عن المقال

المؤلف :

محمد بن علي بن جميل المطري

التاريخ :

Sat, Apr 11 2015

التصنيف :

عقيدة وفرق

تحميل

الرد على عدنان إبراهيم لطعنه في معاوية رضي الله عنه

الرد على عدنان إبراهيم لطعنه في معاوية رضي الله عنه
رد علمي مقنع على طريقة التنزل مع الخصم

 



 
الحمد لله الذي عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة، ويسر لها في كل زمان مَن ينفي عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبي الرحمة الذي أرسله الله رحمة للعالمين، ما ترك من خير إلا دل الأمة عليه، ولا ترك من شر إلا حذر الأمة منه، فتركنا على مثل البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، ورضي الله عن جميع أصحابه السابقين واللاحقين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
 
فقد سمعت مقطعًا لعدنان إبراهيم خصصه للطعن في معاوية رضي الله عنه، وكان يسلقه بلسان حادٍّ لم نسمعه يقول مثله في النصارى الضالين، بل قد سمعت عدنان في مقطع آخر لا يُكفِّر اليهودي والنصراني الذي لا يقول بالتثليث إذا كان مؤمنًا بالله واليوم الآخر، فواعجبًا من شحه بالخير على معاوية وهو من أهل الإسلام، ودفاعه عن أهل الكتاب الكفار!
 
وقد رد كثير من العلماء على ضلالات عدنان إبراهيم، وأردت أن أشاركهم في الأجر؛ نصحًا للمسلمين، وبحمد الله لي عدة ردود عليه منشورة، وهي:
1- القواعد السبع الكافية في الرد على عدنان إبراهيم في منهجه التشكيكي للسنة النبوية.
2- إثبات أن حد رجم الزاني ثابت في القرآن، وأن إنكاره من سنن اليهود.
3- عدد أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه (تحقيق واستقراء).
4- سيرة أبي هريرة رضي الله عنه.
 
وأنا - بحمد الله - أحرص في ردودي أن تكون بأسلوب جديد؛ حتى لا يكون الرد مجرد تكرار أو تلخيص لما كتبه أهل العلم في الرد على عدنان، وهذا هو الرد الخامس، كتبته نصحًا للأمة، وضمنته فوائد لا يجدها الناظر في غيره، وجعلته بأسلوب جديد يقلع - بإذن الله - شبهات عدنان إبراهيم من الجذور في مسألة طعنه في معاوية رضي الله عنه، فبعض من يحسن الظن بعدنان قد لا ينتفع بالردود العلمية المعتادة؛ لأن كثيرًا من العلماء الذين ردوا على طعن عدنان في معاوية يذكرون ضعفَ الكثير من الروايات التي يذكرها عدنان، ويبينون بالتفصيل أنها من رواية المتروكين؛ كأبي مخنف لوط بن يحيى الإخباري، وهو تالفٌ لا يوثق به؛ قال الحافظ ابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال (7/ 241): حدَّث بأخبار من تقدم من السلف الصالحين، ولا يبعد منه أن يتناولهم، وهو شيعي محترق صاحب أخبارهم"، ونصر بن مزاحم صاحب كتاب صِفِّين، وهو رافضي متروك الحديث، كما في ميزان الاعتدال للمؤرخ الحافظ الذهبي (4/ 253)، ومحمد بن السائب الكلبي المفسر الإخباري، وهو متروك الحديث، كما في كتاب التهذيب للحافظ المزي (3/ 569) والميزان (3/ 556)، ومحمد بن عمر الواقدي، وهو متروك؛ قال البخاري: الواقدي مدنيٌّ سكن بغداد، متروك الحديث، تركه أحمد، وابن المبارك، وابن نمير، وإسماعيل بن زكريا، وقال أبو زرعةَ الرازي وأبو بِشر الدولابي والعقيلي: متروك الحديث، وقال الذهبي في الميزان (3/ 666): استقر الإجماع على وهنِ الواقدي.
 
فأنا لن أبين في ردي هذا عدم صحة الكثير من الروايات الضعيفة، بل سأتكلم على فرض أنها ثابتة!
 
وبعض العلماء في ردهم على عدنان في طعنه في معاوية يذكرون ما ثبت في فضل معاوية من آثار، مثل ما في صحيح البخاري (3765) أنه قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية؛ فإنه ما أوتر إلا بواحدة؟ قال: أصاب، إنه فقيه.
 
