عن المقال

المؤلف :

Saleh ibn Abd Al-Aziz ibn Uthman Sindi

التاريخ :

Fri, Oct 16 2015

التصنيف :

الأداب والأخلاق

تحميل

الاختيال عند الصدقة.

الاختيال عند الصدقة

الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن الخيلاء تكبرٌ وعجبٌ وترفعٌ لتخيل فضيلة تراءت للإنسان في نفسه.

وهو خلق مرذول، تكاثر في النصوص ذمه والتحذير منه؛ واستُثني من ذلك موضعان: في الجهاد، وعند الصدقة.

فقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم عن جابر بن عتيك الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يبغض الله، وإن من الخيلاء ما يحب الله ومنها ما يبغض الله، وأما الغيرة التي يحب الله فالغيرة التي في الريبة، وأما الغيرة التي يبغض الله فالغيرة في غير الريبة، وأما الخيلاء التي يحب الله فاختيال الرجل بنفسه عند القتال، واختياله عند الصدقة، والخيلاء التي يبغض الله فاختيال الرجل في الفخر والبغي). وصححه ابن خزيمة وابن حبان.

وأخرج أحمد وعبد الرزاق والحاكم وغيرهم عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غيرتان إحداهما يحبها الله عز وجل والأخرى يبغضها الله، ومخيلتان إحداهما يحبها الله عز وجل والأخرى يبغضها الله: الغيرة في الريبة يحبها الله عز وجل، والغيرة في غيره يبغضها الله، والمخيلة إذا تصدق الرجل يحبها الله، والمخيلة في الكبر يبغضها الله).

وفي إسناد كليهما مقال؛ لكنهما يتقويان ببعضهما؛ فالحديث حسن إن شاء الله، وانظر: إرواء الغليل (1999).

وفي هذه الأسطر وقفة مع هذا الخلق المهجور -أو المجهول- عند كثير من الناس: "الاختيال عند الصدقة" .. فما المراد به؟

ذهب بعضهم إلى أن المخاطب بالخيلاء عند الصدقة هو المتصدق عليه:

- فقيل: اختياله أن يستصغر المال ويستقله ليأخذه وهو في أمن من المن والأذى.

- وقيل: اختياله أن يأخذ الصدقة كالمستغني عنها، غير سائل ولا مُلحٍ ولا مُذل نفسه.

- وقيل: اختياله أن يظهر الاستغناء تعففا عن أخذها.

وهذا التوجيه -على حسن المعاني المذكورة- يبعد حمل الحديث عليه كما لا يخفى، ويكفي في رده ما جاء في حديث عقبة السابق: (والمخيلة إذا تصدق الرجل) فهو صريح في أن المقصود فيه المتصدق لا المتصدق عليه، وهذا ما عليه أكثر أهل العلم الذين تناولوا الحديث بالشرح، وهذا هو الصواب دون شك.

ويبقى توجيه الحديث بناء على هذا الحمل.

لأهل العلم في هذا أقوال متقاربة، ويمكن الجمع والتأليف بينها، واستخلاص المستفاد منها بالتقرير الآتي:

إن اختيال المتصدق عند تصدقه ليس على الفقير الذي يعطيه؛ فهذا منفي في الحديث نفسه: (والخيلاء التي يبغض الله فاختيال الرجل في الفخر والبغي)، (والمخيلة في الكبر يبغضها الله)؛ إنما هو اختيال على نفسه الحاثة له على الشح، وشيطانه المزين لذلك (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ)؛ لأنه -لقوة يقينه وثقته بربه- قد خالف هواه، وقهر شيطانه ولم يكترث بوسوسته .. وما أحسن هذا الاختيال!

وإذا كان الاختيال على الأعداء في الحرب مندوبا؛ فكيف بأعدى الأعداء: النفس والشيطان!

