الإيمان باليوم الآخر

قرن القرآن الكريم بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر؛ لأنهما حصنا المسلم اللذان يحجزانه عن الوقوع في المعاصي المؤدية إلى النار...تحدّث الكتاب عن الروح ومفارقتها للجسد، وعلامات حسن الخاتمة، وعلامات سوء الخاتمة والعياذ بالله عن الحياة البرزخية، وعذاب القبر، وأسبابه، وما ينجي المؤمن من ذلك العذاب وعن علامات الساعة الصغرى والكبرى والنفخ في الصور عن البعث وأهواله، وعن أحوال الكفار في ذلك اليوم وأحوال عصاة الموحدين، وأحوال الأتقياء عن الشفاعة وشروطها وأنواعها، والأسباب الجالبة لها، عن الحساب والأمور التي يُسأل عنها العباد، والقواعد التي يُحاسبون على أساسها، ووصف حوض النبي صلى الله عليه وسلم ومَن يرده، ومن يُذَادُ عنه، ووصف الميزان والصراط، وما يلقاه الناس عندهما من أهوال؛ ثم وصف دقيق الجنة ونعيمها، وللنار وعذابها، وموانع الوقوع في العذاب.إن الكتاب موسوعة شاملة عن اليوم الآخر إعتماداً على القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة بأسلوب واضح وسهل.





الإهداء

إلى كل إنسان يبحث عن حقيقة مصير البشرية في هذا الوجود أهدي هذا الكتاب.
قال تعالى:{فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكهف، آية : 110)
 






الإيمان باليوم الآخر
"فقه القدوم على الله"


قال تعالى:"أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ" (المؤمنون، آية : 115).


                            د. علي محمد الصَّلاَّبي

 

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ومن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم
مُّسْلِمُونَ" (آل عمران، آية : 102).
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا" (النساء، آية : 1).
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا" (الأحزاب، آية : 70 ـ 71).
يا رب لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعض الرضى.
أما بعد: فهذا الكتاب يتحدث عن اليوم الآخر الذي أخبرنا به الخالق العظيم، الرحمان الرحيم، القوى العزيز، في كتابه المجيد.
ومن خلال مسيرتي في عالم التاريخ رأيت كيف قامت الدول وزالت، وتوسعت الحضارات ثم تبخرت كأن لم تغن بالأمس، وكم من ملوك وأمراء وقادة وحكام وعلماء وفقهاء، وفلاسفة، وعوام من الناس لا يحصيهم إلا الذي خلقهم، قد ماتوا وأصبحوا في الأمس الغابر، ودخلوا في عالم البرزخ العظيم.
هذا الكتاب يتحدث عن مصير البشرية بدون استثناء ويجيب عن أسئلة حيَّرت الكثير من العقول لبعدها عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن هذا العالم الذي نعيش فيه قد اضطربت فيه التصورات وانحرفت فيه العقائد عن الله والكون، والإنسان والحياة، والقضاء والقدر، والجنة والنار، والمسلمون يملكون عقيدة سليمة لا يملكها غيرهم، وحباهم الله بكتابه العزيز الذي حفظه من الضياع والتحريف وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وهي شارحة ومبينة لكتاب ربنا عز وجل، فبإمكاننا أن نقدم للعالم شيئاً يحتاجه ولا يملكه ومفتقر إليه ولا يستغني عنه.
إن بني البشر يسألون عن مصيرهم وإلى أين هم ذاهبون ويخشون من الموت وأهواله ويبحثون عن إجابات شافية ماذا بعد الموت؟
وصدق الله العظيم القائل في محكم كتابه " أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ*فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ" (المؤمنون، آية : 115 ـ 116) في هذا الكتاب إجابات شافية ووافية لتسأولات الكثير من بني الإنسان قد جمعتها من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة واسترشدت بأقوال علماء راسخين وفقهاء ربانيين حفظ الله جهودهم العلمية في أمهات الكتب القديمة والحديثة والمراجع والمصادر الموثوقة.
فهذا الكتاب في فصله الأول يتحدث عن الروح والموت وحياة البرزخ ويبين حقيقة الروح في القرآن الكريم، ويجيب على اسئلة متعلقة بها، هل الروح قديمة أم مخلوقة؟ وهل النفس هي الروح وما هي مراتب النفوس؟ وهل تموت الأرواح؟ وهل للروح كيفية تعلم؟
وكيف تقبض الروح في النوم؟ ومتى يغلق باب التوبة؟ وكيفية نزع الروح وخروج روح المؤمن؟
ويشرح الآيات المتعلقة بهذه الأمور كقوله تعالى:" أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ*الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ*لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" (يونس، آية : 62 ـ 64).
وقوله تعالى:" كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (النحل، آية : 31 ـ 32).
وقوله تعالى:" يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً" (الفجر، آية : 27 ـ 28).
وكذلك الحديث عن خروج روح الكافر واحتضاره وشرح الآيات المتعلقة بذلك كقوله تعالى:" وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ" ( الأنعام، آية : 93).
وقوله تعالى:" يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا" (الفرقان، آية : 22).
وقوله تعالى:" حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ*لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ" (المؤمنون، آية : 99 ـ 100).
وفي المبحث الثاني: كان الحديث عن الموت وحقيقته وأهمية تذكره في حياة الإنسان، للابتعاد عن المعاصي، وتليين القلب القاسي وتهوين المصائب، فمن أكثر من ذكر الموت قل فرحه، وقل حسده واستعد للرحيل.
قال الشاعر:
        مشيناها خطا كتبت علينا
                        ومن كتبت عليه خطا مشاها
        وأرزاق لنا متفرقات
                        فمن لم تأته منا أتاها
        ومن كتبت منيته بأرض
                        فليس يمون في أرض سواها
وقال آخر:
        هب الدنيا تساق إليك عفوا
                        أليس مصير ذاك إلى انتقال
        وما دنياك إلا مثل فيء
                        أظلك ثم آذن بالزوال
ويجد القاريء الكريم بيان الحكمة من الموت وأن ساعة الموت أخطر لحظة في عمر الإنسان، فتزداد حسرة الميت ومصيبته وفجيعته حين يكون منكراً للحياة الآخرة، أو مغرور بمسلكه المضاد لدين الله، أو القائم على البدع والخرافات التي أبعدته عن الإيمان الصحيح والطريق السوي الموافق للكتاب والسنة.
وأشرت إلى أسباب حسن الخاتمة، كأقامة التوحيد لله عز وجل، والاستقامة، والتقوى، والصدق، والتوبة والدعاء، وقصر الأمل والتفكر في حقارة الدنيا والإكثار من ذكر الموت، وغلبة الرجاء وحسن الظن بالله، والبعد عن أسباب سوء الخاتمة، كما بينت أسباب سوء الخاتمة كالشك والجحود، والتعبد بالبدع وتسويف التوبة وعدم الاستقامة، وتعلق القلب بغير الله وسوء الظن بالله، والإصرار على الذنوب والمعاصي ونسيان الآخرة وعدم ذكر الموت والظلم.
كما شرحت الآيات التي تحدثت عن قبض أرواح العباد كقوله تعالى:"  وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ*ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ" (الانعام، آية : 61 ـ 62).
وفي المبحث الثالث كان الحديث عن حياة البرزخ والآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الصحيحة الدالة على عذاب القبر، وما ينتفع به الميت من عمل الأحياء وما يتبع الميت إلى قبره، وأن القبر أول منازل الآخرة والحكمة من عذاب القبر ونعيمه، وهل عذاب القبر دائم أم منقطع؟ وعن أسباب عذاب القبر والنجاة منه؟ وأين مستقر الأرواح في البرزخ، كأرواح الأنبياء، وأرواح الشهداء، وأرواح المؤمنين الصالحين وأرواح العصاة وأرواح الكفار.
وفي الفصل الثاني، كان الحديث عن علامات الساعة الصغرى والكبرى والنفخ في الصور وفي المبحث الأول لخصت مجمل أشراط الساعة الصغرى وفي الثاني كان الحديث عن أشراط الساعة الكبرى في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة،كنزول عيسى عليه السلام، ويأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، والمهدي، المسيح الدجال، والخسوفات الثلاثة، والنار التي تحشر الناس وفي المبحث الثالث: النفخ في الصور وماهو الصور؟ وما هي عدد النفخات؟ وكان الحديث عن البعث في الفصل الثالث والآدلة على ذلك وأسماء يوم القيامة وفي المبحث الثاني: خصص للحشر وأهوال يوم القيامة، وشرح الآيات التي تحدثت عن الحشر كقوله تعالى:"وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" (الأنعام، آية : 51).
وكقوله تعالى:"وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا" (الكهف، آية : 47) وكقوله تعالى:"وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ".
وتكلمت عن مكان الحشر، وصفة الناس في الحشر، وأحوالهم وخوفهم الشديد، وبينت أهوال يوم القيامة التي ذكرت في القرآن الكريم، كدك الأرض ونسف الجبال، وقبض الأرض وطيء السماء، وتفجير البحار وتسجيرها، وموران السماء وانفطارها، وتكوير الشمس وخسف القمر وتناثر النجوم، وسجود الخلائق لله سبحانه عند إتيانه للفصل بين العالمين ونزول الملائكة، ووضحت أحوال الكفار يوم القيامة كذلتهم وهوانهم وحسرتهم وبأسهم، واسوداد وجوههم، واحباط أعمالهم وفضيحتهم أمام الخلائق وتخاصمهم في الموقف، وكتخاصم العابدين والمعبودين والأتباع مع القادة المضلين، والضعفاء مع السادة والملوك، والمرء مع قرينه وأعضائه، ومقتهم لأنفسهم كل ذلك من خلال القرآن العظيم، وذكرت صفة حشرهم، كحشرهم وهم عطاش، وهم عمى وصم وبكم، كما كان لأحوال عصاة الموحدين نصيب من الحديث في هذا الكتاب، كالذين لأيودون الزكاة، وأصحاب الغلول، والمتكبرون، غاصب الأرض، والغادرون، وذو الوجهين، والحاكم الذي يتحجب عن رعيته، كما كان لحال الأتقياء ذكر، فهم لا يخافون ولا يحزنون ولا يفزعون إذا فزع الناس يوم الفزع الأكبر، كما أن وجوههم بيض، ويظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله بسبب أعمالهم في الدنيا والتي من أهمها العدل في حكمهم وأهليهم وما ولّوا، والتيسير على المعسرين والذين يسعون في حاجة إخوانهم ويسدّون خلتهم والكاظمين الغيظ، وعتقهم للرقاب، وفي المبحث الثالث، تكلمت عن الشفاعة وذكرت الأدلة القرآنية والنبوية في ثبوتها، وأقسامها، وشروطها وأنواعها، كختصاصة صلى الله عليه وسلم باستفتاح باب الجنة، والشفاعة في أهل الكبائر، والشفاعة في أقوام يدخلوا الجنة بغير حساب، وعن الشفعا غير النبي صلى الله عليه، كالملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمؤمنون الصالحون، الشهداء وأولاد المؤمنين، والقرآن الكريم وكان الحديث عن الأسباب الجالبة للشفاعة كالتوحيد وإخلاص العبادة لله، والصيام، والدعاء بما ورد عند الآذان، سكن المدينة والصبر على لآوائها وكثرة السجود....
وفي المبحث الرابع؛ كان الحديث عن الحساب والميزان والحوض والصراط فقد ذكر الله سبحانه وتعالى مشهد الحساب والجزاء فقال تعالى:" وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ" (الزمر، آية : 69)، وشرحت مجموعة من الآيات المباركة المتعلقة بالحساب، كقوله تعالى:" فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ*فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا" (الإنشقاق، آية : 7 ـ 8).
ــ كقوله تعالى:" وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا*اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا*مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً" (الإسراء، آية : 13 ـ 15) وغيرها من الآيات الكريمة.
وكان الحديث كذلك عن اقتصاص المظالم بين الخلق وعظم شأن الدماء وأول ما يقضى بين العباد وذكرت الأدلة الشرعية المتعلقة بالحوض والميزان ورأي العلماء في تفسير قول الله تعالى:" وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ" (الأنبياء، آية : 47) ولخصت أهم الأعمال التي تثقل الميزان يوم القيامة، كحسن الخلق وتسبيح الله وتحميده.
ووقفت مع قوله:" وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا {71} ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا" (مريم، آية : 71 ـ 72)، وعلاقة هذه الآية بالمرور على الصراط وياله من موقف يشيب لهوله الولدان ها هي الأمانة على الصراط لتقول لكل خائن يمر عليها أين الأمانة التي ضيعتها؟ أين أمانة الأموال التي سرقتها؟ أين أمانة الشهادة لهذا الدين؟ أين الأمانات التي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها وحملتها أنت الإنسان، بل ها هي الرحم تتعلق على الصراط لتقول لكل من قطعها: أين صلة الرحم التي قطعتها في الدنيا؟ وماذا ستصنع في اليوم أمام تلك الأهوال.
قال الشاعر:
        أبت نفسي تتوب فيما احتيالي
                        إذا برز العباد لذي الجلالي
        وقاموا من قبورهم سكارى
                        بأوزار كأمثال الجبال
        وقد نصب الصراط لكي يجوزوا
                        فمنهم من يكب على الشمال
        ومنهم من يسير لدار عدن
                        تلقاه العرائس بالغواني
        يقول له المهيمن يا ولي
                        غفرت لك الذنوب فلا تبالي
وفي الفصل الرابع كان الحديث عن النار والجنة وافردت في المبحث الأول: مقدمات، كخلود الجنة والنار وكونهما مخلوقتان موجودتان الآن، ومكانهما، وأصحاب الأعراف وفي المبحث الثاني تكلمت عن النار، واسمائها وخزنتها وصفتها وما أعد الله لأهلها ومطالبهم فيها وصور من عذابها، وفي المبحث الثالث، اشرت إلى موانع انفاذ الوعيد، كالتوبة والإستغفار، والحسنات الماحية، ودعاء المؤمنين، وإهداء القربات، والشفاعة لأهل الكبائر، والمصائب المكفرة والعفو الإلهي.
وفي المبحث الرابع: كان الحديث عن الجنة والطريق إليها واخلاق أهلها، ومن أول وآخر من يدخلها؟ وما أشهر أسمائها وصفتها وأصحابها؟ ومن هم سادة أهل الجنة؟ وما هو فضل نعيم الجنة على متاع الدنيا؟ وتم التفصيل في نعيم أهل الجنة، كالحديث عن طعامهم وشرابهم، ولباسهم وحيلهم وخدمهم ونسائهم وعن أفضل ما يعطاه أهل الجنة من النظر إلى وجه الله الكريم ورضوانه العظيم وختم الكتاب بدعاء أهل الجنة قال تعالى:" دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (يونس، آية : 10).
أيها القاريء الكريم، أضعُ بين يديك هذا الكتاب، راجياً من الله أن يحيا قلبُك، وتزداد هدية مع كل معرفة جديدة عن ذلك اليوم الذي أخبرنا عنه المولى عز وجل في كتابه بطريقه سهلة ميسرة، دون عناء ولا شقاء، فاعمل لذلك اليوم واستعد للقاء العزيز الرحيم في ذاك اليوم الذي لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أيها القاريء الكريم: إن جعلت في هذه الدار أو افتقرت أو حزنت أو مرضت أو بخست حقاً أو ذقت ظلماً فذكر نفسك بالنعيم المقيم في جنات رب العالمين، إنك إن اعتقدت هذه العقيدة وعملت لهذا المصير تحولت خسائرك إلى أرباح، وبلاياك إلى عطايا، إن أعقل الناس هم الذين يعملون للآخرة لأنها خير وأبقى وإن أحمقهم الذين يرون أن هذه الدنيا هي قرارهم ودارهم ومنتهى أمانيهم، فتجدهم أجزع الناس عند المصائب، وأندمهم عند الحوادث، لأنهم لا يرون إلا حياتهم الزهيدة الحقيرة، لا ينظرون إلا إلى هذه الفانية لا يتفكرون في غيرها ولا يعملون لسواها، فلا يريدون أن يعكّر لهم سرورهم ولا يكدّر عليهم فرحهم، ولو أنهم خلعوا حجاب الران عن قلوبهم وغطاء الجهل عن عيونهم لحدثوا أنفسهم بدار الخلد ونعيمها دورها وقصورها ولسمعوا وأنصتوا لخطاب الوحي في وصفها، إنها والله الدار التي تستحق الاهتمام والكَدَّ والجهد وهل تأملنا طويلاً في أهل الجنة بأنهم لا يمرضون ولا يحزنون ولا يموتون ولا يفنى شبابهم، ولا تبلى ثيابهم، في غرف يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، فيما ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، يسير الراكب في شجرة من أشجارها مائة عام لا يقطعها، طولَ الخيمَّة فيها ستون ميلاً، أنهارُها مطرده، قصورُها منيفة، قطوفها دانية، عيونها جارية، سُررُها مرفوعة أكوابها موضوعة، نمارقها مصفوفة، زرابيها مبثوثة، عظم حبورها، فاح عَرْفها، منتهى الأماني فيها، فأين عقولنا لا تفكّر؟ ما لنا لا نتدبّر؟ إذا كان المصير إلى هذه الدار، فلتخفَّ المصائب على المصابين، ولتقرّ عيون المنكوبين ولتفرح قلوب المعدّمين ، وليعمل لرضى رب العالمين العاملون المخلصون، أيها القاريء الكريم: إن مما يثبت السعادة وينميها ويعمقها أن لا تهتم بتوافه الأمور، فصاحب الهمة العالية همُّه طلب الآخرة، فيتسامى عن بنيات الطريق فاجعل الهم همّا واحداً، همّ لقاء الله عز وجل، هم الوقوف بين يديه  "يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ"
قال الشاعر:
        يوم القيامة لو علمت بهوله
                        لفررت من أهل ومن أوطان
        يوم تشققت السماء لهوله
                        وتَشَيب فيه مفارق الولدان
        يوم عبوس قمطريرُ شره
                        في الخلق منتشرٌ عظيمُ الشَّان
        والجنة العُليا ونارُ جهنَّم
                        داران للخصمين دائمتان
        يوم يجيءُ المتقون لربِّهم
                        وفداً على نُجُب من العقيان
        ويجيءُ فيه المجرمون إلى لَظَى
                        يتلَّمظون تلمَّظ العطشان
        ودخول بعض المسلمين جهنَّماً
                        بكبائر الآثام والطُّغيان
        والله يرحمهم بصحَّةِ عقدهم
                        ويُبدَّلوا من خوفهم بأمان
        وشفيعهم عند الخروج محمد
                        وطهورهم في شاطيءِ الحيوان
        حتى إذا طهُرُوا هُنالك أُدخلوا
                        جنات عدن وهي خيرُ جنان
        فالله يجمعنا وإيّاهم بها
                        من غير تعذيب وغير هوان
هذا وقد انتهيت من هذا الكتاب يوم الأحد في الساعة التاسعة إلا خمس دقائق ليلاً بتاريخ 28/ 11/ 2009م 11 ذي الحجة/1430هـ بالدوحة، والفضل لله من قبل ومن بعد وأسأله سبحانه وتعالى أن يتقبل هذا العمل ويشرح صدور العباد للانتفاع به ويبارك فيه بمنه وكرمه وجوده قال تعالى:"مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (فاطر، آية : 2).
ولا يسعني في نهاية هذا الكتاب إلا أن أقف بقلب خاشع منيب أمام خالقي العظيم وإلهي الكريم معترفاً بفضله وكرمه وجوده متبرئاً من حولي وقوتي ملتجئاً إليه في كل حركاتي وسكناتي وحياتي ومماتي، فالله خالقي هو المتفضل، وربي الكريم هو المعين، وإلهي العظيم هو الموفق، فلو تخلى عني ووكلني إلى عقلي ونفسي، لتبلد مني العقل، ولغابت الذاكرة، وليبست الأصابع، ولجفت العواطف، ولتحجرت المشاعر ولعجز القلم عن البيان، اللهم بصرني بما يرضيك واشرح له صدري وجنبني اللهم ما لا يرضيك وأصرفه عن قلبي وتفكيري وأسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعل عملي لوجهك خالصاً ولعبادك نافعاً وأن تثيبني على كل حرف كتبته وتجعله في ميزان حسناتي وأن تثيب اخواني الذين أعانوني على اتمام هذا الجهد الذي لولاك ما كان له وجود ولا انتشار بين الناس ونرجو من كل مسلم يطلع على هذا الكتاب ألا ينسى العبد الفقير، إلى عفو ربه، ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه، قال تعالى:"رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ" (النمل، آية : 19).
واختم هذا الكتاب بقول الله تعالى:" رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" (الحشر، آية : 10).
"سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك"

                    علي محمد محمد الصَّلاَّبِّي
        غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
Mail: info @alsallab.com
Website: www.alsallaby.com
 

الفصل الأول
حقيقة الروح والموت وحياة البرزخ

المبحث الأول: حقيقة الروح:
أولاً: كلمة الروح في القرآن تأتي على عدة أوجه( ).
أحداها: القرآن: كقوله تعالى:" وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (الشورى، آية : 52).
الثاني: الوحي: كقوله تعالى:" رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ " (غافر، آية : 15). 
الثالث: جبريل: كقوله تعالى:" } فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا " (مريم، آية : 17).
" نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ" (الشعراء ، آية : 193)
الرابع: القوة والثبات والنصرة التي يؤيد الله بها من شاء من عباده المؤمنين: كما قال تعالى:" لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ" (المجادلة، آية : 22).
الخامس: المسيح ابن مريم: قال تعالى:" @يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ  تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ " (النساء، آية: 171).
السادس: تطلق الروح ويراد بها ما به حياة الإنسان كقوله تعالى:" وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً " (الإسراء، آية : 85)، فهي الجزء الذي به تحصل الحياة والتحرك واستجلاب المنافع واستدفاع المضار( )، وهذا هو المقصود في كتابنا هذا.
والروح جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس وهو جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد وسريان الدهن في الزيتون والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي هذا الجسم اللطيف متشابكاً بهذه الأعضاء وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة والإرادة، وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط عليها وخرجت عن قبول تلك الآثار، فارق الروح البدن وانفصل إلى عالم الأرواح( ).
1ـ هل الروح قديمة أم مخلوقة: الروح مخلوقة مبتدعة، باتفاق العلماء وسائر أهل السنة، وقد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غير واحد من أئمة المسلمين، مثل محمد بن نصر المروزي الإمام المشهور، الذي هو أعلم أهل زمانه بالإجماع أو من أعلمهم والأدلة من الكتاب والسنة الدالة على خلقها كثيرة مثل قوله تعالى:" اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ " (الرعد ، آية : 16)، فهذا عام لا تخصيص فيه بوجه ما( )، ومن ذلك قوله تعالى:" هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا " (الإنسان ، آية : 1)، وقوله جلّ وعلا لزكريا"  وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا " (مريم ، آية : 9).والإنسان اسم لروح الإنسان وبدنه، وخطاب الله لزكريا لروحه وبدنه( )، فالإنسان عبارة عن البدن والروح معاً، بل هو الروح أخص منه بالبدن، وإنما البدن مطية للروح( ).
ـ وقد جاءت الكثير من النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأرواح تقبض، وتوضع في كفن وحنوط تأتي بهما الملائكة، ويصعد بهما وتنعم وتعذب وتمسك بالنوم، وترسل، وكل هذا شأن المخلوق المحدث( ).
ـ ولو لم تكن الروح مخلوقة مربوبة لما أقرت بالربوبية، وقد قال الله للأرواح حين أخذ الميثاق على العباد وهم في عالم الذر الست بربكم؟ قالوا بلى وذلك ما قرره الحق في قوله تعالى:" وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى " (الأعراف ، آية : 172)، وما دام هو ربهم فإنهم مربون مخلوقون( ).
ـ ولو كانت الروح غير مخلوقة فإنها لا تدخل النار ولا تعذب، ولا تحجب عن الله، ولا تغيب في البدن، ولا يملكها ملك الموت، ولما كانت صورة توصف، ولم تحاسب ولم تعذب، ولم تتعبد ولم تخف، ولم ترج، ولأن أرواح المؤمنين تتلألأ، وأرواح الكفار سود مثل الفحم( ).
ـ والرد على من زعم أن الروح غير مخلوقة وأنها جزء من ذات الله تعالى كما يقال هذه الخرقة من هذا الثوب،فالمراد بقوله"  قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي " (الإسراء ، آية : 85)، اي أنها تكونت بأمره، أو لأنها بكلمته كانت، والأمر في القرآن يذكر ويراد به المصدر تارة، ويراد به المفعول تارة أخرى وهو المأمور به كقوله تعالى:" أتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ " (النحل ، آية : 1) اي المأمور به، ويمكن أن يقال أيضاً أن لفظة (من) في قوله "من أمر ربي" لإبتداء الغاية وليس نصاً في أن الروح بعض الأمر ومن جنسه، بل هي لإبتداء الغاية إذ كونت بالأمر وصدرت عنه وهذا مثل قوله" وروح منه" أي من أمره كان الروح وكقوله تعالى:" وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ " (الجاثية ، آية : 13) ونظير هذا أيضاً كقوله تعالى:" وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ " (النحل ، آية : 53) أي منه صدرت ولم تكن بعض ذاته( ).
وأما قوله تعالى في آدم "  وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي " (الحجر ، آية : 29) وقوله في عيسى "فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا " (الأنبياء ، آية : 91)، فينبغي أن يعلم أن المضاف إلى الله تعالى نوعان: صفات لا تقوم بأنفسها، كالعلم والقدرة، والكلام والسمع والبصر، فهذه إضافة صفة إلى موصوف بها، فعلمه وكلامه وقدرته وحياته صفات له، وكذا وجهه ويده سبحانه.
والثاني: إضافة أعيان منفصلة عنه، كالبيت والناقة والعبد والرسول والروح.
ـ كقوله تعالى:" نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا " (الشمس ، آية : 13).
ـ كقوله:" تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ " (الفرقان ، آية : 21).
ـ وقوله:" وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ " (الحج ، آية : 36).
فهذه إضافة مخلوق إلى خالقه، لكن إضافة تقتضي تخصيصاً وتشريفاً، يتميز بها المضاف إلى غيره( ).
2ـ هل النفس هي الروح: إن النفس تطلق على أمور وكذلك الروح فيتحد مدلولهما تارة ويختلف تارة، فالنفس تطلق على الروح ولكن غالب ما تسمى نفساً إذا كانت متصلة بالبدن، وأما إذا أخذت مجردة فتسمية الروح أغلب عليها، وتطلق على الدم، ففي الحديث: ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه( ).
والنفس: العين، يقال: أصابت فلاناً نفس: أي عين، والنفس: الذات"  فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ " (النور ، آية :61)، "  وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ " (النساء ، آية : 29)، ونحو ذلك، وأما الروح فلا تطلق على البدن، لا بانفراده، ولا مع النفس وتطلق الروح على القرآن"وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا " (الشورى ، آية : 52)، وعلى جبريل "  نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ " (الشعراء ، آية : 193)، وتطلق الروح على الهواء المتردد في بدن الإنسان ايضاً وأما ما يؤيد الله به أولياءه، فهي روح أخرى كما قال تعالى:" أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ " (المجادلة ، آية : 22). وكذلك القُوى التي في البدن، فإنها تسمى أرواحاً، فيقال: الروح الباصر، والروح السامع، والروح الشام، وتطلق الروح على أخص من هذا كله وهو: قوة المعرفة بالله والإنابة إليه ومحبته وانبعاث الهمة إلى طلبه وإرادته، ونسبة هذه الروح إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن، فللعلم روح، وللإحسان روح،وللمحبة روح، وللتوكل روح، وللصدق روح والناس متفاوتون في هذه الروح: فمن الناس من تغلب عليه هذه الأرواح فيصير روحانياً، ومنهم من يفقدها فيصير أرضياً بهيمياً( ).
3ـ مراتب النفوس: أخبرنا الحق سبحانه وتعالى أن النفوس ثلاثة أنواع: النفس الأمارة بالسوء " إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبَّيَ" (يوسف ، آية : 53) والنفس اللوامة  "وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ" (القيامة ، آية : 2)، والنفس المطمئنة " يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ  *ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً *فَادْخُلِي فِي عِبَادِي *وَادْخُلِي جَنَّتِي" (الفجر ، آية :  27ـ 30).
والتحقيق: أنها نفس واحدة، لها صفات، فهي أمارة بالسوء، فإذا عارضها الإيمان صارت لوامة، تفعل الذنب ثم تلوم صاحبها، وتلوم بين الفعل والترك، فإذا قوى الإيمان صارت مطمئنة( ).
4ـ هل تموت الأرواح: والأرواح مخلوقة بلا شك وهي لا تعدم ولا تفنى ولكن موتها بمفارقة الأبدان، وعند النفخة الثانية تعاد الأرواح إلى الأبدان( )، وقد دل على ذلك الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها وقد أخبر سبحانه أن أهل الجنة " لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى" (الدخان ، آية : 56). وتلك الموتة هي مفارقة الروح الجسد( ).
5ـ هل للروح كيفية تعلم؟ لما كانت الروح مخلوقة من جنس لا نظير له في عالم الموجودات فإننا لا نستطيع أن نعرف صفاتها، فقد عرفنا الله أنها تصعد وتهبط، وتسمع وتبصر وتتكلم إلى غير ذلك، إلا أن هذه الصفات مخالفة لصفات الأجسام المعروفة، فليس صعودها وهبوطها وسمعها وبصرها وقيامها وقعودها من جنس ما نعرفه ونعلمه، فقد أخبرنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن الروح يصعد بها إلى السموات العلا، ثم تعاد إلى القبر، ساعة من الزمن، فقد أخبرنا أنها تنعم أو تعذب في القبر، ولا شك أن هذا النعيم على نحو مخالف لما نعلمه ونعرفه( ).

ثانياً: قبض الروح بالنوم: من أحكام الروح أنها تقبض عند النوم، وهي ما يسمى بالوفاة الصغرى وقد ذكر الله تعالى ذلك في كتابه الكريم قال تعالى:" اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"  (الزمر ، آية : 42).
وعن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: سرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقال بعض القوم: لو عرّست بنا يا رسول الله قال: أخاف أن تناموا عن الصلاة، قال بلال: أنا أوقظكم فاضجعوا، وأسند بلال ظهره إلى راحلته، فغلبته عيناه فنام، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وقد طلع حاجب الشمس فقال: يا بلال أين ما قلت؟ قال ما أُلقيت عليّ نومة مثلها قط، قال: إن الله قبض أرواحكم حين شاء وردّها عليكم حين شاء، يا بلال قم فأذن بالناس بالصلاة، فتوضأ، فلما ارتفعت الشمس وابيضت قام فصلى( ).

ثالثاً: فتح باب التوبة حتى الغرغرة:  الغرغرة هي لحظة نزع الروح وخروجها، وهناك علاقة بين الروح والتوبة، فما دامت الروح مستقرة في البدن فباب التوبة مفتوح( )، قال تعالى:" إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً *وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا " (النساء ، آية : 17ـ 18).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر( ).
ومعنى قوله تعالى:" ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ" أي: ما كان دون الموت فهو قريب، وقال الحسن البصري: مالم يغرغر( ).
ولقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن من تاب إلى الله عز وجل وهو يرجو الحياة فإن توبته مقبولة ولهذا قال تعالى:" فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً"، وأما متى وقع اليأس من الحياة، وعاين ملك الموت وخرجت الروح في الحلق وضاق بها الصدر وبلغت الحلقوم وغرغر( ) النفس صاعدة للخروج من البدن، فلا توبة مقبولة حينئذ، ولهذا قال تعالى:" وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ" (النساء ، آية : 18).

رابعاً: كيفية نزع الروح: 1ـ قال تعالى:" فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ" (الواقعة ، آية : 83ـ 85). فلولا إذا بلغت الحلقوم أي: الروح، والحلقوم هو الحلق، وذلك حين الاحتضار " وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ" أي إلى المحتضر وما يكابده من سكرات الموت " وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ " أي بملائكتنا "وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ" أي ولكن لا ترونهم( ).
2ـ  وقال تعالى:" وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ" ( الأنعام ، آية : 61، 62).
3ـ وقال تعالى:" كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ" (القيامة ، آية : 26، 30).
" إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ" أي الروح، والتراقي جمع ترقوة وهي العظام المكتنفة لنقرة النحر، وهو مقدم الحلق من أعلى الصدر موضع الحشرجة، ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشفاء على الموت مثله قوله:" فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ"، (القيامة)، وقيل: "كلا" معناه، أي حقاً أن المساق إلى الله " إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ" أي: إذا ارتفعت الروح إلى التراقي، والمقصود تذكيرهم شدة الحال عند نزول الموت.
4ـ وقال تعالى:" وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا" (النازعات ، آية : 1،2) والمقصود الملائكة، يعنون حين تنزع أرواح بني آدم، فمنهم من تأخذ روحه بعسر فتغرق في نزعهم، ومنهم من تأخذ روحه بسهولة وكأنما حلته من نشاط ( ) وهو قوله:" وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا".
5ـ وقال تعالى:" وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ" (ق ، آية : 19)، سكرة الموت: شدته، وقوله" سَكْرَةُ الْمَوْتِ" سكرة الميت التي تدل الإنسان على أنه ميت( ) وهذه السكرة والشدة لا يسلم منها أحد، ولو سلم منها أحد لسلم منها نبينا صلى الله عليه وسلم. عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرات، ثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده( ).
إن الإنسان إذا اقترب أجله فإن الروح ترتقي إلى أعلى الجسم عند النحر حتى تخرج من جسده، وهذا الخروج للروح ليس بالأمر الهين ـ حتى للمؤمن ـ بل له سكرات وغمرات ومشقات، ثم تنتزع الملائكة الروح وهذا النزع يختلف شدة ويسراً بحسب إيمان الرجل( ).

خامساً: خروج روح المؤمن واحتضاره:
1ـ قال تعالى:" أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون* الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" (يونس ، آية : 62، 64).
وفي قوله تعالى:" لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ" قولين:
الأول: الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له( ).
والثاني: المراد بذلك بشرى الملائكة للمؤمن عند احتضاره بالجنة والمغفرة ويدل على هذا حديث البراء رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المؤمن إذا حضره الموت جاءه ملائكة بيض الوجوه بيض الثياب، فقالوا: اخرجي أيتها الروح الطيبة إلى روح وريحان ورب غير غضبان، فتخرج من فمه كما تسيل القطرة من فم السقاء( ).
وكلا المعنيين صحيح ولا تعارض بين هذين التفسيرين( ).
2ـ قال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ" (فصلت ، آية : 30، 31). وفي قوله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ" أي: أخلصوا لله، وقوله:" ثُمَّ اسْتَقَامُوا" أي: على طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباعه( ).
وفي قوله تعالى:" تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ" يبشرون عند الموت، وفي القبر، ويوم خروجهم من قبورهم( )، قال تعالى:" لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ " (الأنبياء ، آية : 103). وقوله:" أَلَّا تَخَافُوا" أي: مما تقدمون عليه من أمر الآخرة، " وَلَا تَحْزَنُوا" على ما خلفتموه من أمر الدنيا من ولد وأهل ومال أو دين فإنا نخلفنكم فيه " وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ" (فصلت ، آية : 30)، فيبشرونهم بذهاب الشر وحصول الخير( ).
3ـ قال تعالى:" كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (النحل ، آية 31ـ 32).
يخبر الله تعالى عن حالهم عند الاحتضار أنهم طيبون، أي مخلصون من الشرك والدنس وكل سوء، وأن الملائكة تسلم عليهم وتبشرهم بالجنة( )، وأن تكون وفاتهم طيبة سهلة لا صعوبة فيها ولا ألم بخلاف ما تقبض به روح الكافر والمُخَلطّ( ).
4ـ وقال تعالى:" يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً" (الفجر ، آية : 27، 28).
وهذا يقال لها عند الاحتضار وفي يوم القيامة أيضاً كما أن الملائكة يبشرون المؤمن عند احتضاره، وعند قيامه من قبره فكذلك ههنا( ).
5ـ وقال تعالى:"فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ" (الواقعة ، آية : 89، 91).
هذه الأحوال الثلاثة هي أحوال الناس عند احتضارهم: إما أن يكون من المقربين، أو يكون ممن دونهم من أصحاب اليمين، وإما أن يكون من المكذبين بالحق الضالين عن الهدى الجاهلين بأمر الله، ولهذا قال تعالى:" فَأَمَّا إِن كَانَ" أي المحتضر " مِنَ الْمُقَرَّبِينَ" وهم فعلوا الواجبات والمستجاب وتركوا المحرمات والمكروهات وبعض المباحات.
قوله: "فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ" أي فلهم روح وريحان وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت " فَرَوْحٌ" راحة، أو الراحة من الدنيا (والروح) الفرح "فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ" جنة ورخاء " فَرَوْحٌ" فرحمة " وَرَيْحَانٌ" رزق.
وكل هذه الأقوال متقاربة صحيحة، فإن من مات مقرباً حصل له جميع ذلك من الرحمة والراحة والاستراحة والفرح والسرور والرزق الحسن( ).
"وَجَنَّةُ نَعِيمٍ": أي: لا يموت أحد من الناس حتى يعلم من أهل الجنة هو أم من أهل النار( ).
ـ وقوله تعالى:" وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ" (الواقعة ، آية : 90) أي وأما إن كان المحتضر من أصحاب اليمين " فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ  الْيَمِينِ" (الواقعة ، آية : 91)، اي تبشرهم الملائكة بذلك تقول لأحدهم: سلام لك، أي لا بأس عليك، أنت إلى سلامة، أنت من أصحاب اليمين( ).
السلام ثلاثة مواضع:
ـ عند قبض روحه في الدنيا يسلم عليه ملك الدنيا.
ـ عند مساءلته في القبر يسلم عليه منكر ونكير.
ـ عند بعثه في القيامة تسلم عليه الملائكة قبل وصوله إلى الجنة ويكون ذلك إكراماً بعد إكرام( ).

سادساً: خروج روح الكافر واحتضاره:
1 ـ قوله تعالى: "وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ" (الأنعام ، آية : 93).
قوله تعالى: "فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ" أي كرباته وسكراته، وقوله "وَلَوْ تَرَى" جوابه محذوف تقديره: لرأيت أمراً عظيماً، وهذه عبارة عن التعنيف في السياق والشدة في قبض الأرواح( ). وقوله تعالى: " بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ" أي بالضرب، كقوله: "لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي" الآية، وقوله: " وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ"، كقوله: " وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ".
ولهذا قال: " وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ" أي بالضرب لهم حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم، ولهذا يقولون لهم: " أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ"، وذلك أن الكافر إذا احتُضر بشَّرته الملائكة بالعذاب والنكال والأغلال والسلاسل، والجحيم والحميم وغضب القهار العظيم، فتفرق روحه في جسده وتعصي وتأبى الخروج فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم: " أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ" أي كنتم تهانون غاية الإهانة كما كنتم تكذبون على الله وتستكبرون عن اتباع آياته والانقياد لرسله( ).، ثم يبشرون بالعذاب "الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ".
2 ـ وقال تعالى: " يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا" (الفرقان ، آية : 22)، أي حرام محرم عليكم دخول الجنة( ).
وفي حديث البراء الطويل، قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: "وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع عن الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول( ).
3 ـ قال تعالى: "رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ" (الحجر، آية : 2). الآية في أخبار عنهم أنهم سيندمون على ما كانوا فيه من الكفر ويتمنون لو كانوا في الدنيا مع المسلمين، وقيل: إن المراد أن كل كافر يود عند احتضاره أن لو كان مؤمناً( ).
4 ـ قال تعالى: "الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {28} فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ" (النحل، آية : 28 ـ 29).
5 ـ وقال تعالى: "حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ" (المؤمنون، آية : 99 ـ 100).، وهم لا يكفون عن طلب الرجعة، فيطلبونها في كل وقت وفي كل حين( ).
ـ ولهذا قال تعالى: "وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ" (المنافقون، آية : 10).
ـ وقال تعالى: "وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ" (إبراهيم، آية : 44).
ـ قال تعالى: "يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ" (الأعراف، آية : 53).
قال تعالى: "وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ" (السجدة، : آية : 12).
ـ وقال تعالى: "وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ" (الأنعام، آية : 27 ـ 28).
وقال تعالى: " وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ" (الشورى، آية : 44).
ـ وقال تعالى: " قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ" (غافر، آية : 11).
ـ وقال تعالى: "وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ" (فاطر، آية : 37)، فذكر تعالى أنهم يسألون الرجعة فلا يجابون.
ـ عند الاحتضار.
ـ يوم النشور.
ـ ووقت العرض على الجبار.
ـ وحين يعرضون على النار.
ـ وهم في غمرات عذاب الجحيم( ).
6 ـ قال تعالى: " فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ" (محمد، آية : 27)، هذه الآية فيها التصريح بضرب وجوه الكافرين وأدبارهم عند النزع( ).
7 ـ قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ" (الأعراف، آية : 40)، وقد فسر هذه الآية النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البراء السابق وفيه أنه قال: "....إن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة ـ يعني عن الاحتضار ـ نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فسيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها في تلك المسوح ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملاءٍ من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فسيتفتح له فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله" لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ في سَمِّ الْخِيَاطِ".
فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فتطرح روحه طرحاً ثم قرأ" وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ" ( الحج ، آية : 31 )، فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي منادٍ من السماء أن كذب فافرشوا له من النار وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث فيقول: رب لا تقم الساعة( ).

المبحث الثاني: الموت:
إن الحياة آية من آيات الله، فالموت كذلك آية أخرى تضاد الحياة، ولكنها لا تقل عنها عجباً قال تعالى:" كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" ( البقرة ، آية : 28 ).
والتفكر في هذه الآية تفكر في خلق من خلق الله وعجائبه الدال على عظيم قدرة الله، وعجيب أمره( ).
إن لتذكر الموت أثر كبير في إصلاح النفوس وتهذيبها، ذلك أن النفوس تؤثر الدنيا وملذاتها، وتطمع في البقاء المديد في هذه الحياة، وقد تهفو إلى الذنوب والمعاصي، وقد تقصر في الطاعات فإذا كان الموت دائماً على بال العبد، فإنه يصغر الدنيا في عينه ويجعله يسعى في إصلاح نفسه وتقويم المعوج من أمره( )، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت، فإنه لم يذكره في ضيق من العيش إلا وسعه عليه، ولا ذكره في سعة إلا ضيقها( ).
قال العلماء: تذكر الموت يردع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي ويذهب الفرح بالدنيا ويهون المصائب وقال العلماء: ليس للقلوب أنفع من زيارة القبور وخاصة إن كانت قاسية، فعلى أصحابها ان يعالجوها بثلاثة أمور:
أحدها: الإقلاع عما هي عليه بحضور مجالس العلم بالوعظ والتذكير والتخويف والترغيب وأخبار الصالحين، فإن ذلك مما يلين القلوب.
الثاني: ذكر الموت، فيكثر من ذكر هاذم اللذات، ومفرق الجماعات، وميتم البنين والبنات.
الثالث: مشاهدة المحتضرين، فإن النظر إلى الميت ومشاهدة سكراته ونزعاته وتأمل صورته بعد مماته، مما يقطع عن النفوس لذاتها، ويطرد عن القلوب مسراتها، ويمسح الأجفان من النوم، والأبدان من الراحة، ويبعث عن العمل ويزيد في الإجتهاد والتعب( ). وذكر عن الحسن البصري انه دخل على مريض يعوده، فوجده في سكرات الموت، فنظر إلى كربه وشدة ما نزل به، فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم فقالوا له: الطعام يرحمكم الله، فقال: يا أهلاه، عليكم بطعامكم وشرابكم، فوالله رأيت مصرعأ لا أزال أعمل له حتى ألقاه( )، قال أبو الدرداء: من أكثر الموت قل فرحه، وقل حسده( ).
قال الشاعر:
مشيناها خطاً كتبت علينا
                ومن كتبت عليه خطا مشاها
وأرزاق لنا متفرقات
                فمن لم تأته منا أتاها
ومن كتبت منيته بأرض
                فليس يموت في أرض سواها

وقال الشاعر:
وإذا وليت قوما ليلة
                فاعلم بأنك بعدها مسئول
وإذا حملت إلى القبور جنازة
                فاعلم بأنك بعدها محمول

وقال آخر:
هب الدنيا تساق إليك عفواً
                أليس مصير ذاك إلى انتقال
وما دنياك إلا مثل فيء
                أظلك ثم آذن بالزوال( ).

أولاً: الحكمة من الموت:
إن الموت مرحلة يمر بها الإنسان ومنزلة يردها وحقيقة لا يتخطّاها، وكأساً يتجرعها، ومنهلاً يستقي منه، فمن حكم الموت:
1 ـ في الموت تتجلى كمال قدرة الله الخالصة سبحانه وعظيم حكمته في تصريف أطوار الخلق، فهو الذي أنشأ هذا الإنسان من عدم ثم أوجده طوراً بعد طور، وخلقاً بعد خلق، حتى صار بشراً سوياً يسمع ويبصر ويعقل، ويتكلم ويتحرك ويسالم ويخاصم ويتزاوج ويتناسل، يعيش على أرض الله وينال من رزق الله، ثم بعد ذلك كله يميته الله تعالى فلا يأكل ولا يشرب ولا يسمع ولا يبصر ولا يعقل ولا يتحرك، فيزول بعد بقاء، وينفي بعد وجود، وكل ذلك بتصريف الله وقدرته وبالغ حكمته في خلق الأمور المختلفة والأحوال المتضادة( ).
قال تعالى: " فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ {86} تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" (الواقعة، آية : 86 ـ 87)، تضمنت الآيتان تقريراً وتوبيخاً واستدلالاً على أصول الإيمان من وجود الخالق سبحانه، وكمال قدرته، ونفوذ مشيئته وربو بيّته، وتصرفه في أرواح عباده حيث لا يقدرون على التصرف فيه بشيء وأن أرواحهم بيده يذهب بها إذا شاء ويردّها إليهم إذا شاء ويخلي أبدانهم منها تارة، ويجمع بينها وبينهم تارة( ).
2 ـ إن الله تعالى خلق الموت والحياة ابتلاءً لعباده واختباراً لهم ليعلم من يطيعه ممّن يعصيه قال سبحانه: " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ" (الملك ، آية : 2).
3 ـ لم يخلق الله البشر في الدنيا على خلقة قابلة للدوام بل جعلهم خلائف في الأرض يخلف بعضهم بعضاً، فلو أبقاهم لفاتت المصلحة والحكمة في جعلهم خلائف( ).
4 ـ في الموت نعم عظيمة لا تتأتى للناس إلا به، فلولا الموت لما هنأ لهم العيش، ولا طاب في هذه الأرض، ولا وسعتهم الأرزاق، ولضاقت عليهم المساكن والمدن، والأسواق والطرقات.
5 ـ الموت يخلص المؤمن من نكد هذه الحياة التي حشيت بالغصص، وحفت بالمكاره والآلام الباطنة والظاهرة إلى نعيم لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وسعادة لا تنتهي، في ظلال وارفة، وبساتين مؤنقة، وجنات دائمة مع خيرة الرفقاء وأطيب الأصفياء( )، عن أبي الدرداء رضي الله عنه كان يقول: ما من مؤمن إلا والموت خير له، وما من كافر إلا والموت خير له، ومن لم يصدقني فإن الله يقول:" وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ  للأَبْرَارِ" (آل عمران ، آية : 198)، ويقول:" وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي  لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ" (آل عمران ، آية : 178)( ).
6ـ بالموت تصل النفس إلى اليقين، وتتعرف على حقيقتها من حيث أنها مخلوقة لخالق سبحانه، وأنها مخلوقة لغاية( ).

ثانياً: ساعة الموت أخطر لحظة في عمر الإنسان:
إن ساعة الموت أخطر ساعة في رحلة الإنسان الطويلة إلى ما لا نهاية للأسباب الآتية:
1ـ لأنها بداية الانتقال من عالم الشهادة المحسوس الذي عرفه الإنسان وألفه إلى عالم كان غيباً في الحياة الأولى ويصير محسوساً في الحياة الجديدة التي تبدأ بالموت الجسدي ليحدث للإنسان في عالم البرزخ لأول مرة عوالم تختلف كل الاختلاف عن عوالم الدنيا التي عايشها وائتلف أو تنافر معها.
2ـ في هذه الساعة ساعة الموت يرى ملائكة الله ويسمع منهم الكلمة الفاصلة النازلة إليه من عند الله تعالى، وهي الكلمة التي نعيمه الأبدي أو شقاؤه الأبدي، ولو كان يملك العالم كله في هذه الساعة وقبل منه أن يضحي به، أو كان يملك ملء الأرض والسماء ذهباً وقبل منه أن يتصدق به في سبيل أن يسمع كلمة الرضى والعفو من الله في هذه الساعة لفعل وكان في منتهى السعادة وفي هذا يقول الله تعالى:" وَلَوْ أَنَّ  للَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ" (الزمر ، آية : 47).
3ـ كل ما جمعه الإنسان وكد فيه وسهر من أجله وقضى عمره في تخزينه وكنزه وكل ما زرعه من حدائق غناء وبساتين فيحاء، وكل ما شيّده من دور وما زخرفه من قصور وكل من يحيط به من أهل وخدم وأتباع، كل ذلك ينظر إليه الإنسان حين تأتيه ملائكة الموت بحسرة وفزع، ويأس وجزع، فإنه مفارق للجميع، ومحروم حرماناً مطلقاً من كل ما جمع فأوعى، وكنز فأبقى.
إن شيئاً واحداً هو الذي يبحث عنه هذا الإنسان في لحظة موته ويوقن أن فيها نجاته وسعادته هو (العمل الصالح)، فإن كان قدمه فلا يضره ما ترك وإن كان لم يقدم صالحاً فهو القائل:" يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ" (الحاقة ، آية : 27، 29).
4ـ تزداد حسرة الميت ومصيبته وفجيعته حين يكون منكراً للحياة الآخرة، أو مغرور بمسلكه المضاد لدين الله،أو القائم على البدع والخرافات التي أبعدته عن الإيمان الصحيح والطريق السوي الموافق للكتاب والسنة.
إن مثل هذا النوع لم يكن يتوقع حياة أخرى بعد الموت أو كان يتوقعها ولكنه لغروره ظن أنه على الحق وأن غيره على باطل، اعتماداً على أوهام وخيالات أو اتباعاً للضالين والمغضوب عليهم بدون نظر أو بحث، أو تشبعاً بهواه واستسلاماً لشياطين الإنس والجن، وهو في كل ذلك رافض لكتاب الله وحكمته، فإذا جاءه الموت كشفت له الحقيقة، ورأى عكس ما قدر، وفوجئ بأن جميع مقاييسه كانت مغلوطة وجميع حقائقه كانت باطلاً وزيفاً وفي هؤلاء وأمثالهم يقول تعالى:" قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا" (الكهف ، آية : 103، 104)، وقال تعالى:" وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ" (الزمر ، آية : 47)( ).
5ـ إن ساعة الموت فاصلة بين عمر مهما طال في عصرنا فلن يزيد عن مائة وخمسين سنة وهو يعتبر صفراً إذا قيس بالآف السنين في القبر، وخمسين الف سنة في الموقف ثم إلى ما لا نهاية في نعيم لا يوصف أو في شقاء لا يتصور، ففي هذا العمر القصير جداً يحدد المصير بالنسبة للمستقبل اللانهائي، وليس في عمر الدنيا كله يحدد مصير المستقبل، بل في سنين معدودة منه، وقد تكون أياماً وقد تكون ساعة واحدة أو أقل، يتوب الإنسان فيها ويندم على ذنوبه ويضرّع إلى ربه ويتخلص من مظالمه فينال رضاء الله عند موته ويطمئن على مستقبله، يا لها من سعادة في متناول الجميع، ومن مستقبل لانهائي يحدد الإنسان مصيره في دقائق، وصدق الله القائل:" سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى" (الأعلى ، آية : 10، 13).
لذلك كله ولغيره كانت ساعة الموت أخطر ساعة في رحلة الإنسان( ).

