About the article

Author :

Hakam A. Zummo Al-Aqily

Date :

Thu, Oct 30 2025

Category :

Morals & Ethics

Download

تأملات في بعض الآيات – 3

تأملات في بعض الآيات – 3

"مراتب القدر"

الحمد لله الذي قدر الأقدار على خلقه أزلاً، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له أوجب علينا الإيمان بها خيراً وشراً، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ما علم الغيب ولو علمه لاختار الخير وما مسه السوء أبداً([1])، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أتخذوا دوماً التدبير والسببا، وبعد:

فإن القدر من الأمور الغيبية التي اختص الله عز وجل بمعرفتها وتقديرها على عباده، وعلى المؤمن الإيمان بها كما هي، خيرها وشرها، علم الحكمة من ورائها أم لم يعلم، لقول رسول الله ﷺ: ( وتؤمن بالقدر خيره وشره )([2]). ولتقريب فهمنا للقدر في الدنيا، جاء القرآن لبسط ذلك وتجسيده من خلال قصة سيدنا موسى مع الخضر([3]) عليهما السلام، والمتأمل لمجريات القصة يجد أنه من الممكن تقسيم إدراكنا للقدر على ثلاثة أضرب وأحوال، لتكون عبرة ودرساً وتذكرةً للمؤمنين وللناس كافة إلى يوم الدين، وهي كما يلي:

  • معرفة السبب وأثره في الدنيا، والمتمثل بقصة ركوب السفينة.
  • جهل السبب وأثره في الدنيا، والمتمثل بقصة قتل الغلام.
  • جهل السبب ومعرفة أثره في الدنيا، والمتمثل بقصة بناء جدار اليتيمين.

وفي مستهل حديثنا لعلنا نعرج على تركيبة وحيثيات القصة واللقاء منذ البداية، كليم الرحمن النبي الكريم يرتحل مع غلامه بأمر الله، للقاء عبدٍ صالحٍ من عباد الله، آتاه الله من لدنه رحمةً وعلماً، المكان والزمان مجهولان، لديه فقط أداة وعلامة ووجهة مقصودة، كل هذا لتُسرد لنا أروع وأغرب قصص في تاريخ البشرية، قصص تخالف نواميس البشر([4])، إنه لقاء الإنسان بنواميس القدر يا سادة!!.

والآن لنبدأ بالحالة الأولى وهي: "معرفة السبب وأثره في الدنيا"، فبعدما ركب موسى والخضر عليهما السلام سفينة المساكين، قام الخضر عليه السلام بإحداث خرقٍ فيها، كما قال تعالى: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ  ([5])، وظن موسى عليه السلام وأهل السفينة أنها ستغرق، فتعجب موسى عليه من هذا الفعل المستهجن وقال متسائلاً: ﴿  أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا ، ولكن ما إن غادراها وبعد برهةٍ من الزمن، أدرك أصحابها عاقبة ذلك الفعل الذي ظنوه للوهلة الأولى وبالاً عليهم، حين أوقفهم جند ملِكٍ يصادر كل سفينةٍ صالحةٍ لنفسه، وحين عاين الجند السفينة وتبيّن لهم عيبها بسبب الخرق تركوها لأصحابها، فعلم أصحابها حينها حِكمة الله تعالى في تقديره وأن الخير هو في ذلك القدَر، قال تعالى: ﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ﴾([6]). ومثل هذا الصنف يتكرر في حياتنا مراراً وتكراراً، فلربما تريد اللحاق برحلة بالحافلة للمدينة المجاورة، وفي الطريق تتأخر بسبب حادثٍ وقع لسيارتك وتحزن على ما أصابها من ضررٍ، ويتسبب ذلك بعدم لحاقك بموعد الرحلة، ليُنجيك الله من حادثٍ سيقع للحافلة على الطريق بعد ساعةٍ من انطلاقها، وينتج عنه بعض الوفيات والإصابات البليغة، فتحمد الله من صميم قلبك على قدره ومشيئته وحسن تدبيره.

