الإيمان بالقرآن الكريم والكتب السماوية

الإيمان بالقرآن الكريم والكتب السماوية- يتحدث عن القرآن الكريم: تعريفه، وعظمته، وأسماؤه.- يبين خصائص القرآن العظيم، فهو كتاب معجز للبشر، ويبين معنى الإعجاز وأنواعه، كما يبين أنه كتاب محفوظ من قبل الله تعالى.- يشرح مقاصد القرآن الكريم: من تصحيح العقائد والتصورات وتزكية النفس البشرية، وإقامة العدل بين الناس، وتقرير كرامة الإنسان وما يترتب لهذه الكرامة من حقوق، كما تحدث عن الأمة الشاهدة على الناس وبيان صفاتها.- تحدث عن جمع القرآن والمراحل التي مر بها منذ أن كتب في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى جمع الأمة على المصحف الإمام في عهد الخليفة الشهيد عثمان بن عفان رضي الله عنه ونشره في أمهات مدن الإسلام.- ثم انتقل الحديث إلى الكتب السماوية السابقة، فتحدث عن أهمية الإيمان بها ووجوبه، وبين الكتب التي ذكرها القرآن وما لحقها من تحريف، وأن القرآن هو المهيمن عليها والناسخ لها.- إنه كتاب يستحق القراءة لما جمعه من معلومات قيمة ولأسلوبه السهل الممتع البعيد عن التعقيد والمسائل الجدلية الكلامية العقيمة.

سلسلة أركان الإيمان ((5))

الإيمان بالقرآن الكريم
والكتب السماوية



قال تعالى:"لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" (النحل، آية : 32)

د. على محمد محمد الصَّلاَّبيِّ




بسم الله الرحمن الرحيم

الإهداء

إلى كل إنسان يبحث عن منهج الله في الوجود
أهدي هذا الكتاب..

قال تعالى:" فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا"
(الكهف، آية : 110)


بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ومن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ" (آل عمران ، آية : 102).
وقال تعالى: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا" (النساء ، آية : 1).
وقال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا" (الأحزاب ، آية : 70 ـ 71).
يا رب لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضى.
أما بعد: فهذا الكتاب يتحدث عن الإيمان بالقرآن الكريم والكتب السماوية، وهو من ضمن سلسلة أركان الإيمان، وقد قمت بتقسيمه إلى مباحث:
المبحث الأول: وقد تحدثت فيه عن القرآن الكريم لغة واصطلاحاً.
وفي المبحث الثاني: تكلمت فيه عن عظمة القرآن وأسمائه وصفاته.
ومن أسماء القرآن الكريم، الفرقان والبرهان، والحق والنبأ العظيم، والبلاغ، والروح والموعظة، والشفاء، وأحسن الحديث.
وذكر المولى عز وجل أوصافاً عديدة للقرآن الكريم منها:
الحكيم، والعزيز، والكريم والمجيد، والعظيم، والبشير والنذير.
وفي المبحث الثالث: أشرت إلى خصائص القرآن الكريم والتي من أهمها كونه كتاب إلهي، ومحفوظ ومعجز، ومبين وميسر، وكتاب هداية، وكتاب الإنسانية كلها والزمن كله، ونزل بأرقى اللغات وأجمعها، ومهيمن على الكتب السماوية السابقة.
وفي المبحث الرابع: تكلمت عن مقاصد القرآن الكريم والتي من أهمها، تصحيح العقائد والنصورات، وتزكية النفس البشرية، وعبادة الله وتقواه، وإقامة العدل بين الناس، الشورى، الحرية، رفع الحرج، تقرير كرامة الإنسان بالأخلاق والفضائل وتقرير حقوق الإنسان، كحق الحياة والحرية والمساواة والعدالة، وحق الفرد في محاكمة عادلة، حق الحماية من تعسف السلطة، وحق الفرد في حماية عرضه وسمعته، حق اللجوء، وحقوق الأقليات، وحق المشاركة في الحياة العامة، وحق الدعوة والبلاغ والحقوق الاقتصادية، وحق الملكية، وحق العامل وحق الفرد في كفايته من مقومات الحياة، وتأكيد حقوق الضعفاء، ومن مقاصد القرآن الكريم، تكوين الأسرة الصالحة، وإنصاف المرأة وتحريرها من ظلم الجاهلية، وبناء الأمة الشهيدة على الناس، والسماحة والرحمة، والوفاء بالعهود والعقود.
وفي المبحث الخامس: جمع القرآن وكتابته وقد بينت المراحل التي مرَّ بها المشروع الحضاري في جمع القرآن الكريم وكتابته من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وفي المبحث السادس: كان الحديث عن الكتب السماوية كصحف إبراهيم، والتوراة والإنجيل، والزبور، ووجوب الإيمان بها وأهمية ذلك وما تعرضت له من التحريف، ونسخ القرآن الكريم للكتب التي سبقته.
هذا وقد انتهيت من هذا الكتاب يوم الخميس في الساعة السادسة إلا ربع مساءً بتاريخ 24 شعبان 1431هـ 5/8/2010م.
والفضل لله من قبل ومن بعد، وأسأله سبحانه وتعالى أن يتقبل هذا العمل ويشرح صدور العباد للانتفاع به ويبارك فيه بمنه وكرمه وجوده قال تعالى: " مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (فاطر ، آية : 2).
ولا يسعني في نهاية هذا الكتاب إلا أن أقف بقلب خاشع منيب أمام خالقي العظيم وإلهي الكريم، معترفاً بفضله وكرمه وجوده متبرئاً من حولي وقوتي، ملتجئاً إليه في كل حركاتي وسكناتي وحياتي ومماتي، فالله هو خالقي هو المتفضل، وربي الكريم هو المعين، وإلهي العظيم هو الموفق، فلو تخلى عني ووكلني إلى عقلي ونفسي لتبلد مني العقل، ولغابت الذاكرة، وليبست الأصابع ولجفت العواطف، ولتحجرت المشاعر، ولعجز القلم عن البيان، اللهم بصرني بما يرضيك واشرح له صدري وجنبني اللهم ما لا يرضيك وأصرفه عن قلبي وتفكيري، وأسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعل عملي لوجهك خالصاً، ولعبادك نافعاً، وأن تثيبني على كل حرف كتبته وتجعله في ميزان حسناتي وأن تثيب أخواني الذين أعانوني على إتمام هذا الجهد الذي لولاك ما كان له وجود ولا انتشار بين الناس، ونرجو من كل مسلم يطلع على هذا الكتاب ألا ينسى العبد الفقير، إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه.
قال تعالى: " رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ" (النمل ، آية : 19).
وأختم هذا الكتاب بقول الله تعالى: " رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" (الحشر ، آية : 10).


{سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، استغفرك وأتوب إليك}


                              علي محمد محمد الصَّلاَّبي
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين

Mail: [email protected]
Website. www.alsallab.com





الإيمان بالقرآن الكريم والكتب السماوية
المبحث الأول: القرآن لغة واصطلاحاً:
أولاً ــ القرآن لغة: اتفق أهل العلم رحمهم الله على أن لفظ "قرآن" اسم وليس بفعل ولا حرف، لكنهم اختلفوا فيه من جهة الاشتقاق أو عدمه، ومن جهة كونه مهموزاً أو غير مهموز ومن جهة كونه مصدراً أو وصفاً على أقوال عدة تجمل فيما يأتي :
القول الأول: إنه "اسم علم غير منقول" وضع من أوّل الأمر علماً على الكلام المنزَّل على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو اسم جامد غير مهموز، مثل التوراة والإنجيل، وهذا القول مروي عن جماعة من العلماء منهم: الشافعي، وابن كثير وغيرهما رحمهم الله جميعاً.
وقد نقل ابن منظور أن الشافعي رحمه الله كان يقول: القرآن اسم، وليس بمهموز، ولم يؤخذ من قرأتُ ولكنه اسم لكتاب الله مثل التوراة والإنجيل .
القول الثاني والثالث: هم القائلون بأن لفظ القرآن "مهموز"  فقد اختلفوا على رأين:
ـ أن القرآن: مصدر "قرأ" بمعنى: "تلا" كالرجحان والغفران، ثم نُقل من المصدر وجُعل اسماً للكلام المنزَّل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ويشهد له قوله تعالى:" فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ" (القيامة، آية : 18) أي: قراءته.
وقول حسان بن ثابت يرثي عثمان رضي الله عنه:

    ضحّوا بأشمط عنوان السجود به
                    يُقطّعُ الليل تسبيحاً وقرآناً
أي: قراءة .
ـ أن القرآن: وصف على وزن فعلان مشتق من "القُرْء" بمعنى الجمع، ومنه: قرأ الماء في الحوض إذا جمعه، " وقرأت الشيء قرآناً" : جمعته وضممت بعضه إلى بعض .
وسمي القرآن قرآناً، لأنه جمع القصَصَ، والأمر والنهي والوعد والوعيد، والآيات والسور بعضها إلى بعض، وهو مصدر كالغفران والكفران .
القولان الرابع والخامس: هم القائلون بأن لفظ القرآن "غير مهموز" لكنهم اختلفوا في أصل اشتقاقه على قولين:
ـ أنه مشتق من "قَرنْتُ الشيء بالشيء" إذا ضَممت أحدهما إلى الآخر.
قالوا: فسُميّ القرآن به: لِقِران السُور والآيات والحروف فيه، ومنه فسُمّىَ الجمع بين الحج والعمرة في إحرام واحد قران .
ـ أنه مشتق من "القرائن" جمع قرينة، لأن آياته يُصدّق بعضها بعضاً ويُشبه بعضها بعضاً .
ويظهر ـ والله أعلم ـ أن أرجح هذه الأقوال هو القول الثاني، لِقُرب اشتقاقه من كلمة القرآن لفظاً ومعنى.
وأصبح لفظ القرآن ـ بعد ذلك ـ : علماً على الكتاب المنزل .

ثانياً: القرآن في الإصطلاح:
وقد ذكر العلماء رحمهم الله للقرآن الكريم تعريفاً اصطلاحياً يُقرّب معناه ويميزه عن غيره، فعرّفوه بأنه: كلام الله المنزل على نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، المعجز بلفظه، المتعبد بتلاوته المكتوب في المصاحف المنقول بالتواتر .

المبحث الثاني: عظمة القرآن واسماؤه وصفاته:
أولاً: عظمة القرآن الكريم:
تحدث المولى عز وجل في كتابه عن عظمة القرآن الكريم ومن خلال آياته الحكيمة نبين هذه العظمة وإليك التفصيل:
1ـ ثناء الله على كتابه:
أثنى الله تعالى على كتابه العزيز في آيات كثيرة مما يدل على عظمته كما وصفه "بالعظيم" في قوله تعالى:" وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ"  (الحجر ، آية : 87).
ووصفه بالأحكام في قوله تعالى: " الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ" (هود ، آية : 1).
وذكر هيمنته على الكتب السابقة في قوله تعالى: " وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ" (المائدة ، آية : 48).
وهذا الكتاب هو المهيمن الحافظ لمقاصد الكتب المنزلة قبله، الشاهد المؤتمن على ما جاء فيها يُقِرُّ الصحيح فيها ويُصحّح الخطأ.
ووصفه في أم الكتاب بأنه "عليُّ حكيم" في قوله: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا
لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ" (الزخرف ، آية : 4).
فهذه شهادة من الله تعالى بعلو شأن القرآن وحكمته، ولا ريب أن من عظمة القرآن أنه "عليُّ" في محله، وشرفه، وقدره، فهو عال على جميع كتب الله تعالى، بسبب كونه معجزاً باقياً على وجه الدهر .
ومعنى الحكيم: المنظوم نظماً متقناً لا يعتريه أي خلل في أي وجه من الوجوه، فهو حكيم في ذاته حاكم على غيره.
والقرآن "حكيم" كذلك فيما يشتمل من الأوامر والنواهي، والأخبار، وليس فيه حكم مخالف للحكمة والعدل والميزان.
ومن ثناء الله تعالى على القرآن أن وصفه في ثلاث سور بأنه "كتاب مبارك".
ــ قال تعالى: "وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ" (الأنعام ، آية : 92).
ــ وقال تعالى: " وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" (الأنعام ، آية : 155).
ــ وقال تعالى: " وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ" (الأنبياء ، آية : 50).
وبركة هذا الكتاب تمتد إلى يوم القيامة وعطاؤه نامٍ لا ينفذ .. يواكب الحياة بهذا العطاء، ثم يأتي شفيعاً لأصحابه .
2 ـ عظمة مُنَزِّلِهِ سبحانه وتعالى:
العظيم: ذو العظمة والجلال في ملكه وسلطانه عز وجل، والعظمة صفة من صفات الله، لا يقوم لها خلق والله تعالى خلق بين الخلق عظمة يعظم بها بعضهم بعضاً، فمن الناس من يعظم لمال، ومنهم من يعظم لفضل، ومنهم يعظم لعلم، ومنهم من يعظم لسلطان، ومنهم من يعظم لجاه، وكل واحد من الخلق إنما يعظم بمعنى دون معنى، والله عز وجل يعظم في الأحوال كلها، فينبغي لمن عرف حق عظمة الله ألا يتكلم بكلمة يكرهها الله، ولا يرتكب معصية لا يرضاها الله، إذ هو القائم على كل نفس بما كسبت .
فالله تعالى هو العظيم المطلق، لأنه عظيم في ذاته وأسمائه وصفاته كلها، فلا يجوز قصر عظمته في شيء دون شيء منها، لأن ذلك تحكم لم يأذن به الله .
فمن عظمته تعالى: أنه لا يَشُقُّ عليه أن يحفظ السماوات السبع والأرضين السبع، ومن فيها، وما فيها، كما قال تعالى: " وَلاَ يَؤُودُهُ  حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ" (البقرة ، آية : 255).
وتتجلى عظمة القرآن العظيم في عظمة مُنزِّله جل جلاله، ويتضح ذلك جلياً في عدة آيات منها:
ــ قوله تعالى: " الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ" (السجدة ، آية : 1 ـ 3).
ــ وقوله تعالى: " حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ" (الجاثية ، الأحقاف ، آية : 1 ـ 2).
3 ـ فضل من نزل القرآن:
نوه الله تعالى بشأن من نزل بالقرآن على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو جبريل عليه السلام، أمين الوحي الالهي، وذكر فضله في عدة آيات منها:
قال تعالى:" قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ"النحل ، آية : 102).
وقال تعالى: " وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ" ( الشعراء ، آية : 192 ـ 194).
وقد وصف الله تعالى جبريل عليه السلام بخمس صفات في قوله تعالى: "إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ" (التكوير ، آية : 19 ـ 21).
وهذه الصفات الخمس تتضمن تزكية سند القرآن العظيم وأنه سماع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من جبريل عليه السلام، وسماع جبريل الأمين من رب العالمين، فناهيك بهذا السند علواً وجلالة .
4 ـ القرآن تنزيل رب العالمين:
قال تعالى: " وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ" )الشعراء ، آية : 192 ـ 193).
وقال تعالى: " إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ" (القدر ، آية : 1).
وفيه ضمير العظمة وإسناد الانزال إليه تشريف عظيم للقرآن .
فمن عظمة القرآن أنه نزل من الله تعالى وحده لا من غيره، لنفع الناس وهدايتهم، فاجتمعت في القرآن العظيم فضائل منها:
ــ أنه أفضل الكتب السماوية.
ــ نزل به أفضل الرسل وأقواهم، الأمين على وحي الله تعالى.
ــ نزل على أفضل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم.
ــ نزل لأفضل أمة أخرجت للناس.
ــ نزل بأفضل الألسنة وأفصحها، وأوسعها، وهو اللسان العربي المبين .
5 ـ القرآن مستقيم ليس فيه عوج:
قال تعالى: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّمًا" (الكهف ، آية : 1 ـ 2).
ونفي العوج عن القرآن له عدة أوجه، منها:
الأول: نفي التناقض عن آياته، كما قال تعالى: " وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا" (النساء ، آية : 82).
الثاني: إن كل ما ذكر الله تعالى في القرآن من التوحيد والنبوة والأحكام والتكاليف وهو حق وصدق ولا خلل في شيء منه البتة .
وأخبر تعالى كذلك عن القرآن أنه ليس فيه تضاد، ولا اختلاف ولا عيب من العيوب التي في كلام البشر، فقال تعالى: " قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ" (الزمر ، آية : 28)، أي: ليس فيه خلل ولا نقص بوجه من الوجوه، لا في ألفاظه، ولا في معانيه، وهذا يستلزم كمال اعتداله واستقامته .
فقد وصف الله تعالى كتابه العزيز بأوصاف عظيمة تدل على أنه كامل من جميع الوجوه، وعظيم بكل ما تعبر عنه الكلمات منها:
ـ نفيُ العوج عنه: وهذا يقتضي أنه ليس في أخباره كذب، ولا في أوامره ونواهيه ظلم ولا عبث.
ـ إثبات أنه مستقيم مقيم: فالقرآن العظيم مستقيم في ذاته، مقيم للنفوس على جادّة الصوّاب واثبات الاستقامة يقتضي أنه لا يُخبرُ ولا يأمر إلا بأجلّ الاخبارات، وهي الأخبار التي تملأ القلوب معرفة وإيماناً وعقلاً، كالإخبار بأسماء الله وصفاته وأفعاله، والإخبار بالغيوب المتقدمة والمتأخرة، وأن أوامره ونواهيه، تزكي النفوس وتطهرها وتنميّها وتكمّلها لاشتمالها على كمال العدل والقسط، والإخلاص، والعبودية لله رب العالمين، وحده لا شريك له، فحقيق بكتاب موصوف بما ذُكر، أن يَحمد الله تعالى نفسه على إنزاله ، وينفي العوج عن القرآن الكريم وإثبات استقامته تتجلى عظمته وعلّو شأنه، ومنزلته عند الله .
6ـ خشوع الجبال وتصدُّعها:
قال تعالى:" لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ" (الحشر، آية : 21) أي: لا تّعظ الجبل وتصدّع صخره من شدّة تأثره من خشية الله، ففي هذا: بيان حقيقة تأثير القرآن وفعاليته في المخلوقات، ولو كانت جبلاً أشم، وحجراً أصم ، وضُرب التصدّع مثلاً لشدة الانفعال والتأثر، لأن منتهى تأثر الأجسام الصلبة أن تنشق وتتصدّع ولا يحصل ذلك بسهولة.
والخشوع: هو التّطأطؤ والرّكوع، أي: لرأيته ينزل أعلاه إلى الأرض.
والتصدع: التشقق، أي لتزلزل وتشقق من خوف الله تعالى .
ولا شك أن هذا تعظيم لشأن القرآن، وتمثيل لعلوّ قدره وشدّة تأثيره في النفوس، لما فيه من بالغ المواعظ والزواجر، ولما اشتمل عليه من الوعد الحقّ والوعيد الأكيد، فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته لو فهم هذا القرآن ـ كما فهمتموه ـ لخشع وتصدّع من خوف الله تعالى، فكيف يليق بكم أيُّها البشر ألّا تلين قلوبكم وتخشع وتتصدّع من خشية الله، وقد فهمتم عن الله أمره، وتدبّرتم كتابه ، والمقصود من إيراد الآية: إبراز عظمة القرآن الكريم، والحث على تأمل مواعظة الجليلة، إذ لا عذر لأحد في ذلك، وأداء حق الله تعالى في تعظيم كتابه، وتوبيخ من لا يحترم هذا القرآن العظيم، وفيه كذلك تمثيل وتخييل لعلوِّ شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ
7ــ انقياد الجمادات لعظمة القرآن:
قال تعالى:" وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى" (الرعد، آية : 31).
فهذا شرط جوابه محذوف، والمراد منه: تعظيم شأن القرآن العظيم.
والمعنى: ولو أن قرآناً سُيرت به الجبال عن مقارّها وزُعزعت عن مضاجعها أو قُطعّت به الأرض حتى تتصدّع وتتزايل قطعاً، أو كُلم به الموتى فتسمع وتجيب لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير ونهاية في التخويف .
والمقصود: بيان عظم شأن القرآن العظيم، وفساد رأي الكفرة، حيث لم يقدّروا قدره العلي، ولم يعدّوه من قبيل الآيات فاقترحوا غيره، مما أُوتي موسى وعيسى عليهما السلام .. فالمعنى :" لَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ" أي: بإنزاله أو بتلاوته عليها، وزعزعت عن مقارها كما فُعل ذلك بالطور لموسى عليه الصلاة والسلام " أَوْ  قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ" أي: شققت وجُعلت أنهاراً وعيوناً، كما فعل بالحجر حين ضربه عليه السلام بعصاه أو جعلت قطعاً متصدّعة أو " أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى" أي: بعد ما أحييت بقراءته عليها، كما أُحيت لعيسى عليه السلام، لكان هذا القرآن لكونه الغاية القصوى في الانطواء على عجائب آثار قدرة الله تعالى وهيبته .
8ـ تحدي الإنس والجن بالقرآن:
من مظاهر عظمة القرآن وعلو شأنه، أن الله تعالى تحدّى الإنس والجنَّ أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله أو بسورة مثله .
قال تعالى:" قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا" (الإسراء، آية : 88).
وقال تعالى:" أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ" (هود، آية : 13 ـ 14).
ومع ذلك كله، ما ثابوا إلى رشدهم، وما وجدوا ما يتكلمون به فعادوا لما نهوا عنه وقالوا:" أختلقه محمد عمداً"، فاستدرجهم الله تعالى من حيث لا يعلمون ووصل بهم إلى غاية التّبكيت والخذلان وتحدّاهم أن يأتوا بسورة مثل القرآن فعجزوا.
قال تعالى:" أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" (يونس، آية : 38).
ولما بهت الذين كفروا، ولم يستسلموا صاروا كالذي يتخبطه الشيطان من المسَّ، مرة يقولون استهزاء:" لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ" (الأنفال، آية : 31).
وأخرى يقولون عابثين :" ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ" (يونس، آية : 15).
وصار أمرهم على ما يقول الله العظيم :" بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ" (يونس، آية : 39) .
فهذا القرآن العظيم ليس ألفاظاً وعبارات يحاول الإنس والجن أن يحاكوها، كلا وربي، إنه كلام الله تعالى الذي تحدى به الخلق كلهم، فقال عز وجل من قائل حكيم:" قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا" (الإسراء، آية : 88).
فهذا تنويه بشرف القرآن وعظمته وهذه الآية ونحوها تُسمىّ آيات التحدي، وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن الكريم أو سورة منه .
وكيف يقدر المخلوق من تراب أن يكون كلامه ككلام ربّ العالمين، أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه أن يأتي بكلام ككلام الكامل، الذي له الكمال المطلق،والغنى الواسع من جميع الوجوه، هذا ليس في الإمكان ولا في قدرة الإنسان، وكل من له أدنى ذوق ومعرفة بأنواع الكلام، إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء ظهر له الفرق العظيم .
فعظمة القرآن وعلو شأنه لا تجعل للخَلْق من إنس وجِنّ مطمعاً في الإتيان بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً .

ثانياً: أسماء القرآن الكريم:
للقرآن الكريم أسماء عظيمة من أهمها:
1ـ الفرقان:
سمّى الله تعالى القرآن فرقاناً في أربع آيات في كتابه المبارك وهي:
ـ قوله:" تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا" (الفرقان، آية : 1).
ـ وقال تعالى:" وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ" (آل عمران، آية : 4).
ـ وقال تعالى:" شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ" (البقرة، آية : 185).
ـ وقال تعالى:" وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً" (الإسراء، آية : 106).
وذكر المفسرون في سبب تسمية القرآن بالفرقان أقوال منها:
ـ سُمي بذلك لأن نزوله كان متفرقاً أنزله تعالى في نيف وعشرين سنة، في حين أن سائر الكتب نزلت جملة واحدة .
ـ سُمي بذلك، لأنه يفرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام، والمجمل والمبين، والخير والشر، والهدى والضلال، والغي والرشاد، والسعادة والشقاوة، والمؤمنين والكافرين والصادقين والكاذبين، والعادلين والظالمين وبه سُمي عمر بن الخطاب رضي الله عنه الفاروق، وقد بين ابن عاشور رحمه الله سبب تسمية القرآن بالفرقان بقوله: ووجه تسميته الفرقان أنه امتاز عن بقية الكتب السماوية بكثرة ما فيه من بيان التفرقة بين الحق والباطل، فإن القرآن يعضد هديه بالدلائل والأمثال ونحوها، وحسبُك ما اشتمل عليه من بيان التوحيد وصفات الله مما لا تجد مثله في التوراة والإنجيل، كقوله تعالى:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" (الشورى، آية : 11) .
وقيل الفرقان هو النجاة، سُمي بذلك، لأن الخلق في ظلمات الضلالات، وبالقرآن وجدوا النجاة وعليه حمل المفسرون قوله تعالى:" وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" (البقرة، آية : 53) .
وسواء كانت تسمية القرآن العظيم بالفرقان، لأن نزوله كان متفرقاً في نيف وعشرين سنة بينما سائر كتب الله تعالى نزلت جملة واحدة، أو سُمي بذلك، لأنه يفرق بين الحق والباطل، أو لأن فيه نجاة من ظلمات الضلالات، فهذا الاختلاف في التنوع يدل دلالة صريحة على عظمة القرآن، ورفعة منزلته عند الله تعالى، وعلو شأنه .
2ـ البرهان:
سمىّ الله القرآن برهاناً في آية واحدة في كتابه العزيز، وهي قوله تعالى:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ" (النساء، آية : 174).
فهذا خطاب لكل أصحاب الملل، اليهود والنصارى والمشركين وغيرهم، أن الله تعالى أقام بهذا القرآن الحجة عليهم تُبرهن لهم بطلان ما هم عليه من الدين المنسوخ، وهذه الحجة تشمل الأدلة العقلية والنقلية والآيات الآفاقية، كما قال تعالى:" سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ" (فصلت، آية : 53).
بل كفى بالقرآن العظيم ـ وحده ـ برهاناً على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة .
فالقرآن برهان من الله لعباده، أقام به الحجة عليهم وأظهر من خلاله أوضح الدلالات وأقواها على موضوعاته ومعانيه وحقائقه في العقيدة والحياة وكلُّ من تعامل مع أدلة القرآن في يُسرها ووضحها وتأثر قلبه وعقله بها، وقارنها بالأدلة والبراهين والأقيسة أوجدتها العقول البشرية وقررتها وبينتها كل من فعل ذلك يُدرك طرفاً من البرهان القرآني ويسره ووضوحه .
وتتجلى عظمة القرآن الكريم ومنزلته العالية من خلال تسميته بالبرهان ذلك لأن الله تعالى أقام به الحُجة على عباده، تُبرهن لهم بطلان ما هم فيه من الدين المنسوخ، وهي حُجة متنوعة في الاستدلال لتستوعبها عقول البشر على اختلاف فهومهم وثقافاتهم، وهذا من رحمة الله تعالى وحكمته .
3ـ الحق:
سمّى الله تعالى القرآن حقاً في مواضع عِدّة من كتابه، نأخذ منها ما له صلة بموضوعنا وهي:
ـ قوله تعالى:" وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ" (الحاقة، آية : 51).
أي: وإن القرآن لكونه من عند الله حق فلا ريب فيه ولا يتطرق إليه شك .
ـ وقال تعالى:" بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ" (الأنبياء، آية : 18).
والقذف: الرّمي، أي نرمي بالحق على الباطل "فيدمغه" أي: يقهره ويهلكه.
وأصل الدمغ: شجُّ الرأس حتى يبلغ الدماغ، ومنه الدّامغة، والحق هنا القرآن، والباطل الشيطان في قول مجاهد .
ـ وقال تعالى:" وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ" (الأنعام، آية : 66).
والضمير في قوله "به" عائد على القرآن الذي فيه تصريف الآيات .
وقوله تعالى:" وَهُوَ الْحَقُّ" جملة اعتراضية تتضمن شهادة الله بأن هذا القرآن المنزَّل على هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم هو الحق من الله .
والمعنى " وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ" أي: بالقرآن الذي جئتم به، والهدى والبيان، " قَوْمُكَ" يعني قريشاً، " وَهُوَ الْحَقُّ" أي: الذي ليس وراءه حق، " قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ" أي: لستُ عليكم بحفيظ، ولست بموكل بكم .
ـ قوله تعالى:" وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ" (هود، آية : 17).
قوله تعالى:" وَمَن يَكْفُرْ بِهِ" أي: بالقرآن ولم يُصدق بتلك الشواهد الحقة.
وقوله" فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ" أي: في شك من أمر القرآن وكونه من عند الله عز وجل .
وفيه تعريض بغيره صلى الله عليه وسلم، لأنه معصوم عن الشك في القرآن .
وقوله تعالى:" إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ" أي: القرآن حق من الله تعالى لا مرية ولا شك فيه.
وقوله تعالى:" وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ" أي: إما جهلاً منهم وضلالاً، وإما ظلماً وعناداً وبغياً وإلا فمن قصده حسناً، وفهمه مستقيماً، فلابد أن يؤمن به، لأنه يرى ما يدعوه إلى الإيمان من كل وجه .
ـ وقال تعالى:" قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ" (سبأ، آية : 48 ـ 49).
وقوله تعالى:" قُلْ جَاء الْحَقُّ" أي: وهو الإسلام والقرآن ، فهذا القرآن العظيم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الحق: الحق القوي الذي يقذف به الله تعالى، فمن ذا يقف للحق الذي يقذف به الله تعالى؟
وكأنما الحق قذيفة تصدع وتخرق وتنفذ ولا يقف لها أحد في طريق، يقذف بها الله تعالى علّام الغيوب، فهو يقذف بها عن علم، ويوجهها على علم، ولا يخفى عليه هدف، ولا تغيب عنه غاية، فالطريق أمامه تعالى مكشوف ليس فيه ستور .
ومن خلال تسمية القرآن الكريم باسم الحق تبرز عظمته ومنزلته العالية، فلابد أن يؤمن الناس لهذا الحق الأوحد ويستجيبوا له، لأن مصدره هو الإله الأوحد جلّ جلاله .
4ـ النبأ العظيم:
قال تعالى:" قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ" (ص، آية : 67 ـ 68).
أي: خبر عظيم وشأن بليغ، وهو إرسال الله إياي إليكم " أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ" أي: غافلون. في قوله عزّ وجلّ " قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ" يعني: القرآن .
وقال تعالى:" عَمَّ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ" (النبأ، آية : 1 ـ 2).
ولاشك بأن القرآن نبأ عظيم، فمنذ إيجاد البشرية، وتكوينها، ما رأت ولا سمعت بمثل هذا القرآن العظيم فهو عظيم في اسلوبه، وعظيم في روعته، وعظيم في معناه، وعظيم في جمال تركيبه، وعظيم في وعده ووعيده وعظيم في أحكامه، وعظيم في أمره ونهيه، وعظيم في أخباره وقصصه وأمثاله .
5ـ البلاغ:
قال تعالى:" هَـذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ" (إبراهيم، آية : 52).
فلما بين البيان المبين في هذا القرآن قال في مدحه " هَـذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ" أي: يتبلغون به ويتزودون إلى الوصول إلى أعلى المقامات، وأفضل الكرامات لما اشتمل عليه من الأصول والفروع وجميع العلوم التي يحتاجها العباد "وَلِيُنذَرُواْ بِهِ" لما فيه من الترهيب من أعمال الشر وما أعد الله لأهلها من العقاب .
6ـ الروح:
قال تعالى:" وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا" (الشورى، آية : 52).
والمعنى " وَكَذَلِكَ" حين أوحينا إلى الرسل قبلك " أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا" وهو: هذا القرآن العظيم، سمّاه روحاً، لأن الروح يحيا به الجسد، والقرآن تحيا به القلوب والأرواح، وتحيا به مصالح الدنيا والدين، لما فيه من الخير الكثير وهو محض منة الله على رسوله وعباده المؤمنين، من غير سبب منهم، ولهذا قال تعالى:" مَا كُنتَ تَدْرِي" أي: قبل نزوله عليك "مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ" أي: ليس عندك علم بأخبار الكتب السابقة، ولا إيمان وعمل بالشرائع الإلهية بل كنت أمياً لا تخط ولا تقرأ، فجاءك هذا الروح الذي " جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا" يستضيئون به في ظلمات الكفر والبدع، والأهواء المردية، ويعرفون به الحقائق، ويهتدون به إلى الصراط المستقيم .
7ـ الموعظة:
قال تعالى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ" (يونس، آية : 57).
يعني: القرآن يتعظ به من قرأه وعرف معناه، يا أيها الناس قد جاءكم كتاب جامع للحكمة العملية، الكاشفة عن محاسن الأعمال ومقابحها المرغبة في المحاسن والزاجرة عن المقابح.
قد جاءكم كتاب جامع لكل المواعظ أو الوصايا الحسنة التي تُصلح الأخلاق والأعمال وتزجر عن الفواحش، وتشفي الصدور من الشكوك وسوء الاعتقاد وتهدي إلى الحق واليقين والصراط المستقيم الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة .
فكفى بالقرآن واعظاً، وكفى بالقرآن زاجراً، وكفى بالقرآن هادياً ومُذَكّراً .
8ـ الشفاء:
سمّى الله عز وجل القرآن العظيم شفاءً في ثلاثة مواضع من كتابه وهي:
ـ قوله تعالى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ" (يونس، آية : 57).
أي: دواء للقلوب من أمراضها التي هي أشد من أمراض الأبدان كالشك والنفاق والحسد والحقد وأمثال ذلك .
ـ وقال تعالى:" وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ" (الإسراء، آية : 82).
فالقرآن كله شفاء ورحمة للمؤمنين .
ـ وقال تعالى:" قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء" (فصلت، آية : 44).
فالقرآن الكريم شفاء من أمراض القلوب والنفوس والجوارح وأمراض السياسة والاقتصاد والحياة والحضارة وغيرها من أمراض العصر، فمن عظمة القرآن الكريم وعلو شأنه وعظمة تأثيره: أن فيه الشفاء الكامل لأمراض الاعتقادات الباطلة، والأخلاق المذمومة، والأمراض الجسدية، وشفاؤه يمتد كذلك إلى الأمراض المعاصرة المزمنة لو أخذ الناس بتعاليمه وأدويته النافعة فعملوا بها .
9ـ أحسن الحديث:
قال تعالى:" اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ" (الزمر، آية : 23).
يعني أحكم الحديث، وهو القرآن .
وأحسن الكتب المنزلة من كلام الله، هذا القرآن وإذا كان هو الأحسن، علم أن ألفاظه أفصح الألفاظ وأوضحها، وأن معانيه أجلُّ المعاني، لأنه أحسنُ الحديث في لفظه ومعناه متشابه في الحسن والائتلاف وعدم الاختلاف بوجه من الوجوه، حتى إنه كلما تدبره المتدبر، وتفكر فيه المتفكر، رأى من اتفاقه، حتى في معانيه الغامضة ما يبهر الناظرين، ويجزم بأنه لا يصدر إلا من حكيم عليم .
وقد سُمّى القرآن حديثاً في مواضع كثيرة من كتاب الله تعالى، ومنها:
ـ قوله تعالى:" فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ" (الأعراف، آية : 185).
ـ قوله تعالى:" فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا" (الكهف، آية : 6).
ـ قوله تعالى:" أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ" (النجم، آية : 59).
ـ قوله تعالى:" فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ" (القلم، آية : 44).
وكون القرآن العظيم أحسن الحديث على الإطلاق، وأحسن الكتب المنزلة من كلام الله تعالى، من حيث فصاحة ألفاظه ووضوحها، وجلالة معانيه وكثرتها ونفعها دلّ ذلك على عظمته وعلو شأنه ورفعته .