ثالثاً: أسباب حسن الخاتمة: هناك أسباب يستدل بها على حسن الخاتمة منها:
1ـ إقامة التوحيد لله (جلّ وعلا):
إن إقامة التوحيد في قلب المسلم يجني ثماره في حياته وعند موته وفي قبره ويوم حشره ويكون سبباً في دخول جنات ربه ورضوانه قال صلى الله عليه وسلم: فإن الله حرّم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله( ).
2ـ الاستقامة: الاستقامة أعظم كرامة وسبب عظيم في حُسن الخاتمة، قال تعالى:"إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" (الاحقاف ، آية : 13).
والاستقامة كلمة جامعة، آخذة بمجامع الدين، قال الصديق لما سئل عنها: أن لا تشرك بالله شيئاً، فأراد بها الاستقامة على محض التوحيد، وقال عمر بن الخطاب: الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعالب( ).
3ـ التقوى: قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ " (آل عمران ، آية : 102)، وحق تقاته أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكّر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر( ). وأصل التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين من يخافه ويحذره وقاية تقيه منه، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك، وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه( )، فالتقوى سبب للخروج من كل ضيق، كما قال تعالى:" وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ" (الطلاق ، آية : 2، 3).
ولا شك أن العبد عند السكرات يكون في ضيق وشدة فتكون التقوى سبباً لنجاته، والتقوى سبب لتيسير السكرات على العبد المؤمن، قال تعالى:" وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا" (الطلاق ، آية : 4)، والتقوى سبب للنجاة من المهالك، قال تعالى:" وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا" (مريم ، آية : 71، 72).
وهي سبب لدخول الجنة، قال تعالى:" تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا" (مريم ، آية : 63).
4ـ الصدق: قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ" (التوبة ، آية : 119). وقال صلى الله عليه وسلم: ما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقاً( ).
الصدق أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين، من لم يكن معه الصدق فهو من المنقطعين الهالكين، ومن كان معه الصدق أوصله إلى حضرة ذي الجلال وكان سبباً في حُسن خاتمته وطيب المآل( ).
5ـ التوبة: قال تعالى:" وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (النور، آية : 31).
وقال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (التحريم ، آية : 8).
 وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر( ).
ــ وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسئ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسئ الليل حتى تطلع الشمس من مغربها( ).
وأما عن شروط التوبة فهي ستة:
ــ الإقلاع عن الذنوب.
ــ الندم على فعل تلك الذنوب.
ــ العزم على أن لا يعود إليها أبداً.
ــ الإخلاص في التوبة.
ــ التحلل من المظالم، لقوله صلى الله عليه وسلم: من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات( ).
وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر( ).
6ـ الدعاء: كان من دعاء الصالحين أن يتوفاهم الله حين انقضاء آجالهم وهم متمسكون بالطاعات ملازمون لها، ومجانبون للمعاصي مفارقون لها، مصاحبون للابرار معدودون في زمرتهم، مجافون للفجار حائدون عن صحبتهم وفي ذلك يقول عنهم المولى عز وجل:" رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ"(آل عمران ، آية : 193).
لقد كان ذلك مطلب يوسف عليه السلام حين دعا ربه عند انقضاء أجله وذهاب عمره أن يميته على الإسلام ويثبته عليه( )، قال تعالى:" رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ" (يوسف ، آية : 101).
7ـ قصر الأمل والتفكر في حقارة الدنيا: قال تعالى:" اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" (الحديد ، آية : 20).
وقال صلى الله عليه وسلم: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً أو متعلماً( ).
فالمؤمن يعلم يقيناً أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة وأنه سينسى كل شقاء بغمسة واحدة في جنة الرحمن جلّ وعلا، ولذلك فهو لا يتعلق قلبه بأي شيء من حطام الدنيا، بل يمسى ويصيح وهو مشغول بالعمل لهذا الدين، ولا يرى أمام عينيه إلا الجنة والنار فهو يعلم يقيناً أنه لا راحة إلا في جنة العزيز الغفار( ).
8ـ الإكثار من ذكر الموت: ذكر الموت ينغص اللذات، ويحقّر الشهوات ويجعل الآخرة نصب العين، ومشاهدة المحتضرين والنظر إلى سكراتهم ونزعاتهم ومعالجتهم في طلوع الروح وشدة كربهم أعظم عبرة، وتغسيل الموتى يرق به القلب وتذرف العينان، ورؤية القبور وسكونها تعجل بالتوبة فتكون سبباً لحسن الخاتمة( ).
وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي من هذا؟ فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن القبر أوّل منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما  بعده أشد منه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيت منظراً قط إلا القبر أفظع منه( ).
وزيارة القبور تذكر بالموت فيزهد في الدنيا، ويرغب في الآخرة ويتعظ بها ويعتبر، وقد بيّن القرطبي رحمه الله بعبارات مؤثرة كيف تتحقق للزائر العبرة والعظة فقال: يعتبر بمن صار تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب بعد أن قاد الجيوش والعساكر، ونافس الأصحاب والعشائر، وجمع الأموال والذخائر، فجاءه الموت في وقت لم يحتسبه، وهول لم يرتقبه، فليتأمل الزائر حال من مضىمن إخوانه ودرج من أقرانه، الذين بلغوا الآمال وجمعوا الأموال، كيف انقطعت آمالهم، ولم تغن عنهم أموالهم، ومحا التراب محاسن وجوههم وافترقت في القبور أجزاؤهم، وترمّل بعدهم نساؤهم، وشمل ذلّ اليتم أولادهم، واقتسم غيرهم طريقهم وبلادهم.. وعند هذا التذكر والاعتبار يزول عنه جميع الأغيار الدنيوية، ويقبل على الأعمال الأخروية، فيزهد في دنياه ويقبل على طاعة مولاه، ويلين قلبه وتخشع جوارحه( ).
9ـ غلبة الرجاء وحسن الظن بالله: قال تعالى:" مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" (العنكبوت ، آية : 5)، ومدح أهله وأثنى عليهم، قال تعالى:" لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا" (الأحزاب ، آية : 21).
والخوف والرجاء كجناحي طائر إذا استويا استوى الطائر وتمّ طيرانه وإن نقص أحدهما وقع في الطائر النقص، وإن ذهب أحدهما أو كلاهما صار الطائر عرضة للهلاك( ).
ولذا جمع الله بينهما في غير موضع، فقال عزّ شأنه:" قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا" (الإسراء ، آية : 56، 57).
وقال سبحانه:" أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ" (الزمر ، آية : 9).
ولا يجتمع الخوف والرجاء في قلب العبد عند سكرات الموت ومفارقة الحياة إلا أعطاه الله ما يرجوه من الرحمة وآمنه مما يخافه من العقوبة والمغفرة( )، ولكن ينبغي أن يغلّب عند الموت جانب الرجاء على الخوف، وأن الله تعالى يرحمه ويعفو عنه، ويتجاوز عن سيئاته، وذلك حسن الظن الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري حين قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحُسن الظن بالله عزّ وجلّ( ). وذلك عند انقطاع العمل، وتبدّد الأمل في بقاء وحياة ولم يتبق له إلا التعلق بعفو الله ورحمته، وعظيم فضله، ورجاء كرمه، ورحمة الله تسبق غضبه، والعفو أحب إليه من الانتقام( ).
10ـ البعد ان أسباب سوء الخاتمة: فإن من أسباب حُسن الخاتمة، الخوف من سوء الخاتمة والبعد عن أسبابها وهي، فساد المعتقد والانغماس في البدع، النفاق ومخالفة الباطن للظاهر، التسويف بالتوبة، طول الأمل وحب الدنيا، تعلق القلب بغير الله، إلف المعاصي والإصرار عليها، الانتحار واليأس من رحمة الله، مصاحبة أهل الفساد، عدم الاستقامة على الطاعة( ).

رابعاً: من علامات حسن الخاتمة:
علامات حسن الخاتمة التي جاءت في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير منها، من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، الموت برشح الجبين، الموت يوم الجمعة، القتل في سبيل الله، الموت غازياً في سبيل الله، الموت بالطاعون، الموت بداء البطن، الموت بالغرق، الموت بالهدم، الموت في سبيل الدفاع عن المال والدين والنفس، موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها، الموت مرابطاً في سبيل الله، الموت على عمل صالح، وقد قام الدكتور محمد حيدر بجمعها ودراستها في رسالته المقدمة لنيل رسالة الدكتوراة بجامعة أم درمان المسماة( أحاديث حياة البرزخ في كتب التسعة جمعاً وتخريجاً ودراسة ). من أراد التوسع فليرجع إليها.

خامساً: من أسباب سوء الخاتمة:
أسباب سوء الخاتمة كثيرة، نذكر منها على الإجمال:
والشك والجحود والتعبد بالبدع، تسويف التوبة، عدم الاستقامة على الطاعة، طول الأمل، حب الدنيا، صحبة الأشرار، مخالفة الباطن الظاهر، تعلق القلب بغير الله، سوء الظن بالله، الإصرار على الذنوب والمعاصي، نسيان الآخرة وعدم ذكر الموت،  الظلم( ).
وقد تحدث العلماء عن علامات سوء الخاتمة وذكروا منها: الأمن من مكر الله عز وجل كأن بعضهم آتاهم الله ميثاقاً أن لا يعذبهم والغفلة عن ذكر الله عز وجل، والنفاق والرياء وحب السمعة وغير ذلك من العلامات( ).

سادساً: قبض أرواح العباد:
قال تعالى:" وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ" (السجدة، آية : 10، 11).
وقال تعالى:" وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ" (الأنعام ، آية : 61، 62).
وقال العلماء للجمع بين الآيات السابقة، أن الملائكة الذين هم أعوان ملك الموت ينزعون الأرواح وملك الموت الذي هو رئيسهم يقبضها إذا بلغت الحلقوم، وهناك رأي آخر وهو أن أعوان ملك الموت يقومون بقبض الأرواح بأمر ملك الموت( ).

سابعاً: الموت مكتوب على الخلائق ولا ينجو منه هارب:
إن الله تعالى خلق عباده وقدّر لهم آجالاً إليها ينتهون، فلا يتقدمون عنها ولا يتأخرون، كما قال سبحانه:" نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ" (الواقعة ، آية : 60).
وكتب أجل كل منهم في كتاب عنده لا يزاد فيه ولا ينقص منه كما قال تعالى:" وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً" (آل عمران ، آية : 145).
وجعله حتماً لازماً لابد لكلّ نفس من تجرع غصصه ولو كان الميت رسولاً أو نبياً أو ولياً حيث قال:" كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ" (آل عمران ، آية : 185)، وقال:" كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ" (العنكبوت ، آية : 57)، إذ لا باقي إلا سبحانه:" كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ" (القصص ، آية : 88).
وهو الوارث لجميع خلقه بعد فنائهم وانقضاء آجالهم:" إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ" (مريم ، آية : 40).
وهو المحيي والمميت الذي بيده الإحياء والإماتة لا بيد العباد، وليس في ملكهم ومقدرتهم، كما قال عز وجل:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" (آل عمران ، آية : 156).
والعبد لا يمكنه أن يدفع غائلة الموت عن نفسه مهما بلغ حرصه عليها ولذا عاب الله على أهل النفاق تثبيطهم عن الجهاد بزعمهم أن القعود عنه ينجي من الموت( )، فقال سبحانه في شأنهم:" الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" (آل عمران ، آية : 168).
فالموت لا ينجي منه هرب، ولا يغني عنه جزع، ولا يدفع عنه حذر، ولو تُحصَّن منه بالقصور المنيعة، والمساكن الرفيعة، قال تعالى:" أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ" (النساء ، آية : 78).
ولا ينجو منه فار، ولا يسلم منه هارب، وقد أبان الله ذلك لليهود مع كراهيتهم له، وخوفهم منه، في قوله:" قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (الجمعة ، آية : 8).
وأنذر المنافقين بأن فرارهم منه لا يزيد في أعمارهم، ولا يؤخر في آجالهم، بل بقاؤهم في الدنيا إلى قدر مقدور، وأجل مكتوب( )، كما قال سبحانه:" قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا" (الأحزاب ، آية : 16).
ولم يطمع الله بشراً في الخلود في الارض ولو فعل لكان أولى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم( )، قال تعالى:" إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُون*  ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ" (الزمر ، آية : 30، 31).

ثامناً: الآجال محدودة:
إن الله تعالى جعل لكل أحد من الخلق أجلاً معيناً ووقتاً محدوداً، فإذا جاء أجله وحلّ وقت زواله لا يتقدم عنه برهة من الزمن ولا يتأخر، لا الأمم مجتمعة ولا أفرادها، قال تعالى:" وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ" (الأعراف ، آية : 34)، وقال سبحانه:" وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ * مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ" (الحجر ، آية : 4، 5).
فهذا عن الأمم، وأما عن الافراد فقد قال:" وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً" (آل عمران ، آية : 145)، أي بأجل محدود مقيّد، إلى وقت معلوم بقضاء من الله مبرم، وقدر محكم فالآجال محدودة بأزمنة وأمكنة لا يتخطاها المرء ولا يتعداها ولو سلك كل سبيل( ).
ولو أن العباد استحقوا الهلاك والفناء بسبب ظلمهم ما بادرهم الله بذلك حتى يبلغوا منتهى أعمارهم وغاية آجالهم، وفي ذلك يقول سبحانه:" وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ" (النحل ، آية : 61).
ويقول:"وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا"(فاطر ، آية : 45).
والمرء لا يدري متى يحل به ذلك الأجل؟ لأن ذلك من علم الغيب الذي طواه الله عن خلقه، قال تعالى:" إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (لقمان ، آية : 34).
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنّ هذه الخمس هي مفاتيح الغيب التي أخفاها عن عباده( ).
فالإنسان لا يعلم متى ينقضي أجله، وفي أي بقعة يكون مضجعه أفي بر أم في بحر؟ وفي سهل أم حزن؟ وقريب ذلك أم بعيد؟ كما قال سبحانه:" أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ" (الأعراف ، آية : 185)، ولقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المبادرة بالطاعة، وذلك باستنفاد العمر في ملازمة التقوى وبذل الصحة قبل حلول العلل ومجاهدة النفس قبل وقوع الآجل( )،عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وفيه: خذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك( )، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء( )، وفي رواية: وعدّ نفسك في أهل القبور( ). والمعنى استمر سائراً ولا تفتر، فإنك إن قصّرت انقطعت وهلكت( ).
 

المبحث الثالث: حياة البرزخ:

جاءت النصوص باثبات الحياة في البرزخ، وهي حياة تخالف الحياة المعهودة في الدنيا، فالله سبحانه جعل الدور ثلاثاً، دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وجعل لكل دار أحكاماً تختص بها وركب هذا الإنسان من بدن ونفس، وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان والأرواح تبعاً لها... وجعل أحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبعاً لها... فإذا كان يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد ظاهراً ابدياً أصلاً( ).
والبرزخ: اسم ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلى البعث، قال تعالى:" وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ" (المؤمنون ، آية : 100).
ومما ينبغي أن يُعلم أن عذاب القبر ونعيمه، اسم لعذاب البرزخ ونعيمه وهو ما بين الدنيا والآخرة( )، قال تعالى:" حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ" (المؤمنون ، آية : 99، 100).

أولاً: الآيات القرآنية الدالة على عذاب القبر:
1ـ قال تعالى:" وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ" (الأنعام ، آية : 93).
ففي قوله:" الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ"، فالآية تبين حال المحتضر الكافر، وأنه تأتيه الملائكة وتخبره أنه سوف يعذب اليوم، يعني يوم موته، وهذا يدل أن العذاب يكون قبل يوم القيامة، ففي الآية دليل واضح على عذاب القبر ولو تأخر عنهم العذاب إلى إنقضاء الدنيا لما صح أن يقال لهم:" الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ"( ).
2ـ قال تعالى:" وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ" (التوبة، آية : 101)، قوله تعالى:" سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ": المرة الأولى في الدنيا، من المصائب في النفس أو المال أو الولد أو غير ذلك، وأما المرة الثانية ففي القبر، وأما عذاب الآخرة فذكره بقوله:" ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ"( ).
3ـ قال تعالى:" فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ" (غافر ، آية : 45، 46)، وهذا النص من النصوص الصريحة في عذاب القبر، فإن هذا العذاب الذي حصل لآل فرعون إنما كان بعد موتهم، وأما عذاب الآخرة فهو المذكور بعده بقوله:" أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ".
4ـ قال تعالى:" وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (السجدة ، آية : 21). وقد أحتج بهذه الآية جماعة منهم عبد الله بن عباس على عذاب القبر... فإنه سبحانه أخبر أن له فيهم عذابين، أدنى وأكبر، فأخبر أنه يذيقهم بها بعد عذاب الدنيا( )، ولهذا قال:" مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى"، يعني به عذاب القبر( ).
5ـ قال تعالى:" فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ * وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" (الطور ، آية : 45، 47).
عن قتادة أن ابن عباس كان يقول: إنكم لتجدون عذاب القبر في كتاب الله" وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ"( ).
6ـ قوله تعالى:" أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ" فيها الحديث عن عذاب القبر( ).
7ـ قال تعالى:" مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ
اللَّهِ أَنصَارًا" (نوح ، آية : 25)، قوله" فَأُدْخِلُوا نَارًا" أبعد إغراقهم، وهذا يدل على عذاب القبر( ).

ثانياً: فتنة القبر وسؤال الملكين:
لقد جاءت الأحاديث بفتنة القبر وسؤال الملكين ومما يستدل به من القرآن على سؤال الملكين قول الله تعالى:" يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء" (إبراهيم ، آية : 27).
فعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله تعالى:" يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ" (إبراهيم ، آية : 27).
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، إنه يسمع قرع نعالهم، قال: يأتيه ملكان فيقعدان فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل، قال: فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله، قال: فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعد من الجنة.
قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: فيراهما جميعاً.
وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت ويضرب بمطارق من حديد، ضربة، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين( ).
1ـ اسم الملكين: منكر ونكير: عن ابي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قُبر الميت، أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما المنكر والآخر النكير فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: ما كان يقول، هو عبده ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين، ثم ينور له فيه، ثم يقال له: نم، فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم، فيقولان: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك، وإن كان منافقاً قال سمعت الناس يقولون فقلت مثله لا أدري، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول ذلك، فيقال للأرض ألتئمي عليه، فتلتئم عليه فتختلف فيها أضلاعه، فلايزال فيها معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك( ).
2ـ عودة الروح إلى الميت عند السؤال: ومما يستدل به على عودة الروح إلى جسد الميت عند السؤال حديث البراء بن عازب والذي سنذكره بطوله، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمّا يُلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله، وكأن على رؤسنا الطير، وفي يده عود ينكث في الارض، فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر ـ مرتين أو ثلاث ـ ثم قال: إن العبد المؤمن إذا في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة، أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيلُ القطرة من في السقّا، فيأخُذُها، فإذا أخذها لم يَدَعوها في يده طرفة عين حتى يأخذها، فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها، كأطيب نفخة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها، فلا يمرون ـ يعني بها ـ على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن اسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى يُنتهى به إلى السماء السابعة، فيقول الله عزّ وجلّ: أكتبوا كتاب عبدي في عليّين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان له: وما عملك؟ فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به وصدقتُ، فينادي مناد في السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وأفتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره قال: وياتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي، قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة، سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، أخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأقبح اسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح له، فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم" لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ" (الأعراف ، آية : 40). فيقول الله عزّ وجلّ: اكتبوا كتابه في سجين، في الارض السفلى، فتطرح روحه طرحاً، ثم قرأ:" وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ" (الحج ، آية : 31)، فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري، فينادي منادٍ من السماء أن كذب، فأفرشوا له من النار وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرّها، وسمومها، ويُضيق عليه قبره، حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: ربّ لا تقم الساعة( ).
3ـ ما ينتفع به الميت من عمل الأحياء: ينتفع الاموات من سعي الأحياء بأمرين:
أحدهما: ما تسبب إليه الميت في حياته.
والثاني: دعاء المسلمين واستغفارهم له، والصدقة والحج والأدلة على ذلك منها:
أ ـ قال تعالى:" وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ" (الحشر ، آية 10). فاثنى الله عليهم باستغفارهم للمؤمنين قبلهم، فدل على انتفاعهم باستغفار الأحياء.
ب ـ والأدعية التي وردت بها السنة في صلاة الجنازة مستفيضة. وكذا الدعاء له بعد الدفن، ففي سنن ابي داؤد من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم، وأسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل( )، وكذلك الدعاء لهم عند زيارة قبورهم، كما في صحيح مسلم، من حديث بريدة بن الحصيب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية( ).
ــ وأما وصول ثواب الصدقة في (الصحيحين) عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أمي افتُلتت نفسها، ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجرٌ إن تصدقت عنها؟ قال: نعم( ).
ــ وأما وصول ثواب الصوم، ففي الصحيحين، عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من مات وعليه صيام صام عنه وليُّه( ).
ــ وأما وصول ثواب الحج ففي صحيح البخاري، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة من جُهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن امي نذرت أن تحجّ فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين، أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء( ).
ــ وقد دل على انتفاع الميت بالدعاء إجماع الأمة على الدعاء له في صلاة الجنازة، وأجمع المسلمون على أن قضاء الدين يُسقطه من ذمة الميت، ولو كان من أجنبي ومن غير تركته، وقد دل على ذلك حديث أبي قتادة حيث ضَمِن الدينارين عن الميت فلما قضاهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن برّدت عليه جلدته( ).
ــ وهذا جار على قواعد الشرع، وهو محض القياس، فإن الثواب حق العامل، فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يُمنع من ذلك، كما لم يمنع من هبة ماله له في حياته وإبرائه له منه بعد وفاته( )، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة، إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له( ).
وقد تحدث العلماء في الصدقات الجارية بابها واسع وكبير، من بناء المساجد، والآبار، والمدارس والمعاهد، وطباعة العلوم النافعة، وكفالة الأيتام والأرامل، وطلاب العلم...الخ
4ـ بكاء السماء على الميت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مؤمن إلا وله بابان، باب يصعد منه عمله وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات بكيا عليه، فذلك قوله عزّ وجلّ:" فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ" (الدخان ، آية : 29)( ).
5ـ ما يتبع الميت إلى قبره: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يتبع الميت ثلاثة، فيرجع أثنان ويبقى واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله( ).
6ـ القبر أول منازل الآخرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه، وقال رسول الله: ما رأيت منظراً قط إلا القبر أفظع منه( ).
7ـ نعيم القبر وعذابه ينال من دفن ومن لم يدفن: عذاب القبر ونعيمه ينال من دفن ومن لم يدفن، وأن من أكلته السباع أو مزّق جسده أو أحرق وذُرّ رماد جسمه في البر أو البحر، أو من كان في ثلاجات الموتى فترات طويلة، أو من أغرق أو صلب، أو كلّ من لم يدفن بحال من الأحوال، فإنه يناله عذاب القبر أو نعيمه، وأنه يحيا حياة برزخية حتى يوم القيامة( ).
8ـ الحكمة من عذاب القبر ونعيمه: هناك مجموعة من الحكم في عذاب القبر ونعيمه منها:
ــ إظهار فضل الله تعالى على عباده المؤمنين الصالحين في تنعيمهم في الحياة البرزخية، وإذلال وتعذيب المكذبين العاصين والعياذ بالله.
ــ إظهار قدرة الله تعالى في تعذيب العصاة والكافرين، وتنعيم المؤمنين الصّادقين في القبر دون أن يشعر بذلك سائر البشر.
ــ إن المكلفين عندما يعلمون أن هناك عذاباً في القبر أو في الحياة البرزخية، فإن ذلك يكون رادعاً ومانعاً لهم عما يسوء ويشين فعله في الآخرة.
ــ التحذير من بعض الذنوب والمعاصي، والتي يكون لها عقوبات خاصة تناسبها، كعدم التنزه من البول والنميمة وغير ذلك.
ــ إنه قد يكون العذاب في القبر أو في الحياة البرزخية مكفراً لبعض الذنوب والمعاصي التي ألم بها العبد في الحياة الدنيا، فيأتي يوم القيامة ولا ذنب له.
ــ إنه قد يكون العذاب في القبر تحفيفاً لعقوبة ذلك العبد في النار يوم القيامةح( ).
9ـ هل عذاب القبر دائم أم منقطع؟ يختلف عذاب العصاة من المؤمنين، فمنهم من يعفو الله عنهم فلا يعذبهم في قبورهم، ومنهم من تكون معاصيه صغيرة، فيعذبون بقدرها، ثم يرفع عنهم العذاب وقد ينقطع أو يرتفع بدعاء أو صدقة، أو استغفار، أو ثواب حج( )، أو غيرها من أعمال الخير، ومنهم من تكون معاصيه كبيرة فيستمر به العذاب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: بينما رجل يجر إزاره من الخيلاء، خسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة( ).
وأما الكافر والمنافق يستمر عذابه إلى يوم القيامة ولا يتوقف، والدليل على ذلك قول الله تعالى:" النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ" (غافر ، آية : 46)، وفي حديث البراء بن عازب في قصة الكافر: ثم يفتح له باب إلى النار فينظر إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعة( ).
وأما قول الله تعالى:" يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا" (يس ، آية: 52). قال العلماء: إن الكفار إذا عاينوا جهنم وأنواع عذابها صار عذاب القبر في جنبها كالنّوم( ).
قال الإمام الطبري في قوله تعالى:" قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا": قال هؤلاء المشركون لما نُفخ في الصور نفخة البعث لموقف القيامة فردّت أرواحهم إلى أجسامهم، وذلك بعد نومة ناموها:" قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا"، وقد قيل: إن ذلك نومة بين النفختين( ).
وقال العلامة الشنقيطي عن هذه الآية: والتحقيق أن هذا قول الكفار عند البعث، والآية تدل دلالة لا لبس فيها على أنهم ينامون نومة قبل البعث، كما قال غير واحد، وعند بعثهم أحياء من تلك النومة التي هي نومة موت، يقول لهم الذين أوتوا العلم والإيمان: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون، أي هذا البعث بعد الموت( ).
وقال صلى الله عليه وسلم: ما بين النفختين أربعون قالوا: يا أبا هريرة، أربعون يوماً؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون شهراً؟ قال: أبيت ويبلى كل شيءمن الإنسان إلا عجب ذنبه، فيه يركب الخلق( ).
وفي هذا الحديث دلالة على أنهم يموتون بين النفختين مقدار أربعون، ولم تُحدد تلك الأربعون، وإن ذهب بعض اهل التفسير إلى أنها أربعون سنة( ).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأصعق معهم، فأكون أول من يُفيق، فإذا موسى باطش جانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله( ).
إن الآيات والأحاديث الدّالة على استمرار العذاب، من باب العموم، وقد خصصت بآية (يس) وبالأحاديث السابقة الذكر في هذا القول( ).

ثالثاً: أسباب عذاب القبر:
ما الأسباب التي تعذب به أصحاب القبور؟ فجوابها من وجهين، مجمل ومفصل:
أما المجمل: فإنهم يُعذبون على جهلهم بالله وإضاعتهم لأمره وارتكابهم لمعاصيه، فلا يعذب الله روحاً عرفته وأحبته وامتثلت أمره، واجتنبت نهيه، ولا بدناً كانت فيه أبداً فإن عذاب القبر وعذاب الآخرة أثر غضب الله وسخطه على عبده، فمن أغضب وأسخطه في هذه الدار ثم لم يتب ومات على ذلك كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه، فمستقل ومستكثر ومصدق ومكذب.
وأما الجواب المفصل: فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجلين اللذين رآهما يعذبان في قبورهما يمشي أحدهما بالنميمة بين الناس، ويترك الآخر الاستبراء من البول، فعذاب القبر من معاصي القلب والعين والأذن والفم واللسان والبطن والفرج واليد والرجل والبدن كله.
فالنمام والكذّاب والمغتاب وشاهد الزور وقاذف المحصن والداعي إلى البدعة، والقائل على الله ورسوله ما لا علم له، والمجازف في كلامه، وآكل الربا، وآكل أموال اليتامى ظلماً، وآكل السحت من الرشوة، وآكل مال أخيه المسلم بغير حق أو مال المعاهد، وشارب المسكر وآكل لقمة الشجرة الملعونة (الحشيش)، والزاني واللواطي، والسارق، والخائن والغادر والمخادع والماكر، وآخذ الربا ومعطيه وكاتبه وشاهداه والمحلل، والمحلل له، والمحتال على اسقاط فرائض الله وارتكاب محارمه، ومؤذي المسلمين ومتتبع عوراتهم، والحاكم بغير ما أنزل، والمفتي بخلاف ما شرعه الله، والمعين على الإثم والعدوان، وقاتل النفس التي حرم الله، والملحد في حرم الله، والمعطل لحقائق أسماء الله وصفاته الملحد فيها، والمقدم رأيه وذوقه وسياسته على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنائحة والمستمع إليها، ونوّاحي جهنم وهم المغنون الغناء الذي حرمه الله ورسوله، والمستمع إليهم، واللذين يبنون المساجد على القبور يوقدون عليها القناديل والسرج، والمطففون في استيفاء مالهم إذا أخذوا، وهضم ما عليهم إذا بذلوه، والجبارون والمتكبرون والمراءون والهمازون واللمازون والطاعنون على السلف، واللذين يأتون الكهنة والمنجمين والعرّافين، فيسألونهم، ويصدقونهم، وأعوان الظلمة الذين باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم والذي يفتخر بالمعصية ويتكثر بها بين اخوانه واضرابه وهو المجاهر، والذي لا تأمنه على مالك وحرمتك، والفاحش اللسان البذئ الذي تركه الخلق إتقاء شره وفحشه والذي يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها وينقرها ولا يذكر الله فيها إلا قليلاً، ولا يؤدي زكاة ماله طيبة بها نفسه ولا يحج مع قدرته على الحج، ولا يؤدي الحقوق مع قدرته عليها، ولا يتورع من لحظة ولا لفظة ولا أكلة ولا خطوة، ولا يبالي بما حصل المال من حلال أو حرام، ولا يصل رحمه، ولا يرحم المسكين ولا الأرملة ولا اليتيم ولا الحيوان البهيم، بل يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين، ويرائي العالمين، ويمنع الماعون، ويشتغل بعيوب الناس عن عيبه، وبذنوبهم عن ذنبه، فكل هؤلاء وأمثالهم يُعذبون في قبورهم بهذه الجرائم بحسب كثرتها وقلتها وصغيرها وكبيرها، ولما كان أكثر الناس كذلك كان أكثر أصحاب القبور معذبين والفائز منهم قليل، فظواهر القبور تراب، وبواطنها حسرات وعذاب... وظواهرها بالتراب والحجارة المنقوشة مبنيات، وفي باطنها الدواهي والبليات تغلي بالحسرات، كما تغلى القبور بما فيها ويحق لها وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها( ).
وهذه بعض أسباب عذاب القبر:
1ـ الشرك بالله والكفر به: من أعظم أسباب عذاب القبر الإشراك بالله، قال تعالى:" وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ" (الأنعام ، آية : 93).
2ـ النفاق: قال تعالى:" وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ" (التوبة ، آية : 101)، سنعذبهم مرتين: إحداهما في الدنيا والآخرة هي عذاب القبر.
3ـ النميمة وعدم الاستتار من البول: عن ابن عباس رضي الله عنهما، مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير. ثم قال: بلى، أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة وأما أحدهما فكان لا يستتر من بوله. قال: ثم أخذ عوداً رطباً فكسره باثنتين ثم غرز( )، كل واحد منهما على قبر، ثم قال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا( ).
4ـ الغلول( ): عن أبي رافع ـ رضي الله عنه ـ قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقيع، فقال: أف لك، أف لك فظننت أنه يريدني، فقلت: يا رسول الله أحدثت شيئاً؟ قال: وما ذاك؟ قلت: أففت مني. قال: لا ولكن صاحب هذا القبر فلان، بعثته ساعياً على بني فلان فغلّ درعاً، فدُرّع الآن مثلها من النار( ).
5ـ جرّ الإزار من الخيلاء: عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينما رجل يجر إزاره من الخيلاء خُسف به فهو يُجلجل( ) في الأرض إلى يوم القيامة( )، وإنما خص الإزار بالذكر، لأنه هو الذي يظهر به الخيلاء غالباً( ).
6ـ حبس المدين في قبر بدينه: روى سعد بن الأطول رضي الله عنه، أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم، وترك عيالاً، قال: فأردت أن أنفقها على عياله، قال: فقال لي نبي الله صلى الله عليه وسلم: إن أخاك محبوس بدينه، فاذهب فأقضي عنه، فذهبت فقضيت عنه ثم جئت، قلت: يا رسول الله، قد قضيت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة، وليست لها بينة، قال: أعطها فإنها محقة وفي رواية صادقة( ).
7ـ عقوبة الآخذ بكتاب الله ثم رفضه والنائم عن الصلاة المكتوبة: فقد جاء في حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه الطويل جواب الملكين عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عما رأى في ليلته معهما فقالا له: .. أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر( )، فإنه الرجل يأخذ بالقرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة( ).
فالجزاء من جنس العمل فلأن هذا الرجل رفض القرآن وجعله وراء ظهره وتثاقل عنه وكذلك عن الصلاة المكتوبة فلم يصلها مع عباد الله في جماعة المسلمين بل ثقل رأسه على الفراش، فجزاؤه أن يثلغ ويرضخ هذا الرأس الذي هذا فعله وشأنه وهكذا يعذب إلى قيام الساعة، فقد جاء في بعض الروايات: ... فيفعل به إلى يوم القيامة( ).
8ـ عقوبة الكذاب: وفي حديث سمرة أيضاً ما أجاب الملكان عن عقوبة ذلك الرجل الذي يشرشر ويمزق ويقطع شدقه وعينه ومنخره إلى الخلف إنه الكذب الذي يفشو كذبه وينتشر على الملأ حيث قالا للنبي صلى الله عليه وسلم: .. وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق( ). فأنظر إلى عقوبة هذا الداء العضال والمرض الاجتماعي الذي يجب على المسلم تحاشيه فإنه من صفات المنافقين عياذاً بالله من كل سوء( ).
9ـ عقوبة الزناة والزواني: في حديث سمرة أيضاً المتقدم جاء فيه: ... فانطلقنا فأتينا على مثل التنور، قال: وأحسب أنه كان يقول: فإذا فيه لغط وأصوات قال: فطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء وعراة وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم إذا أتاهم ذلك اللهبُ ضوضوا... أي صاحوا.
وفي آخر الحديث: وأما الرجال والنساء والعُراة الذين هم في مثل بناء التنور فإنهم الزُناة والزواني( ).
ومناسبة العرى لهم لاستحقاقهم أن يفضحوا، لأن عادتهم أن يستتروا في الخلوة فعوقبوا بالهتك، والحكمة في إتيان العذاب من تحتهم كون جنايتهم من أعضائهم السفلى( ).
10ـ عقوبة آكل الربا: وفي الحديث السابق أيضاً: ... فانطلقنا فأتينا على نهر حسبت أنه كان يقول أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة، فيفغر( ) ـ أي يفتح ـ له فاه فيُلقمه حجراً فينطلق يسبح ثم يرجع إليه، كلما رجع إليه فغر فاه فألقمه حجراً... الحديث، وفي حديث آخر: وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجر فإنه آكل الربا( ).
11ـ الإفطار في رمضان من غير عذر: عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بينما أنا نائم أتاني رجلان فأخذا بضبعي فاتياني جبلاً وعراً فقالا: اصعد، فقلت: إني لا أطيقه فقالا: إنا سنسهله لك، فصعدت حتى غذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة، قلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذا عواء أهل النار، ثم انطلق بي فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دماً، قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يفطرون قبل تحلة صومهم( ).
12ـ من حرمت رضيعها من ثديها: إذا عمدت الأم إلى حرمان ابنها من هذا اللبن الذي خلفه الله تعالى في ثديها وأعطته بدلاً منه لبناً صناعياً لا يقوم مقامه ولا يماثله ـ وهل يصنع الناس كما يصنع بهم؟ فإن النتيجة أن الوليد سينشأ ضعيفاً وتعاقب الأم على ذلك في قبرها بعد موتها، ففي حديث أبي أمامة: .. ثم انطلق بي فإذا أنا بنساء تنهش ثديهن الحيات قلت: ما بال هؤلاء؟ قال: هؤلاء يمنعن أولادهن ألبانهن( ).
13ـ حبس الحيوان وتعذيبه: ففي حديث جابر في صلاة الكسوف قال النبي صلى الله عليه وسلم: ... وحتى رأيت فيها صاحبة الهرة التي ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش( ) الأرض حتى ماتت جوعاً( ).
14ـ الذين يقولون ما لا يفعلون: قال تعالى: " أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ" (البقرة، آية : 44".
وقال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ" (الصف، آية : 2 ـ 3).
وقال صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أسري بي رجالاً تُقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلتٌ: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب، أفلا تعقلون"( ).
15 ـ النياحة على الميت: قال صلى الله عليه وسلم: "الميت يُعذَّب في قبره بما نيح( ) عليه. وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول: واجبلاه واسنداه أو نحو هذا إلا وكلّ به ملكان يلهزانه أهكذا كنت( ). وهذا محمول على أنه أوصاهم بذلك أو علم أنهم سينوحون عليه ثم لم ينههم، قال ابن المبارك إذا كان ينهاهم في حياته ففعلوا شيئاً من ذلك بعد وفاته لم يكن عليه شيء، والعذاب عندهم بمعنى العقاب.
16 ـ السرقة: وأما عذاب السارق في البرزخ ففيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن جابر حيث قال رسول الله: "... وحتى رأيت فيها صاحب المحجن( )، يجر قعبه في النار كان يسرق الحاج بمحجنه، فإن فطن له قال: إنما تعلق محجني وإن غفل عنه ذهب به( ).
17 ـ الإعراض عن ذكر الله:
قال تعالى: " وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" (طه ، آية : 124).
وفسرت المعيشةالضنك بعذاب القبر ولا ريب أنه من المعيشة الضنك( )، فالمعيشة ـ الضنك ـ لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم في دنياه وفي البرزخ في يوم معاده( ).
والآية تتناول ما هو أعم منه( ).

رابعاً : الأسباب المنجية من عذاب القبر:
من الأسباب المنجية لعذاب القبر، تجنب تلك الأسباب التي تقتضي عذاب القبر، ومن أنفعها أن يجلس الرجل عندما يريد النوم لله ساعة يحاسب نفسه فيها على ما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد له توبة نصوحاً بينه وبين الله، فينام على تلك التوبة ويعزم على أن لا يعاود الذنب إذا استيقظ ويفعل هذا كل ليلة، فإن مات من ليلته مات على توبة وإن استيقظ مستقبلاً للعمل مسروراً بتأخير أجله حتى يستقبل ربه ويستدرك ما فاته وليس للعبد أنفع من هذه النومة، ولا سيما إذا عقّب ذلك بذكر الله واستعمال السنن التي وردت عن رسول الله عند النوم حتى يغلبه النوم، فمن أراد الله به خيراً وفقه لذلك، ولا قوة إلا بالله( ).
أما الجواب المُفصّل: فنذكر مما ينجي من عذاب القبر.
1ـ توحيد الله تعالى: لقد كان توحيد الله سبحانه دوماً في مقدمة الأعمال الصالحة، لأنه أساسها وأصلها الذي تنبني عليه، وإذا فقد أو خرم انهار صرحها، وتهاوى بنيانها، وهو أعظم عامل للثبات في جميع المواطن وفي هذا الموطن جاء الدليل من الكتاب والسنة على أهمية التوحيد في ثبات المؤمن في القبر( )، قال الله تعالى:" يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء" (إبراهيم ، آية : 27).
والقول الثابت هو كلمة التوحيد وهي شهادة ألا لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فلا يثبت في القبر إلا الموحد الذي عرف الله حق المعرفة، وآمن به إيماناً صادقاً، ولم يعرف لعبادة سواه، بل وحّده في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته( ).
2ـ الاستقامة على طاعة الله عزّ وجلّ: قال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ" (فصلت ، آية : 30). فلقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه ومن مات على شيء بعث عليه، فمن عاش على الطاعة مخلصاً لله ومتبعاً له ومتبعاً لهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يموت على الطاعة وينور الله له قلبه بتلك الطاعة بل ويصبح قبره روضة من رياض الجنة جزاءً لكل لحظة عاشها في طاعة الله جلّ وعلا( ).
3ـ الصلاة والزكاة والصيام وفعل الخيرات: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الميت إذا وضع في قبره إنه يسمع خفق نعالهم حين يولوّن عنه، فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه وكان الصيام عن يمينه وكانت الزكاة عن شماله وكان فعل الخيرات من الصدقة والصّلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيؤتى من قبل رأسه فتقول الصلاة ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من قبل رجليه فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصّلة والمعروف والإحسان إلى الناس ما قبلي مدخل، فيقال له: اجلس فيجلس وقد مثّلت له الشمس وقد أدنيت للغروب، فيقال له: أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقول فيه وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: دعوني حتى أصلي، فيقولون: إنك ستفعل، أخبرنا نسألك عنه، أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقول فيه، وماذا تشهد عليه؟ قال: فيقول: محمد أشهد أنه رسول الله، وأنه جاء بالحق من عند الله، فيقال له: على ذلك حييت، وعلى ذلك مت، وعلى ذلك تبعث إن شاء الله، ثم يفتح له باب من أبواب الجنة فيقال له: هذا مقعدك منها وما أعد الله لك فيها، فيزداد غبطة وسروراً، ثم يفتح له باب من أبواب النار، فيقال له: هذا مقعدك منها، وما أعد الله لك فيها لو عصيته، فيزداد غبطة وسروراً، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً وينور له فيه، ويعاد الجسد لما بدأ منه، فتجعل نسمته( )، في النسم الطيب وهو طير يعلق( ) في شجرة الجنة، قال: فذلك قوله تعالى:" يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء"( ) (إبراهيم ، آية : 27).
لقد بينت الأحاديث أن لهذه الطاعات أثراً عظيماً في القبر، فهي تحيط بالمؤمن من جميع جوانبه وتحميه وتدافع عنه( ).
4ـ الشهادة في سبيل الله تعالى: قال تعالى:" وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" (آل عمران ، آية : 169، 170).
وقد جاء بيان ذلك في حديث ابن مسعود رضي الله عنه عندما سأله مسروق عن معنى الآية الأولى فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فأطّلع عليهم ربهم اطلّاعة فقال: هل تشتهون شيئاً؟ فقالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلمّا رأى أن ليس لهم حاجة تركوا( ).
فالشهداء أرواحهم حية عند الله حياة برزخية، مودوعة في أجواف طير خضر تتنعم بنعم الله، وترتزق برزق الله، تسرح من الجنة حيث شاءت، تأكل من ثمارها وتلتذ بنعيمها، وهي مغتطبة فرحة بما نالت من أجر وحظيت من كرامة، بل تتمنىّ أن تعود إلى الدنيا لتقتل في سبيل الله مرة أخرى لما رأت من فضل الشهادة وعظيم ثوابها( ).
ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من قتل في سبيل الله لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه آمن من فتنة القبر وسلم منها، فلما سئل رسول الله وقيل له يا رسول الله ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: كفى ببارقة( ) السيوف على راسه فتنة( ). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لقي العدو فصبر حتى يقتل أو يغلب لم يفتن في قبره( ). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوّج بأثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه( ).
5ـ الرباط في سبيل الله: فعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل الميت يختم على عمله إلا المرابط فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويُؤَمَّنُ من فتان القبر( ). وفي رواية قال: يُنمى له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن من فتنة القبر( )، وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: رباط يوم في سبيل الله أفضل، وربما قال: خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات فيه وُقِي فتنة القبر ونُمَّي له عمله إلى يوم القيامة( ).
فالمرابط في سبيل الله يأمن من فتنة القبر ومن فتاني القبر فيسلم منهما بثبات وصبر، فيضاعف له الأجر، ولا ينقطع مدة الحياة وأبد الدهر إلى يوم القيامة والحشر( ).
6ـ التعوذ بالله من عذاب القبر: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات( ).
وعن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها، أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم( ). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر، فليتعوذ بالله من أربع، من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال( ).
7ـ الدعاء: ولا ينبغي أبداً أن يغفل المسلم عن الدعاء، فالدعاء من أعظم أسباب النجاة في الدنيا والآخرة، سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول في التشهد: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك المنان يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: تدرون بما دعا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: والذي نفسه بيده، لقد دعا الله باسمه العظيم وفي رواية (الأعظم) الذي إذا دعُي به أجاب وإذا سئل به أعطى( )، فعلينا أن نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وبإسمه الأعظم أن ينجينا من عذاب القبر، ونحن موقنون بالإجابة( )، كما أن الدعاء للميت من أسباب التثبيت، فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل( ).
8ـ تجنب أسباب عذاب القبر: ومن أسباب النجاة من عذاب القبر أن يتجنب العبد كل الأسباب التي تؤدي إلى عذاب القبر، مثل النميمة وعدم الأستتار والتنزه من البول، والكذب وهجر القرآن وعدم العمل به، وأكل الربا والوقوع في الزنا... الخ، فكل هذه الأشياء من أسباب عذاب القبر فعلينا أن نتجنبها لننجو جميعاً من عذاب القبر، وكذلك علينا أن نتجنب الأسباب التي تؤدي إلى سوء الخاتمة، من الشك والجحود وفساد المعتقد والنفاق وحب المعاصي والإصرار عليها وتعلق القلب بغير الله والانتحار والعدول عن الاستقامة وحب الدنيا وطول الأمل( ) وغير ذلك من الأسباب.
ونسأل الله عزّ وجلّ بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن ينجينا جميعاً من عذاب القبر وعذاب النار وأن يجمعنا في مستقر رحمته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

خامساً: مستقر الأرواح في البرزخ:
تتفاوت أرواح العباد في البرزخ في منازلها ومن خلال دراسة النصوص الواردة في ذلك يمكن التقسيم التالي:
1ـ أرواح الأنبياء: وهذه تكون في خير المنازل في أعلى عليين، في الرفيق الأعلى، وقد سمعت السيدة عائشة الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر لحظات حياته يقول: اللهم الرفيق الأعلى( ).
2ـ أرواح الشهداء: قال تعالى:" وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" (آل عمران ، آية : 169). وأرواحهم في أجواف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوى إلى تلك القناديل( ).
3ـ أرواح المؤمنين الصالحين: تكون طيوراً تعلق شجر الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما نسمة المسلم طير يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعها الله إلى جسده إلى يوم القيامة( ).
والفرق بين أرواح المؤمنين وأرواح الشهداء، أن الشهداء في حواصل طير خضر تسرح متنقلة في رياض الجنة، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش، أما أرواح المؤمنين فإنها في أجواف طير يعلق في ثمر الجنة ولا ينتقل في أرجائها( ).
4ـ أرواح العصاة: سبق وأن ذكرت بعض النصوص التي تبين ما يلاقيه العصاة من العذاب، فمن ذلك أن الذي يكذب الكذبة تبلغ الآفاق يعذب بكلوب من حديد يدخل في شدقه حتى يبلغ قفاه، والذي نام عن الصلاة المكتوبة يشدخ رأسه بصخرة، والزناة والزواني يعذبون في ثقب مثل التنور ضيق أعلاه وأسفله واسع، توقد النار تحته، والمرابي يسبح في بحر من الدم، وعلى الشط من يلقمه الحجارة( )، وقد ذكرنا الأحاديث التي تتحدث عن عذاب الذي لم يكن يستنزه من بوله والذي يمشي بالنميمة بين الناس، والذي غلّ من الغنيمة ونحو ذلك.
5ـ أرواح الكفار: في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما وصف حال المؤمن إلى أن يبلغ مستقره في الجنة، ذكر حال الكافر، وما يلاقيه عند النزع وبعد أن تقبض روحه، تخرج منه، كأنتن ريح، حتى يأتون به باب الأرض، فيقولون: ما أنتن هذه الريح حتى يأتون به أرواح الكفار( ).


 

الفصل الثاني
علامات الساعة الصغرى والكبرى والنفخ في الصور

المبحث الأول: علامات الساعة الصغرى:
أولاً: إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن الغيوب المستقبلية:
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون إلى قيام الساعة وذلك مما اطلعه الله عليه من الغيوب المستقبلية، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً، حتى بلغت التواتر المعنوي( )، فمنها:
1ـ ما رواه حذيفة رضي الله عنه قال: لقد خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم خطبة ما ترك فيها شيئاً إلى قيام الساعة إلا ذكره، علمه من علمه وجهله من جهله، إن كنت لأرى الشيء قد نسيته، فأعرفه، كما يعرف الرجل الرجل إذا غاب عنه فرآه فعرفه( ).
2ـ روى أبو زيد عمر بن أخطب الأنصاري رضي الله عنه، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل، فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل، فصلى، ثم صعد، فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا( ).
فهذه أدلة صحيحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أمته بكل ما هو كائن إلى قيام الساعة فيما يخصهم، ولا شك أن أشراط الساعة كثيرة جداً، ورويت بألفاظ مختلفة لكثرة من نقلها من الصحابة رضي الله عنهم( ).

ثانياً: علم الساعة:
غيب لا يعلمه إلآ الله تعالى، كما دلت على ذلك الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، فإن علم الساعة مما استأثر الله به، فلم يطلع عليه ملك مقرباً ولا نبياً مرسلاً، قال تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ" (الأعراف، آية : 187). فالله تعالى يأمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس أن علم الساعة عند الله وحده فهو الذي يعلم جليّة أمرها، لا يعلم ذلك أحد من أهل السماوات والأرض( ).
ــ وقال تعالى:" يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ
لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا" (الأحزاب ، آية : 63).
ــ وقال تعالى:" يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا* فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا" (النازعات ، آية : 42، 44).
فمنتهى علم الساعة إلى الله وحده ولهذا لما سأل جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة ـ كما في حديث جبريل الطويل ـ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل( ). فجبريل لا يعلم متى تقوم الساعة، وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم( ).

ثالثاً: قرب قيام الساعة:
تدل الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث الصحيحة على قرب الساعة ودنِّوها، فإن ظهور أكثر أشراط الساعة دليل على قربها وعلى أننا في آخر أيام الدنيا( )، قال تعالى:" اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ" (الأنبياء ، آية : 1).
ــ وقال تعالى:" وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا" (الأحزاب ، آية : 63).
ــ وقال تعالى:" إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا" (المعارج ، آية : 6، 7).
ــ وقال تعالى:" اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ" (القمر ، آية : 1).
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدّالة على قرب نهاية هذا العالم الدنيوي، والإنتقال إلى دار أخرى، ينال فيها كل عاملٍ عمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر( )، وقال صلى الله عليه وسلم: بعثت أنا والساعة كهاتين ويشير بأصبعيه فيمدهما( ).

رابعاً: مجمل اشراط الساعة الصغرى:
تحدث العلماء عن اشراط الساعة وإليك أهمها مما ثبت بالسنة النبوية منها:
1ـ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.      2ـ موت النبي صلى الله عليه وسلم.
3ـ فتح بيت المقدس.            4ـ طاعون عمواس( ).
5ـ استفاضة المال والاستغناء عن الصدقة.    6ـ ظهور الفتن، كظهورها من المشرق، ومقتل عثمان رضي الله عنه، موقعة الجمل، موقعة صفين( )، ظهور الخوارج، موقعة الحرة( )، اتباع سنن الأمم الماضية.        7ـ ظهور مدعي النبوة.
8ـ ظهور نار الحجاز.            9ـ انتشار الأمن.
10ـ قتال الترك.        11ـ قتال العجم.         12ـ ضياع الأمانة.
13ـ قبض العلم وظهور الجهل.           14ـ كثرة الشرط وأعوان الظلمة.
15ـ انتشار الزنا.        16ـ انتشار الربا.    17ـ ظهور المعازف واستحلالها
18ـ كثرة شرب الخمر واستحلالها      19ـ زخرفة المساجد والتباهي بها.
20ـ التطاول في البنيان.        21ـ ولادة الأمة لربتّها.
22ـ كثرة القتل.        23ـ تقارب الزمان.    24ـ تقارب الأسواق.
25ـ ظهور الشرك في هذه الأمة.    26ـ ظهور الفحش وقطيعة الرحم وسوء الجوار
27ـ تشبب المشيخة.        28ـ كثرة الشح.     29ـ كثرة التجارة.
30ـ كثرة الزلازل.        31ـ ظهور الخسف والمسخ والقذف.
32ـ ذهاب الصالحين.        33ـ ارتفاع الاسافل.      34ـ التحية للمعرفة ـ أي لا يطلق السلام إلا على من يعرفه.     35ـ التماس العلم عند الاصاغر.
36ـ ظهور الكاسيات العاريات.        37ـ صدق رؤيا المؤمن.
38ـ كثرة الكتابة وانتشارها.        39ـ التهاون بالسنن التي رغب فيها الإسلام.
40ـ انتفاخ الأهلة( ).        41ـ كثرة الكذب وعدم التثبت في نقل الأخبار.
42ـ كثرة شهادة الزور وكتمان شهادة الحق.   43ـ كثرة النساء وقلة الرجال.
44ـ كثرة موت الفجأة.     45ـ وقوع التناكر بين الناس( ).
46ـ عود أرض العرب مروجاً وأنهاراً.    47ـ كثرة المطر وقلة النبات.
48ـ حسر الفرات عن جبل من ذهب.    49ـ كلام السباع والجمادات للإنسان.
50ـ تمني الموت من شدة البلاء.    51ـ كثرة الروم وقتالهم للمسلمين.
52ـ فتح القسطنطينية.    53ـ قتال اليهود.
54ـ نفي المدينة لشرارها ثم خرابها في آخر الزمان.
55ـ بعث الريح الطيبة لقبض أرواح المؤمنين.
56ـ استحلال البيت الحرام وهدم الكعبة.
هذه أهم أشراط الساعة الصغرى التي جاءت في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أراد التوسع ومعرفة الأحاديث فليراجع كتاب أشراط الساعة( ) ففيه التفاصيل.

