فيه ، والانفاق منه على اليتيم بالمعروف أما أن تقربوه لتأكلوه إسرافاً وبداراً فلالا . وقوله : حتى يبلغ أشده أي حتى يبلغ سن الرشد فتحاسبوه وتعطوه ماله يتصرف فيه حسب المشروع من التصرفات المالية . وقوله تعالى : { وأوفوا بالعهد } أي ومما أوصاكم به أن توفوا بعهودكم التي بينكم وبين ربكم وبينكم وبين سائر الناس مؤمنهم وكافرهم فلا يحل لكم ان لا توفوا بالعهد وأنتم قادرون على الوفاء بحال من الأحوال . وقوله { إن العهد كان مسئولاً } تأكيد للنهي عن نكث العهد إذ أخبر تعالى ان العبد سيسأل عن عهده الذي لم يف به يوم القيامة ، ومثل العهد سائر العقود من نكاح وبيع وايجار وما الى ذلك لقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اوفوا بالعقود أي بالعهود ، وقوله : { وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم } هذا مما أمر الله تعالى وهو إيفاء الكيل والوزن أي توفيتهما وعدم بخسهما ونقصها شيئاً ولو يسيراً ما دام في الامكان عدم نقصه ، أما ما يعسر التحرز منه فهو من العفو لقوله تعالى : { لا نكلف نفساً الا وسعها } وقوله { ذلك خير وأحسن تاويلاً } أي ذلك الوفاء والتوفية في الكيل والوزن خير لبراءة الذمة وطيب النفس به وأحسن تاويلاً أي عاقبة إذ يبارك الله تعالى في ذلك المال بأنواع من البركات لا يعلمها الا هو عز وجل . ومن ذلك أجر الآخرة وهو خير فان من ترك المعصية وهو قادرعليها أثابه الله تعالى على ذلك بأحسن ثواب ، وقوله تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم } اي لا تتبع بقول ولا عمل ما لا تعلم ، ولا تقل رأيت كذا وانت لم تر ، ولا سمعت كذا وانت لم تسمع .
(2/345)
________________________________________
وقوله تعالى : { إن السمع والبصر والفؤاد } أي القلب { كل أولئك كان عنه مسئولاً } أي لا تقف ما ليس لك به علم ، لأن الله سائل هذه الأعضاء يوم القيامة عما قال صاحبها أو عمل فتشهد عليه بما قال او عمل مما لا يحل له القول فيه أو العمل . ومعنى اولئك اي تلك المذكورات من السمع والبصر والفؤاد ، وقوله تعالى : { ولا تمش في الأرض مرحاً } أي خيلاء وتكبراً أي مما حرم تعالى لا يدخل الجنة ، وقوله { إنك لن تخترق الأرض } طولاً مهما تعاليت وتطاولت فإنك كغيرك من الناس لا تخرق الأرض أي تثقبها أو تقطعها برجليك ولا تبلغ علو الجبال فلذا أترك مشية الخيلاء والتكبر ، لأن ذلك معيب ومنقصة ولا يأتيه الا ذو حماقة وسفه . وقوله تعالى : { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً } أي كل ذلك المأمور به والمنهي عنه من قوله تعالى : { وقضى ربك } الى قوله { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها } سيئة كالتبذير والبخل وقتل الاولاد والزنا وقتل النفس وأكل مال اليتيم ، وبخس الكيل والوزن ، والقول بلا علم كالقذف وشهادة الزور ، والتكبر كل هذا الشيء مكروه عند الله تعالى اذا فلا تفعله يا عبدالله وما كان من حسن فيه كعادة الله تعالى وحده وبر الوالدين والاحسان الى ذوي القربى والمساكين وابن سبيل والعدة الحسنة فكل هذا الحسن هو عند الله حسن فأته يا عبدالله ولا تتركه ومن قرأ كنافع كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها فإنه يريد ما اشتملت عليه الآيات من التبذير والبخل وقتل النفس الى آخر المنهيات .
وقوله تعالى : { ذلك مما أوحى اليك ربك من الحكمة } أي ذلك الذي بينا لم يا رسولنا من الاخلاق الفاضلة والخلال الحميدة التي أمرناك بالاخذ بها والدعوة الى التمسك بها ، ومن الخلال القبيحة والخصال الذميمة التي نهيناك عن فعلها وحرمنا إيتانها مما أوحينا إليك في كتابنا هذا من أنواع الحكم وضروب العلم والمعرفة ، فلله الحمد وله المنة .
وقوله : { ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً هذه أم الحكم بدأ بها السياق وختمه بها تقريراً وتأكيداً اذ تقدم قوله تعالى : { ولا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموماً مخذولاً } والخطاب وان كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فان كل أحد معني به فأي إنسان يشرك بربه أحداً مبعداً من رحمة به التي هي الجنة . وهذا اذا مات قبل ان يتوب فيوحد ربه في عباداته . إذ التوبة إذا صحت جبت ما قبلها .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- حرمة مال اليتيم أكلاً وإفساداً أو تضييعاً وإهمالاً .
2- وجوب الوفاء بالعهود وسائر العقود .
3- وجوب توفية الكيل والوزن وحرمة بخس الكيل والوزن .
4- حصول البركة لمن يتمثل امر الله في كيله ووزنه .
5- حرمة القول أو العمل لما يفضي اليه ذلك من المفاسد ولان الله تعالى سائل كل الجوارح ومستشهدها على صاحبها يوم القيامة .
6- حرمة الكبر ومقت المتكبرين .
7- إنتظام هذا السياق لخمس وعشرين حكمة الأخذ بها خير من الدنيا وما فيها ، والتفريط فيها هو سبب خسران الدنيا والآخرة .
(2/346)
________________________________________
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
شرح الكلمات :
{ أفاصفاكم } : الاستفهام للتوبيخ والتقريع ومعنى اصفاكم خصكم بالنين واختارهم لكم .
{ ولقد صرفنا في هذا القرآن } : أي بينا فيه من الوعد والوعيد والأمثال والعظات والأحكام والعبر .
{ ليذكروا } : أي ليذكروا فيتعظوا فيؤمنوا ويطيعوا .
{ لأبتغوا الى ذي العرش سبيلا } : اي لطلبوا طريقا الى الله تعالى للتقرب إليه وطلب المنزلة عنده .
{ ومن فيهن } : أي في السموات من الملائكة والأرض من انسان وجان وحيوان .
{ وإن من شيء الا يسبح } : أي وما شيء الا يسبح بحمده من سائر المخلوقات .
{ حليماً غفوراً } : حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على معصيتكم إياه وعدم طاعتكم له .
معنى الآيات :
يقول تعالى مقرعاً موبخاً للمشركين الذين يئدون البنات ويكرهونهن ثم هم يجعلون الملائكة إناثاً { أفأصفاكم ربكم بالبنين } أي أخصكم بالبنين { واتخذ من الملائكة إناثاً إنكم لتقولون قولاً عظيماً } أيها المشركون إذ تجعلون لله ما تكرهون افترءً وكذباً على الله تعالى ، وقوله تعالى : { ولقد صرفنا في هذا القرآن } أي من الحجج والبينات والأمثال والمواعظ الشيء الكثير من أجل ان يذكروا فيذكروا ويتعظوا فيبينوا الى ربهم فيوحدونه وينزهونه عن الشريك والولد ، ولكن ما يزيدهم القرآن وما في من البينات والهدى الا نفوراً وبعداً عن الحق . وذلك لغلبة التقليد عليهم ، والعناد والمكابرة والمجاحدة . وقوله تعالى { قل لو كان معه آلهة كما تقولون } أي قل يا نبينا لهؤلاء المشركين المتخذين لله أنداداً يزعمون أنها آلهة مع الله قل لهم لو كان مع الله قل لهم لو كان مع الله آلهة كما تقولون وان كان الواقع يكذبكم اذ ليس هناك آلهة مع الله ولكن على فرض انه لو كان مع الله آلهة { لابتغوا الى ذي العرش سبيلاً } اي لطلبوا طريقاً الى ذي العرش سبحانه وتعالى يلتمسون فيها رضاه ويطلبون القرب منه والزلفى اليه لجلاله وكماله ، وغناه وحاجتهم وافتقارهم اليه . ثم نزه سبحانه وتعالى نفسه ان يكون معه آلهة فقال { سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً } . وقوله : { تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن } فأخبر تعالى منزهاً نفسه مقدساً ذاته عن الشبيه والشريك والولد والعجز ، فأخبر أنه لعظمته وكماله تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن بكلمة . . سبحان الله وبحمده { وإن من شيء الا يسبح بحمده } كما أخبر أنه ما من شيء من المخلوقات الا وسبح بحمده بلسان قاله وحاله معاً فيقول سبحان الله وبحمده وقوله : { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } لاختلاف الألسنة واللغات . وقوله ان كان أي { الله حليماً } : اي لا يعاجل بالعقوبة من عصاه { غفوراً } يغفر ذنوب وزلات من تاب اليه واناب طلباً مغفرته ورضاه .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- حرمة القول على الله تعالى بالباطل ونسبة النقص اليه تعالى كاتخاذه ولداً او شريكاً .
2- مشروعية الاستدلال بالعقليات ، على إحقاق الحق وإبطال الباطل .
3- فضيلة التسبيح وهو قول : سبحان الله وبحمده حتى إن من قالها مائة غفرت ذنوبه ولو كانت في الكثرة مثل زبد البحر .
4- كل المخلوقات في العوالم كلها تسبح الله تعالى أي تنزهه عن الشريك والولد والنقص والعجز ومشابهة الحوادث إذ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .
5- حلم الله يتجلى في عدم تعجيل عقوبة من عصاه ولولا حلمه لعجل عقوبة مشركي مكة وأكابر مجرميها . ولكن الله أمهلهم حتى تاب أكثرهم .
(2/347)
________________________________________
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
شرح الكلمات :
{ حجاباً مستورا } : أي سائراً فلا يسمعون كلام الله تعالى .
{ وجعلنا على قلوبهم أكنة } : أي أغطية على القلوب فلا تعي ولا تفهم .
{ وفي آذانهم وقراً } : أي ثقلاً فلا يسمعون القرآن ومواعظه .
{ ولو على أدبارهم نفوراً } : أي فراراً من السماع حتى لا يمسعوا .
{ بما يستمعون به } : أي بسببه وهو الهزء بالنبي صلى الله عليه وسلم .
{ وإذ هم نجوى } : أي يتناجون بينهم يتحدثون سراً .
{ رجلاً مسحوراً } : أ ي مغلوباً على عقله مخدوعاً .
{ ضربوا لك الأمثال } : أي قالوا ساحر ، وقالوا كاهن وقالوا شاعر .
{ فضلوا } : أي عن الهدى فلا يستطيعون سبيلاً .
معنى الآيات :
قوله تعالى : { وإذا قرأت القرآن } يخبر تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم إنه أن قرأ القرآن على المشركين ليدعوهم به الى الله تعالى ليؤمنوا به ويعبدوه وحده جعل الله تعالى بينه وبين المشركين حجاباً ساتراً ، أو مستوراً لا يرى وهو حقاً حائل بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يسمعوا القرآن الذي يقرأ عليهم فلا ينتفعون به . وهذا الحجاب ناتج عن شدة بغضهم للرسول صلى الله عليه وسلم وكراهيتهم لدعوته فهم لذلك لا يرونه ولا يسمعون قراءته . وقوله تعالى : { وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه } جميع كنان وهو الغطاء حتى لا يصل المعنى المقروء من الايات الى قلوبهم فيفقهوه ، وقوله : { وفي آذانهم وقراً } أي وجعل تعالى في آذان أولئك المشركين الخصوم ثقلاً في آذانهم فلا يسمعون القرآن الذي يتلى عليهم ، وهذا كله من الحجاب السائر والأكنة ، والوقر في الآذان عقوبة من الله تعالى لهم حرمهم بها من الهداية بالقرآن السابقة الشر لهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين ببعضهم للرسول وما جاء به وحربهم له ولما به من التوحيد والدين الحق ، وقوله تعالى : { وإذا ذكرت بك في القرآن وحده } بأن قلت لا إله الا الله ، أو ما أفهم معنى لا إله الا الله ولي المشركون على أدبارهم نفوراً من سماع التوحيد لحبهم الوثنية وتعلق قلوبهم بالشرك .