ثالثاً: أوصاف القرآن الكريم:
ذكر المولى عز وجل أوصافاً عديدة للقرآن الكريم منها:
1ـ الحكيم:
وصف الله تبارك وتعالى كتابه بأنه حكيم في عدة آيات منها:
ـ قوله تعالى:" تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ" (يونس، آية : 1).
ـ وقال تعالى:" يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ" (يس، آية : 1 ـ 2).
فهذا قسم من الله تعالى بالقرآن الحكيم وقد وصفه بالحكمة وهي وضع كل شيء في موضعه اللائق به والقرآن الحكيم يخاطب كل أحد بما يناسبه ويؤثر فيه كائناً من كان وهذا من مقتضيات أن يكون حكيماً والقرآن الحكيم يُربي أيضاً بحكمة، وفق منهج عقلي ونفسي مستقيم، منهج يوجه طاقات البشر إلى الوجه الصالح القويم ويقرر للحياة كذلك نظاماً يسمح بكل نشاط بشري في حدود ذلك المنهج الحكيم .
ومن إحكام آيات القرآن الحكيم:
ـ أنها جاءت بأجل الالفاظ وأوضحها، وأبينها، الدّالة على أجلّ المعاني وأحسنها.
ـ أنها محفوظة من التّغيير والتبديل، والزيادة والنقص والتحريف.
ـ أن جميع ما فيها من الأخبار السابقة واللاحقة، والأمور الغيبية كلها مطابقة للواقع، مطابق لها الواقع، لم يخالفها كتاب من الكتب الإلهية ولم يخبر بخلافها نبي من الأنبياء، ولم يأت ولن يأت علم محسوس ولا معقول صحيح يُناقض ما دلت عليه.
ـ أنها ما أمرت بشيء، إلا هو خالص المصلحة، أو راجحها، ولا نهت عن شيء، إلا هو خالص المفسدة، أو راجحها، وكثيراً ما يُجمع بين الأمر بالشيء، مع ذكر حكمته وفائدته، والنهي عن الشيء، مع ذكر مضرته.
ـ أنها جمعت بين الترغيب والترهيب، والوعظ البليغ الذي تعتدل به النفوس الخيّرة وتحتكم، فتعمل بالجزم.
ـ أنك تجد آياتها المتكررة، كالقصص والأحكام ونحوها، قد اتفقت كلها وتواطأت، فليس فيها تناقض ولا اختلاف.
وأنّى للباطل أن يدخل على هذا الكتاب الحكيم، وهو تنزيل من حكيم حميد، والحكمة ظاهرة في بنائه، وتوجيهه، وطريقة نزوله، وفي علاجه للقلب البشري من أقصر طريق .
2ـ العزيز:
قال الله تعالى في وصف القرآن:" وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ" (فصلت، آية : 41).
أي: يصعب مناله ووجود مثله .
والعزيز: النفيس، وأصله من العزّة وهي المنعة، لأن الشيء النفيس يُدافع عنه ويُحمى عن النبذ، ومثل ذلك يكون عزيزاً والعزيز أيضاً: الذي يغلب ولا يُغلب، وكذلك حجج القرآن .
ووصف تعالى الكتاب بالعزة، لأنه بصحة معانيه ممتنع الطعن فيه والإزراء عليه وهو محفوظ من الله تعالى ، وجماع أقوال المفسرين في وصف القرآن بأنه "عزيز" ما يلي:
ـ منيع من الشيطان لا يجد إليه سبيلا، ولا يستطيع أن يغيره أو يزيد فيه أو ينقص منه.
ـ كريم على الله، وعزيز على الله، وعزيز من عند الله.
ـ عديم النظير منيع من الباطل، ومن كل من أراده بتحريف أو سوء.
ـ يمتنع على الناس أن يقولوا مثله فهو غالب وقاهر والمتأمل في هذه الأقوال يجدها جميعاً تنطبق على "العزيز" وصفاً للقرآن وهي من اختلاف التنوع لا التضاد، تدل على عظمة القرآن وعزته وعلو شأنه ورفعته.
فنحمد الله العزيز الذي أنزل كتاباً عزيزاً: "وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ" (فصلت، آية : 41) على نبي عزيز " لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ" (التوبة، آية : 128).
لأمة عزيزة " وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ" (المنافقون، آية : 8) .
3ـ الكريم:


قال تعالى:" فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ" (الواقعة، آية : 75 ـ 77).
والكريم: اسم جامع لما يحمد وذلك أن فيه ـ البيان والهدى والحكمة وهو مُعظّم عند الله عز وجل .
4ـ المجيد:
قال تعالى:" بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ" (البروج، آية : 21 ـ 22).
وقال تعالى:" ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ" (ق، آية : 1).
والمعنى: إن هذا القرآن الذي كذّبوا به شريف الرّتبة في نظمه وأسلوبه حتى بلغ حدّ الإعجاز، منتاه في الشرف والكرم والبركة، وليس هو كما يقولون: إنه شعر وكهانة وسحر، وإنما هو كلام الله المصون عن التغيير والتحريف، المكتوب في اللوح المحفوظ .
5ـ العظيم:
لقد نوّه الله تبارك وتعالى بعظمة القرآن، فقال تعالى:" وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ" (الحجر، آية : 87 ـ 88).
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: كما آتيناك القرآن العظيم فلا تنظرن إلى الدنيا وزينتها وما متعنا به أهلها، استغن بما آتاك الله من القرآن العظيم، عمّا فيه من المتاع والزهرة الفانية .
فالقرآن هو النعمة العُظمى التي كل نعمة وإن عظمت فهي إليها حقيرة ضئيلة فعليك أن تستغني به .
6ـ البشير والنذير:
قال الله تعالى في وصف القرآن العظيم:" كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا" (فصلت، آية : 3 ـ 4).
فهذا وصف للقرآن العظيم أنه: يبشر من آمن بالجنة، وينذر من كفر بالنار .
7ـ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه:
قال تعالى:" لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ" (فصلت، آية : 42).
فالله عز وجل لم يجعل للباطل مدخلاً على هذا الكتاب العزيز وأنّى له أن يدخل عليه وهو صادر من الله الحق العظيم.
قال تعالى:" وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا" (النساء، آية : 82).
وقال تعالى:" وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ" (يونس، آية : 37) .

المبحث الثالث: خصائص القرآن الكريم:
خصائص القرآن الكريم كثيرة منها:

أولاً: كتاب إلهي:
أولى خصائص القرآن، أنه كتاب الله تعالى، الذي يتضمن كلماته إلى خاتم رسله وأنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم، فهو إلهي المصدر: ((100%)) لفظاً ومعنى، أوحاه الله إلى رسوله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي الجلي، وهو نزول "الرسول الملكي" جبريل عليه السلام على "الرسول البشري" محمد وليس عن طرق الوحي الأخرى من الإلهام أو النفس في الرّوع، ومن الرؤيا الصادقة أو غيرها.
قال تعالى: " كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ" (هود ، آية : 1).
ــ قال سبحانه يخاطب رسوله: " وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ" (النمل ، آية : 6).
ــ وقال تعالى: " وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا" (الإسراء ، آية : 105).
وقد اقتضت حكمت الله تعالى أن ينزله منجماً وفقاً للحوادث ليكون أرسخ في مواجهة المحن والشدائد التي تنزل به وبأصحابه، كما قال تعالى: " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا" (الفرقان، آية : 32 ـ 33).
وحكمة أخرى، وهي أن يقرأه الرسول الكريم على المؤمنين به على مهل، وحيث  يستوعبونه حفظاً وفهماً وعملاً، كما قال الله عز وجل: " وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً" (الإسراء، آية : 106).
ولكن القرآن عند الله تعالى كتاب معلوم أوله وآخره، مسجل في أم الكتاب أو اللوح المحفوظ أو الكتاب المكنون، كما صرح بذلك القر آن نفسه " حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ" (الزخرف ، آية : 1 ـ 4).
وقال تعالى: " بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ" (البروج ، آية : 21 ـ 22).
وقال تعالى: " إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ" (الواقعة ، آية : 77 ـ 80).
وأي قارئ للقرآن ـ له عقل وحس ـ يستيقن أنه ليس كلام بشر، وأنه متميز عن كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، الذي يتمثل في الحديث النبوي، وإن كان في ذروة البلاغة البشرية، وإن وجود آية قرآنية ضمن حديث نبوي، يجعل لها نوراً خاصاً يحس به من يقرأها أو يسمعها، ويشعر أنها ليست من جنس ما قبلها وما بعدها .
ومن روائع ما قال الإمام ابن القيم عن "الخطاب القرآني" قوله في كتابه "التبيان في أقسام القرآن": تأمل في خطاب القرآن تجد ملكاً له الملك كله، وله الحمد كله، أزمة الأمور كلها بيده، ومصدرها منه، وموردها إليه، مستوياً على العرش، لا تخفى عليه خافية من أقطار مملكته، عالماً بما في نفوس عبيده، مطلعاً على أسرارهم وعلانيتهم منفرداً بتدبير المملكة، يسمع ويرى، يعطي ويمنع، يثيب ويعاقب، ويكرم ويهين، ويخلق ويرزق، ويميت ويحي، ويقدر ويقضي، ويدبر الأمور، نازلة من عنده، دقيقها وجليها، وصاعدة إليه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، فتأمل كيف تجده يثني على نفسه ويمجد نفسه ويحمد نفسه، وينصح عباده، ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم، ويرغبهم فيه، ويحذرهم مما فيه هلاكهم ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه، يذكرهم بنعمهم عليهم، ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها، ويحذرهم من نقمه، ويذكرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه، وما أعد لهم من العقوبة إن عصوه، ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه، وكيف كانت عاقبة هؤلاء وهؤلاء، ويثني على أوليائه لصالح أعمالهم وأحسن أوصافهم، ويذم أعداءه بسيء أعمالهم وقبيح صفاتهم، ويضرب الأمثال وينوع الأدلة والبراهين، ويجيب على شبه أعدائه أحسن الأجوبة، ويصدق الصادق، ويكذب الكاذب، ويقول الحق ويهدي السبيل، ويدعو إلى دار السلام، ويذكر أوصافهم وحسنها ونعيمها ويحذر من دار البوار، ويذكر عذابها وقبحها وآلامها، ويذكر عباده فقرهم إليه، وشدة حاجتهم إليه من كل وجه، وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين، ويذكرهم غناه عنهم وعن جميع الموجودات، وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه .

ثانياً: كتاب محفوظ:
ومن خصائص القرآن: أنه كتاب محفوظ، تولى الله تعالى حفظه بنفسه، ولم يكل حفظه إلى أحد كما فعل مع الكتب المقدسة الأخرى .
وقد نوه الله سبحانه بعظمة القرآن بذكر حفظه قبل نزوله في آيات منها:
ــ " كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَة * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ" (عبس ، آية : 11 ـ 16).
ــ وأما حفظ الله تعالى للقرآن أثناء نزوله فيدل عليه قوله تعالى: " وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ" (الإسراء ، آية : 105).
ــ وأما حفظ الله تعالى للقرآن بعد نزوله فيدل عليه قوله تعالى: " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر ، آية : 9).
والصيغة تدل على التأكيد من عدة أوجه يعرفها دارسو العربية، منها: أسمية الجملة وتأكيدها بحرف إن ودخول اللام المؤكدة عن الخبر ((لحافظون)) ، ولحفظ الله إياه فقد بقي كما هو: طوداً أشمّ، عزيزاً لا يُقتحم حِماه، وكل محاولة لتغيير حرف منه مقضي عليها بالفشل، قال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ" (فصلت، آية : 41 ـ 42).
وقد هيأ الله تبارك وتعالى للقرآن العظيم ظروفاً تختلف عن الكتب السابقة فحفظه دونها ومن ذلك:
1ـ هيّأ أمة قوية في ذاكرتها وحافظتها، ذلك أن العرب الأوائل في جاهليتهم كانوا متمكنين من ذلك حيث يروون ألوفاً من أبيات الشعر بغير تدوين، إنما يعتمدون في ذلك على الحفظ.
2ـ هيّأ للقرآن العظيم سهولة الحفظ قال تعالى:" وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ" (القمر، آية : 17).
3ـ هيّأ له أمة مستقرة ممكنة في الحفظ والفهم، والأمانة، فكان الحفاظ يحفظونه على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يُتقِنُوا الحفظ، ثم يُدوّنونه بعد ذلك، ويقف عليهم بنفسه في مراجعة ذلك.
4ـ هيّأ له مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم له في الملأ الأعلى، حيث كان يحفظ ما يوحي إليه ثم يُراجعه على جبريل عليه السلام مرة كل سنة، وفي السنة الأخيرة من حياته المباركة راجع جبريل القرآن كله على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين.
5ـ بعد الفراغ من تدوينه لم يَعُد هناك مجال لعبث عابث، وظل الحفاظ المتقنون يُراجعون كل نسخة تكتب من المصحف مراجعة فاحصة ولمّا أصبح للمصحف مطابع خاصة، كُونت لجان متخصصة ومتأهلة من كبار حُفاظ العالم الإسلامي تُراجع وتُدقق كلّ حرف منه قبل أن تأذن بطبعه.
وبهذه الوسائل تحقّق للقرآن العظيم ذلك الحفظ الذي قدّره الله له منذ الأزل وهو اللوح المحفوظ، وأنجز وعده الصادق:" إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر، آية : 9) .
وفي سبك الجملتين من الدلالة على كمال الكبرياء والجلالة وعلى فخامة شأن التنزيل ما لا يخفى

ثالثاً: معجز:
ومن خصائص القرآن: الإعجاز، فهو المعجزة الكبرى لمحمد صلى الله عليه وسلم التي لم يتحدّ العرب بغيرها، برغم ما ظهر على يديه من معجزات لا تحصى .
1ـ تعريف المعجزة:
أمر خارق للعادة مقرون بالتحدّي سالم من المعارضة يظهره الله على يد رسله .
2ـ شروط المعجزة:
ومن خلال التعريف السابق للمعجزة نستطيع أن نتلمس شروطها:
أ ـ أن تكون من الأمور الخارقة للعادة: مثل عدم إحراق النار لسيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وعدم إغراق الماء لموسى عليه السلام وقومه وعدم سيلانه عليهم، ومثل القرآن الكريم.
ب ـ أن يكون الخارق من صنع الله وانجازه، قال تعالى:" وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ" (غافر، آية : 78).
ج ـ سلامتها من المعارضة.
س ـ أن تقع على مقتضى قول من يدّعيها.
ش ـ التحدي بها.
ك ـ أن يستشهد بها مدّعي الرسالة على الله عز وجل.
ل ـ تأخر الأمر المعجز عن دعوى الرسالة .
وقد توافرت هذه الشروط في إعجاز القرآن.
3ـ القرآن هو المعجزة العظمى:
لما زعم المشركون أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الذي ألف القرآن، قال الله تعالى:" أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ * أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ" (الطور، آية : 33 ـ 35).
ثم تحداهم بعشر سور " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ" (هود، آية : 13 ـ 14).
ثم تحداهم بسورة واحدة "وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ" (البقرة، آية : 23 ـ 24).
وقال تعالى أيضاً:" أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" (يونس، آية : 38).
فعجز جميع الخلق أن يعارضوا ما جاء به ثم سجل على جميع الخلق العجز إلى يوم القيامة بقوله :" قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا" (الإسراء، آية : 88).
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من الأنبياء نبي إلا أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة .
إن معجزات الأنبياء تتماثل من حيث إنها حسية ومخصوصة بزمنها، أو بمن حضرها، أو منقرضة بانقراض من شاهدها.
أما معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فهي القرآن الكريم، الذي لم يعط أحد مثله، وهو أفيدها وأدومها لإشتماله على الدعوة والحجة واستمرار تحديه في أسلوبه وبلاغته ومعانيه وأخباره، وعجز الجن والإنس عن أن يأتوا بسورة مثله مجتمعين أو متفرقين في جميع الأعصار مع اعتناء معارضيه بمعارضته فلم ولن يقدروا، فعم نفعه من حضر ومن غاب، ومن وجد ومن سيوجد إلى آخر الدهر، ولذلك فإن محمداً صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء اتباعاً .
هذا شرح للحديث على وجه الاجمال، وأما أسباب اختصاص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الانبياء بهذه المعجزة الظاهرة، يبينها محمود الألوسي فيقول: لثلاثة أسباب صار بها من أخص إعجازه وأظهر آياته:
ـ أن معجز كل رسول موافق للاغلب من أحوال عصره والشائع المنتشر من ناس دهره، ..فلما بعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في عصر الفصاحة والبلاغة خص بالقرآن في إيجازه وإعجازه، بما عجز عنه الفصحاء وأذعن له البلغاء وتبلد فيه الشعراء ليكون العجز عنه أقهر، والتقصير فيه أظهر، فصارت معجزاته وإن اختلفت متشاكلة المعاني مختلفة العلل.
ـ إن المعجزة في كل يوم بحسب أفهامهم وعلى قدر عقولهم وأذهانهم.. والعرب أصح الناس أفهاماً وأحدّهم أذهاناً، فخصّوا من معجزات القرآن بما تجول فيه أفهامهم، وتصل إليه أذهانهم .
وهذه المعجزة جمعت بين الدليل لما فيه من الإعجاز وغيره من وجوه الدلالة وبين المدلول بما فيه من بيان الإيمان وأدلته وبيان الأحكام الشرعية والقصص والأمثال والوعد والوعيد وغير ذلك من علومه التي لا تنحصر، ثم جعل مع حفظه وتلاوته من أفضل الاعمال التي يتقرب بها إلى الله تعالى .. ولهذا توفرت الدواعي على حفظه على مر الدهور والأعصار، ففي كل قرن ترى من حفظته ما يفوت العد والإحصاء ويستنفذ نجوم السماء، ومثل ذلك لم يتفق لغيره من الكتب الإلهية المقدسة .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعاً آية من آيات نبوته، كما قال النووي: فإنه أخبر عليه السلام بهذا في زمن قلة من المسلمين ثم منّ الله تعالى وفتح على المسلمين البلاد وبارك فيهم حتى انتهى الأمر وأتسع الإسلام في المسلمين إلى هذه الغاية المعروفة ولله الحمد على هذه النعمة وسائر نعمه التي لا تحصى .
ـ توضيح هذا الإعجاز:
ـ بيان حال محمد صلى الله عليه وسلم:
إن وضعه صلى الله عليه وسلم من الناحية العلمية معروف عند المشركين فهو:
ـ بشر مثلهم، وليس من جنس آخر.
ـ أمي، لا يقرأ ولا يكتب.
ـ تجاوز الأربعين ولم يكن معروفاً قبل ذلك بالخطابة ولا بالشعر ولا بالرياسة في مجال الكلام، بل كان يعمل بمجال بعيد عن الكلمة وهو التجارة، ولم يُحفظ عنه قبل البعثة أثر يدل على إنشائه لقصيدة أو حتى خطبة نثرية.
ـ أنه صلى الله عليه وسلم أتى بكتاب نسبه إلى الله، أجمع العرب على فصاحته وبلاغته وحسن نظمه واشتماله على علوم شتى وآداب تترى.
ـ وقوع التحدي بهذا الكتاب:
ـ أن هذا التحدي قائم في وجه كل معارض للرسول.
ـ التحدي بأن يأتوا سورة من مثله.
ـ وللمعارض أن يستعين بمن شاء من أعوان وشهداء سواء كانوا من الجن أو من الإنس أو من الجن والإنس مجتمعين معاً.
ـ وجود دواعي التحدي:
ـ العرب أهل لغة، فصاحة وبلاغة وبيان.
ـ أن معارضي الرسول أهل عداوة عظيمة له.
ـ وهم حريصون أشد الحرص على إبطال دعوته بأي وسيلة ومن أي طريق.
ـ نتيجة التحدي صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم:
عجزوا غاية العجز عن الإتيان بسورة من مثله، ولو كان عندهم أدنى تأهل وتمكن لفعلوا، ولكنهم لم يقدروا، إذ كلام الفقير الناقص الجاهل لا يكون أبداً مثل كلام الذي له الكمال المطلق، والغنى المطلق، والقدرة المطلقة، والعلم المطلق، فكما أن الله ليس كمثله شيء في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فبالضرورة ليس لكلامه مثيل ولا شبيه، ولا يشتبه كلامه بكلام المخلوقين إلا على من اختل عقله، وغاب فؤاده، وهذا برهان ساطع ودليل قاطع على صحة ما جاء به صلى الله عليه وسلم ويبقى على من عجز عن هذا التحدي قراران لا مفر من اتخاذ احدهما:
ـ إما أن يؤمن بان محمداً صلى الله عليه وسلم رسول من الله، وأن القرآن حق كلام الله وهذا هو مقتضى العقل وسبيل الفطرة السليمة وطريق الناجين في الدنيا والآخرة.
ـ وإما أن يعاند وهو يعلم من نفسه أن القرآن حق وهذا سبيل الجاحدين ومقتضى الجهل والعناد وأصحاب النفوس المريضة والقلوب السقيمة، وطريق الخاسرين في الدنيا والآخرة.
وقد كان هذا التحدي سبباً في إسلام الكثيرين، لأن القرآن بهذه الاستشارة للعقول والالباب والقلوب يدعو للتفكر في القرآن بشكل أكبر، ويجعل الإنسان الشاك يتدبر أكثر وأكثر، حتى يصل إلى النهاية المحمودة إذا كان ممن يبحث الحق متجرداً من الهدى .
4ـ وجوه إعجاز القرآن:
قد كتب العلماء البلغاء قديماً وحديثاً حول "إعجاز القرآن" ووجوه هذا الإعجاز، والفتن في ذلك كتب شتى، فمنهم من عنى بإخباره بالغيوب ومنهم من عنى بالنظم والعبارة والأسلوب أو ما يسمى "الإعجاز البياني" وقد كتب فيه القدماء مثل الباقلاني والرماني والخطابي والجرجاني والرازي وغيرهم، وكتب فيه المحدثون، مثل: مصطفى صادق الرافعي وسيد قطب في كتابه "التصوير الفني في القرآن" ومثله "مشاهد القيامة في القرآن" وطبقه في تفسيره "في ظلال القرآن" وكتاب الدكتور بدوي طبانة "بلاغة القرآن" والدكتور محمد عبد الله دراز "النبأ العظيم" ومنهم من عني بالإعجاز التشريعي أو الإصلاحي الذي جاء به القرآن كما فعل الشيخ رشيد رضا في كتابه "الوحي المحمدي" حيث جدد التحدي بالقرآن، وبيّن المقاصد التي جاء القرآن ليحققها في الحياة، وأنه يستحيل أن يأتي بها رجل أمي في أمة أمية، وقد فاقت كل ما جاء به الفلاسفة والمصلحون، ومثل ذلك: المقالات التي كتبها العلامة محمد أبو زهرة في مجلة "المسلمون" الشهرية المصرية، تحت عنوان "شريعة القرآن دليل على أنه من الله".
وفي عصرنا ظهر نوع جديد أطلق عليه "الإعجاز العلمي" ويقصد به: ما تضمنه القرآن من إشارات ودلالات على "حقائق علمية" كانت مجهولة للناس في وقت نزول القرآن، وتعتبر سابقة لعصرها ولا تتصور أن تصدر من رسول أمي في بيئة أمية، وفي عالم لا يعرف عن هذه الحقائق شيئاً ، وأشتهر في هذا الميدان كل من الشيخ عبد المجيد الزنداني والدكتور زغلول راغب محمد النجار.
وقد لخص الدكتور زغلول النجار جوانب الإعجاز القرآني فقال: وتتعدد جوانب الإعجاز القرآني: بمعنى عجز البشر عن الإتيان بشيء مثله بتعدد الزوايا التي ينظر منها إنسان محايد إلى كتاب الله ومن هذه الجوانب:
ـ الإعجاز اللغوي، الأدبي، البياني، البلاغي، النظمي، اللفظي، والدلالي.
ـ الإعجاز العقدي "الإعتقادي".
ـ الإعجاز التعبدي "العبادي".
ـ الإعجاز الأخلاقي.
ـ الإعجاز التشريعي.
ـ الإعجاز التاريخي.
ـ الإعجاز التربوي.
ـ الإعجاز النفسي.
ـ الإعجاز الإقتصادي.
ـ الإعجاز الإداري.
ـ الإعجاز التنبؤي.
ـ الإعجاز العلمي.
ـ إعجاز التحدي للإنس والجن مجتمعين أن يأتوا بشيء من مثله في اسلوبه، أو مضمونه أو محتواه، دون أن يتمكن أحد من ذلك .

رابعاً: كتاب مبين وميسر:
ومن خصائص القرآن: أنه "كتاب مبين" ميسر الفهم والذكر ومع السمو البلاغي والبياني للقرآن الكريم، فإنه سلسل كالماء العذب الزلال، ميسر لكل من يريد أن يعقل ويذكر، قال تعالى:" وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ" (القمر، آية : 17).
وقال تعالى:" فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا" (مريم، آية : 97).
لقد نوه الله تعالى بشأن القرآن العظيم وأخبر أنه يسّره وسهله ليتذكر الخلق ما يحتاجونه من التذكير، ممن هو هدى لهم وإرشاد لمصالحهم الشرعية.
وسبب تيسيره: أنه نزل بأفصح اللغات وأبينها، وجاء على لسان أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم.
ومعنى تيسيره: يرجع إلى تيسير ما يراد منه، وهو فهم السامع المعاني التي عناها المتكلم به بدون كلفة على هذا السامع ولا إغلاق .
وهذا الكتاب مبين لأن الله أنزله لتعقل معانيه، وتفقه أحكامه، وتدرك أسراره وتتدبر آياته فهو مبيناً لا غامضاً ولا مغلقاً ولا ملغزاً ولا معقداً.
قال تعالى:" إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (يوسف، آية : 2).
وقال تعالى:" كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" (فصلت، آية : 3).
وقد وصف الله هذا القرآن بأنه " نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ" (المائدة، آية : 15).
وقال تعالى:" هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ" (البقرة، آية : 185).
وقال تعالى:" وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ" (النحل، آية : 64).
وإلى غير ذلك من الآيات التي استفاضت في هذا المعنى

خامساً: القرآن كتاب هداية:
ومن خصائص القرآن الكريم أنه كتاب هداية للعالمين أنزله الله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور.
1ـ قال تعالى:" اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة، آية : 257).
2ـ وقال تعالى:" الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ" (إبراهيم، آية : 1).
وقد تحقق هذا حينما اهتدى العرب بهداه فخرجوا من الظلمات إلى النور، ومن التخلف إلى قمة الحضارة والمدنية، ومن الذل والتبعية إلى السيادة والعالمية، ثم أوصلوا هدايته إلى العالم من حولهم بأمانة وتضحية وإخلاص، فإذا بالعالم يكسى بحلة العزة والرفعة والبهاء والجمال وأثبت واقع المسلمين عبر الزمن أنهم أصبحوا بتمسكهم بالقرآن أرقى الامم، وبتخلفهم عنه وأخذهم بما عند الأمم من ضلال أخس الأمم .
3ـ وقال تعالى:" إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا" (الإسراء، آية : 9).
يؤكد الله أن هذا القرآن أقوم من أي هداية يراها البشر، ولم يستطع أيُّ باحث موضوعي أن يجد خللاً في تشريع القرآن، أو أن يجد في التشريع الوضعي ما يصل إلى تشريع القرآن فضلاً عن أن يتفوق عليه، وهذا يوجب على العاقل استدامة القرآن وملازمة العمل به.
إن ما في القرآن من هداية وتشريع صالح لكل زمان ومكان لا تبطل قيمته، بل لا يصلح إلا هو، مهما اختلفت العصور وتنوعت الحضارات إنه تسامى على كل قانون عرفته الأمم قديماً وحديثاً، حتى أقرت المجامع القانونية الدولية الفقه الإسلامي مصدراً أساسياً نقتبس منه القوانين، وإن القوانين الحديثة في تطورها تتسامى لتقترب من تشريع القرآن .
وكيف لا يكون كذلك وهو تشريع رباني شامل لجميع النواحي، وكافل لإحقاق الحق وصيانة مصالح الناس في جميع شؤونهم: المالية والاجتماعية والأسرية والدولية في حين أنه لم يوجد إلى الآن تشريع شامل أو عادل مع ما مرّ على الإنسانية من تجارب وخبرات حتى إن الله تحدّى العالم أن يأتوا بمثل القرآن، والمثلية تشمل جميع جوانب القرآن سواء الألفاظ والمعاني، وإذا عجزوا عما هو من جنس ما يستطيعونه ويتفوقون فيه وهو نظم القرآن، فهم أشدّ عجزاً عن تشريع القرآن وهدايته، لما يحتاجه إلى علم محيط بكل شيء وليس هذا إلا الله عز وجل .
4ـ وقال تعالى:" أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ" (المائدة، آية : 50).
استنكر الله تعالى على من أعرض عن تشريعه ولجأ إلى تشريع الناس وما هذا إلا لأنه لا تشريع أحسن منه، ولا هداية مثله، فكيف يترك إلى ما دونه ؟
" أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ" ينكر الله تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم، المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شرّ، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والإصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به الضلالات والجهالات بما يضعونها بآرائهم وأهوائهم.
" وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ" أي: ومن أعدل من الله في حكمه، لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به وأيقن، وعلم أن الله أحكم الحاكمين وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء القادر على كل شيء العادل في كل شيء .
5ـ قال الله تعالى:" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا" (المائدة، آية : 3).
يحثنا الله تعالى في هذه الآية على التمسك بهديه من خلال مدحه دينه بالكمال والتمام، والنفوس تتطلع إلى ما كان كذلك .
هذه أكبر نعم الله تعالى عن هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره ولا إلى نبيّ غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف... فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة ولهذا قال تعالى:" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا" أي: فأرضوه أنتم لأنفسكم، فإنه الدين الذي أحبه الله ورضيه وبعث به أفضل الرسل الكرام، وأنزل به أشرف كتبه .
وكمال دينه سبحانه وتمامه بكمال مصدره الأصل القرآن الكريم، ولهذا لا يملك من يتلو القرآن ويتدبر معانيه إلا أن يخرّ ساجداً لعظمة منزله.
قال تعالى:" لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" (الحشر، آية : 21).