وروى أبو نعيم في حلية الأولياء (8/ 275) من طريق سعيد بن عبدالعزيز عن إسماعيل بن عبدالله عن قيس بن الحارث عن الصنابحي عن أبي الدرداء قال: ما رأيت أحدًا أشبه صلاة برسول الله من أميركم هذا - يعني معاوية - قيل لقيس: أين صلاتُه من صلاة عمر؟ قال: لا إخالها إلا مثلها.
 
وروى الخلاَّل في كتاب السنة (2/ 442)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (59/ 173) من طريق جبلة بن سحيم، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه قال: ما رأيتُ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسودَ مِن معاوية، فقيل: ولا أبوك؟ قال: أبي عمرُ - رحمه الله - خيرٌ مِن معاوية، وكان معاوية أسودَ منه.
 
وروى الخلاَّل في كتاب السنة (2/ 440)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (59/ 175) من طريق وهب بن منبه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما رأيت رجلًا كان أخلقَ للمُلك من معاوية، كان الناس يرِدون منه على أرجاء وادٍ رحب، ولم يكن بالضيِّق الحصِر العُصعُص المتغضب.
 
وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق (59/ 185) عن هشام بن عروة قال: صلى بنا عبدالله بن الزبير يومًا من الأيام، فوجم بعد الصلاة ساعة، فقال الناس: لقد حدث نفسه، ثم التفت إلينا فقال: لا يبعدنَّ ابن هند، إن كانت فيه لمخارج لا نجدها في أحد بعده أبدًا! والله إن كنا لنفرقه وما الليث على براثنه بأجرأَ منه فيتفارق لنا، وإن كنا لنخدعه وما ابن ليلة من أهل الأرض بأدهى منه فيتخادع لنا، والله لوددتُ أنَّا مُتِّعنا به ما دام في هذا الجبل حجر - وأشار إلى جبل أبي قبيس - لا يتحول له عقل، ولا ينقص له قوة.
 
وروى الآجري في الشريعة (5/ 2465)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (59/ 172) عن التابعي الجليل مجاهد بن جبر قال: لو رأيتم معاويةَ لقلتم: هذا المَهديُّ!
 
وروى اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (8/ 1532) عن الميموني قال: قلت لأحمد بن حنبل: أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ صِهر ونسَبٍ ينقطع إلا صِهري ونسَبي))؟ قال: بلى، قلت: وهذه لمعاوية؟ قال: نعم، له صهر ونسب، قال: وسمعت ابن حنبل يقول: ما لهم ولمعاوية؟! نسأل الله العافية! وقصد الإمام أحمد بن حنبل أن معاوية صهرُ النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أخته أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان هي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذا سماه بعض العلماء خالَ المؤمنين؛ لأن أخته هي أم المؤمنين رضي الله عنهما؛ فهو صهرُ النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أيضًا من أقارب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن جدهما واحد، وهو عبدمناف بن قصي، فله صهر ونسب مع النبي صلى الله عليه وسلم.
 
وروى الخلاَّل في السنة (2/ 438) من طريق أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق السَّبيعي الهَمْداني، وهو معدود من شيعة الكوفة الثقات، قال: ما رأيت بعده مثله، يعني معاوية.
 
فهذه الروايات كلها بأسانيد صحيحة، ويوجد غيرها أيضًا، ولكني لن أقف عندها لأثبت للمخالف صحتها، ولكن سأتكلم في ردي هذا على فرض أن هذه الروايات - وغيرها - الواردة في فضل معاوية ومناقبه كلها روايات ضعيفة غير ثابتة!
 
إذًا سيكون ردي بأسلوب جديد من باب التسليم للخصم بأن كل ما قيل في معاوية من مثالب صحيحٌ ثابت، وأن كل ما ورد فيه من مناقب لا يصح منه شيء!
 