 

المبحث الثاني: أشراط الساعة الكبرى في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة:
أولاً: نزول عيسى عليه السلام:
نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان ثابت في الكتاب والسنة الصحيحة المتواترة، وذلك علامة من علامات الساعة الكبرى:
1ـ قال الله تعالى:" وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ" (الزخرف ، آية : 57، 61)، فهذه الآيات جاءت في الكلام على عيسى عليه السلام، وجاء في آخرها قوله تعالى:" وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ"، أي نزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة علامة على قرب الساعة( ).
2ـ وقال تعالى:" وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا*  وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا" (النساء، آية : 157، 159).
فهذه الآيات، كما أنها تدل على أن اليهود لم يقتلوا عيسى عليه السلام، ولم يصلبوه، بل رفعه الله إلى السماء، كما في قوله تعالى:" إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ" (آل عمران ، آية : 55)، فإنها تدل على أن من أهل الكتاب من سيؤمن بعيسى عليه السلام آخر الزمان وذلك عند نزوله( ) وقبل موته، كما جاءت بذلك الأحاديث المتواترة الصحيحة.
وعيسى عليه السلام حيٌّ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية( ). ويثبت في الصحيح عنه أنه ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، وأنه يقتل الدجّال، ومن فارقت روحه جسده، لم ينزل جسده من السماء، وإذا أُحيي، فإنه يقوم من قبره، وأما قوله تعالى:" إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ"، فهذا دليل على أنه لم يعنِ بذلك الموت، إذ لو أراد بذلك الموت، لكان عيسى في ذلك كسائر المؤمنين، فإن الله يقبض أرواحهم، ويعرج بها إلى السماء فعُلم أن ليس في ذلك خاصية، وكذلك قوله"  وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا"، ولو كان قد فارقت روحه جسده، لكان بدنه في الأرض، كبدن سائر الأنبياء، أو غيره من الأنبياء، وقد قال تعالى في الآية الأخرى"وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ" فقوله هنا " بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ" يبين أنه رُفع بدنه وروحه، كما ثبت في الصحيح أنه ينزل ببدنه وروحه إذ لو أريد موته لقال: وما قتلوه وما صلبوه بل مات.
وفي قوله تعالى:" وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ" قال: قبل موت عيسى بن مريم( ).
3ـ والأدلة من السنة على نزول عيسى عليه السلام كثيرة ومتواترة منها:
ـــ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الحرب، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها( ).
ــ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم( )؟
ــ وقال صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقول له أميرهم: صلِّ لنا فيقول:: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة( ).
وقد جاءت الأحاديث في نزول عيسى عليه السلام في الصحاح والسنن والمسانيد وغيره من دواوين السنة، وهي تدل دلالة صريحة على نزول عيسى عليه السلام ولا حجة لمن ردّها( ).
ثانياً: يأجوج ومأجوج:
خروج يأجوج ومأجوج في آخر الزمان علامة من علامات الساعة الكبرى وقد دلّ على ظهورهم الكتاب والسنة:
1ـ قال تعالى في سياقه لقصة ذي القرنين:" ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا* قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا *  قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا * وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا" (الكهف، آية : 92، 99).
2ـ وقال تعالى:" حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ" (الأنبياء ، آية : 96، 97).
فهذه الآيات تدل على أن الله تعالى سخر ذا القرنين الملك الصالح لبناء السدّ العظيم، ليحجز بين يأجوج ومأجوج القوم المفسدين في الأرض وبين الناس، فإذا جاء الوقت المعلوم، واقتربت الساعة، اندكّ هذا السد، وخرج يأجوج ومأجوج بسرعة عظيمة، وجمع كبير لا يقف أمامه أحد من البشر، فماجوا في الناس وعاثوا في الأرض فساداً وهذا علامة على قرب النفخ في الصور، وخراب الدنيا، وقيام الساعة( ).
والأحاديث الصحيحة الدّالة على ظهور يأجوج ومأجوج كثيرة منها:
ــ عن أم حبيبة بنت أبي سفيان عن زينب بنت جحش، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوماً فزعاً يقول: لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شرِّ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ـ وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها ـ قالت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول الله أفنهلك وفينا الصالحون، قال: نعم، إذا كثُر الخبث( ).

ثالثاً: الدخان:
قال تعالى:" فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ" (الدخان ، آية : 10، 11)، ومن علامات الساعة وأشراطها العظمى ظهور دخان قبل قيام الساعة يملأ الأرض كلها فتصبح كبيت أوقد فيه، فيأخذ بالمؤمنين كالزكمة ويدخل في منافذ الكفار والمنافقين حتى يخرج من كل مسمع منهم( )، وعن حذيفة بن اسيد الغفاري أنه قال: اطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال: ما تذكرون؟ قلنا: نذكر الساعة، قال: إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات، فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف، خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تطرد الناس إلى محشرهم( ).

رابعاً: طلوع الشمس من مغربها:
من أعظم أشراط الساعة الكبرى وبه يغلق باب التوبة، وقد ذكره الله تعالى في قوله تعالى:" هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ" (الأنعام ، آية : 185).
وقد دلت الأحاديث الصحيحة أن المراد ببعض الآيات المذكورة في الآية هو طلوع الشمس من مغربها وهو قول أكثر المفسرين( ).
قال الطبري ـ بعد ذكره لأقوال المفسرين في هذه الآية ـ
وأولى الأقوال بالصواب في ذلك ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك حين تطلع الشمس من مغربها( ).
ومن الأحاديث الدالة على طلوع الشمس من مغربها كثيرة منها:
1ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت، فرآها الناس، آمنوا أجمعون، فذاك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً( ).

خامساً: خروج الدابة:
قال تعالى:" وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ" (النمل ، آية : 82).
فهذه الآية الكريمة جاء فيها ذكر خروج الدابة، وأن ذلك يكون عند فساد الناس، وتركهم أوامر الله، وتبديلهم الدين الحق، يُخرج لهم دابة من الأرض، فتكلّم الناس على ذلك( )، قال العلماء في معنى قوله تعالى:" وَقَعَ الْقَوْلُ"، أي: وجب الوعيد عليهم، لتماديهم في العصيان والفسوق والطغيان، وإعراضهم عن آيات الله وتركهم تدبرها، والنزول على حكمها، وانتهائهم في المعاصي إلى ما لا ينجح معه فيه موعظة، ولا يصرفهم عن غيهم تذكرة، يقول عز من قائل فإذا صاروا كذلك:" أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ"، أي: دابة تعقل وتنطق، والدواب في العادة لا كلام لها ولا عقل، ليعلم الناس أن ذلك آية من عند الله( ).
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بادروا بالاعمال ستاً: الدجال، والدخان، ودابة الأرض، وطلوع الشمس من مغربها، وأمر العامة،وخويصه أحدكم( ).

سادساً: المهدي:
جاءت الأحاديث الصحيحة الدالة على ظهور المهدي، وهذه الأحاديث منها ما جاء فيه النص على المهدي ومنها ما جاء فيه ذكر صفته فقط، ومن هذه الأحاديث:
ــ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخرج في آخر أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث، وتُخرج الارض نباتها، ويُعطى المال صحاحاً، وتكثر الماشية، وتعظم الأمة، يعيش سبعاً أو ثمانياً يعني: حججاً( ).
ــ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشركم بالمهدي، يبعث على اختلاف من الناس وزلازل، فيملأ الارض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً يرضي عنه ساكن السماء وساكن الأرض يقسم المال صحاحاً. فقال له رجلاً: ما صحاحاً؟ قال: بالسوية بين الناس( ).
ــ وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المهدي منا أهل البيت، يصلحه الله في ليلة( ). أي يتوب عليه، ويوفقه، ويلهمه، ويرشده، بعد أن لم يكن كذلك.

سابعاً: المسيح الدجال:
مسيح الضلالة، يفتن الناس بما يعطاه من الآيات، كإنزال المطر، وإحياء الأرض بالنبات وغيرهما من الخوارق وسُمّي الدجال مسيحاً، لأن إحدى عينيه ممسوحة، ولأنه يمسح الأرض في أربعين يوماً، والقول الأول هو الراجح، لما جاء في الحديث النبوي: إن الدجال ممسوح العين( )، ومعنى الدجال: الممّوه الكذاب المُمَخرِق وهو من ابنية المبالغة، وهو على وزن فعال، أي يكثر منه الكذب والتلبيس وجمعه دجالون، وجمعه الإمام مالك على دجاجلة وهو جمع تكسير( )، ولفظة الدجال: أصبحت علماً على المسيح الأعور الكذاب، فإذا قيل الدّجّال، فلا يتبادر إلى الذهن غيره.
وسمي الدجال دجالاً: لأنه يغطي الحق بالباطل، أو لأنه يغطي على الناس كفره بكذبه وتمويهه وتلبيسه عليهم وقيل لأنه يغطي الأمر بكثرة جموعه( ).
والدجال رجل من بني آدم، له صفات كثيرة جاءت بها الأحاديث لتعريف الناس به وتحذيرهم من شره حتى إذا خرج عرفه المؤمنون، فلا يفتنون به بل يكونون على علم بصفاته، فلا يغتر به إلا الجاهل الذي سبقت عليه الشقوة، نسأل الله العافية.
ومن هذه الصفات أنـه رجـل شـاب، أحمـر، قصير، أفجع، جعد الرأس، أجلى الجبهة، عريض النحر، ممسوح العين اليمنى، وهذه العين ليست بناتئة( )، ولا جحراء( )، كأنها عنبة طافئة، وعينه اليسرى عليها ظفرة غليظة( )، ومكتوب بين عينيه (ك ف ر ) بالحروف المقطعة، أو (كافر) بدون تقطيع يقرؤها كل مسلم كاتب وغير كاتب، ومن صفاته أنه عقيم لا يولد له، وهذه بعض الأحاديث الصحيحة التي جاء فيها ذكر صفاته السابقة ومنها:
1ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:أن المسيح الدجال رجل، قصير، أفجع، جعد، أعور، مطموس العين، ليست بناتئة ولا جحراء( ).
2ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدجال أعور العين اليسرى، جفال الشعر( ).
3ـ وقال صلى الله عليه وسلم: وإن بين عينيه مكتوب كافر( ).
وحُرّم على الدجال دخول مكة والمدينة حين يخرج في آخر الزمان، لورود الأحاديث الصحيحة بذلك، وأما سوى ذلك من البلدان، فإن الدجال سيدخلها واحداً بعد الآخر، وأكثر اتباع الدجال من اليهود والعجم والترك، وأخلاط من الناس غالبهم الأعراب والنساء( ).
وفتنة الدجال عظيمة وذلك بسبب ما يخلق الله معه من الخوارق العظيمة التي تبهر العقول، وتحيّر الالباب( ).
4ـ الوقاية من الدجال: أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى ما يعصمها من فتنة المسيح الدجال، فقد ترك أمته على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فلم يدع صلى الله عليه وسلم خيراً إلا دلَّ أمته عليه ولا شراً إلا حذّرها منه، ومن جملة ما حذّر منه فتنة المسيح الدجال لأنها أعظم فتنة تواجهها الأمة إلى قيام الساعة وكان كل نبي ينذر أمته الأعور الدجال، وخص محمد صلى الله عليه وسلم بزيادة التحذير والإنزار، وقد بين الله له كثيراً من صفات الدجال ليحذر أمته، فإنه خارج من هذه الأمة لا محالة، لأنها آخر الأمم، ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ومن الإرشادات النبوية التي أرشد إليها المصطفى صلى الله عليه وسلم أمته لتنجو من هذه الفتنة العظيمة الآتي:
أ ـ التمسك بالإسلام، والتسلح بسلاح الإيمان، ومعرفة أسماء الله الحسنى التي لا يشاركه فيها أحد، فيعلم أن الدجال بشر يأكل ويشرب، وأن الله تعالى منزه عن ذلك وأنه لا أحد يرى ربه حتى يموت.
ب ـ التعوذ من فتنة الدجال، وخاصة في الصلاة وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدَّجَّال( )، وروى مسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدَّجَّال( ).
ج ـ حفظ آيات من سورة الكهف: فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقراءة فواتح سورة الكهف على الدجال، وفي بعض الروايات خواتيمها، وذلك بقراءة عشر آيات من أولها أو آخرها، ومن الأحاديث الواردة، قوله صلى الله عليه وسلم: من أدركه منكم، فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف( )، وقال صلى الله عليه وسلم: من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصم من الدَّجَّال( )، اي: من فتنته، وهذا من خصوصيات سورة الكهف، فقد جاءت الأحاديث بالحث على قراءتها وخاصة يوم الجمعة( ).
روى الحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بين الجمعتين( ).
س ـ الفرار من الدجال والابتعاد منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سمع بالدّجّال، فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه مما يبعث به من الشبهات، أو لما يبعث به من الشبهات( ).
وأما هلاك الدجال على يدي المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة( ).

ثامناً: الخسوفات الثلاثة:
وهي من أشراط الساعة جاء ذكرها في الأحاديث ضمن العلامات الكبرى، فعن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الساعة لن تقوم حتى تروا عشر آيات ... فذكر منها وثلاثة خسوف، خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب( )، وهذه الخسوف تكون عظيمة وعامة لأماكن كثيرة من الأرض في مشارقها ومغاربها وفي جزيرة العرب. وقد وجد عبر التاريخ الخسف في مواضع ولكن يحتمل أن يكون المراد بالخسوف الثلاثة قدراً زائداً على ما وُجد، كأن يكون أعظم منه مكاناً وقدراً( ).

تاسعاً: النار التي تحشر الناس:
ومنها خروج النار العظيمة وهي من أشراط  الساعة الكبرى، وأول الآيات المؤذنة بقيام الساعة وجاءت الروايات بأن خروج هذه النار يكون من اليمن، من قعرة عدن، فقد جاء في حديث حذيفة بن أسيد في ذكر أشراط الساعة الكبرى قوله صلى الله عليه وسلم: وآخر ذلك نار تخرج من اليمن، تطرد الناس إلى محشرهم( )، وفي رواية له عن حذيفة أيضاً: ونار تخرج من قعرة عدن ترحل الناس( ). وكون النار تخرج من قعر عدن لا ينافي حشرها الناس من المشرق إلى المغرب، وذلك أن ابتداء خروجها من قعر عدن فإذا خرجت انتشرت في الأرض كلها ... وعندما تنتشر يكون حشرها لأهل المشرق( ).
 

المبحث الثالث: النفخ في الصور:
أولاً: ما هو الصور؟
قال تعالى:" وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ" (النمل ، آية : 87).
وقد سمّاه الله تعالى أيضاً الناقور، كما قال تعالى:" فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ" (المدثر، آية : 8).
والناقور هو الصور( )، فالصور والناقور اسمان لمسمى واحد وعرّف النبي صلى الله عليه وسلم الصور فقال كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء إعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما الصور؟ قال: الصور قرن ينفخ فيه( ).
وقد سمّى الله تعالى الصوت الذي يخرج إسرافيل من الصور بأسماء هي:
1ـ النفخة: " فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ" (الحاقة ، آية : 13).
2ـ الصيحة: " مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ" (يس ، آية : 49).
3ـ الراجفة: " يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَة*  تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ" (النازعات ، آية : 6، 7).
4ـ الزجرة: " فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ" (النازعات ، آية : 13).
فإسرافيل ينفخ نفخة وزجرة، ـ وهي النفخة بغضب ـ تحدث صيحة عظيمة ترجف لها الأرض والقلوب( ).

ثانياً: عدد النفخات:
اختلف العلماء في عدد النفخات، القول الأول: أنها ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة البعث، وذلك أن الله نص على هذه الثلاث في كتابه، فقال:" وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ" (النمل ، آية : 87)، وهذه نفخة الفزع.
ــ وقال تعالى:" وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ" (الزمر ، آية 68)، وهذه نفخة الصعق ونفخة البعث، وقالوا: إن الفزع مغاير للصعق واستدلوا بحديث الصور الطويل، وفيه أن النفخات ثلاث( ).
القول الثاني: أنهما نفختان: نفخة الصعق ونفخة البعث، وقالوا: هذا هو ظاهر النصوص:
ــ كقوله تعالى:" مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ*  فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ" (يس ، آية : 49، 52).
ــ ففي قوله تعالى:" مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ" هذه هي النفخة الأولى.
ــ وقوله:" وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ" هذه هي النفخة الثانية.
ــ وكقوله تعالى:" يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَة*  تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ" (النازعات ، آية: 6، 7). هما النفختان الأولى والثانية( ).
ــ وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بين النفختين أربعون، قالوا: يا أبا هريرة أربعون يوماً قال: أبيت، قال: أربعون سنة، قال: أبيت، قال: أربعون شهراً، قال: أبيت، ويبلى كل شيء من الإنسان إلاّ عجب ذنبه فيه يركب الخلق( ).
ويمكن الجمع بين الفزع والصعق وجعلهما نفخة واحدة ولكنها تبدأ بالفزع، وتنتهي بالصعق، مع وجود مسافة زمنية تفصل بين بدايتها، أي أن الله يأمر إسرافيل بالنفخ فينفخ نفخة إفزاع يطولها ويمدها لا يفتر وهو ما يعني استمرار النفخ بلا انقطاع، فيما الناس في العذاب يشاهدون أحداث الزلزلة إلى أن يأمر الله بنفخة الصعق الأشد قوة وهولاً، فيموت لشدتها كل من في السماوات والأرض إلا من شاء الله( ).
ومن هذا الباب يمكن الاستدلال على ذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين، ثم قال: وهم في ذلك دار رزقهم حسن عيشهم ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً، قال: وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله، قال: فيصعق ويصعق الناس( ).
وأصغى في الحديث: يعني: أمال. (والليت) صفحة العنق، فهذا التسمع والاصغاء يدلنا على أن بداية النفخة ليست كنهايتها في القوة والشدة، حتى أن الصوت لم يشمل كل الناس عند بدايته( )، كما نجد في نص الحديث: وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله.فلو كانت بدايتها (بالصعقة) المميتة لمات الناس على أثرها، ولما بقي فسحة لهذا التسمع والاصغاء وكأن الصوت يبدأ رويداً ثم يمضي في التدرج الصاعد، إلى أن يملأ الكون دوياً وأرعاداً، مصحوباً بالزلزلة العظيمة، وذلك التدرج في النفخ والمد والتطويل أدعى لتصعيد حدة الخوف، وإيقاع الرهبة في نفوس شرار الخلق الذين يعذبهم الله في الدنيا بأحداث الساعة ما شاء له أن يعذبهم، إلى أن يأمر بنفخة الصعق فيصعقون( ).
1ـ انتظار إسرافيل الأمر بالنفخ في الصور: قال ر سول الله صلى الله عليه وسلم: إن طَرْف صاحب الصور منذ وكلَّ به مستعد ينظر نحو العرش مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه، كأن عينيه كوكبان دُرّيان( ).
2ـ كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن؟: قال صلى الله عليه وسلم: كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته، وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر أن ينفخ، فينفخ، قال المسلمون: فكيف نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل، توكلنا على الله ربنا( ).
3ـ اليوم الذي يكون فيه النفخة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ، إن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء( ).
4ـ من الذين استثناهم الله من الفزع والصعق؟: قال تعالى:" وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ" (الزمر ، آية : 68).
ذهب طائفة من العلماء أن الذين استثناهم الله في قوله" إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ" هم الملائكة ومنهم من قال أنهم الأنبياء أو الشهداء أو الحور العين... الخ. والصحيح أنه لم يرد نص صريح في كتاب الله أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يحدد لنا من الذين استثناهم الله في تلك الآية، وبذلك لا يمكننا أن نجزم بذلك وصار مثل العلم بوقت الساعة، وأمثال ذلك مما لم يخبر الله به( ).

ثالثاً: الآيات التي يقصد بها النفخة الأولى:
1ـ قال تعالى:" وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ" (النمل ، آية : 87).
2ـ وقوله تعالى:" وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ
إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ" (الزمر ، آية : 68).
3ـ وقوله تعالى:" وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاء إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ" (ص ، آية : 15).
4ـ وقوله تعالى:" فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ" (النازعات ، آية : 13).
5ـ وقوله تعالى:" يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ" (النازعات ، آية : 6).

رابعاً: الآيات التي يقصد بها النفخة الثانية:
1ـ قال تعالى:" فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ" (الصافات ، آية : 19).
هي عبارة عن النفخة في الصور الثانية( ).
2ـ وقال تعالى:" وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ
فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا" (الكهف ، آية : 99).
3ـ وقال تعالى:" وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ" (يس ، آية : 51).
4ـ وقال تعالى:" إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ" (يس، آية : 53).
5ـ وقوله تعالى:" يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا" (النبأ ، آية : 18).
6ـ وقوله تعالى:" يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا" (طه ، آية : 102).
7ـ وقال تعالى:" فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ" (المؤمنون ، آية : 101).
قال الشنقيطي: أنها الثانية( ).
8ـ وقوله تعالى:" وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ" (ق ، آية : 20). قال الشوكاني: وهذه هي النفخة الآخرة للبعث( ).
9ـ وقوله تعالى:" يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ" (ق، آية: 42).
10ـ وقوله تعالى:" فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ" (الحاقة ، آية : 13).
لقوله بعدها: " فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ" (الحاقة ، آية : 15).

خامساً: الآيات التي تحتمل الأمرين:
1ـ قال تعالى:" وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ * وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ * وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ" (سبأ ، آية : 51، 54).
2ـ وقال تعالى:" وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ" (الأنعام ، آية : 73).
3ـ وقوله تعالى:" يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ" (القمر ، آية : 6).
قال القرطبي: الداعي هو اسرافيل عليه السلام( )، وعليه فتكون الدعوة هي النفخ في الصور والله تعالى أعلم وأحكم( ).

 

الفصل الثالث
البعث والحشر وأهوال يوم القيامة وأحوال الناس

المبحث الأول: البعث:
هو إعادة المخلوقات بعد فنائها للحساب والجزاء، من خير أو شر( )، قال تعالى: "لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى" (النجم، آية : 31).
ولقد نهج القرآن الكريم في الاستدلال على البعث، وتحقق وقوعه منهجاً قوياً يجمع بين ما فطرت عليه النفوس من الإيمان، بما تشاهد وتحس ويقع منه تحت تأثير السمع والبصر وبين ما تقرره العقول السليمة ولا يتنافى مع الفطر المستقيمة، وتلك الطريقة تميز بها القرآن الكريم( ).

أولاً: الاستدلال بمن أماتهم الله ثم أحياهم كما أخبر الله تعالى عن ذلك ومنهم:
1 ـ قوم موسى قال تعالى: " وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (البقرة، آية : 55 ـ 56).
2 ـ المضروب بعضو من أعضاء البقرة، كما قال تعالى: "وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (البقرة، آية : 72 ـ 73).
3 ـ الذين أخبر الله عنهم بقوله تعالى: " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ" (البقرة، آية : 243).
4 ـ ما حصل لعزير، كما قال تعالى: " أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (البقرة، آية : 259).
5 ـ سؤال إبراهيم عليه السلام عن كيفية إحياء الموتى، قال تعالى: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (البقرة، آية : 260).
6 ـ ما أخبر الله به عن عيسى عليه السلام، من أنه كان يحي الموتى بإذن الله، قال تعالى: "وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ: (آل عمران، آية : 49).
7 ـ ما أخبر الله من قصة أصحاب الكهف، كما قال تعالى: " أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا" (الكهف، آية : 10).
إن هذه الأدلة المتقدمة أدلة حسية مادية، وقعت كلها لتدل على إحياء الموتى بعد مماتهم، وهذا برهان قطعي على القدرة الإلهية، وقد أخبر الله ورسوله عن وقوع البعث والحشر فوجب القطع بذلك( ).

ثانياً: الاستدلال على البعث بالنشأة الأولى: ومن الآيات الدالة على ذلك ما يلي: قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ"الحج، آية : 5 ـ 7).
وهذه الآيات تعطي تفصيلاً للمراحل التي يمر بها خلق الإنسان، فقد قابل الله هذه المراحل بعدة دلالات على قدرته سبحانه على البعث، فالله سبحانه يبين للناس إن كنتم في ريب من البعث، فلستم ترتابون في أنكم مخلوقون ولستم ترتابون في مبدأ خلقكم من حال إلى حال إلى حين الموت والبعث الذي وعدتم به نظير النشأة الأولى، فهما نظيران في الإمكان والوقوع‘ فإعادتكم بعد الموت خلقاً جديداً كالنشأة الأولى التي لا ترتابون فيها، فكيف تنكرون إحدى النشأتين مع مشاهدتكم لنظيرها( ).
‘ن هذه الآيات لها دلالة عقلية على البعث: أنها نقلة ضخمة بعيدة الأغوار والآماد، تشهد بالقدرة التي لا يعجزها البعث وأن إنشاء الإنسان من التراب، وتطور الجنين في مراحل حياته، وانبعاث الحياة من الأرض بعد الهمود، كل ذلك متعلق بأن الله هو الحق، فهو من السنن المضطردة التي تنشأ من أن خالقها هو الحق الذي لا تختل سننه ولا تتخلف، وأن اتجاه الحياة في هذه الأطوار ليدل على الإرادة التي تدفعها وتنسق خطاها وترتب مراحلها، فهناك ارتباط وثيق بين أن الله هو الحق، وبين هذا الاضطراد والثبات، والاتجاه الذي لا يحيد، وأن إحياء الموتى هو إعادة للحياة والذي أنشأ الحياة الأولى هو الذي ينشئها للمرة الآخرة " وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ" ليلاقوا ما يستحقونه من جزاء، فهذا البعث تقتضيه حكمة الخلق والتدبير، وإن هذه الأطوار التي يمر بها الجنين، ثم يمر بها الطفل بعد أن يرى النور، لتشير إلى أن الإرادة المدبرة لهذه الأطوار ستدفع بالإنسان إلى حيث يبلغ كماله الممكن في دار الكمال، إذ أن الإنسان لا يبلغ كماله في حياة الأرض، فهو يقف ثم يتراجع " لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا"، فلا بد من دار أخرى يتم فيها تمام الإنسان، فدلالة هذه الأطوار على البعث دلالة مزدوجة، فهي تدل على البعث من ناحية أن القادر على الإنشاء قادر على الإعادة، وهي تدل على البعث لأن الإرادة المدبرة تكمل تطوير الإنسان في الدار الآخرة، وهكذا تلتقي نواميس الخلق والإعادة ونواميس الحياة والبعث، ونواميس الحساب والجزاء، تشهد كلها بوجود الخالق المدبر القادر، الذي ليس في وجوده جدال( ).

ثالثاً: الاستدلال على إمكان البعث بخلق الأكوان، مثل السماوات والأرض:
فإن خلقها أعظم من خلق الإنسان، ومن الآيات الدالة ما يلي:
1 ـ قال تعالى: "وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ" (الإسراء، آية : 98 ـ 99).
2 ـ قال تعالى: " أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (الأحقاف، آية : 33).
3 ـ وقال تعالى: " أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ" (يس، آية ـ 81).

رابعاً: الإستدلال على إمكان البعث بخلق النباتات المختلفة:
ومن الآيات ما يلي:
1ـ قال تعالى:" وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" (الأعراف ، آية : 57).
2ـ قال تعالى:" وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ" (فاطر ، آية : 9).
3ـ قال تعالى:" وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (فصلت ، آية : 39).
4ـ قال تعالى:" وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" (الرعد ، آية : 4). وقوله تعالى:" وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ" (الرعد ، آية : 5).
5ـ قال تعالى:" وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ" (الحج، آية : 5، 7).
فجعل الله سبحانه، إحياء الأرض بعد موتها نظير إحياء الأموات وإخراج النبات منها نظير إخراجهم من القبور، ودلّ بالنظير على نظيره وجعل ذلك آية ودليلاً على خمسة مطالب:
أ ـ وجود الصانع وأنه الحق المبين وذلك يستلزم إثبات صفات كماله وقدرته وحياته وعلمه وحكمته ورحمته وأفعاله.
ب ـ أنه يحيي الموتى.
ج ـ عموم قدرته على كل شيء.
د ـ إتيان الساعة وأنها لا ريب فيها.
س ـ أنه يخرج الموتى من القبور كما أخرج النبات من الأرض( ).
6ـ وقوله تعالى:" وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ" (ق ، آية : 9، 11).
" وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا" : يراد به الأرض التي كانت هامدة، فلما نزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج من أزاهير وغير ذلك، مما يحار الطرف في حسنها، وذلك بعدما كانت لا نبات بها، فأصبحت تهتز خضراً، فهذا مثال للبعث بعد الموت والهلاك، كذلك يحيي الله الموتى وهذا المشاهد ـ من عظيم قدرته ـ بالحسّ، أعظم مما أنكره الجاحدون للبعث( ).

خامساً: الإستدلال على البعث والإعادة بإخراج النار من الشجر الأخضر:
الشجر إذا قطع وأصبح حطباً يكون ميتاً وليس فيه أثر للحياة، فإذا أوقدت به النار دبت فيه الحركة واضطرب، وهذه آثار الحياة، فمن قدر على هذا قادر على إحياء الموتى، وقد ذكر الله تعالى هذا الدليل في موضعين من كتابه سبحانه:
1ـ قال تعالى:" أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ" (الواقعة ، آية : 71، 72).
2ـ وقال تعالى:" أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" (يس ، آية : 77، 83).
فرد بهذه الآيات على من أنكر البعث بثلاثة أدلة عقلية.
أ ـ الاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة الأخرى: قال تعال:" قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ" (يس ، آية : 79).
ب ـ الاستدلال بإخراج النار من الشجر الأخضر: مع أنه أكثر بالضدية لأن الشجر إنما يكون أخضر إذا كان مليئاً بالماء، فمن قدر على إخراج النار من هذا الشجر الميت المليء بالماء قادر على إحياء الأموات من قبورهم، قال تعالى:" الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ" (يس ، آية : 80).
ج ـ الاستدلال يخلق السموات والأرض: على خلق الإنسان، قال تعال:" أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" (يس ، آية : 81، 82).

سادساً: الاستدلال على البعث بأن حكمة الله وعدله يقتضيان البعث والجزاء:
فإن الله تعالى لم يخلق الناس عبثاً ولن يتركهم سدى.
1ـ قال تعالى:" أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ" (المؤمنون ، آية : 115، 116).
2ـ قال تعالى:" أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى" (القيامة ، آية : 36). فهل يظن عاقل أن يترك الإنسان في هذه الدنيا لا يؤمر ولا يُنهى ويترك في قبره سدى دون أن يبعث؟ إن ذلك لا يليق بحكمة الله، فكل شيء يصدر عنه سبحانه له حكمة تقتضيه( ).
إننا نشاهد في حياتنا ظالمين ظلوا ظالمين حتى لحظة الموت، ولم يأخذ على أيديهم أحد، ومظلومين ظلوا مظلومين إلى آخر حياتهم، لم ينصفهم أحد، أفإن كانت الحياة هي نهاية المطاف، يكون هذا عدلاً وحكمة؟ وأين هي الحكمة في خلق حياة تجري أحداثها على غير مقتضى العدل، ثم تنتهي دون حساب؟
لذا يأتي التأكيد في القرآن على أن البعث ضرورة يقتضيها عدل الله وحكمته في مواضع عديدة من القرآن منها:( )
3ـ قوله تعالى:" أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ" (الجاثية ، آية : 21).
4ـ وقوله تعالى:" أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ" (ص ، آية 28).
5ـ قال تعالى:" أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ" (القلم ، آية : 35، 36).
6ـ قال تعالى:" وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ" (ص ، آية 27).

سابعاً: إخبار العليم الخبير بوقوع القيامة:
أعظم الأدلة على وقوع المعاد إخبار الحق تبارك وتعالى بذلك، فمن آمن بالله وصدّق برسوله الذي أرسل، وكتابه الذي أنزل، فلا مناص له من الإيمان بما أخبرنا به من البعث والنشور، والجزاء والحساب، والجنة والنار، وقد نوّع تبارك وتعالى أساليب الإخبار ليكون أوقع في النفوس، وآكد في القلوب.
1ـ ففي بعض المواضع يخبرنا بوقوع ذلك اليوم إخباراً مؤكداً (بأن) أو (بإن) واللام كقوله تعالى:"إنَّ السّاعَةَ آتِيةُ أكَادُ أُخْفِيهَا" (طه ، آية : 15).
وقوله تعالى:" وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ" (الحجر ، آية : 85).
2ـ وفي مواضع أخرى يقسم الله تعالى على وقوعه ومجيئه كقوله تعالى:" اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ" (النساء ، آية : 87). ويقسم على تحقق ذلك بما شاء من مخلوقاته، كقوله تعالى:" وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ* وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ* وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِن دَافِعٍ" (الطور ، آية : 1، 8).
3ـ وفي بعض المواضع يأمر رسوله بالإقسام على وقوع البعث وتحققه وذلك في معرض الردّ على المكذبين به المنكرين له كقوله تعالى:" زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ" (التغابن ، آية : 7).
4ـ وفي مواضع أخرى يذم المكذبين بالمعاد، كقوله تعالى:" خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ " (يونس ، آية : 45).
5ـ وأحياناً يمدح المؤمنين بالمعاد قال تعالى:" وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ * رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ" (آل عمران ، آية : 7، 9).
6ـ وأحياناً يخبر أنه وعد الصادق وخبر لازم وأجل لاشك فيه، قال تعالى:" إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ" (هود ، آية : 103، 104).
7ـ وفي بعض الأحيان يخبر عن مجيئه واقترابه ، قال تعالى:" أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ" (النحل ، آية : 1)( ).
8ـ وفي مواضع أخرى يمدح نفسه تبارك وتعالى بإعادة الخلق بعد موتهم ويذم الآلهة التي يعبدها المشركون بعدم قدرتها على الخلق، كقوله تعالى:" أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" (النمل ، آية : 64).
9ـ وبين في مواضع أخرى أن هذا الخلق وذاك البعث الذي يعجز العباد ويذلهم سهل يسير عليه، قال تعالى:" مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ" (لقمان ، آية : 28).
وقال تعالى:" أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ" (القيامة ، آية : 3، 4)( ).

ثامناً: قياس البعث على النوم:
فالنوم أخو الموت، بل هو موتة صغرى، فالله تعالى يتوفى الأنفس بالموت وبالنوم، فالقادر على إرجاع نفس النائم له بعض قبضها، قادر على إرجاع نفس الميت له بعد قبضها، قال تعالى: " اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (الزمر، آية : 42).
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده ثم يقول: اللهم باسمك أموت وأحيا، وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور( )، وعن جابر بن عبد الله قيل: يا رسول الله أنام أهل الجنة؟ قال: لا النوم أخو الموت والجنة لا موت فيها( ).

تاسعاً: الفطرة تدل على البعث: فالله تعالى فطر الأنبياء على الإحساس بوجود عالم آخر بعد الموت، وهذا من أقوى الأدلة على وجود اليوم الآخر، لأن الله تعالى إذا أراد أن يقنع بني الإنسان بأمر ما فإنه يغرس فكرة الاقتناع به في فطرهم، ولذا فإن الإنسان يشتاق إلى حياة خالدة ولو في عالم غير هذا العالم، وهذا الإحساس شائع في نفوس البشر بحيث لا يمكن النظر إليه باستخفاف، ولذلك جاءت الأديان السماوية مبشرة بحياة أخرى بعد الموت وجعلت مصير كل إنسان مرتهناً بما قدمت يداه في الدنيا، وهذا مما يكسب زيادة إيمان بربه وبما جاءت به الرسل، فيقدم الأعمال الصالحة استعداداً بها ليوم الميعاد( ).

عاشراً: أسماء يوم القيامة:
وقد جاء الحديث عن يوم القيامة في القرآن الكريم مفصلاً، وسمي بأسماء كثيرة وهذا يدل على تعظيم الشيء، كما هي العادة عند العرب، فقد كانوا إذا عظموا شيئاً أكثروا له من الأسماء، ومن الأسماء، ومن الأسماء التي ذكرت في القرآن ليوم القيامة، اليوم الآخر، ويوم الآزفة، ويوم البعث، ويوم التغابن، ويوم التلاقي، ويوم التنادي، ويوم الجمع، والحاقة، ويوم الحساب. ويوم الحسرة واليوم الحق، ويوم الخروج، ويوم الدين والساعة الصاخة، والطامة الكبرى، والغاشية، والفزع الأكبر ويوم الفصل والقارعة، والمعاد، واليوم الموعود والواقعة، والوعد الحق، ويوم الوعيد، والوقت المعلوم( ).
واما عن صفات يوم القيامة، فقد وصف بأنه عظيم، ويوم عقيم، ويوم عسير، ويوم ثقيل، ويوم كبير، ويوم محيط( ).

المبحث الثاني: الحشر وأهوال يوم القيامة وأحوال الناس:
أولاً: الحشر: جمع الخلائق يوم القيام لحسابهم والقضاء بينهم.
* ـ قال تعالى: "أَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" ( الأنعام ، آية: 51 ) .
* ـ وقال تعالى:"وَيَوْمَ نحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ" ( يونس ، آية : 45 ) .
* ـ وقال تعالى:"وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا" ( الكهف ، آية : 47 ) .
* ـ وقال تعالى:"يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ" ( ق ، آية : 44 ).
* ـ وقال تعالى:" وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ" ( الأنعام ، آية : 38 ) .
 * ـ وقال تعالى:" وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ" ( التكوير ، آية : 5 ) .
1ـ مكان الحشر( أرض الحشر): دل الكتاب والسنة أن أرض المحشر هي أرض الشام، قال تعالى:" هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ
لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ" (الحشر، آية : 2 ) ، وعن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى اللله عليه وسلم كان يقول: إنكم تحشرون إلى بيت المقدس ثم تجتمعون يوم القيامة( ).
2ـ صفة الناس في الحشر:
أ ـ يحشر الناس حفاة عراة غرلاً:
حفاة غير متنعلين، عراة غير لابسين، غرلاً غير مختونين فكما أن الإنسان يولد حاف عار أغرل فكذلك يبعث.
ــ وعن ابن العباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنكم محشورون حفاة عراة غرلاً، ثم قرأ:" يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ" ( الأنبياء ، آية : 104 ) وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم، وإن أناساً من أصحابي، فيقول: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فأقول كما قال العبد الصالح:" مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ *إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" ( المائدة ، آية : 117 ـ 118 )( ).
ــ  وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يبعث الناس يوم القيامة حفاة عراة، غرلاً. فقالت عائشة: فكيف بالعورات؟ قال: لكل امرئ يومئذ شأن يغنيه( ).
ب ـ الوجوه:
قال تعالى:" وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا" ( طه ، آية : 111 ) أي ذلت وخضعت( ).
ج ـ الأبصار:
ــ قال تعالى:" خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ" ( القمر ، آية : 7 ) .
ــ وفال تعالى:" فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ" (القيامة ، آية : 7 ) أي اضطربت وجالت العين من الخوف( ).
ــ وقال تعالى:" قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ" ( النازعات ، آية : 8 ) أي مضطربة سريعة الخفقان( ).
س ـ أحوال الناس عموماً: يعرضون صفا أمام الله تعالى:" وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا" ( الكهف ، آية : 48 ) .
*ــ لايتكلمون " يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا" طه ، آية : 108 ).
وقال تعالى:" هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ* وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ" ( المرسلات ، آية : 35 ـ 36 ).
*ــ وأحياناً يتكلمون قال تعالى:" يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ" ( القيامة ، آية : 10 ) يدل على أنهم يتكلمون، فكيف يتكلمون ولا يتكلمون؟
وهذا بحسب إختلاف الأوضاع، فيوم القيامة طويل، وفي موقف يتكلمون وفي موقف يصمتون.
والله يقول: " يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا" (النبأ، آية : 38). فإثبات الكلام من الخلق يوم القيامة تبع لإذن الله لهم، ونفيه في الحالة التي لم يؤذن فيها( ).
ش ـ ذهول الناس وخوفهم وهلعهم: قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ" (الحج، آية : 1 ـ 2) فإن كانت الأم المرضعة وهي أحرص ما يكون على ولدها تذهل عنه، فغيرها من باب أولى، وإن كان الطفل الصغير الذي لم يذنب بعدُ يخاف حتى يشيب عارضاه فما بالك بغيره من الناس( ).
ع ـ تُنسى الأنساب، فكل إنسان مشغول بنفسه لأنه يأتي وحيداً قال تعالى: " فَإِذَا نُفِخَ
فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ" (المؤمنون، آية : 101).
ـ قال تعالى: " إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا {94} وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا" (مريم، آية : 93 ـ 95).
ـ وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ" (لقمان، آية : 33).
غ ـ يجثون على الركب: " وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (الجاثية، آية : 28).
ك ـ يعرضون على الله لا يخفى منهم شيء: قال تعالى: " يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ" (الحاقة، آية : 18).
وغير ذلك من أحوال الناس( ).

ثانياً: أهوال يوم القيامة: يحدثنا القرآن عن أهوال ذلك اليوم التي تَشْدَه الناس، وتشدُّ أبصارهم، وتملك عليهم نفوسهم، وتزلزل قلوبهم، ومن أعظم تلك الأهوال ذلك الدمار الكوني الشامل الرهيب الذي يصيب الأرض وجبالها، والسماء ونجومها وشمسها وقمرها( )، ومن أهوال ذلك اليوم:
1 ـ دك الأرض ونسف الجبال: قال تعالى: " فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ" (الحاقة، آية : 13 ـ 16).
وقال تعالى: " كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا" (الفجر، آية : 21)، وعند ذلك تتحول هذه الجبال الصلبة القاسية إلى رمل ناعم.
كما قال تعالى: " يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا" (المزمل، آية : 14)، أي تصبح ككثبان الرمل بعد أن كانت حجارة صماء، والرمل المهيل: هو الذي إذا أخذت منه شيئاً تبعك ما بعده، يقال: أهلت الرمل أهيله هيلاً، إذا حركت أسفله حتى إنهال من أعلاه وأخبر في موضع آخر أن الجبال تصبح العهن، والعهن هو الصوف، كما قال تعالى: " وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ" (المعارج، آية : 9)، وفي نص آخر مثلها بالصوف المنفوش: " وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ" (القارعة، آية : 5).
ثم إن الحق تبارك وتعالى يزيل هذه الجبال عن مواضعها، ويسوي الأرض حتى لا يكون فيها موضع مرتفع ولا منخفض، وعبر القرآن عن إزالة الجبال بتسييرها مرة، وبنفسها أخرى قال تعالى: " وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ " (التكوير، آية : 3)، " وَسُيِّرَتِ
الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا" (النبأ ، آية : 20).
وقال في نسفه لها: " وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ" (المرسلات، آية : 10). ثم بين الحق حال الأ{ض بعد تسيير الجبال ونسفها قال تعالى: " وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً" (الكهف، آية : 47)، إي ظاهرة لا ارتفاع فيها ولا انخفاض( )، كما قال تعالى: " وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا" (طه، آية : 105 ـ 107).
2 ـ قبض الأرض وطي السماء: قال تعالى: " وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ" (الزمر، آية : 67).
ـ وقال تعالى: " يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ" (الأنبياء، آية : 104).
قال صلى الله عليه وسلم: يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟( ) ومعنى الكلام يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب أي على الكتاب بمعنى المكتوب( ).
وقوله: " كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ" (الأنبياء، آية : 104)، يعني هذا كائن لا محالة يوم يعيد الله الخلائق خلقاً جديداً كما بدأهم هو القادر على إعادتهم( ).
3 ـ تفجير البحار وتسجيرها:
قال تعالى: " وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ" (الانفطار، آية : 3)، فجرت: فجر الله بعضها في بعض، وقيل: ذهب ماؤها، وقيل: اختلط عذبها بمالحها.
وقــال تعــالى: " وَالْبَحْــرِ الْمَسْجُورِ" (الطـــور، آية : 6)، وقـال تعـالى: "وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ" (التكوير، آية : 6: أوقدت ، فصارت ناراً تضطرم، وقيـل يبسـت( ).
والمعنى المتحصل من أقوالهم رحمهم الله أنها يفجر بعضها في بعض فتمتلئ ثم تسجر فتصبح ناراً ثم يذهب ماؤها( ).
4ـ موران السماء وانفطارها: قال تعالى:" فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ" (الرحمن ، آية : 37). فهي في أشد ما تكون من الوهن، وقال تعالى:" وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ" (الحاقة ، آية : 16). وذلك أنها تضطرب اضطراباً مهولاً، وقال تعالى:" يَوْمَ تَمُور السَّمَاء مَوْرًا" (الطور ، آية : 9).تتحرك تحريكاً، هو تشققها تدور دوراً وقيل استدارتها وتحركها لأمر الله وموج بعضها في بعض، ثم إنها تتشقق وتنفطر وتنفرج، قال تعالى:" إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ" (الإنشقاق، آية : 1، 2). وقال تعالى:" فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا" (المزمل ، آية : 17، 18).
وقال تعالى:" إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ" (الانفطار ، آية : 1).
وقال تعالى:" وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ" (المرسلات ، آية : 9).
وقال تعالى:" فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ" (الرحمن ، آية : 37). يعني الدهان، فشبه السماء في تلونها بالدهن في اختلاف ألوانه وهو كقوله تعالى:" يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ" (المعارج ، آية : 8). وهو دردي الزيت( ).
5ـ تكوير الشمس وخسف القمر وتناثر النجوم: قال تعالى:" إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ" (التكوير ، آية : 1، 2). قال ابن جرير: والصواب عندنا من القول في ذلك أن التكوير جمع الشيء بعضه على بعض ومنه تكوير العمامة، وجمع الثياب بعضها على بعض، فمعنى قوله تعالى (كورت) جمع بعضها إلى بعض ثم لفت فرمى بها، وإذا فعل بها ذلك ذهب ضوؤها( ).
وقال تعالى:" وَخَسَفَ الْقَمَر*  وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ" (القيامة ، آية : 8، 9). خسف: أظلم وذهب نوره وضوؤه( ).
وقوله تعالى:" وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ" (التكوير ، آية : 9). فسّره النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الشمس والقمر مكوران يوم القيامة، يعني مجموعان مظلمان( ).
والنجوم والكواكب ينفرط عقدها فتنتثر ويذهب ضوءها فتطمس، قال تعالى:" وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ" (التكوير ، آية : 2). يعني انتثرت( )، وانفرط عقدها وتساقطت على أهل الأرض وهو كقوله تعالى:" وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ" (الانفطار ، آية : 2). وقال تعالى:" فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ" (المرسلات ، آية : 8). يعني ذهب ضوؤها( ).
6ـ تبديل الارض: تبدل هذه الأرض وتتغير صفاتها ويكون عليها الحشر الأول ثم تذهب هذه الأرض تماماً يوم يحشر الناس لمكان الحساب أمام الجسر، قال تعالى:" يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ" (إبراهيم ، آية : 48). وجاء في الصحيحين عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه السلام: يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء( ) كقرصة النقي( )، ليس فيه معلم لأحد( )، ثم بعد ذلك تنتقل الخلائق إلى أرض الحساب، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل:" يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ"، فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله؟ فقال: على الصراط( )، وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت قائماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليكم يا محمد، فدفعته دفعة كاد يصرع منها فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول يا رسول الله؟ فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اسمي محمد الذي سمني به أهلي، فقال اليهودي: جئت أسألك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينفعك شيء إن حدثتك؟ قال: أسمع بأذني، فنكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه فقال: (سل) فقال اليهودي: اين يكون الناس " يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ" ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم في الظلمة دون الجسر...( )
وبهذا يتضح أن تبديل الصفات في الحشر الأول إلى أرض المحشر عندما تنسف الجبال والمرتفعات وتسوى الأرض، فلا يبقى في تلك الارض معلم لأحد، وأما ذهاب الارض بالكلية ففي الحشر الثاني إلى ارض الحساب قبل جسر جهنم، والله تعالى أعلم( ).
7ـ سجود الخلائق لله سبحانه عند إتيانه للفصل بين العالمين ونزول الملائكة: بعد بعث الناس من قبورهم وحشرهم لأرض المحشر وحصول أهوال يوم القيامة وتبديل هذه الأرض وحشر الناس لأرض الحساب عند الجسر تنزل الملائكة صفوفاً، قال تعالى:" وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا" (الفرقان ، آية : 25).
وقال تعالى:" يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا * ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا" (النبأ، آية: 38، 39)
والمقصود بالروح جبريل عليه السلام.
ــ وقال تعالى:" هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" (النحل ، آية : 33).
ومن هذه الملائكة هنالك ثمانية أملاك تحمل عرش الرحمن سبحانه وتعالى:" وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ" (الحاقة ، آية : 17).
ويأتي رب العزة للفصل بين العباد" وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا" (الفجر، آية: 22). أي والحال أن الملائكة صفوفاً( ).
ــ وقال سبحانه:" هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الامُورُ" (البقرة ، آية : 21).
ــ وقال تعالى:" وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ" (الأنعام ، آية : 30).
وعندئذ تشرق الأرض بنور ربها ويؤتى بصحف الأعمال وبالشهود ويبدأ الحساب( )، قال تعالى:" وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ" (الزمر ، آية : 69، 70).