سادساً: كتاب الإنسانية كلها:
ومن خصائص القرآن الكريم أنه كتاب الإنسانية كلها الذي خاطب الله تعالى به جميع البشر إلى يوم القيامة فلم يُقيد بزمان، ولا بمكان، ولا جنس ولا طبقة، بل هو موجه إلى الثقلين، خاطبهم جميعاً بما يسعدهم في الدنيا والآخرة من العقائد الصحيحة والعبادات الحكيمة والأحكام الرفيعة، والأخلاق الفاضلة التي تستقيم بها حياتهم.
ولقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة على عالمية القرآن .
ومن الآيات التي صرحت بعالمية القرآن العظيم
ـ قوله تعالى:" تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا" (الفرقان، آية : 1).
ـ وقال تعالى:" وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" (الأنبياء، آية : 107).
ـ وقال تعالى:" وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا" (الإسراء، آية : 89).
ـ وقال تعالى:" وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ" (الزمر، آية : 27).
ـ وقال تعالى:" إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ" (الزمر، آية : 41).
فالقرآن لا يخاطب صنفاً واحداً من البشر له تجاه عقلي أو نفسي معين، مغفلاً عن عداه من الأصناف ذوي الاتجاهات المتعددة كلا، إنه يخاطب كل الأصناف ويشبع كل الاتجاهات الإنسانية السوية، في توازن لا يقدر عليه إلا منزل القرآن وخالق الإنسان .
1ـ إن طالب الحقيقة العقلية يجد في القرآن ما يرضي منطقه ويأخذ بلبه إذا سمعه يصيح بالعقل أن ينظر ويفكر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وأن يعتمد على البرهان وحده في العقليات.
قال تعالى:" قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" (البقرة، آية : 111).
وعلى المشاهدة والتجربة في الحسيات، قال تعالى:" أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي  مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ" (الأعراف، آية : 185).
وعلى الصدق وتوثيق الرواية في النقليات، قال تعالى:" اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن  قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" (الأحقاف، آية : 4).
ويكفي أن مشتقات العقل مثل "يعقلون" و"تعقلون" ذكرت في القرآن ثماني وخمسين مرة، وذكرت مشتقات الفكر سبع عشرة مرة، وذكرت كلمة "الألباب" أي العقول ست عشرة مرة، وهذا غير الآيات التي اشتملت على كلمات ومشتقات أخر مثل: النظر، والاعتبار والتدبر والحجة والبرهان والنهى والحكمة والعلم ونحو ذلك مما يبحث عنه طلاب الحقائق العقلية، فلا يجدونه في كتاب ديني غير القرآن.
2ـ والباحث عن "الحقيقة الروحية" يجد في القرآن ما يرضى ذوقه ويغذي وجدانه، ويشبع نهبه وتطلعاته في آفاق الروح، في مثل قصة موسى والعبد الصالح الذي قال الله فيه:" فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا" (الكهف، آية : 65).
يجد الباحث عن "الإيمان" في الخطاب القرآني ما ينشيء الإيمان البصير بالله ورسالاته ولقائه وجزائه، ويطارد الجحود والشك والنفاق، ويقيم الأدلة الناصعة على وجود الله تعالى، وعلى وحدانيته، وعظيم قدرته، وبالغ حكمته وواسع رحمته، وعلى بعثه رسله " مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ" (النساء، آية : 165).
وعلى عدالة الجزاء في الآخرة:" لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ  الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى" (النجم، آية : 31).
ويجلي له القرآن مصير المؤمنين نجاة وحياة طيبة في الدنيا، وفلاحاً في الآخرة، ومصير المكذبين: شقاء في الدنيا، وعذاباً في العقبى، الإيمان في القرآن يبني ولا يهدم، ويجمع ولا يفرق، ويسامح ولا يتعصب، فهو يوجب الإيمان بكل كتاب أنزل، وبكل نبي أرسل، قال تعالى:" كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ" (البقرة، آية : 285).
3ـ والحريص على "القيم الأخلاقية" يجد في القرآن ضالته وطلبته، وإذا كان موضوع الأخلاق هو "الخير" فالقرآن قد دل على "الخير" كما هدى إلى "الحق" وقد جعل فعل الخير إحدى شعب ثلاثة لمهمة المجتمع المسلم.
قال تعالى:" وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (الحج، آية : 77).
ولكنه لم يكتف من المسلم بفعل الخير، بل طلب أن يدعو إليه ويدل عليه، قال تعالى:" وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ" (آل عمران، آية : 104).
4ـ وعاشق القيم الجمالية يجد في القرآن ما ينمي حاسته الجمالية، ويغذي شعوره الفني، وذلك بما لفت إليه القرآن الأنظار من الاستمتاع بجمال الطبيعة في السماء، " وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ" (الحجر، آية : 16).
وقال تعالى:" وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ" (الملك، آية : 5).
وجمال الطبيعة في الارض ابتداء من جمال النبات، قال تعالى:" وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ" (الحج، آية : 5).
وقال تعالى:" فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ" (النمل، آية : 60).
وجمال الحيوانات " وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ" (النحل، آية : 6).
وجمال الإنسان " وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ" (التغابن، آية : 3).
وجمال المخلوقات كلها " صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ" (النمل، آية : 88).
ووراء ذلك كله ما أحتواه أسلوب القرآن ذاته من جمال بياني معجز في نظمه ومعناه وفي شكله ومضمونه وصفه المشركون أنفسهم فقالوا: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه

سابعاً: كتاب الزمن كله:
من خصائص القرآن: أنه كتاب الزمن كله، وكتاب الإنسانية كلها وكتاب الدين كله وكتاب الحقيقة كلها، ومعنى أن القرآن كتاب الزمن كله: أنه كتاب الخلود، ليس كتاب عصر معين، أو كتاب جيل أو أجيال، ثم ينتهي أمده، بل القرآن هو الكتاب الباقي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو الكتاب الصالح والمصلح لكل زمان ومكان ، مهما اختلقت العصور وتنوعت الحضارات، لا تبطل قيمته، بل لا يصلح إلا هو.
إن تعاليم القرآن موجهة للعالم بأسره، فهي للناس في شتى أرجاء العالم كافة، بغض النظر عن أصلهم، أنزلت إليهم لتدخل السرور والبهجة إلى قلوبهم، وتطهر نفوسهم، وتهذب أخلاقهم وتوجه مجتمعهم، وتستبدل سطوة القوي بالعدل والأخوة، وقد أكدّ الله عز وجل أن في القرآن حلولاً لجميع قضايا البشر " وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" (النحل، آية : 89).
فالقرآن له أعلى حظوة لدى المسلمين، وهو ليس مجرد كتاب صلوات أو أدعية نبوية، أو غذاء للروح أو تسابيح روحانية فحسب، بل إنه أيضاً القانون السياسي وكنز العلوم، ومرآة الأجيال، إنه سلوى الحاضر، وأمل المستقبل .

ثامناً: نزوله بأرقى اللغات وأجمعها:
لقد اختار الله ـ عز وجل ـ اللغة العربية لتكون آخر كتبه، وهذا الإختيار من الحق ـ عز وجل ـ لهذه اللغة العظيمة إنما يعود إلى ما تمتاز به من مرونة واتساع وقدرة على الاشتقاق، والنحت والتصريف وغنى في المفردات والصيّغ والأوزان .
فكل دارس للغات العالم يُصرُّ بأن اللغة العربية هي أرقى اللغات وأجمعها للمعاني الكثيرة تحت الألفاظ القليلة وأحسنها تهذيباً، وأكثرها إيضاحاً وبياناً للمطلوب ولذلك أشاد القرآن الكريم بها في عدة آيات منها:
ـ قال تعالى:" إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (الزخرف، آية : 3).
ـ وقال تعالى:" إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (يوسف، آية : 2).
لقد أراد الله تعالى أن يكون القرآن كتاباً مخاطباً به كل الأمم في جميع العصور، لذلك جعله بلغة هي أفصح كلام بين لغات البشر وهي اللغة العربية، لأسباب يلوح لي منها، أن تلك اللغة أوفر اللغات مادة، وأقلها حروفاً، وأفصحها لهجة، وأكثرها تصرّفاً في الدلالة على أغراض المتكلم، وأوفرها ألفاظاً، وجعله جامعاً لأكثر ما يمكن أن تتحمله اللغة العربية في نظم تراكيبها من المعاني، في أقل ما يسمح به نظم تلك اللغة، فكان قوام أساليبه جارياً على أسلوب الإيجاز، فلذلك كثر فيه ما لم يكثر مثله في كلام بلغاء العرب .

تاسعاً: تصديق القرآن لكتب الله وهيمنته عليها:
قال تعالى:" وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ" (المائدة، آية : 48).
ومعنى قوله " وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ" أي: أن القرآن العظيم رقيب على الكتب السابقة، لأنه يشهد بصحتها، ويقرر أصولها، وما يتأبّد من فروعها، ويُبيّنُ أحكامها المنسوخة بتعين وقت انتهاء مشروعيتها.
أو على معنى أنه أمين عليها، فما أخبر عن صدقه مما ورد فيها صُدّق وما أخبر بزيفه فهو باطل أو على معنى أنه الحافظ لها، فهو الذي حفظ ما جاء فيها من التوحيد، وكليات الدين إلى يوم القيامة أو على معنى أنه دال على صدقها، أي هو دليل على أنها من عند الله، لأنه جاء كما نعتته هذه الكتب .
وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى، فإن اسم "المهيمن" يتضمن هذا كله، فهو أمين وشاهد، وحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله هذا الكتاب العظيم، الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها أشملها وأعظمها وأحكمها، حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهداً، وأميناً، وحاكماً عليها كلها، وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة.
فقال تعالى:" إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر، آية : 9).
1ـ علاقة الهيمنة بالتصديق:
ولاشك أن مفهوم الهيمنة أتمُّ وأشمل من مفهوم التصديق، لأن الهيمنة لا تقتصر على مجرد الشهادة لهذه الكتب بصحة إنزال أصولها وتقرير أصولها وشرائعها، بل تتعدى ذلك فتُبين ما اعتراها من نسخ أو تحريف، وما عرض لها من زيف وفساد، فالقرآن بذلك مهيمن على المعاني الصحيحة التي كانت في تلك الكتب، وشاهد بكونها من عند الله، وبذلك تتلاقى الهيمنة مع التصديق ولكنه كذلك يشهد على هذه الكتب بما أصابها من تحريف وتسرّب إليها من باطل، وبه تنفرد الهيمنة عن التصديق، فمفهومها إذن أتمّ، وأشمل من مفهوم التصديق .
2ـ مظاهر هيمنة القرآن على الكتب السابقة:
لهيمنة القرآن العظيم على كتب الله المنزلة قبله ـ فوق ما تقدم من تصديقه لها ـ مظاهر متعددة من أهمها ما يلي:
أ ـ إخباره بتحريف الكتب السابقة وتبديلها:
قال تعالى:" فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ" (البقرة، آية : 79).
ب ـ بيان المسائل الكبرى التي خالفوا فيها الحق:
ففي جانب العقائد على سبيل المثال نفي القرآن العظيم ما صرّحت به الأناجيل المحرفة من قتل عيسى عليه السلام وصلبه.
فقال تعالى:" وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ" (النساء، آية : 157).
وحكم على النصارى بالكفر لقولهم بالتثليث، وألوهية المسيح، فقال تعالى:" لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (المائدة، آية : 72 ـ 73).
أما التوراة المحرّفة فإنها تنسب إلى الله تعالى كثيراً من النقائص والتي جاء القرآن العظيم بدحضها وإبطالها، فلقد أخبر القرآن العظيم أن اليهود نسبوا إلى الله عز وجل الولد، كما وصفه اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم بالفقر، والبخل وغل اليد.
فبين القرآن الكريم كذبهم وزورهم وبهتانهم.
قال تعالى:" وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ" (التوبة، آية : 30).
ـ وقال تعالى:" لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ" (آل عمران، آية : 181).
ـ وقال تعالى:" وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء" (المائدة، آية : 64) .
ج ـ بين القرآن كثيراً من المسائل التي أخفوها:
فمن ذلك: أن الدّارس لأسفار العهد القديم يرى أنها: قد خلت من ذكر اليوم الآخر ونعيمه وجحيمه ـ وإذا كانت اليهودية في أصلها تقرر البعث، والنشور، والحساب، والجنة والنار، كما يُنبئ بذلك القرآن ـ ذلك يدلُّ على أن اليوم الآخر وما فيه وما يتصل به، من المسائل التي أخفاها أهل الكتاب .
قال تعالى:" يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ" (المائدة، آية : 15) .

المبحث الرابع: مقاصد القرآن الكريم:
دعا القرآن الكريم إلى الكثير من المبادئ والمقاصد التي لا تصلح الإنسانية بغيرها والتي من أهمها:

أولاً: تصحيح العقائد والتصورات:
1ـ القرآن العظيم من أوّله إلى آخره دعوة إلى التوحيد وإنكار للشرك وبيان لحسن عاقبة المشركين في الدّارين وقد أعتبر القرآن الشرك أعظم جريمة يقترفها مخلوق.
قال تعالى:" إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء" (النساء، آية : 48).
وإن حقيقة الشرك انحطاط بالإنسان من مرتبة السيادة على الكون ـ كما أراد الله له ـ إلى مرتبة العبودية والخضوع للمخلوقات، سواء كانت جماداً أو نباتاً، أو حيواناً، أو إنساناً إلى غير ذلك.
قال الله تعالى:" فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ" (الحج، آية : 30 ـ 31).
والدعوة إلى التوحيد هو المبدأ الأوّل المشترك بين رسالات النبيين جميعاً، فكل نبي نادى قومه أن " اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ" (الأعراف، آية : 59).
وقال تعالى:" وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ" (النحل، آية : 36).
وقال تعالى:" وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ" (الأنبياء، آية : 25).
فلا مكان للوسطاء بين الله عز وجل وبين خلقه، قال تعالى:" وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ" (البقرة، آية : 186).
وقال تعالى:" وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" (غافر، آية : 60).
وقد أصلح القرآن هنا ما أفسدته الديانات الوثنية والكتابية المحرفة من عقيدة التوحيد حتى اليهود جعلت الرب أشبه بالمخلوقين، فهو يتعب ويندم ويخاف، ويصارع إسرائيل فيصرعه إسرائيل، فلا يتمكن من الإفلات منه إلا بوعد منه بمباركة نسله فأطلق سراحه والنصرانية، تأثرت بوثنية روما، وطغت عليها الوثنية حتى امتلأت الكنائس بالصور والتماثيل، وأخذت عقيدة التثليث والفداء من عقيدة الهنود في "كرشنة" كل ما فعلوه أنهم حذفوا اسم كرشنة ووضعوا اسم "يسوع" .
ب ـ تصحيح العقيدة في النبوة والرسالة:
وذلك بعدة أساليب:
ـ بيان الحاجة إلى النبوة والرسالة:
قال تعالى:" كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ" (البقرة، آية : 213).
وقال تعالى:" لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ" (النساء، آية : 165).
وقال تعالى:" وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ" (النحل، آية : 64).
ـ بيان وظائف الرسل في التبشير والإنذار:
قال تعالى:" رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ" (النساء، آية : 165).
فليس الرسل آلهة ولا أبناء آلهة، إنما هم بشر يوحى إليهم " قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ  يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ" (الكهف، آية : 110).
يملكون أن يدعوا إلى توحيد الله، ولكن لا يملكون هداية القلوب ولا السيطرة عليها " فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ" (الغاشية، آية : 21 ـ 22).
ـ تفنيد الشبهات التي أثارها الناس من قديم في وجه الرسل، كقولهم:" إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا" (إبراهيم، آية : 10).
وقولهم" وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً" (المؤمنون، آية : 24).
فقد رد عليهم القرآن بمثل قوله تعالى:" قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ  وَلَـكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ" (إبراهيم، آية : 11).
ومثل قوله تعالى:" قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً" (الإسراء، آية : 95) .
ـ بيان عاقبة الذين صدقوا المرسلين وعاقبة الذين كذبوا المرسلين، وفي القرآن الكريم ثروة طائلة من قصص الرسل مع أممهم تنتهي دائماً لهلاك المكذبين ونجاة المؤمنين.
قال تعالى:" وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا" (الفرقان، آية : 37 ـ 39).
وقال تعالى:" ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ" (يونس، آية : 103).
ج ـ تثبيت عقيدة الإيمان بالآخرة:
ومما عني به القرآن وكرره في سوره المكية والمدنية:
الإيمان بالآخرة وما فيها من جزاء وحساب وجنة ونار وقد اتخذ القرآن في تثبيت هذه العقيدة وتصحيحها أساليب شتى:
ـ فمنها: إقامة الأدلة على إمكان البعث ببيان قدرة الله على إعادة الخلق كما بدأهم أول مرة.
قال تعالى:" وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ" (الروم، آية : 27).
ـ ومنها: التنبيه على خلق الأجرام العظيمة التي يعتبر خلق الإنسان بجوارها شيئاً هيناً.
قال تعالى:" أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (الأحقاف، آية : 33).
ـ بيان حكمة الله تعالى في الجزاء حتى لا يستوي المحسن والمسيء، والبر والفاجر في النهاية تكون الحياة عبثاً وباطلاً يتنزه الله تعالى عنه، قال تعالى:"أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ" (ص، آية : 28).
وقال تعالى:" أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ" (المؤمنون، آية : 115).
وقال تعالى:" أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى" (القيامة، آية : 36).
ـ إبطال الأوهام التي أشاعها الشرك والمشركون من أن آلهتهم المزعومة تشفع لهم عند الله يوم القيامة، وكذلك ما زعمه أهل الكتاب من شفاعة القديسين وغيرهم وهذا ما كذبه القرآن وأبطله أشد الإبطال، فلا شفاعة إلا بإذن الله، ولا شفاعة إلا لمؤمن موحد، ولا ينفع الإنسان إلا سعيه، ولا يحمل وزر غيره " أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى" (النجم، آية : 38 ـ 39).
قال تعالى:" مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ" (غافر، آية : 18).
قال تعالى:" فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ" (المدثر، آية : 48).
وقال تعالى:" مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ" (البقرة، آية : 255).
وقال تعالى:" وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا" (الكهف، آية : 49).
ـ بيان ما ينتظر المؤمنين الأبرار في الآخرة من المثوبة والرضوان، وما أعد للكفرة الفجرة من العقاب والخسران، ولهذا كثر حديث القرآن عن القيامة وأهوالها، والكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وعن الميزان الذي توزن به الحسنات والسيئات حتى لا يضيع على الإنسان مثقال حبة من خردل، وعن الحساب الدقيق الذي لا يظلم نفساً شيئاً ولا يحمّل وازرة وزر أخرى وعن الجنة وما فيها من ألوان النعيم المادي والروحي، وعن النار وما فيها من صنوف العذاب الأليم الحسي والمعنوي، ذلك لأن إنسان الآخرة هو امتداد لإنسان الدنيا روح وجسم، فلابد أن يشمل الثواب أو العقاب كليهما .

ثانياً: تزكية النفس البشرية:
ومن مقاصد القرآن: الدعوة إلى تزكية النفس البشرية، فلا فلاح في الأولى والآخرة لها إلا بالتزكية، كما قال تعالى:" وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا" (الشمس، آية : 7 ـ 10).
فالنفس بفطرتها مستعدة للفجور الذي يدنسها ويدسيها، استعدادها للتقوى التي تطهرها وتزكيها، وعلى الإنسان بعقله وإرادته أن يختار أي الطريقين: طريق التزكية أو طريق التدسية، ولا ريب أنه إذا اختار طريق التزكية فقد اختار طريق الفلاح، قال تعالى: " قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى" (الأعلى ، آية : 14).
وقال سبحانه فيمن يأتي ربه يوم القيامة: " وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى" (طه ، آية : 75 ـ 76).
ورسالات الأنبياء جميعاً كانت ـ من مقاصدها ـ الدعوة إلى التزكية، ولهذا رأينا موسى ـ عليه السلام ـ يقول لفرعون حين أرسل إليه من ربه: " هَل لَّكَ إِلَى أَنتَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى" (النازعات ، آية : 18 ـ 19).
وكان من الشعب الأساسية لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم: التزكية، كما جاء ذلك في آيات أربع من كتاب الله، منها ما جاء في دعوة إبراهيم وإسماعيل للأمة المسلمة الموعودة: " رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ" (البقرة ، آية : 129).
ومنها قوله عز وجل: " كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ" (البقرة ، آية : 151).
وقال سبحانه: "لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ" (آل عمران ، آية : 164).
وقال تعالى: " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ" (الجمعة ، آية : 2).
ولا تتم هذه التزكية إلا بفضل من الله وتوفيقه، كما قل تعالى: " وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء" (النور ، آية : 21).
كما لا بد من جهد الإنسان وجهاده، كما قال تعالى: " وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ" (فاطر ، آية : 18).
وقد بين القرآن الكريم أثر العبادات في هذه التزكية، كقوله تعالى في أثر الزكاة: " خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا" (التوبة ، آية : 103).
كما بين أثر الآداب التي حث عليها القرآن في هذه التزكية المنشودة للأنفس، قال تعالى: " قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ" (النور ، آية : 30).
وقال في أدب الاستئذان: " وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ" (النور ، آية : 28).
إن الذي لا ريب فيه: إن صلاح الأمم والمجتمعات إنما هو بصلاح أفرادها وصلاح الأفراد إنما هو بصلاح أنفسهم التي بين جنوبهم، وبعبارة أخرى بتزكية هذه الأنفس حتى تنتقل من "النفس الأمارة بالسوء" إلى "النفس اللوامة"، ثم "النفس المطمئنة"، وهذا يحتاج إلى جهاد لكنه جهاد غير ضائع، كما قال تعالى: " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" (العنكبوت ، آية : 69) .

ثالثاً : عبادة الله وتقواه:
1 ـ لقد بين القرآن أن المهمة الأولى للإنسان أن يقوم بعبادة الله تعالى: " وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الزاريات ، آية : 56).
فالله تعالى هو خالق الإنسان ورازقه، ومدبر أمره، والمنعم عليه بنعم وفيرة لا يمكن للإنسان إحصاؤها، قال تعالى: " وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا" (إبراهيم ، آية : 34).
ومن هذه النعم، نعمة الإيجاد، ونعمة الرزق، ونعمة العقل، ونعمة الإرادة، ونعمة القدرة، ونعمة البيان "النطقي" و"الخطي" ونعمة تسخير الكون للإنسان، وعدد القرآن جملاً من هذه النعم الوفيرة السابغة في عدد من سور القرآن، أظهرها في سورة النحل التي تسمى "سورة النعم"، ومن حق الخالق الرازق المنعم أن يشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يطاع فلا يعصى، ولا يتأتى ذلك إلا بالعبادة الخالصة له، فالعبادة من حقه وحده جل وعلا، ولذا قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ" (البقرة ، آية : 21 ـ 22).
وعند تأمل القرآن الكريم والسنة النبوية وما تحويه من أخبار وأوامر ونواه ووعد ووعيد، نجدها كلها تدور حول تقرير ألوهية الله سبحانه وتعالى وعبودية الإنسان له، فإذا كان خلق الإنسان وتسخير الكون له، وإيجاد العقل والقلب والإرادة فيه، وإرسال الرسل وإنزال الكتب وخلق الجنة والنار، وقبل ذلك وبعده ما تقتضيه صفات الباري ـ جل وعلا ـ من كونه في ذاته وأفعاله حكيماً عليماً، خلق كل شيء وقدره تقديرا، ولم يخلق شيئاً عبثاً، ولم يوجد شيئاً لغير حكمة، وإذا كان القرآن المجيد وما فيه من أخبار وأوامر ووعد ووعيد جاء لأجل هذه المهمة العظيمة، ألا وهي تعبيد الخلق كلهم لله سبحانه، ولذلك جعل الله دائرة العبادة التي خلق الله لها الإنسان، وجعلها غايته في الحياة، ومهمته في الأرض، دائرة رحبة واسعة: أن تشمل شئون الإنسان كلها، وتستوعب حياته جميعاً، وتستغرق كافة مناشطه وأعماله .
فالعبادة في مفهوم الإسلام: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضا: من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد على الكفار والمنافقين، والإحسان على الجار واليتامى والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين، والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا لقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف لعذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة .
وبهذا التعريف الجامع لا يمكن أن يخرج أي شيء من نشاطات الإنسان وأعماله سواء إن كان ذلك في العبادة المحضة أو في المعاملات المشروعة، أو في العادات التي طبع الإنسان على فعلها .
ولذلك يحرص المسلم أن تكون حياته كلها عبادة من لحظة التكليف إلى الموت، إمتثالاً لقول الله تعالى: " قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (الأنعام ، آية : 162).
وهذه العبادات كلها تعد المسلم لتقوى الله، كما جاء في الآية التي ذكرناها: " اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة ، آية : 21) .
2 ـ تقوى الله:
وهي أن يجعل العبد بينه وبين ربه وقاية من غضبه وسخطه وعذابه، وهي أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله ، وأساس تقوى الله خشية الله وذلك من عمل القلب، ولذا أضافها القرآن إليه وقال: " ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ" (الحج ، آية : 32).
والله تعالى يأمر المؤمنين بالتقوى قبل أوامره سبحانه لتكون حافزاً له على إمتثال ما يأمر به، كما في قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (المائدة ، آية : 35).
وقال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ" (الأحزاب ، آية : 70 ـ 71).
وقال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ" (التوبة ، آية : 119).
وقال تعالى: " فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" (الأنفال ، آية : 1).
ويذكر الله في القرآن التقوى أحياناً قبل النواهي، لتكون دافعاً للإنتهاء عنها، كما في قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ" (البقرة ، آية : 278 ـ 289).
بل يقص علينا القرآن أن الرسل جميعاً دعوا أقوامهم إلى تقوى الله، كما نجد في سورة الشعراء نوحاً، وهوداً، وصالحاً ولوطاً، وشعيباً يقول كل منهم لقومه: " فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ" (آلأ عمران ، آية : 50).
ولهذا جعل القرآن وصية الله للأولين والآخرين هي التقوى، كما قال تعالى: "وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ" (النساء ، آية : 131).
ولم يكتف القرآن من المؤمنين بمجرد التقوى، بل قال: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ" (آل عمران ، آية : 102)، ومعناه: بذل الجهد واستفراغ الوسع في تقواه عز وجل، في حدود الطاقة والاستطاعة، كما قال في الآية الأخرى: " فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ" (التغابن ، آية : 16)، وليست هذه الآية ناسخة للآية الأخرى، بل مبينة لها: أن تقوى الله حق تقواه انما تطلب في إطار المقدور للمكلف، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
والتقوى لا تعني العصمة من الذنوب، والمتقون ليسوا ملائكة أطهاراً، ولآ أنبياء، بل هم بشر يصيبون ويخطئون، ومزيتهم هي رهافة حسهم، ويقظة ضمائرهم، كما قال تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ" (الأعراف ، آية : 201).
فإذا ذلت قدم أحدهم إلى المعصية فسرعان ما يثوب إلى رشده ويتوب إلى ربه ويقرع بابه مستغفراً، كما قال تعالى في وصف المتقين من عباده: "وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" (آل عمران ، آية : 135).
ومن تدبر القرآن وجده قد ربط خيرات الدنيا والآخرة كلها بالتقوى، فمن ثمار التقوى العاجلة والآجلة:
ـ المخرج من كل ضيق والرزق من حيث لا يحتسب العبد:
قال تعالى:" وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ" (الطلاق، آية : 2 ـ 3).
ـ السهولة واليسر في كل أمر:
قال تعالى:" وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا" (الطلاق، آية : 4).
ـ تيسير العلم النافع:
قال تعالى:" وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" (البقرة، آية : 282).
ـ إطلاق نور البصيرة:
قال تعالى:" إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً" (الأنفال، آية : 29).
ـ محبة الله ومحبة ملائكته والقبول في الأرض:
قال تعالى:" بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" (آل عمران، آية : 76).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أحب الله العبد قال لجبريل: قد أحببت فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل عليه السلام، ثم ينادي في أهل السماء، إن الله قد أحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض .
ـ نصرة الله عز وجل وتأييده وتسديده:
وهي المعية المقصودة بقول الله عز وجل:" وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ" (البقرة، آية : 194).
ـ البركات من السماء والأرض:
قال تعالى:" وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ" (الأعراف، آية : 96).
ـ البشرى وهي الرؤيا الصالحة وثناء الخلق ومحبتهم:
قال تعالى:" أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ" (يونس، آية : 62 ـ 64).
والبشرى هي الحياة الدنيا ما بشر الله به المؤمنين المتقين في غير مكان في كتابه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: الرؤيا الصالحة من الله
وعن أبي ذر قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل يعمل لله ويحبه الناس، فقال: تلك عاجل بشرى المؤمن .
ـ الحفظ من كيد الأعداء ومكرهم:
قال تعالى:" وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ" (آل عمران، آية : 120).
ـ حفظ الذرية الضعاف بعناية الله تعالى:"
قال تعالى:" وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا" (النساء، آية : 9).
وفي الآية إشارة إلى إرشاد المسلمين الذين يخشون ترك ذرية ضعافاً، إلى التقوى في سائر شؤونهم حتى يحفظ أبناءهم ويدخلوا تحت حفظ الله وعنايته، والآية تشعر بالتهديد بضياع أولادهم إن فقدوا تقوى الله، وإشارة إلى أن تقوى الأصول تحفظ الفروع وأن الرجال الصالحين يحفظون في ذريتهم الضعاف كما في آية " وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا" (الكهف، آية : 82).
فإن الغلامين حفظا ببركة أبيهما في أنفسهما ومالهما .
ـ سبب لقبول الأعمال التي بها سعادة العباد في الدنيا والآخرة:
قال تعالى:" إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ" (المائدة، آية : 27).
ـ سبب النجاة من عذاب الدنيا:
قال الله تعالى:" وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ" (فصلت، آية : 17 ـ 18).
ـ تكفير السيئات وهو سبب النجاة من النار وعظم الأجر هو سبب الفوز بدرجة الجنة:
قال تعالى:" وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا" (الطلاق، آية : 5).
ـ هم الورثة لجنة الله:
قال تعالى:" تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا" (مريم، آية : 63).
ـ يسيرون إلى الجنة ركباناً:
مع أن الله عز وجل يقرب إليهم الجنة تحية لهم ودفعاً لمشقتهم.
قال تعالى:" وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ" (ق، آية : 31).
وقال تعالى:" يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا" (مريم، آية : 85).
ـ تجمع بين المتاحبين من أهلها حين تنقلب كل صدقة ومحبة إلى عداوة ومشقة:
قال تعالى:" الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ" (الزخرف، آية : 67).
ومن بركة التقوى أن الله عز وجل ينزع ما قد يعلق بقلوبهم من الضغائن والغل فتزداد مودتهم وتتم محبتهم وصحبتهم.
قال تعالى:" إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ" (الحجر، آية : 45 ـ 47) .
دعوة القرآن إلى التقوى تتخذ أساليب شتى من الأمر بها، وبيان آثارها والثناء على أهلها والترغيب في محاسنهم وتجلية فضائلهم والترهيب من تركها والإعراض عنها والانصاف بأضدادها، حتى يظهر الفرق بين المتقين والفجار، أو بين أهل البر والتقوى وأهل الإثم والعدوان

رابعاً: إقامة العدل بين الناس:
العدل من الأسس والقيم التي جاءت بها جميع الشرائع السماوية فأنزل الله به كتبه، وأرسل به رسله.
قال تعالى:" لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ" (الحديد، آية : 25) : أي العدل فما من كتاب أنزل ولا رسول إلا أمر أمته بالعدل وأوجبه عليها، والأمم بين طائع آخذ منه بنصيب وحائد مائل عن العدل والقسط بجهل أو هوى، والرسل ما تزال تجدد ما نسيته الأجيال، وتذكر الناس بما نسوا إلى أن ختمت الرسالات بخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، ولما كانت هذه الرسالة المحمدية خاتمة الرسالات، والنبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل، وهذه الأمة خاتمة الأمم، والأمة التي جعلها الله شاهدة على الناس وقيمة على البشرية، تبلغها دين الله، وتشهد لها بالإيمان أو عليها بالكفر والعصيان.
قال تعالى:" وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ"، فقد كان العدل من أهم ما يجب على هذه الأمة، بل هو من أعظم ما يميزها عن الأمم، ولم يكتف الحق تبارك وتعالى بإيجاب العدل على هذه الأمة، بل أراد منها أن تجعله خلقاً من أخلاقها، وصفة من صفاتها، وصبغة تصبغ بها من دون الناس، فأمرها أن تكون قائمة بالعدل بل قوامه به بين الناس، لله عز وجل، لا لأي شيء آخر فلا تحابي فيه قريباً لقرابته ولا تضار عدواً لعداوته.
قال تعالى:" كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" (المائدة، آية : 8).
فالعدل الذي أمر به الله عز وجل في القرآن الكريم حق لكل الناس جميع الناس، لا عدل بين المسلمين بعضهم وبعض فحسب، ولا عدلاً مع أهل الكتاب دون سائر الناس، وإنما هو لكل إنسان بوصفه "إنسان" فهذه الصفة ـ صفة الناس ـ هي التي يترتب عليها حق العدل في المنهج الرباني، وهذه الصفة التي يلتقي عليها البشر جميعاً مؤمنين وكفاراً، أصدقاءً وأعداءً، سوداً وبيضاً عرباً وعجماً، والأمة المسلمة قيمة على الحكم بين الناس بالعدل ـ متى حكمت أمرهم  فالعدل من مقاصد القرآن الكريم ـ وأوجبه الله على المؤمنين به ولو كان مراغمة لعواطف البغض والعداوة،" وَلاَ  يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" ، وهو كذلك واجب ولو كان فيه مراغمة لكافة عواطف الحب والمودة والقرابة " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ" (النساء، آية : 135).
والأمة مأمورة بأن تقوم بالعدل والقسط والشهادة لله وليس لأحد سواه، وأن يكون ذلك منهم بدافع التقوى والخوف من الله عز وجل حتى يصبح الجميع أمام العدل سواء بدون اعتبار لدوافع الحب والولاء والقرابة، أو البغضاء والشنآن والعداوة، لأنها إنما تقوم بالعدل والقسط بين الناس لله وبأمر الله، والعدل بهذه الصورة الشاملة، لم تعرفه البشرية قط إلا على يد هذه الأمة ولم تنعم به البشرية قط إلا تحت حكم الأمة المسلمة .

خامساً: الشورى:
من مقاصد القرآن الكريم تحقيق ممارسة الشورى بين الناس
1ـ قال تعالى:" فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ" (الشورى، آية : 36 ـ 38).
وهناك دلالات لطيفة لقيمة الشورى في الإسلام، في ضوء تفسير هذه الآية منها ما يلي:
فالآية وردت في سورة تحمل اسم الشورى وهي سورة الشورى وتسمية إحدى سور القرآن الكريم باسم الشورى هو في حد ذاته تشريف لأمر الشورى وتنويه بأهميتها ومنزلتها.
وجاءت الشورى في هذه الآية وصفاً تقريرياً، ضمن صفات أساسية لجماعة المؤمنين المسلمين، فهم بعد إيمانهم متوكلون على ربهم، مجتنبون لكبائر الآثام والفواحش، مستجيبون لأمر ربهم، مقيمون لصلاتهم، وأمرهم شورى بينهم ويزكون أموالهم وينفقون منها في سبيل الله .
وهي آية مكية مما يدل على أن الشورى في الإسلام ممارسة إجتماعية قبل أن تكون من الأحكام السلطانية، وهي تصف حال المسلمين في كل زمان ومكان، فهي ليست طارئة ولا مرحلية، ولقد جعل الله سبحانه احترام الشورى من أثمن خصال المؤمنين وصفاتهم.
وهي تجعل جميع المسلمين فيما لم ينزل فيه وحي، شورى بينهم، فهي حق لهم جميعاً، إلا ما كان من شأن أهل العلم والتخصص، فإن المؤمنين يحملهم إيمانهم أن يردوا ما أشكل عليهم إلى من يعلم كيف يستنبط الأحكام من النصوص .
وقد انتبه عدد من العلماء إلى وقوع هذه الآية الكريمة " وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ"، كصفة من ضمن صفات تعد من المقومات والأركان الاساسية في الدين وهو ما يعني أنها واحدة من تلك الفرائض والأركان.
قال تعالى:" وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ" يدل على جلالة موقع المشورة لذكره لها مع الإيمان وإقامة الصلاة ويدل على أنهم مأمورون بها.
2ـ وقال تعالى:" فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" (آل عمران، آية : 159).
وهذه الآية جاءت خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته داعياً وهادياً ومرشداً ومربياً، وأميراً وقائداً وهذا ما يقتضيه أن يكون رفيقاً بالناس متلطفاً معهم رحيماً لهم عفواً عنهم، متسامحاً معهم، بل مستغفراً لهم في أخطائهم وذنوبهم ومستشيراً لهم مراعياً لآرائهم، وهذا الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بمشاورة أصحابه هو أمر لكل من يقوم مقامه من الدعاة والقادة والأمراء، بل إن العلماء والمفسرين يعتبرون أن هؤلاء مأمورون من باب أولى وأحرى، فهم الأحوج إلى هذا الأمر وبفارق كبير جداً عن رسول الله، ومن هنا عُدت هذه الآية قاعدة كبرى في الحكم والإمارة وعلاقة الحاكم بالمحكوم، فالشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ومن لا يستشير أهل العلم والدين ـ وأهل التخصص في فنون العلوم ـ فعزله واجب وهذا ما لا خلاف فيه .
إن الشورى مقصد من المقاصد الإسلامية، وجزء من الشريعة الإسلامية.

