الإيمان بالله جل جلاله

إن حقائق الإسلام ثابتة لا تتغير منذ أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، ولكن علماء الأمة في كل جيل يتناولونها بالشرح والتفسير من خلال الواقع الذي يعيشه كل جيل، وما جدّ فيه من نوازل، وما حدث فيه من انحراف في الفهم أو السلوك.
وإن جيلنا الذي نعيش فيه لهو من أحوج الأجيال إلى التعرف على حقائق دينه، وخصوصاً أركان الإيمان الستة.
وهذا الكتاب يتناول الركن الأول: الإيمان بالله عز وجل، وقد قسمه المؤلف إلى مباحث:
المبحث الأول: معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفضلها وشروطها، وارتباطها بالولاء والبراء، وآثار الإقرار بها في حياتنا.
المبحـثان الثاني والثالـث: تكلم فيهما علـى إثبات وجـود الخالق، وتوحيد الربوبية.
المبحثان الرابع والخامس: وضح فيهما توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية، وعلاقة تحكيم الشريعة بالتوحيد، والآثار الحسنة للحكم بما أنزل الله، والآثار السيئة للحكم بغير ما أنزل الله.
المبحث السادس: كان الحديث فيه عن الإيمان، والفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان، وأسباب قوة الإيمان, وفوائده وثمراته.
المبحث السابع: كان الحديث فيه عن الشرك والكفر، والنفاق والردة والفسق والمعاصي.
فالهدف من الكتاب هو زيادة الإيمان بالله تعالى، بعيداً عن العوائق التي وضعت في طريقه الذي بينه رسولنا صلى الله عليه وسلم، وسار عليه الصحابة الكرام دون عناء ولا شقاء


الإيمان بالله
جل جلاله

قال تعالى: " وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" ( التغابن ، آية : 11)

د. علي محمد محمد الصلابي

 

 
بسم الله الرحمن الرحيم

الإهداء

إلى كل إنسان في الوجود يبحث عن الطريق لمعرفة الله، والإيمان به وتحقيق عبوديته الشاملة على المنهج الصحيح أهدي هذا الكتاب سائلاً المولى عز وجلّ بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا أن يكون خالصاً لوجه الكريم.
قال تعالى:" فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا" (الكهف ، آية : 110).

                        د. علي محمد محمد الصلابي
 
بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ" (آل عمران ، آية : 102).
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا" (النساء ، آية : 1).
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا" (الأحزاب ، آية : 70، 71).
يا رب لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضى.
أما بعد:
هذا الكتاب يتحدث عن الخالق العظيم والرازق الكريم، الفعّال لما يريد، الكريم المنان، الواسع العليم، الذي رأيت من خلال مسيرتي في عالم التاريخ عظمته في الحياة، وفي قيام الدول وزوالها، وانتشار الحضارات وإندثارها، وعز الحكومات وإذلالها وقصص الناس ، وفي مخلوقاته العجيبة الغريبة وفي هذا الكون الفسيح وحركة التاريخ.
هذا الكتاب إنما كان نتاج هذه المسيرة، بل إحدى ثمارها حيث وجدت أن الذين أمنوا بالله العظيم واتبعوا رسوله الكريم هدى الله قلوبهم بل زادها إيمانا ، لقد عرفوا ربهم وعلموا أن الله هو التواب الرحيم ذو الفضل العظيم، العزيز الحكيم الذي ابتلى إبراهيم بكلمات، وسمع نداء يونس في الظلمات، واستجاب لزكريا فوهبه على الكبر يحيى هادياً مهدياً، وحنّاناً من لدنه وكان تقيا.
الله الذي أزال الكرب عن أيوب وألان الحديد لداود وسخر الريح لسليمان، وفلق البحر لموسى، ورفع إليه عيسى، ونجّا هوداً وأهلك قومه، ونجّا صالحاً من الظالمين فأصبح قومه في دارهم جاثمين، وجعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وفداء إسماعيل بذبح عظيم، وجعل عيسى وأمه آية للعالمين.
الله الذي أغرق فرعون وقومه ونجّاه ببدنه ليكون لمن خلقه آية، وخسف بقارون وداره الأرض، ونجّا يوسف من غيابت الجب وجعله على خزائن الأرض، ونصر نوحاً على القوم الكافرين ونجّاه وأهله من الكرب العظيم.
الله الذي أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، وأسعد وأشقى، وأوجد وأبلى، ورفع وخفض، وأعز وأذل، وأعطى ومنع.
هدى نوحاً وأضل ابنه، واختار ابراهيم وأبعد أباه، وأنقذ لوطاً وأهلك امرأته، ولعن فرعون وهدى زوجته، واصطفى محمد ومقت عمه وجعل من أنصار دعوته أبناء ألد خصومه، كخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل، فسبحانه عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته .
الله جلّ وعلا الذي جمع في هذا الوجود بين الكمال والجمال وعنصر الجمال في هذا الكون مقصوداً قصداً، جمال مقصود وكمال بلا حدود، فرؤية الجمال على حقيقته لا تكون إلا حينما ينظر القلب بنور الله، فتتكشف له الأشياء عن جوهرها الجميلة وروائعها البديعة، ويتذكر الله كلما وقعت عينه أو حسه على شيء بديع، أو منظر حسن، فيحسن بالصلة ويشعر بالترابط بين المبدع وما أبدع والجميل وما جمّل والمحسن وما أحسن، ويرى من وراء هذا الجمال جمال الله وجلاله وكماله والقرآن الكريم يوقظ القلوب لتتبع مواضع الحسن وآيات الجمال في هذا الكون البديع " فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ" (المؤمنون ، آية : 14)، "الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ" (السجدة ، آية : 7)، وقال تعالى:" أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ" (ق ، آية : 6).
وتأمل كلمة" أَفَلَمْ يَنظُرُوا" إنه استفهام استنكاري لأولئك الذين لهم أعين لا يبصرون بها، وقلوب لا يفقهون بها، ولا يرون ذلك الجمال الساحر، والإبداع الأخاذ والحسن الجذّاب الذي يدل على رب العباد، ولذلك يكثر في القرآن الكريم الأمر بالنظر لأخذ العبرة، وللإحساس بالجمال:
قال تعالى:" أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ" (الأعراف ، آية : 185).
وقال تعالى:" فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (الروم ، آية : 50).
وقال تعالى:" قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (العنكبوت ، آية : 20).
قال تعالى:" فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ* أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا* ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا* فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا* وَعِنَبًا وَقَضْبًا* وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا* وَحَدَائِقَ غُلْبًا* وَفَاكِهَةً وَأَبًّا* مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ" (عبس ، آية : 24ـ 32).
وقال تعالى:" قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ" (يونس ، آية : 101).
فأين الأعين الناظرة، والقلوب المبصرة، والأذهان المتوقدة، والفطرة السليمة، والمشاعر الحية، والأحاسيس المرهفة؟ يا الله ما أروع هذا الكون وما أجمل هذا الوجود، إن المتأمل فيه يبهر بجماله، وروعة نظامه وعظمة إحكامه كل شيء فيه جميل ليله ونهاره، صبحه ومساؤه، أرضه وسماؤه، بدره وشمسه، حرّه وبرده، غيمه وصحوه، أخضره وأغبره، جباله وتلاله ، سهوله ووديانه، بره وبحره، كل شيء جميل، وكل شيء بديع وكل شيء متقن، وكل شيء متناسق وكل شيء منتظم، وكل شيء بقدر، وكل شيء بإحكام، من الذرة الصغيرة إلى الجرم الكبير، ومن الخلية الساذجة إلى أعقد الأجسام.
أنظر إلى الإنسان وروعة خلقه، وتباين أجناسه وتعدد لغاته وإختلاف نغماته، فهو جلّ وعلا قد أحسن كل شيء خلقه ومن أحسن مخلوقاته وأجملها الإنسان" وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ" (التغابن ، آية : 3)، " يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ* فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ" (الإنفطار ، آية : 6ـ 8)، قال تعالى:" لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" (التين ، آية : 4).
أنظر إلى السماء وهيبتها والنجوم وفتنتها، والشمس وحسنها، والكواكب وروعتها، والبدر وإشراقه، والفضاء ورحابته، تأمل في السماء في ليلة حالكة وقد انتشرت فيها الكواكب وبثت فيها النجوم.
أنظر إلى الأرض كيف دحاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها، هذه البحار، هذه الأنهار، هذا الليل، هذا الصبح، هذا الضياء، هذه الظلال، هذه السحب، هذا التناغم الساري في الوجود كله، هذا التناسق هذه الزهرة، هذه الوردة هذه الثمرة اليانعة، هذا اللبن السائغ، هذا الشهد المذاب، هذه النخلة هذه النحلة، هذه النملة هذه الدويبة الصغيرة المجهزة بالأرجل أو الشعيرات أو الملامسة والمرونة لتشق طريقها وتتعامل مع واقعها، هذه السمكة، هذا الطائر المغرد، والبلبل الشادي هذه الزاحفة، هذا الحيوان جمال لا ينفذ، وحسن لا ينتهي وقرة عين لا تنقطع ، " فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ* وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ* يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ " (الروم ، آية : 17ـ 19).
الله سبحانه إله واحد ليس له شريك، وليس له مثيل في ذاته أو صفاته أو أفعاله كل ما في الكون من إبداع ونظام وانسجام يدل على أن مبدعه ومدبره واحد ولو كان وراء هذا الكون أكثر من مدبر وأكثر من منظم لأختل نظامه، واضطربت سننه " لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ" (الأنبياء ، آية : 22).
وليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله وأن الله رب كل شيء ومليكه، كما كان عبّاد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن، من محبة الله والخضوع له والذل له، وكمال الإنقياد لطاعته وإخلاص العبادة له وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال والمنع والعطاء والحب والبغض وهو واحد سبحانه في ألوهيته فلا يستحق العبادة إلا هو ولا يجوز التوجه بخوف أو رجاء إلا إليه لا خشية إلا منه، ولا ذل إلا إليه، ولا طمع إلا في رحمته، ولا إعتماد إلا عليه ولا إنقياد إلا لحكمه .
الله كل الخلق مفتقرون إليه، قال تعالى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ" (فاطر ، آية : 15).
قد يعطي الإنسان أموالاً وقد يمنح عقاراً، وقد يرزق عيالاً وقد يوهب جاهاً، وقد ينال منصباً عظيماً أو مركزاً كريماً أو زعامة عريضة، أو رياسة مكينة، قد يحف به الخدم ويحيط به الجند، وتحرسه الجيوش، ويرضخ له الناس وتذل له الرؤوس، وتدين له الشعوب ولكنه مع ذلك فقير إلى الله محتاج إلى مولاه .
الله، أسعد عباده بكتابه، وأبهج قلوبهم بكلامهم وأنار بصائرهم بقراءته، أكثرهم قراءة له من أشدّهم تعظيماً له، وأقربهم منزلة منه، أقربهم من كلامه، أقرؤهم لوحيه كلام معجز، وقرآن مبهج، وحبل متين، ونور مبين ينطق بالعظمة ويهتف بالإبداع، ويصدح بالألوهية يشهد للربوبية .
قال تعالى:" اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ" (الزمر ، آية : 23).
وجود الله جلّ وعلا أمر ثابت في الأنفس، متمكن في الفطر، مزروع في الأذهان، مغروس في الأفئدة لا يحتاج إلى دليل ولا يتطلب إثبات، ولا يفتقر إلى تأكيد.
        وليس يصح في الأذهان شيء
                        إذا احتاج النهار إلى دليل
ولكن بعض ذوي الفطر المنكوسة والأنفس المريضة، والعقليات المتعنتة قد يجادلون في ذلك مع أنه مغروس في حقيقة ضمائرهم " وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ" (النمل ، آية : 14).
وجاء القرآن الكريم مزدهراً بآيات تنطق بالعظمة وتشهد بالربوبية، تسُر أنفس الواثقين، وتدحض مزاعم المارقين " أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ" (الطور ، آية : 35).
وقد تعرض أنبياء الله وأمناء الوحي وحملة الدعوة ومصابيح الدجى وأنصار التوحيد، تعرضوا لعدد من المتعنتين على مرّ العصور مع اختلاف في طبقاتهم وتباين في تفنناتهم إلا أن بعضهم وصل به الأمر أن ادعى أنه رب العالمين فأيد الله أولياءه بحجج قاهرة ودلائل باهرة وأدلة قاصمة، وصواعق مرسلة تدمر أباطيلهم وتنسف إفتراءاتهم وتزلزل كياناتهم وتظهر سخف عقولهم وقلة فهمهم وانحطاط أمانيهم.
فهذا إبراهيم عليه السلام يحاور النمرود الذي طغى وتجبر وعتا وتكبر وادعى الربوبية من دون المولى عز وجل، قال تعالى:" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (البقرة ، آية : 258).
فحينما أدلى إبراهيم بالدليل الأول على وجود الله تعالى وربوبيته فقال " رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ" قال النمرود: وأنا أحيي وأميت أي أنه إذا أتى بالرجلين قد تحتم قتلهما فإذا أمر بقتل أحدهما وعفا عن الآخر فكأنه قد أحياه وأمات الآخر، وهذه حجة واهية ورد سخيف، ولكن إبراهيم عليه السلام، تدرج معه في المحاجة فأتاه بالضربة القاضية والحجة الدامغة فقال:" فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ" : أي هذه الشمس مسخرة كل يوم تطلع من المشرق كما سخرها خالقها ومسيّرها وقاهرها وهو الله الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء، فإن كنت كما زعمت أنك تحيي وتميت فأت بهذه الشمس من المغرب، فإن الذي يحيي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء ولا يمانع ولا يغالب بل قد قهر كل شيء، ودان له كل شيء، فإن كنت كما تزعم فأفعل هذا فإن لم تفعله فلست كما زعمت وأنت تعلم وكل أحد انك لا تقدر على هذا ولم يبق للنمرود كلام يجيب فيه الخليل عليه الصلاة والسلام ، ولهذا قال تعالى:" فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ".
وقال الشاعر:
        فيا عجباً كيف يعصي الإله
                        أم كيف يجحده الجاحد
        والله في كل تحريكة
                        وفي كل تسكينة شاهد
        وفي كل شيء له آية
                        تدل على أنه واحد
وما أجمل هذه الأبيات الرائعة التي قالها الشاعر إبراهيم بريول ـ رحمه الله:
        إني أويت لكل مأوى في الحياة
                        فما رأيت أعز من مأواكا
        وتلمست نفسي السبيل إلى النجاة
                        فلم تجد منجي سوى منجاكا
        وبحثت عن سِرّ السعادة جاهداً
                        فوجدت هذا السر في تقواكا
        فليرضى عني الناس أو فليسخطوا
                        أنا لم أعد أسعى لغير رضاكا
        أدعوك يا ربي لتغفر حوبتي
                        وتعينني وتمدني بهداكا
        فأقبل دعائي واستجب لرجائي
                        ما خاب يوماً من دعا ورجاكا
إلى أن قال:
        يا أيها الإنسان مهلاً ما الذي
                        بالله جلّ جلاله أغراكا
        فأسجد لمولاك القدير فإنما
                        لابد يوماً تنتهي دنياك
        وتكون في يوم القيامة ماثلاً
                        تجزى بما قد قدّمته يداكا
إن حقائق الإسلام ثابتة لا تتغير منذ أنزلت على رسول الله صلى اله عليه وسلم إلى قيام الساعة، المرجع فيها هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولكن علماء الأمة في كل جيل ـ وطلاب العلم فيها ـ يتناولونها بالشرح والتفسير من خلال الواقع الذي يعيشه كل جيل، وما جدّ فيه من نوازل وما حدث فيه من انحراف في الفهم أو السلوك، وإن جيلنا الذي نعيش فيه لهو من أحوج الأجيال إلى التعرف على حقائق دينه وخصوصاً اركان الإيمان الستة وهذا الكتاب الذي بين يدي القارئ يتناول الركن الأول ((الإيمان بالله عز وجل)) وستلحقه بإذن الله تعالى دراسات أخرى في أركان الإيمان الستة، والأخلاق والتربية الروحية، والسنن الإلهية، ومقاصد الشريعة والسياسة الشرعية، وعلم المصالح والمفاسد وغيرها من الدراسات المنهجية الهادفة إلى المساهمة في نهضة الأمة وانطلاقتها الحضارية الجديدة المرتقبة.
هذا وقد قسمت هذا الكتاب إلى مباحث:
المبحث الأول: معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله وبينت فضل لا إله إلا الله، وأنها أفضل الذكر وتحدثت عن شروطها، كالعلم، واليقين والقبول والانقياد والصدق، والإخلاص والمحبة وارتباطها بالولاء والبراء وآثار الإقرار بهذه الكلمة في حياتنا.
وفي المبحث الثاني والثالث: تكلمت عن إثبات وجود الخالق، وتوحيد الربوبية وأشرت لدليل الخلق، ودليل الفطرة والعهد، ودليل الآفاق ودليل الأنفس، ودليل الهداية، ودليل انتظام الكون وعدم فساده ودليل التقدير ودليل التسوية، التي جاءت في القرآن الكريم.
ووضحت في المبحث والرابع والخامس: توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الالوهية وتكلمت عن علاقة تحكيم الشريعة بالتوحيد، والآثار الحسنة للحكم بما أنزل الله، كالإستخلاف والتمكين والأمن والاستقرار والنصر والفتح والعز والشرف، وبركة العيش ورغده والهداية والتثبيت والفلاح والفوز والمغفرة وتكفير السيئات، ومرافقة النبيين والصِّدِّقين، كما وقفت مع الآثار السيئة للحكم بغير ما أنزل الله، كقسوة القلب والضلال عن الحق، والوقوع في النفاق والحرمان من التوبة، والصدّ عن سبيل الله، وغياب الأمن وانتشار الفوضى وانتشار العداوة والبغضاء، والحرمان من النصر والتمكين، وهول العقاب الذي ينتظر المبدلين لشرعه، والإهانة عند قبض الأرواح والأكل من النار وغضب الجبار والعذاب المهين، وتكلمت عن جهود النبي صلى الله عليه وسلم في حماية توحيد الألوهية، كالنهي عن الغلو والإطراء، لشخصه الكريم، وكيفية التعامل مع الرقي والتمائم ونهيه عن الكهانة... الخ
أما في المبحث السادس: كان الحديث عن الإيمان، واخترت كلمة الإيمان بدلاً من العقيدة واستخدمتها في كتابي تماشياً مع العرض القرآني الذي عرض مقررات الإيمان، وخصائصه ضمن المصطلح اللطيف والكلمة الحبيبة ((الإيمان)) ولا شك أن العودة إلى تعبير القرآن والرسول عليه الصلاة والسلام أنفع وأولى مع جواز المصطلحات الأخرى، فكلمة الإيمان أرقى معنى وأشف ظلاً وأحل على المقصود من الكلمات الأخرى، فهي تشيع في الأجواء عندما تكتب أو تنطق معاني الأمن والثقة وتلقي ظلال الطمأنينة واليقين وتوحي بمعاني الإلزام والتصديق والخضوع وتطلق إيحاءات الثبات والدوام والمتانة والحيوية وكلمة العقيدة لا تتضمن كل هذا كما أنني بينت الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان والأسس التي يقوم عليها الإيمان بالله عز وجل وشرحت بعض الآيات القرآنية التي تحدثت عن الإيمان، كزينة الإيمان، ونور الإيمان، وروح الإيمان، ولخصت في هذا الكتاب أهم أسباب قوة الإيمان مثل:
1 ـ معرفة أسماء الله الحسنى.
2 ـ تدبر القرآن على وجه العموم.
3 ـ معرفة النبي صلى الله عليه وسلم.
4 ـ التفكير في الكون والنظر في الأنفس.
5 ـ الإكثار من ذكر الله في كل وقت.
6 ـ معرفة محاسن الدين.
7 ـ الاجتهاد في التحقق من مقام الإحسان.
8 ـ الدعوة  إلى الله.
9 ـ توطين النفس على مقاومة ما ينافي الإيمان.
10 ـ معرفة حقيقة الدنيا واعتبارها ممر للآخرة.
وعرضت بعض صفات المؤمنين التي جاءت في القرآن الكريم، وشرحتها وبينت أهميتها وركزت على أهم فوائد الإيمان وثمراته، كالاغتباط بولاية الله الخاصة ودفاع الله عن المؤمنين والفوز برضا الله، وحصول البشارة بكرامة الله، حصول الفلاح والهدى، الانتفاع بالمواعظ والتذكير، والشكر والصبر، تأثيره على الأعمال والأقوال، هداية الله إلى الصراط المستقيم، محبة الله والمؤمنين من خلقه، رفع الله لمكانتهم.
وفي المبحث السابع والأخير: كان الحديث عن الشرك والكفر والنفاق والردة والفسق والمعاصي.
 أيها القاري الكريم  أضع بين يديك هذا الكتاب راجياً من الله أن يحي قلبك وتزداد هداية مع كل معرفة جديدة عن ربك فالهدف من كتابته هو زيادة إيمانك برب العالمين بعيدا عن العوائق التي وضعت في طريق الإيمان الذي بينه رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وسار عليه الصحابة الكرام سهلا ميسرا بدون عناء ولا شقاء فأمنوا بربهم فهدى الله قلوبهم قال الله سبحانه وتعالى " وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" ( التغابن ، آية : 11)، هذا وقد انتهيت من هذا الكتاب يوم الأحد الثالثة إلا ربع ظهراً بتاريخ 8/5/1430هـ/ 3/3/2009م بالدوحة، والفضل لله من قبل ومن بعد وأسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل عملي لوجهه خالصاً ولعباده نافعا، ويشرح صدور العباد للانتفاع به ويبارك فيه بمنه وكرمه وجوده وأن يثيب أخواني الذين أعانوني من أجل إتمام هذا الجهد المتواضع، ونرجو من كل مسلم يصله هذا الكتاب أن لا ينسى العبد الفقير إلى عفنو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه " رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ" (النمل ، آية : 19).
وقال تعالى: " مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (فاطر ، آية : 2).
وقال تعالى: " سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (الصافات ، آية : 180 ـ 183).
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلآ أنت استغفرك وأتوب إليك وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الاخوة الكرام: يسرني أن تصل ملاحظاتكم وانطباعاتكم حو هذا الكتاب وغيره من كتبي من خلال دور النشر، وأطلب من أخواني الدعاء في ظهر الغيب بالإخلاص لله والصواب لخدمة دينه العظيم.

Mail: [email protected]
Website : www.alsallaby.com


 
الفصل الأول

كلمة الشهادة

لا إله إلا الله محمد رسول الله:

المبحث الأول: معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله فضلها وشروطها:
أول كلمة يدخل بها الإنسان بوابة الإسلام، ويصل إلى مدارج التوحيد، ويرتقي في مراقي العبودية، هي كلمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله" التي بموجبها يعترف العبد لله عز وجل وحده بالربوبية والألوهية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة. وأن يشهد العبد أن الله هو المستحق للعبادة، وأن تنصرف قواه ـ قوى عقله وقلبه وبدنه وجوارحه ـ في التسبيح والتهليل والتمجيد، والعبودية لهذا الإله العظيم، الذي أنت أيها الإنسان بعض فضله وبعض خلقه، فكل ذرَّات كيانك الداخلية تعترف به، وتمجَّده وتسبِّحه، شئت أم أبيت، غفلت أم انتبهت، حييت أم مِتَّ، آمنت أو كفرت، فيبقى اختيار الإنسان أن يعبد ربه سبحانه وتعالى طوعاً بما أمره الله تعالى وبما جاء على ألسنة رسله المكرمين عليهم الصلاة والسلام . وأن يشهد بأن محمد صلى الله عليه وسلم الخاتم للرسل هو عبد الله ورسوله أرسله ربنا إلى الخلق أجمعين من الإنس والجن وذلك إقرارا باللسان وإيمانا بالقلب بأنه رحمة مهداة للعالمين.

أولا: معنى لا إله  إلا الله محمد رسول الله:
إن معنى كلمة: لا إله إلا الله أنه لا معبود بحق إلا الله، فهو وحده سبحانه المستحق بأن تصرف له جميع العبادات وتكون خالصة له دون سواه، قال تعالى: "وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ" (البقرة ، آية : 163).
وقال تعالى : "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ *  إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (الزخرف ، آية : 26 ، 28).
وقال تعالى : "اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" (آل عمران ، آية : 2).
ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله: الإقرار باللسان والإيمان بالقلب بأن محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي رسول الله ـ عز وجل ـ إلى جميع الخلق من الجن والإنس، قال تعالى: " قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُو يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" (الأعراف ، آية 158). وقال تعالى: "تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا" (الفرقان ، آية : 1).
فكلمة لا إله إلا الله تشمل جزأيين، النفي والإثبات:
1- أما النفي (لا إله) نافية جميع ما يعبد من دون الله تعالى فلا يستحق أن يعبد أحد سواه، والنكرة في سياق النفي تعم وتفيد العموم، فهي تشمل كل ما يمكن أن يتوجه إليه بالعبادة وكل من تصرف إليه غير الله تعالى.
2 ـ وأما الإثبات (إلا الله) مثبتاً العبادة لله تعالى فهو الإله الحق المستحق للعبادة فإن خبر (لا) المحذوف (بحق) هو الذي جاءت به نصوص الكتاب، فمعنى أنه لا إله بحق إلا الله، أي لا معبود بحق إلا الله، فكما تفرد سبحانه وتعالى بالخلق والرزق والإحياء، والإماتة والإيجاد، والإعدام والنفع والضر، وغير ذلك من معاني ربوبيته ولم يشاركه أحد في خلق المخلوقات ولا في التصرف في شئ منها، فكذلك تفرد سبحانه بالألوهية حق لا شريك له، قال تعالى: "ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ"  (لقمان، آية : 30).
ولفظ الجلالة في كلمة الشهادة (الله) عز وجل فهو اسم من أسمائه جل وتعالى، بل هو اسمه الأعظم عند قوم، وهذا أكثر الأسماء تردداً في القرآن والسنة. (الله) هو أكثر الأسماء إشتهاراً وترديداً على ألسنة المخلوقين كلهم بمختلف لغاتهم وألسنتهم.
((الله)) هو الإسم الدال عل الذات العظيمة الجامعة لصفات الإلهية والربوبية فهو إسم له وحده لا يتعلق به أحد سواه، ولا يُطلق على غيره ولا يدّعيه أحد من خلقه.
((الله)) اسم للرب المعبود المحمود الذي يمجَّده الخلق ويسبحونه ويحمدونه، وتسبح له السماوات السبع والأرضون السبع ومن فيهم والليل والنهار والإنس والجن والبر والبحر "وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا" (الإسراء ، آية : 44".
((الله)) هو الرب الذي تألهُههُ القلوب وتحن إليه النفوس وتتطلع إليه الأشواق، وتحب وتأنس بذكره وقربه وتشتاق إليه وتفتقر إليه المخلوقات كلها في كل لحظة وومضة، وخطرة وفكرة في أمورها الخاصة والعامة، والكبيرة والصغيرة، والحاضرة والمستقبلة، فهو مبديها ومعيدها، ومُنْشِئها وباريها وهي تدين له سبحانه وتُقِرُّ، ةتفتقر إليه في كل شؤونها وأمورها ما من مخلوق إلا ويشعر بأن الله تعالى طوّقه مِنَناً ونِعماً وأفاض عليه من آلائه وكرمه وإفضاله وإنعامه بالشئ الكثير، فجدير بأن يتوجه قلب الإنسان إلى الله تبارك وتعالى بالحب والتعظيم والحنين.
((الله)): أنه العظيم في ذاته وصفاته وأسمائه وجلاله ومجده، لا تحيط به العقول ولا تدركه الأفهام ولا تصل إلى عظمته الظنون، فالعقول تحار في عظمته وإن كانت تستطيع بما مُنحت من الطّوق والقدرة على أن تدرك جانباً من هذه العظمة، يمنحها محبة الله والخوف منه والرجاء فيه والتعبد له بكل ما تستطيع .
قال الشاعر:
    لله في الآفاق آيات
                        لعل أقلَّها هو ما إليه هداكا
    ولعلَّ ما في النفس من آياته
                        عجب عُجاب لو ترى عيناكا
    والكون مشحون بأسرار
                        إذا حاولت تفسيراً لها أعياكا

((الله)) هو الإله  المعبود الذي يُخلص له المؤمنون قلوبهم وعبادتهم، وصلاتهم وحَجَّهم وأنساكهم وحياتهم وآخرتهم "قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" (الأنعام ، آية : 162 ، 163).
وروح لا إله إلا الله وسرها: إفراد الرب جل ثناؤه وتقدست أسماؤه وتبارك اسمه وتعالى جده ولا إله غيره بالمحبة والإجلال والتعظيم والخوف والرجاء وتوابع ذلك من التوكل والإنابة والرغبة والرهبة، فلا يحب سواه، بل كان ما كان يحب غيره فإنما هو تبعاً لمحبته وكونه وسيلة إلى زيادة محبته ولا يُخاف سواه، ولا يُرجي سواه، ولا يتوكل إلا عليه ولا يُرغب إلا إليه، ولا يُرهب إلا منه، ولا يُحلف إلا باسمه، ولا يُنذر إلا له، ولا يُتاب إلا إليه، ولا يُطاع إلا بأمره، ولا يُحتسب إلا له، ولا يُستعان في الشدائد إلا به، ولا يُلتجأ إلا إليه، ولا يُسجد إلا له، ولا "يُذبح إلا له وباسمه، يجتمع ذلك في حرف واحد هو أن لا يعبد بجميع أنواع العبادات إلا هو فهذا هو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، ولهذا حرم الله على النار من شهد أن لا إله إلا الله حقيقة الشهادة، ومحال أن يدخل النار من تحقق بحقيقة هذه الشهادة وقام بها كما قال تعالى "وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ" (المعارج ، آية : 13). فيكون قائماً بشاهدته في باطنه وظاهره وفي قلبه وقالبه .
ومقتضى هذه الشهادة أن تصدِّق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر وأن تمتثل أمره فيما أمر، وأن تتجنب ما عنه نهى وزجر، وأن لا تعبد الله إلا بما شرع وأن لا تعتقد أن لرسول الله حقاً في الربوبية وتصريف الكون، أو حقاً في العبادة، بل هو صلى الله عليه وسلم عبدٌ لا يعبد ورسول لا يكذب، ولا يملك لنفسه ولا لغيره شيئاً من النفع أو الضر إلا ما شاء الله .
لقد عرفت لا إله إلا الله لدى المسلمين بكلمة "التوحيد" وكلمة "الإخلاص" وكلمة "التقوى"، وكانت لا إله إلا الله، إعلان ثورة على جبابرة الأرض وطواغيت الجاهلية، ثورة على كل الأصنام والآلهة، المزعومة، من دون الله، سواء كانت شجراً أم حجراً أم بشراً، وكان لا إله إلا الله نداءً عالمياً لتحرير الإنسان من عبودية الإنسان والطبيعة وكل من خلق، وكانت لا إله إلا  الله عنوان منهج الله الذي لا تعنو الوجوه إلا له، ولا تنقاد القلوب إلا لحكمه، ولا تخضع إلا لسلطانه .

ثانياً : فضل كلمة لا إله إلا الله: لقد ورد في كتاب الله وسنة نبيه من الفضائل الجمة لهذه الكلمة والخصال العديدة والأوصاف الحميدة، ما يصعب استقصاؤه في هذا الموضع، فهي، كلمة قامت بها الأرض والسماوات، وخُلقت لأجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل الله تعالى رسله، وأنزل كتبه وشرع شرائعه ولأجلها نصبت الموازين ووضعت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار، وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار والأبرار والفجار، فهي منشأ الخلق والأمر والثواب والعقاب، وهي الحق الذي خلقت له الخليقة، وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب، وعليها يقع الثواب والعقاب، وعليها نصبت القبلة، وعليها أسست الملة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وهي حق الله على جميع العباد، فهي كلمة الإسلام ومفتاح دار السلام، وعنها يُسأل الأولون والآخرون فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يُسأل عن مسألتين: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟
فجواب الأولى: بتحقيق لا إله إلا الله معرفة وإقراراً وعملاً.
وجواب الثاني: بتحقيق أن محمداً رسول الله معرفة وإقراراً وانقياداً وطاعة .
ومما ورد في فضل هذه الكلمة في القرآن الكريم أنها وصفت بالكلمة الطيبة والقول الثابت كما قال تعالى: " أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ" (إبراهيم، الآيات،:24 ـ 25).
وأنها العروة الوثقى، كما قال تعالى: "فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا" (البقرة،آية:256).
ومن فضائلها أن الرسل جميعهم أُرسلوا بها منذرين ومبشرين كما قال تعالى: " وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ " (الأنبياء ، آية : 25).
إلى غير ذلك من الفضائل التي ذكرت في القرآن الكريم وأما ما ورد في فضلها في السنة المشرفة فكثير جداً نذكر منه بعضها:
ـ فمن ذلك أنها أعلى شعب الإيمان فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق .
ـ ومن فضائلها أن الجهاد أقيم من أجل إعلائها كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذ فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله .
ـ ومن فضائلها أنها ترجح بصحائف الذنوب كما في حديث البطاقة، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مثل مد البصر ثم يقول أتنكر من هذا شيئاً أظلمك كتبي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: ألك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول أحضر وزنك، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة فلا يثقل مع اسم الله شيء .

ثالثاً: أفضل الذكر لا إله إلا الله:
إن ذكر الله من أجل العبادات المقربة إلى الله تعالى وأجلّها وأعظمها أجراً، مع سهولته ويسره على من يسرّه الله عليه هذا وإن أفضل أنواع الذكر بعد القرآن العظيم هو قول المرء: لا إله إلا الله وهي كلمة التوحيد، كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:أفضل الذكر لا إله إلا الله ،وهذه الكلمة الجليلة واجب على كل مسلم أن يتعلمها ويعلم مضمونها ومعناها وشروطها وأركانها وكل ما يتعلق بها لأنها الكلمة التي يعير بها المرء مسلماً، فهي الفيصل بين الكفر والإسلام، ولأن الله جل جلاله أمر أفضل خلقه وخاتم رسله صلى الله عليه وسلم أن يعلم كل ما يتعلق بها ويعتقده في قوله: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" (محمد ، آية : 19).
وقد ذم الله سبحانه من استكبر عنها وأعرض عنها وترك العمل بها في قوله :" إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ" (الصافات ، آية : 35 ـ 36).
ووصف الله سبحانه نفسه بما تضمنته هذه الكلمة في غير موضع من كتابه فقال: "اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" (البقرة ، آية : 255) وقال سبحانه: " هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ " (غافر ، آية : 65) وحققها إبراهيم عليه السلام كما حكى الله عنه بقوله: " إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ" (الزخرف، آية:26ـ 28).

رابعاً: أشعة كلمة لاإله إلا الله، تبدد ظلمات القلوب:
اعلم أن أشعة لا إله إلا الله تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور، وتفاوت أهلها وتفاوت أهلها في ذلك النور، قوة وضعفاً، لا يحصيه إلا الله تعالى، فمن الناس، من نور هذه الكلمة كالشمس، ومنهم، من نورها في قلبه كالكوكب الدري، ومنهم من نورها في قلبه كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسرج الضعيف ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم، وبين أيديهم، على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة علماً وعملاً ومعرفة وحالاً وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى انه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهة ولا شهوة ولا ذنباً، إلا أحرقه، وهذا حال الصادق في توحيده الذي لم يشرك بالله شيئاً، فأي ذنب أو شهوة أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها، فسماء إيمانه قد حرست بالنجوم من كل سارق لحسناته، فلا ينال منها السارق إلا على غرّة وغفلة لا بد منها للبشر، فإذا استيقظ وعلم ما سُرق منه استنقذه من سارقه أو حصّل أضعافه بكسبه، فهو هكذا أبداً مع لصوص الجن والإنس، ليس كمن فتح لهم خزانته وولى الباب ظهره .


خامساً: التوافق بين لا إله إلا الله "وإياك نعبد":
إن معنى لا إله إلا الله تضمنه قوله :"إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" (الفاتحة، الآية:5) وهذه الآية متضمنة لأجل الغايات، ففيها يسر الخلق والأمر، والدنيا والآخرة، وهي متضمنة لأجل الغايات وأفضل الوسائل فأجل الغايات عبوديته، وأفضل الوسائل إعانته، فلا معبود يستحق العبادة إلا هو، ولا معين على عبادته غيره، فعبادته أعلى الغايات، وإعانته أجلّ الوسائل.
وقد اشتملت هذه الكلمة على نوعي التوحيد، وهما توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتضمنت التعبد باسم الرب واسم الله، فهو يعبد بألوهيته، ويستعان بربوبيته، ويهدي إلى الصراط المستقيم برحمته، فكان أول السورة ذكر أسمه: الله  والرب، والرحمن تطابقاً لأجل الطالب من عبادته وإعانته وهدايته وهو المنفرد بإعطاء ذلك كله، لا يعين على عبادته سواه ولا يهدي سواه .

سادساً: شروط لا إله إلا الله: لمّا كان معنى لا إله إلا الله هو: أنه لا معبود بحق إلا الله، ولمّا كان كثير من الناس لا يدرك معنى وأهمية لا إله إلا الله: كان لا بدَّ لنا أن نتحدث عن شروط هذه الكلمة.
ورحم الله وهب بن منبه حين سئل: أليست لا إله إلا الله مفتاح الجنَّة؟ قال:بلى، ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك ، وهذه الأسنان هي شروط هذه الكلمة العظيمة ، والتي عددها سبعة عند العلماء، وليس المراد من هذا عدُّ ألفاظها، وحفظها، فكم من عامّيّ إجتمعت فيه والتزمها، ولو قيل له أعددها لم يحسن ذلك وكم حافظ لألفاظها يجري فيها كالسهم، وتراه يقع كثيراً فيما يناقضها والتوفيق بيد الله ، وإليك هذه الشروط مع أدلتها من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مع الإختصار:
1ـ العلم بمعناها، نفياً وإثباتاً، علماً ينافي الجهل بها قال الله تعالى: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" (محمد ، آية : 19)، وقال تعالى: "شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (آل عمران ، آية : 18).
وفي الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة .
2ـ اليقين المنافي للشك، وذلك بأن يكون قائلها مستيقناً بمدلول هذه الكلمة يقيناً جازماً قال تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" ( الحجرات ، آية : 15).
وقال صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله وإني رسول الله، لا يلق الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة ، وقال صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه: من لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة .
3ـ القبول لما اقتضته هذه الكلمة بالقلب واللسان وقد قص الله علينا من أنباء ما قد سبق من إنجاء من قبلها وإنتقامه ممّن ردّها وأباها قال تعالى: " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ" (الروم ، آية : 47) وقال تعالى: " ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ" (يونس ، آية :102)، وقال تعالى عن الذين كذبوا بهذه الكلمة ورفضوها ولم يقبلوها: "فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" الزخرف، آية :25).
وقال صلى الله عليه وسلم: مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا، وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعمل، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به .
4ـ الانقياد لما دلت عليه المنافي لترك ذلك: قال الله سبحانه وتعالى: "وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ" (الزمر ، آية : 54)، وقال تعالى: " وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ" ( النساء ، آية : 125).
5ـ الصدق المنافي للكذب، وذلك بأن يقولها صدقاً من قلبه يواطئ قلبه لسانه قال تعالى: "الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ" (العنكبوت ، آية : 1 ـ 3).
وقال صلى الله عليه وسلم: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه إلا حرّمه الله على النار .
6ـ الإخلاص وهو تصفية العمل لصالح النية عن جميع شوائب الشرك، قال تعالى: "أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ" (الزمر ، آية: 3)، وقال تعالى ((فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ" ( الزمر ، آية : 2)، وقال تعالى: " وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ" (البينة ، آية : 5).
وقال صلى الله عليه وسلم: أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه ، وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله حرّم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله .
7ـ المحبة لهذه الكلمة ولما اقتضته ودلت عليه، ولأهلها العاملين بها الملتزمين بشروطها وبغض ما ناقض ذلك قال تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ" (البقرة ، آية : 165).
وقال صلى الله عليه وسلم: ثلاث من كن فيه وجد بهنّ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبُه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار .
وقال صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين .
ومحبة الله سبحانه وتعالى لا تتم إلا بمحبة ما يحبه وكره ما يكرهه وطريق معرفة ذلك هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبته، فمحبة الله تستلزم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه وطاعته  فهذه الشروط من حققها وعمل بها وابتعد عما يناقضها أوجب له مغفرة الذنوب بإذن الله تعالى .

سابعاً: إرتباط لا إله إلا الله بالولاء والبراء:
ولما كان أصل الموالاة: الحب، وأصل المعاداة: البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة كالنفرة والأنس والمعاونة، وكالجهاد والهجرة ونحو ذلك ، فإن الولاء والبراء من لوازم لا إله إلا الله قال الله تعالى: "لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ" (آل عمران ، آية : 28)، وقال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (المائدة ، آية 51)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله .
ولقد ضرب نبي الله إبراهيم عليه السلام نموذج السوة الحسنة في ولائه لرب العالمين حيث كان عليه السلام أسوة حسنة وقدوة طيبة في ولائه لربه ودينه وعباد الله المؤمنين وبرائه ومعاداته لأعداء الله ومنهم أبوه،لقد كانت سيرة نبي الله ابراهيم عليه السلام مع قومه، كأي نبي رسول، حيث دعاهم بالتي هي أحسن إلى عبادة الله وتوحيده، وإفراده بالعبادة والكفر بكل طاغوت يعبد من دون الله .
قال تعالى: " وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا" (مريم ، آية : 41 ـ 49). تلك هي نقطة البدء في دعوة خليل الرحمن، دعوة بالحسنى، مبتدئاً بأقرب الناس إليه، فإن لم يكن هناك تجاوب مع هذه الدعوة فالاعتزال لهذا الباطل وأصحابه علّ في ذلك ردعاً وزجراً وتفكراً في هذا الأمر الجديد ونجاة للداعي من مشاركة أهل الباطل في باطلهم، إذا كان لا بد له من مخالطتهم ومعاشرتهم وعدم تمكنه من الهجرة في أرضهم، ثم يمضي القرآن في بيان دعوة ابراهيم عليه السلام، مبيناً أنه استخدم مع قومه كل حجة ودليل، قال تعالى: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ {70} قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ *  قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ" (الشعراء ، آية : 70 ـ 77).
ولما لم يجدوا حجة وإنما هو التقليد الأعمى لفعل الآباء والأجداد قال لهم ابراهيم عليه السلام، أنا عدو آلهتكم هذه، قال تعالى: "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ" ( الممتحنة ، آية : 4).
وعقيدة ابراهيم عليه السلام هذه هي التي عبر عنها علماؤنا الأجلاء بقولهم: لا موالاة إلا بالمعاداة، ولا تصح الموالاة إلا بالمعاداة  كما قال تعالى عن إمام الحنفاء المحبين، أنه قال لقومه: "أفرأيتم ما تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين" فلم تصح لخليل الله هذه الموالاة والخلة إلا بتحقيق هذه المعادلة فإنه لا ولاء إلا لله، ولا ولاء إلا بالبراء من كل معبود سواه قال تعالى: " إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (الزخرف ، آية : 26 ، 28)، أي جعل هذه الموالاة لله، والبراءة من كل معبود سواه، كلمة باقية في عقبه يتوارثها الأنبياء بعضهم عن بعض، وهي كلمة لا إله إلا الله وهي التي ورثها أمام الحنفاء لأتباعه إلى يوم القيامة. وقد كان من نتيجة هذه المعاداة وهذا البراء القوي أن أجمع الطغاة على قتل إبراهيم ـ كما هو حال كل طاغية على مر عصور التاريخ في إبادة الدعاة إلى الله لا لشئ إلا لأنهم يدعونهم إلى عبادة الله وحده وجمعوا له ناراً عظيمة فكانت رعاية الله وحفظه تحوطان خليله الصادق عليه الصلاة والسلام فصارت النار برداً وسلاماً عليه، قال تعالى: " قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ" (الصافات ، آية : 97 ـ 98).
لقد عدلوا عن الجدال والمناظرة لما انقطعوا وغلبوا، ولم تبق لهم حجة ولا شبهة إلى إستعمال قوتهم وسلطانهم لينصروا ما هم عليه من سفههم وطغيانهم فكادهم الرب جلّ جلاله وأعلى كلمته ودينه وبرهانه كما قال تعالى: " قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ" ( الأنبياء ، آية : 68 ـ 70).
وجاءت التوجيهات الربانية لخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم باتباع ملة ابراهيم عليه السلام .
ـ قال تعالى: " ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (النحل ، آية : 123).
ـ قال تعالى: ((مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (آل عمران ، آية : 95). ـ قال تعالى: " وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ
حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (البقرة ، آية : 135).
ـ قال تعالى: " إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ
الْمُؤْمِنِينَ" (آل عمران ، آية : 68).
ـ قال تعالى: " وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ
مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً" (النساء ، آية : 125).
ـ قال تعالى: ((وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ" (الحج ، آية : 78).
ـ قال تعالى: " وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ " (البقرة ، آية : 130).
فهذه الأخبار من الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم عن فعل ابراهيم عليه السلام من أجل الاقتداء به في الإخلاص والتوكل على الله وحده، وعبادة الله وحده والبراء من الشرك وأهله ومعاداة الباطل وحزبه .
والأمثلة على أن من لوازم لا إله إلا الله الولاء والبراء كثيرة، كقصة نوح مع نوح وزوجته، وغيرها من القصص.
لقد جمعت لا إله إلا الله صهيباً الرومي وبلال الحبشي وسلمان الفارسي وأبا بكر العربي القرشي، وتوارت عصبية القبيلة والجنس والأرض وقال لهم صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها منتنة ، وقال ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية . وتبقى سيرة المصطفى وسيرة صحابته الأخيار منار هدى وإصلاح لمن سلك ذلك السبيل ورضى بذلك النهج القويم .
ثامناً: آثار الإقرار بـ (لا إله إلا الله):
إن لكلمة لا إله إلا الله آثاراً عظيمة في حياة المؤمن منها:
1ـ إن المؤمن بهذه الكلمة لا يكون ضيق النظر، بخلاف من يقول بآلهة متعددة، أو من يجحدها.
2ـ إن الإيمان بهذه الكلمة ينشيء في النفس من الأنفة وعزة النفس ما لا يقوم دونه شيء، لأنه لا نافع إلا الله ولا ضار إلا الله، وهو المحيي المميت وهو الحكيم القوي ملك الملك، ومن ثم ينزع من القلب كل خوف إلا منه سبحانه، فلا يطأطئ الرأس أمام أحد من الخلق، ولا يتضرع إلا إليه، ولا يتكفف له ولا يرتعب من كبريائه وعظمته، لأن لله وحده الكبرياء والعظمة والقدرة وهذا بخلاف المشرك والكافر والملحد.
3ـ ينشأ من هذه الكلمة، تواضع من غير ذل وترفع من غير كبر.
4ـ المؤمن بهذه الكلمة، يعلم علم اليقين أنه لا سبيل إلى النجاة والفلاح إلا بتزكية النفس والعمل الصالح، أما المشركون والكفار فإنهم يقضون حياتهم على أماني كاذبة، فمنهم من يقول إن ابن الله قتل وصلب كفارة لذنوبنا عند أبيه ومنهم من يقول، نحن أبناء الله وأحباؤه فلن يعذبنا بذنوبنا، ومنهم من يقول، إنا سنتشفع عند الله بكبرائنا وأتقيائنا، ومنهم من يقدم النذور والقرابين إلى آلهته زاعماً أنه قد نال بذلك رخصة في العمل بما يشاء، أما الملحد الذي لا يؤمن بالله فيعتقد أنه حر في هذه الدنيا غير مقيد بشرع الله وإنما ا لهاه هواه وشهوته وهو عبدهما.
5ـ قائل هذه الكلمة لا يتسرب إليه اليأس، ولا يقعد به القنوط لأنه يؤمن أن الله له خزائن السموات والأرض ومن ثم فهو على طمأنينة وسكينة وأمل، حتى ولو طرد وأهين وضاقت عليه سبل العيش.
6ـ الإيمان بهذه الكلمة يربي الإنسان على قوة عظيمة من العزم والإقدام والصبر والثبات والتوكل حينما يضطلع بمعالي الأمور ابتغاء مرضاة الله، إنه يشعر أن وراءه قوة مالك السماء والأرض، فيكون ثباته ورسوخه وصلابته التي يستمدها من هذا التصور، كالجبال الراسية وأنى للشرك والكفر بمثل هذه القوة والثبات؟
7ـ هذه الكلمة تشجع الإنسان وتملأ قلبه جرأة، لأن الذي يجبن الإنسان ويوهن عزمه شيئان، حبه للنفس والمال والأهل، أو إعتقاده أن هناك أحداً غير الله يميت الإنسان، فإيمان المرء بلا إله إلا الله ينزع عن قلبه كل ذلك، فيجعله موقناً أن الله هو المالك الوحيد لنفسه وماله فعندئذ يضحي في سبيل مرضاة ربه بكل غال ورخيص عنده، وينزع الثاني بأن يلقي في روعه أنه لا يقدر على سلب الحياة منه إنسان ولا حيوان ولا غيره إلا إذا جاء أجله، من أجل ذلك لا يكون في الدنيا أشجع ولا أجرأ ممن يؤمن بالله تعالى فلا يكاد يخيفه أو يثبت في وجهه زحف الجيوش، ولا السيوف المسلولة، ولا مطر الرصاص ولا وابل القنابل .
8ـ الإيمان بـ (لا إله إلا الله) يرفع قدر الإنسان وينشيء فيه الترفع والقناعة والإستغناء ويطهر قلبه من أوساخ الطمع والشره والحسد والدناءة، واللؤم وغيرها من الصفات القبيحة.
9ـ والإيمان بـ (لا إله إلا الله) يجعل الإنسان متقيداً بشرع الله ومحافظاً عليه، فإن المؤمن يعتقد بيقين أن الله خبير بكل شيء، وهو أقرب إليه من حبل الوريد وأنه إن كان يستطيع أن يفلت من بطش أيّ كان، فإنه لا يستطيع أن يفلت من الله عز وجل، وعلى قدر ما يكون هذا الإيمان راسخاً في ذهن الإنسان يكون متبعاً لأحكام الله قائماً عند حدوده لا يجرؤ على اقتراف ما حرم الله، ويسارع إلى الخيرات والعمل بما أمر الله.
لذا فالعبد الذي ملىء الله قلبه إيمانا بـ (لا إله إلا الله) هو في الحقيقة عبد مطيع منقاد لربه سبحانه وتعالى وهذا هو أصل الإسلام، وهو مصدر قوته وكل ماعداه من معتقدات الإسلام وأحكامه إنما هي مبنية عليه ولا تستمد قوتها إلا منه، والإسلام لا يبقى منه شيء لو زال هذا الأساس .