ثالثاً: أحوال الكفار يوم القيامة:
تختلف أحوال الناس في ذلك اليوم اختلافاً بيناً وسنتحدث بإذن الله تعالى عن الكفار وغيرهم، فالذي يتأمل في نصوص الكتاب والسنة التي تحدثنا عن مشاهد القيامة يرى الأهوال العظام والمصائب الكبار التي تنزل بالكفرة المجرمين في ذلك اليوم العظيم فمن تلك الأحوال:
1ـ ذلتهم وهوانهم وحسرتهم ويأسهم: فمن هذه الآيات:
ــ قوله تعالى:" وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (يونس ، آية : 27).
ــ قوله تعالى:" وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءتْكَ  آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ" (الزمر ، آية : 55، 59).
ــ وقال تعالى:" وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ" (المعارج ، آية : 10، 14).
2ـ إسوداد وجوههم وتغيرها( ):
ــ قال تعالى:" يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ" (آل عمران ، آية : 106).
ــ وقال تعالى:" وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ" (الزمر ، آية : 60).
3ـ إحباط أعمال الكفار( ):
ــ قال تعالى:" وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ" (النور، آية : 39).
ــ وقال تعالى:" وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا" (الفرقان ، آية : 23).
ــ وقال تعالى:" مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ" (إبراهيم ، آية : 18).
4ـ فضيحتهم أمام الخلائق:

ــ قال تعالى:" وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أُوْلَـئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ" (هود ، آية : 18).
5ـ تخاصم الكفرة في الموقف:
ــ قال تعالى:" الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ" (الزخرف ، آية : 67).
أ ـ تخاصم العابدين والمعبودين: في ذلك اليوم الرهيب يجمع الله المشركين ثم يأمرهم أن ينادوا شركاءهم فينكروا أن يكون لهم شركاء( ).
ــ قال تعالى:" وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ * وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ" (فصلت ، آية : 47، 48).
ــ قال تعالى:" وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا * فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا" (الفرقان ، آية : 17، 19).
ب ـ تخاصم الأتباع مع القادة المضلين:
ــ قال تعالى:" وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ" (الصافات ، آية : 27، 32).
ج ـ تخاصم الضعفاء مع السادة والملوك:
ــ قال تعالى:" وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ" (إبراهيم ، آية : 21).
د ـ تخاصم الكافر وقرينه:
ــ قال تعالى:" قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ" (ق ، آية : 27، 28).
" قَالَ قَرِينُهُ" هو الشيطان الذي وكل به " رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ" أي يقول عن الإنسان الذي قد وافى القيامة كافراً يتبرأ منه شيطانه فيقول:" رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ"، أي بل كان هو في نفسه ضالاً قابلاً للباطل معانداً للحق( )، فإذا سمع الكافر هذا من قرينه تحسر وتندم، قال تعالى:" وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ" (الزخرف ، آية : 36، 38)( ).
هـ ـ تخاصم المرء مع أعضاءه:
ويبلغ الأمر أشده والمخاصمة ذروتها عندما يخاصم المرء أعضاءه:
قال تعالى:" وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ" (فصلت ، آية : 19، 22).
6ـ مقتهم لأنفسهم: والمقت أشد البغض، فتصل كراهيتهم لأنفسهم في ذلك اليوم لأقصاها، قال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ" (غافر، آية : 10).
7ـ صفة حشر الكفار إلى النار
أ ـ حشرهم وهم عطاش:
ــ قال تعالى:" وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا" (مريم ، آية : 86). يعني عطاشاً تكاد تنقطع رقابهم من العطش، وفي قوله " وَنَسُوقُ" إشعار بإهانتهم كأنهم نَعَمٌ عطاش تساق إلى الماء( ).
ب ـ حشرهم عمياً صماً بكماً:
ــ قال تعالى:" وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا" (الإسراء ، آية : 97).
ــ قال تعالى:" وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا" (طه ، آية : 124، 125).
ج ـ يحشرون إلى جهنم على وجوههم:
ــ قال تعالى:" الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا" (الفرقان ، آية : 34).
س ـ حشرهم مع شياطينهم وهم جاثون على الركب:
ــ قال تعالى:" فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا" (مريم ، آية : 68).
قال القرطبي: اي ولنحشرن الشياطين قرناءهم، قيل: يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة، كما قال تعالى:" احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ" (الصافات ، آية : 22). والواو في "والشياطين" يجوز أن تكون للعطف، وبمعنى مع، وهي بمعنى مع أوقع، والمعنى أنهم يحشرون مع قرناءهم من الشياطين الذين أغووهم، يقرنون كل كافر مع شيطان في سلسلة( ).
وهذا الجثي مصاحب لهم في كل حال، ففي الموقف يوم يحشر الناس إلى أرض الحساب تجثو كل الأمم، قال تعالى:" وَلَلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ*  وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (الجاثية ، آية : 27، 28).
وفي النار كذلك، قال تعالى:" وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا" (مريم ، آية : 71، 72).

رابعاً: أحوال عصاة الموحدين:
وهم المؤمنون الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فأتوا بشعائر الإسلام وأركانه ولكنهم وقعوا ببعض المعاصي، وقد ذكر الله تعالى عذاب أولئك العصاة وجاء ذكر بعضهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا المطلب فيه مسائل:
1ـ الذين لا يؤدون الزكاة: الزكاة من فروض الإسلام الكبرى وهي حق المال، فمن لم يؤد زكاته عُذب بها في ذلك اليوم العظيم وقد أخبرت النصوص أن عذابهم على وجهين:
أ ـ يمثل لصاحب المال ماله ثعبان أقرع له زبيبتان فيطوق عنقه ويأخذ بلهزمتي صاحبه. قال تعالى:" وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ" (آل عمران ، آية : 180). وهذا الطوق عبارة عن ثعبان في رقابهم كما فسرها بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال: من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثل له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزميته ـ يعني شدقيه ـ ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك ثم تلا" وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ"( ).
ب ـ إن كان الممتنع عن تأدية زكاته ذهباً أو فضة فإنها تصفح صفائح ثم تكوى بها جباههم وظهورهم وجنوبهم، فيحيط به الألم من كل مكان.
قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ" (التوبة ، آية : 34، 35). وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمى عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى جنة وإما إلى النار( ).
2ـ ذنوب لا يكلم الله اصحابها ولا يزكيهم: وقد رتب الله تعالى على كثير من الذنوب هذا العقاب فمنها:
أ ـ قال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ" (البقرة، آية : 174، 175). فمن كتم ـ من علماء هذه الأمة ـ شيئاً من العلم إرضاء لحاكم أو تحقيقاً لمصلحة شخصية أو طلباً لعرض دنيوي، كان مشابهاً لأحبار ورهبان اليهود والنصارى في كتمهم صفات الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان جزاؤهم هذا الجزاء، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سئل عن علم علمه ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار( ).
ب ـ قال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (آل عمران ، آية : 77).وهي ليست خاصة باليهود، كما توهم بعضهم، ويدل على ذلك أحاديث كثيرة( )، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل كان له فضل ماء بالطريق فمنعه ابن السبيل، ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا لدينا، فإن أعطاه منها رضي، وإن لم يعطاه منها سخط، ورجل أقام سلعته بعد العصر، فقال: والله الذي لا إله غيره لقد أعطيت بها كذا وكذا، فصدقه رجل، ثم قرأ هذه الآية" إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً"( ).
3ـ الغلول: هو الأخذ من الغنيمة على وجه الخفية دون علم أحد، وهو ذنب يخفي تحته شيء من الطمع والأشرة، وقد توعد الله تبارك وتعالى الغال بالفضيحة يوم القيامة على رؤوس الأشهاد( ):
قال تعالى:" وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ" (آل عمران ، آية : 161). أي يأتي به حاملاً على ظهره ورقبته، معذباً بحمله وثقله ومرعوباً بصوته، وموبخاً بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد وقد فسر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الإتيان للغلول يوم القيامة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره قال: لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء على رقبته فرس له حمحمة، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً وقد أبلغتك، وعل رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك شيئاً وقد أبلغتك، وعلى رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، أو على رقبته تخفق رقاع تخفق فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك( ).
4ـ المتكبرون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يحشر المتكبرون أمثال الذر يوم القيامة، وفي صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان( ).
والذر صغار النمل، وصغار النمل لا يعبأ به الناس، فيطؤونه بأرجلهم وهم لا يشعرون وكما يبغض الله المتكبرين ببغض أسماءهم التي كانوا يطلقونها على أنفسهم استكباراً واستعلاءً، وتصبح هذه الاسماء التي كانوا يفرحون عند سماعها أنكر الاسماء وأخبثها، وأغيظها على الله( ).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخنع اسم عند الله يوم القيامة، رجل تسمى ملك الأملاك. وزاد مسلم في رواية: لا مالك إلا الله عز وجل( ).
قال القاضي عياض:أخنع: معناه أشدُّ الأسماء صغاراً. وقال ابن بطال: وإذا كان الاسم أذل الأسماء، كان من تسمى به أشدُّ ذلاً( ).
5ـ الأثرياء المنعمون: الذين يركنون إلى الدنيا، ويطمئنون إليها، ويكثرون من التمتع بنعيمها، يفيق عليهم يوم القيامة وأن أصحاب المال الكثير والمتاع الدنيوي الواسع يكونون أقل الناس أجراً يوم القيامة، ما لم يكونوا بذلوا أموالهم في سبل الخيرات( )، قال صلى الله عليه وسلم: "إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من أعطاه الله خيراً، فنفح فيه بيمينه وشماله، وبين يديه ومن ورائه، وعمل فيه خيراً"( ).
6 ـ فضيحة الغادر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع بكل غادر لواء، فقيل: هذه غدرة فلان بن فلان( ). وقال صلى الله عليه وسلم: "لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره، إلا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة( )، وأمير العامة هو الحاكم أو الخليفة، وكانت غدرته كذلك لأن ضرره يتعدى إلى خلق كثير، ولأن الحاكم أو الوالي يملك القوة والسلطان فلا حاجة به إلى الغدر( ).
والغادر: الذي يواعد على أمر لا يفي به، وااللواء: الراية العظيمة لا يمسكها إلا صاحب جيش الحق، أو صاحب دعوة الجيش، ويكون الناس تبعاً له، فالغادر ترفع له راية تسجل عليها غدرته، فيفضح بذلك يوم القيامة، وتجعل هذه الراية عند مؤخرته( ).
7 ـ غاصب الأرض: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أخذ من الأرض شيئاً بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين"( ).
8 ـ ذو الوجهين: شر الناس يوم القيامة المتلون الذي لا يثبت على حال واحدة وموقف واحد، يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه( )، قال صلى الله عليه وسلم: "تجدون شر الناس يوم القيامة ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه( ).
9 ـ الحاكم الذي يحتجب عن رعيته: قال صلى الله عليه وسلم: "من ولي من أمور المسلمين شيئاً، فاحتجب دون خلتهم، وحاجنهم، وفقرهم، وفاقتهم، احتجب الله عنه يوم القيامة دون خلته، وحاجته، وفاقته، وفقره( ).
10 ـ الذي يسأل وله ما يغنيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل وله ما يغنيه، جاء مسألته يوم القيامة خدوشاً أو خموشاً أو كدوحاً في وجهه( ).
11 ـ من كذب في حلمه: قال صلى الله عليه وسلم: "من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، أو يفرون منه، صب في أذنه الآنك يوم القيامة( ).

خامساً: حال الأتقياء:
1 ـ لا يخافون ولا يحزنون ولا يفزعون: إذا فزع الناس يوم الفزع الأكبر:
ـ قال تعالى: " وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" (الزمر، آية : 61).
ـ وقال الله تعالى لهم تطميناً لقلوبهم: " يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ" (الزخرف، آية : 68 ـ 69).
ـ وقال تبارك وتعالى: "أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" (يونس ، آية : 62 ـ 64).
أما البشرى في الحياة الدنيا فتطلق على أمرين: على تبشير الملائكة للمحتضر بالجنة ـ وتقدم دليل هذا ـ وتطلق على الرؤيا الصالحة( )، فقد قال صلى الله عليه وسلم: لم يبق من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة( ).
وأما البشرى في الآخرة فهي تَلقِّى الملائكة لهم التثبيت قلوبهم وتأمينهم من الفزع الأكبر، قال تعالى:" لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ" (الأنبياء ، آية : 103).
قال تعالى:" مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ" (النمل ، آية : 89).
2ـ بياض وجوههم: قال تعالى:" وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (آل عمران ، آية : 107).
ــ قال تعالى:" وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ" (عبسى ، آية : 38، 39).
مسفرة: قيل مشرقة، وقيل: مضيئة، وقيل: مستنيرة وكلها متقاربة في المعنى، والاشتقاق اللغوي يدل على ذلك( ).
3ـ الذين يظلهم الله في ظله: قال صلى الله عليه وسلم: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته إمرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه( ).
والإظلال في ظل العرش ليس مقصوراً على السبعة المذكورين في الحديث فقد جاءت نصوص كثيرة تدل على أن الله يظل غيرهم وقد جمع ابن حجر العسقلاني الخصال التي يظل الله أصحابها في كتاب سماه: معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال( ).
ومن هذه الخصال إنظار المعسر أو الوضع عنه، قال صلى الله عليه وسلم: من أنظر معسراً أو وضع عنه، أظله الله في ظله( ).
وقال صلى الله عليه وسلم: من نفس عن غريمه أو محا عنه، كان في ظل العرش يوم القيامة( ).
4ـ الذين يسعون في حاجة إخوانهم ويسدون خلتهم: من أعظم ما يفرج كربات العبد في يوم القيامة سعي العبد في الدنيا في فلك كربات المكروبين، ومساعدة المحتاجين والتيسير على المعسرين( )، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر عن معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه( ).
5ـ الذين ييسرون على المعسرين: قال النبي صلى الله عليه وسلم: كان رجل يداين الناس، فكان يقول لفتاه إذا أتيت معسراً تجاوز عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، قال: فلقي الله فتجاوز عنه( ).
6ـ الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولّوا: العادلون في يوم القيامة في مقام رفيع، يجلسون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، قال رسول الله: إن المقسطين عند الله على منابر، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يدي يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا( ).
7ـ الشهداء والمرابطون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتي وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقربائه( ).
وقال رسو الله صلى الله عليه وسلم: "رباط يوم خير من صيام دهر، ومن مات مرابطاً في سبيل الله أمن من الفزع الأكبر( ).
8ـ الكاظمون الغيظ: قال تعالى: "وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (آل عمران، آية : 133 ـ 134).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كظم غيظاً، وهو يقدر أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره في أي الحور العين شاء( ).
9 ـ عتق الرقاب المسلمة:  قال تعالى: " فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا  الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ" (البلد، آية : 11 ـ 13).
فمن الأعمال الكريمة التي يتمكن صاحبها من اقتحام العقبات ألكأ داء في يوم القيامة، عتق الرقاب( ).
10 ـ فضل المؤذنين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة( )، وطول العنق جمال، ثم هو مناسب لما قاموا به من عمل حيث كانوا يبلغون الناس بأصواتهم كلمات الأذان التي تعلن التوحيد وتدعو للصلاة( ).
11ـ الذين يشيبون في الإسلام: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة( ).
12ـ فضل الوضوء: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أمتي يُدعون يوم القيامة غرّا محجلين من آثار الوضوء( ).
غرّاً جمع أغر، أي ذو غرّة، وأصل الغرّة لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس، ثم استعملت في الجمال والشهرة وطيب الذكر، والمراد بها النور الكائن في وجوه أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقوله (محجلين) من التحجيل، وهو بياض يكون في ثلاث قوائم من قوائم الفرس، وأصله من الحجل بكسر الحاء وهو الخلخل، والمراد به هنا أيضاً النور( )، وهذه الغرة وذلك التحجيل تكون للمؤمن حلية في يوم القيامة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء( ). وبهذه الحلية يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أمته بين الخلائق لا فرق بين أصحابه وغيرهم( ).
 

المبحث الثالث: الشفاعة:
الشفاعة: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة( ).
أولاً: الأدلة القرآنية والنبوية في ثبوت الشفاعة:
1ـ قال تعالى:" مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ" (البقرة ، آية : 255).
2ـ وقال تعالى:" مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ" (يونس ، آية : 3).
3ـ وقال تعالى:" وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى" (الأنبياء ، آية : 28).
4ـ وقال تعالى:" يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ
قَوْلًا" (طه ، آية : 109).
5ـ وقال تعالى:" وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ" (النجم ، آية : 26).
6ـ وقال تعالى:" وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" (الزخرف ، آية : 86).
وفي قوله تعالى:" وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ" أي الأصنام والأوثان "الشفاعة" أي لا يقدرون على الشفاعة لهم. " إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" هذا استثناء منقطع أي: لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له، فهذه الآيات تدل على الشفاعة المثبتة بشروطها( ).
وأما الآيات الدالة على نفي الشفاعة عن غير أهلها وهم كفار فمنها:
1ـ قال تعالى:" لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ" (الأنعام ، آية : 51).
2ـ قال تعالى:" مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ" (غافر ، آية : 18).
والمراد بالظالمين هنا، الكافرون، ويشهد لذلك مفتتح الآية إذ هي في ذكر الكافرين( ).
3ـ قال تعالى:" قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا" (الزمر ، آية : 44).
وقد ورد ذكر الشفاعة كثيراً في الأحاديث النبوية الشريفة في كتب السنة الصحاح منها:( )
1ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكل نبي دعوة قد دعا بها فاستجيب، فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة( ).
2ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي ـ وذكر منها ـ وأعطيت الشفاعة( ).
3ـ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ... وأول شافع وأول مشفَّع( ).

ثانياً: أقسام الشفاعة في الآخرة:
تنقسم الشفاعة في الآخرة إلى:
1ـ الشفاعة الصحية: هي ما جمعت شروط الشفاعة الثلاثة:
ــ رضي الله عن الشافع.
ــ رضاه عن المشفوع له، لكن الشفاعة العظمى في الموقف عامة لجميع الناس من رضي الله عنهم ومن لم يرضى عنهم.
ــ إذنه في الشفاعة.
ودليل ذلك قوله تعالى:" وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى" (النجم ، آية : 26).
2ـ الشفاعة الباطلة: هي ما يتعلق به المشركون في أصنامهم حيث يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاء لهم عند الله كما قال تعالى:" وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ" (يونس ، آية : 18). ولكن هذه الشفاعة بالله لا تنفع كما قال تعال:" فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ" (المدثر ، آية : 48).
ــ ومن الآيات الدالة على بطلان شفاعة المشركين قوله تعالى:" أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُو  لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ" (الزمر ، آية : 43).
ــ وقوله تعالى:" قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" (الزمر آية : 44).

ثالثاً: شروط الشفاعة: ثلاثة وهي ظاهرة في كتاب الله عز وجل لمن تأملها وهي كالتالي:
1ـ رضي الله عن الشافع:
ــ قال تعالى:" يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا" (طه ، آية : 109).
2ـ رضى الله عن المشفوع له:
ــ قال تعالى:" يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ" (الأنبياء ، آية : 28).
3ـ إذن الله بالشفاعة:
ــ قال تعالى:" اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَالْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ" (البقرة ، آية : 255). هذا وقد جمع الله تعالى هذه الشروط الثلاثة في قوله تعالى:" وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى" (النجم ، آية : 26). فقوله:" إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ" هذا شرط الأذن.
وقوله" وَيَرْضَى"، فلم يذكر متعلق الفعل (يرضى) فهل يرضى عن الشافع أم عن المشفوع؟ والقاعدة تقول: حذف المتعلق يفيد العموم( ).
إذن فالآية تدل على المعنيين، فتشمل الرضى عن الشافع وعن المشفوع، وهو المطلوب( ).
وقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه القضية في حديث أنس في الصحيحين فقال:فأستأذن على ربي، فإذا رأيته وقعت له ساجداً، فيدعني ما شاء الله، ثم يقول لي: ارفع رأسك، وسل تعطه، وقل يسمع، وأشفع تشفع، فأرفع رأسي، فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي، ثم أشفع فيحد لي حداً، ثم اخرجهم من النار وأدخلهم الجنة ثم أعود( ).

رابعاً: أنواع الشفاعة:
إن للنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة شفاعات متعددة منها:
1ـ الشفاعة العظمى: وهذه الشفاعة من أعظم الشفاعات وهي المقام المحمود الذي قال الله تعالى فيه:" عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا" (الإسراء ، آية : 79).
وذلك حين يتوسل الناس يوم القيامة إلى آدم، ثم نوح ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، عليهم الصلاة والسلام حتى ينتهي الأمر إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، أشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه لأحد قبلي، ثم يقال: يا محمد أرفع رأسك سل تعطه، أشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وبصرى( ).
يعني أن من لا حساب عليه من أمة محمد يدخل الجنة مباشرة ولا يمر بما يمر به الناس من أهمال، ثم بعد هذه الشفاعة يبدأ الحساب وهذه الشفاعة خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم( ).
2ـ اختصاصه صلى الله عليه وسلم باستفتاح باب الجنة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الأنبياء تبعاً( ).
ــ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آتي باب الجنة يوم القيامة فأستشفع، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك ( ).
وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته صلى الله عليه وسلم فقد قال: نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة( ).
3ـ الشفاعة في رفع درجات أقوام من أهل الجنة: فوق ما يقتضيه ثواب أعمالهم وقد جاء في ذلك بعض الأحاديث، ودليل هذا النوع ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى رضي الله عنه في استشهاد أبي عامر رضي الله عنه وفيه: يا بن أخي، انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرئه مني السلام وقل له يقول لك أبو عامر: أستغفر لي، قال: واستعملني أبو عامر على الناس ومكث يسيراً ثم إنه مات، فلما رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم دخلت عليه وهو في بيت على سرير مرمل، وعليه فراش، وقد أثر رمال السرير بظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجنبيه فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر وقلت له: قال: قل له: يستغفر لي فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فتوضأ منه ثم رفع يديه، ثم قال: اللهم أغفر لعبدك أبي عامر حتى رأيت بياض إبطيه، ثم قال: اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك أو من الناس. فقلت: ولي يا رسول الله فأستغفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريماً( ).
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره، فأغمضه ثم قال: إن الروح إذا قبض تبعه البصر فضج ناس من أهله فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون، ثم قال: اللهم اغفر لأبي سلمة وأرفع درجته في المهديين، وأخلفه في عقبه في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره ونوّر له فيه( ).
4ـ الشفاعة في بعض الكفار من أهل النار حتى يخفف عنهم وهذه الشفاعة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب ويستدل لهذا النوع بحديث في الصحيحين عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم، هو في ضحضاح( ) من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار( ).
وهذه شفاعة تخفيف لا شفاعة إخراج من النار وإن كان أهون أهل النار عذاباً كما في حديث ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أهون أهل النار عذاباً أبو طالب وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه( ).
5ـ الشفاعة في أهل الكبائر: شفاعته في أهل الكبائر من أمته، ممن دخل النار، فيخرجون منها، وقد تواترت بهذا النوع الأحاديث، وهذه الشفاعة تشاركه فيها الملائكة والنبيون والمؤمنون أيضاً وهذه الشفاعة تتكرر منه صلى الله عليه وسلم أربع مرات( ) ومن أحاديث هذا النوع، حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي( ).
6ـ الشفاعة في أقوام يدخلون الجنة بغير حساب: ويحسن أن يستشهد لهذا النوع بحديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب، قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: هم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون. فقال عكاشة بن محصن رضي الله عنه: أدعُ الله أن يجعلني منهم. قال: أنت منهم، قال: فقام رجل فقال: يا نبي الله، أدع الله أن يجعلني منهم، قال: سبقك بها عكاشة( ).
7ـ شفاعة الرسول في أقوام تساوت حسناتهم وسيئاتهم: فيشفع فيهم ليدخلوا الجنة وفي آخرين قد أمر بهم إلى النار أن لا يدخلوها( ).

خامساً: الشفعاء غير النبي صلى الله عليه وسلم:
1ـ الملائكة:
قال تعالى:" وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى" (النجم ، آية : 26). وفيه دلالة أنه إذا أذن الله تعالى له فإنه يشفع( ).
وقال تعالى:" وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ" (الأنبياء ، آية : 28).
2ـ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمؤمنون الصالحون: وهذا النوع قد ثبت بالحديث الطويل لأبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ... ثم يقول الله: شفعت الملائكة وشفع الأنبياء وشفع المؤمنون وبقي أرحم الراحمين( ).
3ـ الشهداء: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته( ).
4ـ أولاد المؤمنين: عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يموت له ثلاث من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الجنة بفضل رحمته( ).
ــ وقال صلى الله عليه وسلم: لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا له جنة من النار، فقالت إمرأة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أو أثنان قال: أو أثنان( ).
5ـ القرآن الكريم: عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان( )، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة( ): أي السحرة.
وقال صلى الله عليه وسلم: إن سورة من القرآن ثلاثون آية تشفع لصاحبها حتى يغفر له: تبارك الذي بيده الملك( ).

سادساً: الأسباب الجالبة للشفاعة:
تعددت الأحاديث الواردة في ذكر أسباب الشفاعة منها:
1ـ التوحيد وإخلاص العبادة لله: ــ جاء في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله من قلبه أو نفسه( ).
ــ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً( ).
2ـ الصيام: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان( ).
3ـ الدعاء بما ورد عند الأذان: قال صلى الله عليه وسلم: من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وأبعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة( ).
4ـ سكنى المدينة والصبر على لأوائها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يصبر أحد على لأوائها( ) فيموت بها إلا كانت له شفيعاً أوشهيداً يوم القيامة إذا كان مسلماً( ).
5ـ الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى علي حين يصبح عشراً، وحين يمسي عشراً، أدركته شفاعتي يوم القيامة( ).
6ـ صلاة جماعة من المسلمين على الميت المسلم: قال صلى الله عليه وسلم: ما من ميت تصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه( ).
ــ وقال صلى الله عليه وسلم: ما من رجل يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه( ).
7ـ كثرة السجود: عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: سل: فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود( ).
 

المبحث الرابع: الحساب والميزان والحوض والصراط:
ذكر الله سبحانه وتعالى مشهد الحساب والجزاء فقال تعالى:" وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ" (الزمر ، آية : 69).
والمراد بالحساب هو أن يقف العباد بين يدي الله تبارك وتعالى، وأن يعرّفوا بما عملوا، وأن تحضر أقوالهم، ما صدر منهم في الحياة الدنيا من إيمان وكفر، وطاعة ومعصية، وما يستحقونه من ثواب وعذاب، ثم ما كان يتسلمونه من كتب بإيمانهم إن كانوا مؤمنين صالحين، أو بشمالهم إن كانوا طالحين( ).
أولاً: إيتاء العباد كتبهم:
ــ قال تعالى:" فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا" (الإنشقاق، آية : 7، 8). فذكر إيتاءهم الكتب أولاً ثم عقب بحرف الفاء الذي يقتضي الترتيب والتعقيب، فذكر الحساب( ). ويخرج لكل إنسان كتاب مفتوح فيقرأه وإن كان أمياً، لإقامة الحجة عليه.
ــ قل تعالى:" وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا*  مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً" (الإسراء ، آية : 13، 15).
وهذا الكتاب يأخذه المؤمن بيمينه من أمامه، وأما الكافر فيأخذه بشماله من خلف ظهره.
ــ قال تعالى:" فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ" (الحاقة ، آية : 19، 32).
ــ وقال تعالى:" فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا" (الانشقاق ، آية : 7، 12).
ــ وقال تعالى:"  يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً" (الإسراء ، آية : 71).
ــ وقال تعالى:" وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا" (الكهف ، آية : 49).
ــ وقال تعالى:" وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ" (القمر، آية : 52، 53).
والذين يكتبون هم الملائكة الذين وكّلهم الله مع كل إنسان يسجلون عليه كل شيء، قال تعالى:" وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ" (الانشقاق ، آية : 7، 8).
ــ قال تعالى:" إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ" (يس ، آية : 12).

ثانياً: سؤال كل الناس عن أعمالهم:
ذكر الله تعالى في آيات كثيرة أن الكفار يسألون، كقوله تعالى: " فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ" (الحجر، آية : 92).
ــ وقوله تعالى:" وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ" (الصافات ، آية : 24، 25).
ــ وقال تعالى:" وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ" (العنكبوت ، آية : 12، 13).
ــ وقال تعالى:" وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ*  وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ" (النمل ، آية : 83، 84).
ــ وقال تعالى:"وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ" (القصص ، آية : 103، 105).
وأما الآيات التي تدل على أن الكفار لا يسئلون كقوله تعالى:" وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ" (القصص ، آية : 78). وقوله:"فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ" (الرحمن ، آية : 39).
وقوله تعالى:"هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ" (المرسلات ، آية : 35). ونحو ذلك من النصوص.
فقال العلماء: أنهم يسألون يوم القيامة في موطن دون موطن، فالقيامة مواطن، فموطن يكون فيه سؤال وكلام وموطن لا يكون ذلك( ).
وقالوا: أن الكفار لا يسألون سؤال شفاء وراحة، وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ، لم عملتم كذا وكذا( ) وأنهم لا يسألون سؤال استفهام، لأنه تعالى عالم بكل أعمالهم وإنما يسألون سؤال تقرير، فيقال لهم، لم فعلتم كذا( ).
وقال القرطبي: إن معنى قوله تعالى:" وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ" سؤال التعرف لتمييز المؤمنين من الكافرين، أي إن الملائكة لا تحتاج أن تسأل أحداً يوم القيامة أن يقال: ما دينك؟ وما كنت تضع في الدنيا؟ حتى يتبين لهم بإخباره عن نفسه أنه كان مؤمناً أو كان كافراً، لكن المؤمنون يكونون ناضري الوجوه مشرحي الصدور، ويكون المشركون سود الوجوه زرقاً مكروبين فهم إذا كلفوا سوق المجرمين إلى النار، وتميزهم في الموقف كفتهم مناظرهم عن تعرف أديانهم( ).
ومن حكمة الله تعالى في محاسبتهم ووزن أعمالهم مع أن أعمالهم حابطة مردودة أمور منها:
1ـ إقامة الحجة عليهم وإظهار عدل الله فيهم: قال تعالى:" وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ" (الأنبياء ، آية : 47).
2ـ أن الله يحاسبهم لتوبيخهم وتقريعهم: قال تعالى:" وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ" (الأنعام ، آية : 30).
ــ قال تعالى:" وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِين * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ" (الأعراف ، آية : 91، 92).
3ـ أن الكفار مكلفون بأصول الشريعة كما هم مكلفون بفروعها: لأن الله تعالى قال:" وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ" (فصلت ، آية : 6، 7). فتوعدهم على منعهم الزكاة وأخبر عن المجرمين أنهم يقال لهم:" مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّي*  وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ" (المدثر ، آية : 42، 46). فبان بهذا أن المشركين مخاطبون بالإيمان والبعث وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأنهم مسؤولون عنها، مجزيون بها( ).
4ـ أن الكفار يتفاوتون في كفرهم وذنوبهم ومعاصيهم: ويحلون في النار بمقدار هذه الذنوب، فالنار دركات بعضها تحت بعض( ).
قال تعالى:" إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ" (النساء ، آية : 145).

ثالثاً: الأمور التي يسأل عنها العبد يوم القيامة:
العبد يسأل يوم القيامة عن كل شيء فعله، كما قال تعالى:" وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (النحل ، آية : 93).
ــ وقال تعالى:" فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (الحجر ، آية : 92، 93). ولكن هناك بعض الأعمال نص الله تعالى على أن يسأل عنها ليزداد الخوف منها وهي كالتالي:
1ـ الكفر والشرك: قال تعالى:" وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ" (النحل ، آية : 56).
2ـ كذبهم في حق الملائكة: قال تعالى:" وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ" (الزخرف ، آية : 19).
3ـ النعيم الذي أنعم عليه في الدنيا: قال تعالى:" ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ" (التكاثر ، آية : 8).
4ـ العهود والمواثيق: قال تعالى:" وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً" (الإسراء، آية : 34).
5ـ العلم والسمع والبصر والفؤاد: قال تعالى:" وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً" (الإسراء ، آية : 36).
6ـ إضلال المضلين للناس: قال تعالى:" وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ" (العنكبوت ، آية : 13).
7ـ الدين ونصرته والقرآن والعمل به: قال تعالى:" فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ" (الزخرف ، آية : 43، 44).
8ـ يسأل العبد عن صلاته: قال صلى الله عليه وسلم: إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح وإن فسدت فقد خاب وخسر، وإن انتقص من فريضة قال الرب: أنظر هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على ذلك( .
9ـ سيسأل كل عبد عن أشياء: قال صلى الله عليه وسلم: لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وماذا عمل فيما علم( ).

رابعاً: القواعد التي يحاسب العباد على أساسها:
من هذه القواعد التي ذكرت في القرآن الكريم:
1ـ عدل الله التام: قال تعالى:" وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ" (الأنبياء ، آية : 47).
ــ وقال تعالى:" فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (يس، آية : 54).
ــ وقال تعالى:" يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ" (لقمان ، آية : 16).
ــ قال تعالى:" وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً" (النساء ، آية : 77).
ــ وقال تعالى:" وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا" (النساء ، آية : 124).
ــ قال تعالى:" إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ" (النساء ، آية : 40).
2ـ لا يتحمل أحد ذنب أحد: قال تعالى:" وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ" (الأنعام ، آية : 164).
ــ وقال تعالى:" أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى" (النجم ، آية : 36، 41).
3ـ اطلاع العباد على ما قدموه من أعمال: قال تعالى:" يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ" (آل عمران ، آية : 30).
ــ وقال تعالى:" وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا" (الكهف ، آية : 17).
4ـ مضاعفة الحسنات دون السيئات: قال تعالى:"  إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ" (التغابن ، آية : 17).
ــ وقال تعالى:" مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ" (الأنعام ، آية : 160). وأما السيئة فلا تجزى إلا مثلها، قال تعالى:" وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا" (الأنعام ، آية : 160).
ــ قال تعالى:" مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (البقرة ، آية : 261). هذا فضل ضربه الله لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف( ).
ومن فضل الله تبارك وتعالى أن المؤمن الذي يهم بفعل الحسنة ولكنه لا يفعلها تكتب له حسنة تامة، والذي يهم بفعل السيئة ثم تدركه مخافة الله، فيتركها تكتب له حسنة كاملة( )، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل، قال:"إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن همّ بحسنة فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هو همّ بها فعملها كتبها الله له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، إلى اضعاف كثيرة، ومن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همّ بها فعملها، كتبها الله له سيئة واحدة( ).
5ـ تبديل السيئات حسنات: قال تعالى:" إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا" (الفرقان ، آية : 70).
وهذا من رحمة الله وفضله على المؤمنين أن يبدل سيئاتهم حسنات.

خامساً: إقامة الشهود على الناس:
الله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى من يخبره عن عباده أو يشهد عليهم بما فعلوه، إلا أنه سبحانه من كمال عدله وإعذاراً للعالمين أقام عليهم الشهود ونوّع تلك الشهود وكثّرها حتى تنقطع الحجج وتخرس الأفواه وتقر الجموع بعدل الله المطلق( )، وهؤلاء الشهود كثر كما قال تعالى:" وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أُوْلَـئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ" (هود ، آية : 18).
ــ قال تعالى:" إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ" (غافر ، آية : 51).
ــ قال تعالى:" وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ" (الزمر ، آية : 69).
ومما ذكر في القرآن الكريم من إقامة الشهود على الناس الآتي:
1ـ شهود الملائكة: قال تعالى:" وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ" (ق ، آية: 21). أي ملك يسوقه إلى المحشر وملك يشهد عليه بأعماله( ).
ــ قال تعالى:" وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ" (الانفطار ، آية : 10، 12).
فهؤلاء الملائكة الكرام الكاتبون هم الذين يشهدون ويدل عليه الحديث التالي "عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال: هل تدرون مم أضحك؟ قال: قلنا الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم، قال: يقول بلى، قال فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً وبالكرام الكاتبين شهوداً، قال: فيختم على فيه فيقال لأركانه انطقي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام، قال: فيقول: بُعداً لكنّ وسحقاً فعنكن كنت أناضل( ).
2ـ شهود الرسل عليهم: فيشهد كل رسول على أمته وأنه قد بلغهم وبين لهم وأزال عنهم الشبه لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل.
ــ قال تعالى:" وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ" (يونس ، آية : 47). يعني إذا جاء الرسول يوم القيامة قضى بينهم وسماه الله تعالى شهيداً كما في قوله تعالى:" وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ" (النحل ، آية : 84).
ــ وقال تعالى:" وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ" (القصص ، آية : 75).
3ـ وتشهد أمة محمد على الخلق: بعد أن تشهد الرسل على أقوالهم، لا تجد هذه الأمم مهرباً إلا بتكذيب رسلها، فيقومون وينكرون ما جاءت به الرسل، ويكذبونهم ـ كما كانوا يكذبونهم في الدنيا ـ ويقولون ما جاءنا من نبي، فتقوم أمة محمد ـ الأمة الوسط ـ فتشهد للرسل:
ــ قال تعالى:" وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ" (الحج ، آية : 78).
ــ وقال تعالى:" وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" (البقرة ، آية : 143). ، عن أبي سعيد قال:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يجيء نوح وأمته فيقول الله تعالى: هل بلغت؟ فيقول: نعم أي رب، فيقول لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: لا ما جاءنا من نبي، فيقول لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فنشهد أنه قد بلغ، وهو قوله جلّ ذكره" وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ" والوسط العدل( ).
4ـ شهود نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: قال تعالى:" وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ" (الحج ، آية : 78).
ــ وقال تعالى:" وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" (النحل ، آية : 89).
5ـ شهود جوراح الإنسان من الألسن والأيدي على نفسه: قال تعالى:" يَوْمَ تَشْهَدُ  عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النور ، آية : 24).
ــ وقال تعالى:" الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" (يس ، آية : 65).
ــ وقال تعالى:" وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ" (فصلت ، آية: 19، 22).
6ـ وتشهد الأرض: قال تعالى:" يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا" (الزلزلة ، آية : 4، 5).
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم" يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا" (الزلزلة ، آية : 4) قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، أن تقول: عمل كذا وكذا، يوم كذا وكذا، قال: فهذه أخبارها( ).
7ـ أعظم شهيد وأجلّ شهيد: قال تعالى:" لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ  وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا" (الأحزاب ، آية : 55).
ــ وقال تعالى:" وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ" (يونس ، آية : 61).
فبعد أن يشهد الأحياء والجمادات وتنتهي هذه الشهادات تأتي شهادة الله العزيز الحميد جلّ جلاله وتقدست اسماؤه( ).
8ـ شهودهم على أنفسهم: إذا رأى العبد الحق وتبين له أن الله لا تخفى عليه خافية ورأى كل ما عمله مكتوباً في صحيفته وقامت عليه الشهود ورأى أنه لا برهان له ولا حجة، أقر وأعترف بما جنى وأقترف( ).
قال تعالى:" يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ" (الأنعام ، آية : 130).

سادساً: اقتصاص المظالم بين الخلق:
في ذلك اليوم يُقتص للناس بعضهم من بعض، فالحساب شامل لظلم العبد نفسه، وظلمه لغيره من الناس، وما أعظم خيبة الذي وقع في ظلم الناس، لأن القصاص يومئذ لا يكون بالمال ولا السجن ولا غير ذلك، بل يكون بالحسنات والسيئات( )، قال تعالى:" وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا" (طه ، آية : 111).
ــ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه قدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه"( ).
ــ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار( ).
ومن كمال عدل الله تعالى في ذلك اليوم أنه يقتص للبهائم بعضها من بعض( )، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وحشر الخلائق: الأنس والجن والدواب والوحوش، فإذا كان ذلك اليوم جعل القصاص بين الدواب حتى تقتص الشاة الجماء من القرناء بنطحها فإذا فرغ الله من القصاص بين الدواب، قال لها: كوني تراباً، فتكون تراباً، فيراها الكافر فيقول:" يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا" (النبأ ، آية : 40)( ).
1ـ عظم شأن الدماء: من أعظم الأمور عند الله أن يسفك العباد بعضهم دم بعض في غير الطريق الذي شرعه الله تبارك( ) وتعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يجيء الرجل آخذاً بيد الرجل، فيقول: يا رب، هذا قتلني، فيقول: لم قتلته؟ فيقول: قتلته لتكون العزة لك، فيقول: فإنها لي، ويجيء الرجل آخذاً بيد الرجل فيقول: أي رب، إن هذا قتلني، فيقول الله: لم قتلته؟ فيقول: لتكون العزة لفلان، فيقول: إنها ليست لفلان، فيبوء بإثمه"( ).
ــ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة، ناصيته ورأسه بيده، وأوداجه تشخب دماء فيقول: يا رب، سل هذا فيم قتلني؟ حتى يدنيه من العرش"( ).
2ـ أول ما يقضى بين العباد في الدماء: ولعظم أمر الدماء فإنها تكون أول شيء يقضى فيه بين العباد، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء"( ).

سابعاً: الحوض:
قال تعالى:" إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ* إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ" (الكوثر ، آية : 1، 3).
عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى( ) إغفاءة، ثم رفع رأسه مبتسماً، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت عليّ آنفاً سورة فقرأ"بسم الله الرحمن الرحيم. إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ* إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ" ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ فقلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، عليه خير كثير عليه حوض تَرِد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم فُيختلج( ) العبد منهم فأقول: رب إنه من أمتي، فيقول: ما تدري ما أحدثت بعدك( ). فقوله (عليه حوض) يدل على أن الحوض يتفرع من النهر، ويدل الحديث ـ أيضاً ـ أن الحوض موجود في عرصات يوم القيامة قبل دخول الجنة، لقوله: فيختلج العبد منهم ... وهذا لا يكون في الجنة، لأنهم في الجنة لا يمنعون من شيء يشتهونه( ). وقد جاءت الأحاديث النبوية في بيان حوض النبي صلى الله عليه وسلم الذي أكرمه الله عز وجل به وهو في عرصات القيامة، وهو غير الكوثر، بل الكوثر يكون مدداً له والذي يتخلص في صفته أنه حوض عظيم، ومورد كريم، يمد من شراب الجنة من نهر الكوثر، وماؤه أشد بياضاً من اللبن والورق، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، وأطيب ريحاً من المسك، وهو في غاية الاتساع، عرضه وطوله سواء، كل زاوية من زواياه مسيرة شهر، وكيزانه عدد نجوم السماء، ترد عليه أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فرطهم عليه من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً( )، ولقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة اللذين يردون على حوضه واللذين يُذادون عنه، فيمنعون من الشرب منه، فمن تلك الأحاديث:
1ـ عن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن حوضي لأبعد من أيْلَة( ) من عدن( )، والذي نفسي بيده إني لأذود عنه الرجال كما يذود الرجل الإبل الغريبة عن حوضه، قالوا: يا رسول الله وتعرفنا؟ قال: نعم، تردون عليّ غراً محجلين من آثار الوضوء، ليست لأحد غيركم"( ).
2ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" بينما أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم، فقلت: إلى أين؟ قال: إلى النار والله قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم إرتدوا بعدك على أدبارهم القهقري فلا أرى يخلص منهم إلا همل النعم"( ).
3ـ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني فرطكم على الحوض من مر عليّ شرب، ومن لم يشرب لم يظمأ أبداً، ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي"( ).
وقال النووي في شرح بعض روايات الحديث عند قوله صلى الله عليه وسلم: هل تدري ما أحدثوا بعدك، المراد به على أقوال:
أ ـ إن المراد به المنافقون والمرتدون، فيجوز أن يحشروا بالغرة والتحجيل، فيناديهم النبي صلى الله عليه وسلم للسيمة التي عليهم، فيقال: ليس هؤلاء مما وعدت بهم، إن هؤلاء بدلوا بعدك، أي لم يموتوا على ما ظهر من إسلامهم.
ب ـ إن المراد من كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتد بعده فيناديهم النبي صلى الله عليه وسلم إن لم يكن عليهم سيمة الوضوء لما كان يعرفه صلى الله عليه وسلم في حياته من إسلامهم، فيقال: ارتدوا بعدك.
ج ـ إن المراد به أصحاب المعاصي والكبائر الذين ماتوا على التوحيد، وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام، وعلى هذا لا يقطع بهؤلاء الذين يذادون بالنار يجوز أن يذادوا عقوبة لهم، ثم يرحمهم سبحانه وتعالى فيدخلهم الجنة بغير عذاب( )، ونقل هذه الأقوال، أو قريباً منها، القرطبي وابن حجر رحمهما الله تعالى( ).
ولا يمتنع أن يكون أولئك المذادون عن الحوض هم من مجموع تلك الأصناف المذكورة، فإن الروايات محتملة لكل هذا، ففي بعضها يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فأقول أصحابي) أو (أصيحابي) ـ بالتصغير ـ وفي بعضها يقول:( سيؤخذ أناس من دوني) فأقول: يا ربي مني ومن أمتي، وفي بعضها يقول( ليردن عليّ أقوال أعرفهم ويعرفونني( )) وظاهر ذلك أن المذادين ليسوا طائفة واحدة، وهذا هو الذي تقتضيه الحكمة، فإن العقوبات في الشرع تكون بحسب الذنوب فيجتمع في العقوبة الواحدة كل من استوجبها من أصحاب ذلك الذنب( ).
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن سبب الذود عن الحوض هو الارتداد كما في قوله:" إنهم ارتدوا على أدبارهم" أو الإحداث في الدين كما في قوله:" إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك"( )، فمقتضى ذلك هو أن يذاد عن الحوض كل مرتد عن الدين سواء أكان ممن ارتد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم من الأعراب، أو من كان بعد ذلك، يشاركهم في هذا أهل الإحداث وهم المبتدعة، وهذا ما ذهب إليه بعض أهل العلم وكذلك الظلمة المسرفون في الجور وطمس الحق، والمعلنون بالكبائر وكل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا ممن عنوا بهذا الخبر والله أعلم( ).
فالذود عن الحوض إنما هو بسبب الردة أو الإحداث في الدين والصحابة من أبعد الناس عن ذلك، بل هم أعداء المرتدين الذين قاتلوهم وحاربوهم في أصعب الظروف وأحرجها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فقد تصدى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء المرتدين وقاتلوهم قتالاً عظيماً وناجزوهم حتى أظهرهم الله عليهم، فعاد للدين من أهل الردة من عاد، وقتل منهم من قتل، وعاد للإسلام عزه وقوته وهيبته على أيدي الصحابة رضي الله عنهم، وكذلك أهل البدع كان الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ أشد الناس إنكاراً عليهم، لهذا لم تشتد البدع وتقوى إلا بعد انقضاء عصرهم، ولما ظهرت بعض بوادر البدع في عصرهم أنكروها وتبرؤوا منها ومن أهلها( )، وهذه المواقف العظيمة للصحابة من أهل الردة وأهل البدع، من أكبر الشواهد الظاهرة على صدق تدينهم وقوة إيمانهم وحسن بلائهم في الدين، وجهادهم أعداءه بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقام الله بهم السنة وقمع البدع، الأمر الذي يظهر به كذب من رماهم بالردة والإحداث في الدين والذود عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم، بل هم أولى الناس بحوض نبيهم لحسن صحبتهم له في حياته وقيامهم بأمر الدين بعد وفاته ولا يشكل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ليردن عليّ ناس من أصحاب الحوض حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني( )، فهؤلاء هم من مات النبي صلى الله عليه وسلم وهم على دينه ثم ارتدوا بعد ذلك، كما ارتدت كثير من قيائل العرب بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء في علم النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه، لأنه مات وهم على دينه، ثم ارتدوا بعد وفاته، ولذا يقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على ادبارهم القهقري( )، فظاهر أن هذا في حق المرتدين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وأين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين قاموا بأمر الدين بعد نبيهم خير قيام، فقاتلوا المرتدين وجاهدوا الكفار والمنافقين، وفتحوا بذلك الأمصار، حتى عم دين الله كثيراً من الأمصار، من أولئك المنقلبين على أدبارهم، وهؤلاء المرتدون لا يدخلون في الصحابة، ولا يشملهم مصطلح الصحبة إذا ما أطلق، فالصحابي كما عرفه العلماء المحققون: من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام( ).
فاللهم أرزقنا شربة هنيئة مريئة من حوض النبي صلى الله عليه وسلم لا نظمأ بعدها أبداً.

ثامناً: الميزان:
قال تعالى:" وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ" (الأنبياء ، آية : 47).
قال العلماء: وإذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها( ).
وقد ذكر لفظ الوزن والميزان في القرآن الكريم في ثلاث وعشرين آية، منها خمس عشرة آية خاصة بالبحث على إقامة العدل في ميزان الدنيا، والحذر من التطفيف في الكيل والميزان.. المستوجب لعذاب الله، ومنها ثماني آيات خاصة بالوزن في الآخرة( ).
وقد دلت السنة المطهرة على أن الميزان ميزان حقيقي، لا يقدر قدره إلا الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسعت، فتقول الملائكة: يا رب لمن يزن هذا؟ فيقول الله تعالى: لمن شئت من خلقي، فتقول الملائكة: من تجيز على هذا؟ فيقول: من شئت من خلقي، فيقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك( ).
1ـ دقة الميزان: قال تعالى:" وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ" (الأنبياء ، آية: 47).
يخبر تعالى في هذه الآية عن القضاء العادل يوم القيامة بأنه يوازن بين أعمال العباد موازنة دقيقة فيحاسب كلا على أعماله، ووصف الله تعالى الموازين بالقسط، لأن الميزان قد يكون مستقيماً وقد يكون بخلافة، فبين أن تلك الموازين تجري على حد العدل والقسط، وأكد ذلك بقوله:" فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا".
وقد صور القرآن الكريم دقة الموازنة بصورة حسية من مألوف الناس، قال تعالى:"وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ" (الأعراف ، آية: 8، 9).
كما صور الحديث النبوي ذلك الميزان الدقيق العادل بصورة حسية قال صلى الله عليه وسلم: توضع الموازين يوم القيامة فيؤتى بالرجل فيوضع في كفّة، فيوضع ما أحصى عليه، فتمايل به الميزان، قال: فيبعث به إلى النار، قال: فإذا أُدبر به، إذا صائح يصيح من عند الرحمن يقول: لا تعجلوا لا تعجلوا، فإنه قد بقي له، فيؤتى ببطاقة فيها، لا إله إلا الله، فتوضع مع الرجل في كفة، حتى يميل به الميزان( ).
2ـ المؤمنون هم المفلحون: ذكر الله سبحانه في القرآن الكريم أن من ثقلت موازينه بأن رجحت من موازين أعماله بالإيمان وكثرة الحسنات، فأولئك هم الفائزون بالجنة الناجحون من العذاب، فالمؤمنون على تفاوت درجاتهم في الأعمال هم المفلحون، وإن عذبوا على بعض ذنوبهم بمقدارها( ).
وفي ذلك يقول الله في آيات كثيرة منها:
ـ قال تعالى: "فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ" (المؤمنون، آية : 101 ـ 104).
ـ قال تعالى: " فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ" (القارعة، آية : 6 ـ 7).
3 ـ الأعمال التي تثقل في الميزان:
إن كل أعمال البر والطاعة تثقل في الميزان، وتجعل كفة الحسنات راجحة على كفة السيئات، ولكن هناك أشياء تجعل كفة الحسنات ثقيلة جداً، منها( ):
أ ـ حسن الخلق: قال صلى الله عليه وسلم: "ما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله يبغض الفاحش البذيء"( ).
ب ـ تسبيح الله وتحميده: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان وثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: "سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم"( ).
جـ ـ الحمد لله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان والحمد لله تملآن ـ أو تملأ ـ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو: فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها( ).
ففي قوله: وسبحان الله والحمد لله تملآن ـ أو تملأ ـ ما بين السماوات والأرض: سبب عظيم فضلها ما اشتملت عليه من التنزيه لله تعالى والافتقار إليه( ).
س ـ احتباس الخيل في سبيل الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده، كان شبعه وريّه وروثه وبوله حسنات في ميزانه يوم القيامة( ).