وأمـا الحــالة الثـانية وهـي: "جـهـل السبب وأثـــره في الدنيا"، فتتمثـل في قـتـل الخـضر عـليه الســـلام للغـــلام قـــال تـعـالى: ﴿ فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ ﴾([7])، وعللها الخضر لموسى عليها السلام فيما بعد كما قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًاوَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) ([8])، فوالدا الغلام لم يعلما لماذا قُتل ولدهما، ومن الذي قتله، وما الحكمة في قتله، ولم يكونا يعلمان أنه لو عاش فسيكون كافراً جاحداً طاغياً، ولم يعلما أن الغلام الذي رزقا به فيما بعد هو عوض من الله عما فقداه، وأنه سيكون مؤمناً براً رحيماً بهما، وظلا طوال حياتهما في حزن وألم لفقد ولدهما الأول ويدعوان له بالرحمة والمغفرة. وهذه الحالة تتكرر مراراً كذلك، فقد تكون في عمل وأنت مرتاح فيه، ثم يتم طردك منه من غير سبب أو تقصير منك وتحزن على ذلك، وبعدها بفترة يعوضك الله بعمل أخر أو تفتح مشروعاً يدر عليك أضعاف ما كنت تتقاضاه في عملك السابق، إنه تدبير الله اللطيف العليم الخبير. فأنت طوال عمرك قد تظل جاهلاً السبب الحقيقي لطردك من عملك، ولم تعلم أن ما تجنيه الآن من مال ورزق هو عوض من الله لك.

وأما الحالة الثالثة فهي: "جهل السبب ومعرفة أثره في الدنيا" وتتمثل في بناء جدار اليتيمين في المدينة من قبل الخضر عليه السلام قال تعالى: ﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ   ([9])، واستفادة الغلامين من هذا الفعل في المستقبل عندما كبرا واستخرجا كنز جدهما([10]) قال تعالى: ﴿ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا ([11])وهذه الحالة تتكرر مراراً كذلك ولله الحمد، فلربما يضع أحدهم لوحة بداية الطريق لتحذير المارة من حفرة قد يقععون بها، ثم تتجنب بعد توفيق الله الوقوع في الحفرة بسببها. فأنت تجهل من وضعها ولكنك أدركت النتيجة وتجنبت الخطر والحمد لله.

وفي نهاية اللقاء يُبين لنا الخضر عليه السلام أن جميع أفعاله المستغربة والخارجة عن نواميس الفهم البشري، إنما هي بأمر الله وتدبيره وقدره، وإنما هو مجسد لحكمة الله وقدره في خلقه، قال تعالى: ﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ  ([12]).

اللهم أقدر لنا الخير دوماً وجنبنا الشر بفضلك وحكمتك ومنتك وفضلك علينا، وصلِ اللهم على نبينا محمد ﷺ.

 

آمــــــــــــــــــين.

 

السيد / حكم زَمُّو العَقِيلي، الاستاذ /  ضياء نصر  ( ١٤٤7 - ٢٠٢5 )

 

(1) قال تعالى﴿ قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ ﴾، سورة الأعراف أية 188.

(2) رواه مسلم في الإيمان (8).

(3) ذكره غير واحدٍ من المفسرين أمثال الطبري، والقرطبي، وابن كثير، والسعدي رحمة الله عليهم جميعاً.

(4) قال تعالى على لسان نبيه موسى عليه السلام مستنكراً أفعال الخضر عليه السلام: ﴿ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ﴾، ﴿ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا ﴾، ﴿ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾.

(5) سورة الكهف آية 71.

(6) سورة الكهف آية 79.

(7) سورة الكهف آية 74.

(8) سورة الكهف.

(9) سورة الكهف آية 77.

(10) قيل أنه الجد السابع لهما، أورده إبن كثير في تفسير سورة الكهف الآية 82.

(11) سورة الكهف آية 82.

(12) سورة الكهف آية 82.