فهل يمكننا أن نواجه معاوية ونعد عليه كل سيئاته ونتركه ليدافع عن نفسه بنفسه؟!
قد كفانا هذا صحابي جليل؛ فروى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (1/ 208)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (58/ 168) من طريق ابن شهاب قال: حدثني عروة بن الزبير أن المِسورَ بن مخرمة رضي الله عنه قدم وافدًا إلى معاوية بن أبي سفيان، فقضى حاجته، ثم دعاه فأخلاه، فقال: يا مسورُ، ما فعل طعنك على الأئمة؟! قال المسور: دعنا من هذا، وأحسِنْ فيما قدمنا له، فقال معاوية: لا والله لتكلمن بذات نفسك والذي نقمت علي، قال المسور: فلم أترك شيئًا أعيبه عليه إلا بيَّنته له، فقال معاوية: لا أبرأُ من ذنب! فهل تعد لنا يا مسور مما نلي من الإصلاح في أمر العامة؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعد الذنوب؟! فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنباه، فهل لك يا مسورُ ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلِك إن لم يعفُ الله لك؟! فقال المسور: نعم، فقال معاوية: فما جعلك برجاء المغفرة أحق مني؟! فوالله لَمَا آلِي من الإصلاح أكثرُ مما تلي، ولكن والله لا أخير بين أمرين أمرٍ لله وغيره إلا اخترت أمر الله على ما سواه، وإني لعلى دين يُقبل فيه العمل، ويُجزى فيه بالحسنات والذنوب إلا أن يعفو الله عنها، فإني أحسب كل حسنة عملتها بأضعافها من الأجر، وألي أمورًا عظامًا لا أحصيها ولا يحصيها من عمل بها لله في إقامة الصلوات للمسلمين، والجهاد في سبيل الله، والحكم بما أنزل الله، والأمور التي لست أحصيها وإن عددتها فتكفي في ذلك، قال مِسور: فعرفت أن معاوية قد خصمني حين ذكر ما ذكر، قال عروة بن الزبير: فلم أسمع المسور بعدُ يذكر معاوية إلا صلى عليه!
 
فهذه القصة صحيحة ثابتة، وقد رواها أيضًا عبدالرزاق الصنعاني في مصنفه (7/ 207) عن شيخه معمَرٍ، عن الزهري، عن حميد بن عبدالرحمن، عن المسور، وهذا إسنادٌ صحيح، رجاله من رجال البخاري ومسلم.
 
قال ابن عبدالبر في الاستيعاب (3/ 1422): "وهذا الخبرُ مِن أصح ما يُروى من حديث ابن شهاب، رواه عنه معمر وجماعة من أصحابه".
 
ورواه بنحوه البلاذري في أنساب الأشراف (5/ 53) من طريق عبدالحميد بن جعفر، عن عبدالرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبيه.
 
فهذا الصحابيُّ الجليل المِسور بن مخرمة صارَح معاوية بكل سيئاته، حتى قال: لم أترك شيئًا أعيبه عليه إلا بينته له، وأقر بها معاوية وقال: لا أبرأ من ذنب! وأخبر أنه يرجو رحمة الله كما يرجوها كل مسلم، وأنكر معاوية على المسور أنه ذكر سيئاته ولم يذكر حسناته، وقال له: إنا نعترف لله بكل ذنب أذنباه، فهل لك ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلك إن لم يعفُ الله لك؟! فما جعلك برجاء المغفرة أحق مني؟! فخصمه معاوية، فلم يعد يذكره المِسور إلا بخير، وصار يدعو له بعد أن كان يطعن فيه!
 
فهل في هذه القصة كفاية لكل ذي عقل؟!
هذا على فرض أن معاوية لم يكن صحابيًّا، ولم يصلِّ خلف النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن ممن كتب بين يديه، وعلى فرض أنه لم يصح الحديث الذي رواه الترمذي (3842) عن عبدالرحمن بن أبي عميرة، وكان مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاوية: ((اللهم اجعَلْه هاديًا مَهديًّا، واهدِ به))، وقد صحح هذا الحديث جماعة من المحدثين، منهم الألباني، ولكن لنفرض تنزلاً للخصم أنه لم يصح هذا الحديث، ولنفرض أن معاوية لم يكن ممن جاهَد في سبيل الله في الشام، ولم يكن أول من أسس أول أسطول بحري وجاهَد الروم في البحار، ولم يكن هو الذي فتح قبرص وقيسارية، ولم يكن صاحب أول جيش غزا القسطنطينية، ولم يكن يغزو في خلافته كل سنة مرتين، مرة في الصيف، ومرة في الشتاء، ولم يكن في خلافته حليمًا مقيمًا للعدل، فكيف إذا كانت له هذه الفضائل والمناقب وغيرها كما هو معروف في كتب التاريخ؟! فهل في تلك القصة كفاية لكل منصف؟!
 