سادساً: الحرية:
من مقاصد القرآن الكريم، إبطال عبودية البشر للبشر وتعميم الحرية، لكل الناس ومن قواعد الفقه قول الفقهاء: الشارع متشوف للحرية، فذلك استقراؤه من تصرفات الشريعة التي دلت على أن من أهم مقاصدها إبطال العبودية وتعميم الحرية، ولكن دأب الشريعة في رعي المصالح المشتركة وحفظ النظام العام وقف بها عن إبطال العبودية بوجه عام وتعويضها بالحرية، وإطلاق العبيد من ربقة العبودية، وإبطال أسباب تجدد العبودية، مع أن ذلك يخدم مقصدها، كان ذلك التوقف من أجل أن نظام المجتمعات في كل قطر قائم على نظام الرق، فكان العبيد عمال في الحقول، وخدمة في المنازل والغروس، ورعاة في الانعام وكانت الإماء حلائل لسادتهن، وخادمات في منازلهم، ودايات لأبنائهم، فكان الرقيق "لذلك" من أكبر الجماعات التي أقيم عليها النظام العائلي والإقتصادي "والإجتماعي" لدى الأمم حين طرقتهم دعوة الإسلام، فلو جاء الإسلام بقلب ذلك النظام رأساً على عقب لا نفرط عقدُ نظام المدينة انفراطاً تعسر معه عودة انتظامه، فهذا موجب إحجام الشريعة عن إبطال الرق الموجود، وأما إحجامها عن إبطال تجدد سبب الاسترقاق الذي هو الأسر في الحروب، فلأن الأمم التي سبقت ظهور الإسلام قد تمتعت باسترقاق من وقع في أسرها وخضع إلى قوتها وكان من أكبر مقاصد سياسة الإسلام إيقاف غلواء تلك الأمم والانتصاف للضعفاء من الأقوياء، وذلك ببسط جناح سلطة الإسلام على العالم وبانتشار اتباعه في الأقطار، فلو أن الأمم التي استقرت لها سيادة العالم من قبل أمنت عواقب الحروب الإسلامية ـ وأخطر تلك العواقب في نفوس الأمم السائدة الأسر والاستعباد والسبيُ ـ لما ترددت الأمم من العرب وغيرهم في التصميم على رفض إجابة الدعوة الإسلامية اتكالاً على الكثرة والقوة، وأمناً من وصمة الأسر والاستعباد ، كما قال صفوان ابن أمية في مثله: لأن تربني قريش خير من أن تربني هوازن.
وكما قال النابغة:

    حذاراً على أن لا تنال مقادتي

                    ولا نسوتي حتى يمتن حرائراً
فنظر الإسلام إلى طريق بين مقصدي ـ نشر الحرية وحفظ نظام العالم ـ بأن سلَّط عوامل الحرية على عوامل العبودية مقاومة لها لتقليلها وعلاجاً للباقي منها، وذلك بإبطال أسباب كثيرة من أسباب الاسترقاق وقصره على سبب الأسر خاصة، فأبطل الاسترقاق الاختياري وهو بيع المرء نفسه، أو بيع كبير العائلة بعض أبنائها، وقد كان ذلك شائعاً في الشرائع وأبطل الاسترقاق لأجل الجناية بأن يحكم على الجاني ببقائه عبداً للمجني عليه، وقد حكى القرآن عن حالة مصر: " قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ" (يوسف ، آية : 75).
وقال: "كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك"(يوسف ، آية : 76).
وأبطل الاسترقاق في الدين الذي كان شرعاً للرومان، وكان أيضاً من شريعة سولون في اليونان من قبل، وأبطل الاسترقاق في الفتن والحروب الداخلية الواقعة بين المسلمين، وأبطل استرقاق السائبة، كما استرقت السيارة يوسف إذ وجدوه.
ثم إن الإسلام التفت إلى علاج الرق الموجود والذي يوجد بروافع ترفع ضرر الرق، وذلك بتقليله عن طريق تكثير أسباب رفعه، وبتخفيف آثار حالته، وذلك بتعديل تصرف المالكين في عبيدهم الذي كان مالكه معنتاً .
ومن منافذ الحرية للأرقاء التي فتحها الإسلام:
1 ـ جعل الإسلام تحرير الإرقاء إلى الله: " وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ" (البلد ، آية : 12).
2 ـ كفارة يمين الحانث: إطعام عشرة مساكين.. أو تحرير رقبة.
3 ـ كفارة الظهار لمن أراد أن يرجع زوجته بدايته تحرير رقبة، قال الله تعالى: "وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ" (المجادلة ، آية : 3).
4 ـ من أفطر في نهار رمضان: فعليه كفارة منها تحرير رقبة.
5 ـ ملك اليمين إذا أنجبت من سيدها، تسمى "أم ولد" إذا مات سيدها قبلها صارت حرة.
6 ـ المكاتبة: أن يتفق العبد مع سيده على مبلغ من المال يدفعه أو يقوم بعمل يصير بعده حراً، قال تعالى: " الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ" (النور ، آية : 33).
7 ـ العبد الذي يملكه إثنان أو جماعة، فإذا حرر واحد منهم نصيبه امتنع أن يباع العبد.
8 ـ تحرير الأرقاء مصرف من مصارف الزكاة، قال تعالى: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" (التوبة ، آية : 60).
لقد انقرض الرق أمام أبواب الحرية التي فتحها الإسلام ولم يكن الإسلام أول من أباح الرق، بل كان أول من حرر الأرقاء بأسلوب منطقي، بأسلوب الترغيب تارة وبأسلوب الترهيب تارة أخرى عن طريق الكفارات كما رأينا .
لقد قتل الإسلام مشاعر الإحساس بالعبودية بأن ترفع عن نداء العبد بكلمة عبدي، وإنما باسلوب أرقى وهو كلمة غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي، قال صلى الله عليه وسلم : "لا يقولون أحدكم عبدي وأمتي، وليقل فتاي وفتاتي، ولا يقل أحدكم ربي، وليلقل سيدي" .
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشديد في الخدمة، ففي الحديث: "لا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه فليعنه، والأمر بكفاية مؤنتهم وكسوتهم، ففي حديث أبي ذر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عبيدكم خَوَلكم إنما هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس  ونهى عن ضربهم الضرب الخارج عن الحد اللازم، فإذا مثل الرجل بعبده عتق عليه .
فمن استقراء هذه التصرفات ونحوها حصل لنا بأن الشريعة قاصدة بث الحرية والقضاء على العبودية للمخلوق.
والقرآن الكريم من مقاصده، ترك الخيار لكافة الناس في اختيار المعتقد بعد تبين الرشد من الغي، وتترك لهم كذلك حرية التفكير، وحرية التعبير، وإليك الشرح:
1 ـ حرية الاعتقادات: أسسها الإسلام بإبطال المعتقدات الضالة التي أكره دعاة الضلالة أتباعهم ومريديهم على إعتقادها بدون فهم ولا هدى، ولا كتاب منير، وبالدعاء إلى إقامة البراهين على العقيدة الحقة، ثم بالأمر بحسن مجادلة المخالفين وردهم إلى الحق بالكلمة والموعظة وأحسن الجدل، ثم بنفي الإكراه في الدين .
قال تعالى: " لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" (البقرة ، آية : 256).
ولو أراد الخالق جلت قدرته لدخل جميع من على الأرض من الناس دين الإسلام، ولكن له حكمة في إعطاء الناس الحرية فيما يختارون وما يسلكون من طريق، حيث قال: " وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ" (يونس ، آية : 99).
ولا شك أن الإنسان بما وهبه الله من عقل وسمع وبصر قادر على التمييز بين الحق والباطل حتى يستطيع اختيار الطريق الصحيح، قال تعالى: " إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا" (الإنسان ، آية : 2 ـ 3).
وتتكرر الآيات القرآنية في أكثر من سورة حول حرية الاعتقاد وعدم إجبار من لم يقتنع بالإسلام على اعتناقه، فيخاطب الله تبارك وتعالى نبيه محمد عليه الصلاة والسلام قائلاً: " وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ" (الكهف ، آية : 29).
ــ وقال تعالى: " وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ" (الأنعام ، آية : 107).
ــ وقال تعالى: " فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ" (الشورى ، آية : 48).
ــ وقال تعالى: " فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ" (الغاشية ، آية : 21 ـ 22).
ــ وقال تعالى: " مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا" (النساء ، آية : 80).
والدين الإسلامي الحنيف ليس دين قمع وإكراه، بل دين يسر يقوم على مبدأ وسائل الإقناع والتزام جادة العقل من خلال منهج الحوار البناء والتعبير الحر والجدال الموضوعي المنطقي في النقاش البعيد عن المهاترات وإثارة الفتن، والشريعة الإسلامية تشدد وتؤكد على قدسية هذا المنهج، لذا نجد أن الخالق يأمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يدعو الناس إلى دين الإسلام بالحكمة ويخاطبه قائلاً: " ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل ، آية : 125).
ــ وفي مجادلة أهل الكتاب يقول مخاطباً المؤمنين، قال تعالى: "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (العنكبوت ، آية : 46) .
2 ـ حرية التعبير: ((الأقوال)): فهي التصريح بالرأي والاعتقاد في منطقة الإذن الشرعي، وقد أمر الله ببعضها في قوله تعالى: " وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (آل عمران ، آية : 104).
ــ وقال تعالى: " كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ" (آل عمران ، آية : 110).
ــ وقال تعالى: " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ" (التوبة ، آية : 71).
وقال تعالى: " يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" (لقمان ، آية : 17).
وقد جاء التوجيه القرآني الكريم بالتزام القول الحسن، وترك ما عداه مما لا فائدة منه، أو مما فيه مضرة في الدين أو في العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع المسلم، وقد حدد القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ضوابط الكلام، وآدابه تحديداً دقيقاً، وواضحاً نجمل شيئاً منه فيما يلي:
1 ـ الضوابط المتعلقة باللفظ في مثل قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (البقرة ، آية : 104).
2 ـ الضوابط المتعلقة بالمضمون في مثل قوله سبحانه: "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ" (الأعراف ، آية : 33).
3 ـ الضوابط المتعلقة بالهدف والأسلوب في مثل قوله عز وجل: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا" (الأحزاب ، آية : 70).
4 ـ الضوابط المتعلقة بالتوقف والتثبت من المصدر في مثل قوله تعالى: "وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً" (النساء ، آية : 83).
والآية الأخيرة: إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع" ، وعن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن قيل وقال ، الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبيت، ولا تدبر، ولا تبين .
5 ـ كما حرم الله ورسوله الكذب والغيبة والنميمة وشهادة الزور والسب والشتم والقذف في أدلة ظاهرة معلومة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة .
3 ـ حرية الفكر:
لم يترك القرآن الكريم أسلوباً نفسياً أو واقعياً إلا واتبعه من أجل حث الإنسان على التفكير واستعمال عقله بصورة واضحة جلية، وإليك أخي القارئ الكريم البيان:
أ ـ طلب القرآن الكريم من الناس أن يستعملوا عقولهم ويفكروا، ولنستمع لهذه الآيات في الإيمان ورسوله: " قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا" (سبأ ، آية : 46).
وفي تفسير طبيعة الرسالة وشخصية الرسول يقول تعالى: "قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ" (الأنعام ، آية : 50).
وفي لفت النظر إلى أسرار التشريعات المختلفة عبادية أو إجتماعية، يقول تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ" (البقرة ، آية : 219).
وفي إشعار الإنسان بأن هذا الكون كله خلق لارتفاقه ويسر بره وبحره وعلوه وسفله له ، يقول تعالى: " وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (الجاثية ، آية : 13).
ب ـ طلب القرآن الكريم من البشر أن يستعملوا عقولهم فيما تراه عيونهم ببساطة من ظواهر يومية، ويفكروا فيها، وفي سبب وكيفية وجودها، وذلك حتى يعرفوا أن هنالك سبباً، وهناك علاقة بين كل ما يتضمنه هذا الكون الذي ترتيبه بإحكام ودقة، وفي النظر في السماوات وما حوته، وفي الأرض وما عليها، يقول تعالى: " قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ" (يونس ، آية : 101).
وقال تعالى:" أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى" (الروم، آية : 8).
وقال تعالى:" أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ" (الغاشية، آية : 17 ـ 20).
وفي النظر في أصل نشأة الإنسان وخلقه يقول تعالى:" فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ" (الطارق، آية : 5 ـ 7).
وقال تعالى:" أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ" (يس، آية : 77).
ج ـ وحتى يحفز القرآن الكريم العقل الإنساني للتفكر هاجم الذين يلغون عقولهم وتفكيرهم، ونعى عليهم هذه الطريقة في الحياة التي تجعلهم كالدواب، ذلك أن العقل الإنساني وملكة التفكير هي التي تميز الإنسان من الحيوان، يقول تعالى: "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ" (الأعراف، آية : 179).
س ـ نبه القرآن الكريم إلى العوائق الواقعية التي تعطل التفكير، وطلب إزالتها حتى لا تقف بوجه العقل الإنساني والتفكير الصحيح، فرفض التبعية الفكرية والإيحاء الفكري المتوارث عائلياً وإجتماعياً، فأكد بذلك شخصية كل فرد واستقلاليته الفكرية.
قال تعالى:" وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ" (البقرة، آية : 170).
وقال تعالى:" بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ" (الزخرف، آية : 22 ـ 23).
فالمترفون عادة لا يريدون التفكير في الأسس الإجتماعية والإقتصادية والعقائدية لأنهم طبقة مستفيدة من الوضع القائم، فهي لا تريد حتى التفكير في وضع جديد .
كما نبه القرآن الكيم إلى عائق آخر ذو تأثير عملي، فقال وهو الطاعة العمياء بلا فكر لأصحاب الجاه والسلطان قال تعالى: " وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا" (الأحزاب ، آية : 67).
2 ـ واستعمل القرآن الكريم أسلوب المقارنة الفكرية بين الشيء وضده لينشط العملية الفكرية، وليخلق ملكة المقارنة ويطور المقدرة على التفكير بشكل صحيح .
قال تعالى: " قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ" (الرعد ، آية : 16).
ــ وقال تعالى: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ" (إبراهيم ، آية : 24 ـ 26).
ــ وأفرد القرآن الكريم مكانة خاصة للذين يفكرون ويتعمقون في التفكير ويصبح تفكيرهم علماً نافعاً للإنسان في هذه الحياة، وميزهم عن غيرهم وما ذلك إلا مرحلة أخرى متقدمة من كيفية طلب التفكير وضرورته واحترام العقل الإنساني ودفعه نحو أرقى مراحل العلم، قال سبحانه وتعالى: " يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ" (المجادلة ، آية : 11).
وبهذا يكون المنهج القرآني وضع حرية التفكير في الاتجاه السليم والمنطق الصحيح، فليس فيها أوهام وخرافات وليس فيها جمود ولا تقليد وإنما هي دعوة لتكريم العقل الإنساني وتحريره من ربقة البلادة والخمول وتنبيهه إلى أداء مهمته في البحث والتفكير .
ولقد ظهرت حرية العلم والتعليم والتأليف والتفكير في أجمل مظهر في القرون الثلاث الأولى من تاريخ الإسلام، إذ نشر العلماء فتاواهم ومذاهبهم وعلمهم واحتج كل فريق لرأيه، ولم يكن ذلك موجباً للمناوءة ولا لحزازات، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نضَّر الله امرء سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه إلى ما هو أفقه منه، ورب حامل فقه إلى ما ليس بفقيه .
وهذا هو المقام الذي تحقق فيه مالك بن أنس حين قال له أبو جعفر الخليفة: إني عزمت أن أكتب كتبك "يعني الموطأ" نسخاً ثم أبعث إلى كل مصر من الأمصار نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوها إلى غيرها.
فقال الإمام: لا تفعل يا أمير فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل وسمعوا أحاديث، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم من اختلاف أصحاب رسول الله وغيرهم وأن ردهم عن ذلك شديد، فدع الناس وما هم عليه .
4 ـ حرية التنقل:
كفل الإسلام حرية التنقل لكل فرد حسبما يريد سواء كان ذلك داخل حدود الدولة الإسلامية أم سفر إلى خارجها، ويمكن إجمال صور التنقل فيما يلي:
أ ـ التنقل لتحقيق نفع ديني ودنيوي:
وذلك مثل التنقل طلباً للرزق بالطرق المشروعة، من تجارة وغيرها، قال الله تعالى: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ" (الملك ، آية : 15).
ومن مثل التنقل طلباً للعلم، قال تعالى: " فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ" (التوبة ، آية : 122).
ومن مثل السفر بقصد زيارة الأرحام والأخوان في الله وبقصد زيارة البقاع الشريفة كمكة والمدينة، ومن مثل السفر بقصد الترويح عن النفس وعن الوجه المشروع، فالسياحة مباحة لأنها تفتح العين والقلب على المشاهدة الجديدة التي لم تألفها العين، ولا يملها القلب، بل قد تكون السياحة مندوباً إليها، إذا كانت على سبيل التدبر والاعتبار، ومعرفة سنن الله تعالى في الأمم السالفة، قال الله تعالى: " قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" (الأنعام ، آية : 11).
ب ـ التنقل لأداء واجب ديني:
كالسفر لأداء فريضة الحج أو الجهاد في سبيل الله ، قال تعالى: " وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ" (الحج ، آية : 27).
وقال تعالى: " انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ" (التوبة ، آية : 41).
وهذا خطاب للمؤمنين، وعقب ذلك أنزل الله تعالى في شأن المنافقين قوله: "لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ" (التوبة ، آية : 42).
أي لو كان ما دعوتهم إليه من الخروج في سبيل الله سفراً وسطاً، ومتاعاً من الدنيا سهل المأخذ، لاتبعوك وخرجوا معك طلباً للغنيمة .
جـ ـ الهجرة حفاظاً على سلامة العقيدة:
أوجب الإسلام الهجرة على كل مسلم تعرض للذل أو المهانة أو خاف أن يفتن في دينه، ووصف الذين يتقاعسون عن الهجرة مع استطاعتهم لها بأنهم من الظالمين لأنفسهم، ولم يستثن من ذلك إلا الفئة العاجزة فعلاً عن الهجرة من كبار السن والنساء والولدان، وقد قال عز وجل: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً" (النساء ، آية : 97 ـ 98) .
إن الإسلام اعتنى بالحرية بأنواعها، وقدرها حق قدرهان سواء حرية الاعتقاد، أو حرية التعبير، أو حرية الفكر، أو حرية التنقل، وجعل الحرية مقصد من مقاصده.

سابعاً: رفع الحرج:
إن من مقاصد القرآن الكريم رفع الحرج عن المكلفين، ووردت آيات كثيرة جداً تبين أن هذا الدين دين يسر، وأن الله قد رفع الحرج عن هذه الأمة فيما يشق عليها، حيث لم يكلفها إلا وسعها، وسأبين أدلة التيسير، ثم أدلة رفع الحرج، ثم أدلة عدم التكليف بغير الوسع والطاقة.
1 ـ أدلة التيسير والتخفيف:
قال تعالى: " يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" (البقرة ، آية : 185).
وقال سبحانه: " يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا" (النساء ، آية : 28).
وقال عز وجل: " وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى" (الأعلى ، آية : 8).
وقال تعالى: " فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا" (الشرح ، آية : 5 ـ 6).
وقال تعالى: " وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا" (الطلاق ، آية : 4).
وقال تعالى: " سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا" (لطلاق ، آية : 7).
هذه بعض الآيات التي تفيد التيسير على هذه الأمة.
وقد ذكر المفسرون في تفسيرهم في هذه الآيات أن الله أراد لهذه الأمة اليسر ولم يرد لها العسر .
2 ـ أدلة رفع الحرج:
من أقوى الأدلة في الدلالة على رفع الحرج وله تعالى: " وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" (الحج ، آية : 78)، أي: ما كلفكم ما لا تطيقون وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجاً ومخرجاً .
وقال سبحانه: " مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (المائدة ، آية : 6).
وفي سورة التوبة: " لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ" (التوبة ، آية : 91).
وقال تعالى في سورة الأحزاب: " مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ" (الأحزاب ، آية : 38).
وقال تعالى: " لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ" (النور ، آية : 61).
وفي هذه الآيات دلالة ظاهرة على رفع الحرج عن هذه الأمة، وأن الله لم يجعل في التشريع حرجاً، وبعض هذه الآيات وإن كانت خاصة في أحكام معينة ولكننا نجد التعليل عاماً، فكأن التخفيف ورفع الحرج في هذه الأحكام والفروض بإعادة الشيء إلى أصله، وهو رفع الحرج عن هذه الأمة، فكل شيء يؤدي إلى الحرج لسبب خاص أو عام فهو معفو عنه، رجوعاً إلى الأصل والقاعدة .
3 ـ أدلة عدم التكليف بما يضاد الوسع والطاقة:
قال سبحانه: " لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا" (البقرة ، آية : 286).
وقال الله تعالى كما في الحديث الصحيح: "قد فعلت" .
وكذلك قوله: " رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا" (البقرة ، آية : 286).
والوسع: ما يسع الإنسان فلا يعجز عنه ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه، قال تعالى: "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا" أي: لا يحملها إلا ما تسعه وتطيقه ولا تعجز عنه أو يحرجها دون مدى غاية الطاقة، فلا يكلفها بما يتوقف حصوله على تمام صرف القدرة، فإن عامة أحكام الإسلام تقع في هذه الحدود، ففي طاقة الإنسان وقدرته الإتيان بأكثر من خمس صلوات، وصيام أكثر من شهر، ولكن الله جلت قدرته ووسعت رحمته أراد بهذه الأمة اليسر ولم يرد بها العسر .
ومن الأدلة على أن التكليف بحدود الوسع والطاقة قوله تعالى: " وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (الأعراف ، آية : 42).
ويقول سبحانه في سورة المؤمنون: " وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا" (المؤمنون ، آية : 62).
فسنة الله جاربية على أنه لا يكلف النصوص إلى وسعها، وجاء التأكيد على هذه القاعدة عند ذكر بعض الأحكام الفرعية، فقال سبحانه: " وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا" (البقرة ، آية : 232).
وكذلك في سورة الطلاق: " لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا" (الطلاق ، آية : 7).
وكذلك أيضاً في سورة الأنعام: " وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا" (الأنعام ، آية : 152).
هذه هي الآيات التي وردت مبينة أن التكليف بحسب الوسع والطاقة، وتبين أن رفع الحرج من مقاصد القرآن الكريم.

