Về bài viết

Tải về

الحجُّ وإرغام الشيطان

الحجُّ وإرغام الشيطان



روى الإمام مالك ـ رحمه الله ـ في موطئه عن طلحة بن عبيد الله بن كَريز: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(( ما رُئي الشيطانُ يوماً هو أصغرُ ولا أدحرُ ولا أحقرُ ولا أغيظُ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلاَّ لِمَا يرى من تنزُّل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام )) (1) ، وهذا حديث مرسل.

وفي نصوص الشرع شواهد عديدة تدلُّ على صحَّة معناه، فإنَّ الشيطانَ ـ وما من ريب في ذلك ـ يغيظُه ويسوؤه تنزُّل الرحمة والمغفرة على عباد الله، وصفحُه وعفوُه عنهم سبحانه، وعتقُه لرقابهم من النار أعاذنا الله والمؤمنين منه.

روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطانُ يبكي، فيقول: يا ويله، أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأُمرت بالسجود فأبيتُ فلي النار )) (2).

ولهذا فإنَّ عدوَّ الله حريصٌ غاية الحرص على إفساد حجِّ الإنسان وتفويت ثوابه عليه من خلال سبل عديدة ومسالك متنوِّعة بدءً من أوَّل مسير الإنسان وانطلاقه إلى الحجِّ، ومروراً بجميع أعماله وسائر مناسكه ويجند لذلك جنوده ويُهيِّئ لذلك عتاده.

يقول الإمام مجاهد بن جبر رحمه الله: (( ما من رفقة تخرج إلى مكة إلاَّ جهَّز معهم إبليس مثلَ عُدَّتهم )) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره(3).

ويشهد لهذا قول الله تعالى عن عدوِّه إبليس: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}(4).

قال عون بن عبد الله رحمه الله: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} قال: ((طريق مكة))، وهذا بلا ريب من صراط الله المستقيم الموصل إلى رضوانه والمفضي إلى جنَّة النعيم، والصراط معناه أوسعُ من هذا.

ولذا قال ابن جرير رحمه الله: ((والذي قاله عونٌ وإن كان من صراط الله المستقيم، فليس هو الصراطَ كلَّه، وإنَّما أخبر عدوُّ الله أنَّه يقعد لهم صراطَ الله المستقيم، ولم يُخصِّص منه شيئاً دون شيء؛ لأنَّ الخبيث لا يألو عباد الله الصدَّ عن كلِّ ما كان لهم قُربةٌ إلى الله))(5). اهـ.

وفي المسند للإمام أحمد من حديث سَبْرَة بن فاكِه رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ الشيطان قعد لابن آدمَ بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام فقال له: أَتُسلم وتذَرُ دينَك ودينَ آبائك وآباء أبيك؟ قال: فعصاه فأسلَم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال أتُهاجر وتَذَرُ أرضَك وسماءَك؟ وإنَّما مثلُ المهاجر كمثل الفرس في الطِّوَل، قال: فعصاه فهاجر، قال: ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: هو جَهْدُ النَّفْس والمال، فتُقاتِلُ فتُقتَلُ فتُنكَحُ المرأةُ ويُقسَمُ المالُ؟ قال: فعصاه فجاهد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فمَن فعل ذلك منهم فمات كان حقًّا على الله أن يُدخلَه الجنَّة، أو قُتل كان حقًّا على الله أن يُدخله الجنَّة، وإن غرِقَ كان حقًّا على الله أن يُدخلَه الجنَّة، أو وَقَصَتْهُ دابَّةٌ كان حقًّا على الله أن يُدخلَه الجنَّة))(6).

والشاهد من هذا الحديث أنَّ الشيطان جالسٌ للإنسان في كلِّ طريق، وهو أحرصُ ما يكون عليه عندما يهمُّ بالخير أو يدخلُ فيه، فهو يشتدُّ عليه حينئذ ليقطعه عنه.