المبحث الثاني

إثبات وجود الخالق

رغم  أنه لا يوجد في القرآن مناقشة صريحة لمنكري الخالق إلا أن الإيمان بوجود خالق لهذا الكون قضية ضرورية لا مساغ للعقل في إنكارها، فهي ليست قضية نظرية تحتاج إلى دليل وبرهان، ذلك لأن دلالة الأثر على المؤثر يدركها العقل بداهة والعقل لا يمكن أن يتصور أثراً من غير مؤثر، أي أثر ولو كان أثراً تافهاً فكيف بهذا الكون العظيم؟ ولذلك لم يناقش القرآن هذه القضية، حتى حينما أورد إنكار فرعون لرب العالمين يوم أن قال: " وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ" (الشعراء ، آية : 23)، و"مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي" (القصص ، آية : 38)، " يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ* أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا" (غافر ، آية : 36، 37). فكان موسى عليه السلام لا يعير اهتماماً لهذه الإنكارات وتعامل مع فرعون على أساس أنه مؤمن بوجود الخالق فتراه يقول له مثلاً:" قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ ا لسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا" (الإسراء ، آية : 102). وقد عزا القرآن الكريم هذا الإنكا ر والتكبر والعناد، فقال : " ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ" (المؤمنون ، آية : 45 ـ 47)، وأوضح أكثر فقال: "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا..." (النمل ، آية : 14).
إن البيئة التي أنزل فيها القرآن الكريم كانت وثنية في الغالب وكتابية في بعض القرى أو بعض الأشخاص والكتابيون لا ينكرون الخالق، وأما الوثنيون فمع عبادتهم للأوثان إلا أنهم كانوا يؤمنون بالخالق سبحانه، وسجل القرآن هذا لهم في أكثر من موضع ، قال تعالى : "وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ " (لقمان ، آية : 25)، وقال تعالى: "وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ" (لقمان ، آية : 32)، ولهذا لم يحتج القرآن أن يفتح الموضوع مع هؤلاء الناس بل حتى خارج هذه البيئة لم يعرف هناك منكر للخالق يقول الشهرستاني: أما تعطيل العالم عن الصانع العليم القادر الحكيم فلست أرها مقالة لأحد، ولا أعرف عليها صاحب مقالة إلا ما نقل عن شرذمة قليلة من الدهرية ولست أرى صاحب هذه المقالة ممن ينكر الصانع، بل هو معترف بالصانع، فما عُدت هذه المسألة من النظريات التي قام عليها دليل .
ومع خلو القرآن من مناقشة صريحة لمنكري الخالق إلا أنه تضمن أدلة كثيرة لإثبات الخالق، غير أنها جاءت في الغالب لإثبات مسائل أخرى، كالوحدانية والنبوة والبعث ، ومن هذه الأدلة التي ذكرت في القرآن الكريم:
أولاً: دليل الخلق: وخلاصة هذا الدليل، أن هذا الخلق بكل ما فيه شاهد على وجود خالقه العلي القدير سبحانه، قال تعالى:" أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ" (الطور، آية :35 ـ 36)، يقول لهم أنتم موجودون هذه حقيقة لا تنكرونها وكذلك السموات والأرض موجودتان ولا شك وقد تقرر في العقول أن الموجود لابد من سبب لوجوده، وهذا يدركه راعي الإبل في الصحراء فيقول: البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج تدل على العليم الخبير. ويدركه كبار العلماء الباحثين في الحياة والأحياء، يقول أحدهم: إن الله الأزلي الكبير العالم بكل شيء والمقتدر على كل شيء قد تجلى لي ببدائع صنعه حتى صرت دهشاً متحيراً فأي قدرة وأي حكمة وأي إبداع أودعه مصنوعات يده صغيرها وكبيرها . وهذا الذي أشارت إليه الآية هو الذي يعرف عند العلماء باسم: قانون السببية هذا القانون يقول: إن شيئاً من "الممكنات" لا يحدث بنفسه من غير شيء، لأنه لا يحمل في طبيعته السبب الكافي لوجوده ولا يستقل بإحداث شيء، لأنه لا يستطيع أن يمنح غيره شيئاً لا يملكه هو . وبهذا الدليل كان علماء الإسلام ولا يزالون يواجهون الجاحدين، فهذا الإمام أبو حنيفة يعرض له بعض الزنادقة المنكرين للخالق، فيقول لهم: ما تقولون في رجل يقول لكم: رأيت سفينة مشحونة بالأحمال مملوءة من الأنفال، قد أحتوشتها في لجة البحر أمواج متلاطمة ورياح مختلفة، وهي من بينها تجري مستوية ليس لها ملّاح يجريها ولا متعهد يدفعها، هل يجوز في العقل؟ قالوا هذا شيء لا يقبله العقل، فقال أبو حنيفة: يا سبحان الله إذا لم يجز في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مجر فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على إختلاف أحوالها وتغيّر أعمالها وسعة أطرافها وتباين أكنافها من غير صانع ولا حافظ، فبكوا جميعاً، وقالوا: صدقت وتابوا ، هذا القانون الذي سلمت به العقول وانقادت له هو الذي تشير إليه الآية الكريمة: "أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون" وهو دليل يرغم العقلاء على التسليم بأن هناك خالقاً معبوداً، إلا أن الآية صاغته صياغة بليغة مؤثرة فلا تكاد الآية تمس السمع حتى تزلزل النفس وتهزها  .
قال الشاعر:
        فوا عجبا كيف يعصى الإله
                        أم كيف يجحده الجاحد
        وفي كل شيء له آية
                        تدل على أنه واحد
لقد تناول القرآن الكريم قضية الخلق والتدبير تناولاً فريداً وعنى بتوجيه العقول إلى النظر في آفاق الكون وآيات الله الكثيرة، وأهاب بالعقل أن يستيقظ من سباته، ليتفكر في ملكوت السموات والأرض وما أودع فيها من الآيات، ويكرر القرآن ذلك في أساليب متنوعة ليرى هذا الإنسان ويسمع في آفاق الكون ما يقوده إلى الإيمان بخالقه سبحانه وتعالى ويعلم أن هذا الكون هو من صنع الله الخالق المدبر المستحق للعبادة وحده لا شريك له .

ثانياً: دليل الفطرة والعهد:
إن معرفة الخالق والإقرار بوجوده تبارك وتعالى وربوبيته أمر بديهي مغروس في نفوس الناس وفطرهم إذ لو تُرك الإنسان في مكان خال لا يوجد فيه أحد بعيداً عن كل المؤثرات الخارجية وعن كل الشوائب العقدية، لإستطاع بفطرته أن يعرف أن لهذا الكون خالقاً مدبراً ومتصرفاً، ثم بفطرته يتوجه لمحبة خالقه ومن هنا نعلم أن من أنكر وجود الخالق جل جلاله من الملحدين إنما أُتوا من انحراف فطرهم ومن تأثير الشياطين عليهم وتلاعبهم بهم ودليل الفطرة هذا دل عليه القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، قال تعالى: " فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" (الروم ، آية : 30). فالفترة المقصودة بها هنا الإسلام، فالله جل جلاله فطر الناس على دين الإسلام والتوحيد ، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تتبع البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ، وفي الحديث القدسي يقول تبارك وتعالى: "إني خلقت عبادي كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم . ومعنى (حنفاء) أي: مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام . ومن أجل أهمية الفطرة في دلالة الناس على ربهم وتعريفهم به كان صلى الله عليه وسلم إذا أصبح أو أمسى يقرر أنه يصبح ويمسي على هذه الفطرة فطرة الإسلام وأنها لم تتأثر بالمؤثرات والعوارض الخارجية من نزغات الشيطان ووساوسهم، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا أصبح وإذا أمسى: "أصبحنا أو أمسينا على فطرة الإسلام وعلى كلمة الإخلاص، وعلى دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين . فقد أكد على سلامة الفطرة من الانحراف بقوله. وعلى كلمة الإخلاص وهي الشهادة: "لا إله إلا الله وبقوله. وعلى دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو الدين الإسلامي، وبقوله: وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلما. أي مائلاً عن كل ما يخالف هذه الفطرة من الأديان والعقائد الفاسدة التي تنكر الرب سبحانه وتعالى أو تزعم أن معه شريكاً في ملكه أو عبوديته إلى الإسلام الخالص، فإذا حقق توحيد الألوهية كان توحيد الربوبية محققاً، لأن توحيد الألوهية يتضمن توحيد الربوبية، وبذلك تكون الفطرة قد دلت على توحيد الربوبية .
وهذه الفطرة التي فطر الله عليها عباده لها صلة وارتباط وثيق بالعهد الذي أخذه الله سبحانه وتعالى على بني آدم وهم في عالم الذر كما أشار الله بقوله: " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ" (الأعراف ، آية : 172 ، 173).
فهذا العهد والميثاق الذي أخذه الله جل جلاله على الناس مضمونه الإعتراف والإقرار بربوبيته، وأشهدهم على أنفسهم فشهدوا، فمن الناس من حافظ على ذلك العهد وقام بمقتضاه ولازمه من عبادة ربه وحده لا شريك له وتوحيده. وصدق رسل الله وآمن بهم وبما جاءوا به، ومن الناس من تغيرت فطرته وانحرفت واجتالته الشياطين ـ والعياذ بالله ـ فنسى ما شهد عليه وما جبل عليه من الإقرار بربوبية الله عز وجل فوقع في الكفر والإلحاد، مع أن الله سبحانه لم يترك عباده سدى بل أرسل لهم الرسل وأنزل معهم الكتب ليذكّروا الناس بهذا الإشهاد وهذا العهد والميثاق ولكي يبقى المسلم متذكراً هذا العهد الذي أخذه الله عليه في عالم الذر فقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ذكراً يقولونه في الصباح والمساء ففي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: سيد الإستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما أستطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء بنعمتك علي أبوء بذنبي فأغفرلي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . فقوله: وأنا على عهدك: أي: ما عاهدتك عليه من الإيمان بك والإقرار بوحدانيتك، لا أزول عنه ، قال ابن حجر: وقال ابن بطال قوله: وأنا على عهدك ووعدك يريد العهد الذي أخذه الله على عباده حيث أخرجهم أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم فأقروا له بالربوبية وأذعنوا له بالوحدانية، وبالوعد ما قاله على لسان نبيه ، فهذا الذكر العظيم من داوم عليه يومياً ولازمه حفظ نفسه ـ بإذن الله ـ من إنحراف فطرته وتغيّرها ووفّى بعهده الذي بينه وبين ربه .
ثالثاً: دليل الآفاق:
قال تعالى:"سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" (فصلت، آية:53). فقوله: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ" أي: علامات وحدانيتنا وقدرتنا ، وقوله" في الآفاق" يعني أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار والرياح والأمطار والرعد والبرق، والصواعق والنبات ، وغير ذلك مما فيها من عجائب خلق الله، وفي حديث العلماء عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ما يدل على آيات الله في الآفاق والتي منها:
1ـ نقص الأوكسجين في الإرتفاعات:
قال تعالى: " فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ" (الأنعام، آية : 125)، تنص هذه الآية الكريمة على أن الإنسان عندما يصّعّد في السماء أي يرتفع في أعالي الجو يضيق صدره ويشعر بالاختناق، وهذه حقيقة علمية سببها أن نسبة الاوكسجين تقل كلما ارتفعنا إلى أعلى كما يقل الضغط الجوي، وهذان السببان يجعلان الإنسان يشعر بضيق التنفس.
2ـ حركة النجوم والكواكب في مداراتها:
كان الناس يرون أن الأرض مركز الكون ويدور حولها الشمس والقمر والنجوم السيارة، ويرون نجوماً ثابتة طوال السنة فيصفونها بالثبات، ثم حدث في عصر "غاليلو" رأي يعتبر أن الأرض هي التي تدور حول الشمس، والشمس هي مركز الكون، أما القرآن الكريم فقد رفض قبل ذلك جميع الآراء التي تزعم أن للكون مركزاً ثابتاً، قال تعالى:"وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" (يس، آية:40). وكان ذلك في عصره سبق علمي . وقال تعالى:" فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ" (الواقعة، آية:75 ـ 76). فقد وجد العلماء أن مواقع النجوم ومساراتها ليست اعتباطية، فالكوكب وُضع في مسار بحيث لا تؤدي قوى التجاذب الكونية الكثيرة والقوى النابذة الناشئة عن الدوران إلى ضطراب كوني، ولقد اختير له المسار الذي يحقق له التوازن بين تلك القوى الكثيرة ووجد العلماء أيضاً أن أبعاد المجموعة الشمسية تتبع سلسلة حسابية، وأنى للعربي الجاهلي الذي كان يرى النجوم مبعثرة في صفحة السماء أن يعرف من تلقاء نفسه أن لمواقعها شأن عظيم .
3ـ دوران الأرض والجبال:
قال تعالى:" وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ" (النمل، آية:88)، لقد كان الناس قديماً يرون أن الأرض وجبالها ثابتة، بل يضربون المثل بثباتها، فجاء القرآن ليخالف ما ألفه الناس واستقر في أذهانهم، وتحدث عن ظاهرة كونية، فقال عن الجبال أنها تمر مر السحاب، أي أن الجبال كالسحاب، فكما أن السحاب لا يتحرك ذاتياً إلا إذا كان هناك شيء يدفعه إلى التحرك، والذي يحرك السحاب ويدفعه هي الرياح، فكذلك الجبال لا تتحرك بنفسها، لأنها أوتاد الأرض ولكن هي تتحرك، وحركتها تابعة لحركة الأرض فالأرض تتحرك وتدور، وإلا فكيف تتحرك الجبال وتمرّ مرّ السحاب وهذا من صنع الله الذي أتقن كل شيء حينئذ يكون هناك يقين ثابت .
4ـ حاجز بين بحرين مالحين:
قال تعالى:"مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ" (الرحمن، آية:19ـ22).
تتحدث الآيات الكريمة عن بحرين يتلاقيان وفي مكان تلاقيهما يوجد حاجز والظاهر أنها تتحدث عن بحرين حقيقين مالحين وليس عن بحر ونهر لأنه قال:"يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان".
والمرجان: هو الخرز الأحمر، لا يخرج إلا من المياه المالحة، فلآية الكريمة إذن تتحدث عن حاجز حقيقي بين بحرين مالحين في مكان تلاقيهما، والبحران يتلاقيان في المضائق، لأنه، إن لم يكن هناك مضيق فليس من مسوغ لاعتبارهما بحرين، بل يكونان بحراً واحداً، إن هذا الذي أثبتته الآية الكريمة مستغرباً جداً في عرف الناس، إذ الانطباع السائد أن المياه المتلاقية لا حواجز بينها، وما كان أحد يعرف هذه الحقيقة ولا تخطر له على بال إلى أن اكتشفت عام 1962م، وثبت ما قاله القرآن الكريم كحقيقة مدهشة .
5ـ اهتزاز الأرض وزيادتها بالمطر:
قال تعالى:" وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ" (الحج، آية:5). إن العلم يؤكد أن الأرض تهتز فعلاً بنزول الغيث عليها فالحبوب والبصيلات والدرنات والحويصلات والجراثيم كلها تبدأ بالحركة والإنقسامات الخلوية وامتصاص الماء وتحليل الغذاء المعقد إلى وحدات أقل ارتباطاً وأكثر عدداً وأكبر حجماً، وبامتلاء مسام الأرض بالماء تتحرك جزيئات الطين وتبدأ عملية تأين عجيبة في جزيئات التربة، وتنشط الديدان الأرضية في شق الأنفاق الأرضية وابتلاع كميات كبيرة من التربة المتلاصقة وإخراجها بعد ذلك مفككة، كل هذه النشاطات تؤدي إلى زيادة حجم التربة ويمكننا رؤية صورة مصغرة لهذه العمليات بتخمير العجين وزيادة حجمه نتيجة نشاط خلايا الخمائر، وفي التربة تحدث ضروب كثيرة لمثل هذا النشاط، من كل ما سبق نجد التوافق بين ما عرفه العلم وما وصفه القرآن الكريم
6ـ أوهن البيوت:
قال تعالى:" مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" (العنكبوت، آية:41).إن قوله سبحانه"لو كانوا يعلمون" وقوله بعد ذلك "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون" (العنكبوت، آية:43)، يشيران إلى أن وهن بيت العنكبوت المتحدث عنه وهن غير ظاهر ومعروف لدى عامة الناس، وقد ضرب هذا الوهن مثلاً لموالاة الكافرين بعضهم لبعض، فماذا وجد العلماء عند دراسة العنكبوت؟ وجدوا أن الروابط بين أفراد العنكبوت في غاية التفكك، فالأنثى كثيراً ما تأكل الذكر بعد الإلقاح وقد تأكل ابناءها والأبناء يأكل بعضهم بعضاً، فهو بيت متفكك متداع وذلك مثل موالاة الكافرين بعضهم بعضاً .
والأمثلة في البراهين العلمية على صحة العقيدة الإسلامية كثيرة، ذكرت في كتب بحثت هذا الموضع، كرحلة الإيمان في جسم الإنسان، د.حامد أحمد حامد، والبراهين العلمية على صحة العقيدة، لعبد المجيد العرجاوي ووحدانية الله تتجلى في وحدة مخلوقاته للاستاذ عمر أحمد الهواري وغيرها كثير لمن أراد التوسع.

رابعاً: دليل الأنفس:
قال تعالى:"وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ" (الذاريات، آية:21). ولما كان أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه دعاه خالقه وبارئه ومصوره وفاطره من قطرة ماء إلى التبصر والتفكر في نفسه، فإذا تفكر الإنسان في نفسه استنارت له آيات الربوبية وسطعت له أنوار اليقين، واضمحلت عنه غمرات الشك والريب وانقشعت عنه ظلمات الجهل فإنه إذا نظر في نفسه وجد آثار التدبير فيه قائمات، وأدلة التوحيد على ربه ناطقات، شاهدة لمدبره، دالة عليه مرشدة إليه ، وإليك بعض البراهين العلمية المتعلقة بالإنسان وخلقه:
1ـ الإحساس والجلد:
قال تعالى:"إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ" (النساء، آية:56)، وهذه حقيقة كونية وهي أن موطن الإحساس والألم في الإنسان هو الجلد، فالكافرون يعذبون عن طريق تبديل الجلد أو تغييره، وذلك ليذوقوا العذاب، فالإذاقة حسب القرآن محلها الجلد وقد بين التشريح المجهري للجلد أنه عضو غني بالألياف العصبية التي تقوم باستقبال ونقل جميع أنواع الحس من المحيط الخارجي وذلك عن طريق طبقات الجلد"البشرة، الأدمة، النسيج تحت الأدمة" وهي تنقل حس الألم، والحرارة والبرودة، والضغط، وحس اللمس، فالقرآن ينبهنا إلى هذه الحقيقة الكونية ويقول: إن الله ـ سبحانه ـ كلما أراد أن يذيق الكفار بدّل جلودهم التي احترقت، وماتت فيها الألياف العصبية بجلود سليمة لم تحترق، ليذوقوا العذاب مرة أخرى وعندما يأتي التشريح المجهري، ليقول: إن الألياف العصبية تكمن في الجلد نقول: إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد أخبرنا بهذه الحقيقة في القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرناً .
2ـ البصمات وتحديدها لهوية الإنسان:
قال تعالى:"أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ" (القيامة، آية : 3 ، 4). لقد توصل العلم إلى سر البصمة في القرن التاسع عشر، وبين أن البصمة تتكون من خطوط بارزة في بشرة الجلد تجاوزها منخفضات، وتعلو الخطوط البارزة فتحات المسام العرقية، تتمادى هذه الخطوط وتتلوى، وتتفرع عنها تَغَصُّنات وفروع، لتأخذ في النهاية وفي كل شخص شكلاً مميزاً، وقد ثبت أنه لا يمكن للبصمة أن تتطابق وتتماثل في شخصين في العالم، حتى في التوائم المتماثلة التي أصلها من بويضة واحدة، يتم تكون البنان في الجنين في الشهر الرابع،وتظل ثابتة ومميزة له طوال حياته ويمكن أن تتقارب بصمتان في الشكل تقارباً، ولكنهما لا تتطابقان البتة، ولذلك فإن البصمة تعد دليلاً قاطعاً، ومميزاً لشخصية الإنسان معمول بها في كل بلاد العالم، ويعتمد عليها في تحقيق القضايا الجنائية، لكشف المجرمين واللصوص وقد يكون هذا هو السر في أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ خص البنان بالذكر ليبين للإنسان هذين الأمرين:
ـ السر المختفي في البنان الذي لم يعلم أمره إلا في عصر الكشوف العلمية.
ـ القدرة الفائقة على إعادة خلق الإنسان بصورته وخلقته التي كان عليها .
والدعوة مفتوحة للإنسان في التفكر في أجهزته العضوية كالجهاز الهضمي والنفسي والدموي وغيرها في جسم الإنسان، وفي التأمل في عالم المشاعر والأحاسيس والأفكار والعقائد.
خامساً: دليل الهداية:
قال تعالى:" سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى" (الأعلى، آية:1 ـ3)، وقال تعالى:"رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى" (طه، آية : 50)، والمقصود بالهداية المرادة في الآيات السابقة، إعطاء كل مخلوق من الخلق والتصوير ما يصلح به لما خلق له، وإرشاده إلى ما يصلح في معيشته ومطعمه ومشربه، ومنكحه وتقلبه وتصرفه .
ومن اسماء الله الحسنى الهادي سبحانه وتعالى الذي يُبصّر عباده ويعرّفهم طريق الإيمان به والإقرار بإلوهيته ومعرفة طريق بناء الحياة ومعرفة نواميسها وسننها حتى هدى الطيور والحيوانات والهوّام والوحوش إلى ما فيه مصالحها وعيشها ومحاذرة ما يضرّها أو يُعْطِبُها وقد جاء اسم الهادي في القرآن الكريم في قوله سبحانه: "وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا" (الفرقان، آية : 31)، وقوله:"وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم" (الحج، آية:54).
إنها هداية المعارف الفطرية الضرورية لكل مخلوق " قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى" (طه، آية:50).
وهي ثانياً: هداية الإرشاد والبيان التي بعث بها أنبياءه وأنزل بها كتبه "وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا" (السجدة، آية:24).
وثالثاً: الأخذ بالقلوب والعقول إلى مواضع رضاه بالتوفيق والإلهام والحفظ، كما وعد سبحانه "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ" (يونس، آية : 9)، " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا" (العنكبوت، آية:69). وهو منزل الكتاب الذي من تركه ضاع في بيداء الحياة ومن أبتغى الهدى في غيره أضله الله . وقد نبّه العلماء على كثير من هداية الله لمخلوقاته وكتبوا في ذلك كتباً نافعاً، فتحدثوا عن هداية الله للنمل وللهدهد والنحل وغيرها من مخلوقات الله الكثيرة وهذا باب واسع يكفي فيه قوله تعالى:"ومَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ " (الأنعام ، آية 38)، وهذه الأمم تعبد الله وتسبحه وتحمده، قال تعالى:"وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ" (الإسراء، آية : 44)، ومثل قوله: " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ" (النور، آية :41)، وتأمل معي في كل من:
1ـ النحل: قال تعالى: " وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (النحل، آية:68ـ 69). فأنظر إليها وإلى اجتهادها في صنعة العسل وبنائها البيوت المسدّسة التي هي من أتمّ الأشكال وأحسنها استدارة وأحكمها صنعاً، وتلك من أثر صنع الله وإلهامه إياها وإيحائه إليها ثم انظر أدّاها حسن الإمتثال إلى أن اتخذت البيوت أولاً، فإذا استقر لها بيت خرجت منه، فرعت وأكلت من الثمار، ثم آوت إلى بيوتها، لأن ربها سبحانه أمرها باتخاذ البيوت أولاً ثم بالأكل بعد ذلك ثم إذا سلكت سبل ربها مذلّلة لا يستوعر عليها شيء، ثم ترعى ثم تعود، ومن عجيب شأنها: أن لها أميراً يسمى "اليعسوب" لا يتم لها رواح ولا إياب، ولا عمل ولا مرعى إلا به، فهي مؤتمرة لأمره، سامعة له مطيعة، وله عليها تكليف وأمر ونهي، وهي منقادة لأمره، متبعة لرأيه يدبّرها، كما يدبّر الملك أمر رعيته، حتى إنها إذا آوت إلى بيوتها وقف على باب البيت فلا يدع واحدة تزحم الأخرى لا تتقدم عليها في العبور، بل تعبر بيوتها واحدة بعد واحدة بغير تزاحم ولا تصادم ولا تراكم، كما يفعل الأمير إذا انتهى بعسكره إلى معبر ضيق لا يجوز إلا واحد واحد ومن تدبر أحوالها وسياساتها وهدايتها واجتماع شملها وانتظام أمرها وتدبير ملكها، وتفويض كل عمل إلى واحد منها، يتعجب منها كل العجب، ويعلم أن هذا ليس في مقدورها ولا هو من ذاتها، فإن هذه أعمال محكمة متقنة في غاية الإحكام والإتقان، فمن الذي أوحى إليها أمرها، وجعل ما جعل في طباعها، ومن الذي هداها لشأنها؟ ومن الذي أنزل لها من الطّل ما إذا جنته ردّته عسلاً صافياً مختلفاً ألوانه في غاية الحلاوة واللذاذة والمنفعة ؟ إنه"الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى".
2ـ الهدهد: ومن هدايته ما حكاه الله عنه في كتابه أن قال لنبي الله سليمان وقد فقده وتوعده فلما جاء بدره بالعذر قبل أن ينذره سليمان بالعقوبة، وخاطبه خطاباً هيجه به على الإصغاء إليه والقبول منه، فقال أحط بما لم تحطت به، وفي ضمن هذا أني أتيتك بأمر قد عرفته حق المعرفة بحيث أحطت وهو خبر عظيم له شأن فلذلك قال: وجئتك من سبأ بنبأ يقين، والنبأ هو الخبر الذي له شأن والنفوس متطلعة إلى معرفته، ثم وصفه بأنه نبأ يقين لا شك فيه ولا ريب، فهذه مقدمة بين يدي إخباره لنبي الله بذلك النبأ استفرغت قلب المخبر لتلقي الخبر، وأوجبت له التشويق التام إلى سماعه ومعرفته، وهذا نوع من براعة الاستهلال وخطاب التهييج، ثم كشف عن حقيقة الخبر كشفاً مؤكداً بأدلة التأكيد، فقال: إني وجدت إمرأة تملكهم، ثم أخبر عن شأن تلك الملكة وأنها من أجلّ الملوك بحيث أوتيت من كل شيء يصلح أن تؤتاه الملوك، ثم زاد في عظيم شأنها بذكر عرشها التي تجلس عليه وأنه عرش عظيم ثم أخبره بما يدعوه إلى قصدهم وغزوهم في عقر دارهم بعد دعوتهم إلى الله فقال:وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله. وحذف أداة العطف من هذه الجملة وأتى بها مستقلة غير معطوفة على ما قبلها إيذاناً بأنها المقصودة وما قبلها توطئة لها، ثم أخبر عن المغوى لهم الحامل لهم على ذلك وهو تزيين الشيطان لهم أعمالهم حتى صدهم عن السبيل المستقيم وهو السجود لله وحده، ثم أخبر أن ذلك الصد حال بينهم وبين الهداية والسجود لله الذي لا ينبغي السجود إلا له، ثم ذكر من أفعاله سبحانه اخراج الخبء في السموات والأرض، وهو المخبوء فيهما من المطر والنبات والمعادن وأنواع ما ينزل من السماء وما يخرج من الأرض، وفي ذكر الهدهد هذا الشأن من أفعال الرب تعالى بخصوصه إشعار بما خصه الله به من إخراج الماء المخبوء تحت الأرض، قال صاحب الكشاف وفي إخراج الخبء إمارة على أنه من كلام الهدهد لهندسته ومعرفته الماء تحت الأرض وذلك بإلهام من يخرج الخبء في السموات والأرض جلت قدرته ولطف علمه ولا يكاد يخفي على ذي الفراسة، الناظر بنور الله مخايل كل شخص بصناعة أو فن من العلم في روائه ومنطقه وشمائله فما عمل آدمي عملاً إلا ألقى الله عليه رداء عمله .

سادساً: دليل انتظام الكون وعدم فساده:
وانتظام أمر العالم، العلوي والسفلي، وارتباط بعضه ببعض، وجريانه على نظام محكم، لا يختلف ولا يفسد من أدلّ دليل على أن مدبّره واحد لا إله غيره .
قال تعالى:" لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ" (الأنبياء، آية:22)، لو كان في السموات والأرض آلهة تصلح لهم العبادة سوى الله الذي هو خالق الأشياء وله العبادة والألوهية التي لا تصلح إلا له "لفسدتا" أي:لفسد أهل السموات والأرض .
وقال تعالى:"مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ" (المؤمنون، آية:91).
يقول تعالى ذكره: مالله من ولد ولا كان معه في القديم أو عند خلقه الأشياء من تصلح عبادته، إذن لاعتزل كل إله منهم بما خلق من شيء فانفرد به ولتغالبوا، ولعلا بعضهم على بعض، وغلب القوي منهم الضعيف، لأن القوي لا يرضى أن يعلوه الضعيف، والضعيف لا يصلح أن يكون إلهاً، فسبحان الله ما أبلغها من حجة وأوجزها لمن عقل وتدبر . وهكذا فإن دليل انتظام الكون وعدم فساده دليل عقلي قوي على وحدانية الله، لا تملك العقول السوية ردّه، وهي ترى انتظام أمر السموات والأرض وما فيهن، مما يدل على وجود إله واحد متفرد بالخلق والتدبير، مما يستوجب صرف العبادة له دون سواه .

سابعاً: دليل التقدير:
قال تعالى:"وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا" (الفرقان، آية:2)، وقال تعالى:"إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ" (القمر ، آية : 49)، وقال تعالى: "وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ" (الرعد، آية : 8)، وظاهرة التقدير تبدو في كل ما خلق الله عز وجل في الأرض والسماء والإنسان والنبات والحيوان، فقد نظم الله أجزاء هذا الوجود على أحسن نظام وأدلّه على كمال قدرة خالقه وكمال عمله وكمال حكمته وكمال لطفه .

ثامناً: دليل التسوية:
قال تعالى:" أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا" (النازعات، آية : 27، 28) وقال تعالى:"صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ" (النمل، آية : 88) وقال تعالى:"الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ" (السجدة،آية:7).
والتسوية: إحسان الخلق، وإكمال الصنعة بحيث يكون المخلوق مهيئاً لأداء وظيفته وبلوغ كماله المقدَّر عنه وجعله مستوياً معتدلا متناسب الأجزاء بحيث لا يحصل تفاوت يخلّ بالمقصود منها وإذا تأملنا في مظاهر التسوية في الإنسان تبدو فـي كل عضـو من أعضائه فقد أحسن الله خلقه كمال قال تعالى:"لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" (التين ، آية : 4) منتصب القامة سويَّ الأعضاء حسنها ، كما قال سبحانه في موضع آخر" الَّذِي
خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ" (الانفطار، آية : 7 ، 8)، وإن الجمال والسواء والاعتدال ليبدو في تكوين الإنسان الجسدي، والعقلي والروحي وكل ذلك يتناسق في كيانه في جمال واستواء والأجهزة العامة لتكوين الإنسان الجسدي، كالجهاز العظمي والجهاز العضلي والجهاز الهضمي والجهاز التنفسي ...إلى غير ذلك من أجهزة الجسم المتعدد، كل منها عجيبة، لا تقاس إليها كل العجائب الصناعية التي يقف الإنسان مدهوشاً أمامها وينسى عجائب ذاته، وهي أضخم وأعمق وأدق بما لا يقاس . وخلق الإنسان على هذه الصورة السويّة المعتدلة أمر يستحق التدبر الطويل لأنه خلق لا يملك العقل حياله إلا الإقرار بعظمة الله والشكر له بأن أكرمه بهذه الخلْقة وقد كان قادراً أن يركبه في أي صورة أخرى يشَاؤها .

المبحث الثالث
 
توحيد الربوبية:

ومعنى توحيد الربوبية: هو الاعتقاد الجازم بأن الله جل جلاله رب كل شيء ومالكه وخالقه ومدبر أمره ورازقه وأنه وحده الذي ينفع ويضر ويحي ويميت وأنه سبحانه وحده المتصرف بهذا الكون وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى ولا معطى لما منع بيده الخير وإليه ترجع الأمور وهو على كل شيء قدير ، وهذا التوحيد لا يكفي العبد في حصول الإسلام، بل لا بد أن يأتِ مع ذلك بلا زمة من توحيد الإلهية، لأن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم مقرون بهذا التوحيد لله وحده قال تعالى:" وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ" (الزمر، آية:38).
وقال تعالى:" قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ" (المؤمنون، آية:84 ـ 92).
ـ وقال تعالى:" وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ" (يوسف ، آية : 106).
وغير ذلك من الآيات من القرآن كثير مما يدل على اعترف الكفار بخالقهم وإقرارهم به ، وإنما عبدوا من دون الله ما عبدوا ليجعلوهم وسائط وشفعاء بينهم وبين الله، ومع ذلك يتخلون عنهم إذا نزلت بهم الشدائد ووقت الاضطرار، ومع هذا الإقرار فلم تغنى عنهم شيئاً ولم ينتفعوا به إذ لم يصبحوا به مسلمين ولم تعصم أموالهم ولا دماؤهم ولا أعراضهم، لأنهم أنكروا توحيد الألوهية، وأشركوا بربهم، ولم يلتزموا بلازم ما أقروا به إذ أن توحيد الربوبية يلزم منه توحيد الألوهية .
وهو أفراد الله عز وجل بجميع أنواع العبادات، إن المؤمن يشعر بطمأنينة كبيرة وهو يتأمل في ملكوت الله تبارك وتعالى فيرى عظمة الله في خلقه وحكمته البالغة في تدبيره " أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (الملك ، آية : 22).
والحديث عن عظمة الله يملاء القلب سكينة والتدبر في ملكوته يملءه إيمانا فحُق للشاعر أن يتسأل بعد جولة تأمل في مخلوقات الله سبحانه فقال:

قل للوليد بكى وأجْهَشَ بالبكاء
                        لدى الولادة ما الذي أبكاكا
وإذا ترى الثعبان ينفُثُ سُمّه
                        فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو
                        تحيا وهذا السمُّ يملأُ فاكا
واسأل بطون النحل كيف تقاطرت
                        شهْدا وقل للشهد من حلَّاكا
بل سائل اللبن المصفّى كان
                        بين دم وفرثِ ما الذي صفَّاكا
واسأل شعاع الشمس يدنو وهي
                        أبعد كل شيء ما الذي أدناكا
يا أيها الإنسان مهلاً ما الذي
                        بالله جلّ جلاله أغراكا ؟

إن المتأمُّل في خلق الله عز وجل وملكوته يقود إلى رسوخ الإيمان به سبحانه ولهذا قال تعالى:"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (آل عمران،آية:190، 191).
فتأمَّل وسبحْ وتعبد لمن خلقك وذرأك وإليه المصير .
إن من أبرز صفات الله عز وجل الدّالة على ربوبيته صفة الخلق وما تميزت به من اتقان وبديع صنع لا يكون إلا من رب العالمين، فالله عز وجل هو الذي خلق المخلوقات ومن عظيم إتقانه أن سن لها قوانين وسنناً ثابتة منها العام ومنها الخاص عليها مدار انضباطها، وهذه السنن لا يمكن إضافتها لغير الله سبحانه وتعالى، لأنه هو المتفرد بالربوبية وحده لا شريك له .
فالسنن العامة تخضع لها جميع الكائنات في وجودها المادي وما يمر بها من حوادث مادية، كنمو الإنسان، وحركته ومرضه وما شابه ذلك، وما تقع من حوادث كونية، كنزول المطر وتعاقب الليل والنهار وغيرها من متعلقات الوجود المادي لمخلوقات الله عز وجل ولقد وجه الأنبياء والرسل أقوامهم إلى المشاهدة والنظر، والتأمل والتفكر في مثل هذه السنن التي تتضمن دلالات كبيرة على عظمة الخالق وحُسن تدبيره وبديع خلقه لأمره وتدبيره عز وجل وفق سننه ونظامه وقوانينه التي وضعه بقدرته وحده لا شريك له، ومن ذلك قول نوح عليه السلام لقومه قال تعالى:" أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا"  (نوح ، آية : 15 ـ 20).
وأما السنن الخاصة فهي تتعلق بخضوع البشر لها باعتبارهم أفراداً وأمماً وجماعات، خضوعاً يتعلق بتصرفاتهم وأفعالهم وسلوكهم في الحياة، وما يكونون عليه من أحوال وما يترتب على ذلك من نتائج كالسعادة والشقاء، والعز والذل، والقوّة والضعف، والنصر والهزيمة، ونحو ذلك من الأمور الاجتماعية في الدنيا وما يترتب عليها من جزاء في الآخرة سواء كان عذاباً أو نعيماً ومن ذلك قوله تعالى:" قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" (الأعراف ، آية : 128)، أي الخاتمة المحمودة أو النهاية في الدنيا والآخرة لمن أتقى ، وكذلك ما ورد في القرآن حول غزوة أحد مثل قوله تعالى:"إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ" (آل عمران ، آية : 160). ومن هذه سمات هذه السنن بنوعيها الثبات والإطراد والعموم، قال تعالى:"وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا" (الأحزاب ، آية : 62)، أي لن تجد لها تحويلاً وتغييراً، بل هي ثابتة دائمة ، فما من نبي إلا أرشد قومه إلى هذه السنن بُغية توحيد الخالق، وخاصة النوع الثاني منها التي تتعلق بالأحوال الإجتماعية، ففي الاعتبار والاتعاظ بها تتحقق الاستقامة المطلوبة في سلوك البشر، وتتحقق الضوابط المرجوة في سبيل تحقيق العبودية الخالصة لله عز وجل، لذا كان من أهداف إيراد القصص في القرآن الكريم الاتعاظ بما جاء فيها من ذكر لهذه السنن، كسنة الأخذ بالأسباب، وسنة التدافع، وسنة الله في نصر المؤمنين، وسنة الله في الفتنة والابتلاء وسنة الله في الظلم والطغيان  وغيرها.
إن توحيد الربوبية هو أعظم برهان ودليل على توحيد الألوهية وهو بالنسبة له كالمقدمة بالنسبة للنتيجة، فمن أعتقد أن لهذا الكون العظيم الواسع خالقاً ومدبراً وقاهراً ومتصرفاً فيه، يفعل ما يشاء وله القدرة الكاملة على تبديله وتغييره وأنه الرازق لجميع المخلوقات بيده النفع والضر، ويمنع ويعطي،ويميت ويحي، وينجي عند الشدائد، والكربات ويجيب المضطر عند اضطراره، من اعتقد ذلك صدقاً تولد في قلبه حب ذلك الخالق العظيم، وهذه المحبة لابد أن تثمر خضوعاً وانكساراً وتذللاً، وانقياداً وطاعة وعبودية ورِقاً لمالك هذا الكون، وكثيراً ما يذكر الله سبحانه في كتابه الناس جميعهم بأنه هو المنعم عليهم والمتفضل عليهم بالخلق والرزق وجميع النعم، فيرشدهم بذلك لعبادته وحده لا شريك له ، قال تعالى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ" (فاطر ، آية : 3).
 