ثامناً: تقرير كرامة الإنسان:
يظهر التكريم الإلهي للإنسان في عدة أمور، منها:
1 ـ الإنسان خليفة في الأرض:
أكد القرآن الكريم أن الإنسان مخلوق كريم على الله، فقد خلق آدم بيديه، ونفخ فيه من روحه، وجعله في الأرض خليفة، تكريماً للإنسان، وجاء ذلك في حوار بديع، قال تعالى: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ" (البقرة ، آية : 30).
2 ـ الإنسان محور الرسالات السماوية:
إن الإنسان هو المقصود غاية وهدفاً في ابتعاث الرسل واختيار الأنبياء، وإنزال الكتب والصُّحف وإن الله سبحانه وتعالى الذي جعل آدم خليفة في الأرض، اقتضت حكمته، ومشيئته ورحمته بالإنسان إلا يخلقه عبثاً، وألا يتركه سدى، وأنما تكفل بهدايته وإرشاده، وأخذ بيده إلى الطريق الأقوم والمنهج الأمثل وطمأنه منذ استقراره في الأرض أنه لن يدعه طعاماً سائغاً لوساوس الشيطان ولن يتركه نهباً للوهم، والخبط، والضلال، والشهوات، ولن يسلمه للجهالة والحيرة والضياع، وإنما أكرمه بالهداية والرشاد بالتي هي أقوم .قال تعالى: " قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" (البقرة ، آية : 38).
وقال تعالى: "قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُ مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" (طه ، آية : 123 ـ 124).
وهكذا توالت الرسل وتتابع الأنبياء، وأنزلت الكتب، وكلها تدور على محور واحد، هو الإنسان، بما يحقق له السعادة في الدنيا والآخرة، وجاءت الشرائع لتأمين مصالح الناس بجلب النفع لهم، ودفع المضار عنهم، فترشدهم إلى الخير، وتهديهم إلى سواء السبيل، وتدلهم على البر، وتأخذ بيدهم إلى الهدى القويم، وتكشف لهم طريق الخير، وتحذرهم من الغوايا والشر .
وجاءت الشريعة لتحصيل المصالح وتكميلها، وتقليل المفاسد وتعطيلها .
إن الأحكام الشرعية، إنما شرعت لجلب المصالح، أو لدرء المفاسد .
3 ـ تكليف الملائكة بالسجود لآدم:
لم يقتصر الأمر الإلهي باختيار الإنسان خليفة في الأرض، بل تأكد ذلك في السماء والجنات العلا، واقترن بالفعل والتطبيق، وأعلن الله تعالى ذلك في الملأ الأعلى بإرادته عن خلق آدم، واتخاذه خليفة وسجل ذلك في اللوح المحفوظ وأنزله وحياً يتلى على البشر، ثم أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم تعظيماً واحتراماً له، لأن الإرادة والإلهية تعلقت باختياره، فقال تعالى: "إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ" (ص ، آية : 71 ـ 74).
وقال تعالى: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ" (الحجر ، آية : 28 ـ 31)
وكرر القرآن الكريم هذا الأمر، وهذه القصة في عدة سور قرآنية لتذكير الإنسان بفضل الله تعالى أولاً، وليعرف مكانته من الوجود والكون ثانياً وليحذره من غواية إبليس ثالثاً .
4ـ تفضيل الإنسان عن سائر المخلوقات:
صرّح القرآن الكريم بهذا التفضيل والتكريم، قال تعالى:" وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ  وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً" (الإسراء، آية : 70).
5ـ تسخير ما في الكون للإنسان:
قال تعالى:" أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً" (لقمان، آية : 20).
وصرّح القرآن الكريم بأن الله تعالى خلق الأنعام، وملكها للإنسان، ثم ذلّلها له للركوب، والأكل، والمنافع، والمشارب، قال تعالى:" أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا  عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ" (يس، آية : 71 ـ 72).
ووجه القرآن الكريم الإنسان إلى البحث في الكون، والتعرف على خوّاصه وأسراره، والانتفاع به في الحياة، فقال تعالى عن الثروة المائية " وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا" (النحل، آية : 14).
وقال تعالى:" وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ" (الأنعام، آية : 141).
وقال تعالى عن الثروة الحيوانية :" وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ" (النحل، آية : 5 ـ 8).
وقال تعالى عن الثروة الصناعية :" وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" (الحديد، آية : 25).
وقال تعالى:" وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" (سبأ، آية : 10 ـ 11).
6 ـ تكريم الإنسان بالعقل:
فالعقل هو الأداة الكبرى للمعرفة، ويتفرع عنه التفكير، والإرادة والاختيار، وكسب العلوم، لذلك كان الإنسان مسؤولاً عما يصدر عنه، قال تعالى:" وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً" (الإسراء، آية : 36).
وعدّ القرآن الكريم الإنساني الذي يعطل حواسه وعقله أضلّ من الأنعام والحيوان، لأن لديه وسائل المعرفة، لكنه عطلها عما خلقت له.
قال تعالى:" إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ" (الأنفال، آية : 22).
وقد تعددت الآيات القرآنية صراحة وإشارة في مخاطبة العقل ودعوته للتفكير، والنظر والبحث في الكون، وجعل التفكير فريضة إسلامية.
قال تعالى:" إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (آل عمران، آية : 190 ـ 191).
وقال تعالى:" وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" (الروم، آية : 24).
وقال تعالى:" إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" (البقرة، آية : 164).
وقال تعالى:" وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" (الرعد، آية : 4).
وآيات كثيرة تثير العقل، وتحثه، وتؤدى بالعقل إلى الإيمان بالله تعالى، واليقين بأنه الخالق المدبر، وبالمقابل إذا فشل العقل في أداء هذه الوظيفة فقد وجوده، وسلب الإنسان إنسانيته، وهذا ما أكده القرآن الكريم بنفي العقل عن الكفار، وحكم عليهم بأنهم لا يعقلون وذلك لعدم الاستفادة من السمع والبصر للانتفاع من آيات الكون التي تنطق بوجود الله تعالى، وتوجب طاعته، وعندئذ ينسلخ الكافر من إنسانيته، ويتساوى بالحيوان ثم ينحدر عنه .
قال تعالى:" أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا" (الفرقان، آية : 43 ـ 44).
7ـ تكريم الإنسان بالأخلاق والفضائل:
تظهر كرامة الإنسان والدعوة إلى تكريمه بدعوة الإسلام إلى الأخلاق الفاضلة، وترغيب الفرد والمجتمع بمعالي الأمور والتسامي عن المادة، والحض على الخير والفضيلة بين الناس ، لذلك وصف القرآن الكريم نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأعلى أوسمة الفخار والثناء، فقال تعالى:" وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" (القلم، آية : 4).
وبين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق .
فدعا الإسلام الناس جميعاً إلى البر والرحمة، والإخاء، والمودة، والتعاون، والوفاق، والصدق، والإحسان ووفاء الوعد، وأداء الأمانة وتطهير القلب، وتخليصه من الشوائب، كما دعا إلى العدل والمسامحة والعفو، والمغفرة والصبر والثبات، ودعا إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحث على النصيحة وغير ذلك من مكارم الأخلاق والفضائل ، والأخلاق الفاضلة تزين الإنسانية وتُعلي شأنها، وتُنسق بين أفرادها وتصون العلاقات الجماعية، وتوجيهها إلى الخير والكمال، لتصور الحياة البشرية في أجمل صورها، وأحسن أحوالها، وتتجنب الرذيلة، والفساد الخُلُقي والإجتماعي .
8ـ تكريم الإنسان في تشريع الأحكام:
وهذا باب واسع يُغطي جميع الأحكام الشرعية، ويدفع لمعرفة العلة فيها والحكمة من تشريعها، ولذلك نضرب بعض الأمثلة فقط كنماذج:
أ ـ وجود الإنسان:
قال تعالى:" وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (الروم، آية : 21).
" مِّنْ أَنفُسِكُمْ" أي: جنسكم " لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا" أي: تأنسوا بها، فإن المجانسة من دواعي التضامن والتعاون " وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً" أي: تواداً وتراحماً بعصمة الزواج بعد أن لم يكن لقاء ولا سبب يوجب التعاطف من قرابة أو رحم " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" أي: في بدائع هذه الأفاعيل المتينة المبنية على الحكم البالغة .
ب ـ حقوق الأولاد:
قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ" (التحريم، آية : 6).
أمر الله عز وجل في هذه الآية: بأن يقي المؤمنون أنفسهم النار بأفعالهم، وأهليهم بالنصح، والوعظ، والإرشاد وهذا يتطلب الالتزام التام بأحكام الشرع أمراً ونهياً، وترك المعاصي، وفعل الطاعات، ومتابعة القيام بالأعمال الصالحة، وحث الزوجة والأولاد على أداء الفرائض، واجتناب النواهي ومراقبتهم المستمرة في ذلك
ج ـ احترام إرادة الإنسان في العقود والتصرفات:
ومن ذلك إرشاد القرآن الكريم إلى كتابة المداينة بين الأطراف، ثم أمر بالإشهاد عليها، وبيّن الحكمة والغاية من ذلك:
قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا" (البقرة، آية : 282).
ثم قال تعالى:" وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ" (البقرة، آية : 282).
ثم بين تعالى الحكمة والغاية، فقال:" ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا" (البقرة، آية : 282).
كما أن الله حرّم الغشّ والاعتداء على أموال الآخرين، واغتصاب حقوقهم، لأن ذلك يخل بالكرامة السامية للطرفين، قال تعالى:" وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ" (البقرة، آية : 188).
وقال تعالى:" لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ" (النساء، آية : 29).
لقد احترم الإسلام الإنسان، واعتبر إرادته أساساً في التعاقد، والتعامل حتى سبق تشريعات العالم في سلطان الإرادة العقدية، ثم اعتدّ بالإرادة الإنسانية في سائر التصرفات وأبطل التصرفات التي تقع بالإكراه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ، وجمع الحديث بين الخطأ والنسيان، والإكراه، لأن الإرادة مفقودة حقيقة في هذه الحالات، كما حرّم الإسلام أكل مال الإنسان إلا عن طيب نفسه .
س ـ العقوبات:
قال تعالى:" وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة، آية : 179).
لقد حرص المشرّعُ الحكيم على التكريم الإنساني حتى في باب العقوبات، فقصد حفظ الدماء، والأنفس، والحياة عامة، وراعي الكرامة الإنسانية، فنصّ على الاشياء الممنوعة والمحرمة، وحذر منها ورهب من ارتكابها، فإن حصل الخلل، ووقع الخطأ، أو العدوان والإثم، شرع العقاب المناسب للجريمة بما لا يمس كرامة الإنسان فشرع القصاص ومنع المثلة والعدوان، واعتبر العقوبة تأديباً، وإصلاحاً وزجراً وردعاً .
وقد ورد في النصوص الشرعية أدلة كثيرة في رعاية الجانب الإنساني مع المتهم، والمجرم، والجاني، سواء في معاملته، والتحقيق معه، أم في محاكمته وتأمين حقوقه الإنسانية ومنحه الحق في الدفاع عن نفسه أم في معاقبته وتنفيذ الحكم عليه بالسجن وغيره .
وبعد:
فإن جميع الأحكام الشرعية مُراعى فيها الناحية الإنسانية، لأنها ما شرعت أصلاً إلا لمصلحته، وإن الشريعة الغراء راعت إنسانية الإنسان بالأحكام الحكيمة العادلة المناسبة له قبل الولادة وبعدها، وسمت برعاية اليتيم والأطفال خاصة، ثم الإنسان عامة، طوال فترة الحياة، ثم رعت شؤونه عند الموت، والتجهيز، والغسيل، والتكفين، والصلاة عليه، ومواراته التراب، وعدم الاعتداء على الميت أو إيذائه بكلمة، أو غيبة، أو بالجلوس على قبره، وهي أحكام إنسانية بكل ما في الكلمة من معنى، مما يدركه الباحث في العلوم الشرعية والمتفقه في الفقه وأحكام الإسلام، كما يتجلى لنا التكريم الإلهي للإنسان في كل صغيرة وكبيرة وفي جميع شئون الحياة وأطوار الإنسان، ليكون المكرَّم، والمفضَّل، والمقدَّم عند الله، والخليفة في الأرض .
تاسعاً: تقرير حقوق الإنسان:
من مقاصد القرآن الكريم تقرير حقوق الإنسان، فحقوق الإنسان في الإسلام ليست منحة من ملك أو حاكم أو قرار صادر عن سلطة محلية أو منظمة دولية، وإنما هي حقوق ملزمة بحكم مصدرها الإلهي لا تقبل الحذف ولا النسخ ولا التعطيل ولا يسمح بالاعتداء عليها ولا يجوز التنازل عنها ، ومن هذه الحقوق:
1 ـ حق الحياة:
حياة الإنسان مقدسة لا يجوز لأحد أن يعتدي عليها، قال تعالى: " مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا" (المائدة ، آية : 32).
ولا تسلب هذه القدسية إلا بسلطان الشريعة وبالإجراءات التي تقرها، وكيان الإنسان المادي والمعنوي حمى، تحميه الشريعة في حياته، وبعد مماته ومن حقه الترفق والتكريم في التعامل مع جثمانه .
2 ـ حق الحرية:
حرية الإنسان مقدسة ـ كحياته سواء ـ وهي الصفة الطبيعية الأولى التي بها يولد الإنسان وقد بينا أن من مقاصد الشريعة الحرية وتحدثنا عن أنواعها، كحرية المعتقدات، وحرية التعبير، وحرية الفكر، وحرية التنقل.
ويجب توفير الضمانات الكافية لحماية حرية الأفراد، ولا يجوز تقييدها أو الحد منها إلا بسلطان الشريعة، وبالإجراءات التي تقرها، ولا يجوز لشعب أن يعتدي على حرية شعب آخر ، وللشعب المعتدي عليه أن يرد العدوان ويسترد حريته بكل السبل الممكنة، قال تعالى: " وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ" (الشورى ، آية : 41).
وعلى المجتمع الدولي مساندة كل شعب يجاهد من أجل حريته ويتحمل المسلمون في هذا واجباً ولا ترخص فيه، قال تعالى: " الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ" (الحج ، آية : 41).
3 ـ حق المساواة:
قال تعالى: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" (الحجرات ، آية : 13).
ــ الناس جميعاً سواسية أمام الشريعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي ، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى ، ولا تمايز بين الأفراد في تطبيقها عليهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" .
ــ الناس كلهم في القيمة الإنسانية سواء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم لآدم وآدم من تراب ، وإنما يتفاضلون بحسب عملهم، قال تعالى: " وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ" (الأحقاف ، آية : 19).
وكل فكر وكل تشريع، وكل وضع يسوغ التفرقة بين الأفراد على أساس الجنس، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الدين، هو مصادرة مباشرة لهذا المبدأ الإسلامي العام .
ــ لكل فرد حق في الانتفاع بالموارد المادية للمجتمع من خلال فرصة عمل متكافئة لفرص غيره، قال تعالى: " فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ" (الملك ، آية : 15)، ولا يجوز التفرقة بين الأفراد كماً وكيفاً، قال تعالى: " فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ {7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ" (الزلزلة ، آية : 7 ـ 8).
4 ـ حق العدالة:
ــ من حق كل فرد أن يتحاكم إلى الشريعة وأن يتحاكم إليها دون سواها، قال تعالى: " فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ" (النساء ، آية : 59).
وقال تعالى: " وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ" (المائدة ، آية : 49).
ــ ومن الفرد أن يدفع عن نفسه ما يلحقه من ظلم، قال تعالى: " لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ" (النساء ، آية : 148)، ومن واجبه أن يدفع الظلم عن غيره بما يملك.
ــ ومن حق الفرد أن يلجأ إلى سلطة شرعية تحميه وتنصفه وتدفع عنه، ما لحقه من ضرر أو ظلم، وعلى الحاكم المسلم أن يقيم هذه السلطة ويوفر لها الضمانات الكفيلة بحيدتها واستقلالها .
قال تعالى: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا" (النساء ، آية : 58).
وقال تعالى: "يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ" (ص ، آية : 28).
5 ـ حق الفرد في محاكمة عادلة:
البراءة هي الأصل، وهو مستصحب ومستمر حتى مع اتهام الشخص ما لم تثبت ادانته أمام محكمة عادلة إدانة نهائية، ولا تجريم إلا بنص، قال تعالى: " وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً" (الإسراء ، آية : 15).
ولا يحكم بتجريم شخص، ولا يعاقب على جرم إلا بعد ثبوت ارتكابه له بأدلة لا تقبل المراجعة أمام محكمة ذات طبيعة قضائية كاملة، قال تعالى: " إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا" (الحجرات ، آية : 6)، وقال تعالى: "إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا" (النجم ، آية : 28).
ولا يجوز ـ بحال ـ تجاوز العقوبة التي قدرتها الشريعة للجريمة، قال تعالى: " تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا" (البقرة ، آية : 229).
ولا يؤخذ إنسان بجريرة غيره، قال تعالى: " وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" (الإسراء ، آية : 15)، وكل إنسان مستقل بمسئوليته عن أفعاله، قال تعالى: " كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ" (الطور ، آية : 21).
ولا يجوز بحال أن تمتد المسألة إلى ذويه من أهل وأقارب أو أتباع وأصدقاء، قال تعالى: " مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّـآ إِذًا لَّظَالِمُونَ" (يوسف ، آية : 79) .
6 ـ حق الحماية من تعسف السلطة:
لكل فرد الحق في حمايته من تعسف السلطات معه، ولا يجوز مطالبته بتقديم تفسير لعمل من أعماله أو وضع من أوضاعه، ولا توجيه إتهام له إلا بناء على قرائن قوية تدل على تورطه فيما يوجه إليه، قال تعالى: " وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا" (الأحزاب ، آية : 158).
7 ـ حق الفرد في حماية عرضه وسمعته:
قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ" (الحجرات ، آية : 11).
عرض الفرد وسمعته حرمة لا يجوز انتهاكها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومك هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا .
ويحرم تتبع عوراته ومحاولة النيل من شخصيته وكيانه الأدبي .
قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ" (الحجرات ، آية : 12).
8 ـ حق اللجوء:
من حق كل مسلم مضطهد أو مظلوم أن يلجأ إلى حيث يأمن، في نطاق دار الإسلام وهو حق يكفله الإسلام لكل مضطهد، أيا كانت جنسيته أو عقيدته، أو لونه ويحمل المسلمين واجب توفير الأمن له متى لجأ إليهم.
قال تعالى: " وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ" ( التوبة ، آية : 6).
وبيت الله الحرام ـ بمكة المشرفة ـ هو مثابة وأمن للناس جميعاً لا يصد عنه مسلم، قال تعالى: " وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا" (آل عمران ، آية : 97)، وقال تعالى: " وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً" (البقرة ، آية : 25) .
9 ـ حقوق الأقليات:
الأوضاع الدينية للأقليات يحكمها المبدأ القرآني العام، قال تعالى: " لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" (البقرة ، آية : 256).
والأوضاع المدنية والأحوال الشخصية للأقليات ، تحكمها شريعة الإسلام إن هم تحاكموا إلينا ، قال تعالى: " فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ" (المائدة ، آية : 42)، فإن لم يتحاكموا إلينا كان عليهم أن يتحاكموا إلى شرائعهم ما دامت تنتمي ـ عندهم ـ لأصل إلهي: " وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ" (المائدة ، آية : 43).
وقال تعالى: " وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ" (المائدة ، آية : 47).
10 ـ حق المشاركة في الحياة العامة:
من حق كل فرد في الأمة أن يعلم بما يجري في حياتها، من شئون تتصل بالمصلحة العامة للجماعة وعليه أن يسهم فيها بقدر ما تتبع له قدرته ومواهبه إعمالاً لمبدأ الشورى، قال تعالى: " وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ" (الشورى ، آية : 28)، وكل فرد في الأمة أهل لتولي المناصب، والوظائف العامة، متى توافرت فيه شرائطها الشرعية، ولا تسقط هذه الأهلية أو تنقص تحت أي اعتبار عنصري أو طبقي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم" .
والشورى أساس العلاقة بين الحاكم والأمة، ومن حق الأمة أن تختار حكامها بإرادتها الحرة، تطبيقاً لهذا المبدأ، ولها الحق في محاسبتهم وفي عزلهم إذا حادوا من الشريعة، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إني وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة... أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم .
11 ـ حق الدعوة والبلاغ:
لكل فرد الحق أن يشارك مع غيره أو منفرداً في حياة المجتمع: دينياً واجتماعياً، وثقافياً وسياسياً... الخ وأن ينشئ من المؤسسات، ويصنع من الوسائل ما هو ضروري لممارسة هذا الحق، قال تعالى: قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي" (يوسف ، آية : 108).
من الحق لكل فرد ومن واجبه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن يطالب المجتمع بإقامة المؤسسات التي تهيء للأفراد الوفاء بهذه المسئولية، تعاوناً على البر والتقوى، قال تعالى: " وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ" (آل عمران ، آية : 104) ، وحق الإنسان في إنكار المنكر، ورفض الفساد، ومقاومة الظلم البين، والكفر البواح، قرره القرآن بقوله: " وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ" (هود ، آية : 13).
ــ قال تعالى: "لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ" (المائدة ، آية : 78 ـ 79)، كيف لا وقد قيد الله الطاعة للرسول نفسه بالمعروف، فقال في بيعة النساء: " وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ" (الممتحنة ، آية : 12). وقال على لسان نبي الله صالح: " وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ" (الشعراء ، آية : 151 ـ 152).
بل إن الإسلام قد ارتقى بهذه الأمور من مرتبة الحقوق إلى مرتبة الفرائض والواجبات لأن ما كان من الحقوق يمكن لصاحبه أن يتنازل عنه، أما الواجبات المفروضة فلا يجوز التنازل عنها .
12 ـ الحقوق الاقتصادية:
الطبيعة ـ بثرواتها جميعاً ـ ملك لله تعالى: " لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (المائدة ، آية : 120)، وهي عطاء منه للبشر، منحهم حق الانتفاع بها، قال تعالى: " وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ" (الجاثية ، آية : 13).
وحرم عليهم إفسادها وتدميرها، قال تعالى: " وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ" (الشعراء ، آية : 183).
ولا يجوز لأحد أن يجرم آخر أو يعتدي على حقه في الانتفاع بما في الطبيعة من مصادر الرزق: " وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا" (الإسراء ، آية : 20).
فلكل إنسان الحق في العمل والمشي في مناكب الأرض سعياً لكسب رزقه، قال تعالى: " هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ" (الملك ، آية : 15).
حتى في يوم الجمعة قال تعالى: " فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ" (الجمعة ، آية : 10).
وفي الحج قال تعالى: " لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ" (البقرة ، آية : 198).
ولكل إنسان الحق في أن يتمتع بثمرة ما كسب من حلال عن طريق التملك، رجلاً كان أو امرأة: " لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ" ( النساء ، آية : 32) .
13 ـ حق حماية الملكية:
لا يجوز انتزاع ملكية، نشأت عن كسب حلال، إلا للمصلحة العامة قال تعالى: " وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ" (البقرة ، آية : 188).
ومع تعويض عادل لصاحبها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أخذ من الأرض شيئاً بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين . وحرمة الملكية العامة أعظم، وعقوبة الاعتداء عليها أشد، لأنه عدوان على المجتمع كله وخيانة للأمة بأسرها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً، فما أخذ بعد ذلك فهو غلو له" .
14 ـ حق العامل:
العمل: شعار رفعه الإسلام لمجتمعه، قال تعالى: " وَقُلِ اعْمَلُواْ" (التوبة ، آية : 105).
وإذا كان حق العمل الاتقان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه" .
فإن حق العامل:
ــ أن يوفي أجره المكافي لجهده دون حيف عليه أو مماطلة له، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه" .
ــ أن توفر له حياة كريمة تناسب مع ما يبذله من جهد وعرق.
ــ أن يمنح ما هو جدير به من تكريم المجتمع كله له، قال تعالى: " وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ" (التوبة ، آية : 105).
ــ أن يجد الحماية، التي تحول دون غبنه واستغلال ظروفه .
15 ـ حق الفرد في كفايته من مقومات الحياة:
من حق الفرد أن ينال كفايته من ضروريات الحياة، من طعام وشراب، وملبس ومسكن.. ومما يلزم لصحة بدنه من رعاية، وما يلزم لصحة روحه، وعقله من علم ومعرفة وثقافة في نطاق ما تسمع به موارد الأمة ويمتد واجب الأمة ليشمل ما لا يستطيع الفرد أن يستقل هو بتوفيره لنفسه من ذلك .
قال تعالى: " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ" (الحجرات ، آية : 10). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله" .
قال ابن حزم تعليقاً على هذا الحديث: من تركه يجوع ويعري وهو قادر على إطعامه وكسوته فقد أسلمه . إن الأخوة ليست مجرد عاطفة، ولكنها عقد تكافل وتعاون وتآزر وهو عقد طرفه الأساسي الأمة ممثلة في مستويات متراتبة تبدأ بالأسرة حيث أوجب على أفرادها التكافل في الإرث والوصية والنفقة، قال تعالى: " وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ" (الأنفال ، آية : 75).
ثم الجيرة: قال تعالى: " وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ" (النساء ، آية : 36)، ثم يأتي أهل الحي ثم المجتمع كله عن طريق الزكاة وهي فريضة ملزمة ثم النفقة التطوعية .
16 ـ تأكيد حقوق الضعفاء:
قرر القرآن الكريم حقوق الإنسان عامة، ولكنه عُني عناية فائقة بحقوق الضعفاء من بني الإنسان خاصة خفية أن يجور عليهم الأقوياء، أو يهمل أمرهم الحكام والمسئولون، نجد مظاهر هذه العناية في سور القرآن الكريم مكية ومدنية، كقوله تعالى: " فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ" (الضحي ، آية : 9)، وفي سورة المدثر يتحدث عن المجرمين في سقر وأسباب دخولهم فيها، فيقول على لسان أصحاب اليمين حيث يسألونهم: " مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِم الْمِسْكِينَ" (المدثر ، آية : 42 ـ 44)، وهاتان السورتان الضحى والمدثر ـ من أوائل ما نزل وفي سورة الماعون: " أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ" (الماعون ، آية : 1 ـ 3).
فلم يكتف بإيجاب إطعام المسكين بل أوجب الحض على ذلك والدعوة إليه.
وفي سورة الحاقة، علل القرآن دخول صاحب الشمال الجحيم بقوله تعالى: " إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ" (الحاقة ، آية : 33 ـ 34)، فقرن الحض على الإيمان أو قرن ترك الحض بالكفر بالله تعالى، وفي سورة الفجر خاطب القرآن المجتمع الجاهلي المتظالم بقوله: " كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ" (الفجر ، آية : 17 ـ 18).
وأمر بالمحافظةعلى مال اليتيم ـ إن كان له مالـ إذ جعل ذلك من وصاياه العشر في سورة الأنعام: " وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ" (الأنعام ، آية : 152)، وكرر هذه الوصية في (الإسراء ، آية : 34).
وفي سورة النساء وضع القواعد للمحافظة على مال اليتيم وحسن استغلاله وتنميته بالمعروف في جملة من الآيات انتهت بوعيد شديد قال تعالى: "إنَّ الَّذينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا" (الناء ، آية : 10) .
وقد جعل القرآن للمساكين واليتامى إذا كانوا فقراء حظاً في أموال الدولة من الزكاة والفيء وخمس الغنيمة.
قال تعالى:" إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ" (التوبة، آية : 60).
وقال تعالى:" مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ" (الحشر، آية : 7).
وإنما جعلنا الزكاة من أموال الدولة لأن الله أمر ولي الأمر بأخذها، فقال:" خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا" (التوبة، آية : 103).
فإذا لم تتول الدولة أخذها، كان على أرباب الأموال أداؤها إلى الفقراء يبحثون هم عن الفقراء ولا يبحث الفقراء عنهم.
كما جعل لهم حقاً في أموال أقاربهم وسائر الأمة بعد ذلك، قال تعالى:" لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ" (البقرة، آية : 177).
قال تعالى:" وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ" (الإسراء، آية : 26).
وقال تعالى:" يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ" (البقرة، آية : 215).
وأهم من ذلك كله: أن القرآن شرع القتال وسل السيوف للدفاع عن المستضعفين في الأرض، بل حرض أبلغ التحريض على القتال ذوداً عن حرماتهم، ودرءاً للظلم عنهم، قال تعالى:" فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا" (النساء، آية : 74ـ 75).
هذه بعض الحقوق التي قررها القرآن للإنسان ولا نقول: أعلنها، إذ كان الأمر أكبر من إعلان، إنه بلاغ من رب الناس للناس، أسست عليه عقيدة، ونهضت على أساسه ثقافة وتربية، وبنى عليه فقه وتشريع، وقامت عليه دولة وأمة، وامتدت به حضارة وتاريخ

عاشراً: تكوين الأسرة الصالحة:
ومن المقاصد التي هدف إليها القرآن الكريم، تكوين الاسرة الصالحة، التي هي ركيزة المجتمع الصالح، ونواة الأمة الصالحة .
ولا ريب أن أساس تكوين الاسرة هو الزواج الذي يربط بين الرجل والمرأة رباطاً شرعياً وثيق العُرى، مكين البيان، مؤسساً على تقوى من الله ورضوان وقد اعتبر القرآن هذا الزواج آية من آيات الله، مثل خلق السموات والأرض، وخلق الإنسان من تراب وذلك في قوله تعالى:" وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (الروم، آية : 21).
فأشار إلى الدعائم الثلاثة التي تقوم عليها الحياة الزوجية، كما يرشد إليها القرآن، وهي السكون، والمودة، والرحمة، ويعني بالسكون: سكون النفس من اضطرابها وثورانها توقاً إلى الجنس الآخر، بالإشباع المشروع في ظل مرضاة الله، فلا يعرف الإسلام الأسرة إلا بين رجل وإمرأة، منذ الاسرة البشرية الأولى من آدم وزوجه " اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ" (البقرة، آية : 35).
لا يعرف ما يدعو إليه المتحللون من الغربيين اليوم من الأسرة الوحيدة الجنس، بحيث يتزوج الرجل الرجل، والمرأة المرأة، وهذا أمر ضد الفطرة، وضد الأخلاق، وضد الشرائع، وهو للأسف ما حاول مؤتمر السكان في القاهرة "1994م" ومؤتمر المرأة في بكين أن يفرضاه على العالم .
وبهذا يقاوم القرآن الكريم نزعتين منحرفتين:
أولهما: نزعة "الرهبانية" المنافية للفطرة، التي تحرم الزواج، وتنظر إلى الغريزة الجنسية وكأنها رجس من عمل الشيطان، وتنفر من ظل المرأة، ولو كانت أختاً أو أماً، لأنها أحبولة الشيطان.
وثانيها: نزعة "الإباحية" التي تطلق العنان للغريزة، بلا ضابط ولا رابط، وتنادي بحرية الاستمتاع الجنسي بين الرجل والمرأة، دون ارتباط بمسؤولية شرعية، تتكون من خلالها حياة زوجية ذات هدف، تنشأ منها أسرة مترابطة، تقوم على أمومة حانية، وأبوة راعية ونبوة بارّة وأخوة عاطفة وتتربى في ظلها مشاعر المحبة وعواطف الإيثار والتعاون .
استهدف الشارع عدة مقاصد من تكوين الاسرة منها:
1ـ حفظ النسل:
وتحقيقاً لهذا المقصد قصر الإسلام الزواج المشروع على ما يكون بين ذكر وأنثى وحرّم كل صور اللقاء خارج الزواج المشروع، كما حرّم العلاقات الشاذة التي لا تؤدي إلى الإنجاب، وفي هذا تعمير للأرض وتواصل للأجيال، قال الله جل شأنه:" هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" (هود، آية : 61) .
وقال تعالى:" وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً" (النحل، آية : 72).
وكان من دعاء عباد الرحمن " رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا" (الفرقان، آية : 74).
وقال الخليل إبراهيم " رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ*  فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ" (الصافات، آية : 100 ـ 101).
وقال زكريا عليه السلام " فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا" (مريم، آية : 5 ـ 6).
فجاء الجواب الإلهي " يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا" (مريم، آية : 7).
2 ـ تحقيق السكن والمود والرحمة:
وشرعت أحكاماً وآداب بالمعاشرة بالمعروف بين الزوجين حتى لا تنحصر العلاقة بين الزوجين في صورة جسدية بحتة، قال الله تعالى: " وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ" (النساء ، آية : 19)؟
والمعروف هنا ما يقره العرف السليم، واعتاده أهل الاعتدال والاستقامة من الناس، قال تعالى: " أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ" (البقرة ، آية : 187)، وإنما عبر عن هذه العلاقة باللباس، لما توحي به الكلمة من الزينة والستر واللصوق والدفء، قال تعالى: " فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ" (آل عمران ، آية : 195). ومعنى " بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ": إن المرأة من الرجل والرجل من المرأة، فلا خصومة ولا تناقض، بل تكامل وتناسق وتعاون .
3 ـ حفظ النسب:
ولهذا المقصد أبطل الله تعالى نظام التبني وأمرنا بارجاع نسب الأولاد بالتبني إلى أنسابهم الحقيقية، قال الله جل شأنه: "وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ {4} ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا" (الأحزاب ، آية : 4 ـ 5).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما رجل دعا إلى غير والديه، أو تولى غير مواليه الذين أعتقوه، فإن عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين إلى يوم القيامة، لا يقبل منه صرف  ولا عدل .
ولأجل حفظ النسب حرم الإسلام أيضاً الزنا، وشرعت الأحكام الخاصة بالعدة، وعدم كتم ما في الأرحام، وإثبات النسب وجحده، وهي أحكام لها تفصيلها في مظانها من المراجع الفقهية .
4 ـ الاحصان:
يوفر الزواج الشرعي صون العفاف، ويحقق الاحصان، ويحفظ الأعراض، ويسد ذرائع الفساد الجنسي بالقضاء على فوضى الإباحية والانحلال ، وقد اختص الإسلام بمراعاته للفطرة البشرية وقبولهم بواقعه، ومحاولة تهذيبها والارتقاء بها لا كبتها وقمعها، قال الله جل شأنه: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ" (النساء ، آية : 14)، وهي شهوات مستحبة مستلذة لكنها يجب أن توضع في مكانها لا تتعداها ولا تطغى على ما هو أكرم في الحياة وأعلى .
والقرآن الكريم لا يضع أي قيد على الاستمتاع بين المرء وزوجه: " نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ" (البقرة ، آية : 223)، ما دام الاستمتاع في موضع الحرث وفي غير موضع الأذي وزمانه، قال تعالى: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ"( البقرة ، آية : 222) .
5 ـ حفظ التدين في الأسرة:
الأسرة هي محضن الأفراد، ولا برعاية أجسادهم فقط، بل الأهم غرس القيم الدينية والخلقية في نفوسهم، وتبدأ مسئولية الأسرة في هذا المجال قبل تكون الجنين بحسن اختيار كل من الزوجين إلى الآخر، وأولوية المعيار الديني والخلقي في هذا الاختيار .
قال تعالى: "وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ" (البقرة ، آية : 221).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه زوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" .
وتستمر مسئولية الأسرة بتعليم العقيدة والعبادة والأخلاق لأفراد الأسرة، وتدريبهم على ممارستها ومتابعة ذلك حتى بلوغ الأطفال رشدهم واستقلالهم بالمسئولية الدينية عن تصرفاتهم .
قال تعالى: " وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى" (طه ، آية : 32).
وقال جل شأنه عن النبي إسماعيل عليه السلام: " وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ
وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا" (مريم ، آية : 55).
وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" (التحريم ، آية : 6).

