عن المقال

المؤلف :

محمد جمال الدين الفندي

التاريخ :

Sun, Jul 26 2015

التصنيف :

الإعجاز العلمي

تحميل

من المنهج العلمي في القرآن الكريم: الأرض وسقفها

من المنهج العلمي في القرآن الكريم: 

 الأرض وسقفها

هناك فرق كبير بين ما قد تبدو عليه بعض الأشياء ظاهريًّا في الطبيعة، وبين حقيقة أمر تلك الأشياء، والأمثلة على ذلك وفيرة كما سنرى، وكان من الطبيعي أن يحكم الإنسان البدائي على الأشياء حسب ما يبصرها، أو ما يراه باديًا من أمرها ظاهريًّا.

وهكذا كانت الأرض عنده أكبر من النجوم ومن الشمس والقمر مثلاً، وكثيرًا ما خدعته الطبيعة بظواهرها كما يحدث في السراب، إلا أن الإنسان سريعًا ما عرف بالتجرِبة والمران أن السراب مجرد خداع بصر، ثم عرف تفسيره العلمي في عصر العلم، كما عرف معنى الوضع الظاهري ومعنى "خداع البصر"، فنحن عندما نركب القطار مثلاً، وننظر أثناء سيره إلى الشجر الثابت على سطح الأرض، نرى الشجر يجري تباعًا، ولكننا نعرف تمامًا أن الشجر ثابت، وأننا نحن نتحرك منطلقين مع القطار.

ولقد تعرض القرآن الكريم في سياق حديثه عن الكون "كتاب الله المنظور" إلى مثل تلك الظواهر المنبثة في الأرض والسماء وبين الأحياء... ولكن المعجز حقًّا أنه يذكرها بأسلوب علمي سليم لا يثير فضول الجاهلين، ولا يوفر ذريعة للمكابرين أو الجاحدين، ويمثل هذا المنهج العلمي الفريد عمقًا من أعماق الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، والله تعالى يقول:

1 - {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7].

والمعنى أن من حكمة الله تعالى أنْ جعل من القرآن آيات، قد يدق معناها على أذهان كثير من الناس، أو يثير فضولهم، من أجل أن يدفع العلماء على البحث والاجتهاد، ولا يعلم تأويل هذه الآيات إلا الله تعالى، والذين سبقوا بالعلم من الناس وتمكنوا منه.

ومن نِعَم الله تعالى أنْ جعل العلم يفتح أمامنا آفاقًا واسعة، في ظلها تمكن العلماء من إدراك الوفير من المعاني العلمية القرآنية المعجزة، والتعابير الأخَّاذة في كتاب الله العزيز، مصداقًا لقوله تعالى:

2 - {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53].

ومضمون المعنى أن اتساع معرفة البشر سوف يفتح أمامهم آفاق الإعجاز القرآني، وتظهر أعماقه الرائعة، ومن الآيات كذلك قوله تعالى في هذا المجال:

3 - {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88].

يعني سوف تعلمون أيها المكذبون له صدق وسلامة كل ما اشتمل عليه القرآن الكريم من وعد ووعيد، وأخبار، وآيات كونية، بعد وقت غير بعيد، وها هو ذا إعجاز القرآن يتجدد في عصر العلم، ويظهر إعجازه العلمي في شتى المجالات.

أمثلة من الآيات:

1 - {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [العنكبوت: 20].

تُرسي هذه الآية الكريمة - في بساطة لفظية - أساس علم طبقات الأرض "الجيولوجيا"، من غير أن تثير فضول الجاهلين، فإن تاريخ الأرض منذ نشأتها الأولى مكتوب ومدون بين طبقات قشرتها التي نعيش عليها، وذلك بلغة تسمى لغة الأحافير، والأحافير جمع "أُحفُورَة"، وهي ما تبقى من أجسام الكائنات التي عاشت على الأرض.