المبحث الرابع

            توحيد الأسماء والصفات

ومعناه: الإيمان بما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته من الأسماء الحسنى والصفات العلى، من غير تحريف ألفاظها أو معانيها، ولا تعطيلها بنفيها أو نفي بعضها عن الله عز وجل، ولا تكييفها بتحديد كُنهها، وإثبات كيفية معينة لها، ولا تشبيهها بصفات المخلوقين .
أولاً: الأسس التي يقوم عليها توحيد الأسماء والصفات:
إن توحيد الله سبحانه وتعالى في أسمائه وصفاته يتطلب التقيد في ذلك بكتاب ربنا وبسنة رسولنا صلى الله عليه وسلم فلا نصنع له اسما او صفة ليست واردة في المنهلين ولا نشبه باحد من خلقه فهو سبحانه متصف بكل كمال منزه عن كل نقص :"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ" (الشورى ، آية : 11).وعلى ذلك فيمكن أن نذكر هذه الاسس:
1ـ أن أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية فلا نثبت لله تعالى ولا ننفي عنه إلا بدليل من الكتاب أو السنة إذ لا سبيل إلى سبيل ذلك إلا من هذا الطريق.
2ـ وأن الإيمان بأن الله تعالى لا يشبه أحداً من خلقه في أسمائه ولا صفاته كما لا يشبهه أحد من خلقه، وإن سمى أو وصف أحداً من المخلوقين بتلك الأسماء والصفات فذلك اشتراك في اللفظ لا يوجب مماثلة المخلوقين له فيما دلت عليه هذه الأسماء والصفات، فأسماء الله تعالى وصفاته على ما يليق به سبحانه وتعالى وما يسمى به من المخلوقين أو يوصف من ذلك فعلى مايليق بالمخلوق نفسه، فكل ما يليق به قال تعالى:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ" (الشورى،آية:11).
3ـ وأن صفات الله كلها صفات كمال، فله سبحانه الكمال المطلق وهو المنزه عن كل نقص، ومما ينبغي معرفته في الإيمان بأسماء الله وصفاته أن يقطع الطمع في كيفيتها وألا يسأل عن ذلك، إذ لا يسأل عن صفات الله تعالى بكيف وأن يعلم مع ذلك ويعتقد أن هذه الصفات معلومة المعنى، فلم يخاطب الله تعالى عباده ويتعبدهم بأمور لا يعلمون معناها ولهذا قال الإمام مالك وغيره من علماء الأمة لمن سأل عن كيفية استواء الله تعالى على عرشه: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة . وقال ربيعة شيخ مالك قبله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ومن الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا البيان .
ثانياً: أدلة هذا النوع من التوحيد: لا تخلو سورة من سور القرآن الكريم من ذكر اسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته ومن ذلك سورة الإخلاص فهي بكاملها عن أسماء الله وصفاته قال تعالى:" قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ"(الإخلاص). ففي هذه السورة وصف الله سبحانه وتعالى نفسه بأنه أحد صمد، فهذان الوصفان يدلان اتصاف الله بغاية الكمال المطلق ، ومعنى الصمد: إنه المستغني عن كل أحد والمحتاج إليه كل أحد. وهذا المعنى يدل على الإثبات والتنزيه فالإثبات بوصفه سبحانه بأنه هو الذي يصمد إليه أي يرجع إليه في كل أمر وذلك لأنه هو المتصف بجميع صفات الكمال، فهو القادر على كل شيء والفعّال لما يريد والذي بيده الخلق والأمر والجزاء وما من قوة لغيره تعالى إلا بهيمنة منه إذا شاء أبقاها ومتى شاء سلبها فالمرجع والمراد إليه سبحانه . وأما التنزيه: فبوصفه تعالى بأنه غني عن كل شيء فلا افتقار فيه بوجه من الوجوه، لا في وجوده، فإنه الأول الذي ليس قبله شيء وهو الذي لم يلد ولم يولد ولا في بقائه فإنه الذي يُطعِم ولا يُطعَم ولا في أفعاله فلا شريك له ولا ظهير ، كما أن وصفه سبحانه بأنه أحد صمد يدل على اتصافه بالكمال المطلق فكذلك يدلان على معنى آخر وهو نفي الولادة والتوليد عن الله سبحانه قال تعالى:" قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ" (الأنعام ، آية : 14). وقال تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ" (الذاريات ، آية : 56، 57، 58).
فإن الأحد هو الذي لا كفؤ له ولا نظير فيمتنع أن تكون له صاحبة ولا ولد قال تعالى:" بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" (الأنعام ، آية :101).
وفي هذا نفي عن المخلوقات مكافأته أو مماثلته للخالق ومثل ذلك قوله:" الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ" (الأنعام ، آية : 1)، أي يعدلون به غيره فيجعلون له من خلقه عدلاً ونظيراً ،ومثال هذا قوله تعالى:"رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا" (مريم ، آية : 65). أي لا شيء يساميه لا ند ولا عدل ولا نظير له يساويه، فانكر التشبيه والتمثيل وبهذا يتبين لنا أن تنزيهه سبحانه عن العيوب والنقائص واجب لذاته كما دلت على ذلك سورة الإخلاص .
ثالثاً: أسماء الله الحسنى: لربنا تبارك وتعالى أسماء سمّى بها نفسه منها ما أنزله في كتابه، كالأسماء الموجودة في القرآن ومنها ما علّمه الله تعالى بعض خلقه من الأنبياء والمرسلين أو الملائكة المقربين أو ما شاء الله تبارك وتعالى، ومن أسمائه سبحانه ما استأثر به في علم الغيب عنده فلا يعلمه أحد، وذلك أن لله تعالى من معاني العظمة ما لا تستطيع المخلوقات إدراكه، لأنه الإله الحق المبين، له الجمال المطلق، والكمال المطلق، والجلال المطلق، والعظمة التامة، والقدرة الكاملة، فلله تعالى أسماء وصفات لا يحيط بها إلا هو سبحانه وتعالى.
1ـ أسماء الله تبارك وتعالى كثيرة،بل كما قال ربنا عز وجل:" قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا" (الكهف ، آية : 109)، وقال:"وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (لقمان ، آية : 27). فلله عز وجل من معاني الحمد والمجد، والكمال والعظمة والقوة والقدرة والسلطان ما لا يحيط به بشر، ولا يدركه عقل، ولا يقف عند منتهى كُنهه إدراك، وهذا الحديث لا يعني قصر الأسماء الحسنى على التسعة والتسعين، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح ـ الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه ـ مناجياً وداعياً ربه تبارك وتعالى (اسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك .
وذكر في حديث الشفاعة أنه يسجد صلى الله عليه وسلم تحت العرش، فيفتح الله عليه بمحامد يعلمّها له، لم يكن يعلمها من قبل .
2ـ أسماء الله تبارك وتعالى توقيفية فلا يحق لأحد من الناس أن يخترع لله تعالى اسماً، وإنما أسماؤه سبحانه ما جاء في القرآن أو السنة بصفة الاسم، مثل، الخالق، البارئ، المصور، الملك، القدوس، السلام، العزيز، الحكيم، العليّ، العظيم، المؤمن، المهيمن.
3ـ من اسماء الله الحسنى ما يختص به سبحانه، فلا يجوز أن يُسمَّى بها غيره وهي " الرَّحْمَـنَ" " اللّهَ " " قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ"(الإسراء ، آية 110)، ولهذا لا يتسمى أحد بهذين الاسمين من المخلوقين قط إلا قصمه الله تعالى، "فالله" و" الرَّحْمَـنَ" من الأسماء التي لا يُسمَّى بها أحد إلا الله عز وجل .
4ـ من أسماء الله عز وجل ما يجوز أن يذكر وحده منفرداً، كالعزيز، والحميد، والحكيم، والرحيم، والعليم، والخبير، والبصير.. وما أشبه ذلك، فتناديه بها وتدعوه بها، وتعرفه سبحانه، ومن الاسماء ما لا يُذكر إلا مع نظيره، بأن تصف الله تبارك وتعالى بأنه هو "النافع الضار" أو "القابض الباسط" وما أشبه ذلك من الأسماء التي تكون متقابلة، فلو وصفت ربك تبارك وتعالى بأنه الضار فحسب، أو القابض فحسب لكان هذا مُوهِماً لمعنى لا يليق بمجد الله وكرمه وعظمته وكماله وقدسيته، لهذا لا تُذكر هذه الاسماء منفردة، وإنما تذكر مع نظيرها ومقابلها.
5ـ معنى الإحصاء في قوله صلى الله عليه وسلم: إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة: يشمل أموراً منها:
أ ـ معرفة هذه الأسماء وحفظها، بحيث يستطيع الإنسان أن يعدها عداً، وقد اعتنى جماعة من أهل العلم بعدّ هذه الأسماء، كالزَّجَّاج وابن منده، وابن حزم وأبي حامد الغزالي وابن العربي والقرطبي، وغيرهم من المصنفين والعلماء الذين اعتنوا بذكر هذه الأسماء وتعدادها واستخراجها من القرآن والسنة النبوية الصحيحة، وهذا داخل في معنى إحصاء أسماء الله الحسنى، وفضل عظيم للإنسان أن يكون عنده إلمام ومعرفة بأسماء الله عز وجل، وأن يتلوها، وأن يدعو الله  بها.
ب ـ من معاني إحصائها، معرفة معانيها، فإن هذه الأسماء ليست أسماء رمزية ولا وهمية، ولا جامدة، ولا غامضة المعنى، وإنما هي بلسان عربي مبين، أُريد من الإنسان أن يتفهم معانيها، حتى تكون تلاوتنا لها ذات معنى وليس مجرد ترديد لألفاظ لا نفقه ما وراءها وهذا بحدّ ذاته، مكسب عظيم، يبارك النفس ويزكيها ويرتقي بالقلب والعقل والروح.
ج ـ الإلحاح بالدعاء لله عز وجل بهذه الأسماء كما قال تعالى:" وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ" (الأعراف ، آية : 180).
إن الله تبارك يجب أن يدعى بها ولهذا قيل:
    لا تسألنَّ بُنيّ آدم حاجة

                وسل الذي أبوابُه لا تُحجب

    الله يغضب إن تركت سؤاله
               
                وبُنيُّ آدم حين يُسألُ يغضبُ
فندعو الله بأسمائه الحسنى باعتدال وذلك بأن تدعو الله تعالى وتسأله وترجوه فيما ألمَّ بك من أمر دنياك وآخرتك مما تحب وترجو، أو مما تخاف وتكره، أو تدعوه بهذه الأسماء باستحضار معانيها، وتأملها وتدبُّرِها والتعبد، بمقتضياتها، والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والصلاة والذكر والاستحضار .
ح ـ استحضار معاني تلك الأسماء، فإن شر ما يُبتلى به الناس: الغفلة والاستغراق في ماديات الحياة والانسياق وراء صوارفها وخير دواء للقلوب هو استحضار عظمة علَّام الغيوب، والتدرج بالنفس في مراقي معرفته والإيمان به سبحانه، حتى تصل درجة: أن تعبد الله كأنك تراه ، فهذا يزيد المرء إقبالاً على الطاعة وحفاوة ونشاطاً، كما قال سبحانه: "الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ" (الشعراء آية: 218 ـ 219). كما أن استشعار معاني هذه الأسماء يزيد المؤمن إعراضاً عن المعصية وزهداً فيها وإسراعاً في الإقلاع عنها وقوة في التوبة والأوبة لما يحسُ به من وحشة القلب والبعد عن الرب، ولما يحاذره ويستشعره من غضبه أو عتبه أو مؤاخذته سبحانه للعبد على إقامته على الذنب .
إن من خير ما تورثه تلك الأسماء الصفاء والسكينة والوئام، والإحجام عن الناس، والتواضع لذي الجلال، إلى سعة العقل والفهم والإدراك، ولعلّ من إحصائها ألا تتحول إلى مادة للخصام أو الجدل الأكاديمي، الذي لا يثمر معرفة قلبية، على أن البحث العلمي الهادي مطلب لا بدّ منه لمن أراد سلوك الطريق .

رابعاً: الصفات الإلهية: تنقسم الصفات الإلهية إلى عقلية وخبرية وإلى ذاتية وفعلية اختيارية، فالصفات العقلية والخبرية جاء بها القرآن وتحدثت بها السنة.
1ـ فالصفات العقلية: هي التي يمكن أن يستدل عليها بالعقل فطريق اثباتها السمع والبصر، كالعلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر والكلام والرحمة والحكمة والعلو ونحوها .
2ـ والصفات الخبرية: وهي التي لا يستطيع العقل إدراكها من غير طريق النصوص، فطريق إثباتها ورود خبر الصادق بها فقط، وذلك كالوجه واليدين والعين، والاستواء على العرش ونحو ذلك ، فهذه الصفات الخبرية يجب، الإيمان بها كالعقلية من غير تمثيل ولا تعطيل ولا تحريف ولا تكييف ، قال تعالى:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ" (الشورى ، آية : 11).
3ـ صفات ذاتية: لا تنفك عنها الذات، بل هي لازمة لها أزلاً وأبداً وذلك كالحياة والعلم والقدرة والقوة والملك والعظمة والكبرياء والمجد والعلو والجلال والوجه  وغيرها.
4ـ صفات فعلية: تتعلق بها مشيئته وقدرته كل وقت وآن، وتحت مشيئته وقدرته آحاد تلك الصفات من الأفعال وإن كان هو سبحانه لم يزل موصوفاً بالفعل بمعنى أن نوع الأفعال قديم وأفرادها حادثة، فهو سبحانه لم يزل فعالاً لما يريد ولم يزل ولا يزال يقول ويتكلم ويخلق ويدبر الأمور، وأفعاله تقع شيئاً فشيئاً تبعاً لحكمته وإرادته، ومثل هذا الاستواء على العرش والمجيء والإتيان والنزول إلى السماء الدنيا والضحك والرضا والغضب والكراهية والمحبة والخلق والرزق والإحياء والأمانة وأنواع التدبير .
وأفعاله سبحانه وتعالى منها اللازم ومنها المتعدي، فالاستواء والمجيء والنزول ونحو ذلك أفعال لازمة لا تتعدى إلى مفعول، بل هي قائمة بالفاعل، والخلق والرزق والأمانة والإحياء والإعطاء والمنع ونحو ذلك تتعدى إلى مفعول ، وقد جمع الله بينهما في قوله تعالى:" الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا" (الفرقان ، آية : 59)، فذكر الفعلين المتعدي واللازم وكلاهما حاصل بمشيئته وقدرته وهو متصف بها سبحانه، كما يجب التنبيه أيضاً إلى أن من صفاته سبحانه وتعالى ما يأتي: صفة ذات وصفة فعل وذلك مثل صفة الكلام، والخلق والرحمة .
وقد دلت الآيات والأحاديث على اتصاف الله بالصفات الذاتية والفعلية، قال تعالى:" وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ" (الرحمن ، آية : 27)، وقال تعالى:" وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ" (الأعراف ، آية : 11)، وقوله تعالى:"إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ" (آل عمران ، آية : 59)، وقال تعالى:" ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ" (محمد ، آية : 28)، وقال تعالى:" قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (آل عمران ، آية : 31)، وحديث أبي هريرة قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها نهشة ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة إلى أن قال.. فيأتون آدم عليه السلام فيقولون له أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك إلا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما قد بلغنا فيقول آدم إن ربي قد غضب غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله . وعلينا اثبات جميع ما ورد به الكتاب والسنة من الصفات بلا تحريف ولا تعطيل وبلا تشبيه ولا تمثيل .
أـ بعض الصفات الذاتية:
ـ صفة الحياة: إن الله تعالى له الحياة الدائمة التامة التي لا يعتريها، نقص بوجه من الوجوه، ولهذا قال: " لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ". وصفة الحياة ثابتة بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، فالآيات منها قوله تعالى:" اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" (البقرة ، آية : 255)، وقوله تعالى:" هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ" (غافر ، آية : 65)، وقوله تعالى:" وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ" (الفرقان، آية : 58). وأما الأحاديث، فمنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم لك أسلمت، وبك آمنت وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، أعوذ بعزتك، لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون . ومن معاني (الحي) أن حياته صفة ذاتية بخلاف المخلوقين، فإن حياتهم من فضل الله عز وجل عليهم ومعيشتهم من عطائه وجوده وكرمه، فالله تعالى متصف بالحياة وهي صفة لذاته جل وعلا. ومن معانيها أيضا أنه يمنح الحياة للأحياء في الدنيا، ويمنح أهل الجنة حياتهم الأبدية الأزلية السرمدية التي لا زوال لها، بل هي خلود أبدي بلا موت ولا فناء .
صفة العلم: والعلم يقتضي نفي الجهل وعلمه سبحانه علم شامل كامل محيط بالماضي والحاضر والمستقبل، وعلم مطابق للواقع، قال تعالى: " أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" (الملك ، آية : 14)،قال تعالى: " وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء" (البقرة ، آية : 255). وقال تعالى: "لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ" (النساء ، آية : 166).
فالله سبحانه وتعالى أحاط بكل شئ علماً ووسع كل شئ رحمة وحكمة لا يخفي عليه شئ في الأرض ولا في السماء "وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ" (الأنعام ، آية : 59). وكما أن علمه لا يسبقه جهل فلا يلحقه نسيان " لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى" (طه ، آية 52). وقال تعالى " وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ" (الأعراف ، آية : 7)، وهو يعلم الدقائق والتفاصيل والظواهر والبواطن، والكليات والجزئيات، والمعاني والماديات، ولقد كتب مقادير كل شئ في كتاب عنده، ولذا يقول سبحانه: "وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً" (الإسراء ، آية : 85).
فهذا العلم يوجب الخشية منه وتعظيمه، ولذا قيل، من كان بالله أعرف كان منه أخوف. ويوجب مراقبته، لأنه كل شئ بعلمه وسمعه وبصره وتحت سلطانه.
ويوجب محبته لأنه كمال العلم محبوب للنفوس الشريفة التواقة، ويوجب محبة العلم والسعي فيه وتحصيله والتلذذ به، لأن الله يحب العلم والعلماء ويكره الجهل والجهلاء ويوجب الصبر على التعلم وذله، لأنه عبادة، وكذلك علم الدنيا والكون والإنسان، وألوان المعارف الإنسانية هي محبوبة. وعلم الشريعة والوحي والآخرة محبوب، لأنه يثمر المعرفة به والقربى منه ومعرفة ما يريد وما يحب وما يكره سبحانه وتعالى، وكذلك علم الدنيا والكون والإنسان وألوان المعارف الإنسانية هي محبوبة لأنها تزيد العبد بصيرة بخلق الله وقدرته وحكمته وعظمته وتيسر الانتفاع بهذا الكون "وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ" (الجاثية ، آية : 13).
إن صفة العلم مستمدة من اسمه العليم، وهذا الإسم الشريف العظيم يولد في النفس تسليماً لما يفعله الله في كونه، وأنه بعلمه وإرادته وحكمته، فالحكمة هي العلم، والقدرة هي قرين العلم "وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ" (التحريم ، آية : 2) " وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ" (الروم ، آية 54)، فكل شئ بقدر وكل قدر بحكمة " مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" (التغابن ، آية : 11).
إن الإيمان بالرب (العليم) يجعل العبد أقرب إلى ربه وأكثر استشعاراً لمعيّته.
قال الشاعر:
        هو العليم أحاط علماً بالذي         
    في الكون من سر ومن إعلان
         وبكل شئ علمه سبحانه
                            قاصي الأمور لديه قبل الداني
        لا جهل يسبق علمه كلا ولا
                            ينسى كما الإنسان ذو نسيان

صفة القدرة: القدير سبحانه هو كامل القدرة، فبقدرته أوجد الموجودات، وبقدرته دبرها، وبقدرته سوّاها وأحكمها وبقدرته يحي ويميت ويبعث العباد للجزاء، وبقدرته سبحانه يقلب القلوب على ما يشاء ويريد . قال تعالى: " بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ" (القيامة ، آية : 4). وقال: "وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون". ومن السنة المطهرة حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا همَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني استخيرك بعلمك واستقدرك بقدرتك .
صفة الإرادة: الإرادة والمشيئة بمعنى واحد فالإرادة التي تعنى المشيئة هي الإرادة الكونية وأما الإرادة الشرعية فتختلف عن الإرادة الكونية وسياتي الحديث عنها مفصلا بإذن الله لاحقا والآيات والأحاديث في بيانها كثيرة جداً منها قال تعالى: "مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (المائدة ، آية : 6)، وقوله سبحانه وتعالى: "يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" (البقرة ، آية : 185). وأما الأحاديث فمنها حديث معاوية رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ".
إثبات صفة السمع والبصر: والمعلوم والمقدر عند أهل السنة أن السميع لا يكون إلا بسمع والبصير لا يكون إلا ببصر كما لا يكون القدير والحكيم إلا بقدرة وحكمة . والآيات في إثبات صفتي السمع والبصر كثيرة، والأحاديث أيضاً، ولذلك سنستدل ببعض الآيات قال تعالى:" فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" (غافر ، آية : 56)، وقال تعالى:"وكان الله سميعاً بصيراً".
إثبات صفة الكلام: أهل السنة متفقون على أن الله يتكلم بمشيئته، وأنه لم يزل متكلماً إذا شاء وكيف شاء ، قال تعالى:"مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ" (البقرة ، آية : 253)، وقال تعالى:"وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا" (النساء ، آية : 164). فلله عز وجل من صفاته صفة الكلام وهي صفة قائمة به غير بائنة عنه، لا إبتداءً لا تصافه بها ولا إنتهاءً، يتكلم بها بمشيئته واختياره وكلامه تعالى أحسن الكلام، ولا يشابه كلام المخلوقين، وإذا الخالق لا يقاس بالمخلوق ويكلم به من شاء وبغيرها ويسمعه على الحقيقة من شاء من ملائكته ورسله، ويسمعه عباده في الدار الآخرة بصوت نفسه، كما كلم موسى وناداه حين أتى الشجرة بصوت نفسه فسمعه موسى، كما أن كلامه تعالى لا يشبهه كلام المخلوقين فإن صوته لا يشبه أصواتهم وكلماته تعالى لا نهاية لها ومن كلامه القرآن والتوراة والإنجيل، فالقرآن كلامه، سوره وآياته وكلماته ، والقرآن الكريم غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود فهو كلام الله وحروفه ومعانيه، والدليل أنه من كلام الله قوله تعالى:" وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ" (التوبة ، الآية : 6).
والقرآن منزل من عند الله تعالى:" تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ" (الفرقان ، الآية : 1) والقرآن غير مخلوق والدليل قوله تعالى:" أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ" (الأعراف، الآية: 54) فجعل الأمر غير الخلق والقرآن من الأمر لقوله تعالى:"وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا" (الشورى ، آية : 22)، وقوله:" ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ " (الطلاق ، آية : 5).
علو الله على خلقه: إن الله تعالى وصف نفسه بالعلو في السماء ووصفه بذلك محمد خاتم الأنبياء وأجمع على ذلك جميع العلماء من الصحابة الأتقياء والأئمة الفقهاء وتواترت الأخبار بذلك على وجه حصل به اليقين وجمع الله عليه قلوب المسلمين، وجعله مغروزاً في طباع الخلق أجمعين فتراهم عند نزول الكرب بهم يلحظون السماء بأعينهم ويرفعون نحوها للدعاء أيديهم وينتظرون مجيء الفرج من ربهم وينطقون ذلك بألسنتهم لا ينكر ذلك إلا مبتدع غال في بدعته أو مفتون بتقليده واتباعه على ضلالته ، قال تعالى:" تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ" (المعارج ، آية : 4)، وقال تعالى:" وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ " (الأنعام ، آية : 18)، وجميع معاني العلو ثابتة له سبحانه علو الذات، وعلو القدرة، وعلو القهر والغلبة، وعلو الحجة، فهو علو ذات وعلو صفات ولذا وصف نفسه بأنه " الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى" (طه ، آية : 5)، فالعلو الكامل له وحده سبحانه، والعلو الدائم له وحده سبحانه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه . ومن علوه أن جعل الرفعة والعلو لكتابه ولدينه ولأوليائه الصادقين كما قال تعالى:" قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى" (طه ، آية : 68)، وقال:" وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ" (الزخرف ، آية :4) وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين . ومع علوه سبحانه فهو القريب مجيب سميع، ولذا يناديه العبد نداءً خفياً " إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا" (مريم ، آية :3). ويخبر عن نفسه أنه يسمع السر واخفى والسر ضد الجهر، وما هو أخفى من السر فهو الخطرات التي لا يعيها صاحبها، ولا يدركها، والمعاني المكنونة لا يحيط المرء بها حتى عن نفسه وذاته، فهناك عالم الأسرار وهناك عالم اللاشعور واللاوعي وهناك الخفايا الخلقية التي لم يصل إليها العلم، وهناك الخفايا المستقبلية، فهو مع علوه وإستوائه على عرشه محيط بذلك كله، لا تخفى عليه خافية ولذا سمَّي نفسه بذي المعارج"من الله ذي المعارج" وفسَّره بقوله:" تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ" (المعارج ، آية : 4) وذكر نزول الملائكة والروح ونزول الوحي، كما ذكر ارتفاع الأشياء وصعودها إليه" إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ" (فاطر ، آية : 10) " بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ" (النساء ، آية : 158)
قال الشاعر:
        إذا ضاقت بك الأحوال يوماً
                    فثق بالواحد الصمد العليِّ
 إثبات صفة الوجه: نثبت لله صفة الوجه بدون تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل وهو وجه يليق به سبحانه قال تعالى:" وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ " (الرحمن ، آية : 27) وقال تعالى:" كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" (القصص ، آية : 88) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها .
اثبات صفة اليدين: قال تعالى:" بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ" (المائدة ، آية : 64)، وقال تعالى:" مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ" (سورة ص ، آية : 75).
وقال صلى الله عليه وسلم: إن المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين، والذين يعدلون في أهلهم، وحكمهم، وما ولوا .
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في صفة اليد الإفراد والتثنية والجمع ففي الإفراد مثل قوله تعالى:" تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ" (الملك ، آية : 1)، وفي التثنية كقوله تعالى:" بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ" (المائدة ، آية :64)، وفي الجمع كقوله تعالى:" أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا" (يس ، آية : 71). والتوفيق بين هذه الوجوه أن نقول: الوجه الأول مفرد مضاف فيشمل كل ما ثبت لله من يد ولا ينافي الثنيتين وأما الجمع فهو للتعظيم لا لحقيقة العدد الذي هو ثلاثة فأكثر وحينئذ لا ينافي التثني على أنه قد قيل إن أقل الجمع اثنان، فإذا حمل الجمع على أقله فلا معارضة بينه وبين التثنية أصلاً .
اثبات صفة العين: واثبات صفة العين على ما يليق بالله تعالى ولا يفهم منها أن العين لله جارحة كأعيننا بل له سبحانه وتعالى عين حقيقية تليق بعظمته وجلاله وقِدَمه وللمخلوق عين حقيقية تناسب حاله وحدوثه وضعفه وهذا شأن جميع الصفات التي فيها المشاركة اللفظية مع صفات المخلوق ، والعين صفة لله تعالى بلا كيف، وهي من الصفات الخبرية الذاتية قال تعالى:" وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي" (طه ، آية : 39)، وذكر العين مفردة لا يدل على أنها عين واحدة فقط لأن المفرد المضاف يراد به أكثر من واحد مثل قوله تعالى:" وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا" (ابراهيم ، آية : 34)، وقال تعالى:" تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا" (القمر ، آية : 14)، وهنا ذكرت بصيغة الجمع مضافة إلى ضمير الجمع .
اثبات صفة النفس: قال تعالى:" كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ " (الأنعام ، آية : 54)، وقال تعالى:" تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ" (المائدة ، آية : 116)، وقال صلى الله عليه وسلم: يقول انا مع عبدي حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم . فالله جلّا وعلا أثبت في كتابه أن له نفساً وكذلك قد بين على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أن له نفساً كما أثبت النفس في كتابه، ونثبتها له على الوجه اللائق به .
بـ بعض الصفات الخبرية:
إثبات إستواء الله على عرشه:قال تعالى:" إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" (الاعراف ، آية : 54)، وقال تعالى:" وَتَوَكَّلْ
عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا*الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا " (الفرقان ، آية : 58 ، 59).
ويجب اثبات استواء الله على عرشه من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، وهو استواء حقيقي معناه العلو والاستقرار على وجه يليق بالله تعالى . ولما سئل مالك بن أنس عن قوله :" الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى" (طه ، آية : 5)، قال الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا ضالاً وأمر أن يخرج السائل من المجلس . وأكثر من صرح بأن الله مستو بذاته على عرشه أئمة المالكية، فصرح أبو محمد بن أبي يزيد في ثلاثة مواضع من كتبه أشهرها الرسالة، وفي كتاب جامع النوادر وفي كتاب الآداب، وصرح بذلك القاضي أبو بكر الباقلاني وكان مالكياً وصرح به أبو عبد الله القرطبي في كتاب الأسماء الحسنى وكذلك أبو عمر بن عبد البر والطلمنكي وغيرهما من الأندليسيين وغير ذلك من السادة المالكية .
إن كتاب الله عز وجل من أوله إلى آخره وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعامة الصحابة والتابعين وكلام سائر الأئمة، مملوء بما هو نص أو ظاهر في أن الله سبحانه وتعالى فوق كل شئ وأنه فوق العرش وفوق السماوات مستوٍ على عرشه .
صفة المجئ: قال تعالى: " وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا" (الفجر ، آية : 22)، قال تعالى: " هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ" (البقرة ، آية : 210). ويجب إثبات المجئ من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل وهو مجئ حقيقة يليق بالله تعالى .
صفة الرضا: قال تعالى: " رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ" (المائدة ، آية : 119).
صفة المحبة: قال تعالى: " فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ" (المائدة ، آية : 54).
صفة الغضب: قال تعالى: " وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ" (النساء ، آية : 93).
صفة السخط: قال تعالى: " ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ" (محمد ، آية : 28).
صفة الكراهة: قال تعالى: " وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ " (التوبة ، آية : 46).
فصفة الرضا، والمحبة والغضب والسخط والكراهة صفات ثابتة لله عز وجل من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، فهي على ما يليق به عز وجل، وكذلك صفة الغيرة، والفرح والضحك، فقد جاء ذكرها في أحاديث نبوية صحيحة.
ج ـ بعض الصفات التي تطلق في باب المقابلة: ورد في القرآن الكريم أفعال أطلقها الله عز وجل على  نفسه على سبيل الجزاء والعدل والمقابلة وهي فيما سيقت فيه مدح وكمال ولكن لا يجوز أن يشتق لله تعالى منها أسماء، ولا تطلق عليه في غير ما سيقت فيه من الآيات كقوله تعالى: " إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ" (البقرة ، آية : 142)، وقال تعالى: " وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ" (آل عمران ، آية : 54)، وقوله تعالى: " نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ" (التوبة ، آية : 67). وقال تعالى: " وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ *اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ" (البقرة ، آية: 14 ـ 15). فلا يطلق على الله لفظ مخادعٍ، ماكرٍ، ناسٍ، مستهزئٍ، ونحو ذلك تعالى الله عنه علواً كبيراً، ولا يقال: الله يستهزئ ويخادع ويمكر، وينسى على سبيل الإطلاق، وقد أخطأ الذين عدوا ذلك من أسمائه الحسنى خطأً كبيراً، لأن الخداع والمكر يكون مدحاً ويكون ذماً، فلا يجوز أن يطلق على الله إلا مقيداً بما يزيل الاحتمال المذموم منه كما ورد مقيداً في الآيات .
س ـ الله ينزه عن كل صفة نقص: ينزه الله عز وجل عن الغفلة والنسيان بأي وجه من الوجوه، لأنه عالم الغيب والشهادة وعلمه محيط بكل شئ، فلا يعرض له ما يعرض لعلم المخلوق من خطأ بعض المعلومات أو نسيانها والذهول عنها، قال تعالى: " عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى" (طه ، آية : 52)، ومنزه عن الاحتياج إلى الرزق والطعام لأنه هو الرزاق لجميع الخلق الغني عنهم وكلهم فقراء إليه، قال تعالى: " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {56} مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ {57} إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ" (الذاريات ، آية : 56 ـ 57 ـ 58). وقوله تعالى: " وَهُوَ يُطْعِمُ ولا يُطعَمُ" (الأنعام ، آية : 14)، والله منزه عن الظلم للعباد بأن يزيد في سيئاتهم أو ينقص من حسناتهم أو يعاقبهم على ما لم يفعلوا، فإن الظلم لا يفعله إلا من هو محتاج إليه أو من هو موصوف بالجور، أما الله الغني عن خلقه من جميع الوجوه الحكم العدل الحميد، فما له وظلم العباد؟ قال تعالى:" وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ" (فصلت، آية: 46)، ووالله منزه عن العبث في الخلق والأمر فلم يخلق سبحانه وتعالى شيئاً عبثاً ولا باطلاً، ولا شرع إلا حكمة عظيمة لأنه حكيم حميد، فمن تمام حكمته وحمده اتقان المصنوعات وإحكامها وإحكام الشرائع على أكمل وجه وأتمه .
4 ـ صفات الله كلها صفات كمال: لا نقص فيها بوجه من الوجوه، كالحياة، والعلم والقدرة والسمع والبصر، والرحمة والعزة والحكمة والعلو والعظمة وغير ذلك، ولله عز وجل المثل الأعلى قال تعالى:" لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (النحل ، آية : 60)، وقال تعالى:" وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (الروم ، آية : 27)، والمثل الأعلى هو الوصف الأعلى إن الخلق مضطرون على كون الخالق سبحانه وتعالى أجل وأكبر وأعلى وأعلم وأعظم وأكمل من كل شيء فهذا مستقر في فطر الناس وهو ضروري في حق من سلمت فطرته، فدلالة الفطرة على الصفات واضحة وبينة فإن كل حادث لابد له من محدث، وهذا المحدث لابد أن يكون قادراً، عالماً، مريداً، حكيماً، فالفعل يستلزم القدرة، والاحكام يستلزم العلم، والتخصيص يستلزم الإرادة، وحسن العاقبة يستلزم الحكمة وفي الفطرة الإقرار لله تعالى بالكمال المطلق، والذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وكذلك في الفطرة تنزيه الله عن النقائص والعيوب، ومن القضايا البديهية المستقرة في الفطرة أن الذي يعلم والذي يقدر والذي يتكلم ويبصر أكمل من العادم لذلك، ولهذا يذكر الله تعالى هذه المسألة بخطاب الإستفهام الإنكاري ليبين أنها مستقرة في الفطرة وأن النافي لها قال قولاً منكراً في الفطرة، قال تعالى:" أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ" (النحل ، آية : 17). فالتسوية منكرة في الفطرة وينكر ذلك على من سوى بينهما، فالذي ليست لديه صفات كمال، لا يمكن أن يكون رباً، ولا معبوداً، وأن العلم بذلك فطري ،كما قال الخليل قال تعالى:" يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا" (مريم ، آية : 42)، وقال تعالى عن عجل بني إسرائيل:" أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ" (الأعراف ، آية : 148).
 

5ـ من لوازم استحقاق الله تعالى لصفات الكمال تفرده بالحكم
فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها تعالى صفات من له الحكم والتشريع قوله:" وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ" (الشورى ، آية : 10)، ثم قال مبيناً صفات من له الحكم:" ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ *فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ*لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " (الشورى ، آية : 10، 11، 12).
ذكر سبحانه وتعالى صفات الرب الذي تفوض إليه الإمور ويتوكل عليه، وإنه فاطر السموات والأرض وخالقها، على غير مثال سابق، وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجاً خلق لهم أزواج الأنعام الثمانية المذكورة . وإنه " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ " وإنه:" لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" (الشورى ، آية : 12)، وأنه سبحانه وتعالى:" يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ" (الشورى ، آية : 12)، ويقدر أي بمعنى يضيقه على من يشاء وهو بكل شيء عليم، فعلى المسلم أن يتفقه صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم .
6ـ نفي معاني أسمائه الحسنى من أعظم الإلحاد فيها: ونفي معاني أسمائه الحسنى من أعظم الإلحاد قال تعالى:" وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" (الأعراف ، آية : 180).
لأنها لو لم تكن تدل على معاني وأوصاف لم يجز أن يخبر عنها بمصادرها ويوصف بها ولكن الله أخبر عن نفسه، بمصادرها، وأثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى:" إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ" (الذاريات ، آية : 58)، فعلم أن "القوي" من أسمائه، ومعناه الموصوف بالقوة. وكذلك قوله تعالى:" فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا " (فاطر ، آية : 10)، فالعزيز من له العزة، فلولا ثبوت القوة والعزة له لم يسم قوياً ولا عزيزاً وهكذا في سائر أسمائه، وحقيقة الإلحاد فيها أي في أسمائه تعالى العدول فيها عن الصواب فيها وإدخال ما ليس من معانيها عنها:
ـ  أن تسمى بعض المعبودات باسم من أسماء الله تعالى أو يقتبس لها اسم من بعض أسمائه تعالى، كتسمية المشركين بعض أصنامهم "اللات" أخذاً من "الإله" و"العزى" أخذاً من "العزيز" وتسميتهم الأصنام أحياناً "آلهة" وهذا إلحاد واضح كما ترى لأنهم عدلوا بأسمائه تعالى إلى معبوداتهم الباطلة .
ــ تسميته تعالى بما لا يليق به، كتسمية النصارى له (أب)، وإطلاق الفلاسفة عليه "موجباً لذاته" أو علة فاعلة بالطبع ونحو ذلك.
ـ وصف الله تعالى بما ينزه عنه سبحانه، كقول اليهود ولعنوا بما قالوا، إنه فقير وقولهم أنه استراح وبعد أن خلق خلقه، وقولهم أيضاَ غلت أيديهم، يد الله مغلولة، وغير ذلك من الألفاظ التي يطلقها أعداء الله قديماً وحديثاً.
ـ تعطيل أسمائه تعالى عن معانيها وهي الصفات وجحد حقائقها، كما فعلت بعض الفرق المبتدعة حيث جعلوا أسماء الله ألفاظاً مجردة لا تدل على الصفات، كقولهم سميع بلا سمع، وعليم بلا علم.
ـ تشبيه الله تعالى بصفات خلقه .
7 ـ آثار الصفات الإلهية في النفس والكون والحياة: ومشهد الأسماء والصفات من أجل المشاهد، والمطلع على هذا المشهد يعرف أن الوجود متعلق خلقاً وأمراً بالأسماء الحسنى والصفات العلا، ومرتبط بها وإن كل ما في العالم بما فيه من بعض آثارها ومقتضياتها.
فإسمه الحميد، المجيد، يمنع ترك الإنسان سدى، مهملاً معطلاً، لا يؤمر ولا ينهى، ولا يثاب ولا يعاقب، وكذلك اسمه(الحكيم) يأبى ذلك، وهكذا فكل اسم من أسمائه له موجبات وله صفات، فلا ينبغي تعطيلها عن كمالها ومقتضياتها، والرب تعالى يحب ذاته وأوصافه وأسماؤه، فهو عفو يحب العفو، ويحب المغفرة، ويحب التوبة، ويفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه فرحاً لا يخطر بالبال، وكان تقدير ما يغفره ويعفو عن فاعله، ويحلم عنه ويتوب عليه ويسامحه بموجب أسمائه وصفاته، وحصول ما يحبه ويرضاه من ذلك، وما يحمد به نفسه ويحمده به أهل سماواته وأهل أرضه، وما هو من موجبات كماله ومقتضى حمده وهو سبحانه الحميد المجيد، وحمده ومجده يقتضيان آثارهما.
ومن آثارهما، مغفرة الزلات وإقالة العثرات، والعفو عن السيئات والمسامحة على الجنايات مع كمال القدرة على استيفاء الحق، والعلم منه سبحانه بالجناية ومقدار عقوبتها فحلمه بعد علمه وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن كمال عزته وحكمته . كما قال الله على لسان عيسى عليه السلام في القرآن:" إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (المائدة ، آية : 118). أي فمغفرتك عن كمال قدرتك، وحكمتك ليست كمن يغفر عجزاً ويسامح جهلاً بقدر الحق، بل أنت عليم بحقك، قادر على استيفائه حكيم في الأخذ منه، فمن تأمل سريان آثار الأسماء والصفات في العالم وفي الأمر، تبين له إن مصدر قضاء هذه الجنايات من العبيد، وتقديرها: هو من كمال الأسماء والصفات والأفعال وغايتها أيضاً مقتضى حمده ومجده، كما هو مقتضى ربوبيته وإلهيته فلله في كل ما قضاه وقدره الحكمة البالغة والآيات الباهرة والله سبحانه دعا عباده إلى معرفته بأسمائه وصفاته وأمرهم بشكره ومحبته وذكره وتعبدهم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى لأن كل اسم له تعبد مختص به، علماً ومعرفة وحالاً وأكمل الناس عبودية: المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر فلا يحجبه عبودية اسم عن اسم آخر، كما لا يحجبه التعبد باسمه "القدير" عن التعبد باسمه "الحليم الرحيم" أو يحجبه عبودية اسمه "المعطي" عن عبودية اسمه "المانع" أو عبودية اسمه "الرحيم والعفو والغفور" عن اسم "المنتقم" أو التعبد بأسماء "البر والإحسان واللطيف" عن أسماء "العدل والجبروت والعظمة والكبرياء" وهذه طريقة الكمال من السائرين إلى الله وهي طريقة مشتقة من قلب القرآن الكريم قال تعالى:" وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ" (الأعراف ، آية : 180). والدعاء بها يتناول دعاء المسألة ودعاء الثناء، ودعاء التعبد . وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته ويثنوا عليه بها ويأخذوا بحظهم من عبوديتها، فالله سبحانه وتعالى يُحب موجب أسمائه وصفاته، فهو "عليم" يحب كل عليم وهو "جَوَادٌ" يحب كل جواد، "وتر" يحب الوتر "جميل" يحب الجمال، "عفو" يحب العفو وأهله "حيي" يحب الحياء وأهله "بر" يحب الأبرار "شكور" يحب الشاكرين "صبور" يحب الصابرين "حليم" يحب أهل الحلم، فلمحبته سبحانه للتوبة والمغفرة، والعفو والصفح. خلق من يغفر لهم ويتوب عليهم ويعفو عنهم، وقدر عليهم ما يقتضي وقوع المكروه والمبغوض له، ليترتب عليه المحبوب له المرضي له ، وظهور أسماء الله وصفاته في هذه الحياة وفي النفس البشرية وفي الكون كله واضح، لا يحتاج إلى دليل، إلا أن الإهتداء إلى تلك الآثار أو الإنتباه لها يتوقف على توفيق الله تعالى، بل أن التوفيق نفسه من آثار رحمته التي وسعت كل شيء، فلو فكر الإنسان في هذا الكون الفسيح وفي نفسه لرجع من هذه الجولة الفكرية، بعجائب واستفاد منها فوائد ما كان يحلم بها، ولو تأملنا هذه الآية الكريمة لرأينا أموراً تعجز عن التعبير عنها قال تعالى:" أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ* فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ" (المؤمنون ، آية : 115، 116).
ومما يؤكد أهمية هذا التوحيد هو ما تثمره أسماء الله وصفاته في قلب المؤمن من زيادة الإيمان ورسوخ في اليقين، وما تجلبه له من النور والبصيرة التي تحصنه من الشبهات المضللة والشهوات المجرمة .
فهذا العلم إذا رسخ في القلب أوجب خشية الله لا محالة فكل اسم من أسماء الله له تأثير في القلب والسلوك، فإذا أدرك القلب معنى الاسم وما يتضمنه واستشعر ذلك، تجاوب مع هذه المعاني وانعكست هذه المعرفة على تفكيره وسلوكه ولكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها مقتضياتها فالأسماء الحسنى والصفات العلى مقتضاها لآثرها من العبودية وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح، فمثلاً: علم العبد بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة يثمر له عبودية التوكل عليه باطناً ولوازم التوكل وثمراته ظاهراً، وعلمه بسمعه وبصره وعلمه أنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وأنه يعلم السر وأخفى ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه ويرضاه فيثمر له ذلك الحياء باطناً، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح، ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبره، وإحسانه ورحمته توجب له سعة الرجاء، ويثمر له ذلك من أنواع العبودية ، الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه وكذلك معرفته بجلال الله وعزه تثمر له الخضوع والإستكانة والمحبة، وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعاً من العبودية الظاهرة هي موجباتها وكذلك علمه لكماله وجماله وصفاته العلى يوجب له محبة خاصة بمنزلة أنواع العبودية فرجعت تلك العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات وارتبطت بها ، وهذه الأحوال التي تتصف بها القلوب: هي أكمل الأحوال، وأجل وصف يتصف به القلب وينصبغ به، ولا يزال العبد يمرن نفسه عليها حتى تنجذب نفسه وروحه بدواعيه منقادة راغبة وبهذه الأعمال القلبية تكمل الأعمال البدنية فسأل الله أن يملأ قلوبنا من معرفته ومحبته والإنابة إليه، فإنه أكرم الأكرمين وأجود الأجودين .

خامساً: أثر الصفات الإلهية على الأخلاق: تحدث الشيخ عز الدين بن عبد السلام في كتابه شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال على صفات الله وكيفية توحيده وتنزيهه والوجه الأسلم في ذلك، وكيفية التخلق بصفات الله عز وجل، فقال:
1ـ التخلق بالقدوس: فقال: القدوس هو الطاهر من كل عيب ونقصان وثمرة معرفته: التعظيم، والإجلال والتخلق به بالتطهير من كل حرام ومكروه وشبهة، وفضل مباح شاغل عن مولاك.
2ـ التخلق بالسلام: إن أُخذ من تسليمه على عباده فعليك بإفشاء السلام، فإنه من أفضل خصال الإسلام وإن أخذ من السلامة من العيوب، فهو كالقدوس، وإن أخذ من الذي سلم عباده من ظلمه، فليسلم الناس من غشك وظلمك وضرّك وشرّك، فإن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.
3ـ التخلق بالإيمان: "المؤمن" إن أُخذ من تصديق الله نفسه فعليك بالإيمان بكل ما أنزله الرحمن وإن أُخذ من أمنه العباد من ظلمه فأظهر من برك وخيرك ما يؤمن الناس من شرك وضيرك وإن أخذ من خالق كل أمن فاسع لعباد الله من كل أمن .
4ـ التخلق بالهيمنة: المهيمن، هو الشهيد، فإن أخذ من مشاهدته لعباده وعليهم في القيامة، فثمرة معرفته خوفك وحياؤك من شهادته عليك إن عصيته، ورجاؤك شهادته لك إن أطعته، والتخلق به أن تقوم بالشهادة في كل ما نفع وضرّ، وساء، وسرّ، ولو على نفسك أو الوالدين والأقربين.
5ـ التخلق بالعزة: "العزيز"، إن أخذ من الغلبة فهو كالقهار وثمرة معرفته الخوف وإن أخذ من الامتناع من الضّيم فلا تخلق به إلا في بعض الضُيوم، كضيم الكفار الفجار، وإن أخذ من الذي يعز وجود مثله فهو سالب للنظير، فلا تخلق به إلا بالتوحد بالطاعة والعرفان على حسب الإمكان، بالنسبة إلى أبناء الزمان .
6 ـ التخلق بالجبر "الجبار": إن أخذ من جبروت العظم والفقير، إذ أصلحتهما فثمرت معرفته رجاء جبره وإصلاحه والتخلق به، بأن تعامل عباده بكل خير وإصلاح تقدر عليه، أو تصل إليه، وإن أخذ من العلو فهو كالعلي، وثمرة معرفته كالثمرات معارف جميع الصفات، وإن أخذ من الإجبار فهو كالقهار .
7 ـ التخلق بالتكبر عن الرذائل "المتكبر": إن أخذ من تكبره عن النقائص فهو كالقدوس، فتكبر عن كل خلق دنيء، وإن جعل شاملاً لجميع الأوصاف فثمرة معرفته الإجلال والمهابة في جميع الأحوال الحادثات من سائر الصفات، وكذلك العظيم والجليل والعلي والأعلى .
8 ـ التخلق بالحلم: "الحليم": هو الذي لا يعجل بعقوبة المذنبين، فأحلم عن كل من آذاك وظلمك وسبّك، وشتمك، فإن مولاك صبور حليم، بَرٌّ كريم، يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون.
9ـ التخلق بالصبر:"الصبور" هو الذي يعامل عباده معاملة الصابرين، فعليك بالصبر على أذية المؤذين وإساءة المسيئين فإن الله يحب الصابرين .
10ـ التخلق بالإعزاز: "المعز" خالق العِزِّ وثمرة معرفته الطمع في إعزازه بالمعارف والطاعات والتخلق به، بإعزاز الدين ومن تبعه من عباد الله المؤمنين.
11ـ التخلق بالإذلال: "المذل" خالق الذُّل وثمرة معرفته خوف الإذلال بالمعاصي والمخالفات، والمعاملة به بإذلال الباطل وأشياعه وإخمال العُدوان وأتباعه .
12ـ التخلق بالانتقام: "المنتقم" هو المعذب لما يشاء من عباده عدلاً، وثمرة معرفته الخوف من انتقامه والتخلق به لمن ابتُلي بشيء من الولايات بالانتقام من الجنُاة بالحدود، والتعزيزات والعقوبات المشروعات .
13ـ التخلق باللطف: "اللطيف" إن أخذ من معرفة الدقائق فثمرة معرفته خوفك ومهابتك وحياؤك من معرفته، بدقائق أحوالك وخفايا أقوالك وأعمالك إذ لا يعذب عن خالق الأشياء مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء " أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" (الملك، آية: 14).
14ـ التخلق بالشكر: "الشكور" إن أخذ من ثنائه على عباده، فثمرة معرفته رجاؤك الدخول في مدحته بطاعته ومعرفته والتخلق به بشكر مولاك وشكر أبويك وشكر كل من أحسن إليك ، من لايشكر الناس لا يشكر الله .
15ــ التخلق بالحفظ: "الحفيظ" ، إن أخذ من العلم فقد سبق، وإن أخذ من ضبط الأشياء وحفظها فثمرة معرفته رجاؤك حفظه في أولادك وأُخراك والتخلق به بحفظ ما أمرتَ به من الطاعات والأمانات، فإن الله قد مدح الحافظين لحدوده، وبشَّرَهُم بإنجاز وعوده فقال:" هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ" (ق ، آية : 32).
16ــ التخَلُّق بالتقديم والتأخير: "المقدم والمؤخِّر"، ثمرة معرفتها المهابة والإجلال والاعتماد عليه في تقديمه وتأخيره ورجاء أن يُقدِّمَك بطاعته، وخوف أن يؤخِّرك بمعصيته والتخلق بهما بتقديم ما أمرت بتقديمه وتأخير ما أمرت بتأخيره، بأن تقدم الأمثال على الأراذل، وأن تقدم أوجب الطاعات على واجبها، وأفضلها على فاضلها، ومضيَّقَها على موسعها، وبأن تقدم القُربات والطاعات إلى أوائل الأوقات، فإن الله مدح الذين يسارعون في الخيرات .
17ــ التخلق بالبَرِّ: (البُّر): هو المنعم، وثمرة معرفته رجاء أنواع برّه، والتخلق به بأن تبَّر كُلَّ من تقدر على بره بأحبِّ أموالك إليك وأنفسها لديك، فإنَّ مولاك يقول:" لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ" ( آل عمران ، آية : 92).
18ــ التخلق بالتوبة:"التّواب": إن جُعل بمعنى الموفِّق للتوبة فثمرة معرفته رجاء توبته عليك، والتخلف به بأن تَحُثَّ المسيءَ على التوبة وتحرَّضهُ على الأوْبَة، وإن جُعل بمعنى قابل التوبة، فاقبل عذر من أساء إليك وندم على جرأته عليك .
19ــ التخلق بمعنى المغني: والتحلق به بأن تُغني كلّ محتاج بما تقدر عليه من علم وغيره، فتذكر الغافل، وتُعلم الجاهل، وتُقيم المائل وتُسيِّر العائل.
20ــ التّخلق بالضُّر والنَّفع:"الضار والنافع": ثمرة معرفتها خوف الضَّرر ورجاءُ النفع والتخلف بهما بنفع كل من أُمرت بنفعه وضرِّ كلِّ من أمرت بضره بجد أو قتل أو غيره، والخلق عيال الله، فأحبهم إليه أنفعهم لعياله، فعليك ببذل المنافع لكلِّ دان وشاسِع .
21ــ التخلق بهداية الضال: النور الهادي، ثمرة معرفتها رجاؤك أن ينور جَنَانك بمعرفته ويزين أركانك بآثار هدايته، والتخلق بهما بأن تكون نوراً من أنوار الله، هدايا إلى صراط الله. فوالله لآن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من أن تكون لك حُمر النَّعم .
22ــ التخلق بالقبض والبسط:"القابض الباسط": ثمرة معرفتها الخوف من قبض منافع الدينا والآخرة، ورجاء بسط الخيرات العاجلة والآجلة، والتخلق بالبسط بأن تسبط برك ومعروفك على كل محتاج حتى على الدواب والكلاب والذّرّ إذ في كل كبد رطبة أجر . والتخلق بالقبض بأن تقبض عن كل أحد ما ليس له أهلاً، من مال وولاية وعلم وحكمة، فلا تؤتوا السفهاء أموالكم فيتلفوها .
23ـ التخلق ببذل الهبات: "الوهاب" ثمرة معرفته رجاء أنواع هباته وصلاته، والتخلق به بكثرة الهبات والصّلات مُقدّماً للآباء والأمهات، والبنين والبنات.
24ـ التخلق بالجود والكرم: "الجواد الكريم" ثمرة معرفتهما الطمع في آثار جوده وكرمه والتخلق بهما لمن أراد الوصول إليه بأن تجود بكل ما يقدر عليه من مال وجاه وعلم وحكمة، وبر ومساعدة.
25ـ التخلق بالاجابة: "المجيب" ثمرة معرفته رجاء إجابة دعائك لعلمه بافتقارك إليه واعتمادك عليه، وأنه سامع لدعائك عالم ببلائك، خابر لسرّائِك وضرّائِك، والتخلق به بإجابة مولاك فيما دعاك إليه من قُرُباته، وبإجابة كل داع إلى ما يُرضي مولاك في طاعاته وعباداته .
26ـ التخلق بالمجد: "المجيد" الذي كثر شرفه، وتمّ كماله وجلاله في ذاته وصفاته، وثمرة معرفته المهابة والإجلال والتخلق به يمكن التخلق به مما سبق ذكره، فإنه شامل لجميع الصفات كما شمِلها ذو الجلال والإكرام فهذه إشارات إلى كيفية التخلق بالصّفات ولا يحصل التخلق بالصفات إلا لمن واظب على التحديق إليها، والإقبال عليها، ولذلك أمرنا الله تعالى بإكثار ذكره لنُلابس ما يثمره ذكره من الأحوال والأقوال والأعمال .