ألا يستحق مَن كانت له هذه الفضائل أن نقول عنه: رضي الله عنه؟! فإن لم تكن له هذه الفضائل، ألا يجوز أن نقول لأي مسلم: رضي الله عنه من باب الدعاء لا الإخبار؟!
 
ألا يجوز أن ندعو لأي مسلم عاصٍ بالرحمة والرضوان وإن كان عاصيًا؟! بلى يجوز أن ندعو له ولو ثبت أنه يُعذَّب ما دام أنه مسلم، فمثلاً روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، ففتح الله علينا، فلم نغنَمْ ذهبًا ولا وَرِقًا، غنِمْنا المتاع والطعام والثياب، ثم انطلقنا إلى الوادي، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد له، وهبه له رجل من جذام يدعى رفاعة بن زيد من بني الضبيب، فلما نزلنا الوادي، قام عبدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحل رحله، فرُمي بسهم، فكان فيه حتفه، فقلنا: هنيئًا له الشهادة يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلا، والذي نفس محمد بيده، إن الشَّملة لتلتهب عليه نارًا، أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم))، فهذا العبد الغالُّ صحابيٌّ مسلم، ألا يجوز أن ندعو له بالرحمة ونترضى عنه ولو ثبت أنه يُعذَّب في قبره بسبب معصيته؟! فغُلوله ليس كفرًا، بل كبيرة من الكبائر، وإن عذَّب الله صاحب الكبيرة فإنه لا يخلده في النار؛ قال الله سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48]، وأحاديث الشفاعة وخروج عصاة الموحِّدين من النار متواترة، لا يُنكرها إلا أهلُ البدع والضلالة، والصحابة أَوْلى الناس بالشفاعة، ومعلوم أن الصحابي قد يقع في كبيرة؛ فهم غير معصومين، وقد ثبَت أن أحد الصحابة قتل نفسه؛ كما في صحيح مسلم (978)، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (أُتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقصَ، فلم يصلِّ عليه)، قال النووي في شرح صحيح مسلم (7/ 47): "المشاقِصُ سِهامٌ عراض، وفي هذا الحديث دليل لمن يقول: لا يصلَّى على قاتل نفسه لعصيانه، وهذا مذهب عمر بن عبدالعزيز والأوزاعي، وقال الحسن والنخَعي وقتادة ومالك وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء: يصلى عليه، وأجابوا عن هذا الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ عليه بنفسه؛ زجرًا للناس عن مِثلِ فعله، وصلت عليه الصحابة، وهذا كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في أول الأمر على مَن عليه دَينٌ؛ زجرًا لهم عن التساهل في الاستدانة، وعن إهمال وفائه، وأمر أصحابه بالصلاة عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((صلُّوا على صاحبكم))، قال القاضي عياض: مذهب العلماء كافة الصلاة على كل مسلم، ومحدود، ومرجوم، وقاتل نفسه، وولد الزنا، وعن مالك وغيره: أن الإمام يجتنب الصلاة على مقتول في حد، وأن أهل الفضل لا يصلون على الفسَّاق؛ زجرًا لهم"؛ انتهى المراد منه، فهذا صحابي ارتكب كبيرة وقتل نفسه، ولم يصلِّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ زجرًا للناس عن فعله، ولم يَنْهَ أصحابه عن الصلاة عليه، ولا نهاهم عن الدعاء له، ويجوز أن نقول عن هذا الصحابي الذي قتل نفسه: رحمه الله، وأن نقول: رضي الله عنه، ودعاؤنا له بالرحمة والرضوان هو من باب الدعاء، لا من باب الإخبار؛ فإنَّا لا ندري هل يغفر الله له أو يعذبه، ولكن إن عذبه فإنه لا يخلده في نار جهنم، وإنما يخلد الله في جهنم الكفار، وقد روى مسلم في صحيحه (116) عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: هاجر الطفيل بن عمرو الدوسي وهاجر معه رجل من قومه، فاجتوَوُا المدينة، فمرض، فجزع، فأخذ مشاقصَ له، فقطع بها براجمه، فشخبت يداه حتى مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه، فرآه وهيئته حسنة، ورآه مغطيًا يديه، فقال له: ما صنع بك ربك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لي أراك مغطيًا يديك؟! قال: قيل لي: لن نُصلحَ منك ما أفسدتَ، فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم وَلِيَدَيْهِ فاغفِرْ))، والظاهر أن هذا الصحابي رضي الله عنه هو نفس الصحابي الذي قتل نفسه ولم يصلِّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذا دعا له نبي الرحمة بالمغفرة، فنحن ندعو لكل مسلم بالمغفرة والرحمة وإن كان عاصيًا، وإن كان فاسقًا، وإن ارتكب كبيرة، ما دام أنه مسلم، كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الصحابي، ونقول عنه: رضي الله عنه دعاءً لا خبرًا.
 