الحادي عشر: إنصاف المرأة وتحريرها من ظلم الجاهلية:
من أهم ما جاء به القرآن الكريم هنا: إنصاف المرأة وتحريرها من ظلم الجاهلية وظلامها، ومن تحكم الرجل في مصيرها بغير حق، فكرم القرآن المرأة وأعطاها حقوقها بوصفها إنساناً وكرمها بوصفها أنثى، وكرمها بوصفها بنتاً، وكرمها بوصفها زوجة، وكرمها أماً، وكرمها بوصفها عضواً في المجتمع .
لقد جاء الإسلام وبعض الناس ينكرون إنسانية المرأة، وآخرون يرتابون فيها، وغيرهم يعترف بإنسانيتها، ولكنه يعتبرها مخلوقاً خلق لخدمة الرجل، فكان من فضل الإسلام أنه كرم المرأة، وأكد إنسانيتها، وأهليتها للتكليف، والمسئولية والجزاء ودخول الجنة، واعتبرها إنساناً كريماً له كل ما للرجل من حقوق إنسانية، لأنهما فرعان من شجرة واحدة، وأخوان ولدهما أب واحد هو آدم، وأم واحدة هي حواء، فهما متساويان في أصل النشأة، متساويان في الخصائص الإنسانية العامة، متساويان في التكاليف والمسئولية، متساويان في الجزاء والمصير ، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا" (النساء ، آية : 1).
وإذا كان الناس ـ كل الناس ـ رجالاً ونساءً، خلقهم ربهم من نفس واحدة وجعل من هذه النفس زوجاً تكملها وتكتمل بها، كما قال في آية أخرى: " وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا" (الأعراف ، آية : 2)، وبث في هذه الأسرة الواحدة رجالاً كثيراً ونساءً، كلهم عباد لرب واحد، وأولاد لأب واحد وأم واحدة، فالأخوة تجمعهم.ولهذا أمرت الآية الناس بتقوى الله، ورعاية الرحم الواشجة بينهم: " وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ" (النساء ، آية : 1).
والرجل ـ بهذا النص ـ أخ المرأة، والمرأة شقيقة الرجل، وفي هذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما النساء الشقائق الرجال" .
1 ـ في مساواة المرأة للرجل في التكليف والتدين والعبادة:
يقول القرآن الكريم: "إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا" (الأحزاب ، آية : 35).
2 ـ في التكاليف الدينية الاجتماعية الأساسية:
يسوِّي القرآن بين الجنسين بقوله تعالى: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ" (التوبة ، آية : 71).
3 ـ وفي قصة آدم توجَّه التكليف الإلهي: إليه وإلى زوجه سواء، قال تعالى: " يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ" (البقرة ، آية : 35).
والجديد في هذه القصة ـ كما ذكرها القرآن ـ أنها نسبت الإغواء إلى الشيطان لا إلى حواء ـ كما فعلت التوراة المحرفة: " فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ" (البقرة ، آية : 36).
ولم تنفرد حواء بالأكل من الشجرة ولا كانت البادئة، بل كان الخطأ منهما معاً، كما كان الندم والتوبة منهما جميعاً: " رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (الأعراف ، آية : 83).
بل في بعض الآيات نسبة الخطأ إلى آدم بالذات وبالأصالة: " وَلَقَدْ عَهِدْنَا
إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا" (طه ، آية : 115)، " فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ
الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى" (طه ، آية : 12).
وقال تعالى: " وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى" (طه ، آية : 121).
كما نسب إليه التوبة وحده أيضاً،: " ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى" (طه ، آية : 122)، مما يفيد أنه الأصل في المعصية وامرأته تبع له.
ومهما يكن الأمر فإن خطيئة حواء لا يحمل تبعتها إلا هي، وبناتها براء من إثمها، ولا تزر وازرة وزر أخرى: " تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (البقرة ، آية : 134).
4 ـ وفي مساواة المرأة للرجل في الجزاء: ودخول الجنة يقول الله تعالى: "فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ" (آل عمران ، آية : 195)، فنص القرآن  في صراحة على أن الأعمال لا تضيع عند الله، سواء إكان العامل ذكراً أم أنثى، فالجميع بعضهم من بعض، من طينة واحدة، وطبيعة واحدة، قال تعالى: " مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" (النحل ، آية : 97).
ــ وقال تعالى: " وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا" (النساء ، آية : 124).
5 ـ وفي الحقوق المالية للمرأة: أبطل الإسلام ما كان عليه كثير من الأمم ـ عرباً وعجماً ـ من حرمات النساء من التملك والميراث، أو التضييق عليهن في التصرف فيما يملك واستبداد الأزواج بأموال المتزوجات منهن، فأثبت لهن حق التملك بأنواعه وفروعه، وحق التصرف بأنواعه المشروعة، فشرع الوصية والإرث لهن كالرجال، وأعطاهن حق البيع والشراء والإجارة والهبة والإعارة، والوقف والصدقة والكفالة والحوالة والرهن وغير ذلك من العقود والأعمال ويتبع ذلك حقوق الدفاع عن مالها، كالدفاع عن نفسها ـ بالتقاضي وغيره من الأعمال المشروعة .
6 ـ المرأة باعتبارها أماً:
لا يعرف التاريخ ديناً ولا نظاماً كرَّم المرأة باعتبارها أماً، وأعلى من مكانتها، مثل الإسلام، لقد أكد الوصية بها وجعلها تالية للوصية بتوحيد الله وعبادته، وجعل برها من أصول الفضائل، كما جعل حقها أوكد من حق الأب لما تحملته من مشاق الحمل والوضع والإرضاع والتربية، وهذا ما يقرره القرآن ويكرره في أكثر من سورة ليثبته في أذهان الأبناء ونفوسهم وذلك في مثل قوله تعالى:" وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ" (لقمان، آية : 14)، وقال تعالى:" وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا  وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا" (الأحقاف، آية : 15) .
ومن توجيهات القرآن الكريم: أنه وضع أمام المؤمنين والمؤمنات أمثلة وقدوة حسنة لأمهات صالحات، كان لهن أثر ومكان في تاريخ الإيمان.
ــ فأم موسى تستجيب إلى وحي الله وإلهامه، وتلقى ولدها وفلذه كبدها في اليمّ، مطمئنة إلى وعد ربها قال تعالى:" وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ" (القصص، آية : 7).
ــ وأم مريم التي نذرت ما في بطنها محرراً لله، خالصاً من كل شرك أو عبودية لغيره، داعية الله أن يتقبل منها نذرها قال تعالى:" فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" (آل عمران، آية : 35).
ــ فلما كان المولد أنثى على غير ما كانت تتوقع لم يمنعها ذلك من الوفاء بنذرها، سائلة الله أن يحفظها من كل سوء قال تعالى:" وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ
وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" (آل عمران، آية : 36).
ــ ومريم ابنة عمران أم المسيح عيسى، جعلها القرآن آية في الطهر  القنوت لله والتصديق بكلماته:" وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ" (التحريم، آية : 12) .
7ـ المرأة باعتبارها بنتا:
كان العرب في الجاهلية يتشاءمون بميلاد البنات، ويضيقون به، حتى قال أحد الآباء ـ وقد بشر بأن زوجه ولدت أنثى: والله ما هي بنعم الولد نصرها بكاء وبرها سرقة. يريد أنها لا تستطيع أن تنصر أباها وأهلها إلا بالصراخ والبكاء، لا بالقتال والسلاح، ولا أن تبرهم إلا بأن تأخذ من مال زوجها لأهلها.
وكانت التقاليد المتوارثة عندهم تبيح للأب أن يئد ابنته ـ يدفنها حية ـ خشية من فقر قد يقع، أو من عار قد تجلبه حين تكبر على قومها وفي ذلك يقول القرآن منكراً عليهم ومقرعاً لهم:" وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ" (التكوير، آية : 8 ـ 9).
ويصف حال الآباء عند ولادة البنات، قال تعالى:" وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ" (النحل، آية : 58 ـ 59).
وكانت بعض الشرائع القديمة تعطى الأب الحق في بيع ابنته إذا شاء وبعضها الآخر ـ كشريعة حمورابي ـ تجيز له أن يسلمها إلى رجل آخر ليقتلها.
جاء الإسلام فاعتبر البنت كالابن ـ هبة من الله ونعمة ـ يهبها لمن يشاء من عباده، قال تعالى: " يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ" (الشورى ، آية :  49 ـ 59).
وبين القرآن الكريم في قصصه أن بعض البنات قد تكون أعظم أثراً وأخلد ذكراً، من كثير من الأبناء الذكور، كما في قصة مريم ابنة عمران التي اصطفاها الله وطهرها واصطفاها على نساء العالمين، وقد كانت أمها عندما حملت بها تتمنى أن تكون ذكراً يخدم الهيكل، ويكون من الصالحين ، قال تعالى: "إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا" (آل عمران ، آية : 35 ـ 37).
وجعل رسول الإسلام الجنة جزاء كل أب يحسن صحبة بناته، ويبر على تربيتهن وحسن تأديبهن، ورعاية حق الله فيهن، حتى يبلغن، أو يموت عنهن، وجعل منزلته بجواره ـ صلى الله عليه وسلم ـ في دار النعيم المقيم، قال صلى الله عليه وسلم: "من كان له ثلاث بنات، فصبر على لأوائهن وضرائهن وسرائهن، أدخله الله الجنة برحمته إياهن، فقال رجل واثنتان يا رسول الله؟ قال: واثنتان. قال رجل: يا رسول الله، وواحدة، قال: وواحدة .
لم تعد ولادة البنت عبئاً يُخاف منه، وطالع نحس يُتطير به، بل نعمة تُشكر ورحمة تُرجى وتُطلب، لما وراءها من فضل الله تعالى، وجزيل مثوبته، وبهذا أبطل الإسلام عادة الوأد إلى الأبد، وأصبح للبنت في قلب أبيها مكان عميق .
8 ـ المرأة باعتبارها زوجة:
كانت بعض الديانات والمذاهب تعتبر المرأة رجساً من عمل الشيطان يجب الفرار منه واللجوء إلى حياة التبتل والرهبنة، وبعضها الآخر كان يعتبر الزوجة مجرد آلة متاع للرجل، أو طاهٍ لطعامه أو خادم لمنزله، فجاء الإسلام يعلن بطلان الرهبانية وينهي عن التبتل ويحث على الزواج ويعتبر الزوجية آية من آيات الله في الكون، قال تعالى: " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (الروم ، آية : 21).
وقرر الإسلام للزوجة حقوقاً على زوجها، ولم يجعلها مجرد حبر على ورق، بل جعل عليها أكثر من حافظ ورقيب، من إيمان المسلم وتقواه أولاً، ومن ضمير المجتمع ويقظته ثانياً، ومن حكم الشرع وإلزامه ثالثاً.
وأول هذه الحقوق ((الصداق)): الذي أوجبه الله للمرأة على الرجل إشعاراً منه برغبته فيها وإرادته لها قال تعالى: " وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا" (النساء ، آية : 4).
فأين هذا من المرأة التي نجدها في مدنيات أخرى، فدفع هي للرجل بعض مالها، مع أن فطرة الله جعلت المرأة مطلوبة لا طالبة؟
وثاني هذه الحقوق: هو "النفقة" فالرجل مكلف بتوفير المأكل والملبس والمسكن والعلاج لامرأته بالمعروف والمعروف هو ما يتعارف عليه أهل الدين والفضل من الناس بلا إسراف ولا تقتير، قال تعالى:" لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا" (الطلاق، آية : 7).
وثالث الحقوق: هو "المعاشرة بالمعروف" قال تعالى:" وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ" (النساء، آية : 19).
وهو حق جامع يتضمن إحسان المعاملة في كل علاقة بين المرء وزوجه، من حسن الخلق، ولين الجانب، وطيب الكلام، وبشاشة الوجه، وتطييب نفسها بالممازحة والترفيه عنها.
وفي مقابل هذه الحقوق أوجب عليها طاعة الزوج ـ في غير معصية طبعاً ـ والمحافظة على ماله، فلا تنفق منه إلا بإذنه وعلى بيته، فلا تدخل فيه أحداً إلا برضاه ولو كان من أهلها.
وهذه الواجبات ليست كثيرة ولا ظالمة في مقابل ما على الرجل من حقوق فمن المقرر أن كل حق يقابله واجب، ومن عدل الإسلام أنه لم يجعل الواجبات على المرأة وحدها ولا على الرجل وحده، بل قال تعالى:" وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ" (البقرة، آية : 228).
فللنساء من الحقوق مثل ما عليهن من الواجبات ومن جميل ما يروى أن أبن عباس ـ رضي الله عنه ـ وقف أمام المرآة يصلح هيئته، ويعدل من زينته، فلما سئل في ذلك قال: أتزين لامرأتي كما تتزين لي امرأتي، ثم تلا الآية الكريمة " وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ".
وهذا من عميق فقه الصحابة للقرآن الكريم .
ولم يهدر الإسلام شخصية المرأة بزوجها، ولم يذبها في شخصية زوجها، كما هو الشأن في التقاليد الغربية التي تجعل المرأة تابعة للرجل، فلا تُعرف بأسمها ونسبها ولقبها العائلي، بل بأنها زوجة فلان.
أما الإسلام فقد أبقى للمرأة شخصيتها المستقلة المتميزة، ولهذا عرفنا زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم بأسمائهن وأنسابهن، فخديجة بنت خويلد، وعائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وميمونة بنت الحارث، وصفية بنت حيي وكان أبوها يهودياً محارباً للرسول صلى الله عليه وسلم.
كما أن شخصيتها المدنية لا تنقص بالزواج، ولا تفقد أهليتها للعقود والمعاملات وسائر التصرفات، فلها أن تبيع وتشتري، وتؤجر أملاكها وتستأجر وتهب من مالها وتتصدق وتوكل وتخاصم.
وهذا أمر لم تصل إليه المرأة الغربية إلا حديثاً، ولازالت في بعض البلاد مقيَّدة إلى حدَّ ما بإرادة الزوج .
9ـ المحافظة على أنوثة المرأة:
الإسلام يحافظ على أنوثة المرأة، حتى تظل ينبوعاً لعواطف الحنان والرقة والجمال، ولهذا أحلّ لها بعض ما حُرِّم على الرجال، بما تقتضيه طبيعة الأنثى ووظيفتها، كالتحلي بالذهب، ولبس الحرير الخالص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم .
كما أنه حرّم عليها كل ما يجافي هذه الأنوثة، من التشبه بالرجال في الزي والحركة والسلوك وغيرها، فنهى أن تلبس المرأة لبسة الرجل، كما نهى الرجل أن يلبس لبسة المرأة، ولعن المتشبهات من النساء بالرجال، مثلما لعَن المتشبهين من الرجال بالنساء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة ، والديوث .
والإسلام يحمي هذه الأنوثة ويرعي ضعفها فيجعلها أبداً في ظل رجل مكفولة النفقات، مكفية الحاجات، فهي في كف أبيها أو زوجها أو أولادها أو إخوتها يجب عليهم نفقتها، وفق شريعة الإسلام، فلا تضطرها الحاجة إلى الخوض في لجج الحياة وصراعها ومزاحمة الرجال بالمناكب.
والإسلام يحافظ على خُلُقها وحيائها، ويحرص على سمعتها وكرامتها ويصون عفافها من خواطر السوء، وألسنة السوء ـ فضلاً عن أيدي السوء أن تمتد إليها.
ولهذا يوجب الإسلام عليها ؟
أ ــ الغض من بصرها والمحافظة على عفتها ونظافتها:
قال تعالى:" وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ" (النور، آية : 31).
ب ــ الاحتشام والتستر في لباسها وزينتها دون إعنات لها ولا تضييق عليها: قال تعالى:" وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ" (النور، آية : 31).
ج ــ ألا تبدي زينتها الخفية ـ كالشعر والعنق والنحر والذراعين والساقين ـ إلا لزوجها ومحارمها الذين يشق عليها أن تستر منهم أستتارها من الأجانب:" وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء" (النور، آية : 31).
د ــ أن تتوقر في مشيتها وكلامها قال تعالى:" وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ" (النورن آية : 31).
وقال:" فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا" (الأحزاب، آية : 32). فليست ممنوعة من الكلام، وليس صورتها عورة، بل هي مأمورة، أن تقول قولا معروفا .
هـ ــ أن تتجنب كل ما يجذب انتباه إليها: ويغريه بها، من تبرج الجاهلية الأولى أو الأخيرة، فهذا ليس من خلق المرأة العفيفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّما امرأة استعطرت ثم خرجت من بيتها ليشم الناس ريحها فهي زانية .
(و) أن تمتنع عن الخلوة بأي رجل ليس زوجها ولا محرْما لها صوناً لنفسها ونفسه من هو اجس الإثم، ولسمعتها من ألسنة الزور، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يخلون رجل بأمرأة إلا مع ذي محرم .
(ز) ألا تختلط بمجتمع الرجال الأجانب إلا لحاجة داعية، ومصحة معتبرة وبالقدر اللازم، كالصلاة في المسجد، وطلب العلم والتعاون على البر والتقوى، بحيث لا تحرم المرأة من المشاركة في خدمة مجتمعها، ولا تنسى الحدود الشرعية في لقاء الرجال.
إن الإسلام بهذه الأحكام يحمي أنوثة المرأة من أنياب المفترسين من ناحية ويحفظ عليها حياءها وعفافها بالبعد عن عوامل الإنحراف والتضليل من ناحية ثانية، ويصون عرضها من ألسنة المفترين والمرجفين من ناحية ثالثة، وهو ـ مع هذا كله ـ يحافظ على نفسها وأعصابها من التوتر والقلق، ومن الهزات والاضرابات، نتيجة لجموع الخيال، وانشغال القلب، وتوزع عواطفه بين شتى المثيرات والمهيّجات وهو أيضاً ـ بهذا الأحكام والتشريعات ـ يحمي الرجل من عوامل الإنحراف والقلق ويحمي المجتمع كله من عوامل السقوط والإنحلال .
الثاني عشر: بناء الأمة الشهيدة على الناس:
من أهداف الإسلام الأساسية، تكوين "الأمة" متميزة واستطاع النبي صلى الله عليه وسلم تحقيق ذلك وفق رؤية واضحة مبنية على عقيدة راسخة وشريعة حاكمة وتخلص العرب من الفرقة والشتات والعصبيات القبلية والنعرات الجاهلية، وانتقلوا نقلة كبيرة في عالم الفكر وعالم الشعور، وعالم الشعور، وعالم الواقع، وأصبحت تلك القبائل أمة واحدة، تعبد إله واحد وتخضع لكتاب واحد وتنقاد لزعامة الرسول صلى الله عليه وسلم المبين والمعتبر والموضح لهم التعاليم الإلهية، وأصبحت هذه الأمة لا تقوم على رابطة عرقية ولا لونية ولا إقليمية ولا طبقية بل هي أمة عقيد ورسالة قبل كل شيء.
هي أمة الإسلام أو أمة المسلمين كما قال الله تعالى:" هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ" (الحج، آية : 78) .
فقد أخرج الله الأمة المسلمة ـ التي قادها النبي صلى الله عليه وسلم ـ لتؤدي دوراً كونياً كبيراً، ولتحمل منهجاً إلهياً عظيماً، ولتنشىء في الأرض واقعاً فريداً، ونظاماً جديداً، وهذا الدور الكبير يقتضي التجرد والعطاء، والتميز والتماسك وبتعبير مختصر يقتضي أن تكون طبيعة هذه الأمة من العظمة بحيث تسامي عظمة الدور الذي قدره الله لها في هذه الحياة وتسامي المكانة التي أعدها الله لها في الآخرة.
ولم تنل هذه الأمة هذه المكانة السامقة بين الأمم مصادفة ولا جزافاً ولا محاباة، فالله سبحانه وتعالى منزه عن أن يكون في ملكه شيء من ذلك، فكل شيء عنده بمقدار، وهو يخلق ما يشاء ويختار، وهو سبحانه عندما أخبر أن هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، بين وجه ذلك وعلته في نفس الآية، فقال تعالى: " كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ" (آل عمران ، آية : 110)، فبهذه الأمور الثلاثة العظيمة القدر كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، على أن هذه الأمور ليست هي كل ما كانت به هذه الأمة خير أمة إذ هناك أمور وخلال كثيرة أهلت هذه الأمة لهذه الخيرية، ولكن هذه الثلاثة أهمها وأعظمها، إذ لا تدوم ولا تستمر هذه الخيرية ولا تحفظ إلا بإقامتها وأدائها، فإن فقدت هذه الأمور في جيل من الأجيال هذه الأمة لم يكن حريَّاً بهذه الخيرية التي حظيت بها .
ــ أوصاف الأمة الأساسية في القرآن:
أبرز ما يميز هذه الأمة عن غيرها من الأمم أوصاف أربعة:
1 ـ الربانية: ربانية المصدر، وربانية الوجهة، فهي أمة أنشأها وحي الله تعالى وتعهدتها تعاليمه وأحكامه هي من اكتمل لها دينها، وتمت به نعمة الله عليها، كما قال تعالى: " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا" (آل عرمان ، آية : 3).
قال تعالى هو صانع هذه الأمة، ولهذا نجد القرآن الكريم يقول: " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا" (البقرة ، آية : 143)، فهذا التعبير " جَعَلْنَاكُمْ" يفيد أن الله هو جاعل هذه الأمة ومستخدمها وصانعها.
ومثل ذلك قوله تعالى: " كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" (آل عمران ، آية : 110)، فتعبير "أُخْرِجَتْ" يدل على أن هناك مُخرجاً أخرج هذه الأمة،  فهي لم تظهر اعتباطاً، ولم تكن نباتاً برياً ينبت وحده دون أن يزرعه زارع، بل هو نبات مقصود متعهِّد بالعناية والرعاية والذي أخرج هذه الأمة وزرعها وهيأها لرسالتها هو الله جل شأنه.
فهي أمة مصدرها رباني، ووجهتها ربانية كذلك، لأنها تعيش لله، ولعبادة الله، ولتحقيق منهج الله في أرض الله فهي من الله وإلى الله، كما قال تعالى لرسوله: " قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162} لاَ شَرِيكَ لَهُ" (الأنعام ، آية : 162 ـ 163).
2 ـ الوسطية:
والثاني: الوسطية التي تؤهل هذه الأمة للشهادة على الناس وثبوتها مكان الأستاذية للبشرية، وفيها جاءت الآية الكريمة: " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" (البقرة ، آية : 143).
ومن وسطية شاملة جامعة، وسطية في الاعتقاد والتصور ووسطية في الشعائر والتعبد ووسطية في الأخلاق والسلوك، ووسطية في النظم والتشريع ووسطية في الأفكار والمشاعر، وسطية بين الروحية والمادية، بين المثالية والواقعية، بين العقلانية والوجدانية، بين الفردية والجماعية بين الثبات والتطور .
إنها الأمة التي تمثل  "الصراط المستقيم" بين السبل المتعرجة والملتوية، صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين لا صراط المغضوب عليهم ولا الضالين.
3 ـ الدعوة:
والوصف الثالث: الدعوة فهي أمة دعوة ورسالة وليست أمة منكفئة عن نفسها تحتكر رسالة الحق والخير والهداية لذاتها، ولا تعمل على نشرها في الناس، بل الدعوة فريضة عليها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الإيمان بالله أساس تفضيلها على كل الأمم.
إن رسالة الإسلام رسالة عالمية رسالة لكل الأجناس، ولكل الألوان، ولكل الأقاليم، ولكل الشعوب، ولكل اللغات.
قال تعالى:" تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا" (الفرقان، آية 1).
وقال تعالى:" قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا" (الأعراف، آية : 158).
4ــ الوحدة:
والوصف الرابع: الوحدة: فالأمة التي يريدها الإسلام أمة الوحدة، وإن تكونت من عروق وألوان وطبقات فقد صهرها الإسلام جميعاً في بوتقته، وأذاب القوارق بينها وربطها بالعروة الوثقى لا انفصام لها.
ــ قال تعالى:" إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" (الأنبياء، آية : 92).
ــ وقال تعالى:" وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ" (المؤمنون، آية : 52).
ولهذا لا يجوز أن تقول في تعبيرنا: الأمم الإسلامية، بل الأمة الإسلامية فهي أمة واحدة كما أمر الله، وليست أمماً متفرقة كما أراد الإستعمار وهي أمة ذات شعوب كما قال تعالى:" وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا" (الحجرات، آية : 13)، فلا بأس أن نقول الشعوب الإسلامية بدل "الأمم الإسلامية" .
ومن المفيد هنا أن ننبِّه على قضية ذات شأن وهي: أن الإيمان بـ"الأمة" المؤسسة على عقيدة الإسلام وأخوة الإيمان، والتي تضم جميع المسلمين في رحابها حيث كانوا ـ لا ينفى أن هناك خصوصيات معينة لكل قوم يعتزون بها، ويحافظون عليها، ولا يُفرِّطون فيها، ولا مانع من ذلك إذا لم تتحول إلى عصبية عرقية تقاوم إخوة الإسلام أو إلى نزعة إنانية انفصالية تهدد وحدة دولة الإسلام.
ولقد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده القبائل تقاتل تحت راياتها الخاصة في ظل القيادة الإسلامية العامة، ليكون ذلك مصدراً إضافياً لحماسهم وإقدامهم حتى لا يجلبوا العار على أقوامهم وعشائرهم.
إن حب الرجل لقومه وعشيرته ورغبته في جلب الخير لهم، ودفع الشر عنهم: نزعة فطرية لا غبار عليها، ولا خطر فيها، كما لا خطر في حبه لأسرته، واهتمامه بها.
إن الخطر إنما يتمثل فيما إذا وقفوا موقفاً معادياً للإسلام وحادّوا الله ورسوله، هنا تحرم الموادة والموالاة ولو كانت لأقرب الناس للإنسان، كأمه وأبيه وبناته وبنيه وزوجه وأخيه، قال تعالى:" لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ" (المجادلة، آية : 22).
وقال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" (التوبة، آية : 23 ـ 24).
لابأس أن يحب الرجل أسرته، ويحب قومه وعشيرته وشعبه ولكن إذا تعارض ذلك مع حب الله ورسوله فإن حب الله ورسوله أغلى من كل شيء هنا يتغنى المسلم بقول القائل:

        أبي الإسلام لا أب لي سواه

                    إذا افتخروا بقيس أو تميم

الثالث عشر: السماحة:
السماحة أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها والسماحة سهولة المعاملة فيما اعتاد الناس فيه المشادة، فهي وسط بين الشدة والتساهل، ولفظ السماحة هو أرشق لفظ يدل على هذا المعنى، يقال سمح فلان إذا جاء بمال له. قال المقنع الكندي:
        ليس العطاء من الفضول سماحة
                    حتى تجود وما لديك قليل
    فالسماحة أخص من الجود، ولهذا قابلها زياد الأعجم بالندى في قوله:
        إن السماحة والمروءة والندى
                    قي قُبَّةٍ ضُربت على ابنِ الحَشْرَج
فتدل السماحة على خلق الجود والبذل، وفي الحديث عن جابر ابن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى .
فالسماحة من أكبر صفات الإسلام الكائنة وسطاً بين طرفي إفراط وتفريط، وفي الحديث الصحيح عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة" .
فرجع معنى السماحة إلى التيسير المعتدل، وهو معنى اليسر الموصوف به الإسلام، قال تعالى: " يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" (البقرة ، آية : 185).
واستقراء الشريعة يدل على هذا الأصل في تشريع الإسلام، فليس الاستدلال عليه بمجرد هذه الآية أو هذا الخبر، حتى يقول معترض إن الأصول القطعية لا تثبت بالظواهر، لأن أدلة هذا الأصل كثيرة منتشرة وكثرة الظواهر تفيد القطع ولهذا قال الامام مالك بن أنس في مواضع من الموطأ ودين الله يسر وحسبك بهذه الكلمة من ذلك الامام فإنه ما قالها حتى استخلصها من استقراء الشريعة إن السماحة أكمل وصف لاطمئنان النفس وأعون على قبول الهدى والإرشاد ، قال تعالى: " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ" (آل عمران ، آية : 159).
إن حكمة السماحة في الشريعة أن الله جعل هذه الشريعة دين الفطرة، وأمور الفطرة راجعة إلى الجبلة فهي كائنة في النفوس سهل عليها قبولها، ومن الفطرة النفور من الشدة والإعنات، قال تعالى: " يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا" (النساء ، آية : 28).
وقد أراد الله أن تكون الشريعة الإسلامية شريعة عامة دائمة، فاقتضى ذلك أن يكون تنفيذها بين الأمة سهلأ، ولا يكون ذلك إلا إذا انتفى عنها الاعنات، بسماحتها أشدَّ ملاءمة للنفوس، لأن فيها إراحة النفوس في حاليْ خُوَيصتها ومجتمعها .
وقد ظهر للسماحة أثر عظيم في انتشار الشريعة وطول دوامها، إذ أرانا التاريخ أن سرعة امتثال الأمم للشرائع ودوامهم على اتباعها كان على مقدار اقتراب الأديان من السماحة، فإذا بلغ بعض الأديان من الشدة حدّاً متجاوزاً لأصل السماحة لحق اتباعه العنت ولم يلبثوا أن ينصرفوا عنه أو يفرِّطوا في معظمه .
وقد حافظ الإسلام على استدامة وصف السماحة لأحكامه، فقدر لها أنها إن عرض لها من العوارض الزمنية أو الحالية ما يصيرها مشتملة على شدة انفتاح لها باب الرخصة المشروع بقوله تعالى: " فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ" (البقرة ، آية : 173).
وبقوله: " إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ" (الأنعام ، آية : 119)، وفي الحديث: "إن الله يحب أن تؤتى رُخصه كما يحب أن تؤتى عزائمُه" .
ومن قواعد الفقه المشهورة: المشقة تجلب التيسير .
1 ـ ومن سماحة القرآن الكريم، إنكارة على أصحاب النزعات المتطرفة والذين يحرمون الطيبات والزينة التي أخرج لعباده.
ــ قال تعالى: "يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" (الأعراف ، آية : 31 ـ 32). وفي القرآن المدني، يخاطب الجماعة المؤمنة بقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ" (المائدة ، آية : 87 ـ 88).
وهاتان الآيتان الكريمتان تبينان للمسلمين حقيقة منهج الإسلام في التمتع بالطيبات ومقاومة الغلو الذي وجد في بعض الأديان، أو عند بعض المتنطعين .
2 ـ ومن سماحة الإسلام أيضاً: ما يتبعه من منهج في الدعوة إلى الله عز وجل، وجدال المخالفين، ففي القرآن الكريم قال تعالى: " ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل ، آية : 125).
ومن تأمل الآية الكريمة يجد أنها لا تكتفي بالأمر بالجدال بالطريقة الحسنة، بل أمرت بالتي هي أحسن، فإذا كان هناك طريقتان للحوار والمناقشة إحداهما: حسنة والأخرى أحسن منها، وجب على المسلم أن يجادل بالتي هي أحسن جذباً للقلوب النافرة وتقريباً للأنفس المتباعدة .
3 ـ من سماحة النبي صلى الله عليه وسلم:
جاء فتى من قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الزنا، فثار الصحابة وهموا به لجرأته على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم وقف موقفاً آخر فقال: "أدنه" فدنا فقال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك؟ قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، ثم قال له مثل ذلك في ابنته وأخته وعمته وخالته، في كل ذلك يقول: أتحبه لكذا؟ فيقول: لا جعلني الله فداك، فيقول صلى الله عليه وسلم ولا الناس يحبونه.. فوضع يده عليه وقال: "اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه، فلم يكن بعد ذلك يلتفت إلى شيء .
وإنما عامله النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الرفق، تحسيناً للظن به، وأن الخير كامن فيه والشر طارئ عليه، فلم يزل يحاوره حتى اقتنع عقله، واطمأن قلبه إلى خبث الزنا وفحشه، وكسب مع ذلك دعاء النبي صلى الله عليه وسلم .

الرابع عشر : الرحمة:
وهي من الاخلاق القرآنية العظيمة التي كانت لها العناية الكبرى في القرآن الكريم من حيث ذكرها والتوبة بشأنها لما لها من عظيم الأثر في الحياة الدينية والدنيوية .
1 ـ الرحمة صفة من صفات الله تعالى:
وهي صفة من صفات الحق تبارك وتعالى التي وصف بها نفسه كثيراً في القرآن العظيم في نحو مائتي آية، فضلاً عند تصدر كل سورة بصفتي الرحمن الرحيم، وذلك البسملة التي هي آية من كل سورة عدا سورة براءة .
وذلك للدلالة على مبلغ رحمته العظيمة وشمولها العام بعباده ومخلوقاته.
ــ قال تعالى: " وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ" (الأعراف ، آية : 156 ـ 157).
ــ وقال تعالى على لسان ملائكته الكرام: " رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ" (غافر ، آية : 7).
ــ وقال تعالى تعليماً للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين إن هم كذبوه: " رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ" (الأنعام ، آية : 147).
ولقد قرر الله تعالى في كتابه الكريم أن الرحمة صفته الثابتة التي لا تزول عنه أبداً، كما قال سبحانه: " كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ" (الأنعام ، آية : 54).
وقد ظهرت آثار رحمته في الخليقة كلها، فما من أحد مسلم أو كافر إلا وعليه من آثار رحمته في هذه الدنيا فيها يتعايشون ويؤاخون، ويوادُّون، وفيها يتقلَّبون لكنها للمؤمنين خاصة في الآخرة لاحظ للكافرين فيها .
2 ـ من مظاهر رحمته بخلقه:
وقد كانت أجل مظاهر رحمة الله تعالى أن بعث لهم رسله تترى، ثم بعث خاتم أنبيائه وسيد رسله وصفوته من خلقه محمد بن عبد الله صلوات الله وسلمه عليه الذي أمتن به على الأمة وكشف به الظلمة وأزاح به الغمة، وجعله رحمة للعالمين أجمعين، كما قال تعالى: " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" (الأنبياء ، آية : 107).
وكما قال تعالى: " لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" (التوبة ، آية : 128).
ــ وقد حدَّث النبي صلى الله عليه وسلم عن رحمة الله تعالى ومبلغ سعتها وكنهها، فقال: "إن الله لمَّا قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي .
ــ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدَّابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه .
ــ ومن حديث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: قُدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي، فإذا امرأة من السبي تسعى قد تحلب ثديُها، إذا وجدت صبياً في السبي أخذته وألصقته ببطنها وأرضعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا والله وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أرحم بعباده من هذه بولدها .
3 ـ حض المؤمنين على التحلي بها:
ندب الله تعالى عباده إلى التحلي بالرحمة، وحثهم علبها في بعض مواطنها لكبير أهميتها في تلك المواطن لينالوا أجرها وعظيم ثوابها، وذلك كالرحمة بالوالدين اللَّذين عظم الله شأنهما وقرن شكرهما بشكره، وطاعتهما بطاعته، فكانت الرحمة عند الكبر محتَّمة حيث قال تعالى: " وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا" (الإسراء ، آية : 24).
وقد قال الله جل ذكره في شأن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: "مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ" (الفتح ، آية : 29).
ــ كما أثبتها يلازمها لهم ولمن اتصف بصفاتهم بقوله سبحانه: " مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ" (المائدة ، آية : 54).
إذ الذلة التي يتحلون بها فيما بينهم بسبب التراحم بينهم، وهذا دليل على أن الرحمة من أجل صفات المؤمنين حيث كان حديث القرآن عن الرحمة لديهم في معرض الامتنان والثناء والمدح البليغ، مما يدل على عظيم مكانة المتراحمين من المسلمين عند الله تعالى، وفد دلَّ على ذلك ما أعده الله تعالى لهم من الأجر والثواب الذي أخبر الله تعالى عنه بقوله: " ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (البلد ، آية : 17 ـ 18).
أي أصحاب اليمين الذين يعطون كتبهم بأيمانهم والذين قال الله تعالى فيهم :" وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَاء مَّسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ" (الواقعة، آية : 27 ـ 34) .
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة في تحقيق هذا المقصد وهو الرحمة بالعالمين، فكانت رحمته بالمؤمنين، وبالأهل والعيال وبالضعفاء والكافرين والحيوان وكتب السيرة مليئة بالمواقف والأحاديث الدالة على ذلك.