وقوله تعالى { نحن أعلم بما يستمعون به } يقول تعالى لرسوله نحن أعلم بما يستمع به المشركون أي بسبب أنهم يستمعون من أجل الاستهزاء بك والسخرية منك ومما تتلوه لا انهم يستمعون للعلم والمعرفة ولطلب الحق والاهتداء إليه . وقوله : { إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى } أي يناجي بعضهم بعضاً { إذ يقول الظالمون } أي المشركون { إن تتبعون } أي لا تتبعون { إلا رجلاً مسحوراً } أي مخدوعاً مغلوباً على أمره ، فكيف تتبعونه إذاً ؟
وقوله تعالى : { انظر كيف ضربوا لك الامثال } أي انظر يا رسولنا كيف ضرب لك وهؤلاء المشركون المعاندون الأمثال فقالوا عنك : ساحر ، شاعر ، وكاهن ومجنون فضلوا في طريقهم ( فلا يهتدون سبيلاً ) إنهم عاجزون عن الخروج من حيرتهم هذه التي أوقعهم فيها كفرهم وعنادهم .
(2/348)
________________________________________
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير قاعدة حبك الشيء يعمى ويصم : فإن الحجاب المذكور في الآية وكذا الأكنة والثقل في الآذان هذا كلها حالت دون سماع القرآن من أجل بغضهم للرسول صلى الله عليه وسلم وللقرآن وما جاء به عن الدعوة الى التوحيد .
2- بيان مدى كراهية المشركين للتوحيد وكلمة الاخلاص لا إله الا الله .
3- بيان مدى ما كان عليه المشركون من السخرية والاستهزاء بالرسول والقرآن .
4- بيان اتهامات المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم بالسحر مرة والكهانة ثانية والجنون ثالثاً بحثاً عن الخلاص من دعوة التوحيد فلم يعثروا على شيء كما قال تعالى : { فضلوا فلا يستطيعون سبيلاً } .
(2/349)
________________________________________
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
شرح الكلمات :
{ وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا } : الأستفهام اللإنكسار والاستعباد والرفات الأجزاء المتفرقة .
{ مما يكبر في صدوركم } : أي يعظم عن قبول الحياة في اعتقادكم .
{ فطركم } : خلقكم .
{ فسينغضون } : أي يحركون رؤوسهم تعجباً .
{ متى هو ؟ } : الأستفهام للاستهزاء أي متى هذا البعث الذي تعدنا .
{ يوم يدعوكم } : أي يناديكم من قبوركم على لسان إسرافيل .
{ فتستجيبون } : أي تجيبون دعوته قائلين سبحانك الله وبحمدك .
{ وتظنون إن لبثتم الا قليلا } : وتظنون أنكم ما لبثتم في قبوركم الا قليلا .
معنى الآيات :
ما زال السياق في تقرير العقيدة في الآيات قبل هذه كان تقرير التوحيد والوحي وفي هذه الآيات تقرير البعث والجزاء الآخر ففي الآية ( 47 ) يخبر تعالى عن إنكار المشركين للبعث واستبعادهم له بقوله : { وقالوا أئذا كنا عظاماً ورفاتاً } أي أجزاء متفرقة كالحطام { أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً } وفي الآية ( 48 ) يأمر تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم كونوا ما شئتم فإن الله تعالى قادر على إحيائكم وبعثكم للحساب والجزاء وهو قوله تعالى ؟ قل كونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً مما يبكر في صدروكم أي مما يعظم في نفوسكم أن يقبل الحياة كالموت مثلاً فغن الله تعالى سيحييكم ويبعثكم . وقوله تعالى : فسيقولون من يعيدنا ؟ يخبر تعالى رسوله أن منكري البعث سيقولون له مستبعدين البعث : من يعيدنا وعمله الجواب فقال له قل الذي فطركم أي خلقكم أول وهو جواب مسكت فالذي خلقكم ثم أماتكم هو الذي يعيدكم كما بدأكم وهو أهون عليه . وقوله تعالى { فسينغضبون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو ؟ } يخبر تعالى رسوله بما سيقوله منكروا البعث له فيقول تعالى ( فسينغضون ) أي يحركون إليك رؤوسهم خفضاً ورفعاً استهزاء ويقولون : { متى هو؟ } أي متى البعث أي في أي يوم هو كائن . وقوله تعالى : { قل عسى أن يكون قريباً } علمه تعالى كيف يجيب المكذبين . وقوله { يوم يدعوكم بأمر الله تعالى إسرافيل من قبوركم فتستجيبون أي فتجيبونه بحمد الله وتظنون إن لبثتم الا قليلا } أي ما لبثتم في قبوركم الا قليلا من اللبث لما تعانيون من الأهوال وتشاهدون من الأحوال المفزعة المرعبة .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء وبيان حتميتها .
2- بيان ما كان عليه المشركون من شدة إنكارهم للبعث الآخر .
3- تعليم الله تعالى لرسوله كيف يجيب المنكرين المستهزئين بالتي هي أحسن .
4- بيان الأسلوب الحواري الهادي الخالي من الغلظة والشدة .
5- استقصار مدة اللبث في القبور مع طولها لما يشاهد من أهوال البعث .
(2/350)
________________________________________
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
شرح الكلمات :
{ التي هي أحسن } : أي الكلمة التي هي أحسن من غيرها للطفها وحسنها .
{ ينزغ } : أي يفسد بينهم .
{ عدواً مبيناً } : أي بين العداوة وظاهرها .
{ ربكم أعلم بكم } : هذه هي الكلمة التي هي أحسن .
{ وما أرسلناك عليهم وكيلا } : أي فيلزمك إجبارهم على الايمان .
{ فضلنا بعض النبيين } : أي بتخصيص كل منهم بفضائل أو فضيلة خاصة به .
{ وآتينا داود زبوراً } : أي كتاباً هو الزبور هذا نوع من التفضيل . معنى الآيات :
ما زال السياق في طلب هداية أهل مكة ، من طريق الحوار والمجادلة وحدث أن بعض المؤمنين واجه بعض الكافرين اثناء الجدال بغلظة لفظ كأن توعده بعذاب النار فأثار ذلك حفائظ المشركين فأمر تعالى رسوله يقول للمؤمنين إذا خاطبوا ان لا يغلظوا لهم القول فقال تعالى : { وقل لعبادي } أي المؤمنين { يقولوا التي هي أحسن } من الكلمات لتجد طريقاً الى قلوب الكافرين ، وعلل ذلك تعالى فقال { إن الشيطان ينزغ بينهم } الوسواس فيفسد العلائق التي كان في الامكان التوصل بها الى هداية الضالين ، وذلك ان الشيطان كان وما زال للإنسان عدواً مبيناً أي بين العداوة ظاهر فهو لا يريد للكافر أن يسلم ، ولا يريد للمسلم أن يؤجر ويثاب في دعوته . وقوله تعالى : { ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم } فيتوب عليكم فتسلموا . { إو أن يشأ يعذبكم } بأن يترككم تموتون على شرككم فتدخلوا النار . مثل هذا الكلام ينبغي أن يقول المؤمنون للكافرين لا أن يصدروا الحكم عليهم بأنهم أهل النار والمخلدون فيها فيزعج ذلك المشركين فيتمادوا في العناد والمكابرة . وقوله تعالى : { وما أرسلناك عليهم وكيلا } . يقول تعالى لرسوله إنا لم نرسلك رقيباً عليهم فتجبرهم على الإسلام وإنما أرسلناك مبلغاً دعوتنا إليهم بالأسلوب الحسن وهدايتهم إلينا ، وفي هذا تعليم للمؤمنين كيف يدعون الكافرين الى الإسلام . وقوله تعالى : { وربك أعلم بمن في السموات والأرض } يخبر تعالى لرسوله والمؤمنين ضمناً أنه تعالى أعلم بمن في السموات والأرض فضلاً عن هؤلاء المشركين فهو أعلم بما يصلحهم وأعلم بما كتب لهم أو عليهم من سعادة أو شقاء ، وأسباب ذلك من الايمان أو الكفر ، وعليه فلا تحزنوا على تكذيبهم ولا تيأسوا من إيمانهم ، ولا تتكلفوا ما لا تطيقون في هدايتهم فقولوا التي هي أحسن واتركوا أمر هدايتهم لله تعالى هو ربهم وقوله تعالى : { ولقد فضلنا بعض النبين على بعض وآتينا داود زبوراً } ، يخبر تعالى عن انعامه بين عباده فالذي فاضل بين النبيين وهو أكمل الخلق وأصفاهم فهذا فضله بالخلة كإبراهيم وهذا بالتكليم كموسى ، وهذا بالكتاب الحافل بالتسابيح والمحامد والعبر والمواعظ كداود ، وأنت يا محمد بمغفرته لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، وبإرسالك الى الناس كافة إلى غير ذلك من الإفضالات وإذا تجلت هذه الحقيقة لكم وعرفتم أن الله أعلم بمن يستحق الهداية وبمن يستحق الضلالة ، وكذا الرحمة والعذاب ففوضوا الأمر إليه ، وادعوا عباده برفق ولين وبالتي هي أحسن من غيرها من الكلمات .
(2/351)
________________________________________
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- النهي عن الكلمة الخشنة المسيئة الى المدعو الى الإسلام .
2- بيان أن الشيطان يسعى للإفساد دائماً فلا يمكن من ذلك بالكلمات المثيرة للغضب والحاملة على اللجج والخصومة الشديدة .
3- بيان نوع الكلمة التي هي أحسن مثل { ربكم أعلم بكم أن يشأ يرحمكم وإن يشأ يعذبكم } .
4- بيان ان الله تعالى أعلم بخلقه فهو يهب كل عبد ما أهله له حتى إنه فاضل بين أنبيائه ورسله عليهم السلام في الكمالات الروحية والدرجات العالية .
(2/352)
________________________________________
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
شرح الكلمات :
{ فلا يملكون } : أي لا يستطيعون .
{ كشف الضر } : أي بإزالته بشفاء المريض .
{ ولا تحويلا } : أي للمرض من شخص مريض الى آخر صحيح ليمرض به .
{ يدعون } : أي ينادونهم طالبين منهم أو متوسلين بهم .
{ يبتغون إلى ربهم الوسلية } : أي يطلبون القرب منه باالطاعات وأنواع القربات .
{ كان محذوراً } : أي يحذره المؤمنون ويحترسون منه بترك معاصي الله تعالى .
{ في الكتاب مسطوراً } : أي في كتاب المقادير الذي هو اللوح المحفوظ مكتوباً .
{ أن نرسل بالآيات } : أي بالآيات التي طلبها أهل مكة كتحويل الصفا الى جبل ذهب . أو إزالة جبال مكة لتكون أرضاً زراعية وإجراء العيون فيها .
{ إلا ان كذب بها الأولون } : إذ طالب قوم بالآية ولما جاءتهم كفروا بها فأهلكهم الله تعالى .
{ الناقة مبصرة } : أي وأعطينا قوم صالح الناقة آية مبصرة واضحة بينة .
{ فظلموا بها } : أي كفروا بها وكذبوا فأهلكهم الله تعالى .
{ إلا تخويفاً } : إلا من أجل تخويف العباد بأنا إذا أعطيناهم الآيات ولم يؤمنوا أهلكناهم .
{ أحاط بالناس } : أي قدرة وعلما فهم في قبضته وتحت سلطانه فلا تخفهم .
{ وما جعلنا الرؤيا } : هي ما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الأسراء والمعراج عن عجائب خلق الله تعالى .
{ والشجرة المعلونة } : هي شجرة الزقوم الوارد لفظها في الصافات والدخان .
{ ونخوفهم } : بعذابنا في الدنيا والآخرة والإبادة وفي الآخرة بالزقوم والعذاب الأليم .
{ فما يزيدهم } : أي التخويف إلا طغينانا وكفراً .
معنى الآيات :
ما زال السياق في تقرير التوحيد فيقول تعالى لرسوله قل يا محمد صلى الله عليه وسلم لأولئك المشركين أدعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دون الله سبحانه وتعالى فإنهم لا يملكون أن يكشفوا الضر عن مريض ولا يستطيعون تحويله عنه إلى آخر عدو له يريد أن يمسه الضر لأنهم أصنام وتماثيل لا يسمعون ولا يبصرون فضلاً على أن يستجيبوا دعاء من دعاهم لكشف ضر أو تحويله الى غيره ، هذا ما دلت عليه الآية الأوى ( 54 ) { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه ، فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً } .
وقوله تعالى : { أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته } { ويخافون عذابه } . يخبرهم تعالى بان أولئك الذين يعبدونهم من الجن أو الملائكة أو الأنبياء أو الصالحين هم أنفسهم يدعون ربهم ويتوسلون للحصول على رضاه . بشتى أنواع الطاعات والقربات فالذي يَعْبُدُ لا يُعْبَد ، والذي يتقرب الى الله بالطاعات لا يتقرب إليه وإنما يتقرب إلى من هو يتقرب إليه ليحظى بالمنزلة عنده ، وقوله { يرجون رحمته ويخافون عذابه } ، أي أن أولئك الذين يدعوهم الجهال من الناس ويطلبون منهم قضاء حاجاتهم هم أنفسهم يطلبون الله ويرجون رحمته ويخافون عذابه . لأن عذابه تعالى كان وما زال يحذره العقلاء ، لأنه شديد لا يطاق . فكيف يُدعى ويُرجى ويُخاف من هو يَدعو ويَرجو ويَخاف لو كان المشركون يعقلون .
(2/353)
________________________________________
وقوله تعالى : { وإن من قرية } أي مدينة من المدن { الإ نحن مهلكوها } أي بعذاب إبادة قبل يوم القيامة ، { أو معذبوها عذاباً شديداً } بمرض أو قحط أو خوف من عدو { كان ذلك في الكتاب مسطوراً } أي مكتوباً في اللوح المحفوظ ، فلذا لا يستعجل أهل مكة العذاب فإنه إن كان قد كتب عليهم فإنه نازل بهم لا محالة وان لم يكن قد كتب عليهم فلا معنى لاستعجاله فإنه غير واقع بهم وهم مرجون للتوبة أو لعذاب يوم القيامة وقوله تعالى : { وما منعنا أن نرسل بالآيات } أي بالمعجزات وخوارق العادات { إلا أن كذب بها } أي بالمعجزات الأولون من الأمم فأهلكناهم بتكذيبهم بها ، فلو أرسلنا نبينا محمداً بمثل تلك الآيات وكذبت بها قريش لأهلكهم ، وهو تعالى لا يريد أهلاكهم بل يريد هدايتهم ليهتدي على أيهديهم خلقاً كثيراً من العرب والعجم والأبيض والأصفر فسبحان الله العليم الحكيم وقوله تعالى { وآتينا ثمود الناقة مبصرة } أي آية مبصرة أي مضيئة بينة فظلموا بها أي كذبوا بها فعقورها فظلموا بذلك أنفسهم وعرضوها لعذاب الإبادة فأبادهم الله فأخذتهم الصيحة وهو ظالمون هذا دليل على ان المانع من الأرسال بالآيات هو ما ذكر تعالى في هذه الآية وقوله تعالى : { وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً } يخبر تعالى أنه ما يرسل الرسل مؤيدين بالآيات التي هي المعجزات والعبر والعظات إلا لتخويف الناس عاقبة الكفر والعصيان لعلهم يخافون فيؤمنون ويطيعون قوله تعالى { وإذا قلنا لك إن ربك أحاط بالناس } أي اذكر يا محمد إذ قلنا لك بواسطة وحينا هذا إن ربك أحاط بالناس . فهم في قبضته وتحت قهره وسلطانه فلا ترهبهم ولا تخش منهم أحداً فإن الله ناصرك عليهم ، ومنزل نقمته بمن تمادى في الظلم والعناد ، وقوله تعالى : { وما جلعنا الرؤيا التي أريناك } يريد رؤيا الإسراء والمعراج حيث أراه من آياته وعجائب صنعه وخلقه ، ما أراه { إلا فتنة للناس } أي لأهل مكة اختباراً لهم هل يصدقون أو يكذبون ، إذ ليس لازماً لتقرير نبوتك وإثبات رسالتك وفضلك أن نريك الملكوت الأعلى وما فيه من مظاهر القدرة والعلم والحكمة والرحمة .
وقوله تعالى : { والشجرة الملعونة } أي وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن الكريم وهي شجرة الزقزم وأنها { تخرج في أصل الجحيم } إلا فتنة كذلك لأهل مكة حيث قالوا كيف يصح وجود نخلة ذات طلع في وسط النار ، كيف لا تحرقها النار قياساً للغائب على الشاهد وهو قياس فاسد ، وقوله تعالى { ونخوفهم } بالشجرة الملعونة وأنها { طعام الأثيم تغلي في البطون كغلي الحميم } وبغيرها من أنواع العذاب الدنيوي والأخروي ، وما يزيدهم ذلك إلا طغياناً كبيراً أي ارتفاعاً وتكبراً عن قول الحق والاستجابة له لما سبق في علم الله من خزيهم وعذابهم فاصبر أيها الرسول وامض في دعوتك فإن العاقبة ذلك .
(2/354)
________________________________________
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير التوحيد بالحكم على عدم استجابة الآلهة المدعاة لعابديها .
2- بيان حقيقة عقيلة وهي أن الأولياء والاستغاثة بهم والتوسل إليهم بالذبح والنذر هو أمر بالطل ومضحك في نفس الوقت ، إذ الأولياء كانوا قبل موتهم يطلبون الوسيلة الى ربهم بأنواع الطاعات والقربات ومن كان يَعْبُدْ لا يُعْبَدْ . ومن كان يقترب إليه ، ومن كان يتوسل لا يتوسل اليه بل يعبد الذي كان يعبد ويتوسل الى الذي كان يتوسل إليه ويتقرب الى الذي كان يتقرب اليه ، وهو الله سبحانه وتعالى .
3- تقرير عقيدة القضاء والقدر .
4- بيان المانع من عدم إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم الآيات على قريش .
5- بيان علة الإسراء والمعراج ، وذكر شجرة الزقزم في القرآن الكريم .
(2/355)
________________________________________
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
شرح الكلمات :
{ لمن خلقت طيناً } : أي من الطين .
{ أرأيتك } : أي أخبرني .
{ كرمت على } : أي فضلته علي بالأمر بالسجود له .
{ لأحتنكن } : لأستولين عليهم فأقودهم الى الغواية كالدابة إذا جعل الرسن في حنكها ، تقاد حيث شاء راكبها! .
{ اذهب } : أي وافراً كاملاً .
{ جزاءً موفوراً } : أي وافراً كاملاً .
{ بصوتك } : أي بدعائك إياهم الى طاعتك ومعصيتي بأصوات المزامير والأغاني واللهو .
{ واجلب عليهم } : أي صح فيهم بركبانك ومُشاتك .
{ وشاركهم في الأموال } : بحملهم على أكل الربا وتعاطيه .
{ والأولاد } : بتزيين الزنا ودفعهم إليه .
{ وعدهم } : أي بان لا بعث ولا حساب ولا جزاء .
{ إلا غرواً } : أي باطلاً .
{ ليس لك عليهم سلطان } : أي إن عبادي المؤمنين ليس لك قوة تتسلط عليهم بها .
{ وكفى بربك وكيلا } : أي حافظاً لهم منك أيها العدو .
معنى الآيات :
قوله تعالى : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } أي اذكر يا رسولنا لهؤلاء المشركين الجلهة الذين اطاعوا عدوهم وعدو أبيهم من قبل ، وعصوا ربهم ، اذكر لهم كيف صدقوا ظن إبليس فيهم ، واذكر لهم { إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } فامتثلوا أمرنا { وسجدوا الا إبليس } قال منكرً أمرنا ، مستكبراً عن آدم عبدنا { أأسجد لمن خلقت طيناً } ؟ أي لمن خلقته من الطين لأن آدم خلقه الله تعالى من أديم الأرض عذبها وملحها ولذا سمى آدم آدم ثم قال في صلفه وكبريائه { أأرايتك } أي أخبرني أهذا { الذي كرمت علي } ؟! قال هذا استصغار لآدم واستخفافا بشأنه ، ( لئن أخرتني ) أي وعزتك لئن أخرت موتي { إلى يوم يبعثون لأحتنكن ذريته } أي لأستولين عليهم وأسوقهم الى أودية الغواية والضلال حتى يهلكوا مثلي { إلا قليلاً } منهم ممن تستخلصهم لعبادتك فأجابه الرب تبارك وتعالى : { قال اذهب } أي منظر ومهملاً الى وقت النفخة الأولى وقوله تعالى : { فمن تبعك منهم } أي عصاني وأطاعك { فإن جهنم جزاؤكم جزآءً موفوراً } أي وافراً .
وقوله تعالى : { واستفزز من استطعت منهم بصوتك } قال هذا لإبليس بعد ان انظره الى يوم الوقت المعلوم أذن له في أن يعمل ما استطاع في إضلال أتباعه ، { واستفزز من استطعت منهم بصوتك } أي واستخفف منهم بدعائك الى الباطل بأصوات المزامير والأغاني وصور الملاهي وأنديتها وجمعياتها ، { وأجلب عليهم } أي صح على خيلك ورجلك الركبان والمشأة وسقهم جميعاً على بني آدم لإغوائهم وإضلالهم { وشاركهم في الأموال } بحملهم على الربا وجمع الأموال من الحرام وفي { الأولاد } بتزيين الزنا وتحسين الفجور وعدهم بالأماني الكاذبة وبأن لا بعث يوم القيامة ولا حساب ولا جزاء قال تعالى : { وما يعدهم الشيطان إلا غروراً } أي باطلاً وكذباً وزوراً . وقوله تعالى : { إن عبادي } أي المؤمنين بي ، المصدقين بلقائي ووعدي ووعيدي ليس لك عليهم قوة تتسلط عليهم بها ، { وكفى بربك وكيلا } أي حافظاً لهم : منك فلا تقدر على إضلالهم ولا أغوائهم يا عدوي وعدهم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- مشروعية التذكير بالأحداث الماضية للتحذير من الوقوع في الهلاك .
2- ذم الكبر وأنه من شر الصفات .
3- تقرير عداوة إبليس والتحذير منها .
4- بيان مشاركة إبليس أتباعه في أموالهم وأولادهم ونساءهم .
5- بيان أن أصوات الأغاني والمزامير والملاهي وأندية الملاهي وجمعياتها الجميع من جند إبليس الذي يحارب به الآدمي المسكين الضعيف .
6- بيان حفظ الله تعالى لأوليائه ، وهم المؤمنون المتقون ، وجعلنا الله تعالى منهم وحفظنا بما يحفظهم به إنه بر كريم .
(2/356)
________________________________________
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
شرح الكلمات :
{ يزجي لكم الفلك } : أي يسوقها فتسير فيه .
{ لتبتغوا من فضله } : أي لتطلبوا رزق الله بالتجارة من إقليم الى آخر .
{ وإذا مسكم الضر } : أي الشدة والبلاء والخوف من الغرق .
{ ضل من تدعون إلا إياه } : أي غاب عنكم من كنتم تدعونهم من آلهتكم .
{ أعرضتم } : أي من دعاء الله وتوحيده في ذلك .
{ أو يرسل عليكم حاصباً } : أي ريحاً ترمي بالحصباء لشدتها .
{ ثم لا تجدوا لكم ريحاً } : أي حافظاً منه أي من الخسف أو الريح الحاصب .
{ قاصفاً من الريح } : أي ريحاً شديدة تقصف الأشجار وتكسرها لقوتها .
{ علينا به تبيعاً } : أي نصيراً ومعيناً ليثأر لكم منا .
{ وقد كرمنا بني آدم } : أي فضلناهم بالعلم والنطق واعتدال الخلق .
{ حملناهم في البر والبحر } : في البر على البهائم والبحر على السفن .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد والدعوة إليه . فقوله تعالى : { ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله } يخبرهم تعالى بأن ربهم الحق الذي يجب ان يعبدوه ويطيعوه بعد أن يؤمنوا هو الذي { يزجي لهم بالفلك } أي السفينة { في البحر } أي يسوقها فتسير بهم في البحر الى حيث يريدون من أجل أن يطلبوا رزق الله لهم بالتجارة من إقليم لآخر . هذا هو إلهكم الحق ، أما الأصنام والأوثان فهي مخلوقة لله مربوية له ، لا تملك لنفسها فضلاً عن غيرها ، نفعاً ولا ضراً .