وهذه مسألة مهمة جدًّا، فنحن عندما نترضى على المبشرين بالجنة - كالخلفاء الراشدين، وبقية العشَرة، وأصحاب بدر والحديبية - فهذا من باب الإخبار والدعاء، أما عندما نترضى عن غيرهم ممن لم يثبت بالنص كونُهم من أهل الجنة فهذا من باب الدعاء لا الإخبار، وبهذا يزول كثير من الإشكال.
 
فليس ترضِّينا عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، كترضِّينا عن صحابي قتَل نفسه، أو ظلَم نفسه بالغُلول أو غير ذلك، فترضِّينا عن الأولين إخبارٌ ودعاءٌ، وترضِّينا عن الآخرين دعاءٌ لا إخبارٌ.
 
ثم ها هنا مسألة مهمة أيضًا، وهي هل كل من ثبت له شرف الصحبة أفضل مِن كل من ليس من الصحابة؟
هذه المسألة فيها قولان مشهوران لأهل العلم؛ فجمهور العلماء أن كل مَن ثبت له شرف الصحبة أفضل من كل من جاء بعد الصحابة، حتى وإن كان ذلك الصحابي ممن ظلم نفسه بكبيرة من الكبائر؛ كقاتل نفسه، أو الغالِّ، أو كان من الأعراب الذين قالوا: آمنا، فقال الله: قل: لم تؤمنوا ولكن قولوا: أسلمنا، فعند جماهير العلماء أن كل من ثبت له لقيا النبي صلى الله عليه وسلم وآمَن به أنه أفضل مِن كل من جاء بعده، ولو كان من أكابر علماء الأمة، أو مجاهديها، أو زهَّادها، وقالوا: شرف الصحبة لا يعدله شيء، والقول الثاني: أنه يمكن لبعض من جاء بعد الصحابة أن يكون أفضل من بعض الصحابة.
 
قال الحافظ العلائي في كتابه تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة ص 74: "ذهب بعضهم إلى أنه لا يلزم من تفضيل مجموع القرن الأول على من بعده تفضيل كل فرد فرد من القرن الأول، على كل فرد فرد ممن بعدهم، ورأوا أن في آخر الزمان من يكون أفضل من بعض آحاد الصحابة رضي الله عنهم، وهذا اختيار ابن عبدالبر والقرطبي؛ للجمع بين جميع الأحاديث، واستثنى ابن عبدالبر أهل بدر والحديبية؛ للتنصيصِ على فضلهم على كل هذه الأمة".
 
