التوسل المشروع والممنوع

التوسل المشروع والممنوع: رسالة مختصرة جمع فيها المصنِّف - حفظه الله - ما استطاع من الأدلة من الكتاب والسنة حول موضوع التوسل.

 
التوسل
المشروع والممنوع


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد اتفق جمهور علماء أهل السنة والجماعة على شرعية التوسل، واستدلوا على ذلك بالآيات والأحاديث الصحيحة، إلا أن بعض المسلمين أشكل عليهم فهم كيفية التوسل الوارد في الكتاب والسنة وعمل سلف هذه الأمة، وفهموا منه مفاهيم خاطئة تتنافى مع مبادئ الإسلام وهدي نبيه ، واستدلوا على ذلك بأحاديث ضعيفة وموضوعة ؛ بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك حيث أوَّلوا الآيات الواردة في التوسل تأويلاً يتناسب مع فهمهم الخاطئ.
ومن المعلوم أننا إذا اختلفنا في فهم نصوص الكتاب والسنة فعلينا أن نرجع إلى فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين ، لأنهم أقرب الناس عهدًا بنصوص الوحيين الشريفين ، وهم أهل القرون المفضلة بشهادة النبي ؛ حيث قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم».                 [البخاري]
ومن هنا يجب على كل مسلم آمن بالله ورسوله  أن يجتنب الهوى؛ لأنه مضل عن سبيل الله ، وعليه أن يتبع ما كان عليه سلفنا الصالح. ومن هذا المنطلق أردت أن أوضح هذه المسألة الدقيقة التي كثر فيها الكلام ، وزلت فيها الأقدام على ما نراه عند أهل البدع والأهواء ، فاستعنت بالله تعالى فجمعت ما أمكن من الأدلة الواردة في الكتاب والسنة حول موضوع التوسل. سائلين الله تعالى الإخلاص في النية والسداد في الرأي إنه جواد كريم.
تعريف التوسل:
التوسل لغة: السبب الموصل إلى المقصود، والتقرب إلى المطلوب، والتوصل إليه برغبة، وله معنى آخر هو المنزلة عند الملك والدرجة والقربة.
والوسيلة اصطلاحًا: هي اتخاذ سبب مشروع يُقرِّبُ إلى الله تعالى، وعبادة يراد بها التوصل إلى رضوانه سبحانه، وبما شرعهُ على لسان رسوله ، لنيل المنزلة العالية عنده سبحانه وتعالى، أو لقضاء الحاجات بجلب نفع أو دفع ضر، أو للحصول على مرغوب في الدنيا والآخرة، والتوسل إلى الله لا يكون إلا بما شرعه تعالى.
الوسيلة مبناها ثلاثة أمور:
1- المتوسَّل إليه وهو الله سبحانه وتعالى ذو الفضل والكرم.
2- الواسل أو المتوسِّل وهو العبد الضعيف المحتاج الراغب في قضاء حاجة له.
3- المتوسَّل به وهو العمل الصالح المتقرَّب به إلى الله هو الوسيلة.
ولكي تكون الوسيلة نافعة يحصل بهذا القرب إلى الله وتقضي بها الحاجة، لابد من مراعاة هذه الشروط وتوفيرها لدى المتوسل وهي:
* أن يكون العبد المُتوسِّلُ إلى الله مؤمنًا صالحًا، وأن يقصد بعمله وجه الله.
* أن يكون العمل المُتوسَّل به مما شرع الله لعباده أن يتقربوا به إليه سبحانه.
* أن يكون العمل مشروعًا وموافقًا لسنة رسول الله  لا يزيد عليه ولا ينقص منه، ولا يفعله في غير زمانه ومكانه الذي شرع وحدد له.
ومن هنا نعلم بأن عمل غير المؤمنين لا يكون وسيلة ولا قربة، كما لا تكون البدعة قربةً إلى الله تعالى.
أنواع التوسل:
قسم علماء السنة التوسل إلى قسمين:
توسل مشروع، وتوسل ممنوع.
التوسل المشروع وأنواعه:
التوسل المشروع: هو التقرب إلى الله بما يحبه ويرضاه من العبادات الواجبة أو المستحبة سواء كانت أقوالاً أو أفعالاً أو اعتقادات.
أولاً- التوسل إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا: التوسل إلى الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا من خير الوسائل وأعظمها وأنفعها للعبد، ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] أي: ادعوا الله متوسلين إلى بأسمائه الحسنى؛ فهذه تبين مشروعية التوسل إلى الله باسم من أسمائه أو صفة من صفاته، وأن ذلك مما يحبه الله ويرضاه، ولذلك استعمله رسول الله ، فكان من المشروع لنا أن ندعوه بما دعا به رسوله ؛ وهكذا دعا الصحابة والتابعون وتابعوهم.