تاسعاً: الصراط:
قال تعالى:" وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا" (مريم ، آية : 71، 72).
والمراد بالمرور في الآية المرور على الصراط وهو جسر منصوب على جهنم، فيقع فيها أهلها وينجو الآخرون( ).
وعن جابر عن أم مبشر، عن حفصة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم:" إني لأرجو ألا يدخل النار أحد إن شاء الله تعالى ممن شهد بدراً والحديبية، قالت: قلت يا رسول الله أليس قد قال الله تعالى:" وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا" قال: ألم تسمعيه يقول:" ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا" (مريم ، آية : 72)( ).
وقال تعالى:" يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" (الحديد، آية : 12، 15).
لقد كرّم الله تعالى المؤمنين يومئذ تكريماً عظيماً، إذ يمرون على الصراط بسرعات مختلفة وأنوار متفاوتة، أما المنافقون فلا نور لهم( ).
وقال تعالى:" يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (التحريم، آية : 8).
وفي قوله تعالى:" يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ" على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، منهم من  نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم، وأدناهم نوراً من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ مرة( ).
1ـ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في حديثه الطويل في سياق الشفاعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه:" ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة، ويقولون: اللهم سلم سلم( )، قيل يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: دحض( ) مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسك، تكون بنجد بها شويكة يقال لها السعدان، فيمر المؤمنون كطرف العين كالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكدوس في نار جهنم، حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنون لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقاً كثيراً قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه، ثم يقولون: ربنا ما بقى فيها أحد ممن أمرتنا به"( ).
2ـ الأمانة والرحم على جنبتي الصراط: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وتُرسل الأمانة والرحم، فتقومان على جنبتي الصراط يميناً وشمالاً، فيمر أولكم كالبرق، قال: قلت: بأبي وأمي، أي شيء كالبرق، قال: ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين؟ ثم كمرّ الريح، ثم كمرّ الطير وشدّ الرحال، تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب، سلم سلم، حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفاً، قال: وعلى حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج، ومكدوس في النار( ).
ويا له من موقف يشيب لهوله الولدان.
ها هي الأمانة على الصراط لتقول لكل خائن يمر عليها: أين الأمانة التي ضيعتها؟ .. أين أمانة الطاعة،؟ .. أين أمانة الزوجة والأولاد؟ أين أمانة الأموال التي سرقتها؟ أين أمانة الشهادة لهذا الدين؟ أين الأمانات التي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها وحملتها أنت الإنسان، بل ها هي الرحم تتعلق على الصراط لتقول لكل من قطعها: أين صلة الرحم التي قطعتها في الدنيا؟ وماذا ستصنع اليوم أمام تلك الأهوال( )؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذبك من القطيعة، قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى قال: فذلك لك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقرءوا إن شئتم:" فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ" (محمد ، آية :22، 23)( ).
وقال صلى الله عليه وسلم:" ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من قطيعة الرحم، والخيانة والكذب وإن أعجل الطاعة ثواباً لصلة الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونوا فجرة، فتنموا أموالهم، ويكثر عددهم، إذا تواصلوا( ).
3ـ تهذيب المؤمنين وتنقيتهم قبل دخولهم الجنة: بعد أن يجتاز المؤمنون الصراط يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار، ثم يهذبون وينقّون، وذلك بأن يقتص لبعضهم من بعض إذا كانت بينهم مظالم في الحياة الدنيا، حتى إذا دخلوا الجنة كانوا أطهاراً أبراراً، ليس لأحد عند الآخر مظلمة ولا يطلب بعضهم بعضاً بشئء من غل وبغض، قال تعالى:" وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ" (الأعراف ، آية : 43).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيُقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذّبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزلة في الجنة منه بمنزلة كان في الدنيا"( ).
ثم الناس بعد تجاوز قناطر الصراط على نوعين: نوع تساوت حسناتهم وسيئاتهم فهؤلاء أهل الأعراف وهو سور بين النار والجنة( )، قال تعالى:" وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ  وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ" (الأعراف ، آية : 46). ونوع رجحت حسناتهم سيئاتهم هم أهل الجنة.
إن الصراط جسر ممدود على متن جهنم، أحد من السيف وأدق من الشعر، يمر عليه جميع الخلائق، وهم جوازه متفاوتون( ).
4ـ عظة المرور على الصراط: تفكر الآن فيما يحل بك من الفزع بفؤادك إذا رأيت الصراط ودقته، ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته، ثم قرع سمعك شهيق النار وتغيظها، وقد كلفت أن تمشي على الصراط، مع ضعف حالك واضطراب قلبك، وتزلزل قدمك، وثقل ظهرك بالأوزار، المانعة لك من المشي على بساط الأرض، فضلاً عن حدة الصراط، فكيف بك إذا وضعت عليه إحدى رجليك؟ فأحسست بحدته، واضطررت إلى أن ترفع قدمك الثاني، والخلائق بين يديك يزلون، ويعثرون، وتتناولهم زبانية النار بالخطاطيف والكلاليب وأنت تنظر إليهم كيف ينكسون إلى جهة النار رؤوسهم وتعلو أرجلهم، فيا له من منظر ما أفظعه، ومرتقى ما أصعبه ومجاز ما أضيقه( ).
قال الشاعر:
        أبت نفسي تتوب فما احتيالي
                   
                    إذا برز العباد لذي الجلالي

        وقاموا من قبورهم سكارى

                    بأوزار كأمثال الجبال

        وقد نصب الصراط لكي يجوزوا

                    فمنهم من يكب على الشمال

        ومنهم من يسير لدار عدن

                    تلقاه العرائس بالغوالي

        يقول له المهيمن يا وليي

                    غفرت لك الذنوب فلا تبالي( )
 

الفصل الرابع
النار والجنة

المبحث الأول: مقدمات:
أولاً: خلود الجنة والنار:
الجنة والنار خالدتان أبداً والأدلة على ذلك كثيرة وهي تدل على خلود أهل الجنة والنار وهذا يستلزم خلود الجنة والنار ولازم الحق حق.
1ـ أما الجنة: فقد دل على خلودها الكتاب والسنة:
ــ قال تعالى:" وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ" (هود ، آية : 108). يعني غير مقطوع.
ــ وقال تعالى:" لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ" (الحجر ، آية: 48). فقد نفى الله تعالى عنهم الخروج منها والموت فيها تأكيداً لمعنى أبدية الخلود.
ــ وقال تعالى:" وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً" (النساء ، آية : 57).
ــ وقال تعالى:" وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً" (النساء ، آية : 122)( ).
وأما في السنة، فمنها قوله صلى الله عليه وسلم:" ينادي مناد ـ يعني أهل الجنة ـ أن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وأن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وأن لكم أن تشبوا لا تهرموا أبداً، وأن لكم أن تنعموا ولا تبأسوا أبداً، فذلك قوله عز وجل:" وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ"( ).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادي مناد: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه فيذبح، ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ:" وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ" وهؤلاء في غفلة أهل الدنيا " وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ"( ).
2ـ وأما خلود النار: قال تعالى:" إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ" (الزخرف ، آية : 74، 75).
ــ وقال تعالى:" إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ" (الأنبياء ، آية : 98، 99).
ــ وقال تعالى:" بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة ، آية : 81).
وأما السنة فحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً، ومن تحس سمّاً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً فيها أبداً ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبدا"( ).
3ـ هل المراد بالخلود طول المكث: قد يقول القائل: إن المراد بالخلود هو طول المكث لا أبديته، والناس تسمي أبناءها خالداً تفاؤلاً بطول بقائه، وهم يوقنون أنه ميت لا محالة، وتقول العرب: فلان خلّد الله ملكه، يعني أطال الله ملكه، ولكن إلى أمد لا إلى الأبد، والرجل الذي أسن ولم يشب تقول عنه العرب مخلد( ).
والجواب: الأصل في معنى الخلود هو دوام البقاء وأبديته، قال صاحب لسان العرب: الخلد دوام البقاء في دار لا يخرج منها( )، وإنما يطلق الخلود على طول البقاء لا أبديته بقرينه، كما هو الحال في النار بالأبد لدفع هذا الوهم، وهي بالتتبع ثلاثة مواضع في كتاب الله:
ــ قال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا" (النساء ، آية : 168، 169).
ــ وقال تعالى:" إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا" (الأحزاب ، آية : 64، 65).
ــ وقال تعالى:" وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا" (الجن ، آية : 23).
وزاد هذا المعنى وضوحاً الآيات التي تنفي خروجهم من النار وتبين أن عذابهم مقيم وثابت، وأن العذاب لا يفتر عنهم وأنهم لا يموتون فيها( ).
ــ قال تعالى:" يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ" (المائدة ، آية : 37).
ــ قال تعالى:" ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ" (الجاثية ، آية : 35).
ــ قال تعالى:" إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ
فِيهِ مُبْلِسُونَ" (الزخرف ، آية : 74، 75).
ــ وقال تعالى:" وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى" (الأعلى ، آية : 11، 13).
ــ قال تعالى:" فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ" (هود ، آية : 106، 107). ففي تفسير هذه الآية أوجه:
أحدهما: أن قوله تعالى:" إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ" معناه: إلا من شاء الله عدم خلوده فيها من أهل الكبائر من الموحدين وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن بعض أهل النار يخرجون منها، وهم أهل الكبائر من الموحدين، ونقل ابن جرير هذا القول عن قتادة والضحاك، وأبي سنان، وغيرهم.
الثاني: أن المدة التي استثناها الله هي المدة التي بين بعثهم من قبورهم، واستقرارهم في مصيرهم.
الوجه الثالث: أن قوله:" إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ" فيه إجمال، وقد جاءت الآيات والأحاديث الصحيحة مصرحة بأنهم خالدون فيها أبداً، وظاهرها أنه خلود لا انقطاع له، والظهور من المرجحات، فالظاهر مقدم على المجمل كما يقرر في الأصول( ).
4ـ وهل تفنى النار؟ وهل يموت أهلها؟ وهل يخفف العذاب عن أهلها؟ أما فناء النار فقد بين سبحانه عدمه بقوله:" كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا" (الإسراء ، آية : 97). ومعلوم أن " كُلَّمَا" تقتضي التكرار بتكرار الفعل الذي بعدها.
وأما موتهم: فقد نص تعالى على عدمه بقوله:" لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ" وقوله:" لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى"، وقوله:" وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ".
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، أن الموت يجاء به يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح وإذا ذبح الموت حصل اليقين بأنه لا موت، كما قال صلى الله عليه وسلم: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت( ).
وأما إخراجهم منها: فنص تعالى على عدمه بقوله:" وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْ النّارِ"، وبقوله تعالى:" كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا"، وبقوله:" وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ".
وأما تخفيف العذاب عنهم: فنص تعالى على عدمه بقوله:" وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ
عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ".
ــ وقوله:" فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا".
ــ وقوله:" لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ".
ــ وقوله:" إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا".
ــ وقوله:" فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا".
ــ وقوله:" فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ".
ــ وقوله:" وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ".
وهذا الخلود في حق الكفار لا في حق الموحدين من المسلمين من أصحاب الكبائر، ولا غرابة في خلود الكفار الأبدي، لأن خبثهم الطبيعي دائم لا يزول فكان جزاؤهم دائماً لا يزول والدليل على أن خبثهم لا يزول قوله تعالى:" وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ" فقوله " خَيْرًا" نكرة في سياق الشرط فهي تعم، فلو كان فيهم خيراً ما، لعلمه الله.
وعذاب الكفار للإهانة والانتقام، لا للتطهير والتمحيص كما أشار له تعالى بقوله" وَلاَ يُزَكِّيهِمْ" وبقوله" وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ" والعلم عند الله تعالى( ).

ثانياً: الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان الآن:
الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان الآن لقوله تعالى:" أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ" (آل عمران، آية : 133). وفي النار" أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ" (البقرة ، آية : 24). والإعداد التهيئة وقد أتفق أهل السنة على هذا.
ومن الأدلة على أنهما موجودتان الآن الأحاديث التي يذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى الجنة والنار ورأى أهلهما، كحديث عبد الله بن عباس أنه قال: "خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فقام قياماً طويلاً... الحديث وفيه: قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئاً في مقامك هذا ثم رأيناك تكعكعت، فقال: إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقوداً ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أر كاليوم منظراً قط، ورأيت أكثر أهلها النساء، قالوا: لمَ يا رسول الله، قال: بكفرهن، قيل: يكفرن بالله، قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، ولو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم  رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط"( ).
وعن أنس قال:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة والنار"( ).

ثالثاً: مكان الجنة:
فوق السماء السابعة وتحت عرش الرحمن أما كونها فوق السماء السابعة فدل عليه القرآن الكريم، قال تعالى:" عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى" (النجم ، آية : 14، 15). وسدرة المنتهى فوق السماء السابعة كما في حديث الإسراء المشهور وفيه:" ثم عرج إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد بُعث إليه؟ قال: قد بُعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام مسنداً ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، ثم ذُهب بي سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال، قال فلما غشيها من أمر الله ما غشى تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها، فأوحى الله إليّ ما أوحى ففرض عليّ خمسين صلاة...( ). فهذا الحديث يدل أن سدرة المنتهى بعد السماء السابعة، وبما أن الجنة عندها إذن فهي فوق السماء السابعة( ).
وأما كون الجنة تحت عرش الرحمن فدل على ذلك من السنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان كان حقاً على الله أن يدخله الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها، قالوا: يا رسول الله أفلا نبشر الناس بذلك، فقال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله كل درجتين ما بينهما كما في السماء والأرض، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة( )، فأعلى درجات الجنة هي الفردوس ـ كما في الحديث ـ وفوق عرش الرحمن، إذن فالجنة تحت عرشه سبحانه( ).

رابعاً: مكان النار:
قال تعالى:" كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ" (المطففين ، آية : 7، 9). وفي حديث البراء فيقول الله عزّ وجلّ اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، سجين فعيل من السجن، وهو الضيق، كما يقال: فسيق وشريب وخمير وسكير ونحو ذلك، ولهذا أعظم الله أمره فقال:" وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ" (المطففين ، آية : 8). أي أمر عظيم وسجن مقيم وعذاب أليم، وقد فسر في الحديث بأنه في الأرض السفلى، وقال بعضهم: صخرة تحت الأرض السابعة، وقيل بئر في جهنم، وقيل غير ذلك مما لا دليل عليه، ولا قول بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم( ).
والظاهر من الآية أن سجين هو اسم للكتاب لأنه تعالى قال:" وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ". ولكن قال الحافظ ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى:" كِتَابٌ مَّرْقُومٌ". قال: ليس تفسيراً لقوله:" وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ". وإنما هو تفسير لما كُتب لهم من المصير إلى سجين، أي مرقوم مكتوب مفروغ منه لا يزاد فيه أحد ولا ينقص منه أحد. قاله محمد بن كعب القرظي( ). وهكذا قال الراغب والقاسمي( )، وعليه فيكون قوله تعالى:" كِتَابٌ مَّرْقُومٌ" تفسير لقوله:" إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ" أي إن كتاب الفجار كتاب مرقوم ويكون قوله:" وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ". وهذه جملة معترضة بين المفسّر والمفسّر وهذه الآية ليست صريحة في مكان النار.
وقد دلت الأحاديث أن النار يؤتى بها يوم القيامة فتكون في موضع قبل مكان الجنة، لأن الصراط منصوب على جسر جهنم( )، ودل حديث عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها( ).

خامساً: أصحاب الأعراف:
قال تعالى:" وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى أَصْحَابُ  الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ" (الأعراف ، آية 46، 48). والأعراف سور بين الجنة والنار( ).
وأما أصحاب الأعراف: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فمنعتهم حسناتهم من دخول النار، وقصرت بهم سيئاتهم عن دخول الجنة، فيقفون على السور حتى يقضى بين الناس، ثم يدخلهم الجنة، برحمته نقله البيهقي في كتابه البعث والنشور عن جميع من الصحابة والتابعين( ).
وقال عبد الله بن المبارك عن أبي بكر الهزلي قال: قال سعيد بن جبير وهو يحدث عن ابن مسعود قال: يحاسب الناس يوم القيامة، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار، ثم قرأ قول الله تعالى:" فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ" الآيتين، ثم قال: الميزان يخف بمثقال حبة ويرجح، قال: ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف، فوقفوا على الصراط ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار، فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا" سلام عليكم" وإذا صرفوا أبصارهم إلى يسارهم نظروا أهل النار " لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ". تعوذوا بالله من منازلهم. قال: فأما أصحاب الحسنات فإنهم يعطون نوراً يمشون به بين أيديهم وبأيمانهم ويعطي كل عبد يومئذ نوراً، وكل أمة نوراً، فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة، فلما رأى أهل الجنة ما لقى المنافقون قالوا: "رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا"، وأما أصحاب الأعراف فإن النور كان بأيديهم فلم ينزع، فهنالك يقول الله تعالى: "لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ"، فكان الطمع دخولاً فقال ابن مسعود إن العبد إذا عمل حسنة كتب له بها عشر، وإذا عمل سيئة لم تكتب إلا واحدة، ثم يقول: هلك من غلبت آحاده عشراته( ).
وفي قوله تعالى: " يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ"، قال ابن عباس: يعرفون أهل الجنة ببياض الوجوه، وأهل النار بسواد الوجوه( ).

 

المبحث الثاني: النار:
أولاً: أسماء النار:
1 ـ النار: هي الدار التي أعدها الله.
وأسماء النار التي ذكرت من القرآن ثمانية، أولها وأشهرها النار، وأما البقية فهي كالآتي:
2 ـ سعيراً: قال تعالى: "بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا" (الفرقان، آية : 11).
وقال تعالى: "وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ" (الملك، آية : 5).
3 ـ جهنم: قال تعالى: "وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" (الملك، آية : 6).
قال تعالى: " إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا" (النبأ، آية : 21).
4 ـ لظى: قال تعالى: " كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى" (المعارج، آية : 15 ـ 18)، اللظي: اللهب الخالص، "فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى" (الليل، آية : 14 ـ 15).
التظاء النار: التهابها، وتلظيها: تلهبها، وقوله تعالى " فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى" (الليل، آية : 14)، أي تتوهج وتتوقد( ).
5 ـ سقر: قال تعالى: " سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ" (المدثر، آية : 26 ـ 30).
ـ قال تعالى: " يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ" (القمر، آية : 48)، والسقر: البعد، وسقرته الشمس:  لوحته وآلمت دماغه بحرِّها، ويوم مسمقر: شديد الحر( ).
6 ـ الهاوية: قال تعالى: " فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ*  وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ" (القارعة، آية : 9، 11). وسميت النار بالهاوية لبعد قعرها، فمن سقط يهوى فيها، ومعنى أمه هاوية: أي مستقره الهاوية( ).
7ـ الحطمة: قال تعالى:" كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ" (الهمزة، آية : 4، 9).
والحطم: الكسر في أي وجه كان، قيل: هو كسر الشيء اليابس خاصة، كالعظم ونحوه( ).
وسميت النار بذلك لأنها تحطم رأس وعظام كل من دخلها( ).
8ـ الجحيم: قال تعالى:" خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ" (الدخان، آية : 47).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أتاكم رمضان شهر مبارك فرض الله عز وجل عليكم صيامه تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم( ).
الجاحم: المكان الشديد الحر، وجَحَم النار أوقدها، ورأيت جحمة النار أي توقدها، وكل نار عظيمة في مهواة فهي جحيم، ومنه قوله تعالى:" قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ
فِي الْجَحِيمِ"، وكل نار توقد على نار جحيم، وهي نار جاحمة( )، وسميت النار بالجحيم لأنها نار عظيمة في مهواة، وهي نار توقد على نار، كما قال تعالى:" نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ" (الهمزة، آية : 6)، أي التي أوقد عليها.
هذا وقد ذهب بعضهم أن هذه الأسماء إنما هي أسماء لأبواب جهنم، قال ابن عباس في قوله تعالى:" لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ" (الحجر، آية : 44). جهنم والسعير ولظى والحطمة وسقر والجحيم والهاوية وهي أسفلهم، وقال بعضهم: إن هذه الأسماء إنما هي لدركات( ) النار، والصحيح أن هذه الأسماء للنار لا لأبوابها ولا لدركاتها، لأن الآثار التي ذكرت ضعيفة، وجميع المفسرين عند تفسيرهم للآيات السابقة إنما يذكرون أن هذه الأسماء أسماء للنار لا غير، وسياق الآيات يدل أن المراد هو النار نفسها لا أبوابها ولا دركاتها، خذ مثلاً على ذلك قوله تعالى:" بَلْ
كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا" (الفرقان، آية : 11). فبعد أن يكون المعنى: وأعتدنا لمن كذب بالساعة باباً، وكذا قوله تعالى:" كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ" ليس معناه لينبذن في باب اسمه الحطمة، وقوله تعالى:" وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ"، نص في أن هذا اسم للنار وكذا قوله تعالى:" فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ*  وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ" (القارعة، آية : 9، 11).
وقوله:" يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ" (القمر، آية : 48).
ومعاني الأسماء تقوي هذا الرأي أيضاً، فالنار كلها تلتهب وتستعر وتتلظى وتسقر، وهي كلها سوداء، لا بابها فقط ولا جزء من أجزائها، وهي هاوية بعيدة القعر ليس الباب ولا أظن أن النار ليس فيها إلا سبع دركات فقط، قال تعالى:" وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ" وأهل النار ليسوا على سبعة مستويات فقط، فمنهم من يوضع تحت رجله جمرة من النار فيغلى دماغه وهو أهون أهل النار عذاباً، ثم يتدرج العذاب حتى يصل إلى عذاب المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار( ).

ثانياً: خزنة النار:
1ـ عدد خزنة النار: قال تعالى:" وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ" (المدثر، آية : 27، 30). فعددهم تسعة عشر ملكاً، ولكن القرطبي قال: والصحيح إن شاء الله أن هؤلاء التسعة عشر هم الرؤساء والنقباء، وأما جملتهم فالعبارة تعجز عنها، كما قال الله تعالى:" وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ". وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها"( ).
2ـ أسماء خزنة النار:أما كبير خزنة النار فهو مالك عليه السلام، وجاء ذكره في الكتاب والسنة، قال تعالى:" وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ" (الزخرف، آية : 77).
" وَنَادَوْا يَا مَالِكُ" وهو خازن النار، أخرج البخاري عن صفوان بن يعلي عن أبيه رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر" وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ"، أي يقبض أرواحنا فيريحنا مما نحن فيه فإنهم كما قال تعالى:" لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا"، وقال عز وجل:" وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى"، فلما سألوا أن يموتوا أجابهم مالك" قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ".
قال ابن عباس: مكث ألف سنة ثم قال: إنكم ماكثون أي لا خروج لكم منها ولا محيد لكم عنها( ).
وقد وصف الله ـ عز وجل ـ خزنة النار بأنهم "الزبانية" وهم الذين يتولون تعذيب الكفار والعصاة في النار،كما قال سبحانه:" فَلْيَدْعُ نَادِيَ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ" (العلق، آية : 17، 18).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم، قال فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته أو لأعفرن وجهه في التراب، قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي زعم ليطأ على رقبته، قال: فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، قال: فقيل له: مالك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لو دنا مني لا ختطفته الملائكة عضواً عضواً. قال: فأنزل الله عز وجل:" كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى * أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ  بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى" يعني أبا جهل"أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى * كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لَا تُطِعْهُ"( ).
3ـ صفاتهم: وحديثنا هنا عن صفاتهم الزائدة عن الصفات العامة المشتركة للملائكة، وقد ذكر الله تعالى من صفاتهم صفتين، وهاتان الصفتان شاملتان لجميع الصفات وهما: الغلظة والشدة فهي فيهم( )، قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" (التحريم، آية : 6).
وقد ذكر الله تعالى جلّ جلاله بعض المواقف التي تبين شيئاً من غلظتهم مع أصحاب النار في ثلاث مواطن:
الموطن الأول: عند فتح أبواب جهنم لإدخالهم فيها، قال تعالى:" وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِين * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ" (الزمر، آية : 71، 72).
الموطن الثاني: عند دخولهم النار، قال تعالى:" كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ* قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ" (الملك، آية : 8، 11).
الموطن الثالث: عند سؤال أهل النار خزنة جهنم أن يشفعوا لهم عند الله في تخفيف العذاب، قال تعالى:" وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ* قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ" (غافر، آية : 49، 50).

ثالثاً: صفة النار:
1ـ أبواب النار: قال تعالى:" وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ" (الحجر، آية : 43، 44). وعندما يرد الكفار النار تفتح الأبواب ثم يدخلونها خالدين، قال تعالى:" وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِين" (الزمر، آية : 71). وبعد هذا الاقرار يقال لهم" قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ" (الزمر، آية : 72). وهذه الأبواب تغلق على المجرمين، فلا مطمع لهم في الخروج منها بعد ذلك كما قال تعالى:" وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ" (البلد، آية : 19، 20)( ).
ومؤصدة: مغلقة الأبواب( )، فأبواب النار مؤصدة مغلقة، وأسوارها ذات عمد ممدودة طويلة لا يمكن تخطيها، " إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ" (الهمزة، آية : 8، 9)( ).
2ـ دركات النار: قال تعالى:" إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ" (النساء، آية : 145).
والدرك: هو أقصى قعر الشيء( )، وقال الراغب: الدرك كالدرج، لكن الدرج يقال اعتباراً بالصعود، والدرك اعتباراً بالحدود، ولهذا قيل درجات الجنة ودركات النار( )، وقد يطلق على منازل النار درجات، كقوله تعالى:" هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ" (آل عمران، آية : 163).
وفي سورة الأنعام ذكر الله أهل الجنة والنار ثم قال:" لِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ" (الأنعام، آية : 132). وقال سبحانه:" أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ *  هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ" (آل عمران، آية : 162، 163).
وتتفاوت دركات أهل النار بحسب أعمالهم وسيئاتهم وقد بينا أن الله عز وجل ذكر أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار وكونهم في الدرك الأسفل يستلزم أنهم في أشد العذاب وليست هذه الدركة مختصة بالمنافقين فقط بل معهم غيرهم، فقد ذكر الله تعالى لنا ثلاث أصناف من الناس أنهم في أشد العذاب( ).
الأول: فرعون وقومه، قال تعالى:" النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ" (غافر، آية : 46).
الثاني: اليهود الذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضه، قال تعالى:" ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" (البقرة، آية : 85).
الثالث: الذين كفروا من أصحاب المائدة، قال تعالى:" إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ" (المائدة، آية : 112، 115).
وأما أهون أهل النار عذاباً فهو رجل ينتعل بنعلين يغلي منهما دماغه، فعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أدنى أهل النار عذاباً ينتعل بنعلين من نار يغلي دماغه من حرارة نعليه"( ).
3 ـ وقود النار: وقود النار، البشر والحجر، قال تعالى: " فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ  فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ" (البقرة، آية : 24).
وقال تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَـئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ" (آل عمران، آية : 10).
قال تعالى: "إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ" (الأنبياء، آية : 98).
وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" (التحريم، آية : 6).
4 ـ شدة حرَّها وعظم دخانها وشرارها: قال تعالى: " وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ" (الواقعة، آية : 41 ـ 44).
وقد تضمنت هذه الآية ذكر ما يتبرد به الناس في الدنيا في الكرب والحر وهو ثلاثة: الماء والهواء والظل، وذكرت الآية أن هذه لا تغني عن أهل النار شيئاً، فهواء جهنم السموم، وهو الريح الحارة الشديدة الحر، وماؤها الحميم الذي قد اشتد حرَّه، وظلها اليحموم، وهو قِطعُ دخانها( ). والظل الذي أشارت إليه الآية "وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ" (الواقعة، آية : 41) هو ظل دخان النار، والظل يشعر عادة بالنداوة والبرودة، كما أن النفس تحبه وتستريحه إليه، أما هذا الظل فإنه ليس بارد المدخل ولا بكريم المنظر، إنه ظل من يحموم، وقد حدثنا القرآن في هذا الظل الذي هو دخان جهنم الذي يعلو النار، فقال: "انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ * لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ" (المرسلات، آية 30 ـ 33)، فالآية تقرر أن الدخان الذي يتصاعد من هذه النار لفخامته ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وهو يلقي ظلالاً ولكنها غير ظليلة، ولا تقي من اللهب المشتعل، أما شوار هذه النار المتطاير منها فإنه يشتبه الحصون الضخمة، كما يشبه هذا الشرار الجمالة الصفر إي الإبل السود.
وقال الحق مبيناً قوة هذه النار، ومدى تأثيرها في المعذبين:" سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ" (المدثر، آية : 27، 30). إنها تأكل كل شيء، وتدمر كل شيء، لا تبقي ولا تذر، تحرق الجلود، وتصل إلى العظام وتصهر ما في البطون، وتطلع على الأفئدة.
وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم:" أن نارنا جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، قيل: يا رسول الله إن كانت لكافية، قال: فضلت عليها بتسعين جزءاً، كلهن مثل حرها( )، وعندما تستقبل النار أهلها يوم القيامة تسعر، قال تعالى:" وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ" (التكوير، آية : 12، 13). ومعنى سعرت: أوقدت، وأحميت( ).
5ـ النار تتكلم وتبصر وتغضب: الذي يقرأ النصوص من الكتاب والسنة التي تصف نار جهنم يجدها مخلوقاً يتكلم ويبصر ويغضب، أما كلامها فيقول الله تعالى:" يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ" (ق، آية : 30).
وأما رؤيتها للناس، فيقول تعالى:" بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا * إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا" (الفرقان، آية : 11، 12). فقوله:" رَأَتْهُم" يدل على أنها تبصر، وقوله" سَمِعُوا لَهَا" يدل على أنها تتكلم، وقوله" تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا" يدل على أنها تغضب.
وأما غضبها فيقول سبحانه:" إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ" (الملك، آية : 7، 8).
وقال تعالى:" إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا" (الفرقان، آية : 12)، فهي تشهق وتزفر من غيظها على الكافرين بل تكاد تتميز أي تتقطع( ) من شدة غضبها عليهم.
6ـ وديان النار: سمّى الله تعالى بعض أسماء هذه الأودية وهي كالتالي:
أ ـ وادي الويل: قال تعالى:" وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ" (الأنبياء، آية : 18).
وقال تعالى:" وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ*  يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ" (الهمزة، آية : 1، 3).
وعن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره والصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفاً يهوي به كذلك فيه أبداً( ).
ب ـ وادي الغي: قال تعالى:" فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا" (مريم، آية : 59).
قال ابن مسعود رضي الله عنه في تفسيره قوله" غَيًّا": هو واد في جهنم يقذف فيه الذين اتبعوا الشهوات( ).
وقال البراء بن عازب رضي الله عنه: الغي وادي في جهنم بعيد القعر منتن الريح( )، وهذا لا يقال من قبل الرأي فله حكم الرفع( ).
ج ـ وادي المَوْبق: قال تعالى:" يَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ
فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا" (الكهف، آية : 52). قال أنس بن مالك في قوله تعالى:" وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا" واد من قيح ودم( ).
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: واد في النار عميق فرق يوم القيامة بين أهل الهدى والضلالة( )، وقوله" وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا" قال ابن عباس: مهلكاً( ).
والظاهر من السياق ههنا أنه المهلك ويجوز أن يكون وادياً في جهنم أو غيره، والمعنى أن الله تعالى بين أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا وأنه فرق بينهم وبينها في الآخرة، فلا خلاص لأحد من الفريقين، بل بينهم مهلك وهول عظيم وأمر كبير( ).
7ـ جبال النار: قال تعالى:" سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا" (المدثر، آية : 17). قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: جبل في جهنم( ).
8ـ سرادق النار: قال تعالى:" إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا" (الكهف، آية : 29): السرادق: كل ما أحاط بشيء من حائط أو مضرب أو خباء( ). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لسرادق النار أربع جدر كثف كل جدار مثل مسيرة أربعين سنة( )، وهذا السور له أعمدة ممددة طويلة كما قال تعالى:" إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ" (الهمزة، آية : 8، 9).
9ـ سعة النار وبُعد قعرها وعظم عمقها: ويدل على ذلك أمور كثيرة منها:
أ ـ أن من أسماء النار الهاوية: أي يُهوى بها لبعد قعرها، وعن أبي هريرة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمع وجبة فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" تدرون ما هذا؟ قال: قلنا الله ورسوله أعلم، قال: هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفاً فهو يهوى في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها( ).
ب ـ أن الكافر يكبر حجمه في النار: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث( )، والذين يدخلون النار أعداد لا تحصى ومع العدد الهائل من الناس وبهذا الحجم الكبير للكفار فإنه لا تمتليء بل وتطلب المزيد، قال تعالى:" يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ" (ق، آية : 30).
ج ـ ويدل على عظمها أيضاً كثرة الذين يجرونها من الملائكة: فقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى:" وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ" (الفجر، آية : 23). بأن الذين يجيئون بها ملائكة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها"( ).
10ـ وصف عذاب النار: إن الذين يتأمل ويتدبر في القرآن الكريم يجد في آيات كثيرة أن الله سبحانه وتعالى قد وصف عذاب الحياة الآخرة، بأوصاف كثيرة متنوعة، مما يدل على عظمة عذابها وشدته، فمن هذه الأوصاف:
ــ أنه أشق وأشد: قال تعالى:" لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ" (الرعد، آية : 34).
ــ وقال تعالى:" وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى" (طه، آية : 127).
ــ غرام: قال تعالى:" وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا" (الفرقان، آية : 65).
والغرام: اللازم الدائم، ومنه سمي الغريم لملازمته، ويقال: فلان مغرم بكذا، أي: ملازم له ومولع به، هذا معناه في كلام العرب، كما ذكره ابن الأعربي وابن عرفة وغيرهما، ومنه قول الأعشى:

        إن يعاقب يكن غراما

                    وإن يعط جزيلاً فإنه لا يبالي( )

ــ العذاب المهين: قال تعالى:" اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ" (البقرة، آية : 90). وقوله تعالى:" وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ"، لما كان كفرهم سببه البغي والحسد، ومنشأ ذلك التكبر قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى:" وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" (غافر، آية : 60). أي صاغرين حقيرين ذليلين راغمين( ).
ــ العذاب الأخزى: ومن أوصاف عذاب الآخرة أنه عذاب أخزى، قال تعالى:" فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ" (فصلت، آية : 16).
وقال تعالى:" رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ" (آل عمران، آية : 192).
ــ العذاب العظيم: قال تعالى:" وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" (آل عمران، آية : 176).
ــ العذاب السيء: ومن الأوصاف لعذاب الحياة الآخرة أنه العذاب السيء، الشديد النكاية.
ــ قال تعالى:" أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ" (الزمر، آية : 24).
ــ وقال تعالى:" وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ" (الزمر، آية : 47).
ــ العذاب الأكبر: قال تعالى:" كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" (الزمر، آية : 25، 26).
ــ وقال تعالى:" كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" (القلم، آية : 33).
ــ وقال تعالى:" فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ" (الغاشية، آية : 21، 24)( ).
11ـ كيفية دخول أهل النار إلى جهنم: فصل الله تعالى كيفية دخول أهل النار إلى جهنم، وبين ذلك في كثير من الآيات، فقد أمر الله تعالى الملائكة أن تقيد وتغل الكافر، قال تعالى:" خُذُوهُ فَغُلُّوهُ" (الحاقة، آية : 30). الغل: هو ما يقيد به( )، وهذا القيد يكون في عنقه كما قال تعالى:" وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ" (الرعد، آية : 5).
وقال تعالى:" وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (سبأ، آية : 33). وهذه الأغلال عبارة عن سلاسل الحديد، كما قال تعالى:" الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ*  إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ" (غافر، آية : 70، 72).
ثم تجمع الملائكة نواصبهم مع اقدامهم " يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ" (الرحمن، آية : 41). عن ابن عباس قال: يُجمع بين رأسه ورجليه ثم يقصف كما يقصف الحطب( ).
ثم يساقون إلى النار سوقاً شديداً ويدفعون إليها دفعاً " يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ" (الطور، آية : 13، 14). الدع: الدفع الشديد ثم إذا اقتربوا منها فتحت أبوابها في وجوههم بغتة حتى يصيبهم عذاب الفزع، قال تعالى:" وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا" (الزمر، آية : 71). ثم يلقون فيها إلقاء من مكان ضيق، وهم مكتفون، قال تعالى:" وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا" (الفرقان، آية : 13)، مقرنين أي مشدودين ومربوطين( ).
وهذا الربط بالاصفاد هي الاغلال " وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ" (إبراهيم، آية : 49). وهذا الإلقاء إنما يكون على وجوههم، قال تعالى:" وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (النمل، آية : 90)( ). ثم يلقى بعضهم على بعض، قال تعالى:" فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ" (الشعراء، آية : 94، 95). كبكبوا: ألقي بعضهم على بعض( ).
ثم تبدأ بعد ذلك سلسلة طويلة من أنواع العذاب وأصناف النكال وألوان الآلآم( ).
12ـ أول من تسعر بهم النار يوم القيامة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه، رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمته فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به، فعرفه نعمته فعرفها، قال: فما عملت؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال كذبت، ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال: قاريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسَّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال، فأتى به فعرفه نعمته فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحت أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال جواد، وقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار( )..

ثالثاً: ما أعد الله لأهل النار من عذاب:
1 ـ شدة العذاب:
ومن شدة عذابها أن نفخة واحدة منها تكفي بأن يقروا بكل شيء،.
ـ قال تعالى: " وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ" (الأنبياء، آية : 46).
ـ وقال تعالى: "كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ* إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ" (الهمزة، آية : 4 ـ 9).
ـ وقد اشتملت هذه السورة ـ مع قصرها ـ على سبع أمور تدل على عظيم عذاب نار جهنم، وشدته، وهي كالتالي:
أ ـ قوله: "لَيُنبَذَنَّ"، والنبذ يستخدم لتحقير والمهانة، والذل، ويقال: فلان منبوذ، أي مهان محتقر لا نصير له ولا معز، فهم إضافة لعذابهم البدني بالنار، فإنهم يعذبون عذاباً نفسياً بالمهانة والتحقير.
ب ـ قوله: "الْحُطَمَةِ": تسمية النار بالحطمة تعظيم لعذابها، لأنها تحطم عظام ورؤوس من دخلها.
جـ ـ قوله: "وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ": هذا الأسلوب أسلوب تعظيم، كقوله تعالى: "الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ" (الحاقة، آية : 1 ـ 3)، وقوله: "الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ"(القارعة، آية : 1 ـ 3).
ح ـ قوله تعالى: "نَارُ اللَّهِ"، أضاف الله تعالى النار إلى نفسه سبحانه، وهذه إضافة تعظيم، كقوله تعالى: "بَيْتِ الله" و" نَاقَةُ اللّهِ ".
س ـ وقوله تعالى: "الْمُوقَدَةُ": على وزن مفعلة، وهذه الصيغة من صيغ اسم المفعول( ). ومن المعلوم أن هذه الصيغة تدل على الوقع عليه الفعل، فهي إذن نار ويوقد عليها، والإيقاد إنما يكون بالنار، وهذا من الغرائب كيف يوقد على النار، وهي التي يوقد بها لا عليها، ولكن نار جهنم من شدة نارها وحرارتها يوقد عليها حتى لا تخبو وتضعف، كما قال تعالى: "كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا" )الإسراء، آية : 97).
ك ـ "الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ": من شدة حرارة جهنم أنها لا تحرق الأبشار والجلود فقط، بل يصل حرقها ونارها وحرارتها إلى القلب والفؤاد.
ل ـ  "إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ": من شدة عذابها أنها محكمة الغلق موصدة الأبواب ممددة الأعمدة والأسوار، لا منجا منها ولا مهرب ولا مفر( ).
2 ـ إحاطة النار بأهلها:
قال تعالى: " هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ" (ص، آية : 55 ـ 56)، وقال تعالى: "لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ" (الأعراف، آية : 41).
المهاد: المكان الممهد، الموطأ( )، وهو الفراش، وهذا يكون من تحتهم، ومهادهم من جهنم. وغواش: جمع غاشية أي: نيران تغشاهم( ).
ـ وقال تعالى: "لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ" (الأنبياء، آية : 39).
وقال تعالى: " يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (العنكبوت، آية : 54، 55).
ــ وقال تعالى:" لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ" (الزمر، آية : 16).
الظلل: جمع ظلة، والظلة سحابة تظل، كغرفة وغرفة، كقوله تعالى:" كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ" (الأعراف، آية : 171). وقوله:" عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ" (الشعراء، آية : 189). وهذه الظلل من نار( ).
3ـ قيود أهل النار وأغلالهم وسلاسلهم ومطارقهم: أعد الله تعالى لأهل النار أغلالاً وسلاسل وقيوداً ومطارق وأوثق بها أهل الكفر وثاقاً لا يمكن لأحد من العالمين أن يوثقه، قال تعالى:" فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ" (الفجر، آية : 25، 26).
والأغلال جمع غل وهو ما يقيد به، فيجعل الأعضاء وسطه( ).
قال تعالى:" وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (سبأ، آية : 33).
والأصفاد: جمع صفد وهو الغل، والأصفاد هي الأغلال.
قال تعالى:" وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ" (إبراهيم، آية : 49). والسلاسل ـ معروفة ـ هي القيود من حديد.
قال تعالى:" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ * ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ" (غافر، آية : 69، 74).
وقال تعالى:" إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا" (الإنسان، آية : 4). وطول هذه السلسلة سبعون ذراعاً، كما قال تعالى:" ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ" (الحاقة، آية : 31، 32). وطول السلسلة لا يستغرب ولا يشكل لأن الكافر يكبر حجمه في النار حتى يكون ضرسه كجبل أحد( )، والمقامع هي المطارق، ومقامع أهل النار من مادة الحديد حتى يكون وقعها أشد، قال تعالى:" وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ" ( الحج ، آية : 21 ـ 22 ). أي كلما أراد أحدهم الخروج من النار ضرب بالمقمع فيهوى مرة أخرى في النار( ).
4ـ قرن أهل النار بمعبوداتهم وشياطينهم: قال تعالى:" احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا  وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ" (الصافات، أية : 22، 23).
وقال تعالى:" إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ" (الأنبياء، آية : 98، 99).
لما عبد الكفار الآلهة من دون الله، واعتقدوا أنها تشفع لهم عند الله، وتقربهم إليه عوقبوا بأن جعلت معهم في النار إهانة لهم وإذلالاً، ونكاية لهم وإبلاغاً في حسرتهم وندامتهم، فإن الإنسان إذا قرن في العذاب بمن كان سبب عذابه كان أشد في ألمه وحسرته( )، ومن أجل ذلك يقذف يوم القيامة بالشمس والقمر في النار، ليكونا مما توقد به النار، تبكيتاً للظالمين الذين يعبدونهما من دون الله ففي الحديث: الشمس والقمر مكوران في النار( ).
ولهذا المعنى يقرن الكفار بشياطينهم ليكون أشد لعذابهم.
قال تعالى:" وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ" (الزخرف، آية : 36، 39).
5ـ سجون أهل النار: قال تعالى:" كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ" (المطفين، آية : 7، 8).
سجين فعيل من السجن، وهو الضيق، كما يقال: فسيح وشريب وخمير وسكير ونحو ذلك ولهذا أعظم الله أمره فقال:" وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ" أي أمر عظيم وسجن مقيم وعذاب أليم( ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان، فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال( ).
6ـ طعام أهل النار: ذكر الله تعالى في آيات كثيرة أنواعاً من طعامهم، وهي كالتالي:
أ ـ فهم يأكلون النار، قال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (البقرة، آية : 174). أي إنما يأكلون ما يأكلونه ـ في مقابلة كتمان الحق ـ ناراً تأجج في بطونهم يوم القيامة، قال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا" (النساء، آية : 10).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الذي يشرب في إناء الفضة، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم"( ).
ب ـ الزقوم: من أشجار النار الزقوم، وهي شجرة لا نفع فيها، فهي لا ظل لها ينعمون به، ومنظرها بشع فطلعها كأنه رؤوس الشياطين وما الظن بشجرة تنبت في أصل الجحيم، وإنما القصد من وضع هذه الشجرة هو تعذيبهم بها فيأكلون من ثمرها ظناً منهم أنه ينفعهم فما يزيدهم إلا عذابا، فإذا أكلوا بدأ يغلي في بطونهم، فيفزعون يبحثون عن الماء ليطفئ الغليان الذي في بطونهم فيشربون من ماء الحميم يكرعون منه كرعاً فيقطع أمعاءهم ويتضاعف العذاب عليهم( ).
ــ قال تعالى:" إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ" (الدخان، آية : 43، 49).
المهُل: قيل هو عكر الزيت( )، وقيل النحاس المذاب( )، فيبدأ يغلي في بطنه كما يغلي الحميم وهو الماء الحار.
وقال تعالى:" ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ" (الواقعة، آية : 51، 56). فقوله" فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ" أي: على الزقوم ليطفأ غليانه، و" الْهِيمِ": هي الإبل العطاش واحدها أهيم والأنثى هيماء، ويقال هائم وهائمة، والهيم: داء يأخذ الإبل فلا ترى أبداً حتى تموت، فكذلك أهل جهنم لا يروون من الحميم أبداً( ).
وقال تعالى:" أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ *فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ" (الصافات، آية : 62، 68). فبعد شربهم من الحميم يرجعون مرة أخرى إلى النار، فهذا حالهم من شجر الزقوم مرة أخرى، وهكذا كأنه في طواف، قال تعالى:" هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُون*  يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ" (الرحمن، آية : 43، 44). والحميم الآن: هو الماء الذي بلغ أقصى حرارته( ).
ج ـ الغسلين: قال تعالى:" فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ" (الحاقة، آية : 35، 37).
الغسلين: غُسالة أبدان الكفار في النار( )، وهو الدم والماء الذي يسيل من لحومهم( ).
س ـ الضريع: قال تعالى:" لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ * لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ" (الغاشية، آية : 6، 7).
الضريع: نبات في الحجاز له شوك كبار، يقال له: الشرِق، فإذا يبس قيل له: الضريع.
ك ـ طعام ذو غصة: قال تعالى:" إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا" (المزمل، آية : 12، 13).
قال ابن عباس في قوله" وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ" قال: شوك يأخذ بالحلق لا يدخل ولا يخرج( ).
7ـ شرابهم:
أ ـ الحميم: وهو الماء المغلي شديد الحرارة( ). قال تعالى:" أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ" (الأنعام، آية : 70). وقال تعالى:" هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ" (الرحمن، آية : 43، 44). أي: بلغ وقته من شدة الحر، ومنه قوله تعالى:" تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ" (الغاشية، آية : 5).
قال تعالى:" فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ" (الواقعة، آية : 42، 44). قوله" سَمُومٍ وَحَمِيمٍ" أي: هواء حار، وماء حار، وقال تعالى:" لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا*  إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا" (النبأ، آية : 24، 25).
وهذا الحميم إذا شربوه قطع أمعاءهم كما قال سبحانه:" كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ" (محمد، آية : 15).
وإذا لم يشربوه صب فوق رؤوسهم فتنصهر جلودهم وما في بطونهم، قال تعالى:" هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ" (الحج، آية : 19، 20).
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلث ما في جوفه حتى يمرق من قدميه( ).
ب ـ ماء الصديد: قال تعالى:" مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ" (إبراهيم، آية : 16، 17).
الصديد: هو القيح والدم( ). ولا يزال هذا الصديد يكثر خروجه من أهل النار حتى يصبح نهراً يسمى نهر الخبال.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من شرب الخمر لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب لم يتب الله عليه وسقاه من نهر الخبال، قيل: يا أبا عبد الرحمن وما نهر الخبال؟ قال: نهر من صديد أهل النار( ).
ج ـ ماء كالمُهل: قال تعالى:" إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا" (الكهف، آية : 29). المُهل: دردي الزيت، وهو ما يبقى في أسفله( )، فهو ماء ثقيل، يختلف عن الحميم.
س ـ الغساق: قال تعالى:" لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا" (النبأ، آية : 24، 25).
وقال تعالى:" هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ" (ص، آية : 57، 58).
أما الحميم فهو الحار الذي قد انتهى حره، وأما الغساق فهو ضده وهو البارد الذي لا يستطاع من شدة برده المؤلم، ولهذا قال عز وجل:" وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ"، أي: وأشياء من هذا القبيل: الشيء وضده يعاقبون بها( ).
وعن مجاهد قال: الغساق الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من شدة برده( ). وعن أبي العالية في قوله تعالى:" لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا" (النبأ، آية : 24، 25). قال: استثنى من الشراب: الحميم، ومن البارد: الغساق( ).
8ـ لباس أهل النار: بعد أن يحشر الناس حفاة عُراة يلبسون لباساً وهذا اللباس ليس لستر العورة، ولا للزينة لأنه لباس مقطع ممزق، بل لباس لزيادة العذاب فهو لباس من نار، قال تعالى:" هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ" (الحج، آية : 19، 20).
قوله" قُطِّعَتْ": يعني ليست مفصلة على جسمهم، بل هي مقطعة ممزقة وكان إبراهيم التيمي إذا قرأ هذه الآية يقول: سبحان من قطع من النيران ثياباً( )، وقال تعالى:" سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ" (إبراهيم، آية : 50).
السرابيل: جمع سربال، والسربال هو القميص أو الدرع، وقيل: كل ما لبس فهو سربال( ).
والقطران: النحاس المذاب( )، فلباسهم من نحاس مذاب، والنحاس لا يكون مذاباً حتى يحمي عليه ويكون في الغاية من الحرارة والغليان.
وعن أبي مالك الأشعري حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة سربال من قطران ودرع من جرب"( ).
9ـ صور من عذابهم:
أ ـ إنضاج الجلود: إن نيران الجبار تحرق جلود أهل النار، والجلد موضع الإحساس بألم الاحتراق، ولذلك فإن الله يبدل لهم جلوداً أخرى غير تلك التي احترقت لتحترق من جديد( ).
قال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا" (النساء، آية : 56).
وقال تعالى:" وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا" (الكهف، آية : 29).
ب ـ الصهر: من ألوان العذاب صب الحميم فوق رؤوسهم والحميم هو ذلك الماء الذي انتهى حره، فلشدة حره تذوب أمعاؤهم وما حوته بطونهم، قال تعالى:" فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ" (الحج، آية : 19، 20).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان( ).
ج ـ اللفح: أكرم ما في الإنسان وجهه، ولذلك نهانا الرسول صلى الله عليه وسلم عن ضرب الوجه ومن إهانة الله لإهل النار أنهم يحشرون في يوم القيامة على وجوههم عمياً وصماً وبكماً، قال تعالى:" وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا" (الإسراء، آية : 97).
ويلقون في النار على وجوههم، قال تعالى:" وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (النمل، آية : 90).
ثم أن النار تلفح وجوههم وتغشاها أبداً لا يجدون حائلاً يحول بينهم وبينها، قال تعالى:" لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ" (الأنبياء، آية : 39).
وقال تعالى:" وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ" (المؤمنون، آية : 103، 104).
في قوله تعالى:" تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ": يجرفها، واللفح كالنفخ إلا أنه أشد تأثيراً منه، وتخصيص الوجوه بذلك لأنها أشرف الأعضاء، فبيان حالها أزجر عن المعاصي المؤدية إلى النار، وهو السر في تقديمها على الفاعل( )، ثم إن وجوههم تعلوها، وتحيط بها وتسعر أجسامهم المسربلة بالقطران( )، قال تعالى:" وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ" (إبراهيم، آية : 49، 50).
وقال تعالى:" يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا" (الأحزاب، آية : 66).
إنه مشهد بائس أليم حين تغشاهم النار من كل جهة، فالتعبير على هذا النحو يراد به تصوير الحركة وتجسيمها والحرص على أن تصل النار إلى كل صفحة من صفحات وجوههم زيادة في النكال( ).
س ـ السحب: ومن أنواع العذاب الأليم سحب الكفار في النار على وجوههم، قال تعالى:" إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ" (القمر، آية : 47، 48).
ويزيد في آلامهم إهانتهم حال سحبهم في النار أنهم مقيدون بالقيود والأغلال والسلاسل، قال تعالى:" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ" (غافر، آية : 69، 72). قال قتادة: يسحبون مرة في النار وفي الحميم مرة( ).
ش ـ تسويد الوجوه: ومن ألوان عذاب الحياة الآخرة تسويد الوجوه، وذلك لما ترى من سوء العاقبة وما يحل بها من النكال والوبال، قال تعالى:" يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ
وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ" (آل عمران، آية : 106). كأنما ألبست وجوههم قطعاً من أديم الليل حال كونه حالكاً مظلماً لا بصيص فيه من نور القمر الطالع ولا النجم الثاقب، فتشقها قطعة بعد قطعة، فصارت ظلمات متراكمة فوق بعض( ).
ــ قال تعالى:" وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (يونس، آية : 27). ونحو الآية قوله تعالى:" وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ" (القيامة، آية : 24، 25).
تلك وجوه أهل النار التي تغشاها ظلمة وانكدار، ويبدو عليها مضض( )، وإرهاق، فإنها ليست كالحة فحسب، ولكن يخالجها التوجس( )، أن تنزل بها داهية تقصم( ) الفقار( )، والتوجس شر من وقوع العذاب( ).
ك ـ اندلاق الأمعاء في النار: في الصحيحين عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيطحن فيها كطحن الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: أي فلان، ما شأنك، أليس كنت تأمر بالمعروف، وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه( ). ثم يدور ويسعى حولها كما يدور الحمار برحاه".
ل ـ حيات جهنم: في النار حيات يعذبن أهلها، قال تعالى:" وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ" (آل عمران، آية : 180).
وهذا الطوق عبارة عن ثعبان في رقابهم، كما فسرها بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل الله يوم القيامة في عنقه شجاعاً، ثم قرأ علينا مصداقه من كتاب الله عز وجل:" وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ" الآية.
وقال مرة: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه:" سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" : من أقتطع مال أخيه المسلم بيمين لقي الله وهو غضبان" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله:" إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ...( )"
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً( ) أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه ـ يعني شدقيه ـ ثم يقول أنا مالك أنا كنزك. ثم تلا:" وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ"( ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن في النار حيات كأمثال أعناق البخت تلسع إحداهن اللسعة فيجد حموتها أربعين خريفاً، وإن في النار عقارب كأمثال البغال الموكفة تلسع إحداهم اللسعة فيجد حموتها أربعين سنة"( ).
ي ـ كثرة أهلها: النار أهلها كثيرون وقد دل على ذلك كتاب الله تعالى في ثلاثة مواضع وهي:
ــ قوله تعالى:" وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (هود، آية : 119).
ــ وقال تعالى:" وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (السجدة، آية : 13).
ــ وقال تعالى:" قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ {84} لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ
مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ" (ص، آية : 84، 85).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" يقول الله تعالى: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، فيقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعين، فعنده يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، قالوا: يا رسول الله، وأين ذلك الواحد؟ قال: أبشروا فإن منكم رجلاً ومن يأجوج ومأجوج ألفاً، ثم قال: والذي نفسي بيده إني أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبرّنا، فقال: أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبرّنا، فقال: أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبرّنا، فقال: ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود"( ).