وقوله تعالى : { إنه كان بكم رحيماً } ومن رحمته تعالى تسخيره البحر لهم وإزحاء السفن وسوقها فيه ليحصلوا على أقواتهم عن طريق السفر والتجارة . وقوله تعالى : { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه } يذكرهم بحقيقة واقعة لهم وهي أنهم إذا ركبوا في الفلك وأصابتهم شدة من مرض او ضلال طريق أو عواصف بحرية واضطربت لها السفن وخافوا الغرق دعوا الله وحده لم يبق من يدعوه سواه تعالى لكنهم إذا نجاهم من الهلكة التي خافوها ونزلوا بشاطئ السلامة اعرضوا عن ذكر الله آلهتهم ونسوا ما كانوا يدعونه وهو الله من قبل { وكان الانسان كفرواً } هذا طبعه وهذه حاله سرعة النسيان ، وشدة الكفران وقوله تعالى : وهو يخاطبهم لهدايتهم { أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر } يقرعهم على إعراضهم فيقول { أفأمنتم } الله تعالى { أن يخسف بكم } جانب الأرض الذي نزلمتوه عند خروجكم من البحر { أو يرسل عليكم حاصباً } أي ريحاً شديدة تحمل الحصباء فيهلككم كما أهلك عاداً { ثم لا تجدوا لكم } من غير الله { وكيلاً } يتولى دفع العذاب عنكم ويقول : { أم أمنتم } الله تعالى { أن يعيدكم فيه } أي في البحر { تارة أخرى } أي مرة أخرى { فيرسل عليكم قاصفاً من الريح } أي ريحاً شديدة تقصف الأشجار وتحطمها { فيغركم بما كفرتم } أي بسبب كفركم كما أغرق آل فرعون ( ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً ) أي تابعاً يثأر لكم منا ويتبعنا مطالباً بما نلنا منكم من العذاب .
(2/357)
________________________________________
فما لكم إذا لا تؤمنون وتوحدون وبالباطل تكفرون . وقوله تعالى : { ولقد كرمنا بني آدم } ففضلناهم بالنطق والعقل والعلم واعتدال الخلق { وحملناهم في البر والبحر } على ما سخرنا لهم من المراكب { ورزقناهم من الطيبات } أي المستلذان من اللحوم والحبوب والفواكه والخضر والمياه العذبة الفرات . وقوله تعالى : { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } فالآدميون أفضل من الجن وسائر الحيوانات ، وخواصهم أفضل من الملائكة ، وعامة الملائكة أفضل من عامة الادميين ومع هذا فإن الآدمي إذا كفر به وأشرك في عبادته غيره ، وترك عبادته ، وتخلى عن محبته ومراقبته أصبح شر الخليقة كلها . قال تعالى : { إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها ، أولئك هم شر البرية } من هداية الآيات : من هداية الآيات :
1- تعريف الله تعالى بذكر صفائه الفعلية والذاتية .
2- تذكير المشركين بحالهم في الشدة والرخاء حيث يعرفون الله في الشدة ويخلصون له الدعاء ، وينكرونه في الرخاء ويشركون به سواه .
3- تخويف المشركين بان الله تعالى قادر على أن يخسف بهم الأرض أو يرسل عليهم حاصباً من الريح فيهلكهم أو يردهم الى البحر مرة أخرى ويرسل عليهم قاصفاً فيغرقهم بسبب كفرهم بالله ، وعودتهم الى الشرك بعد دعائه تعالى والتضرع إليه حال الشدة .
4- بيان من الله تعالى على الانسان وافضاله عليه في تكريمه وتفضيله .
5- حال الرخاء أصعب على الناس من حال الشدة بالقحط والمرض ، أو غيرهما من المصائب .
6- الاعلان عن كرامة الآدمي وشرفه على سائر المخلوقات الأرضية .
(2/358)
________________________________________
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
شرح الكلمات :
{ بإمامهم } : أي الذين كانوا يقتدون به ويتبعونه في الخير أو الشر .
{ فتيلاً } : أي مقدار فتيل وهو الخيط الذي يوجد وسط النواة .
{ ومن كان في هذه أعمى } : من كان في الدنيا أعمى عن حجج الله تعالى الدالة على وجوده وعمله وقدرته ، فلم يؤمن به ولم يعبده فهو في الآخرة أشد عمى وأضل سبيلاً .
{ وإن كادوا } : أي قاربوا .
{ ليفتنونك } : أي يستتنزلونك عن الحق ، أي يطلبون نزولك عنه .
{ لتفتري علينا غيره } : أي لتقول علينا افتراءً غير الذي أوحينا إليك .
{ إذا تخذوك خليلاً } : أي لو فعلت علينا افتراءً غير الذي الذي أوحينا إليك .
{ إذا لاتخذوك خليلاً } : أي لو فعلت الذي طلبوا منك فعله لاتخذوك خليلاً لهم .
{ ضعف الحياة وضعف الممات } : أي لعذبناك عذاب الدنيا مضاعفاً وعذاب الآخرة كذلك .
{ ليستفزونك من الأرض } : أي ليستخفونك من الأرض أرض مكة .
{ لا يلبثون خلافك } : أي لا يبقون خلفك أي بعدك الا قليلاً ويهلكهم الله .
{ سنة من قد أرسلنا من قبلك } : أي لو أخرجوك لعذبناهم بعد خروجك بقليل ، سنتنا في الأمم .
{ ولا تجد لسنتنا تحويلا } : أي عما جرت به في الأمم السابقة .
معنى الآيات :
يقول تعالى لرسوله في تقرير عقيدة البعث والجزاء ، اذكر يا رسولنا { يوم ندعو كل أناس بإمامهم } الذين كانوا يقتدون به ويتبعونه فيتقدم ذلك الإمام ووراءه أتباعه وتوزع الكتب عليهم واحداً واحداً فمن أعطى كتابه بيمينه تشريفاً له وتكريماً ، فأولئك الذين أكرموا بإعطائهم كتبهم يأيمانهم ، يقرأون كتابهم ويحاسبون بما فيه { ولا يظلمون } أي لا ينقصون مقدار فتيل لا تنقص حسناتهم ، ولا بزيادة سيئاتهم . واذكر هذا لهم تعظم به لعلهم يتعظون ، وقوله تعالى : { ومن كان في هذه } أي الدنيا { أعمى } لا يبصر هذه الحجج والآيات والدلائل وأصر على الشرك ، والتكذيب والمعاصي { فهو في الآخرة أعمى } أي أشد عمى { وأضل سبيلا } فلا يرى طريق النجاة ولا يسلكه حتى يقع في جهنم . وقوله : { وإن كادوا ليفتنونك } أي يصرفونك { عن الذي أوحينا إليك } من توحيدنا والكفر بالباطل وأهله . { لتفتري علينا غيره } أي لتقول علينا غير الحق الذي أوحيناه إليك ، وإذا لو فعلت بأن وافقتهم على ما طلبوا منك ، من الإغضاء على شركهم والتسامح معهم إقراراً لباطلهم ، ولو مؤقتاً ، { لاتخذوك خليلاً } لهم وكانوا أولياء لك ، وذلك أن المشركين في مكة والطائف ، واليهود في المدينة كانوا يحاولون جهدهم أن يستنزلوا الرسول على شيء من الحق الذي يأمر به ويدعو إليه مكراً منهم وخديعة سياسية إذ لو وافقهم على شيء لطالبوا بآخر ، ولقالوا قد رجع إلينا ، فهو إذا يتقول ، وليس بالذي يوحى إليه بدليل قبوله منا كذا وكذا وتنازله عن كذا وكذا ، وقوله تعالى : { ولولا أن ثبتناك } أي على الحق حيث عصمناك { لقد كدت } أي قاربت { تركن } أي تميل { إليهم شيئاً قليلاً } بقبول بعض اقتراحاتهم { إذاً } أي لو ملت إليهم ، وقبلت منهم ولو شيئاً يسيراً { لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات } ، أي لضاعفنا عليك إليك العذاب في الدينا والآخرة ثم لا تجد لك نصيراً ينصرك إذا نحن خذلناك وعذبناك وقوله تعالى في حادثة أخرى وهي أنهم لما فشلوا في المحاولات السلمية أرادوا استعمال القوة فقرروا إخراجه من مكة بالموت أو الحياة فأخبر تعالى رسوله بذلك إعلاماً وإنذاراً ، فقال : { وإن كادوا ليستفزونك من الأرض } أرض مكة { ليخرجونك منها وإذاً } أي لو فعلوا لم يلبثوا بعد إخراجك الا زمناً ونهلكهم كما هي سنتنا في الأمم السابقة التي أخرجت أنبياءها أو قتلهم هذا معنى قوله تعالى : { وإن كادوا ليستفزونك } أي يستخفونك { من الأرض يخرجونك منها وإذا لا يلبثوا خلافك الا قليلا من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا } اي عما جرت به في الأمم السابقة .
(2/359)
________________________________________
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- الترغيب في الاقتداء بالصالحين ومتابعتهم والترهيب من الاقتداء بأهل الفساد ومتابعتهم .
2- عدالة الله تعالى في الموقف بإقامة الحجة على العبد وعدم ظلمه شيئاً .
3- عمى الدنيا عن الحق وشواهده سبب عمى الآخرة وموجباته من السقوط في جهنم .
4- حرمة الركون أي الميل لأهل الباطل بالتنازل عن شيء من الحق الثابت إرضاء لهم .
5- الوعيد الشديد بمكن يرضى أهل الباطل تملقاً لهم طمعاً في دنياهم فيترك الحق لأجلهم .
6- إمضاء سنن الله تعالى وعدم تخلفها بحال من الأحوال .
(2/360)
________________________________________
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
شرح الكلمات :
{ لدلوك الشمس } : أي زوالها من كبد السماء ودحوضها الى جهة الغرب .
{ إلى غس الليل } : أي الى ظلمة الليل ، إذ الغسق الظلمة .
{ وقرآن الفجر } : صلاة الصبح .
{ كان مشهوداً } : تشهده الملائكة ، ملائكة الليل وملائكة النهار .
{ مقاماً محموداً } : هو الشفاعة العظمى يوم القيامة حيث يحمده الأولون والآخرون .
{ أدخلني مدخل صدق } : أي المدينة ، إدخالاً مرضياً لا أرى فيه مكروهاً .
{ وأخرجني مخرج صدق } : أي من مكة إخراجاً لا ألتفت بقلبي إليها .
{ وقل جاء الحق وزهق الباطل } : أي عند دخولك مكة فاتحاً لها بإذن الله تعالى .
{ زهق الباطل } : أي ذهب واضمحل .
{ أعرض ونأ بجانبه } : أعرض عن الشكر فلم يشكر ، ونأ بجانبه : أي ثنى عطفه متبخراً في كبرياء .
{ على شاكلته } : أي طريقته ومذهبه الذي يشاكل حاله في الهدى والضلال .
معنى الآيات :
بعد ذلك العرض الهائل لتلك الأحداث الجسام أمر تعالى رسوله بإقام الصلاة فأنها مأمن الخائفين ، ومنار السالكين ، ومعراج الأرواح الى ساحة الأفراج فقال : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } أي لأول دلوكها وهو ميلها من كبد السماء الى الغرب وهو وقت الزوال ودخول وقت الظهر ، وقوله { إلى غسق الليل } أي الى ظلمته ، ودخلت صلاة العصر فيما بين دلوك الشمس وغسق الليل ، ودخلت صلاة المغرب وصلاة العشاء في غسق الليل الذي هو ظلمته ، وقوله : النبي وأتباعه سواء وقوله { إن قرآن الفجر كان مشهوداً } يعني محضوراً ، تحضره ملائكة النهار لتنصرف ملائكة الليل ، لحديث الصحيح « يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار . . . » وقوله { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } أي صلاة زائدة على الفرائض الخمس وهي قيام الليل ، وهو واجب عليه صلى الله عليه وسلم بهذه الآية ، وعلى أمته مندوب إليه ، مرغوب فيه .
وقوله : { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } عسى من الله تفيد الوجوب ، ولذا فقد أخبر تعالى رسوله مبشراً إياه بان يقيمه يوم القيامة { مقاماً محموداً } يحمده عليه الأولون والآخرون . وهو الشفاعة العظمى حيث يتخلى عنها آدم فمن دونه . . حتى تنتهي إليه صلى الله عليه وسلم فيقول : أنالها ، أنالها ، ويأذن له ربه فيشفع للخليفة في ضل القضاء ، ليدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، وتستريح الخلقية من عناء الموقف وطوله وصعوبته .
وقوله تعالى : { وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق } . هذه بشارة أخرى أن الله تعالى أذن لرسوله بالهجرة من تلقاء نفسه لا بإخراج قومه وهو كاره . فقال له : قل في دعائك ربي أدخلني المدينة دار هجرتي { مدخل صدق } بحيث لا أرى فيها مكروهاً ، وأخرجني من مكة يوم تخرجني { مخرج صدق } غير ملتفت إليها بقلبي شوقاً وحنيناً إليها .
{ واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً } أي وسلني أن أجعل لك من لدني سلطاناً نصيراً لك على من بغاك بسوء ، وكادك بمكر وخديعة ، وحاول منعك من إقامة دينك ، ودعوتك الى ربك ، وقوله تعالى : { وقل جاء الحق وزهق الباطل } هذه بشارة أخرى بأن الله تعالى سيفتح له مكة ، ويدخلها ظافراً منتصراً وهو يكسر الاصنام حول الكعبة وكانت ثلاثمائة وستين صنماَ! ويقول جاء الحق وزهق الباطل أي ذهب الكفر واضمحل .
(2/361)
________________________________________
{ إن الباطل كان زهوقاً } . لا بقاء له ولا ثبات إذا صاول الحق ، ووقف في وجهه ، وجائز أن يكون المراد الحق ، القرآن وبالباطل الكذب والافتراء ، وجائز ان يكون الحق الأسلام والباطل الكفر والشرك وأعم من ذلك ، أن الحق هو كل ما هو طاعة الله عز وجل ، والباطل كل طاعة للشيطان من الشرك والظلم وسائر المعاصي . وقوله تعالى : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } أي وننزل عليك يا رسولنا محمد من القرآن ما هو شفاء أي ما يستشفى به من مرض الجهل والضلال والشك والوساوس ورحمة للمؤمنين دون الكافرين ، لأن المؤمنين يعلمون به فيرحمهم الله تعالى بعملهم بكتابة ، وأما الكافرون ، فلا رحمة لهم فيه ، لأنهم مكذبون به تاركون للعمل بما فيه . وقوله { ولا يزيد الظالمين الا خساراً } أي ولا يزيد القرآن الظالمين وهو المشركون المعاندون الذين أصروا على الباطل عناداً ومكابرة ، هؤلاء لا يزيدهم ما ينزل من القرآن ويسمعونه الا خساراً لازدياد كفرهم وظلمهم وعنادهم . وقوله تعالى : { وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤوساً } يخبر الله تعالى عن الإنسان الكافر المحروم من النور الإيمان وهداية الإسلام أنه إذا أنعم عليه بنعمة النجاة من الهلاك وقد أشرف عليه بغرق أو مرض أو جوع أو نحوه ، أعرض عن ذكر الله ودعائه كما كان يدعوه في حال الشدة ، ونأى بجانبه أي بعد عنا فلا يلتفت إلينا بقلبه ، وذهب في خيلائه وكبريائه وقوله تعالى : { إذا مسه الشر كان يؤوساً } أي قنوطاً . هذا هو الكافر ، ذو ظلمة النفس لكفرة وعصيانه ، إذا مسه الشر من جوع أو مرض أو خوف أحاط به كان يؤوساً أي كثير اليأس والقنوط تامهما ، لعدم إيمانه بالله ورحمته وقدرته على إنجائه وخلاصه .
وقوله تعالى : { قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً } أي قل يا رسولنا للمشركين ، كل منا ومنكم يعمل عل طريقته ومذهبه بحسب حالة هداية وضلالاً . والله تعالى ربكم أعلم بمن هو أهدى منا ومنكم سبيلاً . ويجزي الكل بحسب عمله وسلوكه . وهذه كلمة مفاصلة قاطعة ، للنزاع الناجم عن كون كل يدعى أنه على الحق وان دينه أصوب ، وطريقته أمثل وسبيله أجدى وأنفع .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- وجوب إقامة الصلاة وبيان أوقاتها المحددة لها .
2- الترغيب في النوافل ، وخاصة التهجد أي « نافلة الليل » .
3- تقرير الشفاعة العظمى للنبي صلى الله عليه وسلم .
4- ضعف الباطل وسرعة تلاشيه إذا صاوله الحق ووقف في وجهه .
5- القرآن شفاء لأمراض القلوب عامة ورحمة بالمؤمنين خاصة .
6- بيان طبع المرء الكافر وبيان حال الضعف الملازم له .
7- تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كيف يتخلصون من الجدال الفارغ والحوار غير المثمر .
(2/362)
________________________________________
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
شرح الكلمات :
{ يسألونك عن الروح } : أي يسألك المشركون بواسطة أهل الكتاب عن الروح الذي يحيا به البدن .
{ من أمر ربي } : أي من شأنه وعلمه الذي استأثر به ولم يعلمه غيره .
{ لنذهبن بالذي أوحينا إليك } : أي القرآن بأن نمحوه من الصدور والمصاحف لفعلنا .
{ لك به علينا وكيلا } : يمنع ذلك منا ويحول دون ما أردناه منك .
{ إلا رحمة من ربك } : أي لكن أبقيناه عليك رحمة من ربك فلم نذهب به .
{ بمثل هذا القرآن } : من الفصاحة والبلاغة والمحتوى من الغيوب والشرائع والأحكام .
{ صرفنا } : بينا للناس مثلاً من جنس كل مثل ليتعظوا به فيؤمنوا ويوحدوا .
{ فأبى أكثر الناس } : أي أهل مكة إلا كفوراً أي جحوداً للحق وعناداً فيه .
معنى الآيات :
يقول تعالى : { ويسألونك عن الروح } إذ قد سأله المشركون عن الروح وعن أصحاب الكهف ، وذي القرنين بإيعاز من يهود المدينة فأخبره تعالى : بذلك وعلمه الرد عليهم فقال : { قل الروح من أمر ربي } وعلمه الذي لا يعلمه الا هو ، وما أوتيتم من العلم الا قليلا لأن سؤالهم هذا ونظائره دال على إدعائهم العلم فاعلمهم أن ما أوتوه من العلم الا قليل بجانب علم الله تعالى وقوله تعالى : { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك } هذا امتنان من الله على رسوله الذي انزل عليه القرأن شفاء ورحمة للمؤمنين بأنه قادر على محوه من صدره . وسطره ، فلا تبقى منه آية ثم لا يجد الرسول وكيلاً له يمنعه من فِفْلِ الله به ذلك ولكن رحمة منه تعالى لم يشأ ذلك بل يبقيه إلى قيام الساعة حجة الله على عباده وآية على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وصدق رسالته ، وليس هذا بأول إفضال من الله تعالى على رسوله ، بل فضل الله عليه كبير ، ولنذكر من ذلك طرفاً وهو عموم رسالته ، كونه خاتم الأنبياء ، العروج به الى الملكوت الأعلى ، إمامته للأنبياء الشفاعة العظمى ، والمقام المحمود .
وقوله تعالى : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } لا شك ان هذا الذي علم الله رسوله ان يقوله له سبب وهو ادعاء بعضهم أنه في إمكانه ان يأتي بمثل هذا القرآن الذي هو صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وبذلك تبطل الدعوى ، وينتصر باطلهم على الحق . فأمر تعالى رسوله أن يرد على هذا الزعم الباطل بقوله : قل يا رسولنا لهؤلاء الزاعمين الإيتان ، بمثل هذا القرآن لئن اجتمعت الإنس والجن متعاونين متظاهرين على الايتان بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ، ذلك لأنه وحى الله وكتابه ، وحجته على خلقه . وكفى . فكيف إذا يمكن للأنس والجن أن يأتوا بمثله ؟!
وقوله : { ولد صرفنا في هذا القرآن }
(2/363)
________________________________________
أي بينا مثلاً من جنس كل مثل من أجل هداية الناس وإصلاحهم علهم يتذكرون فيتعظون ، فيؤمنون ويوحدون فأبى أكثر الناس الا كفروا أي جحوداً بالحق ، وإنكاراً للقرآن وتكذيباً به وبما جاء فيه من الحق والهدى والنور ، لما سبق القضاء الإلهي من امتلاء جهنم بالغاوين وجنود إبليس أجمعين .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- علم الروح مما استأثر الله تعالى به . 2- ما علم أهل العلم الى علم الله تعالى إلا كما يأخذ الطائر بمنقاره من ماء المحيط .
3- حفظ القرآن في الصدور والسطور الى قرب الساعة .
4- عجز الأنس والجن عن الإيتان بقرآن كالقرآن الكريم .
5- لما سبق في علم الله من شقاوة الناس تجد أكثرهم لا يؤمنون .
(2/364)
________________________________________
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)
شرح الكلمات :
{ ينبوعاً } : عيناً لا ينضب ماؤها فهي دائمة الجريان .
{ جنة } : بستان كثير الأشجار .
{ كسفاً } : قطعاً جمع كسفة كقطعة .
{ قبيلاً } : مقابلة لنراهم عياناً .
{ من زخرف } : من ذهب .
{ ترقى } : تصعد في السماء .
{ مطمئنين } : ساكنين في الأرض لا يبرحون منها .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في الدعوة الى التوحيد والنبوة والبعث وتقرير ذلك . فقال تعالى مخبراً عن قيلهم لرسول الله وهم يجادلون في نبوته : فقالوا : { لن نؤمن لك } أي لن نتابعك على ما تدعو إليه من التوحيد والنبوة لك والبعث والجزاء لنا { حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } أي عيناً يجري ماؤها على وجه الأرض لا ينقطع { أو تكون لك جنة } أي بستان من نخيل وعنب ، { فتنفجر الأنهار خلالها } أي خلال الأشجار تفجيراً ، { أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً } أي قطعاً ، { أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً } أي مقابلة نراهم معاينة ، { أو يكون لك بيت من زخرف } أي من ذهب تسكنه بيننا { أو ترقى في السماء } أي تصعد بسلم ذي درج في السماء ، { ولن نؤمن لرقيك } إن أنت رقيت { حتى تنزل علينا كتاباً } من عند الله { نقرأه } يأمرنا فيه بالايمان بك واتباعك! هذه ست طلبات كل واحدة اعتبروها آية متى شاهدوها زعموا أنهم يؤمنون ، والله يعلم أنهم لا يؤمنون ، فلذا لم يستجب لهم وقال لرسوله : قل يا محمد لهم : { سبحان الله } متعجباً من طلباتهم { هل كنت الا بشراً رسولاً } ؟! أي هل كنت غير بشر رسول ؟ وإلا كيف يطلب مني هذا الذي طلبوا ، ان ما تطلبونه لا يقدر عليه عبد مأمور مثلي ، وإنما يقدر عليه رب عظيم قادر ، يقول للشيء كن . . . فيكون! وأنا ما ادعيت ربوبية ، وإنما أصرح دائماً بأني عبدالله ورسوله إليكم لأبلغكم رسالته بان تعبدوه وحده ولا تشركوا به سواه وتؤمنوا بالبعث الآخر وتعلموا به بالطاعات وترك المعاصي . وقوله تعالى : { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى } أي وما منع أهل مكة أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى على يد رسولهم { إلا أن قالوا } أي إلا قلولهم { أبعث الله بشراً رسولاً } ؟ منكرين على الله أن يبعث رسولاً من البشر!
وقوله تعالى : { قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً } أي قل يا رسولنا لهؤلاء المنكرين أن يكون الرسول بشراً ، المتعجبين من ذلك ، قل لهم : لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين ساكنين في الأرض لا يغادرونها لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً يهديهم بأمرنا ويعلمهم ما يطلب منهم فعله بإذننا لأنهم يفهمون عنه لرابطة الجنس بينهم والتفاهم الذي يتم لهم . ولذا بعثنا إليكم رسولاً من جنسكم تفهمون ما يقول لكم يقدر على إفهامكم والبيان لكم فكيف إذاً تنكرون الرسالة للبشر وهي أمر لا بد منه ؟!
هداية الآيات : من هداية الآيات : 1- تقرير نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم .
2- بيان شدة عناد مشركي قريش ، وتصلبهم وتحزبهم إزاء دعوة التوحيد .
3- بيان سخف عقول المشركين برضاهم للألوهية بحجر وإنكارهم الرسالة للبشر!
4- تقرير أن التفاهم حسب سنة الله لا يتم الا بين المتجانسين فإذا اختلفت الأجناس فلا تفاهم الا أن يشاء الله فلا يتفاهم انسان مع حيوان أو جان .
(2/365)
________________________________________
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)
شرح الكلمات :
{ شهيداً } : على أني رسول الله إليكم وقد بلغتكم وعلى أنكم كفرتم وعاندتم .
{ فلن تجد لهم أولياء } : أي يهدونهم .
{ على وجوهم } : أي يمشون على وجوهم .
{ عمياً وبكماً وصماً } : لا يبصرون ولا ينطقون ولا يسمعون .
{ كلما خبت } : أي سكن لهبها زدناهم سعيراً أي تلهباً واستعاراً .
{ مثلهم } : أي أناساً مثلهم .
{ أجلاً } : وقتاً محدداً .
معنى الآيات : ما زال السياق في تقرير النبوة المحمدية إذ يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : قل لأولئك المنكرين ان يكون الرسول بشراً ، { كفى بالله شهيداً بيني وبينكم } على أني رسوله وأنتم منكورن عليّ ذلك .