ومن آثار الماضي أيضًا بقايا العناصر؛ مثل اليورانيوم، وعلى العلماء أن يسيروا في الأرض، وأن يجمعوا تلك الأحافير والبقايا، ويربطوا بينها من أجل تتبع تاريخ الأرض، وما عاش عليها من حشرات وحيوانات ونباتات، وما توفر فيها من عناصر نادرة، وهذا هو مضمون تأويل الآية الكريمة، التي تدفع الباحثين على التنقل بين أرجاء الأرض المختلفة لجمع الأحافير التي تدل على آثار الخليقة الأولى، والتي هي في مجموعها سجل حافل لتاريخ الخليقة حتى الآن.

2 - {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 32].

أي: جعلنا ما فوق رؤوسكم - وهو الغلاف الجوي الذي يرتفع بغير عمد إلى علو ألف كيلو متر عبر الفضاء الكوني - جعلناه سقفًا محفوظًا؛ أي: تمسكه الأرض بقوة جاذبيتها، فلا تتركه يفلت إلى الفضاء الكوني؛ ذلك لأن من خصائص الغازات الاندفاع والتسرب إلى الفراغ الذي تعرض له، وتتعادل قوة جذب الأرض مع قوة إفلات الهواء من أعلى، فيظل الغلاف الجوي مرفوعًا إلى علو ألف كيلو متر بغير عمد نراها، مصداقًا لقوله تعالى:

3 - {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} [الطور: 5].

4 - {خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [لقمان: 10].

والقرآن الكريم يستبعد عنصر الصدفة في خلق الكون وما حوى، والصدفة هي التي يعول عليها المكابرون، ويلجأ إليها الجاحدون في تفسير خلق الأشياء، ولكن هل الصدفة يمكن أن تجعل للشيء الواحد فوائد وآيات عديدة؟! وإن استطاعت – جدلاً - ذلك، هل في مقدورها أن تثبت تلك الفوائد والآيات على مر الزمن واختلاف المكان؟! إن العقل السليم إنما يرفض مثل هذا الادعاء، ولهذا يقول الله تعالى: {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ}؛ أي: لا يفكرون في الخدمات التي يؤديها هذا السقف العجيب لأهل الأرض؛ فيستبعدون عنصر الصدفة، ويؤمنون بالخالق المدبر العليم.

{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10].

ومن أظهر خدمات هذا السقف التي يؤديها لأهل الأرض كما عرفناها في عصر العلم:

1 - ما فيه من غاز الأكسجين اللازم للحياة؛ لأنه يكسب الخلايا القدرة على العمل، وتقل مقادير هذا الغاز - كما يقل الهواء عمومًا - بالارتفاع فوق سطح الأرض، وبذلك يشعر الإنسان عندما يصعد إلى أعلى بضيق الصدر، والحاجة إلى صدر أوسع تدريجيًّا، فإذا ما واصل الصعود يختنق تمامًا ويموت غير بعيد عن سطح الأرض، ولقد استطاع الإنسان في هذا العصر أن يقيس معدلات التغير في مقادير الهواء الجوي، معبرًا عنها بضغطها كلما ارتفع إلى أعلى على النحو الآتي:


الارتفاع بالمتر               الضغط الجوي          بوحدة الملليبار


سطح الأرض                  1013                 ملليبار

1500                         850                   ملليبار

3000                         700                   ملليبار

6000                         500                   ملليبار

10000                      300                   ملليبار

12000                      200                   ملليبار

20000                      050                   ملليبار

30000                      010                   ملليبار



ومن الواضح أن مقدار الهواء - ومن ثم الأكسجين - يقل إلى نصف قيمته تقريبًا عند الارتفاع إلى ستة كيلو مترات، وهذه الحقائق العلمية يعبر عنها القرآن الكريم، فيقول: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].

2 - في هذا السقف يوجد أيضًا غاز ثاني أكسيد الكربون، وهو الذي تمتصه النباتات لتأخذ منه الكربون "عنصر الفحم"، وتُخرِج الأكسجين خالصًا نقيًّا إلى الجو، والذي يقوم بهذه العملية هو "الخَضِر" أو "اليَخضُور" أو "الكُلورُوفِيل" في ضوء الشمس، ويجيء ذكر هذه الحقيقة في القرآن بأسلوب معجز أخاذ، لم يثر فضول الجاهلين، ولكن أظهر الإعجاز العلمي في القرآن الكريم في عصر العلوم، إذ يقول: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا} [الأنعام: 99].