سادساً: وصف الله نفسه بالمغفرة لا يعني الإسراف في المعاصي:
وصف الله سبحانه نفسه بأنه غفار وغفور للذنوب والخطايا والسيئات لصغيرها وكبيرها، وحتى الشرك إذا تاب منه الإنسان واستغفر ربه قبِل الله توبته وغفر له ذنبه، قال تعالى:" قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ " (الزمر، آية: 53)، وقال تعالى:" وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا " (النساء ، آية : 110) ومهما كبرت ذنوب هذا الإنسان فإن مغفرة الله ورحمته أعظم من ذنوبه التي ارتكبها قال تعالى:" إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ" (النجم ، آية : 32)، وقد تكفل الله سبحانه بالمغفرة لمن تاب وآمن قال تعالى:" وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى" (طه ، آية : 82)، ومن فضله وجوده وكرمه تعهد أن يبدل سيئات المذنبين إلى حسنات " وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا" (الفرقان ، آية : 70). ولكن لا يجوز للمسلم أن يسرف في الخطايا والمعاصي والفواحش بحجة أن الله غفور رحيم، فالمغفرة إنما تكون للتائبين الأوابين، قال تعالى:" إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا" (الإسراء ، آية : 25)، وقال سبحانه وتعالى:" إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (النمل ، آية : 11)، فاشترط تبدل الحال من عمل المعاصي والسيئات إلى الصالحات والحسنات لكي تتحقق المغفرة والرحمة، قال تعالى:" إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ " (النساء ، آية : 48)، يبين الله أن المقيم على الشرك حتى الوفاة لا غفران لذنوبه لأنه لم يبدل حسناً بعد سوء وكذلك قوله تعالى عن المنافقين:" سَوَاء عَلَيْهِمْ
أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ" (المنافقون، آية : 6) لأنهم لم يخلصوا دينهم لله ولم يصلحوا من أحوالهم، وأما إذا حصل ذلك فإن المغفرة تحصل لهم مع المؤمنين، قال تعالى:" إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا" (النساء ، آية : 146)، فلابد من الأخذ بالاسباب المؤدية إلى المغفرة، وأما إن مات وهو مقيم على الكبائر من غير أن يتوب، فإنه ليس له عهد عند الله بالمغفرة والرحمة، بل إن شاء غفر له وعفا عنه لفضله وإن شاء عذبه في النار لعدله ثم يخرجه برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته ثم يدخله الجنة وذلك للموحدين خاصة

 
المبحث الخامس
توحيد الألوهية

أولاً: تعريفه ومكانته خاصة : هو إفراد الله عز وجل بجميع أنواع العبادات وإخلاصها له وحده لا شريك له ظاهراً وباطناً وهو توحيد الله تعالى بأفعال العباد ويسمى توحيد العبادة، لأن الألوهية والعبودية بمعنى واحد، إذا معنى الإله: المعبود ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين .
وهذا التوحيد أعظم أنواع التوحيد وأهمها، والمتضمن لها جميعاً، ولا يصير العبد مؤمناً إلا بتحقيقه وهو الذي لأجله خلق الله عباده وأنزل كتبه، وبعث أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام ، قال تعالى:" وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات ، آية:56) وقال تعالى:" وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ" (النحل ، آية :36).
وقال تعالى:" وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ" (البينة ، آية : 5).
ـ وهذا التوحيد هو معنى قول: لا إله إلا الله والتي معناها: لا معبود بحق إلا الله .
ـ ومما يدل على أهمية توحيد الألوهية أنه هو التوحيد الذي أرسل الله به الرسل من أولهم إلى آخرهم واتفقت دعوة الرسل من أول رسول بعثه الله إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم اتفقت دعوتهم إلى البدءِ بدعوة أقوامهم إلى إخلاص العبادة لله ونبذ الشرك بكل صوره وأسبابه ووسائله المؤدية إليه قال تعالى:" وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ" (الأنبياء ، آية :25)، وقال تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه:" اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ" (الأعراف ، آية : 59)، وقال عن نبيه ابراهيم عليه السلام أنه قال لقومه:" وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ" (العنكبوت ، آية : 16)، وقال تعالى عن كليمه موسى عليه السلام أنه قال لقومه:" إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا" (طه ، آية : 98)، وقال تعالى عن المسيح عليه السلام أنه قال لقومه:" قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ" (الزخرف ، آية : 63، 64).
ـ وأول ما بدأ به خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم دعوته إلى الله عز وجل دعوة الناس إلى اخلاص العبادة لله، ونبذ الشرك بأنواعه ووسائله وأسبابه بالقول والفعل، فحمى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، ودعا إليه، وأنذر الشرك غاية الإنذار واستمر على هذا المنهج حتى لحق بالرفيق الأعلى صلى الله عليه وسلم، واقتدى به اصحابه رضوان الله عليهم أجمعين وكل من اتبع طريقته واستن بسنته، فطريقته في الدعوة هي:" قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (يوسف ، آية : 108)، وفي هذه الآية أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس أن هذه سبيله أي: طريقته ومسلكه وسنته وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يدعو بها على بصيرة من ذلك ويقين وبرهان وكل من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بصيرة وبرهان عقلي وشرعي .
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توحيد العبادة أساس الإسلام وأنه أول ما يبدأ له في الدعوة إلى الله ويدل على ذلك رسائله صلى الله عليه وسلم ومبايعته وجهاده ووصاياه لقواده، وغير ذلك من الأمور، ومن الأمثلة الدالة على هذا:
1ـ إرساله صلى الله عليه وسلم معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن لدعوة قوم من أهل الكتاب إلى توحيد الله عز وجل، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله، فإن هم أطاعوك على ذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فبين صلى الله عليه وسلم أن أول ما يبدأ به في الدعوة إلى الله تعالى إلى شهادة أن لا إله إلا الله وإخلاص العبادة له جلا وعلا .
2ـ وكذلك أمره صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم خيبر بدعوة اليهود إلى التوحيد أولاً حيث أعطاه صلى الله عليه وسلم الراية وقال: انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك حمر النعم ، وفي رواية أخرى: فسار علي رضي الله عنه ثم وقف ولم يلتفت فصرخ: يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ فقال صلى الله عليه وسلم: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله .
3ـ وكذلك مبايعاته صلى الله عليه وسلم تدل على أن أول ما يبدأ به في الدعوة إلى الله إخلاص العبادة لله الذي هو التوحيد ومن الأمثلة على ذلك، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس: تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ، وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا:" أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا" (الممتحنة ، آية : 12) .
4ـ وكذلك جهاد النبي صلى الله عليه وسلم وقتاله إنما كان من أجل دعوة الناس إلى إخلاص العبادة لله عز وجل والبراءة من الشرك وأهله، والدفاع عن راية التوحيد، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز وجل .

ثانياً: الطريقة القرآنية في الدعوة لتوحيد الألوهية: تعددت الأساليب القرآنية في الدعوة إلى توحيد الألوهية:
1ـ منها بيان آيات ربوبيته سبحانه التي يراها الناس ويقرون بها، وإنه هو سبحانه هو خالقها، ثم يختمها بالدعوة إلى أفراده سبحانه بالعبادة، فكما أنه المتفرد بهذا الخلق، فيجب أن يكون وحده سبحانه المتفرد بالعبادة لا شريك له ومن ذلك قوله تعالى:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ" (البقرة، آية: 21، 22).
وكقوله تعالى:"قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" (النمل، آية: 59ـ 64)، يقول الله تعالى في آخر كل آية "أإله مع الله" أي أإله مع الله فعل هذا؟ وهذا استفهام إنكار، يتضمن نفي ذلك، وهم كانوا مقرين بأنه لم يفعل ذلك غير الله .
2ـ ومنها شهادة الله سبحانه على توحيد الألوهية، فقد شهد الله لنفسه بهذا التوحيد، وشهدت له به ملائكته وأنبياؤه ورسله، قال تعالى:"شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ" (آل عمران، آية: 18، 19).
3ـ ومنها بيان عجز الآلهة التي يدعونها من دون الله تعالى، وإنها لا تملك لنفسها كما لا تملك لغيرها نفعاً ولا ضراً من دون الله، وجاء ذلك في آيات كثيرة من كتاب الله، فعلى سبيل المثال، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ" (الحج ، آية : 73)، والآيات في هذا كثيرة تبين عجز هذه الألهة التي اتخذوها من دون الله تعالى وأنها لا تملك لنفسها ولا لغيرها نفعاً ولا ضراً.
4ـ ومنها بيان عبّاد هذه الآلهة والتنديد بهم، والتشنيع عليهم ووصفهم بالضلال والغي والعمى، والبعد عن الهدى والرشاد قال تعالى: "وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ" (الأحقاف ، آية : 5 ، 6)، وقوله تعالى: "مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" (العنكبوت ، آية : 41)، وقال تعالى: "وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا" (الفرقان ، آية: 3) والآيات في هذا الباب كثيرة.
5ـ ومنها بيان ما يقع يوم القيامة بين هؤلاء المشركين وآلهتهم من براءة بعضهم من بعض، وتخليهم عن عابديهم وتنكرهم لاتباعهم، في حال هم أحوج ما يكون إلى من يشفع لهم، ويدافع عنهم ومن ذلك قوله تعالى:"وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ" (يونس ، آية : 28 ، 29).
6ـ ومنها ما جاء في قصص الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم أممهم إلى توحيد الله وإفراده وحده بالعبادة، وكان ذلك مفتاح دعوة كل نبي ورسول وما جرى بينهم وبين أقوامهم لأجله من خصومة وما دارت بسببه من معارك عظيمة بالبيان والسنان، وما كان من ذلة وهلاك لأعداء الله وأعداء رسله ونصر ومنعة وغلبة للرسل وأتباعهم، وتلك سنة الله في خلقه، وهو الذي يقول بعد ما قص دعوة عدد من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام:" وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ" (هود ، آية : 83)، والآيات عن قصص الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام مع أممهم كثيرة جداً نكتفي بمثال واحد لذلك وهو قوله تعالى:"أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ" (ابراهيم، آية: 9ـ 14).
والحديث عن قصص الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام مع أممهم في دعوتهم يوضح أن توحيد الله وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له هو المهمة الأولى للرسل عليهم الصلاة والسلام ومما تقدم يتبين أهمية توحيد الألوهية المتضمن لأنواع التوحيد جميعاً والمطلوب من الناس كافة .

ثالثاً: معنى العبادة وشروط قبولها: مدار العبادة في اللغة والشرع على التذلل والخضوع والانقياد، والعبادة في اللغة من الذلة، يقال: طريق معبد وبعير معبد أي مذلل، وفي الشرع عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف .
والعبادة في تعريفها الشامل هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار، واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه وأمثال ذلك هي من العبادة لله وذلك أن العبادة هي الغاية المحبوبة له والمرضية له التي خلق الخلق لها كما قال تعالى:"وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات ، آية : 56)، وبها أرسل جميع الرسل .
والعبادة تتضمن كمال الحب ونهايته وكمال الذل ونهايته، فالمحبوب الذي لا يعظم ولا يذل له لا يكون معبوداً، والمعظم الذي لا يحب لا يكون معبوداً .
شروط قبول العبادة في القرآن الكريم:
الشرط الأول: الإخلاص: وهذا الشرط متعلق بالإرادة، والقصد، والنية والمقصود به، إفراد الحق سبحانه وتعالى بالقصد والطاعة ، والنية تقع في كلام العلماء بمعنيين، إحداهما: تمييز العبادات بعضها عن بعض، كتمييز صلاة الظهر عن صلاة العصر مثلاً، إلى أن قال: والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل هل هو لله وحده لا شريك له، أم لله وغيره، وهذه النية التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه ، والأدلة على هذا الأصل في القرآن والسنة وعلماء الأمة ومن سار على نهجهم كثيرة فمن القرآن الكريم قوله تعالى:"إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ" (الزمر ، آية : 2 ـ 3)، أي لا يقبل الله من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله وحده لا شريك له .
وقوله تعالى:" قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ" (الأعراف ، آية : 29).
ومن الأحاديث النبوية قوله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه .
وفي حديث أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه، رجل استشهد فأتى به فعرفعه نعمته فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جرئُ فقد قيل: ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتى به، فعرفه نعمه فعرفها، قال فما عملت؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال: عالم وقرأت القرآن ليقال: قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار، ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: جواد، وقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقى في النار .
الشرط الثاني في قبول العبادة، الموافقة للشرع: وأما الأدلة من القرآن فكثيرة منها:
قوله تعالى: "وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (الأنعام ، آية : 153).
وقوله سبحانه: " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا" (المائدة ، آية : 3).
وقال تعالى: " وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا" (النساء ، آية : 125).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله" .
وقوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد" .
وقال صلى الله عليه وسلم: "لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلآ هالك" .
وعن مطرف بن عبد الله يقول: سمعت مالك بن أنس إذا ذكر عنده الزائغين في الدين يقول: قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاه الأمر بعده سنناً، الأخذ بها اتباع لكتاب الله عز وجل، واستكمالاً لطاعة الله عز وجل، وقوة على دين الله تبارك وتعالى، ليس لأحد من الخلق تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في شئ خلافها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين، ولاه الله تعالى ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً . ومما روى عن الفضيل بن عياض أنه تلا قوله تعالى: "لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً" ( تبارك ، آية : 2)، فقال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إذا كان العمل خالصاً ولم يكن صواباً، لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص إذا كان لله عز وجل والصواب إذا كان على السنة .
وبعد ذكر شرطي العبادة المقبولة عند الله سبحانه وتعالى يتبين أن دين الإسلام مبني على أصلين: أن نعبد الله وحده لا شريك له، وأن نعبده بما شرعه من الدين، وهو ما أمرت به الرسل .
إن الغاية من خلق الإنسان وكتابة الموت والحياة عليه واضح في قوله تعالى: "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ" (تبارك ، آية : 2). والأحسن عملاً يتضمن أمرين: كما فسر ذلك الفضيل بن عياض ـ رحمه الله ـ عندما قال: أحسنه أي أخلصه وأصوبه .
فأخلصه هو ((لا إله إلا الله))، وأصوبه هو ((محمد رسول الله))، وهو الذي أشارت إليه سورة الفاتحة ـ أم القرآن الكريم ـ "اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ" (الفاتحة ، آية 6 ـ 7). والذين أنعم الله عليهم هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، ومنهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصحابته ـ رضوان الله عليهم ـ والذين ساروا على هذا ((الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ))، أي الصواب الموصل للغاية، وهذا الطريق وسط بين طرفين .

رابعاً: حقيقة العبادة: إن دائرة العبادة التي خلق الله لها الإنسان، وجعلها غايته في الحياة ومهمته في الأرض، دائرة رحبة واسعة: أنها تشمل شئون الإنسان كلها، وتستوعبه حياته جميعاً، وتستغرق كافة مناشطه، وأعماله ، ومن التعريف السابق للعبادة، عندما ذكرنا بأنه اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطلة والظاهرة، لا يمكن أن يخرج أي شئ من نشاطات الإنسان وأعماله سواء أكان ذلك في العبادات المحضة، أو في المعاملات المشروعة، أو في العادات التي طبع الإنسان على فعلها، وإن كان ينبغي لنا الإشارة إلى أن الأصل في العبادات المحضة المنع حتى يرد ما يدل على مشروعيتها، وأن أصل العادات العفو حتى يرد ما يدل على منعها، وذلك مبني على أن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينه، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم، فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله، أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلآ بالشرع.
وأما العادات: فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر، فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى وذلك لأن الأمر والنهي هنا شرع الله، والعبادة لا بد أن يكون مأموراً بها ، فما لم يثبت أنه مأمور به، كيف يحكم عليه بأنه عبادة؟ وما لم يثبت من العبادات أنه منهي عنه كيف يحكم عليه أنه محظور؟ والعادات الأصل فيها العفو ولا يحظر منها إلا ما حرم الله . وهذا التقسيم في الحظر والإباحة لا يخرج شيئاً من أفعال الإنسان العادية من دائرة العبادة لله، ولكن ذلك يختلف من درجته ما بين عبادة محضة وعادة مشوبة بالعبادة، وعادة تتحول بالنية والقصد إلى عبادة، لأن المباحات يؤجر عليها بالنية والقصد الحسن، إذا صارت وسائل للمقاصد الواجبة، أو المندوبة، أو تكميلاً لشئ منها ، وقال النووي فشرحه لحديث: "وفي بضع أحكم صدقة" . وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنية الصادقة ، ومن ذلك يتضح: أن الدين كله داخل في العبادة والدين منهج الله، جاء ليسع الحياة كلها، وينظم جميع أمورها من أدب الأكل والشرب وقضاء الحاجة إلى بناء الدولة، وسياسة المال، وشئون المعاملات والعقوبات، وأصول العلاقات الدولية في السلم والحرب.
إن الشعائر التعبدية من صلاة وصوم، وزكاة لها أهميتها ومكانتها، ولكنها ليست العبادة كلها، بل هي جزء من العبادة التي يريدها الله تعالى.
إن مقتضى العبادة المطالب بها الإنسان أن يجعل المسلم أقواله وأفعاله وتصرفاته وسلوكه وعلاقاته مع الناس وفق المناهج والأوضاع التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، يفعل ذلك طاعة لله واستسلاماً لأمره .
والدليل على المفهوم الشامل للعبادة من الكتاب والسنة وفعل الصحابة رضوان الله عليهم، فأما من القرآن الكريم فقوله تعالى:" قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" (الأنعام ، آية :162، 163).
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة، وهو يحتسبها كانت له صدقة .
وقوله صلى الله عليه وسلم: دخلت امرأة النار في هرة، ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من حشاش الأرض حتى ماتت ، وأما الاستدال على عموم العبادة وشمولها لحياة الإنسان، عند الصحابة ففي قصة بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن، وفي آخره قال أبو موسى لمعاذ: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي ، وفي كلام معاذ رضي الله عنه دليل أن المباحات يؤجر عليها بالقصد والنية.

خامساً: أنواع العبادات:
إن أنواع العبادات كثيرة نذكر منها:
1ــ الدعاء: لغة: الرغبة إلى الله وجاء في نصوص القرآن والسنة بمعنى العبادة قال تعالى:" وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" (غافر ، آية : 60).
وقال تعالى:" فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" (غافر ، آية : 54).
وقال تعالى:" وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" (البقرة ، آية : 186).
وقال تعالى:" ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ {55} وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ" (الأعراف ، آية : 55، 56).
وقال تعالى:" فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ" (الشعراء ، آية : 213).
ومن أسباب قبول الدعاة، المطعم الحلال، وألا يستبطئ الإجابة، ولا يدعو بإثم ولا قطيعة رحم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجزم في الدعاء، وحضور القلب وسلامته من الغفلة والخشوع والإبتعاد عن المعاصي والإخلاص في الدعاء لله عز وجل .
ويمكن أن يقترن الدعاء بتوسل مشروع كالتوسل باسماء الله الحسنى أو بصفة من صفاته العليا، أو أن يتوسل العبد إلى الله بأعماله الصالحة التي يرجى قبولها عند الله أو يطلب الدعاء ممن يظن صالحهم أو بالتوسل بهم بشرط أنهم أحياء، وقد تحدث العلماء عن أنواع التوسل المشروعة منها:
أ ـ التوسل إلى الله بأسمائه الحسنى أو صفة من صفاته العليا:
والدليل على هذا النوع من أنواع التوسل قول الله تعالى: " وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" (الأعراف،آية:180). كأن يقول المسلم في دعائه: اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم، اللطيف الخبير أن تعافيني أو يقول: أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن ترحمني، وتغفر لي .
ولقوله سبحانه وتعالى:" وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا" (الأعراف ، آية :180)، اي ادعوا الله تعالى متوسلين إليه بأسمائه الحسنى ولا شك أن صفاته العليا عز وجل داخله في هذا الطلب، لأن أسماء الله الحسنى سبحانه صفات له خصت به تبارك وتعالى ، ومن الأدلة كذلك دعا سليمان عليه الصلاة والسلام حيث قال:" أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ" (النمل ، آية : 19).

ب ـ التوسل إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة التي يقوم بها العبد كأن يتوسَّل إلى الله تعالى بالإيمان به وطاعته وأتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ومحبَّته ومن هذا النوع قول الله تعالى:" الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (آل عمران ، آية : 193).
فيمكن للعبد أن يقول: اللهم بإيماني بك، أو محبتي لك، أو أتباعي لرسولك اغفر لي أو تقول: اللهم إني أسألك بمحبتي لمحمد صلى الله عليه وسلم، وإيماني به إن تفرج عني، ومن ذلك أن يذكر الداعي عملاً صالحاً ذا بال فيه خوفه من الله سبحانه، وتقواه إياه، وإيثاره رضاه على كل شيء وطاعته له جل شأنه، ثم يتوسل به إلى الله في دعائه، ليكون أرجى لقبوله وإجابته .
ج ــ التوسل إلى الله تعالى بدعاء الصالحين الأحياء، بأن يطلب المسلم من أخيه الحيِّ الحاضر أن يدعو الله له، فهذا النوع من التوسل مشروع لثبوته عن بعض الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان بعضهم يأتيه صلوات الله وسلامه عليه ويطلب منه الدعاء له أو لعموم المسلمين، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أنسى بن مالك رضي الله عنه أن أعرابياً قام يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: يا رسول الله، هلك المال وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه ـ وما نرى في السماء قزعه ـ فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبر حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم . إلى آخر الحديث، ومثله كذلك توسل الصحابة رضي الله عنهم بدعاء العباس رضي الله عنه وهو في صحيح البخاري من حديث أنس رضي الله عنه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قُحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعمِّ نبينا فاسقنا، قال: فيسقون .
والمراد بقوله: إنا نتوسل إليك بعمِّ نبِّينا، أي بدعائه فبهذه الأنواع الثلاثة من التوسل كلها مشروعة لدلالة نصوص الشرع عليها وأمّا ما سوى ذلك مما لا أصل له، ولا دليل على مشروعيته فينبغي على المسلم أن يجتنبه .
2ــ النذر: هو التزام قربة غير لازمة في أصل الشرع بلفظ يشعر بذلك، مثل أن يقول: لله عليَّ أن أصوم ثلاثة أيام .
وحكم النذر الكراهة، بل حرمه بعض العلماء لعدم تحمل المسلم ما قد يعجز عن الوفاء به، ولكن إذا نذر المسلم، وجب عليه الوفاء بهذا النذر وذلك ما لم يكن في معصية الله، فأصبح هذا النذر معلقاً في رقبته، وديناً عليه حتى يوفيه .
ـ قال تعالى:" يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا" (الإنسان ، آية : 7).
ـ وقال تعالى:" وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ" (البقرة ، آية : 270).
ـ وقال تعالى:" ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ" (الحج ، آية : 29).
وقال صلى الله عليه وسلم من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه
ومن شروط النذر:
أ ـ أن يكون طاعة لله: لقوله صلى الله عليه وسلم: لا نذر في معصية الله، ولا في قطيعة رحم .
ب ـ أن يكون مما يطيقه العبد: وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم فسأل عنه، فقالوا: أبو سرائيل، نذر أن يقوم فلا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مرة فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه .
ج ـ أن يكون فيما يملك: قال صلى الله عليه وسلم: لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم .
س ـ ألا يعتقد الناذر تأثير النذر في حصول الشيء وعدمه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن النذر لا يقدم شيئاً ولا يؤخره وإنما يستخرج بالنذر من البخيل .
وإذا كان النذر لله تعالى عبادة ونوعاً من أنواع التقرب إلى الله، فإن صرفه لغير الله تعالى شرك أكبر يخرج من الملة، ويوجب لصاحبه النار، لأن كل ما شأنه عبادة لا يجوز بحال من الأحوال أن يُصرف لغير الله تعالى، ومن المؤسف حقاً أن نرى مثل هذه العبادات تصرف لغير الله تعالى ، وهذا جهل عظيم بالإسلام ولا علاج له إلا نشر العلم واحياء الإيمان بالله عز وجل في القلوب.
3ـ الذبح: ومعنى الذبح شرعاً: هو كل ما ذُبح هدياً أو عقيقة وغيرها لله تعالى، وبقصد التعبد لله والتقرب له ، قال تعالى:" إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ" (الكوثر ، آية : 1، 2)، أي اخلص له صلاتك وذبحك ، وقال تعالى:" قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لاَ شَرِيكَ لَهُ" (الأنعام ، آية : 162، 163)، والنسك: الذبح ، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من غير منار الأرض : أما لعن الوالد والوالدة فهو من الكبائر وأما الذبح لغير الله، فالمراد به أن يذبح باسم غير الله تعالى، كمن ذبح للصنم، أو الصليب أو لموسى أو لعيسى عليه السلام، أو للكعبة ونحو ذلك، فكل هذا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلماً أو نصرانياً أو يهودياً .
إن الذبح قربة وعبادة يُتقرب بها إلى الله تعالى ويتعبد بها ولذلك وجب صرفها لله تعالى.
4ـ التوكل: هو الثقة بما عند الله واليأس عما في أيدي الناس، وقيل هو اعتماد القلب على الله وثقته به وأنه كفاية ، والتوكل عبادة ويجب صرفها لله تعالى حتى يتم توحيد العبد ويخلو من شوائب الشرك وأدران الجاهلية والله سبحانه وتعالى يأمرنا بالتوكل عليه وحده لا غيره.
ـ قال تعالى:" وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا" (الفرقان ، آية : 58).
ـ وقال تعالى:" إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (هود ، آية : 56).
ـ وقال تعالى: " وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" (الشعراء ، آية : 217ـ220).
ـ وقال تعالى: " وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا " (الأحزاب ، آية : 48).
وقال رسول الله عليه وسلم: لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً .
5ــ الإستعانة: وهي طلب العون من الله تعالى على سبيل التعبد لله، وهي من أنواع العبادة ولذلك يجب الإستعانة بالله وحده.
قال تعالى:" إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" (الفاتحة ، آية : 5). أي لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك، ونبرأ من كل معبود دونك ومن عابديه، ونبرأ من الحول والقوة إلا بك فلا حول لأحد عن معصيتك، ولا قوة على طاعتك إلا بتوفيقك ومعونتك .
وقال تعالى:" قَالَ رَبِّ احْكُم  بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ" (الأنبياء ، آية : 112).
وفي حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: يا غلام، إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فأسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف .
6ــ الإستغاثة: هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، كالإستنصار طلب النصرة، والإستغاثة، طلب الغوث، والفرق بين الإستغاثة والدعاء أن الإستغاثة لا تكون إلا من المكروب والدعاء أعمّ فيكون من المكروب وغيره ، فالإستغاثة نوع من العبادة يجب صرفها لله تعالى، فلا يستغات إلا بالله عز وجل، ولقد ذكر الله تعالى الإستغاثة في كتابه العزيز، فلم تصرف إلا له سبحانه قال تعالى:" إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفينَ" (الأنفال ، آية : 9).
وقال تعالى:" أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ" (النمل ، آية : 62).
وقال تعالى:" وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ" (الشورى ، آية : 28).
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: يا حيُّ يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام برحمتك استغيث .
وعن ثابت بن الضحاك: أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يُوذي المؤمنين فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله من هذا المنافق. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله .
7ــ الخشية: هي خضوع القلب والجوارح لله تعالى طاعة وخشوعاً وخوفاً من مقامه ووعيده، على سبيل التعبد لله تعالى .
ــ قال تعالى:" إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" (آل عمران ، آية : 173).
ــ وقال تعالى:" الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا" (الأحزاب ، آية : 39).
ــ وقال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ" (المؤمنون ، آية : 57).
وقال صلى الله عليه وسلم:.... أما والله إني لأخشاكم وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني .
والخشية نوع من أنواع العبادة التي يجب ألّا تصرف إلا لله تعالى وصرفها لغير الله يُعدّ شركاً ينقض ويهدم الإيمان وكلما زاد إيمان العبد بربه وخلص كلما زادت خشيته منه .
8 ـ الخوف: هو اضطراب القلب وحركته من تذكر المَخوف ، وهو أفضل مقامات الدين وأجلها وأجمع أنواع العبادة التي يجب إخلاصها لله تعالى .
ـ قال تعالى: " إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" (آل عمران ، آية : 175).
ـ وقال تعالى: " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ* وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ" (ابراهيم ، آية : 13، 14).
ـ وقال تعالى: " وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ" (الرحمن ، آية : 46).
ـ وقال تعالى: " وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى {40} فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى " (النازعات ، آية : 40، 41).
وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا النار ولو بشق تمرة ، فالنافع والضار هو الله، فلا خوف إلا منه وحده سبحانه وتعالى.
9ـ المحبة: يعد خلق المحبة من أجل الأخلاق الإيمانية لأنها أصل كل فعل ومبدؤه، فلا يكون الفعل إلا عن محبة وإرادة وكذلك الترك لا يكن إلا عنها، ولهذا كان رأس الإيمان، الحب في الله والبغض في الله، وكان من أحب لله ومن أبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان .
قال تعالى:" قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" (البقرة ، آية : 24).
فإن هذه الآية تحمل وعيداً شديداً على تقديم محبة أي شيء من أمور الدنيا على محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وأنه يجب إيثارها في المحبة على من سواهما وهذه المحبة تقتضي إيثار طاعتهما واتباع أمرهما، على إيثار من ذكر الله من الأقارب والأموال وغيرهما مما قد تريد النفس تقديمها ، وهذه المحبة يقتضيها الإيمان، فمن كان مؤمناً أوجب عليه إيمانه أن يتحلى بها كما يدل عليه قوله تعالى:" وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ" (البقرة ، آية : 165).
وقد بين القرآن الكريم علامات المحبة لله تعالى، فجعل من ذلك، اتباع نبيه صلى الله عليه وسلم، والذلة للمؤمنين، والعزة على الكافرين، والجهاد في سبيله، وعدم الخوف من لوم لائم ومعاداة أعدائه، أما الاتباع لنبيه صلى الله عليه وسلم فقد دل عليه قوله تعالى:" قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ" (آل عمران ، آية : 31)، فإن هذه الآية تسمى آية المحبة ، فهذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من عمل ليس عليه أمرنا فهو رد .
وأما العلامات الأخرى فقد دل عليها قوله تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ " (المائدة ، آية : 54).
وأنواع العبادات كثيرة وإنما هذه على سبيل المثال وقد قسم العلماء أنواع العبادات التي لا يجوز أن يقصد بها غير الله إلى:
ـ عبادات اعتقادية: وهذه أساس العبادات كلها وهي أن يعتقد العبد أن الله هو الرب الواحد الأحد الذي له الخلق والأمر، وبيده النفع والضر، الذي لا شريك له، ويشفع عنده أحد إلا بإذنه وأنه لا معبود بحق غيره.
ـ عبادات قلبية: والعبادات القلبية التي لا يجوز أن يقصد بها إلا الله وحده، وصرفها لغير الله شرك كثيرة، كالخوف والرجاء، والرغبة والرهبة والخشوع والخشية والحب والانابة، والتوكل، والخضوع والخشوع، والاستغاثة....الخ
ـ قولية: كالنطق بكلمة التوحيد، إذ لا يكفي اعتقاد معناها بل لابد من النطق بها، وكالاستعاذة بالله، والاستعانة به، والدعاء له، وتسبيحه، وتمجيده، وتلاوة القرآن.
ـ بدنية: كالصلاة والصوم، والحج والذبح والنذر وغير ذلك.
ـ مالية: كالزكاة وأنواع الصدقات والكفارات، والأضحية والنفقة .

سادساً: أفضل العبادات:
إن أفضل العبادة، العمل على مرضاة الرب في كل وقت وبما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد، الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار.
ـ والأفضل في وقت حضور الضيف مثلاً، القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل. والأفضل في أوقات السَّحر.
الاشتغال بالصلاة والقرآن، والدعاء والذكر والاستغفار.
ـ والأفضل في وقت استرشاد الطالب، وتعليم الجاهل:
الإقبال على تعليمه والاشتغال به، والأفضل في أوقات الأذان، ترك ما هو فيه من ورده والاشتغال بإجابة المؤذِّن.
ـ والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجدُّ والنُّصح في إيقاعها على أكمل الوجوه والمبادرة إليها في أول الوقت والخروج إلى الجامع، وإن بعد كان أفضل.
ـ والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو البدن، أو المال: الاشتغال بمساعدته وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أواردِك وخلوتك.
ـ الأفضل في وقت قراءة القرآن: جمع القلب والهمة على تدبره وتفهمه، حتى كأن الله تعالى يُخاطِبك به، فتجمع قلبك على فهمه وتدبره، والعزم على تنفيذ أوامره، أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك.
ـ والأفضل في وقت الوقوف بعرفة، الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر، دون الصوم، المُضعف عن ذلك.
ـ والأفضل في أيام عشر ذي الحجة، الإكثار من التعبد لا سيَّما التكبير والتهليل والتحميد، فهو أفضل من الجهاد غير المتعيَّن.
ـ والأفضل في العشر الأخير من رمضان، لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف، دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم، وإقرائهم القرآن عند كثير من العلماء .
ـ والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته،: عيادته وحضور جنازته وتشييعه.
ـ والأفضل في وقت نزول النوازل، وأذاة الناس لك: أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم، دون الهرب منهم، فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يُؤذونه.
ـ والأفضل خلطتهم في الخير، فهي خير من اعتزالهم فيه واعتزالهم في الشر، فهو أفضل من خلطتهم فيه، فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله، فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم.
فالأفضل في كل وقت وحال، إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه .

سابعاً: تحكيم الشريعة وارتباطها بالتوحيد:
1 ـ ربطها بتوحيد العبادة:
قال تعالى في قصة يوسف ودعوته إلى الله في السجن " مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ " (يوسف ، آية : 40).
وقال تعالى: " لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " (البقرة ، آية : 256).
وقال تعالى: " اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ " (التوبة ، آية : 31).
2 ـ ربطها بتوحيد الربوبية: قال تعالى: "إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ " (الأعراف ، آية : 54".
3 ـ ربطها بتوحيد الأسماء والصفات:
قال تعال: " أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ " (الأنعام ، آية : 114).
وقال تعالى: " ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " (الممتحنة ، آية : 10).
وقال تعالى: " وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ " (الرعد ، آية : 41).
وقال تعالى: "وقال تعالى: " إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ" (الأنعام ، آية : 57).
إن من أسماء ربنا جل وتعالى التي عرّف بها نفسه إلى عباده وذكرها في كتابه، وعلى ألسنة رسله وأنبيائه ((الحكيم)) وقد ورد هذا الإسم الحكيم أربعاً وتسعين مرة في القرآن الكريم كما في قوله عز وجل " الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ " (البقرة ، آية : 32) " العَزِيزُ الحَكِيمُ " (البقرة ، آية : 129) " الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ " (الأنعام ، آية : 18) " وَاسِعًا حَكِيمًا " (النساء ، آية : 130)، ويقول تعالى: " أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً " (الأنعام ، آية : 114).
فهذا دليل على أن اسمه أيضاً "الحكم".
وبمعناه: "الحاكم" وقد جاء في خمسة مواضع بصيغة الجمع منها " وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ " (الأعراف ، آية : 87) " وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ " (هود ، آية : 45) " أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ " (التين ، آية : 8).
والحكيم: هو الذي يُحكم الأشياء ويتقنها ويضعها في موضعها كما قال سبحانه: " صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ " (النمل ، آية : 88).
فـ"الحكيم" هو الذي يضع الشئ في موضعه بقدره، فلا يتقدم الحكم البالغة العظيمة، التي لا يأتي عليها الوصف، ولا يدركها الوَهَمْ، ومن معاني الحكمة: حكمته في خلقه، ومن ذلك ما تراه في جسد الإنسان وعقله وروحه من حكمته جل وعز، حيث خلق الإنسان في أحسن تقويم، كما قال تعال: " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ " (التين ، آية : 4)، ولو نظرت للإنسان في هيئته وصورته أو نظرت في قُدراته وإمكانياته أو نظرت في عقله وروحه، لوجدت الحكمة البالغة العظيمة .
ومن معاني حكمة الله تبارك وتعالى: الشرع الذي أنزله في كتابه على لسان رسوله ولهذا وصف الله تعالى القرآن بأنه حكيم، كما في قوله: " نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ " (آل عمران ، آية : 58) ، وقوله " وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ " (يس ، آية : 2) فتشريعاته حكمة في مقاصدها وأسرارها ومآلاتها، فشريعته حكمة، وخلقه وقدره حكمة، حتى وإن عجزت بعض العقول في فهم أبعادها، فإن من الحوادث والشرائع ما لا يتبين مداه إلا بعد أجيال وعصور، ولا زال العلم البشري يكتشف  الشئ بعد الشئ وليس يصحُّ أن يكون الجهل أو عدم الإدراك في وقت أو مكان أو بالنسبة لفرد أو جماعة سبباً في عدم القناعة بما جاء عن الله، لأن أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين، وخير الرازقين، وأحسن الخالقين، فالحكيم الذي لا يدخل في تدبيره ولا شرعه خلل ولا زلل وأفعاله وأقواله تقع في مواضعها بحكمة وعدل، وسداد، فلا يفعل إلا السداد ولا يقول إلا الصواب .
والقرآن الحكيم فيه الحلول الصادقة والمناسبة الملائمة والأحكام الصحيحة التي بها قوام حياة الناس، وحَلُّ مشكلاتهم التي يواجهونها اليوم، سواء على صعيد الفكر أو الاقتصاد أو السياسة، أو المجتمع، وقد وضع الاُطُر العامة التي تهدي الناس إليها ، ولا شك أن أصول الهداية الكلية موجودة في القرآن الكريم، فإنه تضمن الأصول العامة التي تَصْلُح بها حياة الناس ولهذا قال الله عز وجل:" هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ " (الجمعة ، آية : 2).
وهذا دليل على أن الحكمة تعني السنة، فمن حكمته عز وجل أن يرسل الرسل الذين يختارهم من البشر، كما قال الله عز وجل:" لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ " (التوبة ، آية : 128).
فيختار سبحانه من الرسل أفضل البشر ممن لهم الكمال البشري في علومهم وعقولهم وأفهامهم ومداركهم وقدراتهم، ليتم بذلك البلاغ وتقوم الحجة على الناس ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم بالمنزلة العظيمة التي يعرفها كل من قرأ سيرته، وقد امتن الله سبحانه على الناس ببعثته لهذا الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:" لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ" (آل عمران ، آية : 164).
فمن حكمة الله عز وجل أن بعث الرسل، وأنزل الكتب هداية للناس، وإقامة للحجة .
ومن معاني حكمة الله عز وجل: أن يُلهم بعض العباد الحكمة كما قال تعالى:" يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ" (البقرة ، آية : 269)، فالله تعالى يؤتي الحكمة بعض عباده، فيعرفون كيف يحلون المشكلات، وكيف يخرجون من المُلمّات والازمات وكيف يتعاملون مع المواقف الصعبة، وكيف يصنعون الأمور في مواضعها والعالم الإسلامي في أشد الحاجة لمجلس حكماء من الذين حنكتهم التجارب، لكي تستفيد الأمة من خبرتهم ومعرفتهم وتوقعاتهم، حتى لا يخبط المسلمون خبط عشواء ولا يقعوا ضحية المفاجآت والازمات وهم لا يشعرون .
وأما "الحَكَم" فهو من له الحكم والسلطان والقدر، فلا يقع شيء إلا بإذنه وهو المدبر المتصرّف " كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ" (الرحمن ، آية : 29).
"والحَكَم" أيضاً من له التشريع والتحليل والتحريم، فالحكم ما شرع، والدين ما أمر ونهى، لا معقب لحُكمه ولا رادّ لقضائه. فاجتمع (القدر) و(الشرع) " أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ
وَالأَمْرُ " (الأعراف ، آية : 54).
وحين يقول"أحكم الحاكمين" و"خير الحاكمين" فإن ذلك تأكيد على عدله ورحمته ووضعه الأشياء في مواضعها فليس في قدره ظلم ولا تعسف وليس في شرعه مُحاباة ولا تحيُّز بل هو حِفظ للحقوق، الحاكم والمحكوم، والرجل والمرأة والبرّ والفاجر، والمسلم والكافر، والقوي والضعيف، وفي كل الأحوال حَرباً وسلماً وعلى كل أحد دون استثناء، ولذا وجب على كل مسلم تحكيم كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في دقيق أموره جلّها على الصعيد الفردي والجماعي والأسري والخاص والعام، والسياسة والاقتصاد، والاجتماع والإعلام، وكل شيء .
4ـ ربطها بالإيمان: قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً " (النساء، آية: 59).
ــ وقال تعالى: " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا" (النساء ، آية : 60).
ـ وقال تعالى: " إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (النور ، آية : 51).
5ـ ربطها بالإسلام: والإسلام أساسه الإستسلام لله والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك .
ــ قال تعالى: " وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ " (النساء ، آية : 125).
ـ وقال تعالى: " وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ " (آل عمران ، آية : 85).
ـ وقال تعالى: " وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ " (النحل ، آية : 89).
6ـ ربطها بالشهادتين: أما شهادة أن لا إله إلا الله فقد سبق في أدلة توحيد العبادة ما يبين ذلك وأما شهادة أن محمداً رسول الله:
ــ فقال تعالى:" فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا " (النساء ، آية : 65).
ـ وقوله تعالى: " وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا " (الحشر ، آية : 7).
ـ وقال تعالى: " إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ " (آل عمران ، آية : 31ـ 32).
7ـ طاعة غير الله والإعراض عنه كفر وشرك:
ـ قال تعالى: " وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ً" (الكهف ، آية : 26).
ـ وقال تعالى: " وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ " (الأنعام ، آية : 121).
ـ وقال تعالى: " أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ " (المائدة ، آية : 50).
فهذه الأدلة جاءت كنماذج وإلا فهي كثيرة جداً تبين مدى ارتباط تحكيم الشريعة بالإيمان بالله عز وجل.
ثامناً: الآثار الحسنة للحكم بما أنزل الله:
1ـ الاستخلاف والتمكين:
إذا أقام العباد دين الله تعالى، وخلص لله تحاكمهم في السر والعلانية فإن الله سبحانه يقويهم ويشدُّ من أزرهم حتى يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ومكنّ لهم، وهي سنة إلهية ماضية نجدها في قصص شتى في كتاب الله تعالى.
أ ـ فهذا يوسف عليه السلام صار من أهل الاستخلاف والتمكين، بعد أن ابتلى فأبلى بلاء حسناً، وظهر أنه كان من المحسنين، قال تعالى:" وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ " (يوسف، آية: 56).
ب ـ وهذا موسى عليه السلام كان حريصاً على أن يُظهر لقومه هذه السنة الماضية، عندما خافوا بطش فرعون وقومه، فيقول لهم:" اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ " (الأعراف ، آية : 128).أي: العاقبة الحسنة ستكون لكم بإرث الأرض شريطة أن تكونوا من المتقين، بإقامة شرع الله في الأرض .
ولما استبطؤوا العاقبة واستأخروا النصر، نبّههم موسى عليه السلام إلى سُنّة الاستخلاف" عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ " (الأعراف ، آية : 129).
ثم انجز الله عز وجل لهم ما وعد كما في قوله تعالى:" وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ " (الأعراف ، آية : 137).
وبعد وراثة الأرض، والاستخلاف فيها، منّ الله عليهم بالتمكين فقال سبحانه:" وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ " (القصص ، آية : 5ـ 6).
ت ـ والله تعالى وعد المؤمنين من هذه الأمة بما وعد به المؤمنين من قبلهم، قال تعالى:" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (النور ، آية : 55).
فإذا حقق الناس الإيمان، وتحاكموا إلى شريعة الرحمن فستأتيهم ثمرة ذلك، وأثره الباقي " وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ " (النور ، آية : 55)، فهي مقدمات ونتائج أعمال وآثار، فتحقيق التحاكم إلى الله، يتحقق به الاستخلاف وتحقيق الحكم به، يوصل إلى التمكين .
إن وقائع التاريخ الإسلامي، تصدق هذا الوعد الإلهي للأمة بالنصر والتمكين إذا أقامت شرعه، فليست هناك من جولات المسلمين انتصروا فيها على أعدائهم، وتقدّموا في شؤون دنياهم إلا وكان واقعهم شاهداً على تمكين القرآن الكريم منهم اعتقاداً وعملاً .
2ـ الأمن والاستقرار: ضمن الله عز وجل لأهل الإيمان والعمل بشرعه وحكمه، أن يُحقق لهم الأمن الذي ينشدون إذا استقاموا على التوحيد ونبذوا الشرك بأنواعه، قال تعالى:" الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ " (الأنعام ، آية : 82).
ولا يتصور تحقيق أمة للإخلاص في العبودية، والخلوص من الشرك، وبالتالي الشعور بالأمن والاستقرار إلا بإقامة شرع الله كاملاً غير منقوص، وإلا فإن الأمم المنحرفة عن شرع الله يُحيط بها الخوف والقلق من جميع جوانبها لأن الأمن والأمان قد سُلب، قال تعالى: " أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ* أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ* أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ* أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ " (الأعراف ، آية : 97 ، 100).
في حين أن الله امتنَّ على المؤمنين بالأمن في مظنَّة الخوف لمَّا انقادوا لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى : " هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا " (الفتح ، آية : 4)، والسكينة هي الطمأنينة، والذين أنزل عليهم السكينة هم الصحابة رضي الله عنهم يوم الحديبية الذين استجابوا لله ولرسوله، وانقادوا لحكم الله ورسوله ، وإذا امتثل  الناس شرع الله، وطبقوا أحكامه، ضمنوا الأمن التام في أموالهم وأعراضهم ودمائهم، فما من حد من الحدود، ولا شرعة من الشرائع إلا وتحفظ بسببها ضرورة من الضرورات الخمس، الدين، والنفس، والعقل، والعرض والمال .
وقوانين البشر الوضعية لا تُحرز أمناً ولا توفر استقراراً، إذا ما قورنت بالتشريعات الإسلامية، فالدول قديماً وحديثاً تنفق الأموال الطائلة وترصد الميزانيات الهائلة، لتأمين الداخل ومع ذلك لا يحصل للناس من الأمان عشر معشار ما يمكنهم تحصيله، لو أنهم أقاموا حد من حدود الله تعالى كحدِّ السرقة مثلاً .
3 ـ النصر والفتح: قال تعالى: " وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ" (الحج ، آية 40 ، 41).
والمعنى: لينصرن الله عز وجل من ينصر دينه، ومن ينصر أولياءه وينتصر لشرعه في الأولين والآخرين، كما نصر المهاجرين والأنصار، على صناديد العرب، وأكاسرة العجم، وقياصرة الرُّوم، وأورثهم أرضهم وديارهم .
وسنة الله تعالى ماضية في نصر من ينصر دينه، كما قال تعالى: " إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ " (محمد ، آية : 7)، وقال تعالى:" وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ
الْمُؤْمِنِينَ (الروم ، آية : 47).
ولهذا فإن حال الأمة من النَّصر والعزَّة أو عدمها يعتبر مقياساً دقيقاً وميزاناً للحكم على مقدار امتثالها ـ رُعاة ورعيَّة ـ لشريعة الله ظاهراً وباطناً,
فبالاستجابة للشريعة يُستجلب الفتح، ويُستنزل النصر، وتُستفتح الأرض .
4 ـ العز والشرف: قال تعالى: " لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ" (الأنبياء ، آية : 10). أي فيه شرفكم وصيتكم، وقال تعالى في آخر الآية: "أفلا تعقلون" والاستفهام للتوبيخ والتقريع والمعنى: أفلا تعقلون ما فضِّلتم به على غيركم ، فهذه الأمة لا تستمد الشرف والعزة إلا من استمساكها بدينها وتطبيقها لأحكام الشريعة في جميع نواحي الحياة، كما قال عمر رضي الله عنه: " إنا كنا أذلَ قوم ما أعزَنا الله إلا بالإسلام،فمهما نطلب العزّ بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله ، فهناك ارتباط وثيق بين حال الأمة الإسلامية عزاً وذلاً، مع موقفها من تطبيق الشريعة إقبالاً وإدباراً فما عزّت في يوم بغير دين الله وما ذلّت في يوم إلا بالانحراف عنه .
ومن أراد العزّة فليتعزر بطاعة الله تعالى، لأن مصدرها من الله تعالى فليطلبها من مصدرها، كما قال تعالى:" مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا " (فاطر ، آية : 10)، وقال تعالى:" وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ" (المنافقون ، آية : 8)، وهذه العزة كما كانت للمؤمنين السابقين فهي كذلك للاحقين شريطة أن يقتفوا أثرهم في تعظيم حرمات الله وتطبيق شرعه والاعتزاز بدينه .
5ـ بركة العيش ورغده: قال تعالى:" وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ" (الأعراف، آية: 96)، فالآية الكريمة تعد المؤمنين المستجيبين لشرع الله بالبركات متى ما حققوا معنى الإيمان والتقوى والطريق إلى بركات السماء والأرض الاستجابة لله وروسوله صلى الله عليه وسلم وإقامة شريعته حتى ينالوا هذا المطلب النفسي .
6ـ الهداية والتثبيت: قال تعالى:" فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا* وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا *وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيمًا* وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا " (النساء ، آية : 65ـ 66).
والأمر الذي وُعظوا به ووُعدوا الخير لأجله، هو تحكيم الشريعة والانقياد التام للرسول صلى الله عليه وسلم فلو أنهم امتثلوا ما أمروا به، لثبت الله تعالى اقدامهم على الحق فلا يضطرون في أمر دينهم .
7ـ الفلاح والفوز: قال تعالى:" إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {51} وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ " (النور ، آية : 51، 52).
فقد جمعت هذه الآية الكريمة أسباب الفوز في الدنيا والآخرة، وهي: طاعة الله ورسوله، وخشية الله وتقواه .
8ـ المغفرة وتكفير السيئات: قال تعالى:" يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " (الممتحنة ، آية : 12). فقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستغفر للمؤمنات إذا هنّ بايعنه على السمع والطاعة والرّضى بحكم الله ورسوله، وقد جاء الحديث على كون الله غفور رحيم للمبايعات إذا هن وفين ببيعتهن .
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله قال وحوله عِصَابة من أصحابه: بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف فمن وفىّ منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً فعُوقب في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع المؤمنين والمؤمنات على أمور هي في مضمونها إثبات لموقف التحاكم إلى الشريعة والخضوع لها وهذه البيعة كانت على الامتثال لسائر شرائع الإسلام، وما لم يذكر في هذه المبايعة كالصلاة، والزكاة، وسائر أركان الدين وشعائر الإسلام لوضوح أمره واشتهاره.
إن تحكيم الشريعة مظنة توبة التائبين في الدنيا، وقبول هذه التوبة في الآخرة بالمغفرة ومحو السيئات.
9ـ مرافقة النبيين والصّدّيقين: قال تعالى:" وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا* ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا " (النساء ، آية : 69، 70). سمّى الله تبارك وتعالى التحاكم إلى الرسول (طاعة) وجعل عاقبتهما معية كريمة ومُقاماً كريماً في صحبة كريمة في جوار الله الكريم وحق لمن أقام هذا التحاكم على ما يريد الله تعالى، أن يرقى صُعُداً مع هذه الصحبة المباركة في الفردوس الأعلى، لأن النبيين والصّدّيقين والشهداء والصالحين هم خير من أطاع الله تعالى ظاهراً وباطناً وأقام شريعته ووحّده، فمن حذا حذوهم حُشِر معهم وصحبهم في الفردوس الأعلى من الجنة وهو طريق مفتوح لكلّ من اقتدى بهم ظاهراً وباطناً .