وقد ثبت في الصحيح عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إنَّ عفريتاً من الجنِّ تفلَّت عليَّ البارحةَ ليقطعَ عليَّ صلاتي ))(7) ، وكلَّما كان الفعلُ أنفعَ للعبد وأحبَّ إلى الله كان اعتراض الشيطان له أكثر، فهو عدوٌّ لدودٌ للمؤمنين، لا همَّ له ولا غاية إلاَّ إفسادُ عقائدهم وهدمُ إيمانهم، وخلخلةُ يقينهم، وصرْفهم عن السبيل المفضية إلى رضوان الله والجنَّة.

ولهذا فإنَّ الله حذَّرنا منه أشدَّ التحذير، وبيَّن لنا أخطارَه وعواقبَ اتِّباعه الوخيمة، وأنَّه عدوٌ للمؤمنين، وأمرهم أن يتَّخذوه عدوًّا، قال الله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}(8) ، وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(9) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}(10) ، وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ}(11).

قال ابن الجوزي رحمه الله: (( فالواجبُ على العاقل أن يأخذَ حذرَه من هذا العدوِّ الذي قد أبان عدواتَه من زمن آدم عليه الصلاة والسلام، وقد بذل عمرَه ونفسَه في فساد أحوال بني آدم، وقد أمر الله بالحذر منه ... ))(12) ، ثم ذكر نصوصاً عديدة في التحذير منه ومن كيده.

والآياتُ في التحذير منه ومن كيده كثيرة، والعبدُ لا وقاية له من الشيطان إلاَّ بالالتجاء إلى الله والتعوُّذ به من شرِّه وملازمة ذكره والمحافظة على طاعته، ومَن استعاذ بالله أعاذه الله وحفظَه ووقاه.

قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(13) ، وقال: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}(14) ، وقال تعالى:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ }.

ومَن لازَمَ ذكرَ الله كان في حصنٍ من الشيطان وفي حرزٍ من شرِّه، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}(15).

روى الإمام أحمد في مسنده عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّ يحيى ابن زكريا عليهما السلام قال لقومه: (( ... وآمرُكم بذكر الله كثيراً، وإنَّ مثلَ ذلك كمثل رجل طلبه العدوُّ سراعاً في أثره، فأتى حصناً حصيناً، فتحصَّن فيه، وإنَّ العبدَ أحصنُ ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله )) (16).

والشيطانُ لا سلطان له على أهل الإيمان الملتجئين إلى الله المعتمدين عليه سبحانه، فإنَّ اللهَ يحفظُهم منه ويَصرفُ عنهم كيدَه وشرَّه، قال الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}(17).

فبيَّن سبحانه في هذه الآية السببَ الأقوى في دفع الشيطان، وهو التحلِّي بحلية الإيمان والتوكل على الله، فإنَّ الشيطان ليس له قدرةٌ على التسلُّط على الذين آمنوا وعلى ربِّهم يتوكَّلون.

والفقه في دين الله حرزٌ من الشيطان؛ لأنَّ العلمَ الشرعيَّ نورٌ لصاحبه، ومَن تبصَّر بنور العلم وعرف مصايد الشيطان وحبائلَه ووسائلَه وطرائقَه، وعرف نهاية أتباعه ومآل أوليائه، حذره أشدَّ الحذر، واعتصم بالله منه واستعاذ به سبحانه من شرِّه، وسلك صراط الله المستقيم الذين لا خوف على أهله ولا هم يحزنون.

فنسأل الله أن يعيذنا وإيَّاكم من الشيطان الرجيم، وأن يهدينا جميعاً صراطَه المستقيم، إنَّه سميع مجيب.

***

----------

(1) الموطأ (1269).

(2) صحيح مسلم (81).

(3) ذكره ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/109).

(4) سورة الأعراف، الآيتان: 16، 17.

(5) جامع البيان (5/444).

(6) المسند (15958)، وصححه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (1652).

(7) صحيح البخاري (461)، وصحيح مسلم (541).

(8) سورة يوسف، الآية: 5.

(9) سورة فاطر، الآية: 6.

(10) سورة النور، الآية: 21.

(11) سورة الأعراف، الآية: 27.

(12) تلبيس إبليس (ص:23).

(13) سورة الأعراف، الآية: 200.

(14) سورة المؤمنون، الآيتان: 97، 98.

(15) سورة الزخرف، الآية: 36.

(16) المسند (17800)، وصححه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (1724).

(17) سورة النحل، الآيات: 98 ـ 100.