رابعاً: مطالب أهل النار في الآخرة:
مطالب أهل النار في الآخرة هي:
1ـ طلب الفداء: قال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ" (المائدة، آية : 36، 37).
إن أقصى ما يتصوره الخيال على أساس الافتراض: هو أن يكون للذين كفروا كل ما في الأرض جميعاً، ولكن السياق يفترض لهم، ما فوق الخيال في عالم الافتراض، فيفرض أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه، ويصورهم يحاولون الافتداء بهذا وذلك لينجوا به من عذاب يوم القيامة ويرسم مشهدهم وهم يحاولون الخروج من النار ثم عجزهم عن بلوغ الهدف وبقاءهم في العذاب الأليم المقيم، إنه مشهد مجسم ذو مناظر وحركات متواليات، منظرهم ومعهم ما في الأرض ومثله معهم، ومنظرهم وهم يعرضونه ليفتدوا به ومنظرهم وهم مخيبوا الطلب غير مقبولي الرجاء، ومنظرهم وهم يدخلون النار، ومنظرهم وهم يحاولون الخروج منها، ومنظرهم وهم يرغمون على البقاء، ويسدل الستار ويتركهم مقيمين هناك( ).
ــ قال تعالى:" لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ" (الرعد، آية : 18). أي: من مات فلن يقبل منه خيراً أبداً ولو كان قد أنفق مثل الأرض ذهباً لو افتدى نفسه من الله بملء الأرض ذهباً بوزن جبالها وتلالها وترابها ورمالها وسهلها ووعرها وبرها وبحرها( ).
ــ قال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَـئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ" (آل عمران، آية : 10).
والأموال والأولاد مظنة حماية ووقاية ولكنهما لا يغنيان شيئاً في ذلك اليوم الذي لا ريب فيه لأنه لا خلاف لميعاد الله وهم فيه " وَقُودُ النَّارِ".. بهذا التعبير الذي يسلبهم كل خصائص الإنسان ومميزاته ويصورهم في صورة الحطب والخشب وساء..." وَقُودُ النَّارِ" لا بل إن الأموال والأولاد ومعهما الجاه والسلطان لا تغني شيئاً في الدنيا( ).
ــ قال تعالى:" وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون" (الزمر، آية : 47، 48).
إنه الهول الملفوف في ثنايا التعبير الرهيب، فلو أن لهؤلاء الظالمين، لو أن لهؤلاء " مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا" مما يحرصون عليه " وَمِثْلَهُ مَعَهُ" لقدموه فدية مما يرون من سوء العذاب يوم القيامة. وهول آخر يتضمنه التعبير الملفوف " وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ" ولا يفصح عما بدا لهم من الله ولم يكونوا يتوقعونه. لا يفصح عنه ولكنه هكذا هائل مذهل مخيف، فهو الله الذي يبدو منه لهؤلاء الضعاف ما لا يتوقعون هكذا بلا تعريف ولا تحديد " وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون".
وهذه كذلك تزيد الموقف سوءاً، حين يتكشف لهم قبح ما فعلوه، وحين يحيط بهم ما كانوا به يستهزئون من الوعيد والنذير وهم في ذلك الموقف الأليم( ).
2ـ طلب العودة إلى الدنيا لعمل الصالحات: قال تعالى:" وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ" (الأنعام، آية : 27، 28).
وفي قوله " بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ"، إن الله يعلم طبيعتهم ويعلم إصرارهم على باطلهم ويعلم أن رجفة الموقف الرهيب الرعيب على النار هي التي انطقت ألسنتهم بهذه الأماني وهذه الوعود " وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ" ويدعهم السياق في هذا المشهد البائس وهذا الرد يصفع وجوههم بالمهانة والتكذيب( ).
ــ قال تعالى:" هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ" (الأعراف، آية : 53).
" يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ": أي: يوم القيامة، وما وعدوا به من العذاب والنكال والجنة والنار( ).
ــ قال تعالى:" حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ" (المؤمنون، آية : 99، 100). إنه مشهد الاحتقار وإعلان التوبة عند مواجهة الموت وطلب الرجعة إلى الحياة لتدارك ما فات والإصلاح فيما ترك وراءه من أهل ومال وكأنما المشهد معروض اللحظة للأنظار مشهود كالعيان، فإذا الرد على هذا الرجاء المتأخر لا يوجه إلى صاحب الرجاء إنما يعلن على رؤوس الأشهاد " كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا" كلمة لا معنى لها ولا مدلول وراءها ولا تنبغي العناية بها أو بقائلها، إنها كلمة الموقف الرهيب لا كلمة الإخلاص المنيب، كلمة تقال في لحظة الضيق ليس لها في القلب رصيد وبها ينتهي مشهد الاحتضار، وإذا الحواجز قائمة بين قائل هذه الكلمة والدنيا جميعاً، فلقد قضي الأمر وانقطعت الصلات وأغلقت الأبواب وأسدلت الأستار " وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ" فلا هم من أهل الدنيا ولا هم من أهل الآخرة إنما في ذلك البرزخ إلى يوم يبعثون .
ــ قال تعالى:" قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ" (المؤمنون، آية : 106، 111).
وأحسن ما قيل في معنى " غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا" غلبت علينا أهواؤنا ولذاتنا فسمى الأهواء واللذات شقوة لأنهما يؤديان إليهما. " وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ" أي: كنا فعلنا ضالين عن الهدى وليس هذا اعتذار منهم إنما هو إقرار، ويدل على ذلك قولهم" رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ" طلبوا الرجعة إلى الدنيا كما طلبوا عند الموت " فَإِنْ عُدْنَا" إلى الكفر " فَإِنَّا ظَالِمُونَ" لأنفسنا بالعودة إليه، فيجابون بعد ألف سنة " اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ" أي: أبعدوا في جهنم .
ــ قال تعالى:" وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ" (إبراهيم، آية : 44، 45).
أنذرهم يوم يأتيهم ذلك العذاب المرسوم آنفاً فيتوجه الذين ظلموا يومئذ إلى الله بالرجاء يقولون " رَبَّنَا" الآن وقد كانوا يكفرون به من قبل ويجعلون له أنداداً " أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ" وهنا ينقلب السياق من الحكاية إلى الخطاب كأنهم ماثلون شاخصون يطلبون وكأننا في الآخرة قد أنطوت الدنيا وما كان فيها، فها هو ذا الخطاب يوجه إليهم من الملأ الأعلى بالتبكيت والتأنيب والتذكير بما فرط منهم في تلك الحياة. " أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ" فكيف ترون الآن؟ زلتم يا ترى أم تزولوا؟ ولقد قلتم قولتكم هذه وآثار الغابرين شاخصة أمامكم مثلاً بارزاً للظالمين ومصيرهم المحتوم " وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ" فكان عجباً أن تروا مساكن الظالمين أمامكم خالية منهم وأنتم فيها خلفاء، ثم تقسمون مع ذلك " مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ" وعند هذا التبكيت ينتهي المشهد، وندرك أين صاروا وماذا كان بعد الدعاء وخيبة الأمل وإن هذا المثل ليتجدد في الحياة ويقع كل حين فكم من طغاة يسكنون مساكن الطغاة الذين سكنوا من قبلهم وربما يكونون قد هلكوا على أيديهم. ثم هم يطغون بعد ذلك ويتجبرون ويسيرون حذوك النعل بالنعل سيرة الهالكين، فلا تهز وجدانهم تلك الآثار الباقية التي يسكنونها والتي تتحدث عن تاريخ الهالكين وتصور مصايرهم للناظرين، ثم يؤخذون أخذة الغابرين ويلحقون بهم، وتخلوا منهم الديار بعد حين .
ــ قال تعالى:" وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ" (فاطر، آية : 36، 37).
" وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا" يتصارخون يفتعلون الصراخ وهو الصياح بجهد وشدة ويجأرون إلى الله عز وجل بأصواتهم .
ــ قال تعالى:" وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءتْكَ  آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ" (الزمر، آية : 55، 59). في قوله" أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ" أي: يتحسر المجرم المفرط في التوبة والإنابة ويود لو كان من المؤمنين المخلصين المطيعين لله .
ــ قال تعالى:" وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ" (الشورى، آية : 44، 45).
الظالمون كانوا طغاة بغاة فناسب أن يكون الذل مظهرهم البارز في يوم الجزاء.
إنهم يرون العذاب فيتهاوى كبرياؤهم ويتساءلون في انكسار " هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ" في هذه الصيغة الموجبة باليأس مع اللهفة والانهيار مع التطلع إلى بارقة للخلاص وهم يعرضون على النار " خَاشِعِينَ" لا من التقوى ولا من الحياء ولكن من الذل والهوان، وهم يعرضون منكسي الأبصار لا يرفعون أعينهم من الذل والعار " يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ" وهي صورة شاخصة ذليلة، وفي ظل هذا المشهد يوجه الخطاب إلى المعاندين المكابرين ليستجيبوا لربهم قبل أن يفاجئهم مثل هذا المصير فلا يجدون لهم ملجأ يقيهم ولا نصير ينكر مصيرهم الأليم .
ــ قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" (المنافقون، آية : 9، 11).
ــ قال تعالى:" وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ * وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ"(السجدة، آية : 12، 14).
3ـ طلب الانتقام من الأولياء: قال تعالى:" قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَـؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ" (الأعراف، آية : 38، 39).
وفي قوله تعالى:" إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا" وتلاحق آخرهم وأولهم واجتمع قاصيهم بدانيهم بدأ الخصام والجدال( ).
ــ قال تعالى:" هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ * هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ * قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ * قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ" (ص، آية : 55، 61).
ــ قال تعالى:" وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ" (فصلت، آية : 29).
وفي قوله: "الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا" أي: الشياطين على ضربين جني وإنسي( ).
وترى الحنق والتحرق على الانتقام في قولهم "نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ".
وذلك بعد المودة المخادنة والوسوسة والتزيين، هذه صلة الوسوسة والإغراء( ).
ـ قال تعالى: "إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا" (الأحزاب، آية : 64 ـ 68).
ـ قال تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ" (البقرة، آية : 165 ـ 167).
أولئك الذين اتخذوا من دون الله أنداداً فظلموا الحق وظلموا أنفسهم لو مدوا أبصارهم إلى يوم يقفون بين يدي الله الواحد، لو تطلعوا ببصائرهم إلى يوم يرون العذاب الذي ينتظر الظالمين، لو يرون لرأوا "َنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً" فلا شركاء ولا أنداد....." "وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ".
لو يرون إذ تبرأ المتبوعون من التابعين ورأوا العذاب، فتقطعت بينهم الأواصر والعلاقات والأسباب وانشغل كل بنفسه تابعاً كان أم متبوعاً وسقطت الرياسات والقيادات التي كان المخدوعون يتبعونها وعجزت عن وقاية أنفسها، فضلاً عن وقاية تابعيها وظهرت حقيقة الألوهية الواحدة والوقدرة الواحدة وكذب القيادات الضالة وضعفها وعجزها أمام الله وأمام العذاب "وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا" وتبدي الحنق والغيظ من التابعين المخدوعين في القيادات الضالة، وتمنوا لو يردون لهم الجميل، لو يعودون إلى الأرض فيتبرأوا من تبعيتهم لتلك القيادات العاجزة الضعيفة في حقيقتها التي خدعتهم ثم تبرأت منهم أمام العذاب، إنه مشهد مؤثر، مشهد التبرؤ والتعادي والتخاصم بين التابعين والمتبوعين، بين المحبين والمحبوبين، وهنا يجيء التعقيب الممضي المؤلم: "َذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ"( ).
4 ـ طلب الاستنجاد بالشركاء والأولياء:
قال تعالى: "وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ * وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (إبراهيم، آية : 21 ـ 22).
وفي قوله تعالى: " مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ" أي: بنافعكم ومنقذكم ومخلصكم مما أنتم فيه.
"وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ" أي: بنافعي بإنقاذي مما أنا فليه من العذاب والنكال( ). وقال القرطبي: فلا أنا بمغيثكم ولا أنتم بمغيثي، والصارخ والمستصرخ هو الذي يطلب النصرة والمعاونة، والمصرخ هو المغيث( ).
قال تعالى: "وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ * وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ" (القصص، آية : 62 ـ 64).
في قوله تعالى: " أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ": والله يعلم أنه لا وجود اليوم لهؤلاء الشركاء وأن أتباعهم لا يعلمون عنهم شيئاً ولا يستطيعون إليهم سبيلاً، ولكنه الخزي والفضيحة على رؤوس الأشهاد ومن ثم لا يجيب المسئولون عن السؤال فليس المقصود به هو الجواب، إنما يحاولون أن يتبرأ من جريرة إغوائهم لمن وراءهم وصدهم عن هدي الله، كما يفعل كبراء قريش مع الناس خلفهم، فيقولون: "رَبَّنَا هَؤُلَاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ". ربنا إننا لم نغوهم قسراً، فما كان لنا من سلطان على قلوبهم إنما وقعوا في الغواية، عن رضى منهم واختيار، كما وقعنا نحن في الغواية دون إجبار، " تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ" من جريمة إغوائهم " مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ"، إنما كانوا يعبدون أصناماً وأوثاناً وخلقاً من خلقك، ولم نجعل أنفسنا لهم آلهة ولم يتوجهوا إلينا نحن بالعبادة، وفي قوله: "وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ"، رأوه في هذا الحوار ورأوه ماثلاً وراءه فليس وراء هذا الموقف إلا العذاب، وهنا في اللحظة التي يصل فيها المشهد إلى ذروته يعرض عليهم الهدى الذي يرفضونه وهو أمنية المتمنى في ذلك الموقف المكروب! وهو بين أيديهم في الدنيا ولو أنهم إليه يسارعون: "لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ"( ).
وقال تعالى: "وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا * وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا" (الكهف، آية : 52 ـ 53).
وفي قوله: " وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا"
والمعنى: أن الله تعالى بين أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا وأنه يفرق بينهم وبينها في الآخرة، فلا خلاص لأحد الفريقين إلى الآخر، بل بينهم مهلك وهول عظيم وأمر كبير( ).
وقال تعالى: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (سبأ، آية : 31 ـ 33).
وقال تعالى: "وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ * فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ" (سبأ، آية : 40 ـ 42).
وقال تعالى: "وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ* قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ" (غافر، آية : 47 ـ 48).
وقال تعالى: "وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ* إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ" (الصافات، آية : 27 ـ 34).
وفي قوله تعالى: "إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ"، قال ابن عباس: يقولون: كنتم تقهروننا بالقدرة منكم علينا لأنّا كنا أذلاء وكنتم أعزاء( ).
5 ـ طلب الخروج من النار:
قال تعالى: "حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ" (المؤمنون، آية : 64 ـ 67).
وفي "حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم" يعني حتى إذا جاء مترفيهم وهم المنعمون في الدنيا عذاب الله وبأسه ونقمته بهم:
"إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ" أي: يصرخون ويستغيثون ـ "فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ" أي: إذا دعيتم أبيتم وإن طلبتم امتنعتم( ).
"مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ"، قيل مستكبرين بالبيت يقولون: نحن أهله سامراً وكانوا يتكبرون ويسمرون فيه ولا يعمرونه ويهجرونه( ).
قال تعالى: "وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا" (الفرقان، آية : 27 ـ 29).
•    قال تعالى: "كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ" (ص، آية : 3).
ومعنى قوله: "فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ": نادوا بالتوحيد حين تولت الدنيا عنهم وأرادوا التوبة في غير وقتها( ).
قال تعالى: "قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ * ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ" (غافر، آية : 11 ـ 12).
وفي قوله: "فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ". فهل أنت مجيبنا إلى أن تعيدنا إلى الدار الدنيا فإنك قادر على ذلك لنعمل غير الذي كنا نعمل، فإن عدنا إلى ما كنا فيه فإنا ظالمون، فأجيبوا إلى أن لا سبيل إلى عودكم ومرجعكم إلى الدار الدنيا، ثم علل المنع من ذلك بأن سجاياكم لا تقبل الحق ولا تقتضيه، بل تمجه وتنفيه، ولهذا قال تعالى: "ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ" (غافر، آية : 12). فهذا هو الذي يقودكم إلى ذلك الموقف الذليل إيمانكم بالشركاء وكفركم بالوحدانية، فالحكم لله العلي الكبير، وهما صفتان تناسبان موقف الحكم. الاستعلاء على كل شيء، والكبر فوق كل شيء في موقف الفصل الأخير( ).
وقال تعالى: "وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ * وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (السجدة، آية : 20 ـ 21).
6 ـ طلب التخفيف من العذاب:
قال تعالى: "وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ" (غافر، آية : 49 ـ 50).
7 ـ طلب القضاء عليهم:
قال تعالى: "إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ" (الزخرف، آية : 74 ـ 78).
8 ـ طلب سقيا الماء والطعام:
قال تعالى: "وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ" (الأعراف، آية : 48 ـ 51).
9 ـ طلب النور:
قال تعالى: "يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ" (الحديد، آية : 13 ـ 14).
إن المنافقين والمنافقات في حيرة وضلال وفي مهانة وإهمال، وهم يتعلقون بأذيال المؤمنين والمؤمنات " يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ"، فحيثما تتوجه أنظار المؤمنين والمؤمنات يشع ذلك النور اللطيف الشفيف، ولكن أنَّى للمنافقين أن يقتبسوا من هذا النور وعاشوا حياتهم كلها في الظلام؟ إن صوتاً يناديهم "قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا" ويبدو أنه صوت للتهكم والتذكير بما كان منهم في الدنيا من نفاق ودس في الظلام: ارجعوا وراءكم إلى الدنيا إلى ما كنتم تعملون، ارجعوا فالنور يلتمس النور، وعلى الفور يفصل بين المؤمنين والمؤمنات والمنافقين والمنافقات، فهذا يوم الفصل إن كانوا في الدنيا مختلطين في الجماعة: "فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ"، ويبدو أنه سور يمنع الرؤية، ولكن لا يمنع الصوت منها هم أولاء المنافقون ينادون المؤمنين "أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ" فما بالنا نفترق عنكم؟ ألم نكن معكم في الدنيا نعيش في صعيد واحد؟ وقد بعثنا معكم في صعيد واحد ؟
" وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ" أي: فتنتم أنفسكم باللذات والمعاصي والشهوات وتربصتم أي: أخرتم التوبة من وقت إلى وقت.
" وَارْتَبْتُمْ" أي: بالبعث بعد الموت.
" وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ" أي: قلتم سيغفر لنا وقيل: غرتكم الدنيا.
" حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ" أي: ما زلتم في هذا حتى جاءكم الموت. " وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ" أي: الشيطان .

خامساً: جملة الجرائم التي تدخل النار:
من الجرائم التي تدخل النار، الإشراك بالله تعالى، والتكذيب للرسل، والكفر، والحسد، والكذب، والخيانة، والظلم، والفواحش، والغدر، وقطيعة الرحم، والجبن عن الجهاد، والبخل، واختلاف السر والعلانية، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والجزع عند المصائب، الفخر والبطر عند النعم، وترك فرائض الله  واعتداء حدوده وانتهاك حرماته، وخوف المخلوق دون الخالق، والعمل رياءً وسمعة، ومخالفة الكتاب والسنة في أي اعتقاد وعمل، وطاعة المخلوق في معصية الخالق، والتعصب للباطل، واستهزاء بآيات الله، وجحد الحق، والكتمان لما يجب إظهاره من علم وشهادة، والسحر، عقوق الوالدين، قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، الربا، والفرار من الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات .

سادساً: أكبر جرائم المخلدين في النار:
إن الذي يتدبر القرآن الكريم يجد في آيات كثيرة أن الله عز وجل قد ذكر أسباب جرائم الخالدين الذين استحقوا بها الخلود في النار من أهمها:
1ـ الكفر والشرك: قال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ
فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ" (البينة، آية : 6).
2ـ طاعة قرناء السوء: قال تعالى:" وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ * فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ" (فصلت، آية : 25، 28).
3ـ النفاق: قال تعالى:" وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ" (التوبة، آية : 68).
ــ وقال تعالى:" وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا" (الفتح، آية : 6).
4ـ الكبر: قال تعالى:" وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (الأعراف، آية : 36).
ــ وقال تعالى:" قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ" (الزمر، آية : 72).
ــ وقال تعالى:" ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ * ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ" (غافر، آية : 75، 76).
5ـ عدم القيام بالتكاليف الشرعية: مع التكذيب بيوم الدين وترك الإلتزام بالضوابط الشرعية، فقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى أن أهل الجنة يسألون أهل النار قائلين" مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ" (المدثر، آية : 42). فيجيبون قائلين:" قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ" (المدثر، آية : 43، 47) .

سابعاً: أشخاص بأعينهم في النار:
ذكر الله تعالى بعض الأشخاص بأعينهم وبيّن أنهم من أهل النار، ونحن ـ كمسلمين ـ لا نشهد لأحد بعينه أنه من النار إلا من شهد الله له ورسوله ، ومن هؤلاء:
1ـ فرعون وجنوده: قال تعالى:" وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ" (القصص، آية : 41، 42).
ــ وقال تعالى:" وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ" (غافر، آية : 45، 46).
2ـ قارون وهامان: قال تعالى:" وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِين * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" (العنكبوت، آية : 39، 40).
ــ وقال تعالى:" فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ" (القصص، آية : 81).
ــ وقال تعالى:" وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ" (غافر، آية : 23، 25)، فسماهم الله تعالى كافرين .
3ـ إبليس وابن آدم القاتل: أما إبليس فالآيات كثيرة ودخوله النار من المعلوم بالدين بالضرورة بل معلوم في جميع الأديان كمثل قوله تعالى:" كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ" (الحشر، آية : 16، 17).
ــ وقال تعالى لإبليس:" فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ
مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ" (ص، آية : 84، 85).
4ـ إمرأة نوح وإمرأة لوط: قال تعالى:" ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ" (التحريم، آية : 10).
5ـ كفرة الجن في النار: قال تعالى:" وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ" (الأعراف، آية : 179).
ــ وقال تعالى:" وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا" (الجن، آية : 14، 15).
6ـ أحد أبناء نوح: قال تعالى:" وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ" (هود، آية : 42، 43).
7ـ قوم نوح: قال تعالى:" وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ
فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ" (هود، آية : 36، 37).
8ـ قوم عاد: قال تعالى:" وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُواْ فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ" (هود، آية : 59، 60).
9ـ قوم ثمود: الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ" (هود، آية : 67، 68). فحكم الله عليهم بالكفر وقد قدمنا أن أصحاب الخلود في النار هم الكفار والمشركون .
10ـ قوم لوط: قال تعالى:" فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ {82} مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ" (هود، آية : 82، 83).
11ـ قوم شعيب: قال تعالى:" وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ" (هود، آية : 94، 95).
ــ وقال تعالى:" فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ" (الشعراء، آية : 189). وتكذيب الرسل من أنواع الكفر .
12ـ بنو النضير من اليهود: قال تعالى:" وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ" (الحشر، آية : 3).
وقد نزلت هذه الآية في يهود بني النضير لما خانوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله بإلقاء الحجر عليه، ولكن الله تعالى عصمه منهم، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم وأجلاهم .
وهذا الحكم ليس خاصاً بيهود بني النضير، بل كل من سمع بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى ولم يسلم فهو في النار ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" .
13ـ أبو لهب وامرأته: قال تعالى:" تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ  مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ" (المسد، آية : 1، 5).
14ـ الوليد بن المغيرة: وهو المقصود بقوله تعالى:" ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ" (المدثر، آية : 10، 26).
جاء الوليد بن المغيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالاً، قال: لم؟ قال: ليعطوكه فإنك أتيت محمداً لتعرضه لما قبله، قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك إنك منكر له أو إنك كاره له، قال: ماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا برجز ولا بقصيدة مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، والله إن لقوله الذي يقول حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو وما يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر، قال: هذا سحر يؤثر بأثره عن غيره، فنزلت " ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا" .
ومن أراد التوسع لمعرفة الأشخاص الذين بأعيانهم في النار فليراجع كتاب أهل النار، ليوسف الحاج أحمد .
 

المبحث الثالث: موانع انفاذ الوعيد:
تحدث العلماء عن أسباب سقوط العذاب في الآخرة وذكروها في موانع انفاد الوعيد والتي منها:
أولاً: التوبة: مانع من إنفاد وعيد جميع الذنوب، ودليل ذلك الكتاب والسنة،
ـ قال تعالى: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا" (الزمر، آية : 53)، أي لمن تاب( ).
وقال تعالى: "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ" (المائدة، آية : 38 ـ 39).
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها( ).
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر( ).
وأما الإجماع: فقد اتفق العلماء أن التوبة من الكفر مقبولة ما لم يوقن الإنسان بالموت بالمعاينة، ومن الزنا، ومن فعل فعلة قوم لوط، ومن شرب الخمر، ومن كل معصية بين المرء وربه تعالى، مما لا يحتاج في التوبة إلى دفع مال، ومما ليس مظلمة للإنسان( ). فالتوبة مانع شامل، يمنع إنفاذ وعيد جميع الذنوب كالكفر وما دونه، وهذا الشمول مختص بهذا المانع( ). فالتوبة تمحو جميع السيئات، وليس شيء يغفر جميع الذنوب إلا التوبة( ).

ثانياً: الاستغفار:
دلت النصوص الشرعية على أن الاستغفار مانع من إنفاذ الوعيد، ومن هذه النصوص:
•    ـ قوله تعالى: "وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ" (آل عمران، آية : 135 ـ 136).
ـ وقوله تعالى: " وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا" (النساء، آية : 11).
ـ وقوله تعالى: " وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا" (النساء، آية : 64).
ـ وقال صلى الله عليه وسلم: "أن عبداً أصاب ذنباً، وربما قال: أذنب ذنباً، فقال: رب أذنبت، وربما قال: أصبت، فاغفر لي، فقال ربه: أعلم عبدي له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنباً أو أذنب ذنباً، فقال: رب أذنبت أو أصبت آخر فاغفره، فقال: اعلم عبدي أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ به، غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنباً، وربما قال: أصاب ذنباً، قال: رب أصبت ذنباً أو قال: أذنب آخر فاغفره لي، فقال: اعلم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي، ثلاثاً، فليعمل ما شاء( ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم( ). فدلت هذه النصوص المحكمة على أن الاستغفار مانع من إنفاد الوعيد( ).

ثالثاً: الحسنات الماحية:
دلت نصوص شرعية كثيرة على أن الحسنات يمكن أن تمنع إنفاذ وعيد السيئات، والأدلة على ذلك كثيرة منها:
ــ كقوله تعالى:" إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ" (هود، آية : 114).
ــ وعن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" .
ــ عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، حرم الله عليه النار" .
ــ وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من أظفاره" .
ــ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمساً، ما تقول ذلك يبقى من درنه؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيئاً، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بها الخطايا" .
ــ وقال صلى الله عليه وسلم:" من صام إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" .
ــ وقال صلى الله عليه وسلم:" من حج لله فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه" .

رابعاً: دعاء المؤمنين:
النصوص الشرعية التي دلت على مشروعية الدعاء للمؤمنين، بالمغفرة والرحمة تدل قطعاً على انتفاع المدعو بدعاء إخوانه المؤمنين، ومن أهم مظاهر انتفاعه عدم إنفاذ وعيده بسبب دعاء المؤمنين واستغفارهم، ولا شك أن الدعاء بالمغفرة والرحمة لا يمكن أن يمنع إنفاذ وعيد المدعو له إذا لقي الله متلبساً بمكفّر، كالشرك الأكبر والنفاق الأكبر لئن الله أخبر في كتابه بأنه سبحانه:" إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء" (النساء، آية : 48)، كما أن النصوص الشرعية دلت على تحريم الاستغفار المطلق والمقيد بفعل معين لمن لقي الله كافراً، فقد دل على تحريم الاستغفار المطلق قوله تعالى:" مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ" (التوبة، آية : 113).
والمقصود من هذا كله أن تحريم الاستغفار بمختلف صوره لمن لقي الله كافراً، يدل من وجه آخر على أن طلب المغفرة وما في معناها لا أثر له البتة في إسقاط وعيده، كما أن الدعاء من حيث هو لا يترتب عليه أثره إلا إذا تحققت شروطه وانتفت موانعه، ومن شروطه كون المطلوب جائز الطلب شرعاً، ومن موانعه الاعتداء في الدعاء، وحينئذ فطلب المغفرة وما في معناها لمن لقي الله كافراً لا يمكن أن يترتب عليه أثره لتخلف شرطه ووجود مانعه .
وأما الأدلة الشرعية على مشروعية الدعاء لأحياء المؤمنين وأمواتهم بالمغفرة والرحمة فمنها:
ــ قوله تعالى:" وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ" (محمد، آية : 19).
ــ وقوله:" فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ" (آل عمران، آية : 159).
ــ وقوله:" وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ" (الحشر، آية : 10).
ــ وقال صلى الله عليه وسلم:" قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش فهلم فصلوا عليه" .
ــ وقال صلى الله عليه وسلم:" ما من رجل مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه" .
والشفاعة للميت ـ أي الدعاء للميت بالمغفرة والرحمة ـ هي المقصود من هذه الصلاة أصالة، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الجنازة بإخلاص الدعاء للميت، فقد قال:" إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء" ، ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للميت في صلاة الجنازة، قوله صلى الله عليه وسلم:" اللهم أغفر له وأرحمه وعافه وأعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، وأغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار" .
وقال صلى الله عليه وسلم:" إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وقال: أخرت شفاعتي لأهل الكبائر" .
فالأستغفار للمؤمنين وما في معناه إنما ينفع إنفاذ الوعيد ظناً لا قطعاً لأنه دعاء، والدعاء قد لا يستجاب، إما لتخلف شرط وإما لوجود مانع، وإما لحكمة إلهية لا نعلمها، ولكن جانب الإجابة أرجح لقوة دلالة النصوص، والعمل بالراجح مطلوب شرعاً، فينبغي الحرص على الدعاء للمؤمنين بالمغفرة والرحمة، والاجتهاد في ذلك، فقد يعتق الله بدعائه كثيراً من أهل البلاء والمحنة في البرزخ أو في الآخرة، قال تعالى:" مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا" (النساء، آية : 85).
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعاً: اشفعوا تؤجروا( ).
والشفاعة الحسنة تشمل الشفاعة للناس في قضاء حوائجهم، والدعاء لهم بخير الدنيا والآخرة وغير ذلك، فمن شفع لينفع كان له نصيب من الأجر، ومن دعا لأخيه بظهر الغيب أمّن الملك على دعائه، وقال: ولك بمثل( ).

خامساً: إهداء القربات:
دلت النصوص الشرعية على أن الجزاء ثواباً أو عقاباً إنما يترتب على عمل الإنسان وعلى ما هو من آثار عمله.
ــ قال تعالى:" لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ" (البقرة، آية : 286).
ــ وقال تعالى:" وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا" (الأنعام، آية : 164).
ــ وقال تعالى:" إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ" (يس، آية : 12). أي نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم وآثارهم التي آثروها من بعدهم، فنجزيهم على ذلك، إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشر( ).
ــ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من سن في الإسلام سنة حسنة، فعمل بها من بعده، كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، فعمل بها من بعده، كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء( ).
ـ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً( ).
ـ وقال صلى الله عليه وسلم: لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل( ).
ـ وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له( ).
وأما عمل الآخرين وما نشأ عنه من آثار فإن مقتضى دلالة هذه النصوص عدم مؤاخذة الإنسان ه إن كان شراً، وعدم استحقاق ثوابه إن كان خيراً، وقد نص على هذا المعنى صراحة قوله سبحانه: " أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى" (النجم، آية : 38 ـ 39).
وهذه الآية الكريمة لا تعني أن الإنسان لا ينتفع بعمل غيره، وإنما تعني أن الإنسان لا يستحق عمل غيره( )، فظاهر الآية أن الإنسان ليس له إلا سعيه، وهذا حق، فإنه لا يملك ولا يستحق إلا سعي نفسه، وأما سعي غيره فلا يملكه ولا يستحقه، لكن هذا لا يمنع أن ينفعه الله ويرحمه به، كما أنه دائماً يرحم عباده بأسباب خارجة عن مقدورهم( )، وقد دلت النصوص الشرعية على مطلق الانتفاع بعمل الآخرين ومن ذلك ما رواه البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه أن سعد بن عبادة رضي الله عنه، توفيت أمه وهو غائب عنها فقال: يا رسول الله، إن أمي توفيت وأنا غائب عنها أينفعها شيء إن تصدقت به عنها؟ قال نعم. قال: فإنني أشهدك أن حائطي المخراف ، صدقه عليها . ومعنى نفع الميت بالصدقة عنه، تنزيله منزلة المتصدق، بحيث تقع الصدقة نفسها عن الميت ويكتب له ثوابها .
وهناك نصوص شرعية تدل على الانتفاع بعمل الآخرين في إسقاط هذه الحقوق إجمالاً وتفصيلاً، أما الدليل الإجمالي فيما رواه البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه، أن إمرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها، قال: نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ أقضوا الله فالله أحق بالوفاء ، والحديث وإن ورد على سبب خاص، وهو الحج إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب على المعتمد من أقوال أهل العلم، ولذلك قال ابن حجر: ويلتحق بالحج كل حق ثبت في ذمته، من كفارة أو نذر أو زكاة أو غير ذلك .
وأما الأدلة التفصيلية فمنها:
ــ عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من مات وعليه صيام صام عنه وليه" .
ــ وعن ابن عباس رضي الله عنه، قال: استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه، توفيت قبل أن تقضيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاقضيه عنها .
ــ وعن بريدة رضي الله عنه، قال: بينما أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت، قال: فقال: وجب أجرك، وردها عليك الميراث، قالت: يا رسول الله إنه كان عليها صوم شهر فأصوم عنها؟ قال: صومي عنها. قالت: إنها لم تحج قط، أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها . أما الحقوق التي للناس، كالدين فقد دل على الانتفاع بعمل الآخرين في إسقاطها النص والإجماع.
ــ أما النص فما رواه البخاري بسنده عن سلمه بن الأكوع، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بجنازة ليصلي عليها، فقال: هل عليه دين؟ قالوا: لا "فصلى عليه" ثم أتى بجنازة أخرى فقال: هل عليه من دين؟ قالوا: نعم، قال: صلوا على صاحبكم". قال أبو قتادة: عليّ دينه يا رسول الله فصلى عليه .
وأجمع المسلمون على أن قضاء الدين يسقطه من ذمة الميت، ولو كان من أجنبي، أو من غير تركته، .. وأجمعوا على أن الحي إذا كان له في ذمة الميت حق من الحقوق فأحله منه أنه ينفعه ويبرأ منه، كما يسقط من ذمة الحي ، ومن كل ما سبق يتبين أن النصوص الشرعية دلت على جواز إهداء القربات في الجملة ، وأن الميت يمكن أن ينتفع بكل ما يهدى إليه من قربات عدا القربات التي يتعين أن يفعلها العبد بنفسه، كالإيمان والتوبة .

سادساً: الشفاعة في أهل الكبائر:
الشفاعة المقبولة يمكن أن تمنع إنفاذ وعيد المعين من أهل الكبائر ظناً لا قطعاً والشفاعة المقبولة هي التي انتظمت فيها شروط القبول، وهي ثلاثة:
ــ إذن الله في الشفاعة ودليله قوله تعالى:" مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ" (البقرة، آية: 255).
ــ رضاه عن الشافع ودليله قوله تعالى:" يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ  الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا" (طه، آية : 109). أي إلا شفاعة من أذن له الرحمن .
ــ رضاه عن المشفوع له، ودليله قوله تعالى:" وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى" (الأنبياء، آية : 28). وأهل رضا الله هم أهل التوحيد، ولو كانوا أهل كبائر .
وقد دل على هذه الشروط مجتمعة قوله تعالى:" وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا  تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى" (النجم، آية : 26)، أي الشافع والمشفوع له .

سابعاً: المصائب المكفرة:
المصائب اسم جامع للآلآم التي تلحق بالإنسان نفسية كانت أو عضوية وهذه الآلآم   إما أن تكون قدرية وإما أن تكون شرعية، أما الآلآم القدرية فتنقسم باعتبار المكان الذي تقع فيه إلى ثلاثة أقسام:
ــ آلام دنيوية، كنقص الأموال والأنفس والثمرات.
ــ آلام برزخية، وهي ما يكون في القبر من الفتنة والضعطة والروعة.
ــ آلام أخروية، وهي ما يكون في عرصات القيامة من الأهوال والكربات والشدائد .
وقد دلت النصوص الشرعية بعمومها على أن هذه الآلآم مما يكفر الله به الخطايا ومن هذه الأدلة:
ــ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفرّ الله بها عنه، حتى الشوكة يشاكها" .
ــ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما يصيب المسلم من نصب  ولا وصب  ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفرّ الله بها عن خطاياه" .
ــ وقال صلى الله عليه وسلم:" ما من مسلم يصيبه أذى مرض فما سواه، إلا حط الله له سيئاته كما تحط الشجرة ورقها" .
ــ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم" .
ــ وقد ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن نفس المصائب مكفرات ومثيبات، واستدلوا بقول الله تعالى:" ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ" (التوبة، آية : 120).
فرتب الله سبحانه الأجر على جملة أمور، منها ما هو من المصائب، كالنصب، فدل ذلك على أن الإنسان يؤجر على المصائب نفسها ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة .
إن ما يحصل للمؤمن في الدنيا والبرزخ والقيامة من الآلآم التي هي عذاب، فإن ذلك مما يكفر به خطاياه .
وأما الآلآم الشرعية فهي الحدود والتعزيرات لأنها زواجر وجوابر معاً، أما إنها زواجر عن ارتكاب المحظورات وترك المأمورات، فالأمر فيها ظاهر، ولذا قال الله تعالى في الزانية والزاني:" وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ" (النور، آية : 2)، وذلك للتغليظ في زجرهما عن المعاودة، ولزجر الناس عن فعلهم، وأما إنها جوابر بمعنى أن مجرد فعلها مكفر لذنب المعاقب دون حاجة إلى مكفر آخر فدليله ما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس، فقال:" تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق، فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله عليه فأمره إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن  شاء عذبه.
فدل الحديث على أن العقاب مكفر للذنب بمجرد فعله وهذا يعم العقوبات الشرعية المقدرة وهي: الحدود، وغير المقدرة وهي التعزيرات .

ثامناً: العفو الإلهي:
دلت النصوص الشرعية المتواترة دلالة قطعية على أن الله تعالى عفو غفور، يتجاوز عما يستحقه المذنبون من العقاب منها:
ــ قوله تعالى:" وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ" (الرعد، آية : 6).
ــ وقال تعالى:" وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ" (الشورى، آية : 25).
ــ وقوله تعالى:" وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ" (الشورى، آية : 30).
ــ وقوله تعالى:" إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ" (الحج، آية : 60).
ــ وقوله تعالى:" إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا" (النساء، آية : 43).
وهذه النصوص، وما في معناها، تدل قطعاً على أن العفو الإلهي من موانع إنفاذ الوعيد ، ولكن لا يمكن أن يمنع إنفاذ وعيد الكفر قطعاً، ودليل هذا الأصل القرآن والسنة، فالقرآن الكريم يقول:" إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ" (النساء، آية : 48).
وقال تعالى:" إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ" (المائدة، آية : 72).
وأما السنة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار" .
ولا خلاف بين المسلمين أن المشرك إذا مات على شركه لم يكن من أهل المغفرة .
والعفو الإلهي يمكن أن يمنع إنفاذ وعيد أهل الكبائر، قال تعالى:" إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء" (النساء، آية : 48)، أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرته شركاً بالله .
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه ، فيقرره بذنوبه فيقول: هل تعرف؟ فيقول: أي ربي أعرف، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم" ..
وعن أنس رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة" .
 

المبحث الرابع: الجنة:
أولاً: الطريق إلى الجنة:
إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن تتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها حيث قال:" وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ" (الذاريات، آية : 56، 57).
ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ورازقهم، وفي الحديث القدسي:" يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك" .
فالله عز وجل ما خلق العباد إلا لغاية واحدة وهي أن يعبدوه سبحانه وهذا يقتضي أن يحرص العبد أن تكون كل أعماله بل كل حياته عبادة لله تعالى :" قُلْ إِنَّ صَلاَتِي  وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" (الأنعام، آية : 162، 163).
والعبادة الشاملة المطلوبة هي ألا تتقدم بين يدي الله ورسوله بقول أو فعل تفعله من عند نفسك، قبل أن تعلم حكم الله وحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فيه، قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (الحجرات، آية : 1).
فمن العبادة هي المتابعة التامة لكل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال، مع الإخلاص في ذلك لله رب العالمين .
فالمتابعة التامة للنبي صلى الله عليه وسلم هي الكفيلة بتحقيق منزلة العبودية التامة لله رب العالمين، مع الوفاء بحاجتنا البشرية على أكمل وجه ممكن .
ولابد لدخول الجنة من عمل، فالعمل ركن من أركان الإيمان، وقد نص الله تعالى في مواضع كثيرة أن العمل سبب لدخول الجنان، كما قال تعالى:" وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي  أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (الزخرف، آية : 72).
ــ وقال تعالى:" وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (الأعراف، آية : 43).
والقرآن يذكر كثيراً أن أصحاب الجنة هم المؤمنون الذين يعملون الصالحات، فالإيمان هو ما في القلب، والعمل الصالح هو ما ظهر على الجوارح، فهو جمع بين العقيدة والشريعة أو الإيمان والإسلام، أو عمل الباطن (القلب) وعمل الظاهر (الجوارح) فلا يكفي أحداهما عن الآخر، فمن آمن ولم يعمل فهو كاذب في إيمانه إذ لو آمن حقاً لظهر على جوارحه أثر الإيمان بالأعمال الصالحة، ومن عمل الصالحات من غير إيمان فإنها لا تنفعه، إذ شرط قبول الأعمال تقدم الإيمان، كما في حديث عائشة قالت: قلت يا رسول الله ابن جدعان كان في الجاهلية يصل رحمه ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال: لا ينفعه إنه لم يقل يوماً رب أغفر لي خطيئتي يوم الدين ، وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطي بها في الدنيا، ويجزي بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها .
إذن لابد للجنة من إيمان وعمل صالح، فمن كان عنده هذان الشرطان استحق بعد ـ رحمة الله ـ الجنة ، قال تعالى:"وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة، آية : 82).
ــ وقال تعالى:"إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (الأحقاف، آية : 13، 14).
وقد فصل لنا الله تعالى بعض أنواع الأعمال الصالحة، فمن ذلك:
1ـ التوبة: قال تعالى:"فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا" (مريم، آية : 59، 60).
2ـ تزكية النفس: قال تعالى:" جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى" (طه، آية : 76).
3ـ التقوى: قال تعالى:" تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا" (مريم، آية : 63).
4ـ الصبر في البأساء والضراء: قال تعالى:" أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ" (البقرة، آية : 214).
5ـ الجهاد في سبيل الله: قال تعالى:" أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ" (آل عمران، آية : 142).
وقال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" (الصف، آية : 10، 12).
6ـ الشهادة: قال تعالى:" وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ *  سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ" (محمد، آية : 4، 6).
7ـ الابتعاد عن الكبائر: قال تعالى:" إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا" (النساء، آية : 31).
8ـ إقام الصلاة والإنفاق في سبيله تعالى: قال تعالى:" وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ" (الرعد، آية : 22، 24).
9ـ التوكل على الله: قال تعالى:" وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" (العنكبوت، آية : 58، 59).
10ـ قيام الليل: قال تعالى:" تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (السجدة، آية : 16، 17).
وقال تعالى:" إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ *  وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ" (الذاريات، آية : 15، 19).
11ـ خوف الله: قال تعالى:" وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى" (النازعات، آية : 40، 41).
وهذه بعض الآيات التي جمعت الكثير من الأعمال الصالحة .
ــ من سورة المؤمنون:
قال تعالى:" قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (المؤمنون، آية : 1، 11).
ــ من سورة الفرقان:
قال تعالى:" وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا * وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا" (الفرقان، آية : 63، 76).
ــ من سورة التوبة:
قال تعالى:" إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ  *التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ" (التوبة، آية : 111، 112).
ــ من سورة ق:
قال تعالى:" وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ  * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ" (ق، آية : 31، 35).
ــ من سورة المعارج:
قال تعالى:"إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ" (المعارج، آية : 22، 35).
ــ من سورة آل عمران:
قال تعالى:" وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ" (آل عمران، آية : 133، 136).
وعموماً فكل طاعة لله ورسوله هي من الأعمال الصالحة وهي سبب لدخول الجنة، قال تعالى:" وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا" (الفتح، آية : 17).
وهذا في القرآن كثير، ومداره على ثلاث قواعد: إيمان، وتقوى، وعمل خالص لله على موافقة السنة، فأهل هذه الأصول الثلاثة هم أهل البشرى دون عداهم من سائر الخلق، وعليها دارت بشارات القرآن والسنة جميعها تجتمع في أصلين:
إخلاص في الطاعة، وإحسان إلى خلقه، وضدها يجتمع في الذين يراؤن، ويمنعون الماعون، وترجع إلى خصلة واحدة وهي موافقة الرب تبارك وتعالى في محابه، ولا طريق إلى ذلك إلا تحقيق القدوة ظاهراً وباطناً برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما الأعمال التي هي تفاصيل هذا الأصل، فهي بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وبين هاتين الشعبتين سائر الشعب التي مرجعها تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر، وطاعته في جميع ما أمر استحباباً وإيجاباً .
وأما الأعمال التي هي سبب لدخول الجنة الواردة في السنة فالأحاديث فيها أكثر من أن تحصر .

ثانياً: هل الجنة ثمناً للعمل:
الأعمال لاشك أنها سبب لدخول الجنة، ولكن الجنة أعظم من أعمالنا، ولا يمكن لأعمالنا أن تدرك بذاتها الجنة، لذلك فإن الله برحمته يدخل المؤمنين الجنة ويجعلها من نصيبهم مع تقصيرهم في العمل لها، وكيف لهم أن يدركوا هذا الفضل وأصل هدايتهم إلى العمل الصالح من الله، قال تعالى: " وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ" (الأعراف، آية : 43).
ثم إن الله تعالى يكرمهم ويجازيهم على هذه الهداية ـ التي أعطاهم إياها ـ بجزاء عظيم جداً وهي الجنة، فكيف يمكن لأعمالهم أن تدرك هذا الجزاء الذي الفضل فيه لله أولاً وآخراً( )، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة من فضله( )،" وعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لن يُدْخِلَ الجنة عمله( )، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة، واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل( ). وعن جابر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل أحداً منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار ولا أنا إلا برحمة من الله( )، وهو حديث متواتر( ).
وأما قوله تعالى: " وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (الأعراف، آية : 43)، وقوله: " فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (السجدة، آية : 17)، فلا تعارض بينها وبين الحديث لأن الآية تدل على أن العمل سبب، والحديث يدل أن الأعمال ليست ثمناً للجنة ولابد من رحمة الله تعالى حتى يبلغوا هذا العطاء العظيم( ).

ثالثاً: أول وآخر من يدخل الجنة:
قال تعالى: "وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ" (الواقعة، آية : 10 ـ 12)؟
السابقون هم المبادرون إلى فعل الخيرات، فالسابقون إليها في الحياة الدنيا هم السابقون إلى الجنة في الحياة الآخرة، ثم يلي السابقين أصحاب اليمين الأبرار الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، منزلتهم دون المقربين، فهم أقل درجة في النعيم من السابقين( ).
قال تعالى: "وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَاء مَّسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ" (الواقعة، آية : 27 ـ 40)، ولا شك أن رسولنا محمداًالله صلى الله عليه وسلم أول السابقين، وأنه أول من تفتح له الجنة، وتدخل أمته بعده، وهي أول الأمم دخولاً الجنة، وقد دل على ذلك أحاديث كثيرة منها( ):
ـ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة وأنا أول من يقرع باب الجنة( ).
ـ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك"( ).
ــ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة ، وأما آخر من يدخل الجنة، فقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً عن ذلك، فقال: إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها وآخر أهل الجنة دخولاً، رجل يخرج من النار حبواً، فيقول الله: اذهب فأدخل الجنة، فيأتيها فيُخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا ربّ وجدتها ملأى فيقول: اذهب فأدخل الجنة، فيأتيها فيُخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثل عشرة أمثال الدنيا، فيقول: تسخر مني أو تضحك مني، وأنت الملك؟ قال الراوي عبد الله بن مسعود: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ضحك حتى بدت نواجذه، وكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة" .

رابعاً: الذين يدخلون الجنة بغير حساب:
أول زمرة تدخل في هذه الأمة الجنة هم القمم الشامخة في الإيمان والتقى والعمل الصالح والاستقامة على الدين الحق يدخلون الجنة صفاً واحداً، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، صورهم على صورة القمر ليلة البدر، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر ، لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون ولا يتغوطون، آنيتهم فيها الذهب، أمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم قلب رجل واحد، يسبحون بكرة وعشيا" .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أعطيت سبعين ألفاً من أمتي يدخلون بغير حساب، وجوههم كالقمر ليلة البدر، قلوبهم على قلب رجل واحد، فاستزدت ربي عز وجل فزادني مع كل واحد سبعين ألفاً" .
وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم السبعين ألفاً الأوائل وبيّن علاماتهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم:" عرضت عليّ الأمم فأخذ النبي يمر معه الأمة، والنبي يمر معه النفر، والنبي يمر معه العشرة، والنبي يمر معه الخمسة، والنبي يمر وحده، فنظرت فإذا سواد كثير. قال: هؤلاء أمتك وهؤلاء سبعون ألفاً قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب، قلت: ولم؟ قال: كانوا لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام إليه عكاشة بن محصن فقال: أدع الله أن يجعلنى منهم، قال: اللهم أجعله منهم، ثم قام إليه رجل فقال: أدع الله أن يجعلني منهم، قال سبقك بها عكاشة" .

خامساً: أسماء الجنة:
الجنة هي دار كرامة الله التي أعدها لعباده المتقين، ولها أسماء كثيرة فمنها:
1ـ الجنة: وهو الاسم المشهور لها، قال تعالى:" لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ
الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ" (الحشر، آية : 20).
2ـ جنة الخلد: قال تعالى:" قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيرًا" (الفرقان، آية : 15)، وسميت بذلك لخلود أهلها فيها.
3ـ جنة النعيم: قال تعالى:" وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ" (الشعراء، آية : 85)، وسميت بذلك لما فيها من النعيم المقيم الكريم.
4ـ جنة المأوى: قال تعالى:" عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى" (النجم، آية : 15). وسميت بذلك لأنها مأوى المؤمنين.
5ـ جنات عدن: قال تعالى:" جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ" (ص، آية : 50). فهي درجة من درجات الجنة.
6ـ دار السلام: قال تعالى:" لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" (الأنعام، آية : 127).
ــ وقال تعالى:" وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (يونس، آية : 25). وسميت بذلك لأمور منها:
ــ لأنها سالمة من كل المنغصات والمكدرات ومن كل بلية وافة.
ــ لأنها دار السلام، ومن أسمائه "السلام" كما قال تعالى:" هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ" (الحشر، آية : 23). فهي دار السلام، يعني دار الله، فهو سبحانه الذي سلمها وسلم أهلها.
ــ ولأن: "تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ" (إبراهيم، آية : 23)، "تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا" (الأحزاب، آية : 44).
ــ وأول ما تستقبلهم به خزنة الجنة هو السلام: " حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ" (الزمر، آية : 73). قال تعالى: " وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ" (الرعد، آية : 23 ـ 24) والرب يسلم عليهم من فوقهم " لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ" (يس، آية : 57 ـ 58).
ــ كلامهم فيها سلام، أي لا لغو فيها ولا فحش ولا باطل لا يقولونه ولا يسمعونه، وقال تعالى: " لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا" (مريم، آية : 62).
وقل تعالى: " لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا" (النبأ، آية : 35)، وقال تعالى: "لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا" (الواقعة، آية : 25 ـ 26).
7 ـ دار المتقين:
قال تعالى: "وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ" (النحل، آية : 30)، وسميت لأنهم أهلها.
8 ـ دار الآخرة:
قال تعالى: "وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ" (يوسف، آية : 109).
والغالب أن تذكر بلفظ التعريف للدار، فيقال: "الدار الآخرة".
ــ قال تعالى: "تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" (القصص، آية : 83).
9 ـ الحسنى:
قال تعالى: " لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ" (يونس، آية : 26) .
وقال صلى الله عليه وسلم: الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الرحمن .
10 ـ دار المقامة:
قال تعالى: "وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ
شَكُورٌ {34} الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا
فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ" (فاطر، آية : 34 ، 35). دار المقامة يعني دار الإقامة .
ولو توسعنا في هذا لذكرنا أسماء كثيرة مثل "المدخل الكريم" المأخوذ من قوله تعالى: "وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا" (النساء، آية : 11) "وَحُسْنَ المَآبٍ" المأخوذ من قوله تعالى: "هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ" (ص، آية : 49 ، 50) .
11 ـ الفردوس:
قال الله تعالى: " وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ {9} أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (المؤمنون، آية 10 ، 11).