الخامس عشر: الوفاء بالعهود والعقود:
والوفاء من أخلاق السلوك الإجتماعية العظيمة، التي كان للقرآن الكريم بها عناية فائقة لما له من عظيم الدلالة على تزكية النفوس، وصفاء الفطر وسلامة الإيمان .
1ـ الترغيب بالوفاء بالعهد:
رغب الله تعالى بالوفاء بالعهود بما أعد الله لهم من الثواب وبما أثنى به عليهم في محكم الكتاب، قال تعالى:" وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا" (الفتح، آية : 10).
وقد فصل في آيات أخرى عظمة ذلك الأجر فقال:" إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ" (الرعد، آية : 19 ـ 24).
فترى أن ذلك الأجر العظيم لم يقتصر عليهم بل سرى إلى أصولهم وفروعهم وأهليهم وأي نعيم للمرء أكبر من أن يصحبه فيه أصوله وفروعه وأهلوه، لا جرم لا يفرط عاقل بهذا الثناء وذلك الجزاء بعد أن يعلمه وهو قادر على أن يناله إلا أن يكون ممن غلبت عليه شقوته، وأولئك لهم سوء الدار.
2ـ الأوامر القرآنية بالوفاء بالكيل والوزن:
الوفاء بالكيل والوزن، وهو المجال الذي يتعلق كلية بحقوق الآخرين، وما يترتب عليه من قوام حياتهم ومعاشهم، وهو المجال الذي لا سبيل إلى التساهل فيه لأنه مبني على المشاحة والمقاصة، فالوفاء فيه يصلح للناس أحوالهم، ويحفظ لهم حقوقهم، ولهذا تكرر الأمر به في القرآن الكريم خمس مرات منها:
ـ قوله تعالى:" وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ" (الأنعام، آية : 152).
ـ وقال تعالى:" وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ" (الإسراء، آية : 35) .
وتحدث القرآن الكريم عن شعيب عليه السلام مع قومه، فقد كان قومه بحكم موقع بلادهم الجغرافي يتحكمون في طرق التجارة الموصلة بين شمال الجزيرة وجنوبها، وبين مصر والشام وبلاد العراق، فكانوا يفرضون على الناس ما شاءوا من المعاملات التجارية الجائرة، سعياً إلى جني الربح الفاحش، دون مراعاة لما يقع على غيرهم من الظلم والغبن، وقد شاعت فيهم هذه المعاملات حتى صارت أمراً متعارفاً عليه عندهم، فلما بعث الله شعيباً عليه السلام استهل دعوته بمحاربة ما كانوا عليه من عبادة الاصنام والأوثان، ثم ثنى بمحاربة تلك المعاملات الجائرة، ومن أبرزها نقص الميزان والمكيال .
قال تعالى:" وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" (الأعراف، آية : 85).
ولهذه الآية نظائر في سورة هود، قال تعالى:" وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ" (هود، آية : 83 ـ 84).
وقال تعالى في سورة الشعراء " أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ" (الشعراء، آية : 181).
ونجد تركيز شعيب على معالجة هذا الإنحراف المتأصل في قومه بأساليب مختلفة، شملت الأمر والنهي والترغيب والترهيب.
وقد كان لقوم شعيب معاملات أخرى جائزة غير نقص المكيال والميزان وذلك أمر متوقع ممن يمارس هذا العمل ونجد شعيباً يذكر هذه المعاملات في جملة من الأمور التي نهاهم عنها وهي:
أ ـ بخس الناس أشياءهم: وذلك في قوله تعالى:" وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ" (الأعراف، آية : 85).
والبخس في الأصل هو النقص، ومن أحسن ما قيل في حدِّه قول ابن العربي رحمه الله : البخس في لسان العرب هو النقص بالتعييب والتزهيد، أو المخادعة عن القيمة أو الاحتيال في التزيد في الكيل أو النقصان منه .
فالبخس على هذا أعم من نقص الميزان والمكيال، فإنه يكون في المكيل والموزون وغيرهما كالمعدودات، والمقدرات فيعم كل تصرف يُقصد منه انتقاص حقوق الناس، ولذلك صور كثيرة لا تنقضي .
ب ـ الفساد في الأرض: وقد ورد في قوله :" وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا" (الأعراف، آية : 85).
وقوله " وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ" (هود، آية : 85).
والفساد في الأرض أعمّ من كل ما سبق، فيدخل فيه كل معصية كانوا يعملونها، من عبادة غير الله، ونقص المكيال والميزان وبخس الناس حقوقهم وغير ذلك .
ج ـ قطع الطريق: قال تعالى:" وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ" (الأعراف، آية : 86). وفي هذه الآية نهيُ عما كانوا يفعلونه من القعود في طريق من يريد المجيء إلى شعيب لسماع دعوته، فيصدونه ويقولون: إنه كذاب ، وهذا من الأوجه التي حُملت هذه الجملة، وذكر فيها وجهان آخران، أولهما: قطع الطريق وسلب أموال الناس، وثانيهما: القعود في الطرق لأخذ العشور من الناس وجوّز الشوكاني رحمه الله حمل الحملة على هذه الأوجه كلها .
وعلى الرغم من الجهود التي بذلها شعيب عليه السلام في معالجة هذه الإنحرافات في قومه فإنه لم يلق منهم غير العناد والإصرار، وذلك لشيوع تلك الانحرافات بينهم وتأصلها فيهم، وفي آخر الأمر ردوا عليه ردّاً قبيحاً، إذ اعتبروا محاولاته في صرفهم عن معاملاتهم الجائرة ضرباً من الهذيان سببه ما يدوم عليه من الصلاة، قال تعالى:" قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ" (هود، آية : 87)، فقولهم:" أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء" يعنون به ما درجوا عليه من نقص المكيال والميزان وبخس الناس حقوقهم وسائر معاملاتهم الظالمة، فاستهزأوا بشعيب، وأنكروا عليه تدخله في تلك الأمور، بدعوى أن الأموال لهم، وهم أحرار فيها، يتصرفون فيها كيف شاءوا، ويفرضون على الناس ما يحقق لهم الأرباح.
وهذا عين ما يردِّده المنحرفون عن المنهج الرباني في هذا العصر، بل وفي كل عصر، يتعاطون أكل أموال الناس بالباطل عن طريق الغش والخداع، والحيل والربا وسائر المعاملات المحرمة، فإذا نهوا عن ذلك تعللوا واحتجوا بما يسمونه بحرية الاقتصاد، واستنكروا أن يتدخل الدين في هذه الأمور .
والأجدر بهؤلاء، لا سيما المنتسبين منهم إلى الإسلام أن يعتبروا بما حلّ بأشباههم في سالف الأزمان من الهلاك بسبب معاملاتهم الظالمة وإصرارهم عليها، أفيأمن أحدهم أن يأخذه الله بعاجل العذاب، ويجعله عبرة لأهل زمانه ولمن بعده، كما جعل قوم شعيب عبرة لأهل زمانهم ولمن بعدهم والعاقل من اتعظ بغيره، لا من وُعظ به غيره ، فقد كان قوم شعيب أهل شرك وكفر، وتطفيف للمكاييل والموازين، ولم يُجد معهم دعوة شعيب إيابهم إلى التوحيد، وإيفاء الكيل والميزان، بل ازدادوا عناداً وإصراراً، فأصابتهم الظلة وهي سحابة أظلتهم، فيها شرر من نار ولهب، ووهج عظيم، ثم جاءتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم، فزهقت الأرواح وفاضت النفوس، وخمدت الأجسام .
3ـ الأمر بالوفاء بالعقود:
قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ" (المائدة، آية : 1).
ومعنى الآية: يا أيها الذين التزمتم بإيمانكم أنواع العقود والعهود في إظهار طاعة، أوفوا بتلك العقود التي التزمتم بها وإنما سمى الله تعالى هذه  التكاليف عقوداً، لأنه ربطها بعباده كما يربط الشيء بالشيء بالحبل الموثق ، فالآية الكريمة تنادي الموصوفين بالإيمان أن يفوا بالعقود التي التزموا بها، ووصفهم بالإيمان تهييجاً لهم على الوفاء بالعقود، لأن ذلك من مقتفيات الإيمان الذي تعلوا به .
4ـ الأمر بالوفاء بالنذر:
قال تعالى:" ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ  وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ" (الحج، آية : 29).
والنذور: جمع نذر وهو التزام قربة لم تتعين في الشرع ، ومنه ما وردت فيه الآية مما ينذره الحاج من أعمال البر في حجه من هدي ونحوه.
وهو ما شملته آية المائدة السابقة، لأن عقد يعقده المؤمن مع الله تبارك وتعالى فإفراده بالذكر من بين سائر العقود يدل على أهمية الوفاء به وحتى لا يفرط فيه المؤمن فيتخلى عن عدم الإيفاء به لعدم المطالب في الدنيا، إذ لا يزع على الإيفاء به إلا قوة الإيمان .
ولذلك كان تهديد الله تعالى للمفرطين به مخيفاً حيث قال:" وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ  أوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ" (البقرة، آية : 270).
فإذا كان النذر يعلمه الله تعالى فإن رهن المجازاة به أداء أو تفريطاً، فلا يخادع إلا نفسه إن هو لم يف به أما أذا وفّى به فإنه يكون ذا مكانة عالية عند الله تعالى، كما يدل عليه تنويه الله تعالى بأهل هذا الخلق العظيم في كتابه الكريم .
5ـ تنويه القرآن الكريم بأهل الوفاء:
قال تعالى:" إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ" (الرعد، آية : 19 ـ 20).
فنعتهم الله تعالى بأولي الألباب، أي: أصحاب عقول، حيث هدتهم عقولهم إلى وجوب احترام العهود والمواثيق التي التزموا بها لخالقهم في الإيمان والعبادة، والمخلوقين في المعاملات والسلوك، فلا ينقضون عهداً ولا ميثاقاً ومنها قوله سبحانه في سياق تعداد صفات أهل البر من عباده، قال تعالى:" وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" (البقرة، آية : 177).
فوصف الله تعالى أصحاب هذه الأخلاق، ومنها خلق الوفاء بأنهم أهل صدق وأهل تقوى، وذلك لأنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه، واتقوا عذابه وعقابه الذي وعد به الناكثين والخائنين، فتأمل مبلغ هذا الثناء من الملك الجليل المتضمن للتنويه العظيم بأهل تلك الأخلاق الكريمة تجد التعبير قاصراً عن إدراك كنهه، لما ينطوي عليه من الجزاء الكبير المعد لأؤلئك الموصفين بهذه الصفات، إذ هو بحسب مقام المُثني والمثيب، وجعلنا الله ممن نال حظاً من ثنائه وجزائه الكريم، فإن جزاءه الكريم لهو الجزاء الأوفى، ولا غرو أن ينال أهل الوفاء ذلك الثناء وذلك الجزاء العظيم، فإنهم قد تحلوا بذلك الخلق العظيم الذي هو من صفات الحق تبارك وتعالى، فإنه سبحانه ذو الوفاء الذي لا يدانيه وفاء، كما أخبر سبحانه عن نفسه وهو أصدق القائلين بقوله :" وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ" (التوبة، آية : 111).
كما أنه من صفات أنبياء الله عليهم الصلاة السلام فهذا نبي الله إبراهيم عليه السلام قد ضرب المثل في الوفاء، إذ وفىّ وفاء لم يُعرف أحد من البشر أن ابتلى بمثله، وذلك حينما أمره الله تعالى بأن يذبح ابنه، فلذة كبده بيده فما كان منه إلا أن امتثل أمر ربه، وطاوعه ابنه على أمر ربه، وتلّه للجبين ليحقق أمر الله، فلما علم الله صدقه ووفاءه فداه بذبح عظيم وناداه معبراً عن رضاه عنه وعن وفائه بقوله :" يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ" (الصافات، آية : 104 ـ 105) .
كما ابتلاه الله أيضاً بكلمات من التكاليف الشرعية، قال تعالى:" وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" (البقرة، آية : 124).
فاستحق بذلك أن ينوه الله تعالى بوفائه هذا فقال:" وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى".
وفّى بجميع ما أمره الله به من التكاليف الشرعية .
وكذلك نبي الله يوسف عليه السلام فإن خُلق الوفاء حمله على أن ينسى ما عمله إخوانه معه من مكر وخديعة بحيث كانوا يهدفون إلى أن يلقوه حتفه حينما ألقوه في غيابة الجُبّ، ناهيك عما أورثوه أباهم نبي الله يعقوب عليه السلام من حزن عميق على فقد ابنه يوسف عليه السلام حتى ابيضت عيناه من الحزن، ومع ذلك فلمّا وفد إليه إخوانه بعد أن مكنه الله من خزائن الأرض، قال تعالى:" أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ" (يوسف، آية : 59).
هذا هو الوفاء بحقوق الناس عامة، والإخوان والأرحام منهم خاصة، وهذا هو الخلق الكريم اللائق من نبي كريم، ولا ريب فهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم
6ـ ما أعده الله لأهل الوفاء من الأجر والجزاء:
قال تعالى:" إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا" (الدهر، آية : 5 ـ 7).
فسماهم الله تعالى أبراراً، ومعلوم أن الأبرار لهم صفات كثيرة تدل على عظمة إيمانهم وتعبدهم، ولكن لم يذكر الله تعالى في هذه الآية الدالة على مبلغ ثوابهم وأجرهم إلا صفة الوفاء والخوف، وذلك لأن هذا الوصف أبلغ في التوفر على أداء الواجبات، لأن من وفى بما أوجبه الله على نفسه لله، كان أوفى بما أوجبه الله عليه بالأولى ، وذلك يدل على قوة الإيمان، إذ لا يدفع إلى الوفاء بالنذر إلا قوة الإيمان، وتفاوت الناس عند الله تعالى إنما يكون بحسب قوة إيمانهم وضعفه، كما دل عليه قوله تعالى:" إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" (الحجرات، آية : 13).
جعلنا الله من أهل الوفاء والتقوى بمنه وكرمه .
فهذه من أهم مقاصد القرآن الكريم، وقد تناولنا بعضها، كتصحيح المتعقد، وتقوى الله وعبادته وتزكية النفس، والحرية، والشورى، وكرامة الإنسان، وتحرير المرأة من ظلم الجاهلية، وتكوين الأسرة، وبناء الأمة الشهيدة على الناس، والسماحة، والرحمة، والوفاء بالعهود.
المبحث الخامس: جمع القرآن وكتابته:
أولاً: جمع القرآن الكريم كتابة من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وردت لفظ "الجمع" بمعنى: "الحفظ مع دقة الترتيب" عدة مرات في كتاب الله وذلك من مثل قوله تعالى مخاطباً خاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم :" لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ" (القيامة، آية : 16 ـ 19).
كما وردت لفظة "الجمع" بمعنى: "الكتابة والتدوين" والمعنى الأول آتاه الله تعالى ـ لخاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم ـ ولعدد غير قليل من صحابته الكرام وممن تابعهم من الصالحين إلى اليوم وحتى يوم الدين، وهؤلاء تدارسوا القرآن الكريم ولا يزالون يتدارسونه ويستظهرونه لتمكنوا من القراءة به في الصلوات المكتوبة وفي النوافل وفي الاستشهاد وأما جمع القرآن الكريم بمعنى تدوينه كتابة فقد مرّ بمراحل ثلاثة:
أولها جمع القرآن الكريم كتابة من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إن جميع الأحاديث الواردة في هذا الشأن تتفق على أن ترتيب آيات القرآن، حسبما عليه المصحف الآن، إنما هو ترتيب توقيفي، لم يجتهد فيه رسول الله ولا أحد من الصحابة في عهده أو من بعده وإنما كان يتلقى ترتيبها بعضها إلى جانب بعض، وحياً من عند الله بواسطة جبريل.
روى أحمد بإسناده عن عثمان بن أبي العاص، قال: كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شخص ببصره ثم صوّبه، قال:"أتاني جبريل فأمرني أن ضع هذه الآية هذا الموضع ببصره ثم صوّبه قال: أتاني حبريل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة :" إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى" (النحل، آية : 16/ 90) .
إن من مظاهر عناية الله بالقرآن الكريم وحفظه ما تمّ على يد الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته من حفظ القرآن في صدورهم وكتابته في الصحف وقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته في ذلك أرقى مناهج التوثيق ذلك أن القرآن الكريم نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ منجماً في ثلاث وعشرين سنة ، حسب الحوادث ومقتضى الحال، وكانت السورة تدون ساعة نزولها، إذ كان المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا ما نزلت عليه آية أو آيات قال: ضعوها في مكان كذا... سورة كذا .
ولهذا اتفق العلماء على أن جمع القرآن توقيفي، بمعنى أن ترتيبه بهذه الطريقة التي نراه عليها اليوم في المصاحف إنما هو بأمر الله ووحي من الله .
وما يقال عن ترتيب آيات القرآن هو الذي يقوله إجماع المؤرخين والمحدّثين والباحثين عن ترتيب السور ووضع البسملة في رؤوسها، قال القاضي أبو بكر بن الطيب رواية عن مكي رحمه الله في تفسير سورة "براءة" إن ترتيب الآيات في السور، ووضع البسملة في الأوائل هو توقيف من الله عز وجل، ولما لم يؤمر بذلك في أول سورة براءة تركت بلا بسملة .
وروى القرطبي عن ابن وهب قال: سمعت سليمان بن بلال يقول سمعت ربيعة يُسأل: لم قدمت البقرة وآل عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة، وإنما نزلتا في المدينة؟ فقال ربيعة: قد قدمتا، وألفّ القرآن على علم ممّن ألفّه .
هذا عن ترتيب آي القرآن وسوره أما عن كتابته، فمن المعلوم أولاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، أجمع على ذلك عامة المؤرخين وكل المشركين الذين كانوا على عهد رسول الله، لذا فقد كان يعهد بكتابة ما يتنزل عليه من القرآن إلى أشخاص من الصحابة بأعيانهم كانوا يُسمون كتاب الوحي، وأشهرهم الخلفاء الأربعة وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان، والمغيرة بن شعبة، والزبير بن العوام، وشرحبيل بن حسنة، وعبد الله بن رواحة، وقدا كانوا يكتبون ما يتنزل من القرآن تباعاً حسب الترتيب الذي يأتي به جبريل فيما تيسر لهم، من العظام المرققة والمخصصة لذلك، وألواح الحجارة الرقيقة والجلود، وقد كانوا يضعون ما يكتبونه في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يكتبون لأنفسهم إن شاءوا صوراً عنها يحفظونها لديهم، ولقد كان من الصحابة من يتتبع ما ينزل من آيات القرآن وتتبع ترتيبها فيحفظها عن ظهر قلب، حتى كان فيهم من حفظ القرآن كله، فمن المشاهير أبي بن كعب وزيد بن ثابت وآخرون .
وظل الصحابة يعكفون على حفظ القرآن غيباً، حتى ارتفعت نسبة الحفاظ منهم إلى عدد لا يحصى.
يتضح لك من هذا الذي ذكرناه أن القرآن وعاه الصدر الأول من الصحابة وبلغوه إلى من بعدهم بطريقتين اثنتين:
أحدهما: الكتابة التي كانت تتم للقرآن بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم لأشخاص بأعيانهم وكّل إليهم هذا الأمر ولم ينتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه إلا والقرآن مكتوب كله في بيته.
الثانية: حفظه في الصدور عن طريق التلقي الشفهي من كبار قراء الصحابة وحفاظهم الذين تلقوه بدورهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أقرهم على كيفية النطق والأداء .
وكان كل ما يكتب من آيات وسور القرآن الكريم بعد الوحي بها مباشرة يحفظ في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع استنساخ كُتاب الوحي نسخاً لأنفسهم من جميع ما أملي على كل منهم وبذلك تم جمع القرآن الكريم كله كتابة وحفظاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وثبت أن جبريل عليه السلام كان يعارض الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن مرّة واحدة في كل سنة ثم عارضه به في السنة التي توفي فيها صلى الله عليه وسلم مرتين ، ومعنى هذا أن القرآن الكريم كان في صورته التامة في هذه السنة التي تمّ عرضه فيها مرتان، ولذلك شواهد كثيرة ذكرها العلماء من أظهرها ما أورده البغوي عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قال: كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان، وزيد بن ثابت، والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرأون القراءة العامة فيه، وهي القراءة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه وكان زيد قد شهد العرضة الأخيرة وكان يقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده الصديق في جمعه أولاً وولّاه عثمان كتبة المصحف .
على أن القرآن رغم ذلك لم يجمع بين دفتين في مصحف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لضيق الوقت بين آخر آية نزلت من القرآن وبين وفاته صلى الله عليه وسلم .

ثانياً: جمع القرآن الكريم في مصحف واحد على عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
كان من ضمن شهداء المسلمين في حرب مسيلمة الكذّاب في اليمامة كثير من حفظة القرآن، وقد نتج عن ذلك أن قام أبو بكر رضي الله عنه بمشورة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بجمع القرآن حيث جمع من الرقاع والعظام والسعف ومن صدور الرجال ، وأسند أبو بكر الصديق رضي الله عنه هذا العمل العظيم والمشروع الحضاري الضخم إلى الصحابي الجليل زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه يروي زيد بن ثابت رضي الله عنه فيقول: بعث إلي أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر  يوم القيامة بقراء القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت لعمر: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال زيد: قال أبو بكر: وإنك رجل شاب عاقل لا نتهمك ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه ، قال زيد: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل عليّ مما كلفني به من جمع القرآن، فتتبعت القرآن من العسب  واللخاف ، وصدور الرجال، والرقاع ، والأكتاف . قال: حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره.
قال تعالى:" لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" (التوبة، آية : 128)، حتى خاتمة براءة، وكانت الصحف عند أبي بكر في حياته حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته حتى توفاه الله ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهم ، وعلق البغوي على هذا الحديث فقال: فيه البيان الواضح أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من غير أن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه شيئاً والذي حملهم على جمعه ما جاء في الحديث وهو أنه كان مفرقاً في العسب واللخاف وصدور الرجال، فخافوا ذهاب بعضه بذهاب حفظته، ففزعوا فيه إلى خليفة رسول الله ودعوه إلى جمعه، فرأى في ذلك رأيهم فأمر بجمعه في موضع واحد باتفاق من جميعهم، فكتبوه كما سمعوا من رسول الله من غير أن قدموا شيئاً أو أخروا أو وضعوا له ترتيباً لم يأخذوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى أصحابه ويعلمهم ما ينزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل صلوات الله عليه، إياه على ذلك، وإعلامه عند نزول كل آية إن هذه الآية تكتب عقب آية كذا في السور التي يذكر فيها كذا .
وهكذا يتضح للقارئ الكريم أن من أوليات أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أنه أول من جمع القرآن الكريم يقول صعصعة بن صوحان رحمه الله: أول من جمع بين اللوحين، وورث الكلالة ، أبو بكر.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يرحم الله أبا بكر هو أول من جمع بين اللوحين .
وقد اختار أبو بكر رضي الله عنه زيد بن ثابت لهذه المهمة العظيمة، وذلك لأنه رأى فيه المقومات الأساسية للقيام بها وهي:
1ـ كونه شاباً، حيث كان عمره 21 سنة، فيكون أنشط لما يطلب منه.
2ـ كونه أكثر تأهيلاً، فيكون أوعى له، إذ من وهبه الله عقلاً راجحأ فقد يسر له سبل الخير.
3ـ كونه ثقة، فليس هو موضعاً للتهمة، فيكون عمله مقبولاً، وتركن إليه النفس، ويطمئن إليه القلب.
4ـ كونه كاتباً للوحي، فهو بذلك ذو خبرة سابقة في هذا الأمر وممارسة عملية له فليس غريباً عن هذا العمل، ولا دخيلاً عليه .
هذه الصفات الجليلة جعلت الصديق يُرشح زيداً  لجمع القرآن، فكان به جديراً، وبالقيام به خبيراً.
5ـ ويضاف لذلك أنه أحد الصحابة الذين جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع الإتقان وأما الطريقة التي اتبعها زيد في جمع القرآن فكان لا يثبت شيئاً من القرآن إلا إذا كان مكتوباً بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ومحفوظاً من الصحابة، فكان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة، خشية أن يكون في الحفظ خطأ أو وهم، وأيضاً لم يقبل من أحد شيئاً جاء به إلا إذا أتى معه شاهدان يشهدان أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه من الوجوه التي نزل بها القرآن .
وعلى هذا المنهج استمر زيد رضي الله عنه في جمع القرآن حذراً متثبتاً مبالغاً في الدقة والتحري .
إن زيداً اتبع طريقة في الجمع نستطيع أن نقول عنها في غير تردد، أنها طريقة فذّة في تاريخ الصناعة العقلية الإنسانية وأنها طريقة التحقيق العلمي المألوف في العصر الحديث وأن الصحابي الجليل قد اتبع هذه الطريقة بدقة دونها كل دقة وأن هذه الدقة في جمع القرآن متصلة بإيمان زيد بالله، فالقرآن كلام الله جل شأنه فكل تهاون في أمره أو إغفال للدقة في جمعه وزر ما كان أحرص زيداً ـ في حسن إسلامه وجميل صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتنزه عنه.
إن ما قام به زيد بن ثابت رضي الله عنه بتكليف من خليفة المسلمين أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومشورة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومعاونة عمر رضي الله عنه وأبي بن كعب ومشاركة جمهور الصحابة ممن كان يحفظ القرآن أو يكتبه ، وإقرار جمع من المهاجرين والأنصار مظهر من مظاهر العناية الربانية بحفظ القرآن الكريم وتوفيق من الله للأمة الإسلامية وشديد منه لمسيرتها ويتضمن ذلك ـ أيضاً ـ كما قال أبو زهرة: حقيقتين مهمتين تدلان على إجماع الأمة كلها على حماية القرآن الكريم من التحريف والتغيير والتبديل، وأنه مصون بعناية الله سبحانه وتعالى، ومحفوظ بحفظه وإلهام المؤمنين بالقيام عليه وحياطته .
الأولى: أن عمل زيد رضي الله عنه لم يكن كتابة مبتدأة، ولكنه إعادة مكتوب ، فقد كتب القرآن كله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل زيد الإبتدائي هو البحث عن الرقاع والعظام التي كان قد كتب عليها والتأكد من سلامتها بأمرين، بشهادة أثنين على الرقعة التي فيها الآية والآيتان أو الآيات، وبحفظ زيد نفسه، وبالحافظين من الصحابة، وقد كانوا الجمع الغفير والعدد الكبير، فما كان لأحد أن يقول: إن زيداً كتب من غير أصل مادي قائم، بل إنه أخذ من أصل قائم ثابت مادي وبذلك نقرر أن ما كتبه زيد هو تماماً ما كتب في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس كتابة زيد، بل ما كتب في عصره عليه الصلاة والسلام وأملاه وما حفظه الروح القدس.
الثانية: أن عمل زيد لم يكن عملاً آحادياً، بل كان عملاً جماعياً من مشيخة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد طلب أبو بكر إلى كل ما عنده شيءٌ مكتوب أن يجيء به إلى زيد وإلى كل من يحفظ القرآن أن يدلي إليه بما يحفظه، واجتمع لزيد من الرقاع والعظام وجريد النخل ورقيق الحجارة وكل ما كتب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند ذلك بدأ زيد يرتبه ويوازنه ويستشهد عليه، ولا يثبت آية إلا إذا اطمأن إلى اثباتها، كما أوحيت إلى رسول الله .
وأستمر الأمر كذلك، حتى إذا ما أتم زيد ما كتب، تذاكره الناس، وتعرفوه وأقروه، فكان المكتوب متواتراً بالكتاب ومتواتراً بالحفظ في الصدور، وما تمّ هذا الكتاب في الوجود غير القرآن  ـ وأيم الله ـ عناية من الرحمن خاصة بهذا القرآن العظيم .
وشرف للأمة الإسلامية تميزت به على سائر الأمم ووفقها الله لخدمة كتابه في منهج علمي سبقت إليه جميع الأمم .

ثالثاً: جمع القرآن الكريم في عدد من المصاحف على عهد ذي النورين أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه:
1ـ الباعث على جمع القرآن في عهد عثمان:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان رضي الله عنه وكان يُغازي أهل الشام في فتح أرمينية، وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصُّحف ننسخها في المصاحف ثم نردُّها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام رضي الله عنهم، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرّهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فأكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصُحف في المصاحف رد عثمان رضي الله عنه الصُحف إلى حفصة، فأرسل إلى كّلِّ أفق بمصحف ممّا نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كلِّ صحيفة، أو مصحف أن يُحرق
ويؤخذ من الحديث الصحيح أمور منها:
أ ـ أن السبب الحامل لعثمان رضي الله عنه على جمع القرآن مع أنه كان مجموعاً، مرتباً في صحف أبي بكر الصديق، إنما هو اختلاف قرّاء المسلمين في القراءة، اختلافاً أوشك أن يؤدي بهم إلى أخطر فتنة في كتاب الله تعالى، وهو أصل الشريعة، ودعامة الدين، وأساس بناء الأمة الإجتماعي، والسياسي، والخُلُقي، حتى إن بعضهم كان يقول لبعض: إن قراءتي خير من قراءتك، فأفزع ذلك حذيفة ففزع إلى خليفة المسلمين، وإمامهم، وطلب إليه أن يدرك الأمة قبل أن تختلف، فيستشري بينهم الاختلاف، ويتفاقم أمره، ويعظم خطبه، فيُمسّ نصُّ القرآن، وتُحرّف عن مواضعها كلماته وآياته، كالذي وقع بين اليهود، والنصارى من اختلاف كل أمة على نفسها في كتابها.
ب ـ أن هذا الحديث الصحيح قاطع بأن القرآن الكريم كان مجموعاً في صحف ومضموماً في خيط، وقد اتفقت كلمة الأمة اتفاقاً تاماً على أن ما في تلك الصُّحف هو القرآن كما تلقته عن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر عرضية على أمين الوحي جبريل عليه السلام، وأن تلك الصحف ظلت في رعاية الخليفة الأول أبي بكر الصديق، ثم انتقلت بعده إلى رعاية الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، ثم عرف عمر حضور أجله ولم يوِّلى عهده أحداً معيناً في خلافة المسلمين، وإنما جعل الأمر شورى في الرّهط المعطفين بالرّضا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوصى بحفظ الصحف عند ابنته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، وأن عثمان اعتمد في جمعه على تلك الصُّحف، وعنها نقل مصحفه "الرّسمي" وأنه أمر أربعة من أشهر قرّاء الصحابة إتقاناً لحفظ القرآن، ووعياً لحروفه، وأداءً لقراءاته، وفهماً لإعرابه ولغته: ثلاثة قرشيين وواحداً أنصارياً، وهو زيد بن ثابت صاحب الجمع الأول في عهد الصديق بإشارة الفاروق.
وفي بعض الروايات: أن الذين أمرهم عثمان أن يكتبوا من الصحف اثنا عشر رجلاً، فيهم أبي بن كعب، وآخرون من قريش والأنصار .
ج ـ ونأخذ من هذا: إن الفتوحات في عهد عثمان كانت بإذن وأمر من الخليفة، وأن القرار العسكري يصدر من المدينة، وأن الولايات الإسلامية كلها كانت خاضعة لأمر الخليفة عثمان في عهده، بل يدّل على أن هناك إجماعاً من الصحابة والتابعين في جميع الأقاليم على خلافة عثمان، وقدوم حذيفة بن اليمان إلى المدينة، لرفع اختلاف الناس في قراءة القرآن، يدل على: أن القضايا الشرعية الكبرى كان يستشار فيها الخليفة في المدينة، وأن المدينة ما زالت دار النة ومجمع فقهاء الصحابة .
2 ـ استشارة جمهور الصحابة في جمع عثمان:
جمع عثمان رضي الله عنه المهاجرين والأنصار، وشاورهم في الأمر، وفيهم أعيان الأمة، وأعلام الأئمة، وعلماء الصحابة، وفي طليعتهم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وعرض عثمان رضي الله عنه هذه المعضلة على صفوة الأمة وقادتها الهادين المهديين، ودارسهم أمرها، ودارسوه، وناقشهم فيها وناقشوه، حتى عرف رأيهم وعرفوا رأيه، فأجابوه إلى رأيه في صراحة لا تجعل للريب إلى قلوب المؤمنين سبيلاً، وظهر للناس في أرجاء الأرض من عقد عليه إجماعهم فلم يعرف قط يومئذ لهم مخالف، ولا عرف عند أحد نكير، وليس شأن القرآن الذي يخفى على آحاد الأمة فضلاً عن علمائها وأئمتها البارزين .
إن عثمان رضي الله عنه لم يبتدع في جمعه المصحف، بل سبقه إلى ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه، كما أنه لم يضع ذلك من قبل نفسه، إنما فعله عن مشورة للصحابة رضي الله عنهم وأعجبهم هذا الفعل، وقالوا: نعم ما رأيت، وقالوا: أيضاً قد أحسن أي: في فعله في المصاحف .
وقد أدرك مصعب بن سعد صحابة النبي صلى الله عليه وسلم حين مشق ، عثمان رضي الله عنه المصاحف، فرآهم قد أعجبوا بهذا الفعل  منه، وكان علي رضي الله عنه ينهى من يعيب على عثمان رضي الله بذلك، ويقول: يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيراً ـ أو قولوا خيراً ـ فوالله ما فعل الذي فعل ـ أي في المصاحف ـ إلا عن ملأ منا جميعاً، أي: الصحابة....والله لو وليت، لفعلت مثل الذي فعل .
وبعد اتفاق هذا الجمع الفاضل من خيرة الخلق على هذا الأمر المبارك، يتبين لكل متجرد عن الهوى: أن الواجب على المسلم الرضا بهذا الصنيع الذي صنعه عثمان رضي الله عنه وحفلظ به القرآن الكريم .
قال القرطبي في التفسير: وكان هذا من عثمان رضي الله عنه بعد أن جمع المهاجرين والأنصار، وجلة أهل الإسلام، وشاورهم في ذلك، فاتفقوا على جمعه بما صح، وثبت من القراءة المشهورة عن النبي صلى الله عليه وسلم واطراح ما سواه، واستصوبوا رأيه، وكان رأياً سديداً موفقاً .
3 ـ الفرق بين جمع الصديق، وجمع عثمان رضي الله عنهما:
الفرق بين أبو بكر وجمع عثمان: أن جمع أبي بكر كان لخشيته أن يذهب شيء من القرآن بذهاب حملته، لأنه لم يكن مجموعاً في موضع واحد، فجمعه في صحائف مرتباً لآيات سورهم على ما وقفهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع عثمان كان لما كثُر الاختلاف في وجوه اللقراءة حتى قرأوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدى ذلك إلى تخطئة بعضهم بعضاً، فخشي من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتباً لسوره، واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش، محتجاً بأنه نزل بلغتهم، وإن كان قد وسع في قراءته بلغة غيرهم دفعاً للحرج والمشقة في ابتداء الأمر، فرأى: أن الحاجة قد انتهت، فاقتصر على لغة واحدة .
هل المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة؟
ذهب الشيخ المحقق صادق عرجون ـ رحمه الله ـ إلى أنَّ: صحف الصِّدِّيق التي كانت أصلاً للمصحف الإمام بإجماع المسلمين لم تكن جامعة للأحرف السبعة التي وردت في صحاح الأحاديث بإنزال القرآن عليها، بل كانت حرف منها، هو الذي وقعت به العرضة الأخيرة، واستقرَّ عليها الأمر في آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كانت الأحرف السبعة أولاً من باب التّيسير على الأمة، ثم ارتفع حكمها لمَّا استفاض القرآن، وتمازج الناس، وتوحَّدت لغاتهم، قال الإمام الطحاويُّ: إنَّما كانت السَّعة للناس في الحروف، لعجزهم عن أخذ القرآن على غير لغاتهم، لأنَّهم كانوا أمِّيين، لا يكتب إلا القليل منهم، فلمَّا كان يشقُّ على كل ذي لغة أن يتحوَّل إلى غيرها من اللَّغات، ولو رَام ذلك لم يتهيّأ له إلا بمشقة عظيمة ـ وُسّع لهم ـ فلا اختلاف الألفاظ، إذا كان المعنى متَّفقاً، فاكانوا كذلك حتى كثر منهم من يكتب، وعادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدروا بذلك على تحفظ ألفاظه، فلم يسعهم حينئذ أن يقرؤوا بخلافها. وقال ابن عبد البرِّ فبات بهذا أن تلك السبعة الأحرف إنما كانت في وقف خاص لضرورة دعت إلى ذلك، ثمَّ ارتفعت تلك الضرورة، فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف، وعاد ما يقرأ به القرآن على حرف واحد .
وقال الطبري: إن القراءة على الأحرف السبعة لم تكن واجبة على الأمة، وإنما كان جائزاً لهم، ومرخصاً لهم فيه، فلما رأى الصحابة: أن الأمة تفترق، وتختلف ـ إذا لم يجتمعوا على حرف واحد ـ أجمعوا على ذلك إجماعاً شائعاً، وهم معصومون من الضلالة .
وهذا الحرف الذي كتبت به صحف الإجماع القاطع، ونقل عنها المصحف الإمام ـ جامع لقراءات القرّاء السبعة وغيرها، ممّا يقرأ به الناس، ونقل متواتراً عن رسول الله صلىالله عليه وسلم، لأنّ الأحرف الواردة في الحديث غير هذه القراءات .
5ـ عدد المصاحف التي أرسلها عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار:
لمّا فرغ عثمان رضي الله عنه من جمع المصاحف، أرسل إلى كل أفق بمصحف، وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف المصحف الذي أرسله إلى الآفاق وقد اختلفوا في عدد المصاحف التي فرّقها في الأمصار، فقيل: إنها أربعة، وقيل: إنها خمسة، وقيل: إنها ستة، وقيل: إنها سبعة، وقيل: ثمانية، أما كونها أربعة، فقيل: إنه أبقى مصحفاً بالمدينة، وأرسل مصحفاً إلى الشام، ومصحفاً إلى الكوفة، ومصحفاً إلى البصرة، وأما كونها خمسة، فالأربعة المتقدم ذكرها ومصحفاً لأهل مكة، وأما كونها ستة فالخمسة المتقدمة، والسادس اختلف فيه، فقيل: جعله خاصاً لنفسه، وقيل أرسله إلى البحرين، وأما كونها سبعة، فالستة المتقدم ذكرها، والسابع أرسله إلى اليمن، وأما كونها ثمانية، فالسبعة المتقدم ذكرها والثامن كان لعثمان يقرأ فيه وهو الذي قتل وهو بين يديه .
وبعث رضي الله عنه مع كل مصحف من يرشد الناس إلى قراءاته بما يحتمله رسمه من القراءات مما صح وتواتر، فكان عبد الله بن السائب مع المصحف المكي، والمغيرة بن شهاب مع المصحف الشامي، وأبو عبد الرحمن السُّلمي مع المصحف الكوفي، وعامر بن قيس مع المصحف البصري، وأمر زيد بن ثابت أن يقرئ الناس بالمدني .
من هذا الاستعراض يتضح أن حفظ القرآن الكريم قد تم بطريقة لم يحظ بها كتاب آخر في تاريخ البشرية كلها، وذلك لأن الله تعالى هو الذي تعهد بحفظه قائلاً :" إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر، آية : 9).
فوفق الله ـ سبحانه ـ نفراً من عباده الصالحين ليقوموا بهذا الدور العظيم في ظل من الرعاية الإلهية التي حفظت لنا القرآن حفظاً كاملاً، حرفاً حرفاً، وكلمة كلمة، وآية آية، وسورة سورة، في نفس لغة الوحي "اللغة العربية" على مدى يزيد على أربعة عشر قرناً، وتعهد ربنا ـ تبارك وتعالى ـ بهذا الحفظ تعهداً مطلقاً حتى يبقى القرآن العظيم شاهداً على الخلق أجمعين بأنه كلام رب العالمين .

المبحث السادس: الكتب السماوية
أولاً: وجوب الإيمان بالكتب السماوية:
يجيء ذكر الإيمان بالكتب السماوية في القرآن في صيغة الأمر تارة وصفة للمؤمنين تارة أخرى، كما يجيء عدم الإيمان بالكتب المنزلة أو الإيمان ببعضها دون البعض الآخر علامة على الكفر تارة ثالثة.
1ـ فمن أمثلة الأمر قوله تعالى:" قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (البقرة، آية : 136).
2ـ كما جاء في صيغة مشابهة له في سورة آل عمران قال تعالى:" قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (آل عمران، آية : 84).
3ـ وقد يأتي الأمر في صيغة مجملة في مثل قوله في سورة النساء، قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ" (النساء، آية : 136).
4ـ أما وصف المؤمنين بأنهم هم الذين يؤمنون بالكتب المنزلة كلها فيجيء في مثل هذه الصيغة، قال تعالى:" الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ" (البقرة، آية : 1 ـ 4).
5ـ أما وصف الذين لا يؤمنون بالكتب كلها أو الذين يؤمنون ببعضها ويكفرون ببعض بأنهم كفار فيجيء في مثل قوله تعالى:" وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا" (النساء، آية : 136).
6ـ وقال تعالى:" بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" (البقرة، آية : 90 ـ 91).
ومفهوم هذه الآيات وأمثالها سواء كانت أمراً مباشراً أو وصفاً للمؤمنين أو وصفاً للكافرين، هو أن الإيمان بالكتب السماوية كلها أمر واجب لا يتم إيمان المرء إلا به.
وذلك أمر بديهي بالنسبة للمؤمن، فما دام يؤمن بالله وصدق ما نزل من عنده من الوحي ومادام الله يخبره في كتابه الكريم أنه قد أنزل كتباً سابقة على الأنبياء والرسل، فالواجب أن يؤمن بهذه الكتب المنزلة ويعتقد يقيناً أنها منزلة من عند الله ولو شك في هذه الحقيقة أو كذب بها فلن يكون مؤمناً على الإطلاق وكيف يكون مؤمناً بالله حقاً وهو يكذب خبراً آتياً إليه من الله، كذلك لو قال إنه يؤمن ببعض الكتب أنها منزلة من عند الله حقاً ويشك ويكذب أن غيرها من الكتب منزل من عند الله، فهل يكون مؤمناً بالله ولو زعم ذلك؟
إن من بين دعائم الإيمان التصديق، فكيف يوجد الإيمان إذا كذَّب الإنسان حرفاً واحداً مما أخبره الهل به؟ وما قيمة دعواه أنه مؤمن بالله أو مؤمن ببعض الكتب التي أنزلها الله؟ إنها دعوة مردودة على صاحبها لأن الدليل العملي يكذبها، ثم إن الكتب السماوية كلها تحتوي على حقيقة واحدة، وهي الأمر بعبادة الله وحده، لقد اختلفت الكتب المنزلة في اللغات التي نزلت بها، لأن الله يقول: " وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ" (إبراهيم ، آية : 4).
وهذه الكتب نزلَت على أقوام مختلفين فاختلفت من ثم لغاتهم، كذلك اختلفت هذه الكتب فيما تحتويه من شرائع مختلفة للأقوام المختلفةن قال تعالى: "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم" (المائدة ، آية : 48).
ولكن القضية الأصلية في هذه الكتب كلها واحدة لم تتغير، " وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ" (الأنبياء ، آية : 25).
وقال تعالى: " وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ" (النحل ، آية : 36).
وقال تعالى: " شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ" (الشورى ، آية : 13).
كذلك نزلت الكتب كلها لتنذر الناس بيوم الحساب، قال تعالى: "رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ * يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ" (غافر ، آية : 15 ـ 17).
وما دام الأمر كذلك فالإيمان بالكتب كلها هو كالإيمان بالكتاب الواحد سواء والقضية عند المؤمن واضحة ولا تحتاج إلى جدال، إنما الجدال قد جاء في الحقيقة من أهل الكتاب لأنهم رفضوا أن يؤمنوا بأن القرآن منزل من عند الله وحساب هؤلاء على الله ، كما أن أسلافهم قد حرَّفوا الكتب السماوية ((التوراة والأنجيل)).