 
تاسعاً: الآثار السيئة للحكم بغير ما أنزل الله:

إن للحكم بغيرما أنزل الله آثار دنيوية وأخروية سيئة، تبدو على الحياة في وجهتها الدينية والإجتماعية والسياسية والإقتصادية، تصيب بشررها محاسنها وتشوِّه معالمها، وبذلك تتحول الحياة إلى فتنة في الدنيا والآخرة فلله عز وجل حذّرنا من مخالفة الأوامر الشرعية في قوله تعالى:" فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " (النور ،آية :63)، أي: فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم باطناً أو ظاهراً "أن تصيبهم فتنة".أي: في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة" أو يُصيبهم عذاب أليم"، أي: في الدنيا بقتل، أو حدِّ، أو حبس، أو نحو ذلك .
إن المجتمعات والشعوب التي تُسلِمُ قيادتها للحكام الذين يحكومنها بغير شريعة الله، تدفع ضريبة التخلي عن الحكم بما أنزل الله من أموالها وأعراضها وعقول أبنائها، وغير ذلك من ثرواتها الأدبية والمادّية، ذلك إلى جانب ما يجُّره التَّخلِّي عن الحكم بما أنزل الله من الجوع والخوف وضنك العيش، وغضب الله في الدنيا والآخرة .
وإليك بعض الآثار المترتبة على الحكم بما أنزل الله في الحياة الدنيا والآخرة.
1ـ قسوة القلب: قال تعالى:" فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ" (المائدة ، آية :13). فهم لمَّا نقضوا ميثاق الله على السمع والطاعة، وساء تصرُّفهم في آيات الله وتأوّلوا كتاب الله على غير ما أنزله، وحملوه على غير مراده، وقالوا عليه ما لم يقل، ثم تركوا العمل به رغبة عنه، جعل الله قلوبهم قاسية، فلا يتعظون بموعظة لغلظتها وقساوتها وهذا من أعظم العقوبات التي يُخذل القلب، ويُمنع الألطاف الربانية، ولا يزيده الهدى والخير إلا شرّاً . وهكذا الشأن في كلِّ من عدل عن شرع الله، مُحكِّماً عقله وهواه، فجزاؤه أن يُطبع على قلبه قال تعالى:" أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ " (الجاثية ، آية :23).
2ــ الضلال عن الحق: قال تعالى:" يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ" (ص ، آية : 26)، ومعلوم أن نبي الله داود عليه السلام لا يحكم بغير الحقِّ ولا يتبع الهوى فيضله عن سبيل الله، ولكنَّ الله تعالى يأمر أنبياءه عليهم الصلاة والسلام، وينهاهم، ليُشرِّعوا لأممهم .
وقد جاء التحذير الصريح في خطورة اتباع الأهواء وتقديمها على أحكام الله تعالى، وأنه ليس لمؤمن ولا مؤمنة أن يكون له اختيار عند حكم الله ورسوله، فما أمر الله هو المتبع، وما أراد النبي هو الحق، ومن خالفهما في شيء فقد ضلّ ضلالاً مبيناً، لأن الله هو المقصد والنبي هو الهادي الموصل، فمن ترك المقصِد، ولم يسمع قول الهادي، فهو ضال قطعاً ، قال تعالى:" وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا " (الأحزاب ، آية :36).
3ـ الوقوع في النفاق: قال تعالى:" وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا* فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا " (النساء ، آية :61ـ62).
يبتلى بالنفاق من يضمرون الكراهية لشرع الله تعالى، حتى تصير قلوبهم مريضة بهذا النفاق، فيحاولون جهدهم أن يُخفوا نفاقهم، ظانِّين أن ذلك أمر ممكن، ولكن يأبى الله تعالى إلا أن يفضح المنافقين بفلتات ألسنتهم قال تعالى:" أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ* وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ " (محمد ، آية : 29ـ30).
والأضغان: جمع ضِغن، وهو ما في النفوس من الحسد والحقد، والعداوة للإسلام وأهله، القائمين بنصره .
ولحن القول: ما يبدو من كلامهم الدّال على مقاصدهم بالتعريض أو التورية.
إن شأن المنافقين الدائم هو الإستهزاء بالشريعة، وحملتها والإعراض عمّا أنزل الله تعالى، والصدَّ عن سبيله وقد كانوا يُشفقون من افتضاح نفاقهم بهذا الإستهزاء والإعراض، حتى قال قائلهم: والله لوددت أنِّي قُدِّمت فجُلدت مائة ولا ينزل فينا شيء يفضحنا، فأنزل الله تعالى فيهم:" يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ {64} وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ " (التوبة ، آية :64ـ66).
4ـ الحرمان من التوبة: قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ " (المائدة ، آية :41): نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله ورسوله المقدِّمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل"من الذين قالوا ءامنَّا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم"،أي: أظهروا الإيمان بألسنتهم وقلوبهم خراب خاوية منه، وهؤلاء المنافقون"ومن الذين هادوا" أعداء الإسلام وأهله ، والجريمة التي اقترفها هؤلاء: هي إنحرافهم عن شريعة الإسلام بتبعيضها تارة، وأخرى بتحريفها حسب أهوائهم وشهواتهم، ومصالحهم الدَّنيئة، فجاءت عقوبتهم متلائمة مع فظاعة جُرمهم
ـ الحرمان من التوبة "أولئِك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم" أي: أن الله تعالى حتم عليهم ألا يتوبوا من ضلالهم وكفرهم، فلم "يُرد ـ الله أن يطهرـ من دنس الكفر، ووسخ الشرك ـ قلوبهم بطهارة الإسلام ونظافة الإيمان فيتوبوا .
ودلت الآية الكريمة، على أن من كان مقصوده بالتحاكم إلى الحُكم الشرعي، اتّباع هواه، وأنه إن حُكِمَ له رضي وإن لم يُحكم له سخط، فإنَّ ذلك من عدم طهارة قلبه، كما أن من حاكم أو تحاكم إلى الشرع ورضي به وافق هواه أو خالفه، فإنه من طهارة القلب. ودلَّ على أن طهارة القلب سبب لكل خير، وهو أكبر داع إلى كل قول رشيد وعمل سديد ، كما دلت على الخزي لليهود والمنفقين، فبالإضافة لعدم طهارة قلوبهم فإن هناك خزياً يلاحقهم ويحيط بهم من جميع الجهات، قال تعالى:"لهم في الدنيا خزي" فخزي اليهود: فضيحتهم بظهور كذبهم في كتمان نصِّ الله تعالى، في إيجاب الرحم وأخذ الجزية منهم، وخزي المنافقين:هتك أستارهم بإطلاع الرسول صلى الله عليه وسلم على كذبهم وخوفهم من القتل .
5ــ الصَّدُّ عن سبيل الله: قال تعالى:" اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ
عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ " (التوبة ، آية : 9). فهذا حديث القرآن الكريم عن مشركي العرب الذين اعتاضوا عن اتّباع شرع الله، بما اتهوا به من أمور الدنيا الخسيسة صادين الناس عن الإسلام وهناك صنفان متقابلان من أهل الكتاب، تحدث القرآن الكريم عنهم في قوله تعالى:" فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا* وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا* لَّـكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَـئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا" (النساء ، آية :160ـ162). ففريق توعدهم الله تعالى بالعذاب الأليم، لتعاطيهم الرِّشوة على الحكم فصدوا الناس عن الدِّين، إضافة إلى أكلهم الرِّبا وأموال الناس بالباطل وفي مقابلهم فريق استحقوا الأجر العظيم، لإيمانهم بالشريعة المنزَّلة، ثم إيمانهم بالشريعة الحقة الناسخة، فكانوا مثلاً يُقتدى بهم .
ولهذا الإرتباط الوثيق بين الإنحراف عن شرع الله والصَّدِّ عن دينه، استحق الصَّادون عن سبيله اللعنة والطرد من رحمته قال تعالى:" أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ* الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ " (الأعراف ، آية : 44ـ45).
6ـ غياب الأمن وانتشار الفوضى: قال تعالى:" كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى" (العلق ، آية : 6ـ7). والطغيان هو الصفة السائدة في الإنسان عندما يكون في معزل عن شرع الرحمان ولو تأمّلنا وصف القرآن الكريم للإنسان بمعزل عن الإيمان، لوجدناه عجباً:فهو ضعيف أمام المغريات، ونسىُّ للإحسان وظلوم في الحقوق، وكفَّار للنعم ومجادل بالحق أو الباطل، وعجول متسرع، وناكر للفضل، وبخيل بما عنده وشديد في الخصومة، وشَرِه في جلب الخير لنفسه، وقنوط إذا عجز عن جلب هذا الخير، وهلع جزع إذا أصيب بضُرِّ أو ألمَّ به شرُّ، وهو ضان بالخير إذا تحصل عليه ولا يمكن أن تواجه وتعالج وتهذب طباع هذا المخلوق إلا بشريعة من عند خالقه:" أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ " (الملك ، آية : 14)، وكيف نتخيل مجتمعنا يترك فيه الإنسان كالوحش الضاري، أو السَّبعُ الكاسر، دونما شريعة تطهِّر قلبه وجوارحه .
إن تحقيق الأمن في المجتمعات مرتبط بتطبيق شرع لله، فقد خص الله عز وجل من طبق شرعه، وحقق شريعته بالأمن قال تعالى:" الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ " (الأنعام ، آية : 82)، والمتآمل في حال المجتمعات الغير محكومة بحكمة الشريعة وضبطها للأمور يرى، كثرة القتل، والإغتصاب، واستباحة الأموال بكلِّ الطرق والأشكال، وانتشار الفواحش والزنا، والفجور والخَنا، والإدمان، واللصوصية، والجاسوسيّة والتحاسد والشح والبخل والجهل والظلم وهذا كله من مظاهر غياب الأمن المرتبط بتحكيم شرع الله.
7ـ انتشار العداوة والبغضاء: قال تعالى:" وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " (المائدة ، آية :64). فاليهود لما خالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذَّبوه، ولم ينقادوا لشريعته، أخبر الله عز وجل أن قلوبهم لا تجتمع، بل العداوة واقعة بينهم دائماً، لأنهم خالفوا شريعة الحق .
والنصارى بتركهم بعض ما ذُكّروا به من شريعتهم، ثم تبكيرهم عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم كانت عاقبتهم كعاقبة إخوانهم اليهود، قال تعالى:" وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ" (المائدة ، آية : 14).
والأمة الإسلامية وعظها الله تعالى بالعداوة المُلقاة فيما بين طوائف اليهود والنصارى، حتى لا يقع فيما وقعوا فيه،فالرعية  تُلقى بينهم العداوات إذا رغبت عن شرع الله، فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به، وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا .
وإذا خرج ولاة الأمور عن الحكم بين الناس بالكتاب والسنة، فقد حكموا بغير ما أنزل الله ووقع بأسهم بينهم وهذا من أعظم أسباب تغيير الدول .وقد تعوّذ النبي صلى الله عليه وسلم من مغبة ترك الحكم بغير ما انزل الله وعدّ ذلك من أعظم أسباب وقوع العداوة والبغضاء بين المسلمين ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن واعوذ بالله أن تُدركوهن وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيّروا بما  أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم .
8ـ الحرمان من النصر والتمكين: قال تعالى:" إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ " (آل عمران ، آية : 160)، وليس شيء أدعى للخذلان، وللحرمان من النصر والتمكين مثل هجر التحاكم إلى شريعة الله تعالى وعدم نصرها في الأرض ويُعتبر ذلك إخلالاً بشرط النصر المنصوص عليه في آي كثيرة من كتاب الله، كما قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ " (محمد ، آية : 7)، والمعنى: إن تنصروا دين الله وشريعته بالعمل بها، وتعظيمها ينصركم الله على انفسكم، وأعدائكم من شياطين الجنّ والإنس، فإن الجزاء من جنس العمل . وقد نص القرآن الكريم على كيفية نصر الدين والشريعة في قوله تعالى:" الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ" (الحج ، آية : 41). والآية الكريمة تدل على أن الذين لا يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة، ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر ليس لهم وعد من الله بالنصر البتة... فالذين يرتكبون جميع المعاصي ممّن يتسمّون باسم المسلمين، ثم يقولون: إن الله سينصرنا مغرورون، لأنهم ليسوا من حزب الله، الموعودين بنصره، كما لا يخفى ومعنى نصر المؤمنين لله، نصرهم لدينه ولكتابه، وسعيهم وجهادهم في أن تكون كلمته هي العليا، وأن تقام حدوده في أرضه، وتُمتثل أوامره وتجتنب نواهيه ويحكم في عباده بما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم .
9ـ هول العقاب الذي ينتظر المبدلين لشرعه: قال تعالى:" قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ* وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ " (يونس ، آية : 59، 60)، ففي هذه الآيات الكريمة: أنكر الله تعالى على من حرّم ما أحلّ الله أو أحلّ ما حرّم الله، بمجرد الآراء والأهواء، التي لا مستند لها، ولا دليل عليها ثم توعدّهم على ذلك يوم القيامة فقال:"وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة" أي: ما ظنهم أن يُصنع بهم يوم مرجعهم إلينا يوم القيامة ؟ فهذا استفهام يراد منه تهويل وتفظيع العقاب الأليم، الذي ينتظر المفترين المتقولين على الله، المبدّلين لشرعه، ولذا نُكّر وأُبهم، فمصيرهم هو أسوأ المصير، وعقابهم هو أوخم العقاب . وصيغة الغائب تشمل جنس الذين يفترون على الله الكذب، وتنتظمهم جميعاً، فما ظنهم يا تُرى؟ ما الذي يتصورون أن يكون في شأنهم يوم القيامة؟ وهو سؤال تذوب أمامه جتى الجبال الصلدة الجاسية .
10 ـ الإهانة عند قبض الأرواح: قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ* فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ" (محمد ، آية : 25 ـ 28). هذه الآيات الكريمات تهدد وتتوعد نوعاً من المنحرفين عما أنزل الله تعالى، وهم الذين يطيعون أعداء الله ـ كاليهود والنصارى ـ في بعض ما يأمرون به، والآيات تصفهم بالردة بسبب ذلك الفعل، وتتوعدهم بمصير مظلم، وعذاب مؤلم يبدأ معهم منذ اللحظات الأولى من مفارقة الدنيا ، "فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم" أي: كيف حالهم إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم وتعصّت الأرواح في أجسادهم، واستخرجتها الملائكة بالعنف والقهر والضرب .
وقال سبحانه في نوع آخر من المنحرفين عن شرعه المنزل:" وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ َنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ" (الأنعام، آية: 93).، فالآية تحكي أحوال هؤلاء عند معاينة الموت والخروج من الدنيا "ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت" أي: شدائده وسكراته "والملائكة باسطوا أيديهم" بالعذاب ومطارق الحديد لقبض ارواحهم "اخرجوا انفسكم" أي: اخرجوا ارواحكم من اجسادكم أي هاتوا أرواحكم، والأمر للإهانة والإرهاق، إغلاظاً في قبض أرواحهم، ولا يتركون لهم راحة، ولا يعاملونهم بلين، وفيه إشارة إلى أنهم يجزعون فلا يلفظون أرواحهم وهو على هذا الوجه، وعيد بالآلام عند النزاع جزاءً في الدنيا على شركهم . "اليوم تجزون عذاب الهون" أي: الهَوَان "بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون" أي: تتعظمون وتأنفون عن قبول ما أنزله الله في آياته .
11ـ الأكل من النار وغضب الجبار: قال العليم الخبير :"إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ"(البقرة، آية: 174ـ 176).
بعد أن تحدثت الآيات عن بعض أحكام الشريعة مثل تحريم أكل الميتة والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، توعدت من يكتمون أحكام الشريعة مقابل ثمن قليل يأكلونه، لأن كتمان الشريعة، يستلزم أنواعاً من الإنحراف عنها ، فهؤلاء الذين يكتمون الحق المنزل، لقاء ثمن رخيص، إنما يأتون حراماً يعذبهم الله عليه بنار جهنم يأكلونها في بطونهم الجشعة، فهي نارٌ على الحقيقة يأكلونها يوم القيامة، جزاء ما اقترفوا من أكل الرشوة على الدين ، والذي اعظم عليهم من عذاب النار، هو غضب الله عليهم، وإعراضه عنهم "لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم" أي: لا يطهِّرهم من الأخلاق الرَّذيلة، إذ ليس لهم أعمال تصلح للمدح والرِّضا والجزاء عليها، بل يعذبهم عذاباً أليماً، لأنهم تركوا كتاب الله وأعرضوا عنه، وعن التحاكم إليه في الدنيا واختاروا الضلالة على الهدى والعذاب على المغفرة .
12ـ العذاب المهين: ذكر العزيز الحكيم جوانب من أحكام الشريعة في صدر سورة النساء، والمتمثلة في، بيان أموال اليتامى، وأحكام الأنكحة، وأحوال المواريث والوصايا ثم ذكر بعد ذلك: الوعد والوعيد، ترغيباً في الطاعة، وترهيباً في المعصية فقال سبحانه "تلك حدود الله" أي هذه أحكام الله قد بينها لكم، لتعرفوها، وتعملوا بها " ومن يطع الله ورسوله" في متابعة حدوده، والعمل بها كما أمره الله تعالى" يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ " (النساء ، آية :13) فهذا هو الوعد.
أما الوعيد:" وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ " (النساء ، آية :14) فكل من اعتدى على حدود الله تعالى مُكذبِّاً أو جاحداً، أو مُبدِّلا أو مبغضاً فهو متوعَّد بهذا العذاب المهين، لكونه غيَّر ما حكم الله به وضادَّ في حُكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرّضا بما قسم الله، وحكم به، ولهذا يُجازيه بالإهانة في العذاب الأليم .
هذه هي أهم الآثار السيئة للحكم بغير ما أنزل الله قال الشاعر:
   
 
والله ما خوفي الذنوب فإنها
                        لعلى طريق العفو والغفران
    لكنّما أخشى انسلاخ القلب عن
                        تحكيم هذا الوحي والقرآن
عاشراً: حماية الرسول صلى الله عليه وسلم لتوحيد الألوهية:
بين رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا التوحيد أتم بيان ودعا إليه أعظم دعوة، وجلُّ القرآن الكريم نزل ليقرر هذا النوع من التوحيد ويدعو إليه وجاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك أعظم جهاد، وقام في حمايته وصيانة حماه حتى أتاه اليقين، بل إنه وهو في الرمق الأخير، وهو يعالج نزع الروح يبين لأمته أهمية هذا التوحيد، كما ربى أصحابه رضي الله عنهم على ذلك ليكونوا جنوداً وحماة لهذا التوحيد ويسلمّوا هذه الأمانة إلى من بعدهم صافية نقية، وقد كانوا كذلك رضي الله عنهم وأرضاهم وفيما يلي بعض الأمثلة في حماية رسول الله لهذا النوع من التوحيد وبيانه والنهي عن كل ما يضاده من شرك، أو بدعة أو يكون وسيلة وذريعة إلى ذلك وإن لم يكن في نفسه شرساً .
1ـ النهي عن الغلو والإطراء: حذر الرسول صلى الله عليه وسلم امته من الغلو ونهاهم عن ذلك وحذرهم منه ومن إطرائه أو تجاوز الحد في مدحه والثناء عليه حماية لجانب التوحيد قال صلى الله عليه وسلم: إياكم والغلو فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو ، وسد الذرائع الموصلة إليه، فنهى عن الإطراء وقال: لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله .
2ـ زيارة القبور والنهي عن اتخاذها مساجد:
بين رسول الله صلى الله عليه وسلم الغاية من زيارة القبور والحكمة التي من أجلها شرعت زيارتها فقد قال صلى الله عليه وسلم: فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت ، ووضح أيضاً أن من الحكمة في زيارة القبور الدعاء للميت والاستغفار له والترحم عليه .
وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفية الزيارة الشرعية للقبور بقوله وعمله وعلمها أصحابه، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم، قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال قولى: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإن شاء الله بكم لاحقون .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن زيارة القبور أول الأمر سداً للذريعة، ثم أذن فيها حين تمكن التوحيد في القلوب وبين الزيارة المشروعة وأمر بها ونهى عن كل ما يخالفها وحذر منها أشد التحذير . وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم قوله: اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد ، وكان يحذر وينهي أمته عن اتخاذ قبره مسجداً أو القبور مساجداً، فعن أم سلمة رضي الله عنها وأم حبيبة رضي الله عنها ذكرتا لرسول الله كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح، أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجد، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مرض موته: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور انبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا ولولا ذلك لأبرز قبره ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى على القبور أو يقعد عليها أو يصلى عليها .
3ـ الرقى والتمائم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرقى والتمائم والتولة شرك . والمقصود بالرقى غير المشروع منها وهي التي تسمى العزائم، التي يعتقدون فيها دفع الآفات والحفظ من المكروهات وأما ما كان منها من الشرع والمأثور من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يدخل في ذلك، لما جاء في الحديث عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا عليّ رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شرك .
والرقى المشروعة هي التي توفرت فيها شروط ثلاثة:
ـ أن تكون بكلام الله، أو بأسمائه وصفاته.
ـ أن تكون باللسان العربي وبمعان معروفة.
ـ أن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بتقدير الله عز وجل.
أما التمائم: فهي جمع تميمة وهي: ما يعلق عادة على الصبيان من خرز أو عظام أو جلد، أو نحو ذلك لاعتقاد دفع العين عنهم، وقد نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فيها من شرك، أو ذريعة إليه .
وأما التولة: بكسر التاء وفتح الواو فهي ما يضع بزعم أنه يحبب المرأة إلى زوجها، كما فسر ذلك ابن مسعود رضي الله عنه قالوا: يا ابا عبد الرحمن هذه الرقى والتمائم قد عرفناها، فما التولة؟ قال: شيء تضعه النساء يتحببن إلى أزواجهن ، وكانت المرأة تجلب به محبة زوجها وهو ضرب من السحر . وهذه الأحاديث وغيرها التي تنهى عن هذه الأمور، التي فيها توكل على غير الله تعالى، واعتقاد جلب نفع، أو دفع ضرّ من دونه عز وجل، والله تعالى يقول:" وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ " (يونس ، آية : 107).
فقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على حماية التوحيد من مثل الأمور التي قد يتساهل فيها المرء مع خطورتها، فمن تعلق وأنزل حوائجه به والتجأ إليه، وفوض أمره إليه، كفاه وقرب إليه كل بعيد، ويسّر له كل عسير، ومن تعلق بغيره أو سكن على رايه وعقله ودوائه وتمائمه ونحو ذلك وكله لله إلى ذلك وخذ له وهذا معروف بالنصوص والتجارب قال تعالى:" وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ " (الطلاق ،  آية : 3) .
4ـ الاستسقاء بالأنواء: ومعناه نسبة السقيا ونزول المطر إلى الأنواء والأنواء: جمع نوء، وهي منازل القمر . وقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبين لأمته ما كان عليه أهل الجاهليه من شرك وضلال وأمرهم بالحذر من ذلك والبعد عنه، وأهم ذلك وأعظمه ما كان متعلقاً بأمور الاعتقاد ومن ذلك ما كان شائعاً في الجاهلية من نسبة نزول المطر إلى النجوم ومطالعها ومغاربها، وبين عليه الصلاة والسلام ما في ذلك من الشرك المنافي للتوحيد، كما جاء في حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أربع من أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة .
وعن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي، كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب .
وهذا الحديث القدسي العظيم يخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل أن من الناس من ينسب نعمه سبحانه وتعالى إلى غيره ويضيف أفعاله إلى سواه، وهو تعالى المنعم وحده الذي يجب أن تنسب إليه وحده جميع النعم، جل شأنه، فهو المتفرد بالرزق، المستحق أن تنسب إليه النعم ويفرد بالشكر عليها وحده لا شريك له .
وهذا البيان من رسول الله صلى الله حماية منه لجناب التوحيد وحرصاً على أمته من الشرك وقد نزل القرآن الكريم على رسول الله وبين أن الله سبحانه هو ينزل الأمطار في آيات محكمات قال تعالى:" اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ* فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (الروم ، آية :48ـ50).
قال تعالى:" خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ* هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ " (لقمان ، آية : 10، 11).
وقد نزل القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين الحكمة من خلق النجوم قال تعالى:" وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ " (الملك ، آية :5).
فهذه ثلاث حكم جعلها الله سبحانه وتعالى في خلق النجوم فهي زينة للسماء ورجوم. ترجم بها الشياطين عند استراقهم السمع ووسيلة للإهتداء في ظلمات البر والبحر .
5ـ السحر: رقى وعزائم وعقد يفعلها السحرة تؤثر في القلوب وفي الأبدان بمرض أو قتل أو تفريق بين المرء وزوجه، وغير ذلك، كما أخبر الله عن ذلك في كتابه الكريم، فقال:" فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ" (البقرة،آية:102)، ويقع ضرره بمشيئة الله عز وجل " وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ " (البقرة ، آية :102).
والسحر حقيقه، وقد أمر الله بالإستعادة من أهله إذ يقول عز وجل:" قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ* مِن شَرِّ مَا خَلَقَ* وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ* وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ* وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ " (الفلق) والنفاثات: هن السواحر وبين سبحانه أن السحر كفر بالله تعالى:" وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ " (البقرة ، آية :102).
قال أبو بكر ابن العربي: وما كفر سليمان قط ولا سحر ولكن الشياطين كفروا بسحرهم، وأنهم يعلمون الناس، ومعتقد السحر كافر، وقائله كفر، ومعلمه كافر، ويعلمون الناس ما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما كان الملكان يعلمان أحداً حتى يقولا:" إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ " (البقرة ، آية :102).
وقد ذم الله عز وجل السحر وأهله في كتابه الكريم، وبين بطلان عملهم، وأنهم لا خلاف في الآخرة وجاء ذلك في آيات كثيرة من كتابه منها.
ــ قوله عز وجل:" وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ " (البقرة ، آية :102).
وقوله تعالى:" فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ " (يونس ، آية :81).
وقوله تبارك وتعالى:" إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى " (طه ، آية :69).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات .
6ـ الكهانة: تضافرت الآيات والأحاديث الصحيحة بالنهي عن إتيان الكهان وتصديقهم فيما يقولون، وتحريم ما يعطون من حلوان .
ـ قال تعالى:" هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِين*ُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ* يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ " (الشعراء ، آيات :221ـ223)
ـ قال صلى الله عليه وسلم: من أتى عرافاً فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة.
ـ وعن ابن مسعود قال: نهى رسول الله عن ثمن الكلب، ومهر البغي وحلوان الكاهن.
7ـ الشفاعة: بين الرسول صلى الله عليه وسلم الصراط المستقيم الذي يصلهم بربهم دون شفعاء ولا وسائط وهو طريق التوحيد الخالص لله عز وجل وإفراده سبحانه بالعبادة دون ما سواه، أما الشفاعة المثبتة التي أثبتها القرآن الكريم وبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلها شرطان:
أ ـ الإذن من الله تعالى للشافع قال تعالى: " مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ " "البقرة ،  آية : 255"
ب ـ الرضا عن المشفوع له قال تعالى: " وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى " "الأنبياء ، آية : 28"
وهذه الشفاعة خص الله تعالى بها أهل توحيده وعبادته تفضلاً منه وكرماً، فهذه خاصة بهم لأنهم لم يتخذوا من دون الله ولياً ولا شفيعاً وقد رضي الله قولهم وعملهم، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أسعد الناس بشفاعتك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه.
وأول الشافعين رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام الموحدين وخاتم المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين والذي اختصه الله تعالى وأكرمه بشفاعات عظيمة في ذلك اليوم تفضلاً وتكريماً منه سبحانه لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ورحمة بأمته عليه الصلاة والسلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكل نبي دعوة مستجابة، وأني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً.
فله عليه الصلاة والسلام الشفاعة العظمى يوم القيامة والتي يتخلى عنها أولو العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهي كما بين لأهل التوحيد من أمته وهو الذي يشفع في دخول المؤمنين الجنة، وفي إخراج عصاة الموحدين من النار، والشفاعة إنما تكون وتنفع أهل التوحيد، أما غيرهم فهم كما قال عز وجل " فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ "  (المدثر ، آية : 48)
ـ وقال تعالى: " أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ " "الزمر ، آية : 44"
ـ وقال تعالى " وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْض سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون" 0يونس ، آية : 18). 
المبحث السادس
الإيمان

أولا: الإيمان لغة وشرعاً وزيادة ونقصاناً:
الإيمان لغة: التصديق، قال تعالى حكاية عن إخوة يوسف مع أبيهم " قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ " (يوسف ، آية : 17) أي: بمصدق لنا.
وشرعاً: هو نطق اللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية .
ومن الأدلة من الكتاب والسنة على زيادة الإيمان ونقصانه:
ـ قوله تعالى:" لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا" (المدثر ، آية : 31).
ـ وقوله تعالى: " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" (الأنفال ، آية : 2".
ـ قال تعالى: " وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا" (مريم ، آية : 76).
ـ وقال تعالى: " وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا" (الأحزاب ، آية : 22).
وعن جندب بن عبد الله قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياة شعبة من الإيمان .
ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب  نهبة يرفع الناس إليها فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن . والقول الصحيح الذي قاله المحققون في شرح هذا الحديث أن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان .
والطاعات والأعمال الصالحة داخلة في الإيمان، ومن الأدلة على ذلك:
ـ قوله تعالى: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (التوبة ، آية : 71).
وقد أطلق القرآن الكريم لفظ الإيمان على العمل في بعض الآيات ومن ذلك:
ـ قوله تعالى: "وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" (البقرة ، آية : 143)، والإيمان هنا يراد به الصلاة، وقد ذهب جمهور المفسرين إلى هذا، بل إن الصحابة فهموا هذا، وتضافرت الروايات عنهم في سبب نزول الآية .
ـ ومن هذه الآيات قوله تعالى: "لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" (البقرة، آية : 177)، فالآية اعتبرت هذه الخصال تصديقاً وإيماناً، وجعلت أعمال البر هذه من الإيمان، ووجه الدلالة من الآية ما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث روى عبد الرزاق في مصنفه وغيره عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فتلى عليه هذه الآية (ليس البر...الخ)) والحديث رجاله ثقات .

ثانياًً: الإسلام والإيمان والإحسان:
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت، قال: فعجبنا له ليسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟، قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك... إلى أن قال يا عمر أتدري من السائل؟ قلت الله ورسوله أعلم. قال: أنه جبريل، أتاكم يعلمكم دينكم .
فجعل الدين هو الإسلام والإيمان والإحسان، فتبين أن ديننا يجمع الثلاثة، لكن هو درجات ثلاث مسلم، ثم مؤمن، ثم محسن، والمراد بالإيمان ما ذكر مع الإسلام قطعاً، كما أنه يريد بالإحسان مع الإيمان والإسلام، لا أن الإحسان يكون مجرداً عن الإيمان . وهذا كما قال الله تعالى: "ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَالْفَضْلُ الْكَبِيرُ" (فاطر ، آية : 32).
والمقتصد والسابق كلاهما يدخل الجنة بلا عقوبة، بخلاف الظالم لنفسه، فإنه معرض للوعيد، وهكذا من أتى بالإسلام الظاهر مع التصديق بالقلب، لكن لم يقم بما يجب عليه من الإيمان الباطن، فإنه معرض للوعيد، فأما الإحسان وهو أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أهله، والإيمان أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أهله من الإسلام، فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان فيه الإسلام، والمحسنون أخص من المؤمنين والمؤمنون أخص من المسلمين .

ثالثاً: أصل الإيمان:
أصل الإيمان، به يدخل العبد في الإسلام، وبه يكون اعتبار سائر الأعمال، وبصلاح ما في القلب أو فساده يكون صلاح الأعمال أو فسادها، قال صلى الله عليه وسلم: ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ، فأصل الإيمان في القلب وهو قول القلب وعمله وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد، فالتصديق هو قول القلب، وهو المعرفة والاثبات لما دلت عليه الشهادتان. والحب: عمل القلب نحو المشهود لهما، وهو الله تبارك وتعالى في شهادة أن لا إله إلا الله ومحمد بن عبد الله في شهادة أن محمداً رسول الله، فيحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ودينه. والانقياد: عمل القلب أيضاً، وهو القبول، وعقد العزم على الامتثال لما دلت عليه الشهادتان ، وينعقد أصل الإيمان بثلاثة أمور:
1ـ النطق بالشهادتين.
2ـ قول القلب وهو العلم والتصديق بمعانهما، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق في كل ما أخبر به عن الله.
3ـ عمل القلب، وهو قبول التوحيد والبراءة من ضده، والمحبة لله ولرسوله ولدينه والعزم على الانقياد لهما فإذا جاء العبد بأصل الإيمان فهو مأمور مكلف بتكميل إيمانه، ليس له أمن في الحياة الدنيا ولا في الآخرة إلا بذلك، فإذا اجتنب العبد الطاعات، واجتنب المحرمات، فقد استكمل عرى الإيمان الواجب وأصبح في مرتبة المقتصد .
وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي: أن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً، فمن استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان .

رابعاً: الأسس التي يقوم عليها الإيمان بالله عز وجل:
يقوم الإيمان بالله عز وجل على أسس من أهمها:
1ـ الكفر بالطاغوت: فُسر الطاغوت بالشيطان، والساحر والكاهن، والأصنام ، وهذا تفسير له ببعض أفراده، وإلا فالطاغوت يطلق على كل من طغى وتجاوز حده وأدّعى حقاً من حقوق الله التي تفرد بها .
قال تعالى:" فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " (البقرة ، آية : 256).
قال تعالى:" وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ" (الزمر ، آية : 17). وفي ذلك إشارة إلى أن التطهير مقدم على التزكية وأن تخليص القلب من أدرانه ونجاسته المتمثلة بالمعتقدات الباطلة وما يترتب عليها من محبة الطواغيت أو التعلق بهم واجب لحلول الإيمان بالقلب .
2ـ الإيمان بالغيب: قال تعالى:" الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ " (البقرة ، آية : 1ـ 3).
والغيب هو كل ما غاب عنك وفي قوله:"الذين يؤمنون بالغيب" أي: آمنوا بالله وملائكته ورسله، واليوم الآخر، وجنته، وناره ولقائه، وأمنوا بالحياة بعد الموت ، وقد جمع الرسول صلى الله عليه وسلم أصول الامور الغيبية بتعريفه للإيمان في حديث جبريل عليه السلام ـ حيث قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره
3ـ امتثال الأوامر واجتناب النواهي: قال تعالى:" وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " (الذاريات ، آية : 56)، ففي هذه الآية بيان للحكمة التي خلق الله من أجلها الناس وهي أن يكلفهم بعبادته، بالامتثال لأوامره والانتهاء عن نواهيه، وقال تعالى:" يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ" (البقرة ، آية : 208) والسلم: هو الإسلام والمراد بكافة: أي جميع شرائع الإسلام، ففي الأية يدعو الله المؤمنين إلى الأخذ بجميع شرائع الإسلام، وإقامة جميع احكامه، وحدوده، دون تضييع بعضه والعمل ببعضه .
4ـ الإخلاص لله في العبادة: قال تعالى:" إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا " (الإنسان ، آية : 9).
وقال تعالى:" هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ" (غافر ، آية : 65).
وقال تعالى:" أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ " (الزمر ، آية : 3).
فالإخلاص شرط في صحة العبادة وأساس مهم من أسس الإيمان بدونه لا يدخل العبد في ولاية الله، ولا يقبل منه عمل ولا يتحصل على ثمرات الإيمان وكراماته التي وعد بها عباده المؤمنين .
5ـ صدق المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم: قال تعالى:" لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا " (الأحزاب ، آية : 21)، هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله .
قال تعالى:" فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا " (الكهف ، آية : 110).
وهذان ركنا العمل المتقبل لابد أن يكون صواباً خالصاً فالصواب: أن يكون على السنة وإليه الإشارة بقوله:"فليعمل عملاً صالحاً" والخالص: أن يخلص من الشرك الجلي، والخفي، وإليه الإشارة بقوله:" ولا يشرك بعبادة ربه أحداً" .
6ـ العلم: قال تعالى:" وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ" (الأنعام ، آية : 55). فالعلم أساس هام في الإيمان بالله وركن بارز في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:" قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " (يوسف ، آية : 108)، فدلت آية سورة يوسف على أن طريق النبي صلى الله عليه وسلم يقوم على ثلاثة أمور:
ـ التوحيد الخالص: القائم على فعل الطاعات واجتناب المحرمات مع الإخلاص لله في ذلك.
ـ الدعوة إلى التوحيد.
ـ العلم والبصيرة في ذلك كله .
وقد بين سبحانه أن التعليم من أخص وظائف النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أخرج به المسلمين من الضلال المبين، فقال سبحانه:" هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ " (الجمعة ، آية : 2).
فيجب علينا أن نعلم أهم المسائل والتي هي:
ـ العلم، وهو معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة.
ـ العمل به.
ـ الدعوة إليه.
ـ الصبر على الأذى فيه.
والدليل قول الله تعالى:" وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ" (العصر ، آية : 1ـ 3).
إن العمل الصالح يقوم على الإيمان، والإيمان يقوم على التوحيد.
والإيمان الذي يريده الله هو الإيمان الحي الفاعل، هو الإيمان المؤثر النامي، هو الإيمان القائد الموجه... الإيمان الذي ينفع صاحبه هو الإيمان الذي يغرس في قلبه فينمو ويزدهر وينير ويضيء ويزين هذا القلب بزينته ويملؤه في كل جوانبه وزواياه الإيمان الذي يمد أغصانه وفروعه على كيان هذا المؤمن ووجوده ويلقى ظلاله على حياته وواقعه ويعطى ثماره له في ليله ونهاره، الإيمان الذي عاشه المؤمنون الصادقون العاملون من الأنبياء والأولياء الصالحين هو الذي تنتج عنه الأعمال، ويضبط به السلوك، ويصلح به الواقع، وتستقيم به الحياة، الإيمان المعبر هو الذي يبعث على الهمة والنشاط والسعي، والجهد والمجاهدة والجهاد والتربية، والإستعلاء والعزة والثبات واليقين .
خامساً: شرح بعض الآيات القرآنية التي تحدثت عن الإيمان:
1ـ زينة الإيمان: قال تعالى:" وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ " (الحجر ، آية :7)، لما كانت المعاصي بعضها كفر، وبعضها ليس بكفر، فرق بينها فجعلها ثلاثة أنواع منها كفر، ونوع منها فسوق وليس بكفر، ونوع عصيان وليس بكفر ولا فسوق وأخبر أنه كرهها كلها إلى المؤمنين، ولما كانت الطاعات كلها داخلة في الإيمان، وليس فيها شيء خارج عنه ألم يفرق بينها، فيقول: حبب إليكم الإيمان والفرائض وسائر الطاعات، بل أجمل ذلك فقال:" حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ " فدخل في ذلك جميع الطاعات .
2ـ نور الإيمان: قال تعالى:" اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ الله" (النور ، آية :35).
وقد فسر قوله تعالى:" اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" بكونه منوّر السموات والأرض، وهادي أهل السموات والأرض، فبنوره اهتدى أهل السموات والأرض، وهذا إنما هو فعله وإلا فالنور هو من أوصافه قائم به ومنه اشتق اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى والنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين: إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة مفعول إلى فاعله .
وفي قوله تعالى:"مثل نوره" وهي أن أصل الإيمان يكون من الله عندما يشرح صدر عبده المؤمن للإسلام ويجعل له نوراً فيبدأ به النور والحياة وقد شبه العلم المستفاد من الوحي الواصل للقلب بالزيت الجيد، فاستدامة النور وقوته وسلامته وتنامي حياة القلب إنما تكون بالعلم بالكتاب والسنة والعمل به، فهي غذاؤه ومادة حياته .
ـ إن ضياء النار يحتاج في دوامه إلى مادة تحمله، وتلك المادة للضياء بمنزلة غذاء الحيوان فكذلك نور الإيمان يحتاج إلى مادة من العلم النافع والعمل الصالح يقوم بها ويدوم بدوامها، فإذا ذهبت مادة الإيمان طفئ كما تطفأ النار بفراغ مادتها .
ـ إن المثل دل على أن الإيمان يزيد وينقص يزيد بزيادة العلم الواصل للقلب المستفاد من نور الكتاب والسنة كما ينقص بنقصه ومأخذ ذلك من المثل هو تشبيه العلم الذي يمد القلب بالمعارف والحقائق الإيمانية بالزيت الذي يمد المصباح بالوقود وكون المصباح يزيد ضوؤه ويصفو بزيادة الزيت وجودته والمؤمنون يتفاوتون بقوة النور الكائن في قلوبهم بحسب ما عندهم من العلم والإيمان وأكمل المؤمنين نوراً هو النبي صلى الله عليه وسلم لكمال علمه وإيمانه.
ـ إن المثل دل على أن النور الذي يجعله الله في قلوب المؤمنين نور حقيقي، ومأخذ ذلك هو تشبيه ذلك النور الذي يعلم معناه ولا تعتقل كيفيته بنور المصباح المحسوس فالتشبيه بالمحسوس يؤكد وجوده وحقيقته .
ـ هناك تشابه بين الفطرة والفتيلة، من حيث إن كلا منهما في أصل خلقه وصنعه مهيأ لإستدعاء وتشرب ما يناسبه، فالفتيلة تتشرب الوقود المناسب وتمتصه وتتبلل به وتصبح مهيأة به للإشتغال إذا أوقدت وكذلك الفطرة على الدين الحنيف التي فطر الله قلوب العباد عليها مهيأة لإستدعاء ما يناسب ما فُطرت عليه من التوحيد والدين والحق، فإذا تشربت ما يرد إليها من ذلك من العلم بالكتاب والسنة، فإنها تكون مهيأة لإيقاد مصباح القلب وقذف نور الإيمان به قال تعالى:" فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ" (الروم ، آية :30).
فالله عز وجل فطر كل الناس على معرفته وتوحيده ومحبته وجبل نفوسهم على استدعاء وقبول ما يناسب ذلك من الدين والإسلام والفطرة تزكى بالعلم المستمد من الكتاب والسنة وتطهيرها من مكايد شياطين الإنس والجن الذين يجتهدون في إفسادها .
ـ إن المثل دل على أثر نور العلم والإيمان على العقل حيث أكسبه سلامة التعقل، وسداد النظر، وصحة الإستنتاج وأن الطريق إلى الحق في كل المطالب الدينية إنما يكون بإعمال العقل المستنير بالوحي النازل على الرسول صلى اله عليه وسلم لإستخلاص الحقائق والمعارف اليقينية وغيرها، وأن العقل المجرد عن العلم لا سبيل له إلى تلك الحقائق، كما دل المثل على أن النور سطع وأشرق على كل أعمال القلب ووظائفه الأخرى من العقائد، والعواطف، والإرادات، والإنفاعلات، فأخصبها بالخير والسلامة والصلاح .
ـ في قوله"نور على نور" دل على أن نور القرآن والسنة والعلم المستفاد منهما يغذي نور الإيمان، ويزيده ويقويه وفي قوله:"ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور" دليل على أن النورين من الله، نور الإيمان الذي يقذف في القلب ونور العلم الذي طريقه الوحي، فمن هُدى إلى الأول واهتدى بالثاني فقد أعطاه الله نوراً تاماً ومن أخطأه الله فليس له من نور بل هو في طريق من طرق الضلال سائر في الظلّمات .
3ـ روح الإيمان: قال تعالى:" وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (الشورى ، آية :52). فسمى وحيه روحاً لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح التي هي الحياة في الحقيقة ومن عدمها فهو ميت لا حي.. وسماه نوراً لما يحصل به من استنارة القلوب وإضاءتها وكمال الروح بهاتين الصفتين بالحياة والنور، ولا سبيل إليهما إلا على أيدي الرسل صلوات الله وسلامه عليهم والإهتداء بما بعثوا به، وتلقي العلم النافع والعمل الصالح من مشكاتهم وإلا فالروح ميتة مظلمة وإن كان العبد مشاراً إليه بالزهد والفقه والفضيلة والكلام في البحوث، فإن الحياة والإستنارة بالروح الذي أوحاه الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وجعله نوراً يهدى به من يشاء من عباده فليس العلم كثرة النقل والبحث والكلام ولكن نور يميز به صحيح الأقوال من سقيمها وحقها من باطلها، وما هو من مشكاة النبوة مما هو من آراء الرجال .
سادساً: أسباب قوة الإيمان: هذا الفصل عظيم النفع والحاجة، بل الضرورة ماسة إلى معرفته والعناية به، معرفة واتصافاً ـ وذلك: أن الإيمان هو كمال العبد، وبه ترتفع درجاته في الدنيا والآخرة وهو السبب والطريق لكل خير عاجل وآجل، ولا يحصل، ولا يقوى، ولا يتم إلا بمعرفة ما منه يستمد وإلى ينبوعه وأسبابه وطرقه والله تعالى قد جعل لكل مطلوب سبباً وطريقاً يوصل إليه، والإيمان أعظم المطالب وأهمها وأعمها، وقد جعل الله له مواد كبيرة تجلبه وتقويه، كما كان له أسباب تضعفه وتهويه ومواده التي تجلبه وتقويه أمران: مجمل ومفصل:
أما المجمل فهو: التدبر لآيات الله المتلوة: من الكتاب والسنة، والتأمل لآياته الكونية على اختلاف أنواعها، والحرص على معرفة الحق الذي خلق له العبد، والعمل بالحق، فجميع الأسباب مرجعها إلى هذا الأصل العظيم ، وأما التفصيل: فالإيمان يحصل ويقوى بأمور كثيرة، منها:
1ـ معرفة أسماء الله الحسنى الواردة في الكتاب والسنة والحرص على فهم معانيها والتعبد لله بها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لله تسعة وتسعين اسماً ـ مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة. أي من حفظها وفهم معانيها واعتقدها وتعبَّد الله بها دخل الجنة، والجنة لا يدخلها إلا المؤمنون، فعلم أن ذلك أعظم ينبوع ومادة لحصول الإيمان وقوته وثباته، ومعرفة الأسماء الحسنى هي أصل الإيمان والإيمان يرجع إليها، فكلما إزداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته إزداد إيمانه، وقوى يقينه، فينبغي للمؤمن: أن يبذل مقدوره ومستطاعه في معرفة الأسماء والصفات، وتكون هذه المعرفة متلقاه من الكتاب والسنة وما روى عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فهذه المعرفة النافعة تجعل المؤمن في زيادة في إيمانه وقوة يقينه وطمأنية في أحواله .
2ـ تدبر القرآن على وجه العموم: فإن المتدبر لا يزال يستفيد من علوم القرآن ومعارفه، ما يزداد به إيماناً، كما قال تعالى:" وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ " (الأنفال ، آية :2)، وهو العلاج الناجح لأمراض القلوب قال تعالى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ " (يونس ، آية :57)، أنه موعظة من الله وهل هناك أبلغ من الموعظة الربانية؟ وأيسر منها؟ وأكثر نفاذا إلى القلب والضمير؟ ففيه الشفاء لأمراض الشبهات والشهوات وأمراض الهوى والإنحراف وأمراض الشك والشرك  وأمراض القلوب والنفوس والجوارح والحواس وأمراض السياسة والإقتصاد والأخلاق والإجتماع والحياة والحضارة ، قال تعالى:" وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ " (الإسراء ، آية :82).
فهو غذاء للروح، وعلاج يشفي النفوس من عللَّها ويكسبها المناعة القوية ، ومن ثمرات تدبر القرآن: أنه وسيلة لمعرفة ما يريد الله منا، وكيفية عبادته تبارك وتعالى، ومعرفة ما أنزل الله إليها، لأن القرآن الكريم منهج حياة أنزله الله عز وجل وهو أساس التشريع الذي يجب على العباد أن يتدبروه، ويلتزموا بأوامره، ويجتنبوا نواهيه ليحققوا عبادة الله تعالى .
وإذا نظر إلى انتظام القرآن الكريم وإحكامه، وأنه يصدق بعضه بعضاً، ويوافق بعضه بعضاً، ليس فيه تناقض ولا اختلاف: تيقن أنه" لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ" (فصلت ، آية :42) وأنه لو كان من عند غير الله، لوجد فيه، من التناقض والاختلاف أمور كثيرة قال تعالى:" أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا" (فصلت ، آية :82)، وهذا من أعظم مقويات الإيمان، ويقويه من وجوه كثيرة فالمؤمن بمجرد ما يتلو آيات الله، ويعرف ما ركب عليه من الأخبار الصادقة والأحكام الحسنة، يحصل له من أمور الإيمان خير كبير، فكيف إذا أحسن تأمله وفهم مقاصده وأسراره؟ ولهذا كان المؤمنون الكمل يقولون" رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا" (آل عمران ، آية :193).
3ـ معرفة النبي صلى الله عليه وسلم: وما هو عليه من الأخلاق العالية والأوصاف الكاملة، فإن من عرفه حق المعرفة لم يرتب في صدقه، وصدق ما جاء به، قال تعالى:" أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ" أي: فمعرفته صلى الله عليه وسلم توجب للعبد المبادرة إلى الإيمان ممن لم يؤمن وزيادة الإيمان ممن آمن به وقال تعالى مشجعاً لهم على تدبر أحوال الرسول الداعية للإيمان:" قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ" (سبأ ، آية :46) وأقسم تعالى بكمال هذا الرسول، وعظمة أخلاقه وأنه أكمل مخلوق قال تعالى:" ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ* مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ* وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ* وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم"(القلم ، آية :1ـ4) فهو صلى الله عليه وسلم، أكبر داع للإيمان في أوصافه الحميدة، وشمائله الجميلة، وأقواله الصادقة النافعة، وأفعاله الرشيدة، فهو الإمام الأعظم والقدوة الأكمل وقد ذكر الله عن أولى الألباب الذين هم خواص الخلق أنهم قالوا" رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا " وهو: هذا الرسول الكريم"ينادي للإيمان" بقوله وخلقه، وعمله ودينه وجميع أحواله" أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا" (آل عمران ، آية :193) أي: إيماناً لا يدخله ريب ولما كان هذا الإيمان من أعظم ما يقرب العبد إلى الله، ومن أعظم الوسائل التي يحبها الله ـ توسلوا بإيمناهم: أن يكفر عنهم السيئات وينيلهم المطالب العاليات فقالوا:" رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ" (آل عمران). ولهذا كان الرجل المنصف الذي ليس له إرادة إلا أتباع الحق مجرد ما يراه ويسمع كلامه، يبادر إلى الإيمان به صلى الله عليه وسلم، ولا يرتاب في رسالته، بل كثير منهم مجرد مايرى وجهه الكريم، يعرف، أنه ليس وجه كذاب .
4ـ التفكر في الكون والنظر في الأنفس: إن التفكر في الكون وفي خلق السموات والأرض وما فيهن، من المخلوقات المتنوعة والنظر في الإنسان وما هو عليه من الصفات يقوى الإيمان لما في الإنسان وما هو عليه من الصفات يقوى الإيمان لما في هذه الموجودات، من عظمة الخلق الدّال على قدرة خالقها وعظمته، وما فيها من الحسن والإنتظام والإحكام الذي يحير الألباب، الدال على سعة علم الله، وشمول حكمته، وما فيها، من أصناف المنافع والنعم الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى الدالة على سعة رحمة الله، وجوده وبره وذلك كله يدعو إلى تعظيم مبدعها وبارئها وشكره واللهج بذكره، وإخلاص الدين له وهذا هو روح الإيمان وسره ، وكذلك النظر إلى فقر المخلوقات كلها واضطرارها إلى ربها من كل الوجوه وأنها لاتستغني عنه طرفة عين خصوصاً ما تشاهده في نفسك، من أدلة الأفتقار وقوة الأضطرار، وذلك يوجب للعبد كمال الخضوع، وكثرة الدعاء والتضرع إلى الله، في جلب ما يحتاجه من منافع في دينه ودنياه، ويوجب له قوة التوكل على ربه وكمال الثقة بوعده، وشدة الطمع في بره وإحسانه وبهذا يتحقق الإيمان ويقوى التعبد، فإن الدعاء مخ العبادة وخالصها ، وكذلك التفكر في كثرة نعم الله وآلائه العامة والخاصة، التي لا يخلو منها مخلوق طرفة عين، فإن هذا يدعو إلى الإيمان .
قال تعالى:" إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (آل عمران ، آية :190ـ191).
5ـ الإكثار من ذكر الله في كل وقت: ومن الدعاء الذي هو مخ العبادة، فإن الذكر لله يغرس شجرة الإيمان في القلب، ويغذيها وينميها، وكلما ازداد العبد ذكراً لله، قوي إيمانه كما أن الإيمان يدعو إلى كثرة الذكر، فمن أحب الله أكثر من ذكره، ومحبة الله هي، الإيمان، بل هي روحه وللذكر آثار نافعة في حياة المسلمين الدنيوية والأخروية منها.
أـ الحياة الطيبة الحقيقية:  فالحياة هي حياة الروح المتغذية بالوحي الإلهي، المتعلق قلب صاحبها بذكر الله وهي التي وصفها الله بالحياة الطيبة بقوله سبحانه:" مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" (النحل ، آية :97)، وبقوله أيضاً:" وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ " (هود ، آية :3). فذكر الله تعالى ومحبته وطاعته والإقبال عليه ضامن لأطيب الحياة في الدنيا والآخرة، والإعراض عنه ومعصيته كفيل بالحياة المنغصة والمعيشة الضنك في الدنيا والآخرة ، قال تعالى:" وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" (طه ، آية :124)، وعلى هذا فحياة الروح والقلب هذه، لا يحياها ولا يذوق طعمها إلا الذاكر لله سبحانه وتعالى، كما قال المصطفى: مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميتَ ، فما بين الذاكر والغافل هو ما بين الحي والميت وشتان ما بينهما ، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها حتى قال قائلهم: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها ولم يذوقوا أطيب ما فيها؟ قيل: ما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله تعالى، ومعرفته وذكره . فالذكر بين الغافلين هو كالحي بين الموتى حياة متكاملة في البدن والروح والشعور قال تعالى:" أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا" (الأنعام ، آية :122).
ب ـ القوة في الأبدان وأحياء المعاش والجهاد:
إن الذكر يعطي الذاكر قوة حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدونه ، وشاهد ذلك موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع ابنته فاطمة وعلي رضي الله عنهما، لما سألته خادماً وشكت إليه ما تقاسيه من الطحن والسعي والخدمة فعلمَّهما: أن يسبحا كل ليلة إذا أخذا مضاجعهما ثلاثاً وثلاثين، ويحمدا ثلاثاً وثلاثين، ويكبِّرا أربعاً وثلاثين، وقال لهما: فهذا خير لكما من خادم ، فقيل: إن من دوام على ذلك وجد قوة في يومه مغنية عن خادم .
ج ـ رقة القلب وخشوعه:
إن ذكر الله يوجب خشوع القلب وصلاحه ورقته ويذهب بالغفلة عنه قال تعالى:" الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الرعد ، آية :28)، وقال تعالى:" اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" (الزمر ، آية :23).
س ـ النجاة من عذاب الله:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما عمل آدمي عملاً قط، أنجى له من عذاب الله من ذكر الله ، وهذه نهاية الغايات وأعظم المطالب وهي أولى آثار الذكر وثماره، وأجل فوائده في المعاد .
رـ من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة:
ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه .
زـ تكثير الشهود يوم القيامة:
فكل معالم الأرض تأتي شاهدة للذاكرين يوم تحدث الأرض أخبارها، فالجبال والقفار تتباهى وتستبشر بمن يذكر الله عز وجل عليها، قال ابن مسعود: إن الجبل لينادي الجبل بإسمه، أمر بك اليوم أحد يذكر الله عز وجل؟ فإذا قال نعم استبشر .
6ـ معرفة محاسن الدين: من الأسباب المقوية للإيمان معرفة محاسن الدين، فإن الدين الإسلامي كله محاسن، عقائده أصح العقائد وأصدقها وأنفعها، وأخلاقه أحمد الأخلاق وأجملها، وأعماله وأحكامه أحسن الأحكام وأعدلها وبهذا النظر الجليل يزين الله الإيمان في قلب العبد، ويحببه إليه، كما امتن به على خيار خلقه بقوله:" وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ" (الحجرات ، آية :7)، فيكون الإيمان في القلب أعظم المحبوبات وأجمل الأشياء وبهذا يذوق العبد حلاوة الإيمان ويجدها في قلبه، فيتجمل الباطن بأصول الإيمان وحقائقه، وتتجمل الجوارح بأعمال الإيمان وفي الدعاء المأثور: اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداتاً مهتدين .
ومن النماذج الرفيعة في القدرة على عرض محاسن الإسلام على الآخرين ما قام به جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في عرض محاسن الإسلام على ملك الحبشة وكان ذلك سبباً في إسلامه وهدايته، فقد قال جعفر رضي الله عنه وكان هو المتكلم عن المسلمين: أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل منا القوي الضعيف فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيَئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فعدد عليه أمور الإسلام، فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من دين الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. فقال له النجاشي: وهل معك مما جاء به من الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم فقال له النجاشي: فأقرأه عليَّ، فقرأه عليه صدراً من"كَهيعَصَ" (سورة مريم). فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصافحهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: إن هذا ـ يقصد القرآن الكريم ـ والذي جاء به عيسى ـ يقصد الإنجيل ـ ليخرج من مشكاة واحدة. أي من مصدر وأحد أي من عند الله تعالى ـ انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يُكادون ـ يخاطب عمرو بن العاص وعبد الله بن ربيعة ـ مندوب قريش إلى النجاشي قالت أم سلمة رضي الله عنها: فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءوا به وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار ، ثم أسلم بعد ذلك النجاشي وحسن أسلامه وأسلم معه أساقفه وبطارقه وكثير من النصارى في تلك الديار .
كان رد جعفر على أسئلة النجاشي في غاية الذَّكاء وقمّة المهارة السياسية والإعلامية والدعوية والعقدية فقد قام بالتالي:
ـ عدد عيوب الجاهلية، وعرضها بصورة تنفر السامع، وقصد بذلك تشويه صورة قريش في عين الملك، وركز على الصفات الذميمة التي لا تنتزع إلا بنبوَّة.
ـ عرض شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا المجتمع الآسن، المليء بالرّذائل وكيف كان بعيداً عن النّقائض كلها ومعروفاً بنسبة وصدقة، وأمانته، وعفافه فهو المؤهل للرّسالة.
ـ أبرز جعفر محاسن الإسلام وأخلاقه، التي تتفق مع أخلاقيات دعوات الأنبياء، كنبذ عبادة الأوثان وصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدِّماء وإقامة الصلاة وإيتاء الزّكاة، وكون النجاشي وبطارقته موغلين في النصرانية، فهم يدركون، أن هذه رسالات الأنبياء، التي بعثو بها من لدن موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام .
لقد نجح جعفر رضي الله عنه بتوفيق الله في عرض محاسن الاسلام فأسلم الملك وكسبه إلى جانبه.
7ـ الإجتهاد في التحقق من مقام الإحسان: في عبادة الله والإحسان إلى خلقه، فيجتهد، أن يعبد الله كأنه يشاهده ويراه، فيجتهد في إكمال العمل واتقانه ولا يزال العبد يجاهد نفسه: ليتحقق بهذا المقام العالي، حتى يقوم إيمانه ويقينه ويصل في ذلك إلى حق اليقين ـ الذي هو أعلى مراتب اليقين، فيذوق حلاوة الطاعات، ويجد ثمرة المعاملات، وهذا هو الإيمان الكامل وكذلك الإحسان إلى الخلق ـ بالقول، والفعل والمال والجاه وأنواع المنافع، هو من الإيمان ومن دواعي الإيمان، والجزاء من جنس العمل، فكما أحسن إلى عباد الله وأوصل إليه من بره، أحسن الله إليه أنواعاً من الإحسان ومن أفضها: أن يقوي إيمانه ورغبته في فعل الخير، والتقرب إلى ربه وإخلاص العمل له وبذلك يتحقق العبد بالنصح لله، ولعباده، فإن الدين النصيحة، ومن وفق للإحسان في عبادة ربه، والإحسان في معاملة الخلق، فقد تحقق نصحه .
ـ قال تعالى: " إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى" (النحل ، آية : 90).
ـ وقال تعالى: " وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (آل عمران ، آية 134).
ـ وقال تعالى: " إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ" (الأعراف ، آية : 56).
ـ وقال تعالى: " وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" (هود ، آية : 115).
ـ وقال تعالى: " هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ" (الرحمن ، آية : 60).
ـ وقال تعالى: " إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ" (النحل ، آية : 128).
فالمحسنون يشعرون بمعية الله يا له من شعور عظيم يستحقه المحسنون .
8 ـ الدعوة إلى الله: ومن دواعي الإيمان وأسبابه، والدعوة إلى الله وإلى دينه والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، والدعوة إلى أصل الدين، والدعوة إلى إلتزام شرائعه، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن طريق الدعوة إلى الله والنصيحة لعباده، من أكبر مقومات الإيمان، وصاحب الدعوة لا بد أن يسعى بنصر هذه الدعوة، ويقيم الأدلة والبراهيم على تحقيقها، ويأتي بالأمور من أبوابها، ويتوسل إلى الأمور من طرقها، وهذه الأمور من طرق الإيمان وأبوابه، كما أن الجزاء من جنس العمل، فكما سعى إلى تكميل العباد ونصحهم وتوصيتهم بالحق، وصبر على ذلك لا بد أن يجازيه الله من جنس عمله، ويؤيده من نور منه وروح وقوة وإيمان وحسن التوكل عليه، فإن الإيمان وحسن التوكل على الله يحصل به النصر على الأعداء، وشياطين الإنس وشياطن الجن ، كما قال تعالى: " إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" (النحل ، آية : 99)، وقال تعالى: "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ" (فصلت ، آية : 33 ـ 35).
9ـ توطين النفس على مقاومة ما ينافي الإيمان: ومن أهم مواد الإيمان ومقوياته، توطين النفس على مقاومة ما ينافي الإيمان، من شعب الكفر والفسوق والعصيان، فإنه كما أنه لا بد في الإيمان من فعل جميع الأسباب المقوية المنمية له، فلا بد مع ذلك من دفع الموانع والعوائق، وهي الإقلاع عن المعاصي، والتوبة مما يقع منها، وحفظ الجوارح كلها من المحرمات، ومقاومة فتن الشبهات القادحة في علوم الإيمان المضعفة له والشهوات المضعفة لإرادات الإيمان ، فإن الإيرادات التي أصلها الرغبة في الخير ومحبته والسعي لا تترك إلا بترك إرادات ما ينافيها: من رغبة النفس في الشر ومقاومة النفس الإمارة بالسوء، فمتى حفظ العبد من الوقوع في فتن الشبهات وفتن الشهوات تم إيمانه وقوي يقينه وصار مثل بستان إيمانه، "كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" (البقرة ، آية ¨265)، ومتى كان الأمر بالعكس، بأن استولت عليه النفس الإمارة بالسوء، ووقع في فتن الشبهات أو الشهوات، أو كليهما انطبق عليه هذا المثل وهو قوله تعالى: "أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ" (البقرة ، آية : 266). فالعبد المؤمن الموفق لا يزال يسعى في أمرين:
ـ إحداهما: تحقيق أصول الإيمان وفروعه والتحقق بها علماً وحالاً.
ـ والثاني: السعي في دفع ما ينافيها وينقضها أو ينقصها: من الفتن الظاهرية والباطنية، ويروي ما قصر فيها من الأول وما تجرأ عليه من الثاني، بالتوبة النصوح، وتدارك الأمر قبل فواته، قال تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ" (الأعراف ، آية : 201)، أي: مبصرون الخلل الذي وقعوا فيه، والنقص الذي أصابهم من طائف الشيطان، الذي هو أعدى الأعداء للإنسان، فإذا أبصروا، تداركوا هذا الخلل بسده وهذا الفتق برتقه ، فعادوا إلى حالهم الكاملة وعاد عدوهم حسيراً ذليلاً وأخوان الشيطان، "يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ
لاَ يُقْصِرُونَ" (الأعراف ، آية : 202). الشياطين لا تقصر عن أغوائهم وإيقاعها في أشراك الهلاك، والمستجيبن لهم لا يقصرون عن طاعة أعدائهم، والاستجابة لدعوتهم حتى يقعوا في الهلاك، ويحق عليهم الخسار، ولذلك نكثر من الدعاء، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين بفضلك ومنتك أنك أنت العليم الحكيم .
10ـ معرفة حقيقة الدنيا واعتبارها ممر للآخرة: ومن موقيات الإيمان معرفة حقيقة الدنيا وأنها مهما طالت فهي إلى زوال، وإن متاعها مهما عظم، فإنه قليل حقير، قال تعالى: " إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (يونس ، آية : 24)، إن الآية الكريمة السابقة فيها عشر جمل وقع التركيب من مجموعها، بحيث لو سقط منها شئ اختل التشبيه، إذ المقصود تشبيه حال الدنيا بسرعة تقضيها وانقراض نعيمها، واغترار الناس بها، بحال ماء نزل من السماء، وأنبت أنواع العشب، وزين بزخرفه وجه الأرض كالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة، حتى إذا طمع أهلها فيها، وظنوا أنها مسلمة من الجوائح، أتاها بأس الله فجأة، فكأنها لم تكن بالأمس ، وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول الله تعالى: "وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا" (الكهف ، آية : 45) أي: واضرب يا محمد للناس ((مثل الحياة الدنيا)) في زوالها، وفنائها وانقضائها " كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ" أي: ما فيها من الحب، فشبَّ، ونما، وحسن وعلاه الزهر، والنضرة، ثم بعد هذا كله ((فأصبح هشيماً)) أي: يابساً ((تذروه الرياح)) أي: تفرِّقه، وتطرحه ذات اليمين وذات الشمال ((وكان الله على كل شئ مقتدراً)) أي: هو قادر على الإنشاء والإفناء .
قال تعالى: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" (الحديد ، آية : 20)، يقول تعالى مُوهِّنَاً أمر الحياة الدنيا، ومحقراً لها ((اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب)) أي: تفريج نفس ((ولهو)) أي: باطل ((وزينة)) أي: منظر جميل ((وتفاخر بينكم)) أي: بالحسب والنسب ((وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث)) أي: مطر ((أعجب الكفار)) أي: يعجب الزراع ذلك النبات فإنهم أحرص الناس عليه، وأميل الناس إليه ((ثم يهيج فتراه مصفراً)) أي: ثم يجف بعد خضرته، ونضرته، وتراه مصفراً، أي: من اليبس ((ثم يكون حطاماً)) أي: ثم يكون بعد ذلك كله حطاماً أي: هشيماً منكسراً، وكذلك الدنيا لا تبقى، كما لا يبقى النبات، الذي وصفناه، ولما كان هذا المثل دالاً على زوال الدنيا، وانقضائها لا محالة، وأن الآخرة كائنة وآتية لا محالة، حذرنا الله تعالى من أمرها، ورغبنا فيما فيها من الخير، فقال تعالى: " وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ" أي: وليس في الآخرة الآتية إلا: إما هذا وإما هذا، أي: إما عذاب شديد، وإما مغفرة من الله ورضوان، وقوله تعالى: "وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" أي: هي متاع زائل يغر، ويخدع من يركن إليها، وإلى متاعها، فيغتر بها، وتعجب من يعتقد: أنه لا دار سواها، ولا معاد ورائها، مع أنها حقيرة، قليلة المتاع بالنسبة إلى الدّار الآخرة .
إن هذه الحقيقة التي أشارت إليها الآيات الكريمة، هي حقيقة الدنيا بكل متاعها، وزينتها، وما تشتهيه النفس منها، وإنّ كلّ ذلك بالنسبة لنعيم الآخرة شيء تافه، وقليل وزائل، هكذا فهم المسلمون حقيقة الدنيا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبصرّهم ويذكرهم بدورهم، ورسالتهم في الأرض، ومكانتهم عند الله، وظل صلى الله عليه وسلم معهم على هذه الحال من التبصير والتذكير حتى انقدح في ذهنهم ما لهم عند الله وما دورهم وما رسالتهم في الأرض، وتأثراً بتربيته الحميدة تولد الحماس، والعزيمة في نفوس أصحابه، فانطلقوا عاملين بالليل والنهار بكلّ ما في وسعهم وما في طاقتهم دون فتور أو توان، ودون كسل، أو ملل ودون خوف من أحد إلا الله، ودون طمع في مغنم أو جاه إلا أداء هذا الدور، وهذه الرسالة، لتحقيق هذه العادة في الدنيا، والفوز والنجاة في الآخرة .

سابعاً: صفات المؤمنين: عرض القرآن الكريم كثيراً من صفات أهل الإيمان، وتحدثت آياته الكريمة عن أهمها وأشهرها ودعت المؤمنين إلى أن يتصفوا بها حتى يعيشوا حياة إيمانية مباركة سعيدة وحتى ينالوا جنة الله وثوابه ونعيمه ولقد كان حديث القرآن الكريم عن صفات المؤمنين شاملاً ومتنوعاً، وقد توزعت سور القرآن في الحديث عن صفات المؤمنين في الفترة المكية والمدنية وهذا يعطي أهمية لتذكير المسلمين بها حتى لا تنسى ولا تُهمل ولكي يتربى على هذه الصفات والأخلاق عموم المسلمين ، ولا يمكننا حصر صفات المؤمنين في القرآن الكريم ولكن نقدم مجموعة من الآيات الواردة في بعض السور والتي تضمنت مجموعة من الصفات اللازمة لأهل الإيمان.
1ـ سورة المؤمنين
ـ قال تعالى:" قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ* أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (المؤمنون ، آية : 1ـ 11)
فمن صفات هؤلاء المؤمنين في هذه الآيات الكريمة:
أـ الخشوع في الصلاة: قال صلى الله عليه وسلم: ما من امرئ تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب مالم يأت كبيرة وذلك الدهر كله .
والخشوع مطلوب على المرء في الصلاة لوجوه منها:
ـ لتذكر الله والخوف من وعيده كما قال عز وجل:" وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي" (طه ، آية : 14).
ـ إن الصلاة أركاناً وواجبات وسنناً وروحها النية والإخلاص والخشوع وحضور القلب، فإن الصلاة تشتمل على أذكار ومناجاة وأفعال، ومع عدم حضور القلب لا يحصل المقصود بالأذكار والمناجاة، لأن النطق إذا لم يعرب عما في الضمير كان بمنزلة الهذيان، وكذلك لا يحصل المقصود من الأفعال، لأنه إذا كان المقصود من القيام الخدمة، ومن الركوع والسجود الذل والتعظيم، ولو لم يكن القلب حاضراً لم يحصل المقصود، فإن الفعل متى خرج عن مقصوده بقي صورة لا اعتبار بها، قال تعالى:" لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ" (الحج ، آية : 37).
والمقصود أن الواصل إلى الله سبحانه وتعالى هو الوصف الذي استولى على القلب حتى حمل على امتثال الأوامر المطلوبة، فلابد من حضور القلب في الصلاة، ولكن سامح الشارع في غفلة تطرأ، لأن حضور القلب في أولها ينسحب حكمه على باقيها .
ب ـ الإعراض عن اللغو: واللغو كل كلام ساقط حقه أن يلغى، كالكذب والشتم والهزل يعني أن لهم من الجد ما شغلهم عن الهزل، ولما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه الوصف بالإعراض عن اللغو، ليجمع لهم الفعل والترك الشاقين على الأنفس، اللذين هما قاعدتا بناء التكليف . قال تعالى " وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ" أي: عن الباطل، وهو يشتمل عن الشرك، كما قاله بعضهم والمعاصي، كما قاله آخرون ـ وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال، كما قال تعالى:" وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا" (الفرقان ، آية : 72).
ج ـ تطهيرهم لأنفسهم بأداء الزكاة: قال تعالى:" وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ" (المؤمنون ، آية : 4)، قال صلى الله عليه وسلم: الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ـ أو تملآ ـ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها . قوله: والصدقة برهان" معناه: الصدقة حجة على إيمان فاعلها، فإن المنافق يمتنع منها لكونه لا يعتقده فمن تصدق استدل بصدقته على صدق إيمانه، فالمؤمنون في حياتهم الدنيا يصونون بالزكاة المجتمع من الخلل الذي ينشئه الفقر في جانب والترف في جانب، فهي تأمين اجتماعي للأفراد جميعاً وهي ضمان اجتماعي للعاجزين، وهي وقاية للجماعة كلها من التفكك والإنحلال .
ح ـ حفظ الفروج: قال تعالى:" وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلَّا عَلَى
أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ*  فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ والذين هم لفروجهم حافظون" (المؤمنون ، آية : 5ـ 7)، فالمؤمنون قوم يحبون العفة، ويحافظون على طهارتهم بمعناها الشامل وهذه طهارة الروح، ووقاية النفس والأسرة والمجتمع بحفظ الفروج من دنس المباشرة في غير حلال، وحفظ القلوب من التطلع في غير حلال، وحفظ المجتمع من انطلاق الشهوات فيه بغير حساب، ومن فساد البيوت فيها والانساب ، وحفظ الفرج يشمل تجنب إتيان الزوجة في الدبر وفي أثناء الحيض وفي أثناء الصيام والإحرام وحفظ الفرج يقتضي سد الذرائع، أي تجنب السبل التي تفضي إليه ولهذا أمر القرآن الكريم المسلمين بغض البصر وعدم إبداء الزينة، فذلك أزكى لهن وأطهر .
قال تعالى:" قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ* وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (النور ، آية: 30ـ 31). ولكي يمكّن الإسلام من الممارسة الفعلية لحفظ الفرج، والعفة، فإنه يراعي الإمور التالية:
ـ إن الإسلام لم يجعل الزواج أبديا كالمسيحية مثلاً، فأباح الطلاق إذا وقع النفور بين الزوجين، وعند عجز الزوج أو مرضه أو إعساره أو غيبته.
ـ أباح للزوج الطلاق، والتزوج بأكثر من واحدة على أن يعدل بينهن.
ـ أمر الذي لا يستطيع مؤن النكاح بالصوم، ليدفع شهوته، ويحفظ فرجه وعفته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه اغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء .
وبهذا فتحت الشريعة للمحصن كل أبواب الحلال، وأغلقت دونه باب الحرام . وفضلاً عن هذا فإن المجتمع الإسلامي الحقيقي يخالف المجتمعات القائمة جذرياً لصالح العفة، فنظمه وقوانينه تعاون الرجال والنساء على التعفف .
خ ـ رعاية الأمانة والعهد: قال تعالى: "وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ" (المؤمنون ، آية : 8)، أي: إذا اؤتمنوا لم يخونوا، يل يؤدونها إلى أهلها، وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك، لا كصفات المنافقين الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان" .
قال تعالى: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا" (النساء ، آية : 58).
عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي، ثم قال: "يا أبا ذر أنك ضعيف، وأنها أمانة وأنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها ". فسمى الرسول صلى الله عليه وسلم، الولاية في هذا الحديث أمانة، لأن تأدية حقها بالعدل، وعدم الاستغلال الشخصي فيها، واليقظة على مصالح الناس، كل ذلك لا يكون إلآ بخلق الأمانة ، ما روي عن أبي هريرة قال: بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم، يحدث إذا جاء إعرابي فقال: "متى الساعة؟ قال: إذ ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: كيف إضاعتها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا وسَّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ، وقال تعالى: "وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ" (البقرة ، آية : 283".
س ـ المحافظة على الصلوات: قال تعالى: "وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ" (المؤمنون ، آية : 9): الذين على أوقات صلاتهم يحافظون، فلا يضيعونها، ولا يشتغلون عنها حتى تفوتهم، ولكنهم يراعونها حتى يؤدونها  فيها. روي عن عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها. قال: قلت" ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قال: قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله. فما تركت استزيده إلا إرعاء عليه .
2 ـ سورة الفرقان:
قال تعالى: "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا * وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا" (الفرقان ، آية ، 63 ـ 76).
هذه صفات عباد الله المؤمنين في الحياة الدنيا، الذين استوجبوا المثوبة منه، وجازاهم على ذلك الجزاء العظيم فمن هذه الصفات:
أ ـ السكينة والوقار: قال تعالى: " وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ" "الفرقان ، آية : 63". أي: بالسكينة والوقار غير مستكبرين، ولا متجبرين، ولا ساعين فيها بالفساد ومعاصي الله . فالمؤمنون قوم لا يريدون في الأرض علواَ، ولا يبغون فيها كذلك فساداً قال تعالى: "تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا
لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" "القصص، آية: 83".
وفي بيان المعنى الصحيح للسكينة والوقار، ليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعاً ورياء، فقد كان سيد ولد آدم ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وكأنما الأرض تطوى له، وقد كره بعض السلف المشي بتضعف، وتصنع . وتبين أن المؤمنين في الحياة الدنيا يتميزون عن غيرهم بالسكينة والوقار والتواضع، وهم لا يستكبرون، ولا يتجبرون، ولا يسعون فيها بالفساد، ذلك لأن الكبر له خطورته البالغة على الحياة البشرية، فلا يبقى في حالة وجود الكبر إحترام لأحد، ولا هيبة لأحد، ولا حرمة لأحد، ولا أدب لأحد .
ج ـ الحلم: قال تعالى: " وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا" (الفرقان ، آية : 63): هم حلماء لا يجهلون، وإن جُهل عليهم حلموا ولا يسفهوا، هذا نهارهم، فكيف ليلهم؟ خير ليل، صفوا أقدامهم، وأجروا دموعهم على خدودهم يطلبون من الله جل ثناؤه فكاك رقابهم ، والحلم من الخصال المحمودة والتي يحبها الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأشبح عبد القيس: أن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة .
ح ـ إحياء الليل بالصلاة: من صفات عباد الله المؤمنين في الحياة الدنيا إحياؤهم الليل أو أكثره بالصلاة والطاعة، وقد ذكر الله سبحانه هذه الصفة للمؤمنين في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: " وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا" )الفرقان ، آية : 64).
ـ قال تعالى: " إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ" (السجدة ، آية : 15 ـ 16).
ـ وقوله سبحانه: " كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ" (الذاريات ، آية 17 ـ 18).
ـ وهم في صلاتهم وعبادتهم تمتلئ قلوبهم بالتقوى والخوف من عذاب جهنم، فهم يتوجهون إلى ربهم تضرعاً وخفية، ليصرف عنهم عذابها، قال تعالى:  وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا" (الفرقان ، آية : 65 ـ 66).
ـ قال تعالى : "إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا" (المزمل ، آية : 6).
فإن مغالبة هتاف النوم وجاذبية الفراش، بعد كد النهار، أشد وطأَ وأجهد للبدن ولكنها إعلان لسيطرة الروح، وإستجابة لدعوة الله وإيثار للإنس به، ومن ثم فإنها أقوم قيلاً، لأن للذكر فيها حلاوته وللصلاة فيها خشوعها، وللمناجاة فيها شفافيتها، وأنها لتكسب في القلب إنساً وراحة وشفافية ونوراً، قد لا يجدها في صلاة النهار وذكره، والله الذي خلق هذا القلب يعلم مداخله وأوتاره، ويعلم ما يتسرب إليه وما يوقع عليه، وأي الأوقات يكون فيها أكثر تفتحاً وإستعداداً وتهيؤاً، وأي الأسباب أعلق به وأشد تأثيراً فيه .
ر ـ القصد والاعتدال في الإنفاق: ومن صفات المؤمنين في الحياة الدنيا القصد والاعتدال والتوازن في الإنفاق وهم ليسوا بمبذرين في إنفاقهم، فلا ينفقون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم، فيقصرون في حقهم ولا يكفونهم، بل عدلاً خياراً، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا قال تعالى: "وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا" (الفرقان ، آية : 67).
ز ـ عدم الشرك بالله والتحرج عن قتل النفس والزنا: ومن صفات عباد الله المؤمنين في الحياة الدنيا أنهم لا يشركون بالله، بل يخلصون لله العبادة ويفردونه بالطاعة، ولا يقتلون النفس إلا بالحق الذي يزيل حرمتها وعصمتها، كالكفر بالله بعد إسلامها، أم الزنا بعد إحصانها، أو قتل النفس، وتقتل بها .
قال تعالى: "وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا" (الفرقان ، آية : 68 ـ 71).
س ـ عدم شهادة الزور: قال تعالى: "وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا" (الفرقان ، آية : 72)، وشهادة الزور من أكبر الكبائر، فقد صرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال لأصحابه: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ـ ثلاثاً ـ: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور ـ أو قول الزور ـ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت .
ش ـ الانتفاع بموعظة القرآن: قال تعالى: "وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا" (الفرقان ، آية : 73).
ك ـ الرغبة في مضاعفة السالكين في الدرب إلى الله: قال تعالى: "وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا" (الفرقان ، آية : 74).
سئل الحسن البصري عن هذه الآية، فقال: أن يري الله العبد المسلم من زوجته ومن أخيه ومن حميمه، طاعة الله، لا والله لا شئ أقر لعين المسلم من أن يرى ولداً أو ولد ولد أو أخاً أو حميماً مطيعاً لله عز وجل .
وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في قوله تعالى: "وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا" أئمة هدى يهتدى بنا ولا تجعلنا أئمة ضلالة، لأنه قال لأهل السعادة: "وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ" (الأنبياء ، آية : 73)، ولأهل الشقاوة: "وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ" (القصص ، آية : 41).
وقال آخرون: هداة مهتدين دعاة إلى الخير، فأحبوا أن تكون عبادتهم متصلة بعبادة أولادهم وذرياتهم، وأن يكون هداهم متعدياً إلى غيرهم بالنفع وذلك أكثر ثواباً، وأحسن مآبا ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث،ولد صالح يدعوا له، أو علم ينتفع به من بعده، أو صدقة جارية .
ونكتفي بهذا القدر في ذكر صفات المؤمنين في الحياة الدنيا، فلا نتوسع خشية الإطالة وإلا فصفات المؤمنين كثيرة كما ورد ذكرها في القرآن الكريم، فمنها: الإخلاص والصدق، والتوكل ومحبة الله والخوف والرجاء، والشكر، والصبر، والرضا والشجاعة وغيرها من الصفات الحميدة .