والذي يظهر لي أن القول الثاني أصح، وقد وجدت دليلاً عليه من القرآن لم أجد أحدًا نبه عليه، فإن كان الاستدلال صحيحًا فهذا من فضل الله، وإن كان خطأ فهو من نفسي والشيطان، وتبقى المسألة اجتهادية يُتكلم فيها بالحجج العلمية، ولا يُضلل المخالف، والدليل هو قوله تعالى في سورة الواقعة: ﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ ﴾ [الواقعة: 10 - 14]، ثم قال سبحانه عن أصحاب اليمين: ﴿ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ ﴾ [الواقعة: 39، 40]، رجح ابن كثير في تفسيره (7/ 518): أن المراد بقوله: ﴿ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ﴾ [الواقعة: 39]؛ أي: من صدر هذه الأمة، ﴿ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ ﴾ [الواقعة: 14] أي: من هذه الأمة، ونقل هذا عن الحسن البصري وابن سيرين، فهذه الآيات واضحة الدلالة على أن بعض آخر هذه الأمة أفضل من أولها، فإن الله أخبر أن السابقين المقربين - وهم قطعًا أفضل الناس - هم جماعة كثيرة من الأولين، وجماعة قليلة من الآخرين، وأخبر الله أن أصحاب اليمين - وهم دون المقربين في الفضل - جماعة كثيرة من الأولين، وجماعة كثيرة من الآخرين، فدلَّ هذا بوضوح على أن مِن الآخِرين مَن هم من المقربين، وأن من الأولين من هم من أصحاب اليمين، وهذا دليل واضح جدًّا على أن بعض الآخرين يكونون أفضل من الأولين؛ لأن الآيات تنص على أن بعض الآخرين هم من المقربين السابقين، وأن بعض الأولين هم من أصحاب اليمين، وهذا الدليل نص في هذه المسألة، ويؤيد هذا دليلٌ آخر من القرآن لم أجد أيضًا مَن نبه عليه مع وضوحه، وهو قوله تعالى: ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات: 14]، فهؤلاء الأعراب رضي الله عنهم لهم شرف الصحبة، ومع هذا أخبر الله أنهم لم يصِلوا إلى مرتبة الإيمان التي أنكر عليهم ادعاءَها، ولا شك أن كثيرًا من الذين جاؤوا بعد الصحابة وصلوا إلى مرتبة الإيمان؛ فهم أفضل من كثير من هؤلاء الأعراب رضي الله عنهم، ويدل على هذا أيضا أحاديث صحيحة، منها:
ما رواه أحمد في مسنده (16976) عن ابن محيريز قال: قلت لأبي جمعة: حدثنا حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: نعم، أحدثك حديثًا جيدًا، تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقال: يا رسول الله، هل أحدٌ خيرٌ منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك، قال: ((نعم، قومٌ مِن بعدكم يؤمنون بي ولم يرَوْني))، وهذا الحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3310)، والأرناؤوط في تحقيق المسند (28/ 182).
 
والظاهر أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث تفضيل بعض آخر هذه الأمة على بعض أصحابه مِن غير أهل بدر والحديبية؛ لأن أهل بدر والحديبية قد فضَّلهم الله على كل من جاء بعدهم، فقال سبحانه: ﴿ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [الحديد: 10]، وأبو عبيدةَ بنُ الجراح رضي الله عنه ممن أنفَق مِن قبلِ الفتح وقاتَل؛ فهو أفضل من كل من جاء بعده، ولكن يحمل الحديث على ما ذكرته؛ جمعًا بين الآية والحديث، وقد يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة ويريد بعضهم؛ كما في حديث أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبُّوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مِثل أُحد ذهبًا، ما بلغ مُدَّ أحدهم، ولا نَصِيفه))؛ متفق عليه.
 
ومما يدل على تفضيل بعض صالحي المتأخرين على بعض مَن كان من جملة الصحابة ما رواه مسلم (249) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة، فقال: ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددتُ أنَّا قد رأينا إخواننا))، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: ((أنتم أصحابي، وإخوانُنا الذين لم يأتوا بعدُ))، فقالوا: كيف تعرف مَن لم يأتِ بعدُ من أمتك يا رسول الله؟ فقال: ((أرأيت لو أن رجلاً له خيل غُرٌّ محجلة بين ظَهْرَيْ خيل دُهْمٍ بُهْمٍ، ألا يعرف خيله؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((فإنهم يأتون غُرًّا محجَّلين من الوضوء، وأنا فرَطُهم على الحوض، ألا لَيُذادنَّ رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلمَّ، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا)).
 