ولعل هذا التوجيه يمهّد لفهم سر تخصيص الصدقة في هذا الحديث بالخيلاء دون بقية الحسنات -سوى الجهاد- وذلك -والله أعلم- أن بذل المال المحبوب للنفوس -المجبولة على الشح به- ليس أمرا هينا؛ فكان حريا -وقد تحرر من رقها- أن يختال عليها، (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

وإذا كان البخل قرين الاختيال في الغالب (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) فاختيال المتصدق الذي جاد بماله رجاء ثواب الله لونٌ آخر؛ إنه شعوره بارتقائه وسموه حين انتصر -بفضل ربه- على شيطانه ونفسه الأمارة بالسوء، وهذا الشعور دافع للثبات والازدياد، لا الفخر والرياء، ولذا ورد الترخيص به، بل الحض عليه، وهذا ما رمى إليه شيخ الإسلام ابن تيمية حين قرر هذا المعنى بكلام ماتع حيث قال: (الاختيال من التخيل، والتخيل من باب التصور الذي قد يكون تصورا للموجود، وقد يكون تصورا للمفقود؛ فإن كان مطابقا للموجود ومحمودا في القصد فهو تخيل حق نافع، وإن كان مخالفا للموجود مذموما في القصد فهو الباطل الضار ... والشجاعة والسماحة لابد فيها من قوة للنفس لا تتم إلا بتصور محبوب يحضه على الشجاعة والسماحة، وإلا ففي هذا بذل النفس وفي هذا بذل المال الذي هو مادة النفس، فإن لم تتصور النفس أمرا محبوبا تعتاض به عما تبذله من النفس والمال لم تأت الشجاعة والسماحة؛ فيحب الله تخيل المقاصد الرفيعة والمطالب العالية التي تحض على الشجاعة والسماحة ... لأن الشجاعة -التي مضمونها النصرة ودفع الباطل والضرر- والسماحة -التي مضمونها الرزق وإقامة الحق والنفع- هما عظيمان في أنفسهما، وإليهما ترجع صفات الكمال من جلب المنفعة ودفع المضرة؛ فإذا تخيل الفاعل نفسه عظيما عند صدور ذلك منه كان مطابقا، فكان اعتقادا صحيحا نافعا؛ ولهذا لم يُذكر أن الله يحبه إلا عند الحرب والصدقة؛ لأنه في هذا الموطن هو صحيح نافع؛ لأنه يحض على المحبوب، وما أعان على المحبوب فمحبوب، فأما بعد صدور ذلك منه فإنه فخر أو منّ، والله لا يحب الفخور ولا المنان). (المستدرك على مجموع الفتاوى 1/178-188).

وإذا كان هذا شأن الاختيال أثمر ثمرتين كريمتين:

أولاهما: أن يبذل الصدقة طيبة بها نفسه، لا يستكثر ما أعطى، ولا تتحسر نفسه عليه، ولا يمن به على معطيه؛ إذ هو في نظره ليس بشيء، وهذا ما لخصه أبو عبيد القاسم بن سلام حيث قال: (وأما الخيلاء في الصدقة: فأن تعلو نفسه وتشرف؛ فلا يستكثر كثيرها، ولا يعطي منها شيئا إلا وهو مستقل له). (غريب الحديث 2/120).

ثانيتهما: أن تهزه سجية السخاء، فيفرح ويبتهج.

وذلك أن المتصدق إذا لاحظ فضل الله وما منّ عليه به من الرزق، وما وفقه إليه من العمل الصالح؛ نشأت في قلبه سحائب السرور؛ فطربت نفسه، (وحينئذ يجري على لسانه وظاهره نهر الافتخار من غير عجب ولا فخر، بل فرحا بفضل الله ورحمته، كما قال تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا)، فالافتخار على ظاهره، والافتقار والانكسار في باطنه، ولا ينافي أحدهما الآخر). (مدارج السالكين 3/86).

أسأل الله الهداية لأحسن الأخلاق، والتوفيق لصالح القول والعمل، إنه خير مسئول.

وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وكتبه: صالح بن عبد العزيز بن عثمان سندي