إنه تعالى كان وما زال { بعباده خبيراً } أي ذا خبرة تامة بهم { بصيراً } بأحوالهم يعلم المحق منهم من المبطل ، والصادق من الكاذب وسيجزي كلاً بعمله ورحمته . وقوله تعالى : { ومن يهد الله فهو المهتد } يخبر تعالى أن الهدايه بيده تعالى فمن يهده الله فهو المهتدي بحق ، { ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه } أي يهدونهم بحال من الأحوال ، وفي هذا الكلام تسلية للرسول وعزاء في قومه المصرين على الجحود والانكار لرسالته .
وقوله : { ونحشرهم يوم القيامة } أي أولئك المكذبين الضالين الذين ماتوا على ضلالهم وتكذيبهم فلم يتوبوا نحشرهم يوم القيامة ، يمشون على وجوههم حال كونهم عمياً لا يبصرون ، بكماً لا ينطقون ، صماً لا يسمعون وقوله تعالى : { مأواهم جهنم } أي محل استقرارهم في ذلك اليوم جهنم الموصوفة بأنها { كلما خبت } أي سكن لهبها عنهم زادهم الله سعيرا أي تلهباً واستعاراً . وقوله تعالى : { ذلك جزاؤهم } أي ذلك العذاب المذكور بأنهم جزاؤهم بأنهم كفروا بآيات الله أي سبب كفرهم بآيات الله . وقولهم إنكاراً لليعث الآخر واستبعاداً له : { أإذا كنا عظاماً ورُفاتاً } أي تراباً { أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً } ورد الله تعالى على هذا الاستبعاد منهم للحياة الثانية فقال : { أو يروا } أي أينكرون البعث الآخر؟ ولم يروا بعيون قلوبهم { أن الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم } ؟؟! بلى إنه لقادر لو كانوا يعلمون!
وقوله تعالى : { وجعل لهم أجلاً } أي وقتاً محدوداً معيناً لهلاكهم وعذابهم { لا ريب فيه } وهم صائرون إليه لا محالة ، وقوله : { فأبى الظالمون إلا كفوراً } أي مع هذا البيان والاستدلال العقلي أبى الظالمون إلا الجحود والكفران ليحق عليهم كلمة العذاب فيذوقوه والعياذ بالله تعالى .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- عظم شهادة الله تعالى ووجوب الاكتفاء بها .
2- الهداية والاضلال بيد الله فيجب طلب الهداية منه والاستعاذة به من الضلال .
3- فظاعة عذاب يوم القيامة إذ يحشر الظالمون يمشون على وجودهم كالحيات وهو صم بكم عمي والعياذ بالله تعالى من حال أهل النار .
4- جهنم جزاء الكفر بآيات الله والانكار للبعث والجزاء يوم القيامة .
5- دليل البعث عقلي كما هو نقلي فالقادر على البدء ، قادر عقلاً على الإعادة بل الاعادة -عقلاً- أهون من البدء للخلق من لا شيء .
(2/366)
________________________________________
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
شرح الكلمات :
{ خزائن رحمة ربي } : أي من المطر والأرزاق .
{ لأمسكتم } : أي منعتم الانفاق .
{ خشية الإنفاق } : خوف النفاد .
{ قتوراً } : أي كثير الأقتار أي البخل والمنع للمال .
{ تسع آيات بينات } : أي معجزات بينات أي واضحات وهو اليد والعصا والطمس الخ .
{ مسحوراً } : أي مغلوياً على عقلك ، مخدوعاً .
{ ما أنزل هؤلاء } : أي الآيات التسع .
{ مثبوراً } : أي يستخفهم ويخرجهم من ديار مصر .
{ اسكنوا الأرض } : أي أرض القدس والشام .
{ الآخرة } : أي الساعة .
{ لفيفاً } : أي مختلطين من أحياء وقبائل شتى .
معنى الآيات : يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم قل يا محمد لأولئك الذين يطالبون بتحويل جبل الصفا الى ذهب ، وتحويل المنطقة حول مكة ال بساتين من نخيل وأعناب تجري الأنهار من خلالها ، قل لهم ، لو كنتم أنتم تملكون الخزائن رحمة ربي من الأموال والأرزاق لأمسكتم بخلابها ولم تنفقوها خوفاً من نفاذها إذ هذا طبعكم ، وهو البخل ، { وكان الإنسان } قبل هدايته وإيمانه { قتوراً } أي كثير التقتير بخلاً نفسياً ملازماً حتى يعالج هذا الشح بما وضع الله تعالى من دواء نافع جاء بيانه في سورة المعارج هذا الكتاب الكريم .
وقوله تعالى : { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } أي ، ولقد أعطينا موسى بن عمران نبي بني إسرائيل تسع آيات وهي : اليد ، والعصا والدم ، وانفلاق البحر ، والطمس على أموال آل فرعون ، والطوفان والجراد والقمل والضفادع ، فهل أمن عليها أى فرعون ؟! لا ، إذا ، فلو اعطيناك ما طالب به قومك المشركون من الآيات الست التي اقترحوها وتقدمت في هذه السياق الكريم مبينة ، ما كانوا ليؤمنوا ، ومن هنا فلا فائدة من إعطائك إياها .
وقوله تعالى : { فاسأل بني إسرائيل } أي سل يا نبينا علماء بن اسرائيل كعبدالله بن سلام وغيره ، إذ جاءهم موسى بطالب فرعون بإرسالهم معه ليخرج بهم الى بلاد القدس ، وأرى فرعون الآيات الدالة على صدق نبوته ورسالته وأحقية ما يطالب به فقال له فرعون : { إني لأظنك يا موسى مسحوراً } أي ساحراً لإظهارك ما أظهرت من هذه الخوارق ، ومسحوراً بمعنى مخدوعاً مغلوياً على عقلك فتقول الذي تقول مما لا يقوله العقلاء فرد عليه موسى بقوله بما أخبر تعالى به في قوله { لقد علمت } أي فرعون ما أنزل هؤلاء الآيات البينات الا رب السماوات أي خالقها ومالكها والمدبر لها { بصائر } أي آيات واضحات مضيئات هاديات لمن طلب الهداية ، فعميت عنها وأنت تعلم صدقها { وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً } أي من أجل هذا اظنك يا فرعون ملعوناً ، من رحمة الله مبعداً مثبوراً هالكاً . فلما أعيته أي فرعون الحجج والبينات لجأ الى القوة ، { فأراد أن يستفزهم من الأرض } أي يستخفهم من أرض مصر بالقتل الجماعي استئصالاً لهم ، أو بالنفي والطرد والتشريد ، فعامله الرب تعالى بنقيض ، قصده فأغرقه الله تعالى هو وجنوده أجمعين ، وهو معنى قوله تعالى : { فأغرقناه ومن معه } أي من الجنود
(2/367)
________________________________________
{ أجمعين } وقوله تعالى : { وقلنا من بعده } أي من بعد هلاك فرعون وجنوده لبني اسرائيل على لسان موسى عليه السلام { اسكنوا الأرض } أي أرض القدس والشام الى نهاية آجالكم بالموت . { فإذا جاء وعد الآخرة } أي يوم القيامة بعثناكم أحياء كغيركم ، { وجئنا بكم لفيفاً } أي مختلطين من أحياء وقبائل وأجناس شتى لا ميزة لأحد على آخر ، حفاة عراة لفصل القضاء ثم الحساب والجزاء .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- الشح من طبع الانسان الا أن يعالجه بالإيمان والتقوى فيقيه الله منه .
2- الآيات وحدها لا تكفي لهداية الإنسان بل لا بد من توفيق إلهي .
3- مظاهر قدرة الله تعالى وانتصاره لأوليائه وكبت أعدائه .
4- بيان كيفية حشر الناس يوم القيامة لفيفاً أخلاطاً من قبائل وأجناس شتى .
(2/368)
________________________________________
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
شرح الكلمات :
{ وبالحق أنزلناه } : أي القرآن .
{ وبالحق نزل } : أي نزل ببيان الحق في العبادات والعقائد والأخبار والمواعظ والحكم والأحكام .
{ وقرآناً فرقناه } : أن نزلناه مفرقاً في ظرف ثلاث وعشرين سنة لحكمة اقتضت ذلك .
{ على مكث } : أي على مهل وتؤده ليفهمه المستمع إليه .
{ ونزلناه تنزيلاً } : أي شيئاً فشيئاً حسب مصالح الأمة لتكمل به ولتسعد عليه .
{ أوتوا العلم من قبله } : أي مؤمنوا أهل الكتاب من اليهود والنصارى كعبدالله بن سلام ، وسلمان الفارسي .
{ للأذقان سجداً } : أي سجداً على وجوهم ، ومن سجد على وجهه فقد خر على ذقنه ساجداً .
{ إن كان وعد ربنا لمفعولاً } : منجزاً ، واقعاً ، فقد ارسل النبي الأمي الذي بشرت به كتبه وأنزل عليه كتابه .
معنى الآيات :
يقول تعالى : { وبالحق أنزلناه } أي ذلك الكتاب الذي جحد به الجاحدون ، وكذب به المشركون أنزلناه بالحق الثابت حيث لا شك انه كتاب الله ووحيه الى رسوله ، { بالحق نزل } فكل ما جاء فيه ودعا اليه وأمر به . وأخبر عنه عقائد وتشريع وأخبار ووعد ووعيد كله حق ثابت لا خلاف فيه ولا ريبة منه . وقوله تعالى : { وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً } أي لم نرسلك لخلق الهداية في قلوب عبادنا ولا لإجبارهم بقوة السلطان على الإيمان بنا وتوحيدنا ، وإنما أرسلناك للدعوة والتبليغ { مبشراً } من أطاعنا بالجنة ومنذراً من عصانا مخوفاً من النار . وفي هذا تقرير لرسالته صلى الله عليه وسلم ونبوته تعالى : { وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث } أي أنزلناه القرآن وفرقناه في خلال ثلاث وعشرين سنة لحكمة منا اقتضت ذلك وقوله { لتقرأه على الناس على مكث } آيات بعد آيات ليكون ذلك أدعى الى فهم من يسمعه ويستمع اليه ، وقوله تعالى : { ونزلناه تنزيلاً } أي شيئاً فشيئاً حسب مصالح العباد وما تتطلبه تربيتهم الروحية والانسانية ليكملوا به ، عقولاً وأخلاقاً وأرواحاً ويسعدوا به في الدارين وقوله تعالى : { قل آمنوا به أو لا تؤمنوا } أي قل يا رسولنا للمنكرين للوحي القرآني من قومك ، آمنوا أو لا تؤمنوا فإن إيمانكم بهد كعدمه لا يغير من واقعه شيئاً فسوف يؤمن به ويسعد عليه غيركم إن لم تؤمنوا أنتم به وهاهم أولاء الذين أوتوا العلم من قبله من علماء أهل الكتابين اليهود والنصارى قد آمنوا به ، يريد أمثال عبدالله بن سلام وسلمان الفارسي والنجاشي أصحم الحبشي وإنهم { إذا يتلى عليهم } أي يقرأ عليهم { يخرون للأذقان سجداً } أي يخرون ساجدين على أذقانهم ووجوهم ويقولون حال سجودهم { سبحان ربنا } أي تزيهاً له أن يخلف وعد أنه يبعث نبي آخر الزمان وينزل عليه قرآناً ، { إن كان وعد ربنا لمفعولاً } إقراراً منهم بالنبوة المحمدية والقرآن العظيم ، أي ناجزاً إذ وعد بإرسال النبي الخاتم وإنزال الكتاب عليه فأنجز ما وعد ، وهكذا وعد ربنا دائماً ناجز لا يختلف ، وقوله { ويخرون للأذقان يبكون } أي عندما يسمعون القرآن لا يسجون فحسب بل يخرون يبكون ويزيدهم سماع القرآن وتلاوته خشوعاً في قلوبهم واطمئناناً في جوارهم لأنه الحق سمعوه من ربهم .
(2/369)
________________________________________
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- القرآن حق من الله وما نزل به كله الحق .
2- الندب الى ترتيل القرآن لا سيما عند قراءته على الناس لدعوتهم الى الله تعالى .
3- تقرير نزول مفرقاً في ثلاث وعشرين سنة .
4- تقرير النبوة المحمدية بنزول القرآن وإيمان من آمن به من أهل الكتاب .
5- بيان حقيقة السجود وأنه وضع على الأرض .