قال القاضي عياض اليحصبي - رحمه الله - تعليقًا على هذا الحديث في كتابه إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/ 49): "ذهب أبو عمر بن عبدالبر في هذا الحديث وغيره من الأحاديث في فضل مَن يأتي آخر الزمان إلى أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة من هو أفضل ممن كان من جملة الصحابة، وأن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((خيركم قرني)) على الخصوص، معناه: خير الناس قرني؛ أي: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، ومن سلك مسلكهم، فهؤلاء أفضل الأمة، وهم المرادون بالحديث، وأما من خلط في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم وإن رآه وصحبه ولم يكن له سابقة ولا أثر في الدين، فقد يكون في القرون التي تأتي بعد القرن الأول مَن يفضلهم، على ما دلت عليه الآثار، وذهب إلى هذا غيره من المتكلمين على المعاني، وذهب معظم العلماء إلى خلاف هذا، وأن من صحب النبي صلى الله عليه وسلم مرة من عمره، وحصلت له مزية الصحبة: أفضل من كل من يأتي بعده، وأن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل، قالوا: وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لو أنفق أحدكم مثل أُحد ذهبًا، ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفه))، وحجة الآخر عن هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبعضهم عن بعض، فدل أن ذلك للخصوص لا للعموم"، والظاهر من كلام القاضي عياض أنه يتابع ابن عبدالبر في القول بأنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة من هو أفضل ممن كان من جملة الصحابة.
 
ومما يدل على تفضيل بعض صالحي المتأخرين على بعض من كان من جملة الصحابة: الحديث الذي رواه ابن نصر في كتاب السنة مرفوعًا: ((إن مِن ورائكم أيام الصبر، للمتمسك فيهنَّ يومئذ بما أنتم عليه أجرُ خمسين منكم))، قالوا: يا نبي الله، أو منهم؟ قال: ((بل منكم))، صححه الألباني، وذكر شواهده في سلسلة الأحاديث الصحيحة (494).
 
وروى أحمد (22138) عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى لمن آمن بي ولم يرني سبع مرار))، وحسنه الأرناؤوط، وصححه الألباني.
 
ومما يدل على فضل من يأتي في آخر الزمان: ما رواه مسلم في صحيحه (2897) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا تقوم الساعة حتى ينزل الرومُ بالأعماق أو بدابَق، فيخرج إليهم جيش من المدينة، من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافُّوا، قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سَبَوْا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدًا، ويقتل ثلثهم، أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث، لا يفتنون أبدًا، فيفتتحون قسطنطينية)).
 
ويكفي في الدلالة على تفضيل بعض آخر هذه الأمة: ما رواه الترمذي (2869) عن أنس رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثَل أمتي مثَل المطر، لا يُدرى أوله خير أم آخره))، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (5/ 355)، وذكر أنه جاء من حديث أنس، وعمار بن ياسر، وعبدالله بن عمر، وعلي بن أبي طالب، وعبدالله بن عمرو رضي الله عنهم.
 
وختامًا أنبه على أن الله أمرنا أن نستغفر لمن سبقونا بالإيمان، وهذا يدل بوضوح على أنهم غير معصومين، فطوبى لمن أحسن الظن بإخوانه المسلمين، لا سيما إن كان من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ودعا لهم جميعًا بالمغفرة كما أمره الله في كتابه، ولم يجعل في قلبه غلاًّ للذين آمنوا، واجتنب كثيرًا مِن الظن الذي يجعله يسيء إلى السابقين له بالإيمان بما لا يعلم وقوعه منهم، ولو أُوقف لِيحلف بالله إن ذلك وقع منهم، لَمَا تجرأ على الحلف إن كان ذا تقوى؛ لأنه لم يرَ ولم يسمع، فكيف يصيب قومًا بجهالة بسبب أخبار باطلة، أو أخبار صحيحة لكن قد زِيد فيها ونقص، وما آفة الأخبار إلا رواتها، أو أخبار لا يعلم وجهها، ولا يعلم حقيقتها، أو أخبار قد تاب أصحابها، أو أخبار لأصحابها من الحسنات ما يكفر الله بها سيئاتهم؟! ولم لا يدعو المسلم لهم وإن أخطؤوا، ويترضى عنهم بدلاً من سبِّهم ولعنهم وسوء الظن بهم؟! حتى وإن عذَّب الله من يشاء من هذه الأمة ببعض ذنوبهم فلن يخلدهم الرحمن في النار؛ لأنهم مسلمون موحدون، فلم لا نسأل الله أن يغفر لهم، والله أرحم الراحمين؟!
 
فيا أخي المسلم، احذر من الذين يريدون أن يوغروا صدرك على المؤمنين السابقين، واعلم أن الصحابة بشر غير معصومين، فهل ستكون من أهل هذه الآية الكريمة العاملين بها: ﴿ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10]؟!
 
اللهم اغفِرْ لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.