ثامناً: من فوائد الإيمان وثمراته:
إن للإيمان الصحيح فوائد وثمرات عاجلة وآجلة في القلب والبدن والراحة والحياة الطيبة والدنيا والآخرة، كما أن لهذه الشجرة الإيمانية من الثمار اليانعة والجني اللذيذ والأكل الدائم والخير المستمر وأمور لا تحصى وفوائد لا تستقصى ومجملها، أن خيرات الدنيا والآخرة ودفع الشرور كلها من ثمرات الإيمان الصحيح وذلك أن شجرة الإيمان الصحيح إذا ثبتت وقويت أصولها وتفرعت فروعها وزهت أغصانها، وأينعت أفنانها، عادت على صاحبها وعلى غيره، بكل خير عاجل وآجل ومن أعظم ثمار وفوائد الإيمان:
1ـ الاغتباط بولاية الله الخاصة: التي هي أعظم ما تنافس فيه المتنافسون وأجل ما حصله الموفقون قال تعالى:"أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ" (يونس، آية:62ـ 63). فكل مؤمن تقي فهو لله ولي خاصة من ثمراتها ما قاله الله عنهم " اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ" (البقرة، آية: 257) أي: يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ومن ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات المعاصي إلى نور الطاعات، ومن ظلمات الغفلة إلى نور اليقظة والذكر وحاصل ذلك، أنه يخرجهم من ظلمات الشرور المتنوعة إلى ما يدفعها من أنوار الخير العاجل والآجل وإنما حازوا هذا العطاء الجزيل، بإيمانهم الصحيح وتحقيقهم هذا الإيمان بالتقوى فإن التقوى من تمام الإيمان .
والتقوى من شروط ولاية الله الخاصة، ومن شروط التمكين لهذه الأمة قال تعالى:" وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ" (الأعراف، آية: 96)، إن تقوى الله تجعل بين العبد وبين ما يخشاه من ربه ومن غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك، وهي أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله وللتقوى ثمرات عاجلة وآجلة منها:
ـ المخرج من كل ضيق والرزق من حيث لا يحتسبه العبد:
قال تعالى: " وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ" (الطلاق، آية: 2، 3).
ـ السهولة واليسر في كل أمر: قال تعالى:" وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا" (الطلاق، آية: 4).
ـ تيسير العلم النافع: قال تعالى:" وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" (البقرة، آية: 282).
ـ إطلاق نور البصيرة: قال تعالى" إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً" (الأنفال ، آية : 29).
ـ محبة الله ومحبة الملائكة والقبول في الأرض: قال تعالى:" بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" (آل عمران ، آية : 76).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا احب الله العبد قال جبريل: قد احببت فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل عليه السلام، ثم ينادي في أهل السماء، إن الله قد أحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض .
ـ نصرة الله عز وجل وتأييده وتسديده:
وهي المعية المقصودة بقول الله عز وجل:" وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ" (البقرة ، آية : 194). فهذه المعية هي معية التأييد والنصرة والتسديد وهي معية الله عز وجل لأنبيائه وأوليائه ومعيته للمتقين والصابرين وهي تقتضي التأييد والحفظ والإعانة كما قال تعالى لموسى وهارون:" قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى" (طه ، آية : 46).
أما المعية العامة مثل قوله تعالى:" وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ" (الحديد ، آية : 4)، وقوله:" وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ" (النساء ، آية : 108).
والمعية العامة تستوجب من العبد الحذر والخوف ومراقبة الله عز وجل.
ـ الحفظ من كيد الأعداء ومكرهم:
قال تعالى:" وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ" (آل عمران، آية: 120).
ـ حفظ الذرية الضعاف بعناية الله تعالى:
قال تعالى:"وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا" (النساء، آية: 9). وفي الآية إشارة إلى إرشاد المسلمين الذين يخشون ترك ذرية ضعافاً إلى التقوى في سائر شؤونهم حتى تحفظ أبناءهم ويدخلوا تحت حفظ الله وعنايته، والآية تشعر بالتهديد بضياع أولادهم إن فقدوا تقوى الله، وإشارة إلى أن تقوى الأصول تحفظ الفروع وأن الرجال الصالحين يحفظون في ذريتهم الضعاف كما في آية:"وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا" (الكهف ، آية : 82). فإن الغلامين حفظا ببركة أبيهما في أنفسهما ومالهما .
ـ سبب لقبول الأعمال التي بها سعادة العباد في الدنيا والآخرة:
قال تعالى:" إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ" (المائدة، آية: 27).
ـ سبب النجاة من عذاب الدنيا:
قال تعالى:" وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ" (فصلت ، آية : 17ـ 18
 ـ تكفير السيئات:
قال تعالى:"وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا" (الطلاق ، آية : 5).
ـ ميراث الجنة:
قال تعالى:"تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا" (مريم ، آية : 63)، فهم الورثة الشرعيون لجنة الله عز وجل وهم لا يذهبون إلى الجنة سيراً على أقدامهم بل يحشرون إليها ركباناً مع أن الله عز وجل يقرب إليهم الجنة تحية لهم ودفعاً لمشقتهم، كما قال تعالى:" وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ" (ق ، آية : 31)، وقال تعالى:"يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا" (مريم ، آية : 85).
ـ تجمع بين المتحابين من أهلها:
قال تعالى:" الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ" (الزخرف ، آية : 67).
ومن بركة التقوى أن الله عز وجل ينزع ما قد يعلق بقلوبهم من الضغائن والغل فتزداد مودتهم وتتم محبتهم وصحبتهم قال تعالى:"إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ" (الحجر ، آية : 45 ـ 47).
إن هذه الثمار العظيمة عندما تمس شغاف قلوب المسلمين تضفي على الأمة فيضاً ربانياً موصولاً بالله متصل حلقة الدنيا بالآخرة، كما أن الحرص على تقوى الله تعالى يكسب صفوف الأمة صفات رفيعة وأخلاقاً حميدة، ومكارم نفيسة تجعل هذه الأمة مؤهلة لقيادة البشرية نحو سعادتها.
2ـ الفوز برضا الله تعالى: ومن ثمرات الإيمان الفوز برضا الله، ودار كرامته:
قال تعالى:" وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ" (التوبة ، آية : 71) فنالوا رضا ربهم ورحمته، والفوز بهذه المساكن الطيبة، بإيمانهم الذي كملوا به أنفسهم وكملوا غيرهم بقيامهم بطاعة الله وطاعة رسوله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاستولوا على أجلّ الوسائل، وأفضل الغايات وذلك فضل الله .
3ـ دفاع الله عن المؤمنين: من ثمرات الإيمان، أن الله يدفع عن المؤمنين جميع المكاره وينجيهم من الشدائد كما قال تعالى:"إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا" (الحج ، آية : 38)، أي: يدافع عنهم كل مكروه، يدافع عنهم شر شياطين الإنس وشياطين الجن، ويدافع عنهم الأعداء ويدافع عنهم المكاره قبل نزولها، ويرفعها أو يخفضها بعد نزولها، ولما ذكر تعالى ما وقع فيه يونس ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأنه:" فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ" (الأنبياء ، آية : 87 ، 88)، إذا وقعوا في الشدائد، كما انجينا يونس عليه السلام. قال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوة أخي يونس ما دعا بها مكروب إلا فرج الله عنه كربته: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين .
4ـ الحياة الطيبة: ومن ثمار الإيمان الحياة الطيبة في هذه الدار وفي دار القرار قال تعالى:"مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" (النحل ، آية : 97).
هذا وعد رباني لمن جمع بين الإيمان والعمل الصالح، بأن يتفضل الله عز وجل عليه بالحياة الطيبة، كما أن الله سبحانه قد شيد في موضع آخر صرح الحياة الناجحة على أساس الإيمان الصحيح والعمل الصالح، قال تعالى:"وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ" (العصر، آية : 1ـ 3).
إن الإيمان أساس الحياة الطيبة، ذلك لأنه يجعل صاحبه ثابتاً عالياً مثمراً في حياته، ثابتاً لا تزعزعه الأعاصير ولا تعصف به رياح الباطل، ولا تقوى عليه معاول الطغيان .
5ـ حصول البشارة بكرامة الله: والأمن التام من جميع الوجوه كما قال تعالى:"وبشر المؤمنين" فأطلقها ليعم الخير العاجل والآجل وقيدها في مثل قوله تعالى:" وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ" " (البقرة ، آية : 25)، فلهم البشارة المطلقة والمقيدة ولهم الأمن المطلق في في مثل قوله تعالى: "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون" (الأنعام ، آية : 82).
ولهم الأمن المقيد في مثل قوله تعالى:" فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون" (الأنعام ، آية : 48)، فنفى عنهم الخوف لما يستقبلونه والحزن مما مضى عليهم وبذلك يتم لهم الأمن، فالمؤمن له الأمن التام في الدنيا والآخرة، أمن من سخط الله وعقابه وأمن من جميع المكاره والشرور وله البشارة الكاملة بكل خير كما قال تعالى:" لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ" (يونس ، آية : 64).
ويوضح هذه البشارة قوله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا* أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا إن" (فصلت ، آية : 30ـ 31).
وقال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (الحديد ، آية : 28)، فرتب على الإيمان حصول الثواب المضاعف، وكمال النور الذي يمشي به العبد في حياته ويمشي به يوم القيامة، قال تعالى:" يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ" (الحديد ، آية : 12)، فالمؤمن من يمشي في الدنيا بنور علمه وإيمانه، وإذا طفئت الأنوار يوم القيامة، مشى بنوره على الصراط حتى يجوز به إلى دار الكرامة والنعيم وكذلك رتب المغفرة على الإيمان، ومن غفرت سيئاته، سلم من العقاب ونال أعظم الثواب .
6ـ حصول الفلاح والهدى: ومن ثمرات الإيمان حصول الفلاح الذي هو، إدراك غاية الغايات، فإنه إدراك كل مطلوب والسلامة من كل مرهوب، والهدى الذي هو أشرف الوسائل، كما قال تعالى، بعد ذكره المؤمنين بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل على من قبله والإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: اللتين هما من أعظم آثار الإيمان قال تعالى:"أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (البقرة ، آية : 5)، فلا سبيل إلى الهدى والفلاح، اللذين لا صلاح ولا سعادة إلا بهما، إلا بالإيمان التام بكل كتاب أنزله، وبكل رسول أرسله الله، فالهدى أجلّ الوسائل، والفلاح أكمل الغايات .
7ـ الانتفاع بالمواعظ والتذكير: ومن ثمرات الإيمان الانتفاع بالمواعظ والتذكير والآيات قال تعالى:"وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ" (الذاريات ، آية : 55)، لأن الإيمان يحمل صاحبه على التزام الحق واتباعه، علماً وعملاً وكذلك معه الآلة العظيمة والاستعداد لتلقي المواعظ النافعة والآيات الدالة على الحق وليس عنده مانع يمنعه من قبول الحق، ولا من العمل به كما أن الإيمان يوجب سلامة الفطرة، وحسن القصد، ومن كان كذلك انتفع بالآيات .
8ـ قطع الشكوك التي تضر بالدين: ومنها أن الإيمان يقطع الشكوك التي تعرض لكثير من الناس فتضر بدينهم قال تعالى:" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا" (الحجرات ، آية : 15)، أي: دفع الإيمان الصحيح الذي معهم الريب والشك الموجود وأزاله بالكلية، وقاوم الشكوك التي تلقيها شياطين الإنس والجن، والنفوس الأمّارة بالسوء، فليس لهذه العلل المهلكة دواء إلا تحقيق الإيمان ولهذا ثبت في الصحيحين، من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال الناس يتساءلون، حتى يقال هذا: الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد ذلك، فليقل آمنت بالله، ولينته، وليتعوذ بالله من الشيطان.
فذكر صلى الله عليه وسلم، هذا الدواء النافع لهذا الداء المهلك، وهو ثلاثة أشياء: الانتهاء عن هذه الوساوس الشيطانية، والاستعاذة من شر من ألقاها وشبّه بها: ليضل بها العباد، والاعتصام بعصمة الإيمان الصحيح الذي من اعتصم به، كان من الآمنين، وذلك لأن الباطل يتضح بطلانه بأمور كثيرة، أعظمها، العلم أنه مناف للحق، وكل ما ناقض الحق فهو باطل " فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ" (يونس ، آية : 32).
9ـ ملجأ المؤمنين: ومن ثمرات الإيمان وفوائده، أن الإيمان ملجأ المؤمنين في كل ما يلم بهم، من سرور وحزن وخوف وأمن، وطاعة ومعصية، وغير ذلك من الأمور التي لابد لكل أحد منها، فعند المحاب والسرور يلجؤون إلى الإيمان، فيحمدون الله، ويثنون عليه، ويستعملون النعم فيما يحب المنعم، وعند المكاره والأحزان، يلجؤون إلى الإيمان من جهات عديدة، يتسلون بإيمانهم وحلاوته، ويتسلون بما يترتب على ذلك، من الثواب، ويقابلون الأحزان والقلق، براحة القلب، والرجوع إلى الحياة الطيبة المقاومة للأحزان والأتراح ويلجؤون إلى الإيمان عند الخوف فيطمئنون إليه ويزيدهم إيماناً وثباتاً، وقوة وشجاعة ويضمحل الخوف الذي أصابهم كما قال تعالى:"الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ" (آل عمران ، آية : 173، 174)، لقد اضمحل الخوف من قلوب هؤلاء الأخيار، وخلفه قوة الإيمان وحلاوته وقوة التوكل على الله والثقة بوعده ويلجؤون إلى الإيمان عند الأمن، فلا يبطرهم ولا يحدث لهم الكبرياء، بل يتواضعون، ويعلمون أنه من الله، ومن فضله وتيسيره فيشكرون الذي أنعم بالسبب والمسبب، الأمن وأسبابه، ويعلمون أنه إذا حصل لهم ظفر بالأعداء وعِز، أنه بحول الله وقوته وفضله لا بحولهم ولا بقوتهم ويلجؤون إلى الإيمان عند الطاعة والتوفيق للأعمال الصالحة، فيعترضون بنعمة الله عليهم بها، وأن نعمته فيها أعظم من نعمة العافية والرزق ويحرصون على تكميلها وعمل كل سبب لقبولها وعدم ردها أو نقصها، ويسألون الذي تفضل عليهم بالتوفيق لها، أن يتم عليهم نعمته بقبولها والذي تفضل عليهم بحصول أصلها، أن يتمم لهم منها ما انتقصوه منها ويلجؤون إلى الإيمان إذا ابتلوا بشيء من المعاصي بالمبادرة إلى التوبة منها، وعمل ما يقدرون عليه من الحسنات، لجبر نقصها، قال تعالى:" ِإنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ" (الأعراف، آية : 201).
فالمؤمن يجول ما يجول في الغفلة والتجرئ على بعض الآثام، ثم يعود سريعاً إلى الإيمان الذي بنى عليه أموره كلها، فالمؤمنون في جميع تقلباتهم وتصرفاتهم، ملجؤهم إلى الإيمان ومفزعهم إلى تحقيقه، ودفع ما ينافيه ويضاده، وذلك من فضل الله عليهم ومَنّه .
10ـ المنع من الوقوع في الموبقات المهلكة: ومنها أن الإيمان الصحيح يمنع العبد من الوقوع في الموبقات المهلكة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزني الزاني ـ حين يزني ـ وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن . ومن وقعت منه، فإنه لضعف إيمانه، وذهاب نوره، وزوال الحياء ممن يراه حيث نهاه، وهذا معروف مشاهد، والإيمان الصادق الصحيح، يصحبه الحياء من الله، والحب له والرجاء القوي لثوابه والخوف من عقابه والنور الذي ينافي الظلمة وهذه الأمور التي هي من مكملات الإيمان لا ريب أنها تأمر صاحبها بكل خير، وتزجره عن كل قبيح، فأخبر أن الإيمان إذا صحبه، عند وجود أسباب هذه الفواحش، فإن نور إيمانه يمنعه من الوقوع فيها، فإن النور الذي يصحب الإيمان الصادق ووجود حلاوة الإيمان والحياء من الله، الذي هو من أعظم شعب الإيمان، بلا شك، يمنع من مواقعة هذه الفواحش .
11ـ الشكر والصبر: ومن فوائد وثمرات الإيمان أنه يحمل صاحبه على الشكر في حالة السراء، والصبر في حالة الضراء وكسب الخير في كل أوقاته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته سراء، شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، والشكر والصبر هما جماع كل خير، فالمؤمن مغتنم للخيرات في كل أوقاته رابح في كل حالاته، فيجتمع للمؤمن عند النعم والسراء نعمتان: نعمة حصول ذلك المحبوب، ونعمة التوفيق للشكر الذي هو أعلى من ذلك وبذلك تتم عليه النعمة ويجتمع له عند الضراء، ثلاث نعم، نعمة تكفير السيئات ونعمة حصول مرتبة الصبر التي هي أعلى من ذلك، ونعمة سهولة الضراء عليه لأنه متى عرف حصول الأجر والثواب والتمرن على الصبر هانت عليه وطأة المصيبة وخف عليها حملها .
12ـ تأثيره على الأعمال والأقوال: ومن فوائد وثمار الإيمان، أن جميع الأعمال والأقوال إنما تصح وتكمل بحسب ما يقوم بقلب صاحبها، من الإيمان والإخلاص ولهذا ذكر الله هذا الشرط الذي هو أساس كل عمل، مثل قوله تعالى:" فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ
لِسَعْيِهِ" (الأنبياء ، آية : 94). والسعي للآخرة هو العمل بكل ما يقرب إليها، ويدني منها، من الأعمال التي شرعها الله على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا تأسست على الإيمان وانبنت عليه، كان السعي مشكوراً مقبولاً مضاعفاً، لا يضيع منه مثقال ذرة، وأما إذا فقد العمل الإيمان، فلوا يستغرق العامل ليله ونهاره، فإنه غير مقبول، قال تعالى: "وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا" الفرقان ، آية : 23" وذلك لأنها أسست على غير الإيمان بالله ورسوله، والذي روحه، الإخلاص بالمعبود، والمتابعة للرسول، قال تعالى: " قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا" (الكهف ، آية : 103 ـ 105)، فهم لما فقدوا الإيمان وحل محله الكفر بالله وآياته، حبطت أعمالهم، وقال تعالى:" لَئِنْ
أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ" (الزمر ، آية : 65)، وقال تعالى:" وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" (الأنعام ، آية : 88).
ولهذا كانت الردة عن الإيمان تحبط جميع الأعمال الصالحة، كما أن الدخول في الإسلام والإيمان يجب ما قبله، من السيئات وإن عظمت، والتوبة من الذنوب المنافية والقادحة فيه، والمنقصة له تجب ما قبلها .
13ـ هداية الله إلى الصراط المستقيم: ومن فوائد وثمرات الإيمان أنه يهدي صاحبه إلى الصراط المستقيم، ويهديه في الصراط المستقيم، يهديه إلى علم الحق وإلى العمل به، وإلى تلقي المحاب والمسار بالشكر وتلقي المكاره والمصائب بالرضا والصبر قال تعالى:"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ" (يونس ، آية : 9).
وقال تعالى:" مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ" (التغابن ، آية : 11). هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم ولو لم يكن من ثمرات الإيمان، إلا أنه يسلى صاحبه عن المصائب والمكاره، التي كل أحد عرضة لها في كل وقت ومصاحبة الإيمان واليقين أعظم مسل عنها، ومهون لها وذلك: لقوة إيمانه وقوة توكله، ولقوة رجائه بثواب الله ربه، وطمعه في فضله، فحلاوة الأجر تخفف مرارة الصبر، قال تعالى: " إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ" (النساء ، آية : 104). ولهذا تجد اثنين: تصيبهم مصيبة واحدة، أو متقاربة، وأحدهما عنده إيمان والآخر فاقد لها، تجد الفرق العظيم بين حاليهما، وتأثيرها في ظاهرهما وباطنهما، وهذا الفرق راجع إلى الإيمان والعمل بمقتضاه .
14ـ محبة الله والمؤمنين من خلقه: ومن ثمرات الإيمان ولوازمه من الأعمال الصالحة ما ذكره الله بقوله: " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا" (مريم ، آية : 96). أي: بسبب إيمانهم وأعمال الإيمان يحبهم الله ويجعل لهم المحبة في قلوب المؤمنين، ومن أحبه الله وأحبه المؤمنون من عباده، حصلت له السعادة، والفلاح والفوائد الكثيرة من محبة المؤمنين، من الثناء والدعاء له حياً وميتاً، والاقتداء به، وحصول الإمامة في الدين وهذه أيضاً من أجلّ ثمرات الإيمان: أن يجعل الله للمؤمنين، الذين كملوا إيمانهم بالعلم والعمل، لسان صدق، ويجعلهم أئمة يهتدون بأمره، كما قال تعالى:" وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ" (السجدة ، آية : 24)، فبالصبر واليقين، اللذين  هما رأس الإيمان وكمالهـا نالوا الإمامة في الدين .
15ـ رفع الله لمكانتهم: ومن فوائد وثمرات الإيمان رفع مكانة أهله عند الله عز وجل وعند خلقه قال: " يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ" (المجادلة ، آية: 11)، فهم أعلى الخلق درجة عند الله وعند عباده في الدنيا والآخرة وإنما نالوا هذه الرفعة، بإيمانهم الصحيح وعلمهم ويقينهم، والعلم واليقين من أصول الإيمان .
هذه بعض الفوائد والثمار من الإيمان الصحيح، ومما تقدم يتبين لنا أن شجرة الإيمان من أبرك الأشجار وأنفعها وأدومها وأن عروقها وأصولها وقواعدها، الإيمان وعلومه ومعارفه، وساقها وأفنانها شرائع الإسلام، والأعمال الصالحة والإخلاق الفاضلة المؤيدة والمقرونة بالإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأن ثمارها وجناها الدائم المستمر، السمت الحسن والهدي الصالح، والخلق الجميل، واللهج بذكر الله وشكره، والثناء عليه والنفع لعباد الله بحسب القدرة، نفع العلم والنصح، ونفع الجاه والبدن ونفع المال، وجميع طرق النفع، وحقيقة ذلك كله: القيام بحقوق الله، وحقوق خلقه،وأن الفضل في ذلك كله لله وحده والمنّة كلها له سبحانه" بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" (الحجر ، آية : 17).
وقال أهل الجنة بعد ما دخلوها وتبوّءوا منازلهم معترفين بفضل ربهم العظيم" وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (الأعراف ، آية : 43)، فجمع في هذه الآية بين الاخبار بإعترافهم وثناءهم على الله بنعمه وفضله، حيث وصلوا إلى المنازل العالية، وبين ذكر السبب الذي أوصلهم إلى ذلك بمنّة الله عليهم به وهو العمل الصالح الذي هو الإيمان وأعماله .
إن من شروط التمكين لهذه الأمة تحقيق الإيمان بكافة معانية وبكافة أركانه وممارسة العمل الصالح بكل أنواعه والحرص على كل أنواع الخير وصنوف البر، وتحقيق العبودية الشاملة ومحاربة الشرك بكل أشكاله وأنواعه وخفاياه ، قال تعالى:" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ* وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" (النور ، آية : 55ـ 56).
 
المبحث السادس

نواقض التوحيد والإيمان:
أولاً: الشرك:
إن الحديث عن التوحيد يستلزم الحديث عما يناقضه من الشرك لأنه كما قيل بضدها تتميز الأشياء.
والشرك: هو أن تجعل لله نداً أو شريكاً في ربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه وصفاته وهو المبطل للأعمال والمانع لقبولها قال تعالى:" وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" (الأنعام ، آية : 88).
وحدُّه، أن يصرف العبد نوعاً من أنواع العبادة لغير الله فكل اعتقاد أو قول، أو عمل ثبت أنه مأمور به من الشارع فصرفه لله وحده توحيد وإيمان وإخلاص وصرفه لغيره شرك وكفر .
فحقيقة الشرك بالله، أن يعبد المخلوق كما يعبد الله أو يعظم كما يعظم الله أو يصرف له نوع من خصائص الربوبية والألوهية.
ولقد وردت النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة في التحذير من الشرك وبيان خطره، وإنه أعظم ذنب عصي الله به وإنه لا أضل من فاعله وإنه مخلد في النار أبداً لا نصير له ولا حميم ولا شفيع يطاع، قال تعالى:"إنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا" ( النساء ، آية : 48).
وقال تعالى:" إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا" ( النساء ، آية : 116).
وقال تعالى:" وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ" ( الحج ، آية : 31).
وقال تعالى:" وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ" ( الزمر ، آية : 65).
إن الشرك هو الذنب الوحيد المتميز عن بقية الذنوب بعدم المغفرة لصاحبه إذا مات ولم يتب منه، وأما بقيه الذنوب فإن صاحبها إن مات ولم يتب منها فإنه تحت مشيئة الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له.
إن الذنوب التي دون الشرك جعل الله لمغفرتها أسباباً كثيرة كالحسنات الماحية والمصائب المكفرة في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة وكدعاء المؤمنين بعضهم لبعض وشفاعت الشافعين، ومن دون ذلك كله رحمته التي خص بها أهل الإيمان والتوحيد وهذا بخلاف الشرك فإن الشرك سدّ على نفسه أبواب المغفرة، وأغلق دونه أبواب الرحمة فلا تنفعه الطاعات دون التوحيد، ولا تفيده الشدائد، والمحن شيئاً.
إن الشرك بالله تمجه الفطر السليمة، ولقد بقي البشر بعد آدم قروناً طويلة وهم أمة واحدة على التوحيد والهدي، ثم أدخلت عليهم الشياطين الشرور المتنوعة بطرق كثيرة فكان قوم نوح قد مات منهم أناس صالحون فحزنوا عليهم فجاءهم إبليس وأمرهم أن يصوروا تماثيلهم ليتذكروا أحوالهم، فكان هذا باب الشر العظيم، فلما مات الذين صوروهم لهذا المعنى خلف من بعدهم خلف قلّ فيهم العلم واستفزهم الشيطان وأغواهم حتى أوقعهم في الشرك ثم بعث الله فيهم نوحاً عليه السلام يعرفونه ويعرفون صدقه وأمانته وكمال أخلاقه فقال:" لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ" ( الأعراف ، آية : 59) إلا أنهم عصوه وما آمن معه إلا قليل، إن الله تعالى خلق الناس على فطرة التوحيد ثم استطاعت الشياطين أن تميل بالناس وتنحرف بهم نحو الوثنية المظلمة والشرك العظيم، قال تعالى:" كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ" (البقرة ، آية : 213). أي إن الناس كانوا على ملة آدم عليه السلام حتى عبدوا الأصنام فبعث الله إليهم نوحاً عليه السلام فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض .
إن هذه الأمة الإسلامية التي رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، عليها أن تحرص على تحقيق التوحيد ومحاربة الشرك، لأنها تعلم علم اليقين أن من شروط التمكين لها، تحقيق التوحيد وتهذيبه، وتصفيته من الشرك الأكبر والأصغر، ومن البدع القولية والاعتقادية، والبدع الفعلية والعملية، ومن المعاصي وذلك بكمال الإخلاص لله في الأقوال والافعال والإرادات، وبالسلامة من الشرك الأكبر المناقض لأصل التوحيد، ومن الشرك الأصغر المنافي لكماله وبالسلامة من البدع ، وعليها أن تحارب شرك القبور، ووكذلك شرك القوانين الوضعية المخالفة للشريعة الإسلامية، وعليها تدعو إلى إفراد العبودية لله وحده في جميع شئون الحياة الإنسانية ولان حالها ومقالها قول الله تعالى: " قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ" (الأنعام ، آية : 161 ـ 162).

ثانياً: أنواع الشرك: ينقسم الشرع إلى نوعين: أكبر وأصغر.
1ـ الشرك الأكبر: يخرج صاحبه من ملة الإسلام، ويوجب له الخلود في جهنم ويحرم عليه الجنة هذا إذا مات على الشرك، قال تعالى: "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ" (المائدة ، آية : 72)، والشرك الأكبر أنواع منها:
أ ـ شرك الدعاء: وهو اللجوء إلى غير الله ودعائه وقصده، قال تعالى: " فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ" (العنكبوت ، آية : 65). فهم يوحدون الله في حال الضيق والشدة وإذا نجاهم أشركوا ودعوا غيره.
ب ـ شرك النية والإرادة والقصد: وهو أن يعمل العمل مما يراد به وجه الله عز وجل يعمله لغير الله ويقصد به مراداً آخر، فهذا شرك أكبر، قال عز وجال: "مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" (هود ، آية : 15 ـ 16). قال تعالى:" مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا *وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا *كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا" (الإسراء ، آية : 18 ـ 20).
جـ ـ شرك الطاعة: وهو طاعة الأحبار والرهبان وغيرهم من البشر والعلماء والسلاطين والأمراء في تحريم ما أحل الله أو إباحة ما حرم الله، قال تعالى: " اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ" (التوبة ، آية : 31)، وعن عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ أنه لما بلغته دعوة رسول الله فرّ إلى الشام وكان تنصر في الجاهلية، فأسِرت أخته وجماعة من قومه ثم منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدم عدي إلى المدينة وكان رئيساً في قومه طئ وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم فتحدث الناس بقدومه فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة وهو يقرأ هذه الآية " اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ" قال فقلت: إنهم لم يعبدوهم فقال: بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فأتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم، وقال بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عدي ما تقول؟ أيضرك أن يقول الله أكبر ، فهل تعلم شيئاً أكبر من الله؟ ما يضرك أيضرك أن يقال: لا إله إلا الله فهل تعلم إلهاً غير الله؟ ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق .
ح ـ شرك المحبة: بأن يصرف المحبة لغير الله تعالى مما يحب أن يكون لله، ومن أدلته قوله تعالى: " وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ" (البقرة ، آية : 165).
وقوله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار، وقد اهتم القرآن الكريم بضرب الأمثال للتنفير من حالة المشرك وهذه بعض الأمثال:
* مثل المشرك بالساقط من السماء:
قال تعالى: "حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ" (الحج ، آية : 31).
يحث الله سبحانه عباده على إخلاص التوحيد وإفراده بالطاعة والعبادة دون الأوثان ويذكر قبح الشرك وبطلانه بأوضح الأمثلة، لأن من يشرك بالله شيئاً من دونه فمثله من بعده عن الهدى وإصابة الحق وهلاكه وذهابه عن ربه مثل من خرَّ من السماء فتخطفه الطير فهلك، أو هوت به العواصف في مكان بعيد، فهذا مثل ضربه الله لمن أشرك بالله في بعده من الهدى وهلاكه .
* مثل المشرك بالحيران في الأرض:
قال تعالى: "قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ" (الأنعام ، آية : 71).
هذا مثل ضربه الله للآلهة ومن يدعو إليها وللدعاة الذين يدعون إلى الله كمثل رجل ضل الطريق إذ ناداه منادٍ: يا فلان ابن فلان، هلم إلى الطريق، وله أصحاب يدعونه: يا فلان، هلم إلى الطريق، فإن اتبع الداعي الأول انطلق به حتى يلقيه في الهلكة، وإن أجابه من يدعوه إلى الهدى اهتدى إلى الطريق .
* مثل المشرك بالعبد المملوك لجماعة كثيرين:
قال تعالى: " ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" (الزمر ، آية : 29).
هذا مثل ضربه الله سبحانه وتعالى للمشرك والموحد، فالمشرك بمنزلة عبد يملكه جماعة متنازعون مختلفون متشاحنون، والرجل المشاكس الضيق الخلق فالمشرك لما كان يعبد آلهة شتى شبه بعبد يملكه جماعة متنافسون في خدمته لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين، والموحد لمَّا كان يعبد الله وحده فمثله كمثل عبد لرجل واحد قد سلم له وعلم مقاصده وعرف الطريق إلى رضاه، فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه، بل هو سالم لمالكه من غير تنازع فيه مع رأفة مالكه به ورحمته له وشفقته عليه وإحسانه إليه وتوليه لمصالحه، فهل يستوي هذين العبدين؟ وهذا من أبلغ الأمثال فإن الخالص لمالك واحد يستحق من معونته وإحسانه والتفاته إليه وقيامه بمصالحه ما لا يستحقه صاحب الشركاء المتشاكسين، الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون" .
2ـ الشرك الأصغر: وهذا النوع لا يخرج صاحبه من الملة ولكنه ينقص من توحيده، وهو وسيلة للشرك الأكبر وهو ينقسم إلى نوعين: ظاهر وخفي.
أ ـ فالظاهر: مكون من ألفاظ قولية وأفعال عملية، فمن الألفاظ الحلف بغير الله، وقول الإنسان لولا الله وأنت أو هذا من الله ومنك ما شاء الله وشئت، فإن هذا يقتضي المساواة بين الله وبين العبد، وهذا محال، ولكن الصحيح ألا يحلف إلا بالله عز وجل، وأن يقول لولا الله ثم أنت أو هذا من الله ثم منك وما شاء الله ثم شئت.
ومن الأفعال، لبس الحلقة والخيط وتعليق التمائم خشية العين، أو الجن فمن فعل ذلك معتقداً أنها سبب يستدفع بها البلاء وأن الدافع للبلاء هو الله وحده فقد أشرك شركاً أصغر، وإذا فعل ذلك معتقداً أن هذه الأشياء تدفع البلاء بعد نزوله أو تمنعه قبل حلوله فقد أشرك شركاً أكبر حيث أعتقد شريكاً مع الله في الخلق والتدبير .
ب ـ وأما الخفي من الشرك الأصغر: فهو شرك الإرادات، والمقاصد والنيات، وذلك مثل الرياء، والسمعة، ومثال ذلك أن يعمل المسلم عملاً الأصل فيه أنه لله تعالى، ثم بعد ذلك يدخل فيه شئ من الرياء أو السمعة، فيريد من الناس الثناء عليه، كأن يقرأ مسلم القرآن لله تعالى وتقرباً له، وعندما يرى الناس تنصت له يُلحن في صوته ابتغاء الثناء عليه، أو يتصدق إنسان بمال لكي يُمدَحَ ويثنى عليه، أو يحسن الرجل صلاته التي يتقرب بها إلى الله لما يرى من نظر الناس إليه، وغير ذلك من الأعمال والعبادات التي تصرف لله تعالى، وإلا لو صرفـ ابتداءً لغير الله لأصبح ذلك شركاً أكبر يخرج من الملة، ولكن بعد البدء فيها يدخل عليه حب المدح والثناء على فعله وعبادته وعاقبة الرياء الذي يخالط العمل هو إبطال أجر وثواب هذا العمل، قال تعالى: " فَمَن ; كَانَ  َيرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا" (الكهف ، آية : 110)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه فقال الرياء .
إن الشرك في الإرادات والنيات فذلك البحر الذي لا ساحل له، وقلَّ من ينجو منه، فمن أراد بعمله غير وجه الله، ونوى به شيئاً غير التقرب إليه وطلب الجزاء منه فقد أشرك في نيته وإرادته، والإخلاص: أن يخلص لله في أفعاله وأقواله وإرادته ونيته وهذه هي الحنيفية، ملة إبراهيم التي أمر الله بها عباده كلهم ولا يقبل من أحد غيرها وهي حقيقة الإسلام وهي ملة إبراهيم عليه السلام .
والعبد المؤمن يخشى على نفسه من الرياء وأن تصير أعماله هباءً منثوراً، فقد قال الله تعالى عن أقوام: "وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا" (الفرقان ، آية : 23).
وقال الفضيل في هذه الآية: " وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ" قال: عملوا أعمالاً وحسبوا أنها حسنات فإذا هي سيئات .
وقريب من هذا أن يعمل الإنسان ذنباً يحتقره، ويستهوِن به فيكون هو سبب هلاكه، كما قال تعالى: " وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ" ( النور ، آية : 15).
وقال بعض الصحابة، إنكم تعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المبوقات .
وأصعب من هذا من زين له سوء عمله فرآه حسناً قال تعالى: "ُقلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا" (الكهف ، آية : 104 ـ 105).
قال سفيان بن عيينة لما حضرت محمد بن المنكدر الوفاة جزع فَدَعوا له أبا حازم فجاء فقال له ابن المنكدر: إن الله يقول: "وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ"، وأخاف أن يبدوا لي من الله ما لم أكن احتسب، فجعلا يبكيان جميعاً، فقال له أهله: دعوناك لتخفِّف عليه فزدته فأخبرهم بما قال ، وقال الفضيل بن عياض أُخبرت عن سليمان التيمي أنه قيل له: أنت أنت ومن مثلك؟ فقال: مه، لا تقولوا هذا، لا أدري ما يبدو لي من الله، سمعت الله يقول: " وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ" . وكان سفيان الثوري يقول عند هذه الآية، ويلٌ لأهل الرياء من هذه الآية، وهذا كما في حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار، العالم، والمتصدِّق، والمجاهد .
وكذلك من عمل أعمالاً صالحة وكانت عليه مظالم فهو يظن أن أعماله تنجيه فيبدو له ما لم يكن يحتسب فيقتسم الغرماء أعماله كلها ثم يفضل لهم فضل فيطرح من سيئاتهم عليه ثم يطرح في النار .
وقد يناقش الحساب فيُطلب منه شكر النعم فتقوم أصغر النعم فتستوعب أعماله كلها وتبقى بقية النعم فيُطالب بشكرها فيعذَّب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "من نوقش الحساب عُذِّب أو هلك" .
وقد يكون له سيئات تحبط بعض أعماله أو أعمال جوارحه سوى التوحيد، فيدخل النار وقد يحبط العمل بآفة من رياء خفي أو عُجُب به ونحو ذلك ولا يشعر به صاحبه . قال ضيغم العابد، إن لم تأت الآخرة المؤمن بالسرور لقد اجتمع عليه الأمران،، هم الدنيا وشقاء الآخرة، فقيل له: كيف لا تأتيه الآخرة بالسرور وهو يتعب في دار الدنيا ويدأب؟ فقال: كيف بالقبول، كيف بالسلامة؟ ثم قال: كم من رجل يرى أنه قد أصلح عمله يُجمع ذلك كله يوم القيامة ثم يضرب به وجهه ومن هنا كان بعض الصالحين يقلقون من هذه الآية "إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ" (المائدة ، آية : 27).
ولذلك فالمسلم لا يثق بكثرة العمل، لأنه لا يدري يقبل منه أم لا، ولا يأمن ذنوبه فإنه لا يدري هل كفَّرت عنه أم لا؟ لأن الأعمال مُعَيَّبة عن العبيد لا يدرون ما الله صانع بهم .
ومن تأمل هذا حق التأمل أوجب له الخوف والخشية والقلق، فإن ابن آدم متعرض لأهوال عظيمة من الموت والقبر وأهوال البرزخ وأهوال الموقف، كالصراط والميزان وأعظم من ذلك الوقوف بين يدي الله عز وجل ودخول النار، ويخشى على نفسه الخلود فيها بأن يُسلب إيمانه عند الموت، ولم يأمن المؤمن شيئاً من هذه الأمور ، قال تعالى: " فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ" (الأعراف ، آية : 99).
قال الشعر:
        أما والله لو علم الأنام
                        لِمَا خُلقوا لما غفلوا وناموا
        لقد خلقوا لما لو أبصرته
                        عيون قلوبهم تاهوا وهاموا
        ممات ثم قبر ثم حشر
                        وتوبيخ وأهوال عظام
        ليوم الحشر قد عملت رجال
                        فصلوا من مخافته وصاموا
        ونحن إذا نهينا أو أمرنا
                        كأهل الكهف أيقاظ نيام
3 ـ الفرق بين الشرك الأكبر والأصغر:
ـ الشرك الأكبر يخرج صاحبه من الإسلام بخلاف الشرك الأصغر.
ـ الشرك الأكبر يحبط جميع الأعمال، أما الشرك الأصغر فإنه يحبط العمل الذي خالطه فقط.
ـ الشرك الأكبر يبيح الدم والمال، والشرك الأصغر ليس كذلك.
ـ الشرك الأكبر يخلد صاحبه في النار، أما الشرك الأصغر فلا يخلد صاحبه في النار وإن دخلها.
ـ الشرك الأكبر يوجب المعاداة وقطع الموالاة فلا يجوز موالاته مهما كانت قرابته، أما الشرك الأصغر فلا يقطع الموالاة على الإطلاق، وإنما يوالي بقدر ما لديه من التوحيد ويعادي بحسب ما فيه من الشرك .
4ـ آثار الشرك:
إن الشرك الذي يقع فيه الإنسان له آثاره الوبيلة في دنياه وآخرته، سواء أكان الواقع فيه فرد أم جماعة فمن تلك الآثار:
ـ إطفاء نور الفطرة.
ـ القضاء على منازع النفس الرفيعة.
ـ القضاء على عزة النفس ووقوع صاحبه في العبودية الذليلة.
ـ تمزيق وحدة النفس البشرية.
ـ إحباط العمل .

ثانياً: الكفر: أصل الكفر تغطية الشيء، وسمي الليل كافراً لتغطيته كل شيء ، وذكر أهل التفسير أن الكفر في القرآن على خمسة أوجه:
أحدهما الكفر بالتوحيد ومنه قوله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ" (البقرة ، آية : 6).
والثاني: كفر نعمه ومنه قوله تعالى:" وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ" (البقرة ، آية : 152).
والثالث: التبرؤ ومنه قوله تعالى:" ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ" (العنكبوت ، آية : 25)، أي يتبرأ بعضكم من بعض.
والرابع الجحود ومنه قوله تعالى:" فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ" (البقرة ، آية : 89).
والخامس: التغطية ومنه قوله تعالى:" أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ" (الحديد ، آية : 20). يريد الزراع الذين يغطون الحب .
وأما الكفر اصطلاحاً: فهو الانكار المتعمد لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أو بعض ما جاء به محمد مما علم من دينه بالضرورة .
والكفر والإيمان ضدان متى ثبت أحدهما ثبوتاً كاملاً انتفى الآخر .
والكفر ليس حقيقة واحدة ولا هو شعبة واحدة فليس ينحصر في التكذيب أو الاعتقاد القلبي، بل هو شعب متعددة ومراتب متفاوتة، كما أن ما يقابله وهو الإيمان شعب متعددة كما سبق ذكره، ويقع الكفر بالتكذيب وبالجحود وبالإعراض وبالتكبر عن أوامر الله .
وكما أن الإيمان ذو شعب دل عليها حديث النبي صلى الله عليه وسلم المتفق عليه في قوله صلى الله عليه وسلم: الإيمان بضعة وسبعون شعبة: أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان .
فكذلك الكفر له شعب أيضاً.
أنواع الكفر: ينقسم الكفر إلى نوعين:
1ـ كفر أكبر يناقض الإيمان ويوجب الخروج من الملة والخلود في النار وهو على خمسة أنواع:
أـ كفر التكذيب وهو اعتقاد كذب الرسل وهذا قليل جداً لأن الله أيد رسله بالآيات وأعطاهم من المعجزات ما يقوم به دليلاً على صدقهم وقيام الحجة على أممهم قال تعالى عن فرعون وقومه:" وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا" (النمل ، آية : 14)، وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم:" فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ" (الأنعام ، آية : 33)، وإنما يلجأ بعض الكفار إلى التكذيب بالرسل من ألسنتهم فقط وليس من قلوبهم.
ب ـ الإباء واستكبار والمسمى بالكفر الإبليسي فإنه إنما جحد أمر الله وأنكر عناداً واستكباراً وهذا النوع يقع من معظم الكفار حيث يقولون:" مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ" (يس ، آية : 15)، وكما يقول قوم فرعون:" أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ" (المؤمنون ، آية : 47).
ج ـ كفر الإعراض وذلك بأن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصدقه ولا يكذبه ولا يواليه ولا يعاديه ولا يصغى له ولا إلى ما جاء به البتة، قال تعالى:" وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ" (الأحقاف ، آية : 3).
ح ـ كفر الشك: بأن لا يجزم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم ولا يكذبه وإنما يشك في ذلك أو يشك في القيامة ومن هذا الكفر كفر صاحب الجنة والبستان الذي غره ما عنده من الرزق، وفقد الإيمان بالله واليوم الآخر، قال تعالى:" وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِه أبَدًا* وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا* قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا* لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا" ( الكهف ، آية : 35 ـ 38) فلقد عبّر عن عقيدته في اليوم الآخر بقوله:" وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي" هكذا على سبيل الشك وعدم اليقين فوقع في الكفر كما قال له صاحبه " أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ" وهذا هو مصير أصحاب القلوب المريضة والعياذ بالله.
ر ـ كفر النفاق: وهو إظهار الإيمان باللسان وإخفاء الكفر والتكذيب في القلب وهو النفاق الأكبر وهذا النوع من أشد أنواع الكفر خطراً على الإسلام والمسلمين وأصحاب هذا النفاق يتغلغلون في صفوف المسلمين ويحاولون تفريق الكلمة وتمزيق الأمة ودليله قوله تعالى:"  وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ {8}يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ"  ( البقرة ، آية : 8 ، 9).
2ـ كفر أصغر: وهذا لاينافي أصل الإيمان ولا يذهب به بالكلية وإنما ينقص كماله ويصبح الموصوف به مذموماً شرعاً وإن بقيت أحكام الإسلام تجري عليه لبقاء أصل الإيمان به ، وهو كل ذنب ورد تسميته في الكتاب والسنة كفراً، وهو لا يصل إلى حد الكفر الأكبر، وهذا النوع يوجب استحقاق الوعيد دون الخلود في النار، ومثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:" سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" . فإنَّ الكفر هنا معناه الكفر الأصغر الذي لا يخرج من الملة بدليل قوله تعالى:" وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" ( الحجرات ، آية : 9) فقد سماهم الله مؤمنين مع اقتتالهم" .
3ـ إطلاق حكم الكفر: ليس كل من عمل عملاً أو قال قولاً كفرياً يكون كافراً إلا إذا وجدت الشروط في حق ذلك المعين، وانتفت الموانع التي تمنع استحقاقه لذلك الحكم، فقد يقول الإنسان الكفر أو يعمله بإجتهاد أو خطأ ولا يكفر به، وذلك لما يترتب على ذلك من الأحكام الشرعية كإهدار دمه وزوال عصمة ماله وأولاده وتحريم زوجته عليه وعدم حل ذبيحته وعدم جواز تغسيله والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين وعدم جواز الإستغفار له بعد موته ولورود الوعيد الشديد على من أطلق كلمة الكفر على مسلم ولم يكن كذلك ففي الحديث: من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما .
4 ـ شروط التكفير:
بين علماء المسلمين بأن الشخص المعين لا يكون كافراً حلال الدم والمال إلا إذا:
*ـ توفرت فيه شروط عدة.
*ـ وانتفت عنه موانع.
حينئذ يجوز الحكم عليه بالكفر، أما إذا انتفى أي شروط أو وجد أي مانع فلا يجوز أن يحكم عليه بالكفر، وليس معنى هذا إعفاءه من العقوبة تماماً، بل يعاقب على حسب حاله إنما الممنوع الحكم عليه بالكفر لا مطلق العقوبة.
ـ شروط التكفير: هناك شروط ثلاثة لابد من اجتماعها وبمن عمل عملاً يستحق عليه الوعيد كاللعن والكفر وإذا سقط شرط منها فيمتنع لعن الشخص وتكفيره.
أ ـ العلم: فالله سبحانه وتعالى لم يشرع العقوبة قبل إقامة الحجة.
ـ قال تعالى: " وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً" (الإسراء ، آية : 1).
ـ قال تعالى: " رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا" (النساء ، آية : 165).
ـ قال تعالى: " وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا" (القصص ، آية : 59).
ـ قال تعالى: " كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ" (الملك ، آية 8 ـ 9).
ـ قال تعالى: " وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى" (طه ، آية : 134).
وهذه النصوص الربانية تفيد أن الله تعالى لا يؤاحذ عباده إلا بعد قيام الحجة عليهم، وعلمهم بالحق والصواب ، وقد ثبت في نصوص أخرى أن الله لا يؤاخذ جاهل، ولو كان جهله بمسائل في العقيدة، فقد قال صلى اله عليه وسلم: "كان رجل يسرف على نفسه، ولما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم أطحنوني، ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر عليَّ ليعذبني عذاباً ما عذبه أحد، فلما مات فعل به ذلك، فأمر الأرض فقال: "أجمعي ما فيك منه، ففعلت، فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب خشيتك، فغفر له، وفي رواية: مخافتك يا رب ، فهذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله تعالى على إعادة ابن آدم، بعدما أحرق وذري وعلى أنه يعيد الميت ويحشره إذا فعل ذلك، وهذان أصلان عظيمان:
ـ أحدهما متعلق بالله تعالى، وهو الإيمان بأن الله على كل شئ قدير.
ـ والثاني متعلق باليوم الآخر، وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت ويجزيه على أعماله.
ومع هذا فلما كان مؤمناً بالله في الجملة، ومؤمناً باليوم الآخر في الجملة وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت قد عمل صالحاً، وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه، غفر الله له بما كان منه من الإيمان بالله، واليوم الآخر، والعمل الصالح .
وكذلك بلال بن رباح رضي الله عنه، لما باع الصاع بالصاعين أمره النبي صلى الله عليه وسلم برده، ولم يرتب على ذلك حكم آكل الربا من التفسيق واللعن والتغليظ لعدم علمه بالتحريم .
ب ـ العمد: لا بـد مـن توفر شروط العمد، لأن الله تعالى قد رفع الإثم والمؤاخذة عن المخطئ والمتأول، قال تعالى: "وَليسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ" (الأحزاب ، آية : 5)، فقال سبحانه وتعالى: " رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا" (البقرة ، آية : 286)، وقد ثبت عن النبي صلى اله عليه وسلم: إن الله تعالى قال قد فعلت، مما دعا النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بهذا الدعاء .
وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ النسيان. وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية، والمسائل العملية، وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يشهد أحداً منهم على أحد، لا بكفر ولا بفسق ولا بمعصية . تلك أدلة رفع الإثم والمؤاخذة عن المخطئ والمتأول .
وإذا كان المسلم متأولاً في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك، كما قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لحاطب بن أبي بلتعة يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه شهد بدراً ما يدريك أن الله قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" ، وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه قتل رجلاً بعد ما قال لا إله إلا الله، وعظم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما أخبروه وقال: يا أسامة أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ كرر ذلك عليه حتى قال أسامة: تمنيت أني لم أكن أسلمت يومئذ، ولم يوجب عليه قوداً ولا دية ولا كفارة، لأنه كان متأولاً، ظن جواز قتل ذلك القائل لظنه أنها قالها تعوذاً .
جـ ـ الإختيار والقدرة: قال تعالى: " مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" (النحل ، آية : 106). ففي قوله تعالى: "إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ" فهو إستثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظهم مكرهاً لما ناله من ضرب وأذى، وقلبه يأبى ما يقول وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله، وقد نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر، فقد أخذه المشركون فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن عادوا فعد" ، ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاء لمهجته ويجوز له أن يأبى كما كان بلال رضي الله عنه، يأبى عليهم ذلك والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه، ولو أفضى إلى قتله . والله سبحانه وتعالى، أخبر في غير موضع أنه لا يكلف نفساً إلآ وسعها، كقوله تعالى: " لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا" (البقرة ، آية : 286)، وقوله تعالى: "وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا" (الأعراف ، آية : 42)، وأمر بتقوه بقدر الاستطاعة فقال: " فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ" (التغابن ، آية : 16).
5 ـ موانع التكفير:
إن الحكم على الشخص المعين يتوقف على وجود شروط وإنتفاء موانع، ومن موانع التكفير، الخطأ، الجهل، العجز، والإكراه.
أ ـ فالخطأ: لقوله تعالى: "رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا" (البقرة ، آية : 286).
وقال تعالى: "وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ" (الأحزاب ، آية : 5). ووجود الخطأ من المسلم أحد موانع تكفير المعين، كما أن الله أمر الناس أن يطلبوا الحق على قدر وسعه وإمكانهم، فإن لم يصيبوا الحق في إجتهادهم، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، والواجب في حقه أن يعبد الله بحسب ما توصل إليه إجتهاده، إن كان مؤهلاً للإجتهاد وبذل وسعه في طلب الحق.
أن الأدلة من الكتاب والسنة متضافرة على أن المجتهد المخطئ معذور، كما دل الإجماع والقياس على ذلك .
ب ـ الجهل: قال تعالى: "رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا" (النساء ، آية : 165)، وقال تعالى: "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً" (الإسراء ، آية : 15).
فالجهل أحد موانع تكفير المعين لأن الإيمان متعلق بالعلم، ووجود العلم بالمؤمن به شرط من شروط الإيمان به .
ج ـ العجز: قال تعالى:" وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا" (النساء ، آية : 75). فأولئك كانوا عاجزين عن إقامة دينهم فقد سقط ما عجزوا عنه .
وقوله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا* إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً* فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا" (النساء ، آية : 97ـ 99). فهذه الآيات في جماعة من المؤمنين كانوا يستخفون بإيمانهم، وهم عاجزون عن الهجرة، فعذرهم الله تعالى .
ومثال آخر على موانع التكفير، العجز، أن النجاشي كان ملك النصارى في الحبشة، فلم يطعه قومه في الدخول في الإسلام، ولم يدخل معه سوى نفر يسير منهم، فلما مات، صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، خرج بالمسلمين إلى المصلى، فصفهم صفوفاً، وصلى عليهم وأخبرهم بموته يوم مات فقال: قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش فهلموا فصلوا عليه . وكثير من شرائع الإسلام لم يكن دخل فيها لعجزه عن ذلك، فلم يهاجر، ولم يجاهد، بل قد روي أنه لم يصل الصلوات الخمس، ولا يصوم رمضان، ولا يؤدي الزكاة الشرعية، لأن ذلك يظهر عند قومه فينكرون عليه وهو لا يمكنه مخالفتهم ويعلم قطعاً أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن، لأن قومه لا يقرونه على ذلك، ولهذا جعل الله هؤلاء من أهل الكتاب الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى:" وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ" (آل عمران ، آية : 199).
وقال بعض العلماء هذه الآية: إنها نزلت في النجاشي، ومنهم من قال: فيه وفي أصحابه ، وكذلك ما أخبر به عن حال مؤمن آل فرعون مع قوم فرعون، وعن حال إمرأة فرعون، وكما كان يوسف الصديق ـ عليه السلام ـ مع أهل مصر، فإنهم كانوا كفاراً ولم يمكنه أن يفعل معهم كل ما يعرفه من دين الإسلام، لأنه دعاهم إلى التوحيد والإيمان فلم يجيبوه .
إن من عجز عن أداء ما شرع الله عليه، واتقى الله ما أستطاع، فإنه معذور، غير مؤاخذ على ما تركه.
س ـ الإكراه: قال تعالى:" مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" (النحل ، آية : 106). كل ما أدى بشخص لو لم يفعل المأمور به إلى ضرب أو حبس، أو أخذ مال، أو قطع رزق يستحقه أو نحو ذلك  وشروطه أربعة:
ـ أن يكون فاعله قادراً على إيقاع ما يهدد به، والمأمور عاجزاً عن الدفع، ولو بالفرار.
ـ أن يغلب على ظن المكره أنه إذا امتنع أوقع به ما هدده به.
ـ أن يكون ما هدده به فورياً، أو بعد زمن قريب جداً، أو جرت العادة أنه لا يخلف ما هدده به.
ـ أن لا يظهر من المأمور ما يدل على اختياره .
6ـ ما يمحو الكفر بعد ثبوته على المعين:
التوبة: هي رجوع العبد إلى الله، ومفارقته لصراط المغضوب عليهم والضالين .
والله سبحانه وتعالى يقبل توبة العبد من جميع الذنوب، الشرك فما دونه، كما قال تعالى:" قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (الزمر ، آية : 53). وقال تعالى:" لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (المائدة ، آية : 73، 74). وقال تعالى:" قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ" (الأنفال ، آية : 38).
والتوبة تمحو جميع السيئات وليس شيء يغفر جميع الذنوب إلا التوبة ومعلوم أن من سب الرسول من الكفار المحاربين، وقال: هو ساحر، أو شاعر أو مجنون، أو معلم، أو مفتر، وتاب، تاب الله عليه، وقد كان طائفة يسبون النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الحرب، ثم أسلموا وحسن إسلامهم وقبل النبي صلى الله عليه وسلم منهم، منهم أبو سفيان بن الحارث بن بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله ابن أبي السرح، وكان قد ارتد، وكان يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: أنا كنت أعلمه القرآن، ثم تاب، وأسلم وبايعه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ، فالتوبة هي الأمر الوحيد الذي يمحو الله به الكفر بعد ثبوته، وقد انعقد الإجماع على ذلك .
 