والكربون الذي يستخلصه الخضر من ثاني أكسيد الكربون الذي في الجو، هو أساس السلسلة الغذائية كلها؛ فمنه يصنع النبات الخشب، والسكر، والزيوت، والنشا.

3 - في هذا السقف يوجد بخار الماء، الذي به تثير الرياح السحب فينزل منها المطر، الذي هو مصدر كل المياه العذبة على الأرض {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة: 68، 69]؛ والمزن هو السحاب المُمْطِر.

4 - في هذا السقف يحدث ضوء النهار بتشتت أشعة الشمس في الطبقة السطحية الرقيقة، التي لا يزيد ارتفاعها على "200 كيلو متر"، وهي تواجه الشمس دائمًا، وتنسلخ من جسم الغلاف الجوي المظلم كما نسلخ جلد البعير من البعير مثلاً: {وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: 37].

وتتعدد آيات هذا السقف، ولا يتسع المقال ولا المجال في تفاصيلها، ونكتفي بذكر بعضها:

5 - فيه يسري الصوت.

6 - يحرق الشهب في طبقاته العليا.

7 - يفتت النيازك قبل وصولها إلى سطح الأرض.

8 - يحمي أهل الأرض من الأشعة الكونية الفتاكة، وأغلبِ الأشعة فوق البنفسجية التي ترسلها الشمس.

9 - يحول دون تسرب ماء الأرض إلى خضم الفضاء الكوني؛ فلا تصير الأرض عالمًا جافًّا خربًا مثل القمر.

10 - تعمل التيارات الهوائية على توزيع طاقة الشمس بالتساوي، بنقلها من مناطق "وفرتها" بين المدارين إلى مناطق "شحتها" عند القطبين.

 كروية الأرض:

تكاد لا تخفى كروية الأرض في هذا العصر على أحد، خصوصًا بعد أن تم تصويرها من الفضاء الذي تسبح فيه، ويجيء ذكر هذه الحقيقة الكونية في كتاب الله العزيز بأسلوب قرآني لا يثير فضول الجاهلين، في آيات عديدة ومواضع مختلفة، نذكر منها قوله تعالى:

1 - {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر: 5].

فلو لم تكن الأرض كرة لخيم الظلام، أو طلع النهار، على أرجائها دفعة واحدة، ولكن هناك تتابع في تكوير الليل على النهار، والنهار على الليل، يستلزم أن تكون الأرض كرة.

2 - {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا} [يونس: 24].

قال بعض المفسرين أن {لَيْلاً أَوْ نَهَارًا} هنا للتعمية؛ حتى لا يعرف أحد زمن القيامة، هل سيكون ليلاً أم نهارًا، ولكن من الواضح أنه إذا كانت الأرض كرة - وتلك هي الحقيقة - فإنه عندما تقوم الساعة يكون نصف الكرة الأرضية في الليل، والنصف الآخر في النهار، نعم، فالنصف الذي يواجه الشمس يكون في النهار، بينما يكون النصف الذي لا يواجه الشمس في الليل، ولذلك فإن قوله تعالى: {لَيْلاً أَوْ نَهَارًا} يعني ليلاً ونهارًا بسبب كروية الأرض.

3 - {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30].

وتفسير الآية الكريمة الظاهر هو أن الأرض بعد ذلك مهدها وأعدها للسكنى، ولكن من الجائز أيضًا القول بأن {دَحَاهَا} هنا إشارة إلى "الدحية"، وهي البيضة في بعض لهجتنا العربية.

والواقع أن الأرض ليست كاملة التكوير، إذ يزيد طول قطرها الاستوائي - بسبب دورانها حول محورها - على طول قطرها القطبي بنحو 43 كيلو متر؛ ومعنى ذلك أن الأرض بيضاوية الشكل، وهو ما تشير إليه كلمة {دَحَاهَا}، وهي إعجاز علمي أخَّاذ.