سادساً: صفة الجنة:
مهما كتب الكتّاب والأدباء، وتخيّل المتخيلون، وأبدع المبدعون وصفاً للجنة، فلن نجد مثل وصف القرآن الكريم ونبيه الكريم لحقيقتها، فقد وصفها الله عز وجل بأمور منها:
1 ـ أبواب الجنة:
ــ قال تعالى: "هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ" (ص، آية : 49 ، 50).
ــ وقال تعالى: "وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ" (الرعد، آية : 23 ـ 24).
ــ وقال تعالى: " وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ" (الزمر، آية : 73).
ــ وقال صلى الله عليه وسلم: "في الجنة ثمانية أبواب، فيها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون" .
ــ وقال صلى الله عليه وسلم: "من قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق، أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء .
ــ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنفق زوجين  في سبيل الله نُودي في الجنة يا عبد الله، هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، قال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، ما على أحد يُدعى من تلك من ضرورة، فهل يُدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، وأرجو أن تكون منهم .
2 ـ قصور الجنة وخيامها:
لقد بنى الله سبحانه في الجنة مساكن طيبة للإقامة المطمئنة الخالدة، وقد سمي الله عز وجل في مواضع من كتابه العزيز هذه المساكن بالغرفات، وهي القصور التي من فوقها غرف مبنية محكمة مزخرفةح  عالية، كما أن الغرفة أكرم من البهو فيما اعتاد الناس في البيوت في هذه الحياة الدنيا عندما يستقبلون الضيوف، وأن في الجنة خياماً عجيبة فهي من درة مجوفة وفي ذلك يقول سبحانه في آيات كثيرة منها:
ــ قال تعالى: "وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" (التوبة، آية " 72).
ــ قال تعالى: " وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ" (سبأ، آية : 37).
ــ وقال تعالى: "أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا" (الفرقان، آية 75 ـ 76).
ــ وقال تعالى: " لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي
مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ" (الزمر، آية : 20).
ــ وقوله سبحانه في خيامة الجنة:" حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ" إشارة إلى معنى في غاية اللطف، وهو أن المؤمن في الجنة لا يحتاج إلى التحرك لشيء، وإنما الأشياء تتحرك إليه، فالمأكول والمشروب يضل إليه من غير حركة منه ويطاف عليهم بما يشتهونه، فالحور يكنّ في بيوت ـ والعرب يمدحون النساء الملازمات للبيوت للدلالة على شدة الصيانة ، وعند الإنتقال إلى المؤمنين في وقت إرادتهم تسير بهم للارتحال إلى المؤمنين خيام، وللمؤمنين قصور تنزل الحور من الخيام إلى القصور ، وقد وصف رسولنا صلى الله عليه وسلم، قصور الجنة، حين دلنا على صفات بعض قصور أصحابه، فقال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدم أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتْك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني وبشرّها ببيت في الجنة من قَصَب ، ولا صخب  فيه ولا نصب" .
ـ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دخلت الجنة فرأيت فيها داراً أو قصراً، فقلت، لمن هذا؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فأردت أن أدخل فذكرت غيرتك، فبكى عمر وقال: أي رسول الله، أو عليك يغار .
وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم خيام الجنة بأنها درة مجوفة طولها في السماء ثلاثون ميلاً، عن أبي بكر الأشعري عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ثلاثون ميلاً، في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون .
3ـ أشجار الجنة وثمارها:
وصفت الجنة بأنها البستان المحفوف بالشجر، المتكاثف بالأعناب والنخيل والرمان، حيث الجمال الرائع والأشجار المتدانية القطوف الوفيرة الأثمار وقد حفل القرآن الكريم بشواهد لهذا الصنف من الخير والجمال، فقال تعالى:" إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا" ( النباء، آية : 31 ـ 32).
وإلى جانب هذه الحدائق والأعناب هناك فاكهة كثيرة متنوعة ومنها ثمر النخيل والرمان " فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ" ( الرحمن، آية : 68) كما أن من أشجار الجنة السدر المخضود الذي لا شوك فيه، بخلاف سدر الدنيا، فإنه كثير الأشواك، قليل الثمر، وفي الآخرة على العكس، وأن من أشجار الجنة الطلح المنضود الذي هو يشبه طلح الدنيا، ولكن له ثمر أحلى من العسل، وأنه متراكم الثمر ، وقال تعالى:" وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ  مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَاء مَّسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ" ( الواقعة، آية : 27ـ 33 ).
وفواكه الجنة لا تحجب عن مؤمن فضلاً عن كل معين يطلبه، وإذا كان قد ذكر بعض أنواع الفواكه فإن ما يحبه المؤمن من فاكهة يعرفها، له أن يدعو ليجد بغيته أمامه، قال تعالى:"مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ" ( ص ، آية: 51) وقال:" وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ" (الواقعة، آية: 20).
ـ وقال تعالى:" إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" ( المرسلات، آية : 41 ـ 43).
وأشجار الجنة دائمة العطاء، فهي ليست كأشجار الدنيا تعطي في وقت دون وقت، وفصل دون فصل، بل هي دائمة الإثمار والظلال، وهي نعمة تطمئن لها النفس وتستريح ، قال تعالى:" مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ" (الرعد، آية : 35).
وقال سبحانه:" وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ" (الواقعة، آية: 32 ـ 33).
ووصف الله عز وجل أشجار الجنة بأنها ذات أغصان جميلة وأنها شديدة الخضرة، وأن ثمارها قريبة دانية مذللة ينالها أهل الجنة بيسر وسهولة .
ــ قال تعالى:" وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان * ذَوَاتَا أَفْنَانٍ" ( الرحمن، آية : 46 ـ 48).
ـ وقال عز وجل:"وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان * مُدْهَامَّتَانِ" (الرحمن، آية : 62 ـ 64).
ـ وقال سبحانه:"مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ" (الرحمن، آية: 54).
ــ وقال:" فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ" ( الحاقة، آية : 22ـ 23).
ولقد وصف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعض أشجار الجنة بأوصاف عجيبة .
أــ الشجرة التي يسير الراكب فيها مائة عام:
وهي الشجرة التي ذكرت في قوله سبحانه:" وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ "، وقد فسره النبي صلى الله فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة شجرة الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها" واقرأوا إن شئتم:" وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ" ، وعن سهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها .
ب ــ سدرة المنتهى:
قال تعالى: "وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى" (النجم، آية : 13 ـ 18).
وقال تعالى: "فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ" (الواقعة، آية : 28 ـ 30)، فذكر في هذه الآيات ثلاث أنواع من الأشجار منها السدر، وفي قوله: "فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ" مخضود أي منزوع الشوك ، وورد عن ابن عباس وغيره أنه قال: هو الموقر بالثمر ، أي المليء بالثمر، والظاهر أن المراد هذا وهذا، فإن سدر الدنيا كثير الشوك قليل الثمر، وفي الآخرة العكس من هذا، الأشواك فيه وفيه الثمر الكثير الذي قد أثقل أصله .
ج ـ شجرة طوبى: ومن أشجار الجنة شجرة تسمى "طوبى" وهي كما تبين من وصفها شجرة عظيمة تصنع ثياب أهل الجنة، فعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال له: يا رسول الله، طوبى لمن رآك وآمن بك، قال: طوبى لمن رآني وآمن بي، ثم طوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرآني. وقال له رجل: وما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة، مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها .
وجميع أشجار الجنة لها ظل ظليل،، كما قال سبحانه: " وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً" (النساء، آية : 57)، والمؤمن يكثر حظه من أشجار الجنة بالإكثار من سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد، أقرئ أمتك أن الجنة أرض طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان وأن غرسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر .
وسيقان أشجار الجنة من ذهب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب .
فالجنة خالدة لا تفنى ولا تبيد، وأنواع نعيمها دائمة لا تنقطع ولا تمنع، وأهلها فيها خالدون، لا يرحلون عنها ولا يظعنون، ولا يبيدون ولا يموتون .
ــ قال تعالى: "وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً" (النساء، آية : 122).
ــ وقال عز وجل: " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا" (الكهف، آية : 107 ـ 108).
ــ وقال سبحانه: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلًا مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" (الدخان، آية : 51 ـ 57).
4 ـ درجات الجنة:
ــ قال تعالى: " وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى" (طه، آية : 75).
والجنة درجات متفاضلى تفاضلاً عظيماً وأولياء الله المتقون في تلك الدرجات بحسب إيمانهم وتقواهم.
ــ قال تبارك وتعالى: "مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ
جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا * كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً" (الإسراء، آية : 18 ـ 21)، فبين الله سبحانه وتعالى أنه يمد من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة من عطائه، وأن عطاءه ما كان محظوراً من بر ولا فاجر، ثم قال: " انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً" (الإسراء، آية : 21)، فبين الله سبحانه أن أهل الآخرة يتفاضلون فيها أكثر مما يتفاضل الناس في الدنيا وأن درجات الآخرة أكبر من درجات الدنيا .
وتفاضل أنبيائه عليهم السلام كتفاضل سائر عباده المؤمنين، قال تعالى: " تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ" (البقرة، آية : 253).
وقال تعالى: "هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ" (آل عمران، آية : 163)، وهذه الدرجات تختلف باختلاف العمل، فكلما كان عمل الإنسان أكثر وموافقاً للسنة كان أجره أكثر ودرجته في الجنة أعلى قال تعالى: "وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ" (الأحقاف، آية : 19).
وأهل الدرجات العاليات يكونون في نعيم أرقى من الذين دونهم فقد ذكر الله أنه أعد للذين يخافون جنتين: "وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ" (الرحمن، آية : 46)، ووصفهما ثم قال: "وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ" (الرحمن، آية : 62)، أي دون تلك الجنتين في المقام والمرتبة، ومن تأمل صفات الجنتين اللتين ذكرهما الله آخراً، علم أنهما دون الأوليين في الفضل، فالأوليات للمقربين، والأخريات لأصحاب اليمين، قال القرطبي: لما وصف الجنتين أشار إلى الفرق بينهما، فقال في الأوليين "فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ" (الرحمن، آية : 50).
وقال في الأخريين: " فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ" (الرحمن، آية : 66) أي فوارتان بالماء، ولكنهما ليستا كالجاريتين، لأن النضخ دون الجري، وقال في الأوليين: "فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ" (الرحمن، آية : 52) معروف وغريب، رطب ويابس، فعم ولم يخص، وفي الأخريين: " فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ" (الرحمن، آية : 68)، ولم يقل من كل فاكهة زوجان.
وقال في الأوليين: " مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ" (الرحمن، آية : 54) وهو الديباج.
وقال في الأخريين: "مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ" (الرحمن، آية : 76)، والعبقري الوشي، ولا شك أن الديباج أعلى من الوشي، والرفرف كسر الخبا، ولا شك أن الفرش المعدة للاتكاء فيها أفضل من الخبا،
وقال في الأوليين في صفة الحور العين: " كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ" (الرحمن، آية : 58).
وفي الأخريتين: "فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ" (الرحمن، آية : 70).
وليس كل حسن كحسن الياقوت والمرجان.
وقال في الأوليين: "ذَوَاتَا أَفْنَانٍ" (الرحمن، آية : 48)، وفي الأخريين: "مُدْهَامَّتَانِ" (الرحمن، آية : 64) أي خضروات كأنهما من شدة خضرتهما سوداوان، ووصف الأوليين بكثرة الأغصان والأخريين بالخضرة وحدها .
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم درجات الجنة فقال صلى الله عليه وسلم: "إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءَون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قالوا: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين .
وأعلى درجات الجنة هي الفردوس الأعلى، وقد ذكرها الله سبحانه في كتابه في قوله تعالى: "أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (المؤمنون، آية : 10 ـ 11)، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم منزلة هذه الدرجة، فقال صلى الله عليه وسلم: من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة، وصام رمضان كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها، فقالوا: يا رسول الله أفلا نبشر الناس؟ قال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة قال راوي الحديث أبو هريرة رضي الله عنه: فوق عرش الرحمن ومنه تضج أنهار الجنة .
والمقصود بـ"أوسط الجنة" أي عرضاً و"أعلى الجنة" أي طولاً، فهذا يدل أن الفردوس على مثل الربوة أو القبة، ويدل أن الجنة مقببة . قال ابن كثير: ولا تكون هذه الصفة إلا في المقبب، فإن أعلى القبة هو أوسطها، فالجنة والله أعلم كذلك .
وأعلى درجات الفردوس هي الوسيلة، وهي منزلة لشخص واحد فقط هو نبينا صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقالوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الوسيلة حلت له الشفاعة .
5 ـ أنهار الجنة:
قال تعالى: " وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ" (البقرة، آية : 25).
ــ وقال تعالى: " أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ" (الكهف، آية : 31).
وأنهار الجنة ليست ماء فحسب، بل منها الماء، ومنها اللبن ومنها الخمر، ومنها العسل المصفى، قال تعالى:" مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى......" (محمد، آية : 15).
وذكر سبحانه هذه الأجناس الأربعة ونفى عن كل واحد منها الآفة التي تعرض له في الدنيا، فآفة الماء أن يأسن ويأجن من طول مكثة، وآفة اللبن أن يتغير طعمه إلى الحموضة وأن يصير قارصاً، وآفة الخمر كراهة مذاقها المنافي للذة شرابها وآفة العسل عدم التصفية ، وتأمل اجتماع هذه الأنهار الأربعة التي هي أفضل أشربة الناس، فهذا لشربهم وطهورهم ـ وهو الماء ـ وهذا لقوتهم وغذائهم ـ وهو اللبن ـ وهذا للذتهم وسرورهم ـ وهو الخمر ـ وهذا لشفائهم ومنفعتهم ـ وهو العسل .
ومن أنهار الجنة نهر الكوثر، قال تعالى:" إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ"، فعن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هو نهر في الجنة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: رأيت نهراً في الجنة حافتاه قباب اللؤلؤ، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاكه الله .
6 ــ عيون الجنة:
في الجنة عيون كثيرة مختلفة الطعم واللذة قال تعالى:" إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ" ( الحجر، آية : 45 ـ 46).
وقال تعالى:" إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ" (الدخان، آية : 51 ـ 52).
وبعض هذه العيون يخرج ماؤها ثم يجري على أرض الجنة، قال تعالى:" فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ" (الغشاية، آية : 12) وقال في وصف الجنتين اللتين أعدهما لمن خاف مقام ربه، قال تعالى:" فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ" (الرحمن، آية : 50).
وقال سبحانه في وصف الجنتين اللتين دونهما:" فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ" (الرحمن، آية : 66). والنضخ فوران الماء وهو أبلغ من النضح، وقد ذكر الله تعالى لنا أسماء ثلاثة منها وهي:
أ ــ عين الكافور:
قال تعالى:" إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا" (الإنسان، آية : 5 ـ 6) فالأبرار يشربون ماء ممزوجاً بالكافور، بينما يشربه عباد الله المقربون صرفاً لا خلط فيه ، وقد علم ما في الكافور من التبريد والرائحة الطيبة مع ما يضاف إلى ذلك من اللذاذة في الجنة .
ب ــ عين السلسبيل:
قال تعالى:" وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا" (الإنسان، آية : 17 ـ 18) أي ويسقون ـ يعني الأبرار ـ أيضأ من هذه الأكواب "كَأْسًا" أي خمراً " كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا" فتارة يمزج لهم الشراب بالكافور وهو بارد وتارة بالزنجبيل وهو حار ليعتدل الأمر، وهؤلاء يمزج لهم من هذا تارة ومن هذا تارة وأما المقربون فإنهم يشربون من كل منها صرفاً كما قاله قتادة وغير واحد .
وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت قائماً عند رسول اله صلى الله عليه وسلم فجاء حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد، فدفعته دفعة كاد يصرع منها، فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول يا رسول الله، فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي فقال اليهودي: جئت أسألك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينفعك شيء إن حدثتك؟ قال: أسمع بأذني، فنكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه فقال "سل". فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم في الظلمة دون الجسر، قال فمن اول الناس إجازة؟ قال فقراء المهاجرين"، قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: زيادة كبد النون، قال: فما غذاؤهم على إثرها، قال: ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها، قال: فما شرابهم عليه؟ قال: من عين فيها تسمى سلسبيلا، قال: صدقت. قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان، قال: ينفعك إن حدثتك؟ قال: أسمع بأذني، قال: جئت أسألك عن الولد، قال: ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فَعَلا مني الرجل مني المرأة أذكراً بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثاً بإذن الله قال اليهودي: لقد صدقت وإنك لنبي، ثم انصرف فذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه ومالي علم بشيء منه حتى أتاني الله به .
ج ــ عين التسنيم:
قال تعالى:" إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ*عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ*تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ*يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ*خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ*وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ*عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ" (المطففين، آية : 22 ـ 28).
قال ابن عباس: تسنيم: أشرف شراب أهل الجنة، وهو صرف للمقربين ويمزج لأصحاب اليمين .
7 ــ نور الجنة:
والجنة لها نور كما قال تعالى:" لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا" (مريم، آية : 62).
في قوله "وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا": أي في مثل وقت البكرات ووقت العشيات، لا أن هناك ليلاً ونهاراً، ولكنهم في أوقات تتعاقب يعرف مضيها بأضواء وأنوار .
وقد قال تعالى:"مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا" (الإنسان، آية : 13): والجنة ليس فيها شمس ولا قمر، ولا ليل ولا نهار، لكن البكرة والعشية تعرفان بنور يظهر من قبل العرش . وقال القرطبي: قال العلماء: ليس في الجنة ليل ونهار، وإنما هم في نور دائم، وإنما يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب، ذكره أبو الفرج ابن الجوزي . وتربة الجنة بيضاء كما جاء ذلك مصرحاً به في الحديث، فعن أبي سعيد الخدري ان النبي صلى الله عليه وسلم سأل ابن صائد عن تربة الجنة فقال: درمكة بيضاء مسك خالص، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق . درمكة البيضاء: هي الدقيق الأبيض .
8 ــ ريح الجنة:
للجنة رائحة عبقة زكية تملأ جنباتها، وهذه الرائحة يجدها المؤمن من مسافات شاسعة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل رجلاً من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً.
9 ــ تربة الجنة:
عن أبي هريرة قال: قلت يا رسول الله، مم خلق الخلق؟ قال: من ماء. قلنا: الجنة ما بناؤها؟ قال: لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها الدر الياقوت، وتربتها الزعفرانه، من يدخلها ينعم ولا يبأس ويخلد ولا يموت، ولا يبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدخلت الجنة، فإذ فيها جنادل اللؤلؤ وإذا ترابها المسك .
10 ـ دواب الجنة وطيورها:
في الجنة دواب وطيور كثيرة، يركبها أهل الجنة ويأكلون منها ويتمتعون بالنظر إليها قال تعالى:" يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا" (مريم، آية : 85).
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا والله ما على أرجلهم يحشرون، ولا يحشر الوفد على أرجلهم، ولكن بنوق لم ير الخلائق مثلها، عليها رحائل من ذهب فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة ، وقد ثبت عن عبد الله بن عمرو ـ وهو ما له حكم الرفع ـ أن في الجنة إبلاً وخيلاً، حيث قال: في الجنة عتاق الخيل وكرائم النجائب، ويركبها أهلها .
وعن أبي مسعود الأنصار رضي الله عنه قال جاء رجل بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لك بها يوم القيامة سبع مائة ناقة كلها مخطومة ، وهذه الرواية لم تنص أنها في الجنة، ولكن جاءت راوية أخرى لهذا الحديث عند الحاكم بزيادة "في الجنة" حيث قال صلى الله عليه وسلم: لك بها سبعمائة ناقة مخطومة في الجنة ، وقال تعالى:" وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ" (الواقعة، آية : 21) أي يأكلون من لحم طير يشتهونه، وعن أنس بن مالك قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الكوثر؟ قال: ذاك نهر أعطانيه الله ـ يعني في الجنة ـ أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، فيها طير أعناقها كأعناق الجزر، قال عمر: إن هذه لناعمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكلتها أحسن منها .
11 ــ الجنة لا مثل لها وأنها فوق ما يخطر بالبال أو يدور في الخيال:
قال تعالى:" فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (السجدة، آية : 17).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت وأذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فاقرءوا إن شئتم " فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ" .
ولمن دخل الجنة ما يشاء من النعيم، وله كل يتمنى ويطلب، بل له فوق هذا بكثير قال تعالى:" وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ*جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ" (النحل، آية : 30 ـ 31) وقال تعالى:" لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ" (ق، آية : 35).
وما الظن بمكان موضع السوط أو القوس فيه خير من الدنيا وما فيها، فعن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: موضع السوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقاب قوس في الجنة خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب وقال: لغدوة أو روحة في سبيل الله خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب .
وما الظن بمكان الغمسة الواحدة فيه تنسى المعذَّب كل عذابه وشقائه في الدنيا، فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يُوتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط، هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط، هل مر بك شدة قط؟ فيقول؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط .

سابعاً: أصحاب الجنة:
أصحاب الجنة هم المؤمنون الموحدون الذين يعملون الصالحات مع اخلاص عظيم لله عز وجل واستقامة على شريعته، ووفاء بعهودهم وعدم نقضهم لها ووصلهم ما أمر الله بوصله، وخشيتهم لله وخوفهم من سوء العذاب، وصبرهم لله وإقام الصلاة، والانفاق سراً وعلانية، ودرئهم بالحسنة السيئة قال تعالى:" أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ*الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ*وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ*وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ*جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ*سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ" (الرعد، آية : 19 ـ 24) .
والجنة درجة عالية، والصعود إلى العلياء يحتاج إلى جهد كبير وطريق الجنة فيه مخالفة لأهواء النفوس ومحبوباتها وهذا يحتاج إلى عزيمة ماضية وإرادة قوية، قال صلى الله عليه وسلم: حجبت النار بالشهوات وحجبت الجنة بالمكاره ، وهذا من بديع الكلام وفصيحة وجوامعه التي أوتيها صلى الله عليه وسلم من التمثيل الحسن، ومعناه لا يوصل الجنة إلا بإرتكاب المكاره والنار بالشهوات وكذلك هما محجوبتان بهما فمن هتك الحجاب وصل المحجوب، فهتك حجاب الجنة باقتحام المكاره، وهتك حجاب النار بارتكاب الشهوات، فأمَّا المكاره فيدخل فيها الاجتهاد في العبادة، والمواظبة عليها، والصبر على مشاقها، وكظم الغيظ، والعفو، والحلم، والصدقة والإحسان إلى المسيء، والصبر على الشهوات، ونحو ذلك .
1ــ معرفة أهل الجنة لمساكنهم:
قال تعالى:"....... وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ*سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ*وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ" أي إذا دخلوها يقال لهم: تفرقوا إلى منازلكم، فهم أعرف بمنازلهم من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم .
وقال رسو الله صلى الله عليه وسلم: يخلص المؤمنون من النار فيحسبون على قنطرة بين الجنة والنار فيقص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقّوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله كان في الدنيا .
2ــ هل الرجال اكثر في الجنة أم النساء؟
تخاصم الرجال والنساء في هذا والصحابة أحياء، ففي صحيح مسلم عن ابن سيرين قال: اختصم الرجال والنساء: أيهم أكثر في الجنة؟ وفي رواية: إمّا تفاخروا وإمّا تذاكروا: الرجال في الجنة أكثر أم النساء؟ فسألوا أبا هريرة فاحتج أبو هريرة على أن النساء في الجنة أكثر بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أضوأ كوكب درّى في السماء، لكل امرىء منهم زوجتان اثنتان، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم وما في الجنة أعزب" .
والحديث واضح الدلالة على أن النساء في الجنة أكثر من الرجال، وقد احتج بعضهم على أن الرجال أكثر بحديث:"رأيتكن أكثر أهل النار" والجواب لا يلزم من كونهن أكثر أهل النار أن يكن أقل ساكني الجنة كما يقول ابن حجر العسقلاني ، فيكون الجمع بين الحديثين أن النساء أكثر أهل النار وأكثر أهل الجنة وبذلك يكن أكثر من الرجال وجوداً في الخلق .

3ــ أطفال المؤمنين:
قال تعالى:" وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ" (الطور، آية : 21).
فهذه الآية تدل بعمومها على أن ذرية المؤمنين معهم في الجنة، لأن الطفل يولد على الفطرة وهي الإسلام، فإذا مات فهو ميت على الإيمان فيكون مع والديه في الجنان، وقال تعالى:" كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ*إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ" (المدثر، آية : 38 ـ 39)، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هم أطفال المسلمين، لم يكتسبوا فيرتهنوا بكسبهم .
ودخول أطفال المسلمين الجنة ثابت في السنُّة وذكر الكتاني أنها بلغت حد التواتر ، فعن أبي حسان قال: قلت لأبي هريرة: إنه مات لي ابنان فما أنت محدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث تطيب به أنفسنا عن موتانا قال، قال: نعم: صغارهم دعاميص ، الجنة يلتقي أحدهم أباه ـ أو قال ـ أبويه ـ فيأخذه بثوبه أو قال بيده كما آخذ أنا بضفة ثوبك هذا، فلا يتناهى ـ أو قال فلا ينتهي ـ حتى يدخله وأباه الجنة ، وعن البراء رضي الله عنه قال: لما توفي إبراهيم ابن الرسول عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن له مرضعاً في الجنة .
وقال صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلاَّ تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذراري المسلمين في الجنة يكفلهم إبراهيم عليه السلام .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطفال المسلمين في جبل في الجنة يكفلهم إبراهيم وسارة حتى يدفعونهم إلى آبائهم يوم القيامة .

4ــ اجتماع أهل الجنة وحديثهم:
من أحاديثهم ما قاله سبحانه:" وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ*قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ*فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ*إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ" (الطور، آية : 25 ـ 28).
ومن أحاديثهم تذكرهم أهل الكفر الذين كانوا يشككونهم بالله واليوم الآخر، قال تعالى:" وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ*إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ*أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ*فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ*فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ*عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ*يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ*بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ*لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ*وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ*كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ*فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ*قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ*يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ*أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ*قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ*فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ*قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ*وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ*أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ*إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ*إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ*لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ" (الصافات، آية : 39 ـ 61).
تأمل ما في هذه الآيات من النعيم والكرامة، فقد بين الله تعالى في هذه الآية أنهم يجتمعون يوم القيامة ويعطون من الفواكه وهم على السرر متقابلين، يتجاذبون أطراف الحديث، وفي أثناء حديثهم يُخدمون كالملوك فعندهم الفواكه، ويطاف عليهم بالخمر اللذيذة وعندهم النساء الحور العين، ثم يبدأ الحوار، فيتذكر أحدهم صاحباً له كان يأمره بالمعاصي وينكر البعث، فينادي منادي: هل تريد أن تعرف حاله؟ فيأخذ هذا الرجل ليريه ذلك الصاحب وقد استقر في قلب الحجيم يتقلب على الجمر لا يموت ولا يحيى، فيخاطبه سائلاً توبيخ واستنكار: هل نحن لا نموت إلا موتتنا الأولى ولن نبعث ولن نعذب، ثم ينظر لحاله والنعيم الذي هو فيه وينظر إلى حال هذا الذي أصبح من حطب جهنم ويقارن بين الحالين فيرى البون الشاسع والغرق الواسع فيقول لنفسه وقد امتلأ سروراً وفاض غبطة:" إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ*لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ" .
5ــ أعلى أهل الجنة:
الأنبياء ثم الصديقون ثم الشهداء ثم الصالحون. قال تعالى:" وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا" (النساء، آية : 69)، أي معهم في الجنة وإن لم يكونوا معهم في الدرجة .
وعن المغيرة بن شعبة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سأل موسى ربه ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: أدخل، فيقول: أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أُخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت ربي، فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت ربي فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذة عينيك، فيقول: رضيت ربي. قال ربي، فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها فلم ترى عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر، قال: ومصداقه في كتاب الله عز وجل "فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ" .
6 ـ أهل الجنة يرثون نصيب أهل النار في الجنة:
قال تعالى: "وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (الأغراف، آية : 43).
وقال تعالى: " وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (الزخرف، آية : 72).
وقال تعالى: "أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (المؤمنون، آية : 10 ـ 11).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلاَّ له منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار، فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله تعالى: "أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ" .
7 ـ زوجة المؤمن إذا ماتت على الإيمان مع زوجها المؤمن في الجنة:
قال تعالى: "جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ" (الرعد، آية : 23)، وهم في الجنات منعمون مع الأزواج يتكئون في ظلال الجنة مسرورين فرحين، قال تعالى: " هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ" (يس، آية : 56)، وقال تعالى: " ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ" (الزخرف، آية : 70) .
8 ـ مؤمنو الجن يدخلون الجنة:
مؤمنو الجن يثابون على الطاعة ويدخلون الجنة، فبعد أن تكلم الله عز وجل عن الإنس والجن في سورة الإنعام قال تعالى: "وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ" (الأنعام، آية : 232)، وقوله "َلِكُلٍّ" يعود على الإنس والجن، فدل على أن لهم درجات في الجنة يحسب عملهم .
وقوله تعالى في الحور العين: " لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ" (الرحمن، آية : 56)، فدل على أن الجن يدخلون الجنة ويتمتعون بالحور العين كما يحصل للإنس .
9 ـ ضحك أهل الجنة من أهل النار:
كان الكفار في الدنيا يخاصمون المؤمنون ويسخرون منهم ويهزؤون بهم، فإذا جاء يوم القيامة انقلب الحال، وتبدلت الأحوال فإذا بالمؤمنين، وهم في النعيم المقيم ينظرون إلى المجرمين فيضحكون منهم ويسخرون بهم ، قال تعالى: "إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" (المطففين، آية : 22 ـ 36) .

ثامناً سادة أهل الجنة:
1 ـ الأنبياء والرسل:
سيد أهل الجنة هو الرسول صلى الله عليه وسلم ثم إخوانه من الأنبياء والمرسلين، قال تعالى:" وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الْأَخْيَارِ * هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ" (ص، آية : 45، 50).
وقال تعالى:" الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ" (الأنعام، آية : 82، 90).
فوصفهم الله بالهداية والصلاح والاجتباء والإحسان وبين في آيات كثيرة أن المحسن جزاءه الجنة " لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (يونس، آية : 26).
وهذا معلوم من الدين بالضرورة، بل العقل يدل على ذلك، فإن الله تعالى لا يرسل مبلغاً عنه إلا وهو في الغاية القصوى من الكمال البشري خلقاً وخُلقاً وديناً وصلاحاً، وما كان الله ليعذب من دل الناس عليه .
2ـ سادات الصحابة: الجنة درجات ومراتب وأهلها متفاوتون في درجاتهم وأعلى الدرجات فيها سادة أهل الجنة، فسيد كهول أهل الجنة أبوبكر وعمر رضي الله عنهما لقوله صلى الله عليه وسلم:" أبوبكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين ، وسيدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين، لقوله صلى الله عليه وسلم: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، ونص الرسول صلى الله عليه وسلم على أن عشرة من أصحابه في الجنة، فقد قال: أبوبكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة" ، وإسناده صحيح، وقد نص الرسول صلى الله عليه وسلم على مجموعة أخرى من الصحابة في الجنة منهم:
ــ جعفر بن أبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب:
قال صلى الله عليه وسلم:" دخلت الجنة البارحة، فنظرت فيها، فإذا جعفر يطير مع الملائكة، وإذا حمزة متكئ على سرير" ، وقد صح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب .
ــ عبد الله بن سلام:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" عبد الله بن سلام عاشر عشرة في الجنة" .
ــ زيد بن حارثة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" دخلت الجنة، فأستقبلتني جارية شابة، فقلت: لمن أنت؟ قالت: لزيد بن حارثة" .
ــ زيد بن عمرو بن نفيل:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة فرأيت لزيد بن عمرو بن نفيل درجتين".
ــ حارثة بن النعمان:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" دخلت الجنة، فسمعت فيها قراءة، فقلت: من هذا؟ قالوا: حارثة بن النعمان، كذلكم البر، كذلكم البر" .
ــ بلال بن أبي رباح:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" دخلت الجنة، فسمعت خشفة بين يدي، قلت: ما هذه الخشفة؟ فقيل: هذا بلال يمشي أمامك" .
3ـ سيدات نساء أهل الجنة:
مريم بنت عمران هي سيدة النساء الأولى وأفضل النساء على الإطلاق، فقد روى الطبراني بإسناد صحيح على شرط مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" سيدات نساء أهل الجنة بعد مريم أبنة عمران، فاطمة، وخديجة، وآسية امرأة فرعون ، وكونها أفضل النساء على الإطلاق صرح به القرآن:" وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ" (آل عمران، آية : 42).
وهؤلاء الأربعة نماذج رائعة للنساء الكاملات الصالحات، فمريم ابنة عمران أثنى عليها ربها في قوله:" أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ" (التحريم، آية : 12).
وخديجة التي آمنت بالرسول صلى الله عليه وسلم من غير تردد، وثبتته، وآسته بنفسه ومالها، وقد بشرها ربها في حياتها بقصر في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب ، فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك فأقرأ عليها السلام من ربها مني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب ، وآسية امرأة فرعون هان عليها ملك الدنيا ونعيمها فكفرت بفرعون وألوهيته فعذبها زوجها فصبرت حتى خرجت روحها إلى بارئها، قال تعالى:" وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" (التحريم، آية : 11).
وفاطمة الزهراء ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم الصابرة المحتسبة التقية الورعة فرع الشجرة الطاهرة،وتربية معلم البشرية .
وأمهات المؤمنين أيضاً من سيدات الجنة لأنهن مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، قال تعالى:" يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا" (الأحزاب، آية : 28، 29).
وعن عائشة قالت: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال: إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك قالت: قد علم أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه قالت: ثم قال: إن الله عز وجل قال:" يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا" (الأحزاب، آية : 28، 29)، قالت: فقلت: في أي هذا استأمر أبوي، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، قالت: ثم فعل أزواج رسول الله مثل ما فعلت .
وقال صلى الله عليه وسلم:" المرأة لآخر أزواجها في الآخرة". وفي رواية:" جمع بينهما في الجنة "، وعليه فتكون زوجاته عليه الصلاة والسلام معه في الجنة ولا يلزم من هذا أن يكن معه في نفس الدرجة، لأنه قد ثت أن النبي صلى الله عليه وسلم في منزلة الوسيلة التي لا تنبغي إلا لرجل واحد ولكنهن قريبات منه صلى الله عليه وسلم ولا يلزم من هذا أيضاً أن تكون أمهات المؤمنين خير من كل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فيهم أبوبكر وعمر وعثمان وعلي، وقد تواترت الأحاديث على أفضلية أبي بكر على جميع الصحابة بما فيهم أمهات المؤمنين ، وقد تواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبوبكر ثم عمر رضي الله عنهما .

تاسعاً: فضل نعيم الجنة على متاع الدنيا:
قارن المولى عز وجل بين متاع الدنيا ونعيم الجنة، وبينّ أن نعيم الجنة خير من الدنيا وأفضل، وأطال في ذم الدنيا وبيان الآخرة، وما ذلك إلا ليجتهد العباد في طلب الآخرة ونيل نعيمها، ونجد ذم الدنيا ومدح نعيم الآخرة، وتفضيل ما عند الله على متاع الدنيا القريب العاجل في مواضع ، قال تعالى:" لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ" (طه، آية : 13).
ــ وقوله:" وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى" (طه، آية : 131).
ــ وقال في موضع ثالث:" زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ*قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ" (آل عمران، آية : 14 ـ 15) وسر أفضلية نعيم الآخرة على متاع الدنيا من وجوه منها.
1ــ متاع الدنيا قليل: قال تعالى:"قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى" (النساء، آية : 77).
وقد صور لنا الرسول صلى الله عليه وسلم قلة متاع الدنيا بالنسبة إلى نعيم الآخرة بمثال ضربه فقال: والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه ـ وأشار بالسبابة ـ في اليم ـ فلينظر بم ترجع . ما الذي تأخذه الأصبع إذا غمست في البحر الخضم، إنها لأتأخذ منه قطرة هذا هو نسبة الدنيا إلى الآخرة ولما كان متاع الدنيا قليل، فقد عاتب الله المؤثرين لمتاع الدنيا على نعيم الآخرة، قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ" (التوبة، آية : 38).
2ــ هو أفضل من حيث النوع: قال تعالى:" وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى" " وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى"، فثياب أهل الجنة وطعامهم وشرابهم وحليهم وقصورهم أفضل مما في الدنيا قال تعالى:" وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا" (الإنسان، آية : 20).
بل لا وجه للمقارنة فإن موضع السوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، فعن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، وقال صلى الله عليه وسلم: لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ، وقارن نساء أهل الجنة بنساء الدنيا لتعلم فضل ما في الجنة على ما في الدنيا، عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: لروحة في سبيل الله أو غدوة خير من الدنيا وما فيها ولقاب قوس أحدكم من الجنة أو موضع قيد ـ يعني سوطه ـ خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحاً ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها .
وقال تعالى:" ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ" (الزخرف، آية : 70): أي تفرحون والفرح في القلب .

3ــ الجنة خالية من شوائب الدنيا وكدرها: فطعام أهل الدنيا وشرابهم يلزم منه الغائط والبول والروائح الكريهة، وإذا شرب المرء خمر الدنيا فقد عقله، ونساء الدنيا يحضن ويلدن، والحيض أذى والجنة خالية من ذلك كله، فأهلها لا يبولون ولا يتغوطون ولا يبصقون ولا يتفلون وخمر الجنة كما وصفها خالقها:" بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ" (الصافات، آية : 46) وماء الجنة لا يأسن، ولبنها لا يتغير طعمه " أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ" (محمد، آية : 15) ونساء أهل الجنة مطهرات من الحيض والنفاس وكل قذورات نساء الدنيا، كما قال تعالى:" وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ" (البقرة، آية : 25).
وقلوب أهل الجنة صافية، وأقوالهم طيبة، وأعمالهم صالحة، فلا تسمع في الجنة كلمة نابية تكدر الخاطر وتعكر المزاج وتستثير الأعصاب، فالجنة خالية من باطل الأقوال والأعمال، " لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ" (الطور، آية : 23).
ولا يطرق المسامع إلا الكلمة الصادقة الطيبة السالمة من عيوب كلام أهل الدنيا  "لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا" (النبأ، آية : 35) " لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا" (مريم، آية : 62) وقال تعالى:" لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً" (الغاشية، آية : 11) إنها دار الطهر والنقاء والصفاء الخالية من الأوشاب والأكدار، إنها دار السلام والتسليم " لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا*إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا" (الواقعة، آية : 25 ـ 26) فأهل الجنة عند دخول الجنة، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشيا ، وصدق الله إذ يقول:" وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ" (الحجر، آية : 47).

4ــ نعيم الدنيا زائل ونعيم الآخرة باق:
قال تعالى:" وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" (العنكبوت، آية : 64) ولذلك سمي الحق تبارك وتعالى ما زين للناس من زهرة الدنيا متاعاً، لأنه يتمتع به ثم يزول وأما نعيم الآخرة فهو باق ليس له نفاد قال تعالى:" مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ" (النحل، آية : 96) قال تعالى:" إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ" (ص، آية : 54) وقال:" أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا"  ( الرعد، آية : 35) " لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ" (الحجر، آية : 48).
وقد ضرب الله الأمثال لسرعة زوال الدنيا وانقضائها قال تعالى:" وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا*الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا" (الكهف، آية: 45 ـ 46).
فقد ضرب الله مثلاً لسرعة زوال الدنيا وانقضائها بالماء النازل من السماء الذي يخالط نبات الأرض فيخضر ويزهر ويثمر وما هي إلا فترة وجيزة حتى تزول بهجته، فيذوب ويصفر، ثم تعصف به الرياح في كل مكان، وكذلك زينة الدنيا من الشباب والمال والأبناء والحرث والزرع كلها تتلاشى وتنقضي، فالشباب يذوب ويذهب، والصحة والعافية تبدل هرماً ومرضاً، والأموال والأولاد قد تذهب وأما الآخرة فلا رحيل ولا فناء ولا زوال، قال تعالى:" وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ*جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ" (النحل، آية : 30 ـ 31).

5ــ العمل لمتاع الدنيا ونسيان الآخرة: يعقبه الحسرة والندامة ودخول النيران: قال تعالى:" كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ" (آل عمران، آية : 185) وأما العمل للآخرة فلا يعقبه إلا الفوز بها .
ومن تكريم الله لهم أن الجنة تقرب لهم، لا يقربون هم إلى الجنة قال تعالى:" وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ" (الشعراء، آية: 90) وقال تعالى:" وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ" (ق، آية : 31) وقال تعالى:" وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ" (التكوير، آية : 13) أي: قربت .

عاشراً: نعيم أهل الجنة:
1ــ طعام أهل الجنة:
الجنة لا جوع فيها ولا عطش، قال تعالى:" إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى*وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى" (طه، آية : 118 ـ 119) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون، ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون، قالوا: فما بال الطعام؟ قال: جشاء ورشح كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد، كما يلهمون النفس ، وقد ذكر الله تعالى انواعاً كثيرة من طعامهم منها:
ــ الفاكهة بجميع أنواعها: قال تعالى:" وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ" (الواقعة، آية : 20) ومن هذه الفاكهة العنب "إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا*حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا" (النبأ، آية : 31 ـ 32) وهذه الفاكهة ليست بقليلة بل هي كثيرة "لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ" (الزخرف، آية : 73).
ولا يتعب نفسه في إحضارها وجنيها بل يطلب ذلك ويحضرها الخدم له "مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ" (ص، آية : 51).
وهذه الفاكهة من النوع الذي يختاره ويشتهيه حتى نكمل اللذة فلا يأتونه بشيء لم يختره ولا يشتهيه " وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ*وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ" (الواقعة، آية : 20 ـ 21).
وقال تعالى:" إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ*وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ*كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (المرسلات، آية : 41 ـ 43).
وهذه الفاكهة لا تنقطع في وقت من الأوقات كما يحصل في فواكه الدنيا، بل هي متوفرة دائماً، ولا تُمنع عن أصحاب الجنة أبداً "وَمَاء مَّسْكُوبٍ*وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ*لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ" (الواقعة، آية : 31 ـ 33) وإذا اشتهى أن يقطف الفاكهة بنفسه فإنها لا تعسر عليه، بل تذلل له الأغصان وتنزل حتى يأخذ منها ما شاء بلا تعب ولا عناء "وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا" (الإنسان، آية : 14) وقال:".....وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ" (الرحمن، آية : 54).

ــ لحم الطير: قال تعالى:" وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ*وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ" (الواقعة، آية : 20 ـ 21) وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الكوثر؟ قال: ذاك نهر أعطانيه الله يعني في الجنة أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، فيها طير أعناقها كأعناق الجزر، قال عمر: إن هذه لناعمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكلتها أحسن منها . وليس هذا فقط طعامهم بل لهم كل ما اشتهت أنفسهم ولذته أعينهم " يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ
وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (الزخرف، آية : 71).

2ــ شراب أهل الجنة:
وأما شرابهم فإنه شراب طهور طيب لا كما يفعل بعض الضالين الذين يشربون النجاسة، فتجدهم يشربون الخمر وبعضهم يشرب الدم المسفوح وبعضهم يشرب العرق وغير من النجاسات والقاذورات، وأما أهل الجنة فشرابهم طاهر، طهور طيب قال تعالى:"عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا" (الإنسان، آية : 21).
ومن هذه الأشربة:

•    ــ العسل واللبن والماء:
قال تعالى:" مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى
وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ" (محمد، آية : 15).
•    ــ الكافور:
قال تعالى:" إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا*عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا" (الإنسان، آية : 5 ـ 6).
•    ــ الزنجبيل:
قال تعالى:" وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا*عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا" (الإنسان، آية : 17 ـ 18).
أخبر سبحانه عن مزاج شرابهم بشيئين: بالكافور في أول السورة، والزنجبيل في آخرها، فإن في الكافور من البرد وطيب الرائحة وفي الزنجبيل من الحرارة وطيب الراحة ما يحدث لهم باجتماع الشرابين ومجيء أحدهما على أثر الآخر حالة أخرى أكمل وأطيب وألذ من كل منهما بانفراده ويعدّل كيفية كل منهما بكيفية الآخر، وما ألطف موضع ذكر الكافور في أول السورة والزنجبيل في آخرها، فإن شرابهم مزج أولا بالكافور وفيه من البرد ما يجييء الزنجبيل بعده فيعدله والظاهر أن الكأس الثانية غير الأولى وأنهما نوعان. لذيذان من الشراب أحدهما مزج بكافور، والثاني مزج بزنجبيل .
•    ــ التسنيم:
قال تعالى:" يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ*خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ*وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ*عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ" (المطففين، آية : 25 ـ 28)، قال ابن عباس: تسنيم أشرف شراب أهل الجنة وهو صرف للمقربين ويمزج لأصحاب اليمين .
•    ــ الخمر:
تكلم الله تعالى عن خمر الجنة في غير ما آية ونفى عنه جميع آفات خمر الدنيا، قال تعالى:" بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ*لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ" (الواقعة، آية : 18 ـ 19) وقال:" وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ*يَتَنَازَعُونَ
فِيهَا كَأْسًا لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ" (الطور، آية : 22 ـ 23) وقال:"وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ" فخمر الدنيا ، طعمها غير لذيذ، وتحدث لمن شربها صداع، ويذهب بعقله ويكثر عندها اللغو واللغط بل لا تحلو إلاَّ بكثرة اللغو وتوقع الإنسان في الآثام العظام من دخول تحت اللعنة وارتكاب للمحظورات فلا يمتنع عن شيء منها وكيف يمتنع وهو لا عقل له؟ فهذه خمسة منغصات لخمر الدنيا نفاها الله عن خمر الآخرة، فالطعم لذة للشاربين، وهم لا يصدعون عنها، ولا ينزفون أي لا تذهب عقولهم، ولا لغو عندها، ولا إثم فيها .
وقال تعالى:" يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ*بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ*لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ" (الصافات، آية : 45 ـ 47).
وهذه الكأس من خمر الجنة، والمعين: الجاري الكثير، ولون هذه الخمر بيضاء أي حسنة المنظر وهي ذات "لَذَّةٍ"، والغول صداع في الرأس وقيل وجع في البطن، وهي ليس فيها هذا ولا هذا "يُنزَفُونَ" أي لا يسكرون منها ، فلا تذهب عقولهم وتبقى لذاتها والخمر هي المقصود بقوله تعالى:"رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ" قال تعالى:"يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ*خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ*وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ"، والرحيق هي الخمر الصافية، ومن لذة الخمر أنها تختم بالمسك ، ولعل أعظم منغصات خمر الدنيا أن من شربه في الدنيا لم يشربه في الآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: "من شربه في الدنيا لم يشربه في الآخرة، قال صلى اله عليه وسلم: "من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة إلا أن يتوب .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما مؤمن أطعم مؤمناً على جوع أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة، وأيما مؤمن سقى مؤمناً على ظمأ سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم، وأيما مؤمن كسا مؤمناً على عري كساه الله من خضر الجنة .
3 ـ آنية طعامهم وشرابهم:
آنية طعام أهل الجنة من ذهب وفضة، قال تعالى: " يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ  وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (الزخرف، آية : 71).
الصحاف جمع صحفة وهي القصعة وزناً ومعنى، وهي من ذهب كما هو صريح الآية، والأكواب جمع كوب وهو الكوز المستدير الرأسي للذي لا عروة له ولا خرطوم .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين على أثرهم كأشد كوكب إضاءة قلوهم على قلب رجل واحد، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، لكل امرئ منهم زوجتان، كل واحد منهما يرى مخ ساقها من وراء لحمهما من الحسن، يسبحون الله بكرة وعشياً لا يسقمون ولا يتمخطون ولا يبصقون آنيتهم الذهب والفضة وأمشاطهم الذهب ووقود مجامرهم الألوة ـ يعني العود ـ ورشحهم المسك .
وقال تعالى: "بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ" (الواقعة، آية : 18 ـ 19)، أباريق جمع إبريق والأكواب الكبيرة ذات العري والخراطيم ، والكأس هو الكوب إذا كان فيه شراب ، وهذا الكأس مليء بالشراب كما قال تعالى: " وَكَأْسًا دِهَاقًا" (النبأ، آية : 34) أي مليئة مترعة متتابعة، وهذا من كمال النعيم، فلا ينقصهم شيء حتى الكؤوس مليئة، وقال تعالى: وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا" (الإنسان، آية : 15 ـ 16) القوارير الزجاج، أي هي في صفاء الزجاج وهي من فضة وهذا ما لا نظير له في الدنيا .
وهي معدة على قدر كفاية ولي الله في شربة لا تنقص عن كفايته شيء ولا تزيد فقد قدروها تقديراً، وهذا أبلغ في لذة الشارب، فلو نقص عن ربه لنقص التذاذه، ولو زاد حتى يشمئز منه حصل له ملالة وسآمة من الباقي، وهذا يدل على الاعتناء والشرف . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلاَّ رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن .

4ــ لباس أهل الجنة وحليهم:
لا عري في الجنة قال تعالى:" إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى*وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى" (طه، آية : 118 ـ 119).
وقال صلى الله عليه وسلم: من يدخل الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه ، ولهم أفضل أنواع اللباس فمن ذلك:
•    ــ الحرير: بأنواعه الرقيق منه والغليظ قال تعالى:" وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا" " وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ" (الحج، آية : 23).
وقال تعالى:" أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا".
وقال سبحانه:" يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ".
والسندس ما رق من الديباج والحرير، والاستبرق ما غلظ منه وقال الزجاج: هما نوعان من الحرير، وأحسن الألوان الأخضر وألين اللباس الحرير، فجمع لهم بين حسن منظر اللباس والتلذاذ به .
وقال تعالى:"عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ" (الإنسان، آية : 21) تأمل ما دلت عليه لفظة "عَالِيَهُمْ" من كون ذلك اللباس ظاهراً بارزاً يحمل ظاهرهم ليس بمنزلة الشعار الباطن بل الذي يلبس فوق الثياب للزينة والجمال .
واما حليهم وأساورهم فهي كالتالي:
•    ــ الذهب: قال تعالى:" يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا" (الحج، آية : 23).
•    ــ الفضة:"عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا" (الإنسان، آية : 21).
•    ــ اللؤلؤ: قال تعالى:"جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ" (فاطر، آية : 33) فأساور أهل الجنة بعضها من الفضة وبعضها من ذهب وبعضها من لؤلؤ قال تعالى:" يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ" (الحج، آية : 23)  .

5ــ فرش أهل الجنة:
قال تعالى:"مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ" (الرحمن، آية : 54).
ففرش أهل الجنة باطنها من حرير، فإذا كان هذا باطنها فكيف هو ظاهرها؟ وهذه الفرش عالية لها سُمك وحشو بين البطانة والظهارة كما قال تعالى:"وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ" (الواقعة، آية : 34).

6ــ بسط أهل الجنة:
قال تعالى:"وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ" (الغاشية، آية : 16) والزرابي جمع زوربية وهي البسط ، وهو مبثوثة على شكل متسق ومتكامل وقال تعالى:"مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ" (الرحمن، آية : 76).
العبقري: البسط الجياد، والرفرف: رياض الجنة

7ــ الوسائد:
قال تعالى:"وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ*وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ" (الغاشية، آية : 15 ـ 16).
النمارق جمع نمرقة وهي الوسادة، وهي التي توضع تحت الرأس ـ وقيل المساند ـ وهي التي توضع خلف الظهر أو على الجنب ـ وقد يعمهما اللفظ .
وهذه المخاد والوسائد مصفوفة ومعدة للاستناد إليها دائماً وترتيب الوسائد وصفها أجمل للناظر من المبعثرة، وهكذا وسائد أهل الجنة، فينعمون حتى بالنظر .