ثالثاً: الأمثال القرآنية للكافرين:
1ـ السراب وأعمال الكفار: قال تعالى:" وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ" (النور ، آية : 39).
يبين الله سبحانه وتعالى أن مثل أعمال الذين كفروا بالله مثل سراب بأرض منبسطة يرى وسط النهار وحين اشتداد الحر، فيظنه العطشان ماء، فإذا أتاه ملتمساً الشراب لإزالة عطشه لم يجد السراب شيئاً، فكذلك الكافرون في غرور من أعمالهم التي عملوها وهم يحسبون أنها تنجيهم عند الله من الهلاك كما حسب العطشان السراب ماء، فإذا صار الكافر إلى الله واحتاج لعمله لم ينفعه وجازاه الله الجزاء الذي يستحقه .
وتلاحظ خلال المثل صورة السّراب، ثم صورة الظامي، الذي ظنه ماء، ثم خيبته عند وصوله إليه، وحذف ما عدا ذلك لأن الخيال يتمُّ رسمها وفي الممثل له لم يُذكر إلا عمل الذين كفروا وطُوِى ما عدا ذلك لأن الفكر قادر على أن يستدعيه وهذا من بلاغة القرآن .
2ـ ظلمات الكفر: قال تعالى:" أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ" (النور ، آية : 40). هذه الآية مثل آخر لأعمال الكفار، إلا أن المثل الأول في انخداع الكافر بعمله في الدنيا وغروره به، وهذا المثل لأعمال الكفار في أنها عملت على خطأ وفساد وضلال وحيرة وعلى غير هدى، فهي في ذلك كمثل ظلمات في بحر عميق جداً كثير الماء، وفوق هذا الموج موج آخر، وفوقها سحاب متراكم، فاجتمعت عدة ظلمات، وهكذا عمل الكافر ظلمات في ظلمات .
فهذا المثل يصور الحالة النفسية والفكرية والقلبية للذين كفروا بعد أن تركوا نور  الهداية الربانية، إنهم يطلبون سعادتهم في الظلمات، فقلوبهم مظلمة بالكفر، ونفوسهم  تائهة في بحر من ظلمات الأهواء والشهوات، وأفكارهم تسبح في ظلمات أسباب لذات الدنيا، وإرادتهم تحت كلّ هذه الظلمات، فمثلهم كمن في ظلمات قاع بحر عميق، فوقه أمواج في العمق الظلمة، فوقها أمواج في السطح تُضاعف الظلمة، فوقها سحاب يزيد الظلام ظلاماً، ظلماتُ بعضها فوق بعض .
إن مثل الظلمات في سورة ((النور)) دل على حقائق علمية تتصل بالعلوم الدنيوية المادية التطبيقية أو النظرية، وإن هذه الحقائق تنقسم ثلاثة أقسام:
ـ القسم الأول: دلالة المثل على معجزة علمية للنبي صلى الله عليه وسلم تتمثل في الإخبار بوجود أمواج في باطن البحار العميقة اللجية ((المحيطات)) والتي لم تكن معلومة في ذلك الوقت، بل لم تكن بمقدور البشر اكتشافها لكونها على عمق لا يصله إلا الغواصات أو الغواصون المزودون بالأكسجين.
ـ القسم الثاني: الإخبار عن حقائق علمية في العلوم المادية الدنيوية بما يطابق ما ثبت عند المتخصصين فيها، وقد اشتمل المثل على فائدتين من هذا القسم، هما:
أولاً: إفادة المثل أن أعماق البحار العميقة مظلمة ظلمة شديدة مع بيان سبب ذلك، وهو وجود حُجُب حجبت الضوء هي عبارة عن أوساط شفافة متعددة أسهمت مجتمعة في منع الضوء عن تلك الأماكن وتسببت في ظلمتها واتفاق ذلك مع ما تقرر في علم البحار، وعلم الضوء.
ثانياً: دلالة المثل على التفسير العلمي للرؤية وأنه يشترط له وصول الضوء من مصدر مضيئ إلى الجسم المرئي، وإذا انعدم الضوء ولم يصل منه شيء إلى الجسم فإنه يظلم ولا يُرى واتفاقه مع التفسير الصحيح المتقرر عند المتخصصين في ذلك الشأن، كما تضمن المثل ـ أيضاً ـ إبطال التفسير القديم القائم على أن سبب الرؤية خروج أشعة من العين تسقط على الأجسام فتحدث رؤيتها.
القسم الثالث: إفادة المثل حقائق علمية ثابتة في نفسها وإن لم تكن مسلمةعند كل المشتغلين بتلك العلوم، وذلك في الأمور العقلية التي تبحث عادة فيما يسمى بعلم النفس والسلوك والاجتماع.
وقد دل المثل على حقيقتين من هذا القسم، هما:
أولاً: حقيقة أن الكفار يتقلبون في ظلمات حالكة وضلالات لا ينفكون عنها.
ثانياً: حقيقة أن الكفار في خوف وقلق وحيرة دائمة .
3ـ الرماد وأعمال الكفار: قال تعالى:" مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ" (ابراهيم ، آية : 18)، شبه الله تعالى أعمال الكفار في بطلانها وعدم الانتفاع بها برماد مرت عليه ريح شديدة في يوم عاصف، فشبه سبحانه أعمالهم في حبوطها وذهابها باطلاً كالهباء المنثور لكونها على غير أساس من الإيمان والإحسان وكونها لغير الله عز وجل وعلى غير أمره، برماد طيرته الريح العاصف فلا يقدر صاحبه على شيء منه وقت شدة حاجته إليه، فلذلك قال تعالى:" لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ" لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء فلا يرون له أثراً من ثواب ولا فائدة نافعة.
فإن الله لا يقبل إلا ما كان خالصاً لوجهه موافقاً لشرعه... وفي تشبيهه بالرماد سر بديع، وذلك للتشابه الذي بين أعمالهم وبين الرماد في إحراق النار وإذهابها لأصل هذا وهذا، فكانت الأعمال التي لغير الله وعلى غير مراده طعمة للنار وبها تسعر النار على أصحابها، وينشيئ الله سبحانه لهم من أعمالهم الباطلة ناراً وعذاباً كما ينشئ لأهل الأعمال الموافقة لأمره ونهيه التي هي خالصة لوجهه من أعمالهم نعيماً وروحاً، فأثرت النار في أعمال أولئك حتى جعلتها رماداً، فهم وأعمالهم وما يعبدون من دون الله وقود النار .
4ـ نفقة الكفار والريح الشديدة: قال تعالى:" مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِـذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَـكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" (آل عمران ، آية : 117).شبه الله سبحانه ما ينفق الكافر ويتصدق به على وجه القربة إلى الله هو مشرك بالله وجاحد به ومكذب لرسله وأن ذلك غير نافعة وأنه مضمحل عند حاجته إليه ذاهب بعد ما كان يرجو نفعه، كشبه ريح فيها برد شديد وتحمل النار فأصابت زرع قوم أملوا إدراكه ورجوا ريعه لكنهم كفرة، فأهلكت الريح التي فيها الصر الزرع ولم ينتفع بشيئ منه، وكذلك يفعل الله بنفقة الكافر وصدقته ويبطل ثوابها، والمراد بالمثل صنيع الله بالنفقة .
وهذا مثل ـ أيضاً ـ ضربه الله تعالى لمن أنفق في غير طاعته ومرضاته، فشبه سبحانه ما ينفقه هؤلاء من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر ولا يبتغون به وجه الله، وما ينفقونه ليصدوا به عن سبيل الله واتباع رسله بالزرع الذي زرعه صاحبه يرجو نفعه وخيره، فأصابته ريح شديدة البرد جداً يحرق بردها ما يمر عليه من الزرع والثمار، فأهلكت ذلك الزرع وأيبسته .
5ـ قلب الموحد وقلب الكافر: قال تعالى:" وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ" (الأعراف ، آية : 58). بين سبحانه وتعالى في هذا المثل أن البلد الطيب تربته العذبة مشاربه يخرج نباته إذا أنزل الله الغيث طيباً ثمره في حينه ووقته، والبلد الذي خبث فتربته رديئة، ومشاربه مالحة، ويخرج نباته بعسر وشدة، فهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، لأن قلب المؤمن لما دخله القرآن آمن به وثبت الإيمان فيه وفاض بالخير، وقلب الكافر لما دخله القرآن لم يتعلق منه بشيء ينفعه ولم يثبت فيه الإيمان ففاض بالنكد والشر والفساد .
وقد سمى الله في كتابه المؤمن بالطيب والكافر بالخبيث فقال تعالى:" لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ" (الأنفال ، آية : 37). فالخبيث في هذه الآية هم الكفار والطيب هم المؤمنون .
هذه بعض الأمثلة القرآنية التي ضربت للكفار، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
رابعاً: النفاق: لفظ إسلامي لم تكن العرب تعرفه قبل الإسلام بهذا المعنى المخصوص، وحاصل عبارات العلماء في تعريفه يمكن إرجاعها إلى أن النفاق هو: إظهار الإيمان، وإبطان الكفر .
1ـ أنواع النفاق: ينقسم النفاق إلى نوعين، نفاق الاعتقاد ونفاق العمل:
أ ـ نفاق الاعتقاد: وهذا النوع من النفاق الأكبر الذي يخرج صاحبه من ملة الإسلام، ويوجب له الخلود في النار، ويُحرّم عليه دخول الجنة، وذلك لأنه أظهر الإسلام والخير وأبطن الكفر والشر، وهؤلاء هم أشد خطراً وبلاءً على الإسلام، والمسلمين، لأنه يؤمن جانبهم لما ظهر من أمور تدل على إيمانهم ويأتي الخطر كل الخطر من جانبهم، فهم الذين يشيعون الفاحشة في الذين آمنوا وهم الذين يذبذبون الصف المسلم، وغير ذلك ولكن الله كاشف أمرهم، وهو على إذلالهم قدير، قال تعالى:" وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ*  يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ* فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ" (البقرة ، آية : 8 ـ 10).
ب ـ النفاق العملي: وهو النفاق الذي لا ينقل صاحبه عن الملة، بل يظل معه مسلماً، ويبقى معه إيمانه، وهذا النفاق العملي هو الاتصاف ببعض أعمال المنافقين التي لا تنقض الإيمان، بل في المعاملات، وذلك مثل الكذب في الحديث، إخلاف الوعد، الغدر عند الخصام، الخيانة عند الائتمان، فإنه قد يجتمع في العبد بعض خصال الخير، وبعض خصال الشر، ويستحق من الثواب على قدر ما عنده من خصال الخير ويستحق من العذاب على قدر ما عنده من خصال الشر والنفاق وكان الصحابة رضوان الله عليهم يخافون النفاق ويحذرون الوقوع فيه والاقتراب منه ، قال ابن أبي مليكة رحمه الله: أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه .
إن اتهام بعض الصحابة أنفسهم بالنفاق والخوف من الوقوع فيه، يدل على أشياء كثيرة ومعانٍ رفيعة منها:
ـ مدى حرص الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ على إيمانهم وتوحيدهم وحفظ إيمانهم، من أن تشوبه شائبة تعكّر صفوه أو تنقص كماله.
ـ تواضع الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ وعدم اغترارهم بأعمالهم.
ـ ما يجب أن يكون عليه العبد من الخوف والرجاء، فإنه يخاف ربه وأن يقع فيما يغضبه، وفي نفس الوقت يرجو رحمته .
2ـ من أبرز صفات المنافقين:
أ ـ الإفساد في الأرض بتهديم شريعة الله واتهام المؤمنين بالسفه قال تعالى في وصف المنافقين:" إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ*  أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ* وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ" (البقرة ، آية : 11 ـ 13).
ب ـ خداع المؤمنين: قال تعالى:" وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ" (البقرة ، آية : 14).
ج ـ الإعراض عن التحاكم إلى شرع الله: قال تعالى:" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا *وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا" (النساء ، آية : 60، 61).
د ـ الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف: قال تعالى:" الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ
بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (التوبة ، آية : 67).
هـ ـ اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين: قال الله تعالى:" بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا *الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا"  (النساء ، آية : 138، 139).
هذه أبرز صفات المنافقين وإلا التي ذكرت في القرآن الكريم كثيرة.
خامساً: الرِّدَّة: هي رجوع المسلم العاقل البالغ عن الإسلام إلى الكفر، مختاراً غير مكره ويستوي فيه الذكر والأنثى .
1ـ أنواع الردة:
أ ـ الارتداد بالقول: كسبّ الله تعالى، والنطق بقول يكفر به.
ب ـ الارتداد بالفعل: كالسجود للأصنام والكواكب ونحوها، أو إذا أتى بفعل صريح، كالاستهزاء بالدين، أو امتهان القرآن، أو وضعه في القاذورات.
ج ـ الارتداد بالاعتقاد: كاعتقاد الشريك لله سبحانه وتعالى أو اعتقاد حِلّ شيء من المحرمات المجمع عليها إجماعاً قطعياً.
س ـ الارتداد بالشك: كما لو شك في شيء من واجبات الدين، كالصلاة أو الصيام، أو الزكاة أو يشك في تحريم الشرك، أو شيء من المحرمات المعلومة من الدين بالضرورة، مثل الزنا والخمر أو شك في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الانبياء أو في صدقه، أو في دين الإسلام، أو في صلاحيته لهذا الزمان أو غيره من الأزمنة .
2ـ الأحكام التي تترتب على الارتداد:
أ ـ استتابة المرتد، فإن تاب ورجع إلى الإسلام في خلال ثلاثة أيام قبل منه ذلك.
ب ـ إذا أبى أن يتوب وجب على القاضى الامر بقتله، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من بدل دينه فأقتلوه .
ج ـ يُمنع من التصرف في ماله في مدة استتابته، فإن أسلم فهو له وإلا صار فيئاً لبيت المال من حين قتله أو موته على الردة، وقيل: من حين ارتداده يصرف في مصالح المسلمين.
س ـ انقطاع التوارث بينه وبين أقاربه فلا يرثهم ولا يرثوه.
ك ـ إذا مات أو قتل على ردته فإنه لا يُغسَّل ولا يُصلىَّ عليه ولا يُدفن في مقابر المسلمين، وإنما يدفن في مقابر الكفار أو يوارى في التراب في أماكن غير مقابر المسلمين، هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فإنها تستوجب العذاب الشديد والخلود في النار ، وذلك لقوله تعالى:" وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة ، آية : 217).
3ـ الأشياء التي يصير بها المسلم مرتداً:
ـ الشرك بالله تعالى، وهو أن يجعل لله نداً من مخلوقاته يُدعى كما يُدعى الله، ويخاف كما يخاف الله ويتوكل عليه كما يتوكل على الله أو يصرف له شيء من العبادات، فإذا فعل ذلك كفر، وخرج من الإسلام قال تعالى:" وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ" (الزمر ، آية : 8).
ـ إظهار الطاعة والموافقة للمشركين على دينهم قال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ* ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ* فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ* ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ" (محمد ، آية : 25ـ 28).
ـ موالاة المشركين والكافرين قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (المائدة ، آية : 51).
وقال تعالى:" لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ" (آل عمران ، آية : 28).
ـ الجلوس عند المشركين في مجالس شركهم من غير إنكار قال تعالى:" وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا" (النساء ، آية : 140).
ـ الاستهزاء بالله أو بكتابه أو برسوله قال تعالى:" قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ* لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ" (التوبة ، آية : 65، 66).
ـ ظهور الكراهية والغضب عند الدعوة إلى الله وتلاوة كتابه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى:" وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" (الحج ، آية : 72).
ـ كراهية ما أنزل الله على رسوله من الكتاب والحكمة قال تعالى:" ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ" (محمد ، آية : 9).
ـ جحد الناس شيئاً من كتاب الله ولو آية، أو بعضها أو شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً* أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا" (النساء ، آية : 150، 151).
ـ عدم الإقرار بما دلت عليه آيات القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة، قال تعالى:" مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ" (غافر ، آية : 4).
ـ الإعراض عن تعلم دين الله والغفلة عن ذلك، قال تعالى:" وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ" (الأحقاف ، آية : 3).
ـ كراهية إقامة الدين والاجتماع عليه، قال تعالى:" شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ" (الشورى ، آية : 13).
ـ السحر، تعلّمه وتعليمه والعمل بموجبه، قال تعالى:" وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُر"ْ (البقرة ، آية : 102).
ـ إنكار البعث قال تعالى:" وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ" (الرعد ، آية : 5).
ـ التحاكم إلى غير حكم الله عز وجل قال تعالى:" أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ" (المائدة ، آية : 50).
سادساً: الفسق: هو الخروج عن طاعة الله سواء كان خروجاً كلياً أو جزئياً.
وينقسم إلى نوعين:
1ـ فسق ينقل عن الملة وهو الكفر، فهو فسق كلي، خرج صاحبه عن طاعة الله وعبوديته، ولقد سمَّى الله تعالى الكفر المخرج عن الملة الموجب لصاحبه النار، سمَّاه فسقاً، كما قال تعالى:" فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ " (الكهف ، آية : 50)، وسمَّى الله تعالى أصحاب النار فُساقاً، قال تعالى:" وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ" (السجدة ، آية : 20).
2ـ وهو الفسق الذي لا ينقل من الملة وهو فسق جزئي وهو يطلق على بعض المعاصي وعلى بعض العصاة وهو لا يخرج من الملة وصاحبه مازال في حظيرة الإسلام ولقد سمَّى الله المؤمنين الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بالشهداء بأنهم فاسقون وهم مازالوا في حظيرة الإسلام يتمتعون بعقيدة المسلمين، قال تعالى:" وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (النور ، آية : 4).
سابعاً: المعاصي: الكبائر والصغائر:
1ـ المعاصي: هي ترك المأمورات وفعل المحظورات، أو ترك ما أوجب وفرض من كتابه أو على لسان رسوله وارتكاب ما نهى الله عنه أو رسوله صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأعمال الظاهرة أو الباطنة .
ولفظ المعصية والفسوق والكفر إذا اطلقت المعصية لله ورسوله دخل فيها الكفر والفسوق كقوله:" وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا" (الجن ، آية : 23). وقال تعالى:" وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ" (هود ، آية : 59). فهذه معصية ولجنس الرسل .
وقد جاء معنى العصيان بألفاظ كثيرة في القرآن الكريم:
ـ الذنب قال تعالى:" فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ" (العنكبوت ، آية : 40).
ـ الخطيئة قال تعالى عن اخوة يوسف:" إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ" (يوسف ، آية : 97).
ـ السيئة قال تعالى:" إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ" (هود ، آية : 114).
ـ الحُوب قال تعالى:" إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا" (النساء ، آية : 2).
ـ الإثم قال تعالى:" قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ" (الإعراف ، آية : 33).
ـ الفسوق والعصيان قال تعالى:" وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ" (الحجرات ، آية : 7).
ـ الفساد قال جلّ وعلا:" إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا" (المائدة ، آية : 33).
ـ العتو قال تعالى:" فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ" (الإعراف ، آية : 166).
2ـ أنواع المعاصي: تنقسم المعاصي إلى كبائر وصغائر حسب تقسيمها في الكتاب والسنة للأدلة الآتية، أما في الكتاب فمنها قوله تعالى:" إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ" (النساء ، آية : 31)، ففي هذه الآية بيان أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر .
وقوله جلّ جلاله:" الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ" (النجم ، آية : 32)، في الآية استثناء منقطع، لأن اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال فهو استثناء من عامة الكبائر وقوله تعالى:" وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ" (الحجرات، آية : 7). فجعلها مراتب ثلاثاً وسمّى أولها كفراً، وثانيها فسقاً، وثالثها عصياناً .
وقوله تعالى:" مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا" (الكهف ، آية : 49)، وهذا نص صريح في أن ما يعمل الإنسان يدون عليه صغيراً كان أو كبيراً .
وأما في السنة فقد جاءت أحاديث كثيرة منها:
ـ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قال: قلت له: إن ذلك لعظيم. قال قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك .
ـ وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثاً: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور أو قول الزور، وكان رسول الله متكئاً فجلس فمازل يكررها حتى قلنا ليته سكت .
ـ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إن اجتنبت الكبائر . فهذه الأدلة وغيرها كثير تدل دلالة صريحة على أن المعاصي منها ما هو كبائر بل وأكبر الكبائر، كما جاء في الأحاديث السابقة.
3ـ تعريف الكبيرة: كل ذنب ختمه الله تعالى بنار أو غضب، أو لعنة أو عذاب ، وقيل: كل ما أوجب فيه حد أو ورد فيه توعد بالنار أو جاءت فيه لعنة . وقال بعض أهل العلم وغيرهم أنه يمكن أن تعرَّ ف الكبائر بالعد بدلاً من الحد ومنهم من قال عن الكبائر: هي على السبعين أقرب منها إلى السبع . وذكر الهيثمي عن العلائي أنه صنف جزءاً جمع فيه ما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبيرة وهي: الشرك، والقتل، والزنا، وأفحشه بحليلة الجار، والفرار من الزحف، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، والسحر، وشهادة الزور، اليمين الغموس، والنميمة، والسرقة، وشرب الخمر، واستحلال بيت الله الحرام، ونكث الصفقة، وترك السنة، والتعرب بعد الهجرة، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، ومنع ابن السبيل من فضل الماء، وعدم التنزه من البول، وعقوق الوالدين والتسبب إلى شتمهما، والإضرار في الوصية، فهذه الخمس والعشرون هي مجموع ما جاء في الأحاديث منصوصاً عليه أنه كبيرة .
إن ما ذكره صحيح من حيث كونها كبيرة منصوصاً عليها والأدلة عليها في مظانها، ولكن ليس هذا مجموع ما جاء في الأحاديث الصحيحة المنصوص عليها بل قد ورد غيرها ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الآتي:
كالكذب وقاتل نفسه والمكثر من اللعان بغير حق، تشبه الرجال بالنساء أو العكس، سوء الجوار، الخيانة، الرشوة، تغيير منار الأرض...الخ
الخلاصة، إن الكبائر غير منحصرة بعدِّ ولا حد منضبط بل إنها كل معصية دل الدليل على توكيد التحريم وتغليظه سواء توعد عليها بلعن أو غضب أو نار أو عذاب أو حد أو غير ذلك، مما عظم ضررها في الوجود أو اقترن بارتكابها ما تعظم به .
4ـ تعريف الصغائر: الصغيرة ما ليس فيها حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة .
قال تعالى:" الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ" (النجم ، آية : 32)، واللمم: ما كان بين الحدين لم يبلغ حد الدنيا ولا حد الآخرة: موجبة قد أوجب الله لأهلها النار، أو فاحشة يقام عليها الحد في الدنيا ، والصغيرة مع الإصرار تشكل خطر على صاحبها وربما تهلكه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب، كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى حملوا ما انضجوا به خبزاً، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه .
ولأن السيئة وإن صغرت تجر أختها حتى توقع فاعلها في ما هو أكبر من الكبائر ولهذا دفع السيئة بالحسنة لا بالسيئة، قال تعالى:" ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ" (المؤمنون ، آية : 96)، وقال صلى الله عليه وسلم: اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها .
فإن العبد إذا وقع في سيئة عليه أن يعمل حسنة تمحو تلك السيئة التي عملها فيبدل مكان السوء إحساناً ومكان السيئة الطاعة، فإنه إذا وُفِّق لفعل الحسنات ألفها وأحبها واطمئن قلبه لها فلا يفارقها أبداً حتى لو أجبر على سيئة لم يأنس بها قلبه يؤنبه وإيمانه ينهاه عنها فهو يزداد كل يوم خيراً وعن الشر بعداً .
5ـ حكم مرتكب الكبيرة: سلك الصحابة والتابعون لهم بإحسان منهجاً وسطاً في شأن مرتكب الكبيرة، فلم يكفروه ولم يقولوا بأنه كامل الإيمان، بل إنه مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته أو هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن عاص، وهذا الحكم عليه إنما هو في الدنيا، أما في الآخرة فهو تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، وبهذا الحكم عليه جمعوا بين النصوص الشرعية التي تصف أهل الإيمان والنصوص التي لم تخرج الفاسق من دائرة الإسلام .
إن فساق الملة ليسوا مخلدين في النار وليسوا كاملين في الدين والإيمان والطاعة بل لهم حسنات وسيئات، يستحقون بهذا العقاب، وبهذا الثواب .
وقد اتفق الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين على أنه لا يخلد في النار ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، واتفقوا أيضاً على أن نبينا صلى الله عليه وسلم يشفع فيمن يأذن الله له بالشفاعة فيه من أهل الكبائر من أمته .
وقد استدل علماء الأمة الإسلامية على قولهم في مرتكب الكبيرة بالعديد من الأدلة من الكتاب والسنة منها:
أ ـ قال تعالى:" إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء" (النساء، آية : 48)، وقد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه، ما لم تكن كبيرته شركاً بالله .
ب ـ قال تعالى:" وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" (الحجرات ، آية : 9، 10).
رغم أن القتال بين المسلمين من الكبائر لم ينتف عن المتقاتلين اسم الإيمان ولم يخرجوا به عن أهله ، وقد استدل كثير من العلماء بهذه الأية على أن المعصية وإن عظمت لا تخرج من الإيمان .
ج ـ قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ" (البقرة ، آية : 178)، مع أن الله عز وجل أوعد القاتل بالخلود في النار عقوبة له على جريمته قال تعالى:" وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا" (النساء ، آية : 93). ومع ذلك لم ينف عن هذا القاتل العاصي صفة الإيمان فهو أخ لأولياء المقتول وهم مؤمنون:" فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ" والمراد بالأخوة إخوة الدين ، والقاتل جزاؤه جهنم، فإن شاء الله غفر له .
س ـ ولم ينف القرآن الكريم صفة الإيمان عمن أكل أموال الناس بالباطل، أو أكل الربا مادام غير مستحيل لذلك فيقول تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ" (النساء ، آية : 29)، وقوله تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" (البقرة ، آية : 278).
د ـ وورد أيضاً من الأحاديث الصحيحة التي تنص على أن المعاصي لا تخرج عن الملة ومن ذلك، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض، وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فقال: ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك دخل الجنة. قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، على رغم أنف أبي ذر . ففي قوله: وإن زنى وإن سرق، دليل على أن أصحاب الكبائر لا يقطع لهم بالنار وأنهم إن دخلوها أخرجوا منها، وختم لهم بالخلود في الجنة .
ـ وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله في مجلس، فقال: تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله عليه،فأمره إلى الله، وإن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه .
هـ ـ ومما يستدل به: اجماع الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان على أن صاحب الكبيرة مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته وهوتحت مشيئة الله تعالى في الآخرة .

 
الخاتمة

وبعد: فهذا ما يسره الله لي من الحديث عن الإيمان بالله عز وجل في هذا الكتاب، وقد سميته "الإيمان بالله جلّ جلاله"، فما كان فيه من صواب فهو محض فضل الله عليَّ، فله الحمد، والمنة، وما كان فيه من خطأ، فأستغفر الله تعالى، وأتوب إليه، والله ورسوله بريء منه، وحسبي أني كنت حريصاً ألا أقع في الخطأ وعسى ألا أُحرم من الأجر.
وأدعو الله أن ينفع بهذا الكتاب بني الإنسان أينما وجد، ويكون سبباً في زيادة إيمانه، وهدايته أو تعليمه أو تذكيره، وأن يذكرني من يقرؤه من إخواني المسلمين في دعائه، فإن دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب مستجابة إن شاء الله تعالى، وأختم هذا الكتاب بقول الله تعالى: "رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" (الحشر ، آية : 10).
ويقول الشاعر:
    إلهي لا تعذبني فإني
                    مقر بالذي قد كان مني
    ومالي حيلة إلا رجائي
                    وعفوك إن عفوت وحسن ظني
    فكم من زلة لي في البرايا
                    وأنت عليَّ ذو فضل ومنّ
    إذا فكّرت في ندمي عليها
                    عضضت أناملي وقرعت سني
    يظن الناس بي خيراً وإني
                    لشرُّ الناس إن لم تعف عني
   
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك
فهرس الكتاب

المقدمة
الفصل الأول: كلمة الشهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله
المبحث الأول: معنى لا إله إلا الله وفضلها وشروطها
أولاً: معنى لا إله إلا الله
ثانياً: فضل كلمة لا إله إلا الله
ثالثاً: أفضل الذكر لا إله إلا الله
رابعاً: أشعة كلمة التوحيد، تبدد ظلمات القلوب
خامساً: التوافق بين لا إله إلا الله ((وإياك نعبد))
سادساً: شروط لا إله إلا الله
1ـ العلم
2ـ اليقين
3ـ القبول لما اقتضته هذه الكلمة بالقلب واللسان
4ـ الانقياد لما دلت عليه المنافي لترك ذلك
5ـ الصدق المنافي للكذب
6ـ الإخلاص
7ـ المحبة
سابعاً: ارتباط لا إله إلا الله بالولاء والبراء
ـ اسوة حسنة في الولاء والبراء من الأمم الماضية
ـ إبراهيم عليه السلام
ثامناً: آثار الإقرار بـ ((لا إله إلا الله))
المبحث الثاني: إثبات وجود الخالق
أولاً: دليل الخلق
ثانياً: دليل الفطرة والعهد
ثالثاً: دليل الآفاق
1ـ نقص الأكسجين في الإرتفاعات
2ـ حركة النجوم والكواكب في مداراتها
3ـ دوران الأرض والجبال
4ـ حاجز بين بحرين مالحين
5ـ إهتزاز الأرض وزيادتها بالمطر
6ـ أوهن البيوت
رابعاً: دليل الأنفس
1ـ الإحساس والجلد
2ـ البصمات وتحديدها لهوية الإنسان
خامساً: دليل الهداية
1ـ النحل
2ـ الهدهد
سادساً: دليل انتظام الكون وعدم فساده
سابعاً: دليل التقدير
ثامناً: دليل التسوية
المبحث الثالث: توحيد الربوبية
1ـ سنن عامة
2ـ سنن خاصة
المبحث الرابع: توحيد الأسماء والصفات
أولاً: الأسس التي يقوم عليها توحيد الأسماء والصفات
ثانياً: أدلة هذا النوع من التوحيد
ثالثاً: أسماء الله الحسنى
1ـ أسماء الله تبارك وتعالى كثيرة
2ـ أسماء الله تبارك وتعالى توقيفية
3ـ من أسماء الله الحسنى ما يختص به سبحانه
4ـ من أسماء الله عز وجل ما يجوز أن يذكره وحده منفرداً
5ـ معنى الإحصاء في قوله صلى الله عليه وسلم: أن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً
رابعاً: الصفات الخبرية
1ـ الصفات العقلية
2ـ الصفات الخبرية
3ـ صفات ذاتية
أ ـ بعض الصفات الذاتية
ـ صفة الحياة
ـ صفة العلم
ـ صفة القدرة
ـ إثبات صفة السمع والبصر
ـ إثبات صفة الكلام
ـ علو الله على خلقه
ـ إثبات صفة اليدين
ب ـ بعض الصفات الخبرية
ـ صفة المجئ
ـ صفة الرضا
ـ صفة السخط
ـ صفة الكراهة
ج ـ بعض الصفات التي تطلق في باب المقابلة
س ـ الله ينزه عن كل صفة نقص
4ـ صفات الله كلها صفات كمال
5ـ من لوازم استحقاق الله تعالى لصفات الكمال وحده
6ـ نفي معاني أسمائه الحسنى من أعظم الإلحاد فيه
7ـ آثار الصفات الإلهية في النفس والكون والحياة
خامساً: أثر الصفات الإلهية على الأخلاق
1ـ التخلق بالقدوس ((القدوس))
2ـ التخلق بالسلام ((السلام))
3ـ التخلق بالإيمان ((المؤمن))
4ـ التخلق بالهيمنة ((المهيمن))
5ـ التخلق بالعزة ((العزيز))
6ـ التخلق بالجبر ((الجبار))
7ـ التخلق بالتكبر عن الرذائل ((المتكبر))
8ـ التخلق بالحلم ((الحليم))
9ـ التخلق بالصبر ((الصبور))
10ـ التخلق بالإعزاز ((المعز))
11ـ التخلق بالإذلال ((المذل))
سادساً: وصف الله نفسه بالمغفرة لا يعني الإسراف في المعاصي
المبحث الخامس: توحيد الألوهية
أولاً: تعريفه ومكانته خاصة
ثانياً: الطريقة القرآنية في الدعوة لتوحيد الألوهية
ثالثاً: معنى العبادة وشروط قبولها
الشرط الأول: الإخلاص
الشرط الثاني: في قبول العبادة الموافقة للشرع
رابعاً: حقيقة العبادة
خامساً: أنواع العبادة
1ـ الدعاء
أ ـ التوسل إلى الله بأسمائه الحسنى أو صفة من صفاته
ب ـ التوسل إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة
ج ـ التوسل إلى الله تعالى بدعاء الصالحين الأحياء
2ـ النذر
3ـ الذبح
4ـ التوكل
5ـ الإستعانة
6ـ الإستغاثة
7ـ الخشية
8ـ الخوف
9ـ المحبة
سادساً: أفضل العبادات
سابعاً: تحكيم الشريعة وارتباطها بالتوحيد
1ـ ربطها بتوحيد العبادة
2ـ ربطها بتوحيد الربوبية
3ـ ربطها بتوحيد الأسماء والصفات
4ـ ربطها بالإيمان
5ـ ربطها بالإسلام
6ـ ربطها بالشهادتين
7ـ طاعة غير الله والإعراض عنه كفر وشرك
ثامناً: الآثار الحسنة للحكم بما أنزل الله
1ـ الإستخلاف
2ـ الأمن والإستقرار
3ـ النصر والفتح
4ـ العز والشرف
5ـ بركة العيش ورغده
6ـ الهداية والتثبيت
7ـ الفلاح والفوز
8ـ المغفرة وتكفير السيئات
9ـ مرافقة النبيين والصّدّقين
تاسعاً: الآثار السيئة للحكم بغير ما أنزل الله
1ـ قسوة القلب
2ـ الضلال
3ـ الوقوع في النفاق
4ـ الحرمان من التوبة
5ـ الصّدُّ عن سبيل الله
6ـ غياب الأمن وانتشار الفوضى
7ـ انتشار العداوة والبغضاء
8ـ الحرمان من النصر والتمكين
9ـ هول العقاب الذي ينتظر المبدلين لشرعه
10ـ الإهانة عند قبض الارواح
11ـ الأكل من النار وغضب الجبار
12ـ العذاب المهين
عاشراً: حماية الرسول صلى الله عليه وسلم لتوحيد الألوهية
1ـ النهي عن الغلو والإطراء
2ـ زيارة القبور والنهي عن اتخاذها مساجد
3ـ الرقي والتمائم
4ـ الاستسقاء بالأنواء
5ـ السحر
6ـ الكهانة
7ـ الشفاعة
المبحث السادس: الإيمان
أولاً: الإيمان لغة وشرعاً وزيادة ونقصاناً
ثانياً: الإسلام والإيمان والإحسان
ثالثاً: أصل الإيمان
رابعاً: الأسس التي يقوم عليها الإيمان بالله عز وجل
1ـ الكفر بالطاغوت
2ـ الإيمان بالغيب
3ـ امتثال الأوامر واجتناب النواهي
4ـ الإخلاص لله في العبادة
5ـ صدق المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم
6ـ العلم
خامساً: شرح بعض الآيات القرآنية تحدثت عن الإيمان
1ـ زينة الإيمان
2ـ نور الإيمان
3ـ روح الإيمان
سادساً: أسباب قوة الإيمان
1ـ معرفة أسماء الله الحسنى
2ـ تدبر القرآن على وجه العموم
3ـ معرفة النبي صلى الله عليه وسلم
4ـ التفكر في الكون والنظر في الأنفس
5ـ الإكثار من ذكر الله في كل وقت
أ ـ الحياة الطيبة الحقيقية
ب ـ القوة في الأبدان واحياء المعاش والجهاد
ج ـ رقة القلب وخشوعه
س ـ النجاة من العذاب
ر ـ من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة
ز ـ تكثير الشهود يوم القيامة
6ـ معرفة محاسن الدين
7ـ الإجتهاد في التحقق في مقام الإحسان
8ـ الدعوة إلى الله
9ـ توطين النفس على مقاومة ما ينافي الإيمان
10ـ معرفة حقيقة الدنيا واعتبارها ممر للآخرة
سابعاً: صفات المؤمنين
1ـ سورة المؤمنين
أ ـ الخشوع في الصلاة
ب ـ الإعراض عن اللغو
ج ـ تطهيرهم لأنفسهم بأداء الزكاة
ح ـ حفظ الفروج
خ ـ رعاية الأمانة والعهد
س ـ المحافظة على الصلوات
2ـ سورة الفرقان
أ ـ السكينة والوقار
ج ـ الحلم
ح ـ إحياء الليل بالصلاة
ر ـ القصد والإعتدال في الإنفاق
ز ـ عدم الشرك بالله والتحرج عن قتل النفس والزنا
س ـ عدم شهادة الزور
ثامناً: من فوائد الإيمان وثمراته
1ـ الاغتباط بولاية الله الخاصة
2ـ الفوز برضا الله تعالى
3ـ دفاع الله عن المؤمنين
4ـ الحياة الطيبة
5ـ حصول البشارة بكرامة الله
6ـ حصول الفلاح والهدى
7ـ الانتفاع بالمواعظ والتذكير
8ـ قطع الشكوك التي تضر بالدين
9ـ ملجأ المؤمنين
10ـ المنع من الوقوع في الموبقات المهلكة
11ـ الشكر والصبر
12ـ تأثيره على الأعمال والأقوال
13ـ هداية الله إلى الصراط المستقيم
14ـ محبة الله والمؤمنين من خلقه
15ـ رفع الله لمكانتهم
المبحث السابع: نواقض التوحيد والإيمان
أولاً: الشرك
ثانياً: أنواع الشرك
1ـ الشرك الأكبر
أ ـ شرك الدعاء
ب ـ شرك النية والإرادة والقصد
ج ـ شرك الطاعة
ح ـ شرك المحبة
ـ مثل المشرك بالساقط من السماء
ـ مثل المشرك بالحيران في الأرض
ـ مثل المشرك بالعبد المملوك بجماعة كثيرين
2ـ الشرك الأصغر
3ـ الفرق بين الشرك الأكبر والأصغر
4ـ آثار الشرك
ثانياً: الكفر
ـ أنواع الكفر
1ـ كفر أكبر
أ ـ كفر التكذيب
ب ـ الإباء واستكبار
ج ـ كفر الإعراض
ح ـ كفر الشك
ر ـ كفر النفاق
2ـ كفر أصغر
3ـ إطلاق حكم الكفر
4ـ شروط التكفير
أ ـ العلم
ب ـ العمد
ج ـ الاختيار والقدرة
5ـ موانع التكفير
أ ـ الخطأ
ب ـ الجهل
ج ـ العجز
س ـ الإكراه
6ـ ما يمحو الكفر بعد ثبوته على المعين
ثالثاً: الأمثال القرآنية للكافرين
1ـ السراب وأعمال الكفار
2ـ ظلمات الكفر
3ـ الرماد وأعمال الكفار
4ـ نفقة الكفار والريح الشديدة
5ـ قلب الموحد وقلب الكافر
رابعاً: النفاق
1ـ أنواع النفاق
أ ـ نفاق الاعتقاد
ب ـ النفاق العملي
2ـ من أبرز صفات المنافقين
أ ـ الإفساد في الأرض
ب ـ خداع المؤمنين
ج ـ الإعراض عن التحاكم إلى شرع الله
د ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
هـ ـ اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين
خامساً: الردة
1ـ أنواع الردة
2ـ الأحكام التي تترتب على الارتداد
3ـ الأشياء التي يصير فيها المسلم مرتداً
سادساً: الفسق
1ـ فسق ينقل من الملة
2ـ فسق لا ينقل من الملة
سابعاً: المعاصي: الكبائر والصغائر
1ـ المعاصي
2ـ أنواع المعاصي
3ـ تعريف الكبيرة
4ـ تعريف الصغائر
5ـ حكم مرتكب الكبيرة
6ـ الخاتمة
7ـ فهرس الكتاب
8 ـ المؤلف في سطور

 
المؤلف في سطور

ـ ولد في مدينة بنغازي بليبيا عام (1383هـ/1963م).
ـ حصل على درجة الإجازة العالية (الليسانس) من كلية الدعوة وأصول الدين من جامعة المدينة المنورة بتقدير ممتاز. وكان ترتيبه الأول على دفعته عام (1413هـ/1414هـ ـ 1992/1993م).
ـ نال درجة الماجستير من جامعة أم درمان الإسلامية في السودان عام 1996م وكانت الرسالة العلمية: في الماجستير: ((الوسطية في القرآن الكريم))، وأما الدكتوراه فكانت: ((فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم)) عام 1999م.
ـ البريد الإلكتروني [email protected]
 
كتب صدرت للمؤلف:
1ـ السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث.
2ـ سيرة الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: شخصيته وعصره.
3ـ سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: شخصيته وعصره.
4ـ سيرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: شخصيته وعصره.
5ـ سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: شخصيته وعصره.
6ـ سيرة أمير المؤمنين الحسن بن علي بن أبي طالب. شخصيته وعصره.
7ـ الدولة العثمانية: عوامل النهوض والسقوط.
8ـ فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم.
9ـ تاريخ الحركة السنوسية في إفريقيا.
10ـ تاريخ دولتي المرابطين والموحدين في الشمال الإفريقي.
11ـ عقيدة المسلمين في صفات رب العالمين.
12ـ الوسطية في القرآن الكريم.
13ـ الدولة الأموية، عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار.
14ـ معاوية بن أبي سفيان، شخصيته وعصره.
15ـ عمر بن عبد العزيز، شخصيته وعصره.
16ـ خلافة عبدالله بن الزبير.
17ـ عصر الدولة الزنكية.
18ـ عماد الدين زنكي.
19ـ نور الدين زنكي.
20ـ دولة السلاجقة.
21ـ الإمام الغزالي وجهوده في الإصلاح والتجديد.
22ـ الشيخ عبد القادر الجيلاني.
23ـ الشيخ عمر المختار.
24ـ عبد الملك بن مروان بنوه.
25ـ فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة.
26ـ حقيقة الخلاف بين الصحابة.
27ـ وسطية القرآن في العقائد.
28ـ فتنة مقتل عثمان.
29ـ السلطان عبد الحميد الثاني.
30ـ دولة المرابطين.
31ـ دولة الموحدين.
32ـ عصر الدولتين الأموية والعباسية وظهور فكر الخوارج.
33ـ الدولة الفاطمية.
34ـ حركة الفتح الإسلامي في الشمال الأفريقي.
35ـ صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير البيت المقدس.
36ـ إستراتيجية شاملة لمناصرة الرسول صلى الله عليه وسلم دروس مستفادة من الحروب الصليبية.
37ـ الشيخ عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء.
38ـ الحملات الصليبية (الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة) والأيوبيون بعد صلاح الدين.
39ـ المشروع المغولي عوامل الإنتشار وتداعيات الإنكسار.
40ـ سيف الدين قطز ومعركة عين جالوت في عهد المماليك.
41 ـ الإيمان بالله جل جلاله

الإيمان بالله جل جلاله

تحميل

عن الكتاب

المؤلف :

علي محمد الصلابي

الناشر :

www.islamland.com

التصنيف :

عقيدة وفرق