ثانياً: الكتب التي ورد ذكرها في القرآن:
من تلك الكتب التي أنزلت على الرسل السابقين ما سماه الله تعالى لنا في القرآن الكريم، ومنها ما لم يسمه لنا،  فمن الكتب التي ورد ذكرها في القرآن الكريم:
1 ـ الصحف:
وكل الذي جاء في القرآن عنها قوله تعالى:
أ ـ قال تعالى: "... أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى" (طه ، آية : 133).
ب ـ وقال تعالى: "أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى" (النجم ، آية : 36 ـ 42).
جـ ـ قال تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى" (الأعلى ، آية : 14 ـ 19).
2 ـ التوراة:
ذكر القرآن الكريم التوراة (18) مرة، وهو الكتاب الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على موسى عليه السلام، وخلاصة حديث القرآن عن التوراة قد تستطيع إجماله في الآتي:
أ ـ وصف القرآن التوراة بأنها هدى ونور وفرقان، وضياء وذكر، قال تعالى: " إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ" (المائدة ، آية : 44).
وقال تعالى: " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ" (الأنبياء ، آية : 48).
ب ـ إن التوراة كتاب شامل لكل شيء، قال تعالى: " ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً" (الأنعام ، آية : 154).
وتحدث القرآن الكريم عن ألواح موسى عليه السلام، وقد وردت في ثلاثة مواضع، فقال: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ" (الأعراف ، آية : 145).
ــ وقال تعالى: "لَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ" (الأعراف ، آية : 150).
ــ وقال تعالى: " وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ" (الأعراف ، آية : 154).
جـ ـ إن الرسالات التي جاءت بعدها مصدقة لها، فلقد قال الكتاب عن عيسى عليه السلام: " وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ..." (المائدة ، آية : 46).
وقال عن محمد صلى الله عليه وسلم: " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ * وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ * وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ" (البقرة ، آية : 87 ـ 89).
ح ـ إن القرآن تحدث عن بعض الذي جاء في التوراة، ولنأخذ هذين المثالين:
المثال الأول: قال تعالى: "وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" (المائدة ، آية : 45).
المثال الثاني: " الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ" (الأعراف ، آية : 157) .
س ـ ذكر القرآن الذين كلفوا بحمل أمانة "التوراة" منهم من حملها بأمانة، ومنهم من لم يحملها، فقال عن الصالحين منهم " وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ" (الأعراف، آية : 159).
وقال عن المفسدين منهم "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (الجمعة، آية : 5).
لكن هؤلاء أصبحوا هم الكثرة الغالبة، فأخذ القرآن لا يتحدث عن حملة التوراة "بني إسرائيل" إلا ويعمهم بالخيانة ونقض الميثاق، قال تعالى:" فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً" (المائدة، آية : 13).
ـ وقال تعالى:" وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا" (الإسراء، آية : 4).
ك ـ أكد القرآن أن التوراة الموجودة الآن بين أيدينا هي ليست التوراة التي أنزلها على موسى ـ عليه السلام ـ وإنما هي محرفة من قبل بني إسرائيل الذين خانوا العهد ونقضوا الميثاق .
ـ قال تعالى:" وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ * فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ" (البقرة، آية : 78 ـ 79).
ـ وقال تعالى:" أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" (البقرة، آية : 75).
ـ وقال تعالى:" فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ" (المائدة، آية : 13) .
3ـ الإنجيل:
وذكر القرآن الكريم الإنجيل "12" مرة ويكاد يكون حديث القرآن عن الإنجيل قريباً عن حديثه عن التوراة، إلا في بعض النقاط، والإنجيل هو الكتاب الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على عبده ورسوله عيسى عليه السلام.
أ ـ وصف القرآن الإنجيل بأنه هدى ونور وموعظة:
قال تعالى:" وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ" (المائدة، آية : 46).
ب ـ ومما ورد في القرآن الكريم:
أن الإنجيل جاء مكملاً أو معدلاً لما جاء في التوراة من أحكام ولم يصف القرآن الإنجيل بما وصف به التوراة من أنه كتاب شامل يفصل كل شيء، بل على العكس، جاء وكأنه يصفه بمهمة محدودة هي نسخ بعض ما ورد في التوراة من أحكام، لحكمة يعلمها الله، يقول القرآن على لسان عيسى " وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ" (آل عمران، آية : 50).
ولهذا ربط القرآن بينهما في مهمة عيسى ـ عليه السلام ـ فقال:" وَيُعَلِّمُهُ  الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ (آل عمران، آية : 48 ـ 49).
ج ـ هناك فرق واضح في اهتمام القرآن، فالظاهر اهتمامه برسالة موسى أكثر من الإنجيل ويظهر هذا في عدد المرات التي ذكرت فيها التوراة "18" مرة بينما ذكر الإنجيل "12" مرة وذكر موسى "136" مرة بينما لم يذكر عيسى إلا "25" مرة، هناك إشارة ربما تكون أظهر في الدلالة على اهتمام القرآن بالتوراة أكثر من اهتمامه بالإنجيل، وهي قوله تعالى:" وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ" (الأحقاف، آية : 29 ـ 30) .
س ـ جاءت في الإنجيل كما في التوراة البشارة بالرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:" الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (الأعراف، آية : 157).
وقال تعالى:" وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ" (الصف، آية : 6) .
ش ـ إن القرآن جاء مصدقاً أيضاً لرسالة عيسى ـ عليه السلام ـ كما هو مصدق لجميع الرسالات السابقة قال تعالى:" وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ" (آل عمران، آية : 81).
ـ وقال تعالى:" قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ" (البقرة، آية : 97).
ك ـ وتحدث القرآن عن حملة الإنجيل كما تحدث عن حملة التوراة فقسمهم إلى قسمين: فئة وقفت مع الإنجيل الحق وأخرى كاذبة كافرة خائنة، فقال عن الأولى:" فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ" (آل عمران، آية : 52 ـ 53).
وأما الثانية فهم :" وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ" (المائدة، آية : 14).
ل ـ ويخلص القرآن إلى أن الإنجيل الذي بين أيدينا الآن ليس هو كلام الله، بل هو من تحريف المحرفين، قال تعالى:" وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ" (آل عمران، آية : 78 ـ 79).
والحقيقة فالقرآن لا يفصل في مقدار التحريف الذي ورد على التوراة والإنجيل، وكأن هدفه فقط أن يقول لنا إن هذين الكتابين ليسا مصدر ثقة، لأن الأهواء دخلتهما، أما التفصيل فلا نحتاجه نحن، وأيضاً فإن مقدار التحريف مختلف زماناً ومكاناً ومذاهب ، فلم يهتم القرآن إلا بالذي فيه الفائدة للناس.
الزبور:
هو الكتاب الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على داود عليه السلام، والزبور في اللغة هو الكتاب المزبور أي المكتوب، وجمعه زبر، وكل كتاب يسمى زبوراً، قال تعالى:" وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ" (القمر، آية : 52) أي مسجل في كتب الملائكة وكتبهم ثم غلب إطلاق لفظ الزبور على ما أنزل على داود عليه السلام، قال تعالى:" وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا" (النساء، آية : 163).
وأخبر سبحانه وتعالى، أن مما كتبه في الزبور، وراثة الصالحين الأرض، قال سبحانه :" وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ" (الأنبياء، آية : 105).
وقال تعالى:" وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا" (النساء، آية : 163).
وقال تعالى:" وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا" (الإسراء، آية : 55).
هذه هي الكتب السابقة التي سماها الله لنا في كتابه إلا أنه توجد كتب أخرى أنزلت ولم تسم لنا، بل ذكرت مجملة، كما في قوله تعالى:" لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ" (الحديد، آية : 25).
وعلينا أن نؤمن بهذه الكتب التي لم تسم إجمالاً كما أنه لا يجوز لنا أن ننسب كتاباً إلى الله تعالى سوى ما نسبه إلى نفسه وأخبرنا القرآن الكريم أنه من الكتب التي أنزلها تعالى على رسول من رسله .

ثالثاً: تحريف الكتب السابقة:
أخبرنا الله في كتابه المنزل أن أهل الكتاب حرفوا كتبهم فلم تعد في صورتها التي أنزلها، فقد جاء عن اليهود قوله تعالى:" مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ" (النساء، آية : 46).
ـ وقال تعالى:" فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ" (المائدة، آية : 13).
ـ وقال تعالى:" يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ" (المائدة، آية : 41).
وجاء عن النصارى قوله تعالى:" وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" (آل عمران، آية : 78).
وإذ تدبرنا هذا الأمر وجدنا أن هناك ثلاثة أنواع من التحريف على الأقل قد وقعت في كتب أهل الكتاب وكلها وردت الإشارة إليه في القرآن .
1ـ تحريف المعنى مع بقاء اللفظ على ما هو عليه:
إن الله قد حرم الربا في جميع كتبه المنزلة التوراة والإنجيل والقرآن، والتوراة التي بين أيدي اليهود اليوم رغم كل ما حدث فيها من تحريفات شنيعة ـ ماتزال تحمل نصّاً بتحريم الربا، ونصاً بوجوب الأمانة في التعامل مع الناس ومع ذلك فاليهود ـ كما هو معلوم ـ يتعاملون بالربا على النطاق الدولي، ويسلبون عن طريقه أموال الناس بغير حق، وعن ذلك يقول الله تعالى:" فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا" (النساء، آية : 160 ـ 161).
فكيف تحايلوا على النص الموجود في كتابهم، أو بعبارة أخرى حرفوه ليبيحوا لأنفسهم التعامل بالربا مع الناس وسلب أموالهم؟
لقد قالوا: إن الربا غير جائز في التعامل مع اليهود، وكذلك الأمانة واجبة في تعامل اليهود بعضهم مع بعض، أما إن كان الذي نتعامل معه من غير اليهود فلا بأس عليك أن نتعامل معه بالربا ولا بأس عليك أن تأكل ماله وذلك ما وردت عنه الإشارة في سورة آل عمران، قال تعالى:" وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" (آل عمران، آية : 75).
أي أنهم قالوا: لا حرج علينا في سلب أموال "الأميين" الذين ليسوا يهوداً ويزعمون أن الله أباح لهم ذلك وهم يعلمون أن هذا كذب على الله فإنه حرّم عليهم الربا إطلاقاً وحرّم عليهم سلب أموال الناس جميعاً، أميين وغير أميين .
2ـ التحريف بالتغيير والإضافة:
فأما اليهود فقد أضافوا إلى التوراة مجموعة من القصص والأساطير ما أنزل الله بها من سلطان، بعضها يصل إلى حد الفحش في حق أنبيائهم، وما من أنبيائهم إلا ألصقوا به سلوكاً لا يليق بالجيش العادي فضلاً عن النبي المعصوم، بل إنهم تجرءوا على مقام الألوهية وقالوا في حق الله سبحانه وتعالى كلاماً لا يخرج من فم مؤمن قط ولا يخطر له على بال، وقد ظلوا يرددون هذه الأقوال وغيرها حتى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وسجل عليهم القرآن أقوالهم ومعتقداتهم الفاسدة، قال تعالى:" لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ" (آل عمران، آية : 181 ـ 182).
وأما الإنجيل فيحوي من التغيير والإضافة ما لا يقل سخفاً وبشاعة ولكن في إتجاه آخر، ذلك هو تأليه عيسى عليه السلام والزعم بأنه ابن الله، قال تعالى:" وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ" (آل عمران، آية : 78 ـ 80).
وأسطورة ألوهية عيسى وبنوته لله وكون الله ثلاثة : الاب والابن وروح القدس، كلها إضافة أضيفت إلى الإنجيل المنزل من عند الله، كتبوها بأيديهم وزعموا أنها من عند الله وقد رد القرآن عليهم رداً مفصلاً في أكثر من سورة، وبيّن حقيقة التوحيد، قال تعالى:" وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" (المائدة، آية : 116 ـ 117).
ولكن المهم أن أناجيلهم الأربعة المعتمدة "إنجيل مرقص وإنجيل لوقا وإنجيل متى وإنجيل يوحنا" ، متضاربة بعضها مع بعض في هذا الشأن، مما ينفي أن تكون كلها من مصدر واحد فضلاً عن أن يكون مصدرها هو الله، وفضلاً عن ذلك كله فإن هناك إنجيلاً خامساً هو "إنجيل برنابا" منعت الكنيسة تداوله، وأحرقت ما وقع في يدها من نسخة، وهددت من يوجد عنده بإصدار قرار حرمان ضده: أي الحرمان ـ في زعمهم ـ من رضوان الله ومغفرته ـ لأنه يقرر أن عيسى رسول بشر، وليس ربّاً ولا إلهاً، وأنه بشر ببعثه محمد صلى الله عليه وسلم من بعده .
3ـ التحريف بالكتمان:
فهو على نوعين: كتمان أحكام الشريعة، وكتمان الإشارة إلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن يسجل عليهم أنهم أمروا بعدم الكتمان فعصوا الله، قال تعالى:" وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ" (آل عمران، آية : 187).
ـ قال تعالى:" الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" (البقرة، آية : 146).
ويسجل عليهم أن الله أخذ عليهم ميثاقاً بأن يؤمنوا بكل رسول يأتي من عند الله مصدقاً لما معهم، كما يسجل عليهم أن خبر بعثة محمد صلى الله عليه وسلم موجود عندهم في التوراة والإنجيل، قال تعالى:" وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ  النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (آل عمران، آية : 81 ـ 82).
وقال تعالى:" وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ" (الصف، آية : 6).
وقال تعالى:" الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (الأعراف، آية : 157).
وعلى الرغم من هذه الوصايا كلها لأهل الكتاب فقد عصوا أمر ربهم وكتموا الحق الذي أمروا بإعلانه على الناس:
وأما إنكارهم لبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد اجتهدوا في محو كل ذكر صريح له عليه الصلاة والسلام في كتبهم وأخفوه عن الناس، ومع كل اجتهادهم هذا فقد بقيت إشارات في التوراة والإنجيل لا يمكن تفسيرها إلا بأنها إشارة لمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم .
وصدق الله العظيم إذ يقول:" الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" (البقرة، آية : 146).
وقال تعالى:" حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ" (البقرة، آية : 109).
وقال تعالى:" وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ" (البقرة، آية : 89 ـ 90).

رابعاً: أهمية الإيمان بالكتب السماوية:
1ـ الإيمان بالكتب السابقة ركن من أركان الإيمان لا يتم الإيمان إلا به.
2ـ الإيمان بالكتب السابقة يؤكد وحدة الرسالات الإلهية وأن الإسلام جامع لكل الديانات السماوية والمسلمون أولى الناس جميعاً بقيادة البشرية على نهج الإسلام، فالمؤمن يعتقد أن أي طائفة من أهل الكتاب يملكون أساساً وأصلاً لدينهم وهذا مما يجعل أهل الكتاب قريبين من الإسلام والمسلمين لو أنصفوا، قال تعالى:" شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ" (الشورى، آية : 13).
3ـ الإيمان بالكتب الإلهية جزء من الإيمان بالقرآن وجزء من الإيمان بأن الله سبحانه هو الهادي، وأن هداية الله لم تنقطع عن البشر، فما من أمة إلا وقد أنزل الله بها هدى، قال تعالى:" وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ" (فاطر، آية : 24).
4ـ المسلم يؤمن أن القرآن قد اشتمل على كل ما سبقه من كتب وهو سليم من أي تحريف، فالقرآن يصدق بالكتب السابقة، وهو المرجع الوحيد لبيان ما فيها من حق، قال تعالى:" وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ" (المائدة، آية : 48).
5ـ الإيمان بالكتب السابقة ينمي لدى المسلم الشعور بوحدة البشرية ووحدة دينها، ووحدة رسلها، ووحدة مصدرها، وأن الأمة الإسلامية ورثت العقائد السماوية ووحدة النبوات منذ فجر البشرية، والمحافظة على تراث العقيدة وتراث النبوة، ورائدة موكب الإيمان على الأرض إلى آخر الزمان.
6ـ الإيمان بالكتب السابقة، ينقي روح المؤمن من التعصب الذميم ضد الديانات، وضد المؤمنين بالديانات، ماداموا على الطريق الصحيح .
والموقف الذي ينبغي أن يتخذه المسلم من تلك الكتب "التوراة والإنجيل"، أن يؤمن بما ورد فيها مما قرره القرآن الكريم، أما ما ورد مخالفاً أصول القرآن العامة فلا يؤمن به، بل يعتقد في بطلانه، أما ماعدا ذلك من القصص والمواعظ التي لم يذكرها القرآن، ولا تناقض أصوله فلا يصدقها ولا يكذبها، وذلك إتباعاً لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان حقاً لم تكذبوهم وإن كان باطلاً لم تصدقوهم .
فأخبار أهل الكتاب على ثلاثة أقسام:
الأول: ما علمنا صحته، وشهد له بالصدق ما بأيدينا من الوحي فذاك صحيح.
الثاني: ما علمنا كذبه، ودل على كذبه مخالفته لما لدينا من الوحي.
الثالث: ما هو مسكوت عنه، لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما أخرج البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار .

خامساً: القرآن الكريم نسخ الكتب السابقة كلها:
شاء الله سبحانه وتعالى أن ينسخ الكتب السابقة كلها وينزل كتابة الأخير ليبقى في الأرض إلى قيام الساعة، كان كل رسول من السابقين يرسل إلى قومه خاصة، بينما بعث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلى البشرية كافة، قال تعالى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" (الأعراف، آية : 158).
وقال تعالى:" وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا" (سبأ، آية : 28).
وكذلك كانت الكتب السابقة تنزل لأقوام معينين بينما أنزل القرآن للناس كافة، قال تعالى:" وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ" (القلم، آية : 52).
لذلك اقتضت مشيئة الله أن ينسخ هذا الكتاب الشامل الكامل ما سبقه من الكتب جميعاً ويهيمن عليها، قال تعالى:" وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ" (المائدة، آية : 48 ـ 50).
ولم يعد يقبل من أحد أن يستمسك بما سبق من الكتب ويرفض القرآن، قال تعالى:" قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ" (المائدة، آية : 68).
وإقامة التوراة والإنجيل بالنسبة لأهل الكتاب المخاطبين بهذه الآية معناها: الإقرار بوحدانية الله، ذلك أن التوراة والإنجيل المنزلين من عند الله يقرران هذه الوحدانية تقريراً جازماً، ولكن أهل الكتاب حرفوهما، فالمطلوب منهم هو إقامتها مرة أخرى، أي الرجوع إلى أصل التوحيد، ثم إن التوراة والإنجيل قد ذكرا محمداً صلى الله عليه وسلم وأمر بإتباعه عند ظهوره، فإقامتهما معناها الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وما نزل عليه من وحي.. أي الإسلام، قال تعالى:" إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ" (آل عمران، آية : 19).
وقال تعالى:" وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (آل عمران، آية : 85).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار .
وفي خلاصة هذا المبحث يتضح لنا:
ـ أن الله عز وجل أنزل كتباً ورد ذكرها في القرآن الكريم هي بترتيبها التاريخي كما يأتي: صحف إبراهيم ـ التوراة ـ الزبور ـ الإنجيل ـ القرآن.
ـ وأن هذه الكتب جميعاً تحتوي على حقيقة أساسية هي وحدانية الله عز وجل ووجوب إخلاص العبادة له بغير شريك، وطاعته فيما يأمر وينهي عنه.
ـ أن الكتب السابقة على القرآن لم يعد لها وجود في صورتها المنزلة لأنها إما ضاعت ولم يعد لها أثر معروف كصحف إبراهيم، وإما حرفت على أيدي أصحابها كالتوراة والإنجيل.
ـ أن التحريف الغالب إما بالتغيير والإضافة وإما بالكتمان، ومن أبرز الإضافات أساطير التوراة وقصة تأليه عيسى وقصة التثليث، ومن أبرز ما كتموه الإخبار عن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ـ أن مشيئة الله قد اقتضت نسخ الكتب السابقة كلها ما ضاع منها وما حرف وأنزل القرآن مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه وناسخاً لكل ما سبق تنزيله من عند الله .



الخاتمة
وبعد: فهذا ما يسره الله لي من الحديث عن الإيمان بالقرآن الكريم والكتب السماوية في هذا الكتاب وقد سميته "الإيمان بالقرآن الكريم والكتب السماوية" فما كان فيه من خطأ، فاستغفر الله تعالى، وأتوب إليه والله ورسوله بريء منه، وحسبي أني كنت حريصاً ألا أقع في الخطأ، وعسى ألا أحرم من الأجر.
وأدعو الله أن ينفع بهذا الكتاب بني الإنسان أينما وجد، ويكون سببا في زيادة إيمانه، وهدايته، أو تعليمه، أو تذكيره، وأن يذكرني من يقرؤه من إخواني المسلمين في دعائه، فإن دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب مستجابة إن شاء الله تعالى وأختم هذا الكتاب بقول الله تعالى:" وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا" (النساء، آية : 69).
وبقول الشاعر:
        يا منزل الآيات والفُرقان
                            بيني وبينك حرمة القرآن
        إشرح به صدري لمعرفة الهدى
                            واعصم به قلبي من الشيطان
        يسِّر به أمري وأقض مآربي
                            وأجر به جسدي من النِّيَران
        واحطط به وزري وأخلص نَيَّتي
                            واشدد به أزري وأصلح شأني
        واكشف به ضُرِّي وحقِّق توبتي
                            واربح به بيعي بلا خسراني
        طهر به قلبي وصفِّ سريرتي
                            أجمل به ذكري وأعلِ مكاني
        واقطع به طمعي وشرِّف همَّتي
                            كثر به ورعي واحي جنان
        أسهر به ليلي وأظمِ جوارحي
                            أسبل بفيض دموعها أجفاني
        وأُمزجه يا ربِّ بلحمي مع دمي
                            واغسل به قلبي من الأضغاني
        أنت الذي صوَّرتني وخلقتني
                            وهديتني لشرائع الإيمان
        أنت الذي علَّمتني ورحمتني
                            وجعلت صدري واعى القُرآن
        أنت الذي أطعمتني وسقيتني
                            من غير كسب يد ولا دكان
        وجبرتني وسترتني ونصرتني
                            وغمرتني بالفضل والإحسان
        أنت الذي آويتني وحبوتني
                            وهديتني من حيرة الخذلان
        وزرعت لي بين القلوب مودة
                            والعطف منك برحمة وحنان
        ونشرت لي في العالمين محاسناً
                               وسترت عن أبصارهم عصياني
        وجعلت ذكري في البرية شائعاً
                            حتى جعلت جميعهم إخواني
        والله لو علموا قبيح سريرتي
                            لأبى السَّلام عليَّ من يلقاني
        ولأعرضوا عنِّي وملُّوا صُحبتي
                            ولُبؤت بعد كرامة بهوان
        لكن سترت معايبي ومثالبي
                             وحلمت عن سقطي وعن طغياني
        فلك المحامد والمدائح كلها
                            بخواطري وجوارحي ولساني
"سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك"

فهرس الكتاب
الإيمان بالقرآن الكريم والكتب السماوية
المبحث الأول: القرآن لغة واصطلاحاً
أولاً: القرآن لغة
ثانياً: القرآن في الإصطلاح

المبحث الثاني: عظمة القرآن واسماؤه وصفاته
أولاً: عظمة القرآن
1ـ ثناء الله على كتابه
2ـ عظمة منزله سبحانه وتعالى
3ـ فضل من نزل بالقرآن
4ـ القرآن تنزيل رب العالمين
5ـ القرآن مستقيم ليس فيه عوج
6ـ خشوع وتصدُّعها
7ـ انقياد الجمادات لعظمة القرآن
8ـ تحدى الأنس والجن بالقرآن
ثانياً: اسماء القرآن الكريم
1ـ الفرقان
2ـ البرهان
3ـ الحق
4ـ النبأ العظيم
5ـ البلاغ
6ـ الروح
7ـ الموعظة
8ـ الشفاء
9ـ أحسن الحديث
ثالثاً: أوصاف القرآن الكريم
1ـ الحكيم
2ـ العزيز
3ـ الكريم
4ـ المجيد
5ـ العظيم
6ـ البشير والنذير
7ـ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه

المبحث الثالث: خصائص القرآن الكريم
أولاً: كتاب إلهي
ثانياً: كتاب محفوظ
ثالثاً: معجز
1ـ تعريف المعجزة
2ـ شروط المعجزة
3ـ القرآن هو المعجزة العظمى
4ـ وجوه إعجاز القرآن
رابعاُ: كتاب مبين وميسر
خامساً: كتاب هداية
سادساً: كتاب الإنسانية كلها
سابعاً: كتاب الزمن كله
ثامناً: نزوله بأرقى اللغات وأجمعها
تاسعاً: تصديق القرآن لكتب الله وهيمنته عليها
1ـ علاقة الهيمنة بالتصديق
2ـ مظاهر هيمنة القرآن على الكتب السابقة
أ ـ إخباره بتحريف الكتب السابقة وتبديلها
ب ـ بيان المسائل الكبرى خالفوا فيها الحق
ج ـ بين القرآن كثيراً من المسائل التي أخفوها

المبحث الرابع: مقاصد القرآن الكريم
أولا: تصحيح العقائد والتصورات
1ـ القرآن العظيم من أوّله إلى آخره دعوة إلى التوحيد
2ـ تصحيح العقيدة في النبوة والرسالة
3ـ تثبيت عقيدة الإيمان بالآخرة
ثانياً: تزكية النفس البشرية
ثالثاً: عبادة الله وتقواه
رابعاً: إقامة العدل بين الناس
خامساً: الشورى
سادساً: الحرية
1ـ حرية الإعتقاد
2ـ حرية التعبير
3ـ حرية الفكر
4ـ حرية التنقل
سابعاً: رفع الحرج
ثامناً: تقرير كرامة الإنسان
1ـ الإنسان خليفة في الأرض
2ـ الإنسان محور الرسالات السماوية
3ـ تكليف الملائكة بالسجود لآدم
4ـ تفضيل الإنسان عن سائر المخلوقات
5ـ تسخير ما في الكون للإنسان
6ـ تكريم الإنسان بالعقل
7ـ تكريم الإنسان بالأخلاق والفضائل
8ـ تكريم الإنسان في تشريع الأحكام
أ ـ وجود الإنسان
ب ـ حقوق الأولاد
ج ـ احترام إرادة الإنسان في العقود والتصرفات
س ـ العقوبات
تاسعاً: تقرير حقوق الإنسان
1ـ حق الحياة
2ـ حق الحرية
3ـ حق المساواة
4ـ حق العدالة
5ـ حق الفرد في محاكمة عادلة
6ـ حق الحماية في تعسف السلطة
7ـ حق الفرد في حماية عرضه وسمعته
8ـ حق اللجوء
9ـ حقوق الأقليات
10ـ حق المشاركة في الحياة العامة
11ـ حق الدعوة والبلاغ
12ـ الحقوق الإقتصادية
13ـ حق حماية الملكية
14ـ حق العامل
15ـ حق الفرد في كفايته من مقومات الحياة
16ـ تأكيد حقوق الضعفاء
عاشراً: تكوين الأسرة الصالحة
الحادي عشر: إنصاف المرأة وتحريرها من ظلم الجاهلية
1ـ في مساواة المرأة للرجل في التكليف والتدين والعبادة
2ـ في التكاليف الدينية الإجتماعية الأساسية
3ـ وفي قصة آدم وتوَّجه التكليف الإلهي
4ـ وفي مساواة المرأة للرجل في الجزاء
5ـ وفي الحقوق المالية للمرأة
6ـ المرأة بإعتبارها أماً
7ـ المرأة بإعتبارها بنتاً
8ـ المرأة بإعتبارها زوجة
9ـ المحافظة على أنوثة المرأة
الثاني عشر: بناء الأمة الشهيدة على الناس
ـ أوصاف الأمة الأساسية في القرآن
1ـ الربانية
2ـ الوسطية
3ـ الدعوة
4ـ الوحدة
الثالث عشر: السماحة
الرابع عشر: الرحمة
الخامس عشر: الوفاء بالعهود والعقود
1ـ الترغيب بالوفاء بالعهد
2ـ الأوامر القرآنية بالوفاء بالكيل والميزان
3ـ الأمر بالوفاء بالعقود
4ـ الأمر بالوفاء بالنذر
5ـ تنويه القرآن الكريم بأهل الوفاء
6ـ ما أعده الله لأهل الوفاء من الأجر والجزاء

المبحث الخامس: جمع القرآن وكتابته
أولاً: جمع القرآن الكريم كتابة من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثانيا: جمع القرآن الكريم في مصحف واحد على عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه
ثالثاً: جمع القرآن الكريم في عدد من المصاحف على عهد ذي النورين أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه
1ـ الباعث على جمع القرآن في عهد عثمان
2ـ استشارة جمهور الصحابة في جمع عثمان
3ـ الفرق بين جمع الصّديق وجمع عثمان رضي الله عنهما
4ـ هل المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة؟
5ـ عدد المصاحف التي أرسلها عثمان إلى الأمصار؟


المبحث السادس: الكتب السماوية
أولاً: وجوب الإيمان بالكتب السماوية
ثانياً: الكتب التي ورد ذكرها في القرآن
1ـ الصحف
2ـ التوراة
3ـ الإنجيل
4ـ الزبور
ثالثاً: تحريف الكتب السابقة
1ـ تحريف المعنى مع بقاء اللفظ عى ما هو عليه
2ـ التحريف بالتغيير والإضافة
3ـ التحريف بالكتمان
رابعاً: أهمية الإيمان بالكتب السابقة
خامساً: القرآن الكريم نسخ الكتب السابقة كلها

الخاتمة
فهرس الكتاب.
كتب صدرت للمؤلف:
1 ـ السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث.
2 ـ سيرة الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: شخصيته وعصره.
3 ـ سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: شخصيته وعصره.
4 ـ سيرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه:  شخصيته و عصره.
5 ـ سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: شخصيته و عصره.
6 ـ سيرة أمير المؤمنين الحسن بن علي بن أبي طالب. شخصيته و عصره.
7 ـ الدولة العثمانية: عوامل النهوض والسقوط.
8 ـ فقه النصر و التمكين في القرآن الكريم.
9 ـ تاريخ الحركة السنوسية في إفريقيا.
10 ـ تاريخ دولتي المرابطين و الموحدين في الشمال الإفريقي.
11 ـ عقيدة المسلمين في صفات رب العالمين.
12ـ الوسطية في القرآن الكريم.
13ـ الدولة الأموية، عوامل الإزدهار و تداعيات الإنهيار.
14ـ معاوية بن أبي سفيان، شخصيته و عصره.
15ـ عمر بن عبد العزيز، شخصيته وعصره.
16ـ خلافة عبد الله بن الزبير.
17ـ عصر الدولة الزنكية.
18ـ عماد الدين زنكي.
19ـ نور الدين زنكي.
20ـ دولة السلاجقة.
21ـ الإمام الغزالي وجهوده في الإصلاح والتجديد.
22ـ الشيخ عبد القادر الجيلاني.
23ـ الشيخ عمر المختار.
24ـ عبد الملك بن مروان بنوه.
25ـ فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة.
26ـ حقيقة الخلاف بين الصحابة.
27ـ وسطية القرآن في العقائد.
28ـ فتنة مقتل عثمان.
29ـ السلطان عبد الحميد الثاني.
30ـ دولة المرابطين.
31ـ دولة الموحدين.
32ـ عصر الدولتين الأموية والعباسية وظهور فكر الخوارج.
33ـ الدولة الفاطمية.
34ـ حركة الفتح الإسلامي في الشمال الافريقي.
35ـ صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير البيت المقدس.
36ـ إستراتيجية شاملة لمناصرة الرسول صلى الله عليه وسلم دروس مستفادة من الحروب الصليبية.
37ـ الشيخ عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء.
38ـ الحملات الصليبية (الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة) والأيوبيون بعد صلاح الدين.
39ـ المشروع المغولي عوامل الإنتشار وتداعيات الإنكسار.
40ـ سيف الدين قطز ومعركة عين جالوت في عهد المماليك.
41ـ الإيمان بالله جل جلاله.
42ـ الإيمان باليوم الآخر.
43ـ الشورى في الإسلام.
44ـ السلطان محمد الفاتح.
45ـ الإيمان بالقدر.
46ـ الإيمان بالملائكة.
47ـ الإيمان بالقرآن الكريم والكتب السماوية.

الإيمان بالقرآن الكريم والكتب السماوية

تحميل

عن الكتاب

المؤلف :

علي محمد الصلابي

الناشر :

www.islamland.com

التصنيف :

عقيدة وفرق