6- مشروعية السجود للقارئ أو المستمع وسنية ذلك عند قراءة هذه الآية وهي { يخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً } فيخر ساجداً مكبراً في الخفض وفي الرفع قائلاً : الله أكبر ويسبح ويدعو في سجوده بما يشاء .
(2/370)
________________________________________
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
شرح الكلمات :
{ ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } : أي سموه بأيهما ونادوه بكل واحد منهما الله أو الرحمن .
{ أياما تدعوا } : أي إن تدعوه بأيهما فهو حسن لأن له الأسماء الحسنى وهذا منها .
{ ولا تجهر بصلاتك } : أي بقراءتك في الصلاة كراهة أن يسمعها المشركون فيسبوك ويسبوا القرآن ومن أنزله .
{ ولا تخافت بها } : أي لا تسر إسراراً حتى ينتفع بقراءتك أصحابك الذين يصلون وراءك بصلاتك .
{ وابتغ ذلك سبيلاً } : أي اطلب بين السر والجهر طريقاً وسطاً .
{ لم يتخذ ولداً } : كما يقول الكافرون .
{ ولم يكن له شريك } : كما يقول المشركون .
{ ولم يكن له ولي من الذل } : أي لم يكن ولي ينصره من اجل الذي إذ هو العزيز الجبار مالك الملك ذو الجلال والاكرام .
{ وكبره تكبيرا } : أي عظمه تعظيماً كاملاً عن اتخاذ الولد والشريك والولي من الذل . معنى الآيات :
كان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه يا الله . يا رحمن ، يا رحمن يا رحيم فسمعه المشركون وهم يتصيدون له أية شبهة ليثيروها ضده فلما سمعوه يقول : يا الله ، يا رحمن قالوا : أنظروا اليه كيف يدعو إليهن وينهانا عن ذلك فأنزل الله تعالى : { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } أي قل لهم يا نبينا ادعوا الله اوادعوا الرحمن فالله هو الرحمن الرحيم { فأياما تدعوا } منهما الله او الرحمن فهو الله ذو الاسماء الحسنى والصفات العلة وقوله تعالى : { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً } اي وسطاً بين السر والجهر ، وذلك ان المشركين كانوا اذا سمعوا القرآن سبوا قارئه ومن أنزله ، فأمر الله تعالى رسوله والمؤمنون تابعون له إذا قرأوا في صلاتهم أن لا يجهروا حتى لا يسمع المشركون ولا يسروا حتى لا يحرم سماع القرآن من يصلي وراءهم فأمر رسول الله بالتوسط بين الجهر والسر .
وقوله تعالى : { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً } . أي أمر الله تعالى الرسول أن يحمد الله لم يتخذ ولداً كما زعم ذلك بعض العرب ، إذ قالوا الملائكة بنات الله! وكما زعم ذلك اليهود أذ قالوا عزير بن الله والنصارى إذ قالوا عيسى بن الله! { ولم يكن له شريك في الملك } كما قال المشركون من العرب : لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك الا شريكاً هو لك ، تملكه وما ملك!
{ ولم يكن له ولي من الذل } كما قال الصابئون والمجوس : لولا أولياء الله لذل الله!
{ وكبره } أنت أو عظمه يا رسولنا تعظيماً من أن يكون له وصف النقص والافتقار والعجز .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- إن لله الأسماء الحسنى وهي مائة اسم الا اسماً واحداً فيدعى الله تعالى وينادي بأيها ، وكلها حسنى كما قال تعالى في سورة الأعراف : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } 2- بيان ما كان عليه المشركون في مكة من بغض للرسول والقرآن والمؤمنين .
3- مشروعية الأخذ بالاحتياط للدين كما هو للدنيا .
4- وجوب حمد لله تعالى والثناء عليه وتنزيهه عن كل عجز ونقص .
5- هذه الآية { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ، ولم يكن له ولي من الذل } تسمى آية العز هكذا سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(2/371)
________________________________________
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
شرح الكلمات :
{ الحمد لله } : الحمد الوصف بالجميل ، والله علم على ذات الرب تعالى .
{ الكتاب } : القرآن الكريم .
{ ولم يجعل لع عوجاً } : اي ميلاً عن الحق والاعتدال في ألفاظه ومعانيه .
{ قيما } : أي ذا اعتدال لا إفراط فيه ولا تفريط في كل ما حواه ودعا إليه من التوحيد والعبادة والآداب والشرائع والأحكام .
{ بأساً شديداً } : عذاباً ذا شدة وقسوة وسوء عذاب في الآخرة .
{ من لدنه } : من عنده سبحانه وتعالى .
{ أجرأ حسناً } : أي الجنة إذ هي أجر المؤمنين العاملين بالصالحات .
{ غن يقولون الا كذباً } : أي ما يقولون الا كذباً بحتاً لا واقع له من الخارج .
{ باخع نفسك } : قاتل نفسك كالمنتحر .
{ بهذا الحديث أسفاً } : أي بالقرآن من أجل الأسف الذي هو الحزن الشديد .
معنى الآيات :
أخبر تعالى في فاتحة سورة الكهف بانه المستحق للحمد ، وأن الحمد لله وذكر موجب ذلك ، وهو إنزاله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم الكتاب الفخم العظيم وهو القرآن العظيم الكريم فقال : { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب } وقوله تعالى ، { ولم يجعل له عوجاً } أي ولم يجعل لذلك الكتاب العظيم عوجاً أي ميلاً عن الحق والاعتدال في ألفاظه ومعانية فهو كلام مستقيم محقق للآخذ به كل الكتب السابقة مهيمناً عليها الحق فيها ما احقه والباطل وما أبطله .
وقوله { لينذر بأساً شديداً من لدنه } أي انزل الكتاب الخالي من العوج القيم من أجل أن ينذر الظالمين من اهل الشرك والمعاصي عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة ينزل بهم عن ربهم الذين كفروا به وأشركوا وعصوه وكذبوا رسوله وعصوه . ومن أجل ان يبشر بواسطته أيضاً { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي يخبرهم بما يسرهم ويفرح قلوبهم وهو أن لهم عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً وقوله تعالى : { لينذر } بصورة خاصة أولئك المتقولين على الله المفترين عليه بنستهم الولد اليه فقالوا : { اتخذ الله ولداً } وهو اليهود والنصارى وبعض مشركي العرب الذين قالوا ان الملائكة بنات الله! هذا ما دل عليه قوله تعالى : { وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً } وهو قول توارثوه لا علم لأحد منهم ، وإنما هو مجرد كذب يتناقلونه بينهم لذا قبح الله قولهم هذا وعجب نته القعلاء ، فقال : { كبرت كلمة تخرج من أفواههم } أي عظم قولهم { اتخذ الله ولداً } كلمة قالوها تخرج من أفواههم لا غير اذ لا واقع لها أبداً ، وقرر الانكار عليهم فقال : { إن يقولون الا كذباً } أي ما يقولون الا الكذب البحت الذي لا يعتمد على شيء من الصحة البتة . وقوله { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث اسفاً } يعاتب الله تعالى رسوله ويخفف عنه ما يجده في نفسه من الحزن على عدم إيمانه قومه واشتدادهم ي الكفر والتكذيب وما يقترحونه عليه من الآيات أي فلعلك يا رسولنا قاتل نفسك على إثر تفعل واصبر لحكم ربك فإنه منجز وعده لك بالنصر على قومك المكذبين لك .
(2/372)
________________________________________
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- وجوب حمد الله تعالى على آلائه وعظيم نعمه .
2- لا يحمد إلا من له يقتضي حمده ، وإلا كان المدح كذباً وزوراً .
3- عظيم شأن القرآن الكريم وسلامته من الافراط والتفريط والانحراف في كل ما جاء به .
4- بيان مهمة القرآن وهي البشارة لأهل الإيمان والإنذار لأهل الشرك والكفران .
5- التنديد بالكذب على الله ونسبة ما لا يليق بجلاله وكماله إليه كالولد ونحوه .
6- تحريم الانتحار وقتل النفس من الحزن أو الخوف ونحوه من الغضب والحرمان .
(2/373)
________________________________________
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
شرح الكلمات :
{ صعيداً جزراً } : أي تراباً لا نبات فيه ، فالصعيد هو التراب والجزر الذي لا نبات فيه .
{ الكهف } : النقب الواسع في الجبل والضيق منه يقال له « غار » .
{ والرقيم } : لوح حجري رقمت فيه أسماء أصحاب الكهف .
{ أوى الفتية الى الكهف } : اتخذوه مأوى لهم ومنزلاً نزلوا فيه .
{ الفتية } : جمع فتى وهم شبان مؤمنون .
{ هيئ لنا من أمرنا رشداً } : أي ييسر لنا طريق رشد وهدايته .
{ فضربنا على آذانهم } : أي ضربنا على آذانهم حجاباً يمنعهم من سماع الأصوات والحركات .
{ سنين عدداً } : أي اعواماً عدة .
{ ثم بعثناهم } : أي من نومهم بمعنى أيقظناهم .
{ أحصى لما لبثوا } : أي أضبط لأوقات بعثهم في الكهف .
{ أمداً } : أي مدة محدودية معلومة .
معنى الآيات : قوله تعالى : { إنا جعلنا ما على الارض زينة لها } من حيوان وأشجار ونبات وأنهار وبحار ، وقوله { لنبلوهم } أي لنختبرهم { أيهم أحين عملاً } اي أيهم اترك لها وأتبع لأمرنا ونهينا وأعمل فيها بطاعتنا وقوله : { وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً } أي وإنا لمخربوها في يوم ، من الأيام بعد عمارتها ونضارتها وزينتها نجعلها { صعيداً جرزاً } أي تراباً لا نبات فيه ، إذا فلا تحزن با رسولنا ولا تغتم مما تلاقيه من قومك فإن مآل الحياة من أجلها عادوك وعصوننا الى أن تصبح صعيداً جزراً . وقوله تعالى : { أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً } أي أظننت أيها النبي أن أصحاب الكهف أي الغار في الكهف والرقيم وهو اللوح الذي كتبت عليه ورقم أصحاب الكهف وأنسابهم وقصتهم { كانوا من آياتنا عجباً } أي كان أعجب من آياتنا في خلق المخلوقات ، السموات والأرض بل من مخلوقات الله ما هو أعجب بكثير . وقوله : { إذ أوى الفتية إلى الكهف } هذا شروع في ذكر قصتهم العجيبة ، أي اذكر للسائلين لك عن قصة هؤلاء الفتية ، إذا أووا الى الغار في الكهف فنزلوا فيه ، واتخذوه مأوى لهم ومنزلاً هروباً من قومهم الكفار أن يفتوهم في دينهم وهم سبعة شبان ومعهم كلب لهم فقالوا سائلين ربهم : { ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من امرنا رشدا } أي أعطنا من عندك رحمة تصبحنا في هجرتنا هذه للشرك والمشركين { وهيء لنا من أمرنا رشدا } أي ويسر لنا من أمرنا في فرارنا من ديار المشركين خوفاً على ديننا { رشداً } أي سداداً وصلاحاً ونجاة من أهل الكفر والباطل ، قال ابن جرير الطبري في تفسيره لهذه الآيات وقد اختلف أهل العلم في سبب مصير هؤلاء الفتية الى الكهف الذي ذكر الله في كتابه فقال بعضهم : كان سبب ذلك أنهم كانوا مسلمين على دين عيسى وكان لهم ملك عابد وثن دعاهم الى عبادة الأصنام فهربوا بدينهم منه خشية أن يفتنهم عن دينهم او يقتلهم فاستخفوا منه في الكهف وقوله تعالى : { فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً } اي فضربنا على آذانهم حجاباً يمنعهم من سماع الأصوات والحركات فناموا في كهفهم سنين معدودة أي ثلاثمائة وتسع سنين ، وكانوا يتقلبون بلطف الله وتدبيره هم من جنب الى جنب حتى بعثهم من نومهم وهذا استجابة الله تعالى لهم إذ دعوه قائلين : { رنبا آتنا من لدنك رحمة } وقوله تعالى : { ثم بعثناهم } أي من نومهم ورقادهم { لنعلم اي الحزبين احصى لما لبثوا } أي في الكهف { أمداً } أي لنعلم علم مشاهدة ولينظر عبادي فيعلموا أي الطائفتين اللتين اختلفتا في قدر لبثهم في الكهف كانت أحصى لمدة لبثهم الى مدى أي غاية كذا من السنين .
(2/374)
________________________________________
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان العلة في وجود الزينة على هذه الأرض ، وهي الابتلاء والاختبار للناس ليظهر الزاهد فيها ، العارف بتفاهتها وسرعة زوالها ، وليظهر الراغب فيها المتكالب عليها الذي عصى الله من اجلها .