8ــ سرر وأرائك أهل الجنة:
قال تعالى:" 19} مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ" (الطور، آية : 20).
السرر: جمع سرير وهو الذي يجلس عليه .
وذكر الله تعالى لهذه السرر ثلاث صفات:
•    ــ قال تعالى:"سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ"
فالسرر مصفوفة بعضها إلى جانب بعض، ليس بعضها خلف بعض ولا بعيد عن بعض.
•    ــ قال تعالى:"عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ*مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ" (الواقعة، آية : 15 ـ 16) موضونة: أي مرصعة ومتقاربة ومنسوجة بقضبان الذهب مشتبكة بالدر والياقوت والزبرجد .
•    ـ قال تعالى: "فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ" (الغاشية، آية : 13) .
ــ وقال تعالى: " مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا" (الكهف، آية : 31).
ــ  "مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ" (ص، آية : 51).
ــ "مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا" (الإنسان، آية : 13).
ــ " عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ {23} تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ" (المطففين، آية : 23 ـ 24).
ــ " فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ" (المطففين، آية : 34 ـ 35).
الأرائك جمع أريكة.
قال ابن عباس: لا تكون أريكة حتى يكون السرير في الحجلة .
وقال مجاهد هي الأسرة في الحجال ، الحجال: القبة من القماش تكون على السرير مثلما يضع للعروس على سريرها من ضرب الستور والأقمشة على شكل القبة وتعلق فوق السرير ، فالأريكة سرير عليه الستور، يخلو به المؤمن بحِبِّه .
9 ـ خدم أهل الجنة:
قال تعالى: "يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ" (الواقعة، آية : 17 ـ 18).
وقال تعالى: "وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا" (الإنسان، آية : 19).
يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان أهل الجنة "مخلدون" أي على حالة واحدة مخلدون عليها، لا يتغيرون عنها، لا تزيد أعمارهم عن تلك السن، وقوله تعالى: "إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا" (الإنسان، الآية : 19). أي إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة وكثرتهم وصباحة وجوههم وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم، حسبتهم لؤلؤا منثوراً، ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن .
10 ـ سوق أهل الجنة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة لسوقاً، يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال، فتحثوا في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسناً وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازدتم بعدنا حسناً وجمالاً، فيقولون: وأنتم، والله لقد ازدتم بعدنا حسناً وجمالاً .
والمراد بالسوق مجمع لهم يجتمعون كما يجتمع الناس في الدنيا في السوق، ومعنى يأتونها كل جمعة، أي مقدار كل جمعة، أي أسبوع، وليس هناك حقيقة أسبوع، لفقد الشمس والليل والنهار .
11 ـ سماع أهل الجنة:
قال تعالى: "} فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ" (الروم، آية : 15).
وقال تعالى: " ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ" (الزخرف، آية : 70).
قال يحي بن أبي كثير: الحبرة: اللذة وسماع الغناء .
وقال تعالى: "إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ" (يس، آية : 55).
قال ابن عباس رضي الله عنه: شغلهم بسماع الأوتار .
وقوله " فَاكِهُونَ" "الفكاهة المزاح والكلام الطيب والمتفكه المتنعم .
ــ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة لمجتمعاً للحور العين يرفعن أصوات لم يسمع الخلائق مثلها، قال يقلن: نحن اخالدات فلا نبيد، ونحن الناعمات فلا نبؤس ونحن الراضيات فلا سخط، طوبى لمن كان لنا وكنا له .
ــ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات ما سمعها أحد قط، وإن مما يغنين: نحن الخيرات الحسان، أزواج قوم كرام، ينظرن بقرة أعيان، وإن مما يغنين به: نحن الخالدات فلا يمتنه، نحن الآمنات فلا يخفنه، نحن المقيمات فلا يظعنه .
ــ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الحور العين ليغنين في الجنة، يقلن: نحن الحور الحسان، جيئنا لأزواج كرام .
12 ـ لهم ما اشتهت نفوسهم:
قال تعالى: " سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ" (الأنبياء، آية : 101 ـ 102).
وقال تعالى: "َلهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ" (يس، آية : 57).
ــ وقال جل ذكره: " لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْؤُولًا" (الفرقان، آية : 16).
ــ وقال تعالى:"لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ" (الزمر، آية : 34).
ــ وقال تعالى:" يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (الزخرف، آية : 71).

13ــ الجمع بين متاع الدنيا ونعيم الجنة:
الدنيا تذم إذا كانت شاغلاً عن الآخرة، أما إذا جعلها العبد معبراً ومدخلاً لنيل الآخرة، فالأمر ليس كما يظن بعض الناس وانظر إلى الصالحين من قوم قارون عندما أنسته أمواله الآخرة قالوا له:" وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ" (القصص، آية : 77) فلم يأمروه بترك الدنيا كلها بل قالوا له:"وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا" وأقرّهم رب العزة على هذه الكلمة وسطرها في كتابه عنوانا لمنهج رباني .
وقال تعالى:" قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" (الأعراف، آية : 32).

الحادي عشر: الحور العين:
1ــ جمال وحسن حور العين:
شبه الله تعالى الحور العين بثلاث تشبيهات:
•    ــ قال تعالى:"وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ*كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ" (الصافات، آية : 48 ـ 49).
قيل إنه بيض النعام المكنون في الرمل، وهو عند العرب أحسن ألوان البياض، وقيل: المراد به اللؤلؤ قبل أن يبرز من صدفه .
•    ــ قال تعالى:"وَحُورٌ عِينٌ*كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ" (الواقعة، آية : 22 ـ 23): المكنون: أي المخبأ، الذي لم يغير صفاء لونه ضوء الشمس ولا عبث الأيدي، ولم تؤثر على لونه، فاللؤلؤ المكنون هو اللؤلؤ المصون الذي لم يخرج من صدفه ، وهو في هذه الحال في غاية ما يكون من الحسن والجمال، فشبه الله تعالى الحور العين باللؤلؤ المكنون لحسنهم وبهائهن ونظافتهن وحسن منظرهن وملبسهن وبياض الحور العين غاية في البياض حتى إن إحداهن لو خرجت إلى الدنيا لملأ نورها أرجاء المعمورة ، قال صلى الله عليه وسلم: ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحاً، ولنصيفها، على رأسها خير من الدنيا وما فيها . والنصيف هو الخمار، فإذا كان الخمر خيراً من الدنيا وما فيها فما بالك بالتي تلبس الخمار .
ــ وقال تعالى:"كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ" (الرحمن، آية : 58).
الياقوت والمرجان حجران كريمان جميلان، ولهما منظر حسن بديع، فشبههن في صفاء الياقوت وبياض المرجان .
2ــ صفاتهن الخُلُقية:
•    ــ قاصرات الطرف:
قال تعالى:" فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ" (الرحمن، آية : 56).
وقال تعالى:"وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ*كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ" (الصافات، آية : 48 ـ 49).
وقال تعالى:"وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ" (ص، آية : 52) والمفسرون كلهم على أن المعنى قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يطمحن إلى غيرهم، قال مجاهد:"قصرن أبصارهن وقلوبهن وأنفسهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم" وقيل: قصرن طرف أزواجهن عليهن فلا يدعهم حسنهن وجمالهن أن ينظروا إلى غيرهن .
•    ــ متحببات:
قال تعالى:"إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء*فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا*عُرُبًا أَتْرَابًا" (الواقعة، آية : 35 ـ 37).
عرب: جمع عَروبة  أو عَرِبة أو عروب، وهي المرأة الحسناء المتوددة المتحببة لزوجها ، العاشقة له.
•    ــ جميع الأخلاق الحسنة الطاهرة:
قال تعالى:"وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة، آية : 25).
طهر باطنها من الأخلاق السيئة والصفات المذمومة، وطهر لسانها من الفحش والبذاء، وطهر طرفها من أن تطمع لغير زوجها، وطهرت أثوابها من أن يعرض لها دنس أو وسخ .
3ــ صفاتهن الخلْقِيَّة:
أــ مطهرات من الأنجاس:
قال تعالى:"وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة، آية : 25) أي من الحيض والنفاس والبول والغائط والبصاق والمخاط والنخامة والمني والمذي والحدث وكل قذر وأذى يكون في نساء الدنيا ، بل حتى إذا وطئها زوجها رجعت بعد نزعه طاهرة مطهرة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أنطأ في الجنة؟ قال: نعم والذي نفسي بيده دحماً دحماً، فإذا قام عنها رجعت مطهرة بكراً .
ب ــ حور عين:
قال تعالى:"كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ" (الدخان، آية : 54).
الحور جمع حوراء وهي المرأة الشابة الحسنة الجميلة نقية اللون والجلد لبياضها .
وهذا اللفظ مشتق من الحَوَر، والحور أن يشتد بياض العين ويشتد سواد سوادها وتستدير حدقتها وترق جفونها مع شدة بياض الجسد، ولا تكون السمراء حوراء قال الأزهري: لا تسمى حوراء حتى تكون مع حور عينيها بيضاء لون الجسد ، وقيل: إن لفظ الحوراء مشتق من الحيرة، لأن الناظر إليها يحار من شدة جمالها، قال مجاهد: الحور التي يحار الطرف فيها ، وقال تعالى:"وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ" (الصافات، آية : 48) وعين: جمع عيناء وهي الواسعة العين ، وجمعت أعينهن ـ مع السعة ـ صفات الحسن والملاحة .
ج ــ أتراب في السن:
قال تعالى:"وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ" (ص، آية : 52) وقال تعالى:"إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء*فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا*عُرُبًا أَتْرَابًا" (الواقعة، آية : 35 ـ 37): أتراب، أي أقران أسنانهن واحدة، مستويات على سن واحدة وميلاد واحد من الشباب والحسن، والمعنى من الإخبار باستواء أسنانهن أنهن ليس فيهن عجائز قد فات حسنهن، ولا ولائد لا يطقن الوطء .
د ــ أبكار:
الحور العين، كما قال تعالى:"إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء*فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا" (الواقعة، آية : 35 ـ 36).
والبكر أفضل من الشيب، فالأرض التي لم يرُع فيها خير من أرض قد رُعي فيها، وهذه البكارة تعود كلما قام عنها زوجها، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أنطأ في الجنة؟ قال نعم والذي نفسي بيده دحماً دحماً، فإذا قام عنها رجعت مطهرة بكراً .
هـ ــ كواعب:
قال تعالى:"وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا" (النبأ، آية : 33) كواعب جمع كاعب، الكاعب هي المرأة التي تكعّب ثديها، أي نهد واستدار ، والمراد أن ثديهن نواهد كالرمان ليست متدلية إلى أسفل، ويسمين: نواهد وكواعب .
وحسبك شهادة لجمالهن الباهر وأنه بلغ الغاية في الحسن والمنتهى في الجمال أن الله تعالى شهد بهذا فقال:"فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ" (الرحمن، آية : 70) وحسان جمع حسناء .

4ــ غيرة الحور العين:
قال صلى الله عليه وسلم: لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا، إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو دخيل عندك، يوشك أن يفارقك إلينا .

5ــ يعطى المؤمن في الجنة قوة مائة رجل:
عن زيد بن أرقم قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود فقال يا أبا القاسم ألست تزعم أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، وقال لأصحابه: إن أقر لي بهذه خصمته، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى والذي نفسي بيده إن أحدهم ليعطي قوة مائة رجل في المطعم والمشرب والشهوة والجماع، وقال: فقال له: اليهودي: فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حاجة أحدهم عرق بغيض من جلودهم مثل ربيع المسك فإذا البطن قد ضمر .
والتمتع بالحور العين يكون بالملابسة، والحديث معهن وسماع غنائهن، والتلذذ بجمالهن والتمتع بشم رائحتهن الزكية.
ــ فالملامسة:
وما يصاحبها من مقدمات وضم وتقبيل، وهذا لازم الملامسة قال تعالى: "إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ *  هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ" (يس، آية : 55 ـ 56)، قال ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم. شغلهم افتضاض الأبكار .
ــ الحديث معهن:
ومن معاني قوله تعالى: "فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ" أي مشغول بمحادثتها وكلامها ومسامرتها وممازحتها ومذهول من طيب كلامها ومشغول بها عن الالتفاف لغيرها ، قال القرطبي رحمه الله: قوله:"فَاكِهُونَ": الفاكهة المزاح والكلام الطيب، والمتفكه: المتنعم .
•    ــ سماع غنائهن:
قال تعالى:"ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ" (الزخرف، آية : 70).
الحبرة اللذة  وسماع الغناء .
•    ــ التلذذ بجمالهن:
إن من صفات الحور العين أنهن "قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ" ومن معانيه أنهن قصرت أعين أزواجهن عليهن من شدة جمالهن فلا يطمع لغيرها ولا يلتفت عنها ولا يبتغي سواها، قد شغفته حبّاً، وامتلأ قلبه من حبها واكتنز وفاض حتى غمر جوارحه فلا ينظر لسواها وهذا من النعيم الكامل واللذة التامة، حتى العين لها نصيب وافر من النعيم واللذة ، وهذا مصداق قوله تعالى:"مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (الزخرف، آية : 71).
•    ــ التمتع بشم رائحتهن الزكية:
لا شك أن الرائحة الطيبة في المرأة مما يزيدها حباً لزوجها وهو من كمال اللذة والاستمتاع بهن، والحور العين لهن من ذلك أوفر نصيب، حيث إن عبق طيبها لو خرج إلى الأرض لملأها مسكاً ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لروحة في سبيل الله أو غدوة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم من الجنة أو موضع قيد ـ يعني سوطه ـ خير من الدنيا وما فيها ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينها ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها .
إذن يكون التمتع بهن بجميع الحواس الخمس، وهذا من أعظم النعيم، حيث يفيض التمتع على جميع أجزاء جسده ويغمر كل ذرة في جسمه .

الثاني عشر: أفضل ما يعطاه أهل الجنة النظر إلى وجه الله الكريم:
إن مسألة رؤية المؤمنين لربهم عز وجل بالأبصار في الدار الآخرة من أشرف المسائل وأجلها، إذ هي الغاية القصوى، والنهاية العظمى، وأعلى الكرامات، وأفضل العطيات التي شمّر إليها السابقون، وتنافس فيها المتنافسون، واجتهد في نيلها العابدون وقد تضافرت النصوص من الكتاب العزيز والسنة النبوية الصحيحة على أن المؤمنين يرون الله عز وجل بأبصارهم كما يرون القمر ليلة البدر .
والآيات تدل على رؤية الله تعالى كثيرة وهي أنواع منها:
1ــ آيات المزيد:
قال تعالى:"لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (يونس، آية : 26).
قال صلى الله عليه وسلم: إذا دخل أهل الجنة الجنة قال يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم، فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل، ثم تلا هذه الآية "لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ" . وقال صلى الله عليه وسلم: الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الرحمن، وهذا الحديث متواتر يقطع بصحته .
وقال تعالى:"لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ" (ق، آية : 35) وعن علي وأنس رضي الله عنهما أن تفسير هذه الآية النظر إلى وجه الرحمن .
قال ابن كثير: وقوله تعالى:"وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ" كقوله عز وجل:"لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ" .
2ــ الآيات الصريحة في النظر إلى وجه الله تعالى:
قال تعالى:"وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ*إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" (القيامة، آية : 22 ـ 23).
الناضرة: الحسنة؛ حسنها الله بالنظر إلى ربِّها عز وجل، وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى ربها جل جلاله .
وفي قوله:"إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ": هذا من النظر إلى؛ أي إلى خالقها ومالك أمرها ناظرة، أي تنظر إليه، والمراد به ما تواترت به الأحاديث الصحيحة من أن العباد ينظرن إلى ربهم يوم القيامة كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر .
3ــ آيات حرمان الكفار من رؤيته سبحانه:
بين سبحانه ـ في بعض الآيات ـ أنه يحرم الكفار من النظر إليه عقوبة لهم على كفرهم، وهذا يدل بمفهومه أن المؤمنين يرونه سبحانه، إذ لو كان المؤمنون لا يرونه أيضاً لما كان لتخصيص الكفار بالحرمان فائدة بل أصبح هذا الكلام من العبث الذي ينزه عنه الشارع، قال تعالى:"إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" وقال تعالى:"كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ" (المطففين، آية : 15).
في هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يرى في القيامة، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولا خست منزلة الكفار بأنهم يحجبون، وقال مالك بن أنس في هذا الآية: لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه. وقال الشافعي: لما حجب قوماً بالسخط، دل على أن قوماً يرونه بالرضا، ثم قال: أما والله لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه في المعاد لما عبده في الدنيا .
وعن أشهب قال: سأل رجل مالكاً: هل يرى المؤمنون ربهم يوم القيامة؟ فقال مالك: لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة؟ فقال مالك: لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيام لم يعير الله الكفار بالحجاب، فقرأ:"كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ" فقيل له: يا أبا عبد الله فإن قوماً يزعمون أن الله لا يُرى فقال مالك: السيف السيف .
4ــ آيات العندية:
عن مسروق قال: سألنا عبد الله عن هذه الآية:"وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" قال: أما أنا قد سألناه عن ذلك ـ يعني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم فقال: أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئاً قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا فقالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا .
5ــ آيات الملاقاة:
ــ قال تعالى:"وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ" (البقرة، آية : 223).
ــ وقال تعالى:"تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا" (الأحزاب، آية : 44).
ــ وقال تعالى:"وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَـكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ" (هود، آية : 29).
ــ وقال تعالى:"قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ" (البقرة، آية : 249).
وقال تعالى:"فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا" (الكهف، آية : 110).
قال ابن مسعود: من أراد النظر إلى وجه الله خالقه فليعمل عملاً صالحاً ولا يخبر أحداً .
وقال تعالى:"الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ" (البقرة، آية : 46).
قال ابن القيم: وأجمع أهل اللسان على أن اللقاء متى نسب إلى الحي السليم من العمى والمانع، اقتضى المعاينة والرؤية .
6ــ الأحاديث النبوية في الرؤية:
وقد ثبت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث لا يمكن دفعها ولا منعها .
وفي نظم المتناثرة من الحديث المتواتر ذكر أن أحاديث الرؤية وردت مرفوعة من طريق ثمانية وعشرين صحابياً ثم سرد أسماءهم .
وقال ابن أبي العز الحنفي: وقد روي أحاديث الرؤية نحو ثلاثين صحابياً ومن أحاط بها معرفة يقطع بأن الرسول قالها ، ومن هذه الأحاديث:
ــ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أناساً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة ضوء ليس فيها سحاب؟ قالوا: لا، قال: هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ضوء ليس فيها سحاب؟ قالوا: لا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما تضارون من رؤية الله عز وجل يوم القيامة إلاَّ كما تضارون في رؤية أحدهما .
ــ وعن أبي هريرة أن ناساً قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فإنكم ترونه كذلك .
ــ جرير بن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم سترون ربكم عيانا .
7ــ رضوان الله أكبر:
قال تعالى:"وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" (التوبة، آية : 72) "وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ" أي: رضا الله عنهم وأكبر وأجل وأعظم مما هم فيه من النعيم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ومالنا لا نرضى يا ربِّ، وقد أعطيتنا ما لم تُعط أحداً من خَلْقِك، فيقول: ألاَّ أُعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا ربِّ، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أُحِلُّ عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبداً .
الثالث عشر: آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين:
بعد انقضاء الحساب تحمد الملائكة ربها:
ــ قال تعالى:" وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (الزمر، آية : 75).
ــ وأما المؤمنون بعد دخولهم الجنة فيقولون:" وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ*الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ" (فاطر، آية : 34 ـ 35).
ــ وقال تعالى:" وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ" (الزمر، آية : 74).
ــ وآخر دعواهم في جنات النعيم: الحمد لله رب العالمين، قال تعالى:" دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (الزمر، آية : 10).


 

الخاتمة

وبعد: فهذا ما يسره الله لي من حديث عن اليوم الآخر تضمّها هذا الكتاب وقد سميته "الإيمان باليوم الآخر".
فما كان فيه من صواب، فهو محض فضل الله عليَّ، فله الحمد والمنَّة، وما كان فيه من خطأ، فاستغفر الله تعالى وأتوب إليه، والله ورسوله بريءُ منه، وحسبي أني كنت حريصاً ألاّ أقع في الخطأ، وعسى ألا أحرم من الأجر.
وأدعو الله أن ينفع بهذا الكتاب بني الإنسان وأن يذكرني من يقرؤه من إخواني المسلمين في دعائه، فإن دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب مستجابة إن شاء الله تعالى وأختم هذا الكتاب بقول الله تعالى:" رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" (الحشر، آية : 10) وبقول الشاعر:

يامنزل الآيات والفرقان
                        بيني وبينَك حرمة القرآن
        إشرح به صدر لمعرفة الهدى
                        واعصم به قلبي من الشيطان
        يَسِّر به أمري وأقض مآربي
                        وأجر به جسدي من النِّيِران
        واحطُطْ به وزري وأخلص نيَّتي
                        واشدُدْ به أزرِي وأصلح شاني
        واكشُف به ضُرِّي وحَقِّقْ توبتي
                        واربح به بيعي بلا خسراني
        طهِّر به قلبي وصَفِّ سريرتي
                        أجمل به ذكري واعلِ مكاني
        واقطع به طمعي وشرّف همَّتي
                        كثر به ورعي واحي جناني
        أسهر به ليلي وأظم جوارحي
                        أسبل بفيض دموعها أجفاني
        أُمزجه يا ربِّ بلحمي مع دمي
                        واغسل به قلبي من الأضغاني
        أنت الذي صوَّرتني وخلقتني
                        وهديتني لشرائع الإيمان
        أنت الذي علَّمتني ورحمتني
                        وجعلت صدري واعيَ القرآن
        أنت الذي أطعمتني وسقيتني
                        من غير كسب يدٍ ولا دكان
        وجبرتني وسترتني ونصرتني
                        وغمرتني بالفضل والإحسان
        أنت الذي آويتني وحبوتني
                        وهديتني من حيرة الخذلان
        وزرعت لي بين القلوب مودَّة
                        والعطف منك برحمة وحنان
        ونشرتَ لي في العالمين محاسناً
                        وسترت عن أبصارهم عصياني
        وجعلت ذكري في البرية شائعاً
                        حتى جعلت جميعهم إخواني
        والله لو علموا قبيح سريرتي
                        لأبي السلام عليَّ من يلقاني
        ولأعرضوا عنَّي وملَّوا صحبتي
                        ولبُؤْتُ بعد كرامة بهوان
        لكن سترت معايبي ومثالبي
                        وحلمت عن سقطى وعن طغياني
        فلك المحامد والمدائح كلها
                        بخواطري وجوارحي ولساني
        ولقد مننت عليَّ ربِّ بأنعم
                        مالي بشكر أقلِّهنَّ يدَان
        فوحقِّ حكمتك التي آتيتني
                        حتى شددت بنورها بُرهاني
        لئن اجتبتني من رضاك معونة
                        حتى تقوي أيْدُها إيماني
        لأسبحنّك بكرة وعشية
                        ولتخدمنك في الدُّجى أركاني
        ولا ذكرنك قائماً أو قاعداً
                        ولا شكرنك سائر الأحيان
        ولأكتمن عن البريَّةِ خلتَّي
                        ولا شكونَّ إليك جهد زماني
        ولأقصدنك في جميع حوائجي
                        من دون قصد فلانة وفلان
        ولأحسمنَّ عن الأنام مطامعي
                        بحُسام يأس لم تشُبْهُ بناني
        ولا جعلنَّ رضاك أكبر همتي
                        ولا ضربن من الهوى شيطاني
        ولا كسون عيوب نفسي بالتُّقى
                        ولأقبضن عن الفجور عناني
        ولأمنعن النفس عن شهواتها
                        ولأجعلن الزُّهد من أعواني
        ولا تلون حروف وحيك في الدّجى
                        ولأحرقن بنوره شيطاني

"سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك"


















فهرس الكتاب

المقدمة                                               1                                 
الفصل الأول: حقيقة الروح والموت وحياة البرزخ.                     12
المبحث الأول: حقيقة الروح.                            12
أولاً: كلمة الروح في القرآن.                                12
1ــ هل الروح قديمة أم مخلوقة.                            13
2ــ هل النفس هي الروح.                                16
3ــ مراتب النفوس.                                    17
4ــ هل تموت الأرواح.                                17
5ــ هل للروح كيفية تعلم                                18
ثانياً: قبض الروح بالنوم.                                18
ثالثاً: فتح باب التوبة حتى الغرغرة.                            19
رابعاً: كيفية نزع الروح.                                20
خامساً: خروج روح المؤمن واحتضاره.                        21
سادساً: خروج روح الكافر واحتضاره.                        25
               
المحث الثاني: الموت.                                29
أولاً: الحكمة من الموت.                                33
ثانياً: ساعة الموت اخطر لحظة في عمر الإنسان.                    35
ثالثاً: أسباب حسن الخاتمة.                                37
1ــ إقامة التوحيد (جلّ وعلا).                            37
2ــ الإستقامة.                                        37
3ــ التقوى.                                        38
4ــ الصدق.                                        38
5ــ التوبة.                                        39
6 ـ الدعاء                                        40
7ــ قصر الأمل والتفكر في حقارة الدنيا.                        40
8ــ الإكثار من ذكر الموت.                                41
9ــ غلبة الرجاء وحسن الظن بالله.                            42
10ــ البعد عن أسباب سوء الخاتمة.                            43
رابعاً: من علامات حسن الخاتمة.                            43
خامساً: من أسباب سوء الخاتمة.                            43
سادساً: قبض أرواح العباد.                                44
سابعاً: الموت مكتوب على الخلائق ولا ينجو منه هارب.                45
ثامناً: الآجال محدودة.                                46

المبحث الثالث: حياة البرزخ.                            49
أولاً: الآيات القرآنية الدالة على عذاب القبر.                    49
ثانياً: فتنة القبر وسؤال الملكين.                            51
1ــ اسم الملكين: منكر ونكير.                            52
2ــ عودة الروح إلى الميت عند السؤال.                        53
3ــ ما ينتفع به الميت من عمل الأحياء.                        55
4ــ بكاء السماء على الميت.                                57
5ــ ما يتبع الميت إلى قبره.                                57
6ــ القبر أول منازل الآخرة.                                57
7ــ نعيم القبر وعذابه ينال من دفن ومن لم يدفن.                    57
8ــ الحكمة من عذاب القبر ونعيمه.                            58
9ــ هل عذاب القبر دائم أم منقطع؟                            58
ثالثاً: أسباب عذاب القبر.                                60
1ـ الشرك بالله.                                    62
2ــ النفاق.                                        62
3ــ النميمة وعدم الاستتار من البول.                            62
4ــ الغلول.                                        63
5ــ جرّ الإزار من الخيلاء.                                63
6ــ حبس المدين في قبر بدينه.                            63
7ــ عقوبة الآخذ بكتاب الله ثم رفضه والنائم عن الصلاة المكتوبة.            63
8ــ عقوبة الكذب.                                    64
9ــ عقوبة الزناة والزواني.                                64
10ــ عقوبة آكل الربا.                                65
11ــ الإفطار في رمضان من غير عذر.                        65
12ــ من حرمت رضيعها من ثديها.                            65
13ــ حبس الحيوان وتعذيبه.                                66
14ــ الذين يقولون ما لا يفعلون.                            66
15ــ النياحة على الميت.                                66
16ــ السرقة.                                        67
17ــ الإعراض عن ذكر الله.                                67
رابعاً: الأسباب المنجية من عذاب القبر.                        67
1ــ توحيد الله.                                        68
2ــ الأستقامة على طاعة الله عز وجل.                        68
3ــ الصلاة والزكاة والصيام وفعل الخيرات.                    69
4ــ الشهادة في سبيل الله تعالى.                            70
5ــ الرباط في سبيل الله.                                71
6ــ التعوذ بالله من عذاب القبر.                            72
7ــ الدعاء.                                        72
8 ـ تجنب أسباب عذاب القبر.                            73
خامساً: مستقر الأرواح في البرزخ.                            73
1 ـ أرواح الأنبياء.                                    74
2 ـ أرواح الشهداء.                                    74
3 ـ أرواح المؤمنين.                                    74
4 ـ أرواح العصاة.                                    74
5 ـ أرواح الكفار.                                    75

الفصل الثاني: علامات الساعة الصغرى والكبرى والنفخ في الصور.        76
المبحث الأول: علامات الساعة الصغرى.                        76
أولاً: إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن الغيوب المستقبلية.            76
ثانياً: علم الساعة.                                    77
ثالثاً: قرب قيام الساعة.                                78
رابعاً: مجمل أشراط الساعة الصغرى.                        79

المبحث الثاني: أشراط الساعة الكبرى فـي القـرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة.                                        82
أولاً: نزول عيسى عليه السلام.                            82
ثانياً: يأجوج ومأجوج.                                85
ثالثاً: الدخان.                                        86
رابعاً: طلوع الشمس من مغربها.                            86
خامساً: خروج الدابة.                                87
سادساً: المهدي.                                    88
سابعاً: المسيح الدجال.                                89
ثامناً: الخسوفات الثلاثة.                                92
تاسعاً: النار التي تحشر الناس.                            93

المبحث الثالث: النفخ في الصور.                            94
أولاً: ما هو الصور.                                    94
ثانياً: عدد النفخات.                                    95
ثالثاً: الآيات التي يقصد بها النفخة الأولى.                        98
رابعاً: الآيات التي يقصد بها النفخة الثانية.                        98
خامساً: الآيات التي تحتمل الأمرين.                            99

الفصل الثالث: البعث والحشر وأهوال يوم القيامة وأحوال الناس:           101
المبحث الأول: البعث.                                       101
أولاً: الاستدلال بمن أماتهم ثم أحياهم كما أخبر الله تعالى عن ذلك منهم:        101
1 ـ قوم موسى عليه السلام.                                   101
2 ـ المضروب بعضو من أعضاء البقرة.                           102
3 ـ الذين خرجوا من ديارهم فأماتهم ثم أحياهم.                       102
4 ـ ما حصل لعزير.                                       102
5 ـ سؤال إبراهم عليه السلام عن كيفية إحياء الموتى.                   102
6 ـ ما أخبر الله ه عيسى عليه السلام من أنه كان يحي الموتى.               102
7 ـ ما أخبر الله من قصة أصحا الكهف.                           103
ثانياً: الاستدلال على البعث بالنشأة الأولى.                           103
ثالثاً: الاستدلال على إمكان البعث بخلق الأكوان، مثل السماوات والأرض.     105
رابعاً: الاستدلال على إمكان البعث بخلق النباتات المختلفة.               105
خامساً: الاستدلال على البعث والإعادة بإخراج النار من الشجر الأخضر.           107
سادساً: الاستدلال على البعث بأن حكمة الله وعدله يقتضيان البعث والجزاء.  108
سابعاً: إخار اعليم اخبير وقوع القيامة.                           109
ثامناً: قياس البعث على النوم.                               111
تاسعاً: الفطرة تدل على البعث.                               112
عاشراً: أسماء يوم القيامة.                                   112

المبحث الثاني: الحشر وأهوال يوم القيامة وأحوال الناس.               113
أولاً: الحشر.                                           113
1 ـ مكان الحشر (أرض الحشر).                               114
2 ـ صفة الناس في الحشر.                                   114
ثانياً: أهوال يوم القيامة.                                   117
1 ـ دك الأرض ونسف الجبال.                               117
2 ـ قبض الأرض وطي السماء.                               118
3 ـ تفجير البحار وتسجيرها.                                   119
4 ـ موران السماء وانفطارها.                               119
5 ـ تكوير الشمس وخسف القمر، وتناثر النجوم.                       120
6 ـ تبديل الأرض.                                       121
7 ـ سجود الخلائق لله سبحانه عند إتيانه للفصل بين العالمين ونزول الملائكة.   122
ثالثاً: أحوال الكفار يوم القيامة.                               123
1 ـ ذلتهم وهوانهم وحسرتهم ويأسهم.                           124
2 ـ إسوداد وجوههم وتغيرها.                               124
3 ـ إحباط أعمال الكفار.                                   125
4 ـ فضيحتهم أمام الخلائق.                                   125
5 ـ تخاصم الكفرة في الموقف.                               125
أ ـ تخاصم العابدين والمعبودين.                               125
ب ـ تخاصم الأتباع مع القادة المضلين.                           126
جـ ـ تخاصم الضعفاء مع السادة والملوك.                           126
د ـ تخاصم الكافر وقرينه.                                   126
هـ ـ تخاصم المرء مع أعضاءه.                               127
6 ـ مقتهم لأنفسهم.                                       127
7 ـ صفة حشر الكفار إلى النار.                               127
أ ـ حشرهم وهم عطاشى.                                   128
ب ـ حشرهم عمياً وصماً وبكماً.                               128
جـ ـ يحشرون إلى جهنم على وجوههم.                           128
س ـ حشرهم مع شياطينهم وهم جاثون على الركب.                   128
رابعاً: أحوال عصاة الموحدين.                               129
1 ـ الذين لا يؤدون الزكاة.                                   129
2 ـ ذنوب لا يكلم الله أصحابها ولا يزكيهم.                          130
3 ـ الغلول.                                           131
4 ـ المتكبرون.                                       132
5 ـ الأثرياء المنعمون.                                   133
6 ـ فضيحة الغادر.                                       133
7 ـ غاصب الأرض.                                       134
8 ـ ذو الوجهين.                                       134
9 ـ الحاجب الذي يحتكم عن رعيّته.                               134
10 ـ الذي يسأل وله ما يغنيه.                               134
11 ـ من كذب في حلمه.                                   134
خامساً: حال الأتقياء.                                       134
1 ـ لا يخافون ولا يحزنون ولا يفزعون.                           135
2 ـ بياض وجوههم.                                       135
3 ـ الذين يظلهم الله في ظله.                                   136
4 ـ الذين يسعون في حاجة إخوانهم ويسدون خلتهم.                       137
5 ـ الذين ييسرون على المعسرين.                               137
6 ـ الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولّوا.                       137
7 ـ الشهداء والمرابطون.                                   137
8 ـ الكاظمون الغيظ.                                       138
9 ـ عتق الرقاب المسلمة.                                   138
10 ـ فضل المؤذنين.                                       138
11 ـ الذين يشيبون في الإسلام.                               139
12 ـ فضل الوضوء.                                       139

المبحث الثالث: الشفاعة.                                   140
أولا: الأدلة القرآنية والنبوية في ثبوت الشفاعة.                       140
ثانياً: أقسام الشفاعة في الآخرة.                               142
1 ـ الشفاعة الصحية.                                       142
2 ـ الشفاعة الباطلة.                                       142
ثالثاً: شروط الشفاعة:                                   142
1 ـ رضى الله عن الشافع.                                   142
2 ـ رضى الله عن المشفوع.                                   143
3 ـ إذن الله بالشفاعة.                                       143
رابعاً: أنواع الشفاعة.                                   144
1 ـ الشفاعة العظمى.                                       144
2 ـ اختصاصه صلى الله عليه وسلم باستفتاح باب الجنة.                   144
3 ـ الشفاعة في رفع درجات أقوام من أهل الجنة.                       145
4 ـ الشفاعة في بعض الكفار من أهل النار حتى يخفف عنهم.               146
5 ـ الشفاعة في أهل الكبائر.                                   146
6 ـ الشفاعة في أقوام يدخلون الجنة بغير حساب.                       147
7 ـ شفاعة الرسول في أقوام تساوت حسناتهم وسيئاتهم:                  
فيشفع فيهم ليدخلوا الجنة، وفي الآخرين قد أمر بهم إلى النار أن لا يدخلوها.    147
خامساً: الشفعاء غير النبي صلى الله عليه وسلم.                       147
1 ـ الملائكة.                                           147
2 ـ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمؤمنون الصالحون.                   147
3 ـ الشهداء.                                           148
4 ـ أولاد المؤمنون.                                       148
5 ـ القرآن الكريم.                                       148
سادساً: الأسباب الجالبة للشفاعة.                               148
1 ـ التوحيد وإخلاص العبادة لله.                               149
2 ـ الصيام.                                           149
3 ـ الدعاء بما ورد عند الأذان                               149
4 ـ سكن المدينة والصبر على لأوائها.                           149
5 ـ الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم.                       149
6 ـ صلاة جماعة من المسلمين على الميت المسلم.                       150
7 ـ كثرة السجود.                                       150

المبحث الرابع: الحساب والميزان والحوض والصراط.                   151
أولاً: إيتاء العباد كتبهم.                                   151
ثانياً: سؤال كل الناس عن أعمالهم.                               153
ثالثاً: الأمور التي يسأل عنها العبد يوم القيامة.                       155
1 ـ الكفر والشرك.                                       155
2 ـ كذبهم في حق الملائكة.                                   156
3 ـ النعيم الذي أنعم عليه في الدنيا.                               156
4 ـ العهود والمواثيق.                                       156
5 ـ العلم والسمع والبصر والفؤاد.                               156
6 ـ إضلال المضلين للناس.                                   156
7 ـ الدين ونصرته والقرآن والعمل به.                           156
8 ـ يسأل العبد عن صلاته.                                   156
9 ـ وسيسأل كل عبد عن أشياء.                               156
رابعاً: القواعد التي يحاسب العباد على أساسها.                       157
1 ـ عدل الله التام.                                       157
2 ـ لا يحتمل أحد ذنب أحد.                                   157
3 إطلاع العباد على ما قدموه من أعمال.                           157
4 ـ مضاعفة الحسنات دون السيئات.                               158
5 ـ تديل السيئات حسنات.                                   159
خامساً: إقامة الشهود على الناس.                               159
1 ـ شهود الملائكة.                                       160
2 ـ شهود الرسل عليهم.                                  160
3 ـ وتشهد أمة محمد على الخلق.                               161
4 ـ شهود نبينا محمد صلى الله ليه وسلم.                           161
5 ـ شهود جوارح الإنسان من الألسن والأيدي على نفسه.                   162
6 ـ وتشهد الأرض.                                       162
7 ـ أعظم شهيد وأجل شهيد.                                   162
8 ـ شهودهم على أنفسهم.                                   163
سادساً: اقتصاص المظالم بين الخلق.                           163
1 ـ عظم شأن الدماء.                                       164
2 ـ أول ما يقضى بين العباد في الدماء.                           165
سابعاً: الحوض.                                       165
ثامناً: الميزان.                                       170
1 ـ دقة الميزان.                                       170
2 ـ المؤمنون هم المفلحون.                                   171
3 ـ الأعمال التي تثقل الميزان.                               172
تاسعاً: الصراط.                                       173
1 ـ حديث أبي سعيد الخضري رضي الله عنه.                       174
2 ـ الأمانة والرحم على جنبتي الصراط.                           175
3 ـ تهذيب المؤمنين وتنقيتهم قبل دخولهم الجنة.                       176
4 ـ عظة المرور على الصراط.                               177

الفصل الرابع: النار والجنة.                                   179
المبحث الأول: مقدمات.                                   179
أولاً: خلود الجنة والنار.                                   179
1 ـ الجنة.                                           179
2 ـ خلود النار.                                       180
3 ـ هل المراد بالخلود طول المكث.                               181
4 ـ هل تفنى النار؟ وهل يموت أهلها؟ وهل يخفف العذاب عن أهلها؟.           183
ثانياً: الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان الآن.                       184
ثالثاً: مكان الجنة.                                       185
رابعاً: مكان النار.                                       186
خامساً: أصحاب الأعراف.                                   187

المبحث الثاني: النار.                                       190
أولاً: أسماء النار.                                       190
1 ـ النار.                                           190
2 ـ سعيرا.                                           190
3 ـ جهنم.                                           190
4 ـ لظى.                                           190
5 ـ سقر.                                           191
6 ـ الهاوية.                                           191
7 ـ الحطمة.                                           191
8 ـ الجحيم.                                           191
ثانياً: خزنة النار.                                       193
1 ـ عدد خزنة لنار.                                       193
2 ـ أسماء خزنة النار.                                   193
3 ـ صفاتهم.                                           194
ثالثاً: صفة النار.                                       195
1 ـ أبواب النار.                                       195
2 ـ دركات النار.                                       196
3 ـ وقود النار.                                       198
4 ـ شدة حرَّها وعظم دخانها وشرارها.                           198
5 ـ النار تتكلم وتبصر وتغضب.                               199
6 ـ وديان النار.                                       200
أ ـ وادي الويل.                                       200
ب ـ وادي الغي.                                       200
جـ ـ وادي المَوْبق.                                       201
7 ـ جبال النار.                                       201
8 ـ سرادق النار.                                       201
9 ـ سعة النار وبُعد عقرها وعظم عمقها.                           202
10 ـ وصف عذاب النار.                                   203
11 ـ كيفية دخول أهل النار إلى جهنم.                           205
12 ـ أول من تسعر بهم النار يوم القيامة.                           206
ثالثاً: ما أعد الله لأهل النار من عذاب.                           207
1 ـ شدة العذاب.                                       207
2 ـ إحاطة النار بأهلها.                                   208
3 ـ قيود أهل النار وإغلالهم وسلاسلهم ومطارقهم.                       209
4 ـ قرن أهل النار بمعبوداتهم وشياطينهم.                           211
5 ـ سجون أهل النار.                                       211
6 ـ طعام أهل النار.                                       212
أ ـ يأكلون النار.                                       212
ب ـ الزقوم.                                           212
جـ ـ الغسلين.                                           214
س ـ الضريع.                                           214
ك ـ طعام ذو غصة.                                       214
7 ـ شرابهم.                                           214
أ ـ الحميم.                                           214
ب ـ ماء الصديد.                                       215
جـ ـ ماء كالمُهل.                                       216
س ـ الغساق.                                           216
8 ـ لباس أهل النار.                                       217
9 ـ صور من عذابهم.                                       217
أ ـ إنضاج الجلود.                                       218
ب ـ الصهر.                                           218
جـ ـ اللفح.                                           218
س ـ السحب.                                           219
ش ـ تسويد الوجوه.                                       220
ك ـ اندلاق الإمعاء في النار.                                   221
ل ـ حياة جهنم.                                       221
ي ـ كثرة أهلها.                                       222
رابعاً: مطالب أهل النار في الآخرة.                               223
1 ـ طلب الفداء.                                       223
2 ـ طلب العودة إلى الدنيا لعمل الصالحات.                           225
3 ـ طلب الانتقام من الأولياء.                               230
4 ـ طلب الاستنجاد بالشركاء والأولياء.                           232
5 ـ طلب الخروج من النار.                                   235
6 ـ طلب التخفيف من العذاب.                               237
7 ـ طلب القضاء عليهم.                                   237
8 ـ طلب سقيا الماء والطعام.                                   237
9 ـ طلب النور.                                       238
خامساً: جملة الجرائم التي تدخل النار.                           239
سادساً: أكبر جرائم المخلدين في النار.                           239
1 ـ الكفر والشرك.                                       240
2 ـ طاعة قرناء السوء.                                   240
3 ـ النفاق.                                           240
4 ـ الكبر.                                           240
5 ـ عدم القيام بالتكاليف الشرعية.                               241
سابعاً: أشخاص بأعيانهم في النار.                               241
1 ـ فرعون وجنوده.                                       241
2 ـ قارون وهامان.                                       241
3 ـ إبليس.                                           242
4 ـ إمرأة نوح وإمرأة لوط.                                   242
5 ـ كفرة الجن في النار.                                   242
6 ـ أحد أبناء نوح.                                       243
7 ـ قوم نوح.                                           243
8 ـ قوم عاد.                                           243
9 ـ قوم ثمود.                                           243
10 ـ قوم لوط.                                       243
11 ـ قوم شعيب.                                       244
12 ـ بنو النضير من اليهود.                                   244
13 ـ أبو لهب وامرأته.                                   244
14 ـ الوليد بن المغيرة.                                   245

المبحث الثالث: موانع إنفاذ الوعيد.                               246
أولاً: التوبة.                                           246
ثانياً: الاستغفار.                                       247
ثالثاً: الحسنات الماحية.                                   248
رابعاً: دعاء المؤمنين.                                   249
خامساً: إهداء القربات.                                   251
سادساً: الشفاعة في أهل الكبائر.                               255
سابعاً: المصائب المكفرة.                                   255
ثامناً: العفو الإلهي.                                       257

المبحث الرابع: الجنة.                                   260
أولاً: الطريق إلى الجنة.                                    260
1 ـ التوبة.                                           262
2 ـ تزكية النفس.                                       262
3 ـ التقوى.                                           262
4 ـ الصبر في البأساء والضراء.                               262
5 ـ الجهاد في سبيل الله.                                   262
6 ـ الشهادة.                                           263
7 ـ الاتعاد عن الكبائر.                                   263
8 ـ إقامة الصلاة والإنفاق في سبيله تعالى.                           263
9 ـ التوكل على الله.                                       263
10 ـ قيام الليل.                                       263
11 ـ خوف الله.                                       264
ثانياً: هل الجنة ثمناً للعمل.                                   267
ثالثاً: أول وآخر من يدخل الجنة.                               268
رابعاً: الذين يدخلون الجنة بغير حساب.                           269
خامساً: أسماء الجنة.                                       271
1 ـ الجنة.                                           271
2 ـ جنة الخلد.                                           271
3 ـ جنة النعيم.                                       271
4 ـ جنة المأوى.                                       271
5 ـ جنات عدن.                                       271
6 ـ دار السلام.                                       271
7 ـ دار المتقين.                                       272
8 ـ دار الآخرة.                                       272
9 ـ الحسنى.                                           273
10 ـ دار المقامة.                                       273
سادساً: صفة الجنة.                                       273
1 ـ أبواب الجنة.                                       274
2 ـ قصور الجنة وخيامها.                                   275
3 ـ أشجار الجنة وثمارها.                                   276
أ ـ الشجرة التي يسير الراكب فيها مائة عام.                           278
ب ـ سدرة المنتهى.                                       279
جـ ـ شجرة طوبى.                                       279
4 ـ درجات الجنة.                                       280
5 ـ أنهار الجنة.                                       284
6 ـ عيون الجنة.                                       285
أ ـ عين الكافور.                                       285
ب ـ عين السلسبيل.                                       286
جـ ـ عين التسنيم.                                       287
7 ـ نور الجنة.                                           287
8 ـ ريح الجنة.                                       288
9 ـ دواب الجنة وطيورها.                                   289
10 ـ الجنة لا مثل لها وأنها فوق ما يخطر بالبال أو يدور في الخيال.           290
سابعاً: أصحاب الجنة.                                   291
1 ـ معرفة أهل الجنة لمساكنهم.                               292
2 ـ هل الرجال أكثر في الجنة أم النساء؟                           292
3 ـ أطفال المؤمنين.                                       293
4 ـ إجتماع أهل الجنة وحديثهم.                               294
5 ـ أعلى أهل الجنة.                                       295
6 ـ أهل الجنة يرثون نصيب أهل النار في الجنة.                       296
7 ـ زوجة المؤمن إذا ماتت على الإيمان مع زوجها المؤمن في الجنة.           297
8 ـ مؤمنو الجن يدخلون الجنة.                               297
9 ـ ضحك أهل الجنة من أهل النار.                               297
ثامناً: سادة أهل الجنة.                                   298
1 ـ الأنبياء والرسل.                                       298
2 ـ سادات الصحابة.                                       299
3 ـ سيدات نساء أهل الجنة.                                   301
تاسعاً: فضل نعيم الجنة على متاع الدنيا.                           304
1 ـ متاع الدنيا قليل.                                       304
2 ـ هو أفضل من حيث النوع.                               305
3 ـ الجنة خالية من شوائب الدنيا وكدرها.                           306
4 ـ نعيم الدنيا زائل ونعيم الآخرة باق.                           306
5 ـ العمل لمتاع الدنيا ونسيان الآخرة.                           308
عاشراً: نعيم أهل الجنة.                                   308
1 ـ طعام أهل الجنة.                                       308
ــ الفاكهة بجميع أنواعها.                                   308
ــ لحم الطير.                                           309
2 ـ شراب أهل الجنة.                                       310
•    ــ العسل واللبن والماء.                               310
•    ــ الكافور.                                       310
•    ــ الزنجبيل.                                       310
•    ــ التسنيم.                                       311
•    ــ الخمر.                                       311
3 ـ آنية طعامهم وشرابهم.                                   313
4 ـ لباس أهل الجنة وحليهم.                                   314
•    ــ الحرير .                                       314
•    ــ الذهب.                                       315
•    ــ الفضة.                                       315
•    ــ اللؤلؤ.                                      315
5 ـ فرش أهل الجنة.                                       316
6 ـ بسط أهل الجنة.                                       316
7 ـ الوسائد.                                           316
8 ـ سرر وأرائك أهل الجنة.                                   316
9 ـ خدم أهل الجنة.                                       318
10 سوق أهل الجنة.                                       319
11 ـ سماع أهل الجنة.                                   319
12 ـ لهم ما اشتهت نفوسهم.                                   320
13 ـ الجمع بين متاع الدنيا ونعيم الآخرة.                           321
الحادي عشر: الحور العين.                                   321
1 ـ جمال وحسن الحور العين.                               321
2 ـ صفاتهن الخُلُقِية.                                       322
3 ـ صفاتهن الخلْقيَّة.                                       323
أ ـ مطهرات من الأنجاس.                                   323
ب ـ حور عين.                                       324
جــ ـ أتراب في السن.                                       324
د ـ أبكار.                                                325
هـ ـ كواعب.                                           325
4 ـ غيرة الحور العين.                                   325
5 ـ يعطي المؤمن في الجنة قوة مائة رجل.                           326
الثاني عشر: أفضل ما يعطاه أهل الجنة النظر إلى وجه الله الكريم.           328
1 ـ آيات المزيد.                                       328
2 ـ الآيات الصريحة في النظر إلى وجه الله تعالى.                       329
3 ـ آيات حرمان الكفار من رؤيته سبحانه.                           329
4 ـ آيات العندية.                                       330
5 ـ آيات الملاقاة.                                       331
6 ـ الأحاديث النوية في الرؤية.                               331
7 ـ رضوان من الله أكبر.                                   332
الثالث عشر: آخر دعواهم أ، الحمد لله رب العالمين.                   333
ــ الخاتمة.                                           335

 
كتب صدرت للمؤلف:
1ـ السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث.
2ـ سيرة الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: شخصيته وعصره.
3ـ سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: شخصيته وعصره.
4ـ سيرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: شخصيته وعصره.
5ـ سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: شخصيته وعصره.
6ـ سيرة أمير المؤمنين الحسن بن علي بن أبي طالب. شخصيته وعصره.
7ـ الدولة العثمانية: عوامل النهوض والسقوط.
8ـ فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم.
9ـ تاريخ الحركة السنوسية في إفريقيا.
10ـ تاريخ دولتي المرابطين والموحدين في الشمال الإفريقي.
11ـ عقيدة المسلمين في صفات رب العالمين.
12ـ الوسطية في القرآن الكريم.
13ـ الدولة الأموية، عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار.
14ـ معاوية بن أبي سفيان، شخصيته وعصره.
15ـ عمر بن عبد العزيز، شخصيته وعصره.
16ـ خلافة عبدالله بن الزبير.
17ـ عصر الدولة الزنكية.
18ـ عماد الدين زنكي.
19ـ نور الدين زنكي.
20ـ دولة السلاجقة.
21ـ الإمام الغزالي وجهوده في الإصلاح والتجديد.
22ـ الشيخ عبد القادر الجيلاني.
23ـ الشيخ عمر المختار.
24ـ عبد الملك بن مروان بنوه.
25ـ فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة.
26ـ حقيقة الخلاف بين الصحابة.
27ـ وسطية القرآن في العقائد.
28ـ فتنة مقتل عثمان.
29ـ السلطان عبد الحميد الثاني.
30ـ دولة المرابطين.
31ـ دولة الموحدين.
32ـ عصر الدولتين الأموية والعباسية وظهور فكر الخوارج.
33ـ الدولة الفاطمية.
34ـ حركة الفتح الإسلامي في الشمال الأفريقي.
35ـ صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير البيت المقدس.
36ـ إستراتيجية شاملة لمناصرة الرسول صلى الله عليه وسلم دروس مستفادة من الحروب الصليبية.
37ـ الشيخ عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء.
38ـ الحملات الصليبية (الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة) والأيوبيون بعد صلاح الدين.
39ـ المشروع المغولي عوامل الإنتشار وتداعيات الإنكسار.
40ـ سيف الدين قطز ومعركة عين جالوت في عهد المماليك.
41 ـ الإيمان بالله جل جلاله.
42 ـ الإيمان باليوم الآخر.
43 ـ الشورى في الإسلام.
44 ـ السلطان محمد الفاتح.
 


الإيمان باليوم الآخر

تحميل

عن الكتاب

المؤلف :

علي محمد الصلابي

الناشر :

www.islamland.com

التصنيف :

عقيدة وفرق