2- تقرير فناء كل ما على الأرض حتى تبقى صعيداً جرزاً وقاعاً صفصفاً لا يرى فيها عوج ولا أمت .
3- تقرير نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم بإجابة السائلين عن أصحاب الكهف بالايجاز والتفصيل .
4- تقرير التوحيد ضمن قصة أصحاب الكهف إذ فروا بدينهم خوفاً من الشرك الأصغر .
5- استجابة الله دعاء عباده المؤمنين الموحدين حيث استجاب للفتية فآواهم الغار ورعاهم حتى بعثهم بعد تغير الأحوال وتبدل العباد والبلاد .
(2/375)
________________________________________
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
شرح الكلمات :
{ نبأهم بالحق } : أي خبرهم العجيب بالصدق واليقين .
{ وزنادهم هدى } : أي إيماناً وبصيرة في دينهم ومعرفة ربهم حتى صبروا على الهجرة . { وربطنا على قلوبهم } : أي شددنا عليها فقويت عزائمهم حتى قالوا كلمة الحق عند سلطان جائر .
{ لن ندعوا من دونه إلها } : لن نعبد من دونه إلهاً آخر .
{ لولا يأتون عليهم بسلطان } : أي هلا يأتون بحجة قوية تثبت صحة عبادتهم .
{ على الله كذباً } : أي باتخاذ آلهة من دونه تعالى يدعوها ويعبدها .
{ فأووا إلى الكهف } : أي انزلوا في الكهف تسترون به على أعين أعدائكم المشركين .
{ ينشر لكم ربكم من رحمته } : أي يبسط من رحمته عليكم بنجاتكم مما فررتم منه .
{ ويهيء لكم من أمركم } : وييسر لكم من أموالكم الذي أنتم فيه من الغم والكرب .
{ مرفقا } : أي ما ترتفقون به وتنتفعون من طعام وشراب وإواء .
معنى الآيات :
بعد أن ذكر تعالى موجز قصة أصحاب الكهف أخذ في تفصيلها { نحن نقص عليكم نبأهم بالحق } أي نحن رب العزة والجلال نقص عليك أيها الرسول خبر أصحاب الكهف بالحق الثابت الذي لا شك فيه { إنهم فتية } ، جمع فتى { آمنوا بربهم } أي صدقوا بوجوده ومكارهه .
وقوله تعالى : { وربطنا على قلوبهم } أي قوينا عزائمهم بما شددنا على قلوبهم حتى قاموا وقالوا على رؤوس الملأ وأمام ملك كافر { ربنا رب السموات والأرض } أي ليس لنا رب سواء ، لن ندعو من دونه إلهاً مهما كان شأنه ، إذ لو اعترفنا بعبادة غيره لكنا قد قلنا إذا شططاً من القول وهو الكذب والغلو فيه وقوله تعالى : { هؤلاء قومنا اتخذوا دونه آلهة } يخبر تعالى عن قبل الفتية لما ربط الله على قلوبهم إذ قاموا في وجه المشركين الظلمة وقولوا : { هؤلاء قومنا اتخذوا من دون الله آلهة ، لولا يأتون عليهم بسلطان بين } أي هلا يأتون عليهم بسلطان بين أي بحجة واضحة تثبت عبادة هؤلاء الأصنام من دون الله ؟ ومن أين ذلك الحال أنه لا إله إلا الله؟!
وقوله تعالى : { فمن أظلم ممن افترى } ينفي الله عز وجل أن يكون هناك أظلم ممن افترى على الله كذباً باتخاذ آلهة يعبدها معه باسم التوسل بها وشعار التشفع والتقرب الى الله زلفى بواسطتها!! وقوله تعالى عن قيل أصحاب الكهف لبعضهم : { وإذا اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله } من الأصنام والأوثان { فأووا إلى الكهف } أي فيصروا الى غار الكهف المسمى « بنجلوس » { ينشر لكم ربكم من رحمته } أي يبسط لكم من رحمته بتيسيره لكم المخرج من الأمر الذي رميتم به من الكفار « دقينوس » { ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً } أي ما ترتفقون به من طعام وشراب وأمن في مأواكم الجديد الذي أويتم إليه فراراً بدينكم واستخفائكم من طالبكم المتعقب لكم ليفتنكم في دينكم أو يقتلكم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير النبوة المحمدية بذكر قصة أصحاب الكهف .
2- تقرير زيادة الإيمان ونقصانه .
3- فضيلة الجرأة في الحق والتصريح به ولو أدى الى القتل أو الضرب أو السجن .
4- تقرير التوحيد وأنه لا إلا الله على لسان أصحاب الكهف .
5- بطلان عبادة غير الله لعدم وجود دليل عقلي أو نقلي عليها .
6- الشرك ظلم وكذب والمشرك ظالم مفتر كاذب .
7- تقرير فرض الهجرة في سبيل الله .
8- فضيلة الألتجاء الى الله تعالى وطلب حمايته لعبده وكفاية الله من لجأ إليه في صدق .
(2/376)
________________________________________
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
شرح الكلمات :
{ تزاور } : أي تميل .
{ تقرضهم } : تتركهم وتتجاوز عنهم فلا تصيبهم .
{ في فجوة منه } : متسع من الكهف ينالهم برد الريح ونسيمها .
{ من آيات الله } : أي دلائل قدرته .
{ أيقاظاً } : جمع يقظ أي منتبهن لأن أعينهم منفتحة .
{ بالوصيد } : فناء الكهف .
{ رُعباً } : منعهم الله بسببه من الدخول عليهم .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم غي عرض قصة أصحاب الكهف يقول تعالى في خطاب رسوله صلى الله عليه وسلم { وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم } أي تميل عنه ذات اليمين { وإذا غربت تقرضهم } أي تتركهم وتتجاوز عنهم فلا تصيبهم ذات الشمال . وقوله تعالى : { وهم في فجوة منه } أي متسع من الكهف ينالهم برد الريح ونسيمها ، وقوله { ذلك من آيات الله } أي وذلك المذكور من ميلان الشمس عنهم إذا طلعت وقرضاً لهم اذا غربت من دلائل قدرة الله تعالى ورحمته بأوليائه ولطفه بهم ، وقوله تعالى : { ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً } يخبر تعالى ان الهداية بيده وكذلك الإضلال فليطلب العبد من ربه الهداية إلى صراطه المستقيم ، وليستعذ من الضلال المبين ، إذ من يضله الله لن يوجد له ولي يرشده بحال من الأحوال ، وقوله تعالى : { وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود } أي أنك إذا نظرت إليهم تظنهم أيقاظاً أي منتبهين لأن أعينهم متفتحة وهم رقود نائمون لا يحسون بأحد ولا يشعرون ، وقوله تعالى : { ونقلبهم ذات اليمين } أي جهة اليمين { وذات الشمال } أي جهة الشمال حتى لا تعدو التربة على أجسادهم فتبليها . وقوله { وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد } أي : وكلبهم الذي خرج معهم ، وهو كلب صيد { باسط ذراعيه بالوصيد } أي : بفناء الكهف . وقوله تعالى : { لو اطلعت عليهم } أي لو شاهدتهم وهم رقود أعينهم مفتحة { لوليت منهم فراراً } لرجعت فاراً منهم { ولملئت منهم رعباً } أي خوفاً وفزعاً ، ذلك ان الله ألقى عليهم من الهيبة والوقار حتى لا يدنومنهم أحد ويسمهم بسوء الى أن يوقظهم عند نهاية الأجل الذي ضرب لهم ، ليكون أمرهم آية من آيات الله الدالة على قدرته وعظيم سلطانه وعجيب تدبيره في خلقه .
من هداية الآيات :
1- بيان لطف الله تعالى بأوليائه بإكرامهم في هجرتهم إليه .
2- تقرير أن الهداية بيد الله فالمهتدي من هداه الله والضال من أضله الله ولازم ذلك طلب الهداية من الله ، والتعوذ به من الضلال لأنه مالك ذلك .
3- بيان عجيب تدبير الله تعالى وتصرفه في مخلوقاته فسبحانه من إله عظيم عليم حكيم .
(2/377)
________________________________________
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
شرح الكلمات :
{ كذلك بعثناهم } : أي كما أنمناهم تلك النومة الطويلة الخارقة للعادة بعثناهم من رقادهم بعثاً خارقاً للعادة أيضاً فكان في منامهم آية وفي إقافتهم آية .
{ كم لبثتم } : أي في الكهف نائمين .
{ يوماً أو بعض يوم } : لأنهم دخلوا الكهف صباحاً واستيقظوا عشية .
{ بورقكم } : بدراهم الفضة التي عندكم .
{ الى المدينة } : أي المدينة التي كانت تسمى افسوس وهي طرسوس اليوم .
{ أزكى طعاماً } : أي أيُّ أطعمة المدينة أحلُ أي أكثر حلية .
{ وليتلطف } : أي يذهب يشتري الطعام ويعود في لطف وخفاء .
{ يرجموكم } : أي يقتلوكم رمياً بالحجارة .
{ أعثرنا عليهم } : أطلعنا عليهم أهل بلدهم .
{ ليعلموا } : أي قومهم أن البعث حق للأجساد والأرواح معاً .
{ إذ يتنازعون } : أي الكفار قالوا ابنوا عليهم أي حولهم بناء يسترهم .
{ فقالوا } : أي المؤمنون والكافرون في شأن البناء عليهم .
{ وقال الذين غلبوا على امرهم : وهو المؤمنون لنتخذن حولهم مسجداً يصلى فيه .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في الحديث عن أصحاب الكهف فقوله : { وكذلك بعثناهم ليتسألوا بينهم } أي كما أنمناهم ثلاثمائة سنة وتسعاً وحفظنا أجسادهم وثيابهم من البلى ومنعناهم من وصول أحد إليهم ، وهذا من مظاهر قدرتنا وعظيم سلطاننا بعثناهم من نومهم الطويل ليتساءلوا بينهم فقال قائل منهم مستفهماً كم لبثتم يا إخواننا فأجاب بعضهم قائلاً { لبثنا يوماً أو بعض يوم } لأنهم آووا الى الكهف في الصباح وبعثوا من رقادهم في المساء وأجاب بعض آخر بقول مرض للجميع وهو قوله : { ربكم أعلم بما لبثتم } فسلموا الأمر إليه ، وكانوا جياعاً فقالوا لبعضهم { فابعثوا أحدكم بورقكم هذه } يشيرون الى عملة من فضة كانت معهم { الى المدينة } وهي أفسوس التي خرجوا منها هاربين بدينهم ، وقوله : { فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه } أي فلينظر الذي تبعثونه لشراء الطعام أي أنواع الأطعمة أزكى أي أطهر من الحرام والاستقذار { فليأتكم برزق منه } لتأكلوا سداً لجوعكم وليتلطف في شرائه وذهابه وإيابه حتى لا يشعر بكم أحد وعلل لقوله هذا بقوله { إنهم سداً أن يظهروا عليكم } أي يطلعوا { يرجموكم } أو يقتلوكم رجماً بالحجارة { أو يعيدوكم في ملتهم } ملة الشرك بالقسر والقوة . { ولن تفلحوا إذاً أبداً } أي ولن تفلحوا بالنجاة من النار ودخول الجنة إذا أنتم عدتم للكفر والشرك . . فكفرتم وأشركتم بربكم .
وقوله تعالى : { وكذلك أعثرنا عليهم } أي وكما أنمناهم تلك المدة الطويلة وبعثناهم ليتساءلوا بينهم فيزدادوا إيماناً ومعرفة بولاية الله تعالى وحمايته لأوليائه { أعثرنا عليهم } أهل مدينتهم الذين انقسموا الى فريقين فريق يعتمد ان البعث حق وأنه بالأجسام والأرواح ، وفريق يقول البعث الآخر للأرواح دون الأجسام كما هي عقيدة النصارى الى اليوم ، فأنام الله الفتية وبعثهم وأعثر عليهم هؤلاء القوم المختلفين فاتضح لهم أن الله قادر على بعث الناس أحياء أجساماً وأرواحاً كما بعث أصحاب الكهف وهو معنى قوله تعالى : { وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا } أي أولئك المختلفون في شأن البعث أن وعد الله حق وهو ما وعد به الناس من أنه سيبعثهم بعد موتهم يوم القيامة ليحاسبهم ويجزيهم بعملهم .
(2/378)
________________________________________

اس حجم میں

أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير- ط: التفاسير - المجلد الرابع

ڈاؤن لوڈ کریں

کتاب کے بارے میں