ثانيًا: التوسل إلى الله تعالى بعمل صالح قام به الداعي: كأن يقول المسلم: اللهم بإبماني بك، ومحبتي لك واتباعي لرسولك  وإيماني به أن تفرج عني. ومنه أن يذكر الداعي عملاً صالحًا له قام به قاصدًا به الله لا يريد به إلا وجه الله ويسأل الله به؛ كالإيمان بالله ، والصلاة ، والصيام ، والجهاد ، وتلاوة القرآن ، والذكر ، والصلاة على النبي  ، والاستغفار ، وفعل الخيرات مطلقًا ، وترك المحرمات. ودليل مشروعيته قوله تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 16]، ومن السنة ما تضمنته قصة أصحاب الغار التي كانت فيمن كان قبلنا؛ ثلاثة نفر دخلوا الغار وانطبقت عليهم الصخرة؛ فسألوا بأرجى أعمالهم وتوسلوا بها إلى الله، ففرج الله عنهم وكشف كربهم [والحديث متفق عليه].
ثالثًا: التوسل إلى الله بدعاء الصالحين: كأن يقع المسلم في ضيق شديد، ويعلم من نفسه التفريط في جنب الله، فيحب أن يأخذ بسبب قوي إلى الله فيذهب إلى رجل صالح يعتقد فيه التقوى والعلم بالكتاب والسنة؛ فيطلب منه أن يدعو له ربه ليفرج عنه كربه ويزيل همه؛ فهذا النوع من التوسل المشروع دلت عليه الشريعة وأرشدت إليه؛ قال تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]، وجاء قوله : «دعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب مستجابة...» [رواه مسلم]. من ذلك أيضًا ما رواه أنس؛ «أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا  فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا قال: فيُسقون» [البخاري]، ومعنى قول عمر: أي إنا كنا نقصد نبينا  ونطلب منه أن يدعو لنا ونتقرب إلى الله بدعائه؛ والآن وقد انتقل  إلى الرفيق الأعلى ولم يعد من الممكن أن يدعو لنا، فإننا نتوجه إلى عم نبينا العباس ونطلب منه أن يدعو لنا.
وهذه أنواع ثلاثة للتوسل المشروع وما عداها من التوسلات لم يرد فيه دليل تقوم به الحجة، وهذه الأنواع مختلفة الحكم، فمنها ما هو واجب كالتوسل بالأسماء والصفات والإيمان والتوحيد، ومنها ما هو مستحب كالتوسل بالأعمال الصالحة أو دعاء الصالحين.
ولذا كان واجبًا على المسلم أن يتوسل عند الشدائد إلى الله بالوسائل المشروعة، وأن يترك البدع والمعاصي خوفًا من الله وحياءً منه وطاعةً له.
التوسل الممنوع وأنواعه:
هو التقرب إلى الله بما لا يحبه ولا يرضاه من الأقوال والأفعال والاعتقادات.
وهذا النوع من التوسل قد أدى بكثير من المتوسلين إلى الغفلة عن التوسل الشرعي الذي ندب الله إليه ، فانصرفوا عنه ، وحرموا منه بسبب انشغالهم بالممنوع، فخابوا في سعيهم وخسروا.
والآن نذكر بعض أنواع التوسل الممنوع نصحًا للمسلمين وتبليغًا لرسالة الإسلام وتعريفًا بها.
أولاً – التوسل إلى الله تعالى بحق الأشخاص أو جاههم أو منزلتهم: من التوسل البدعي سؤال الله تعالى بجاه أحد من خلقه كقول أحدهم: (اللهم إني أسألك بجاه نبيك أو بجاه عبدك فلان). أو سؤال الله بحق نبيه، أو بحق أحد من عباده، وهذا النوع من التوسل لم يعرفه دين الإسلام. فلم يرد في كتاب الله الذي قال تعالى عنه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ، ولا في سنة نبيه  التي قال أبو هريرة فيها: «علَّمنا رسول الله  كل شيء حتى الخراء» [مسلم]. ولا في فعل أصحابه، والذي أمر الإسلام به هو سؤال الله بأسمائه الحسنة وصفاته العليا، وهذا التوسل البدعي قد يؤدي بصاحبه إلى الشرك الأكبر ، وذلك إن اعتقد أن الله محتاج لواسطة كالأمير والحاكم؛ لأنه يشبِّه الخالق بالمخلوق، والله لا يقاس على خلقه؛ فإن رضاه عن عبد لا يحتاج فيه إلى الوسائط، وغضبه عليه لا تنفع فيه الوسائط.
واعلم أن المخلوق مهما كانت منزلته سواء كان ملكًا أو نبيًا أو رسولاً فلا يجوز لك أن تقيس الله عز وجل عليه؛ لأن المخلوق محتاج إلى الخالق، والله الخالق وحده وهو الغني الذي لا يحتاج إلى واسطة قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ * فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 73، 74]. ولذا فإن الصحابة عدلوا عن التوسل بالرسول  بعد موته إل العباس ليدعو لهم، وليس معناه أنهم كانوا يقولون في دعائهم: اللهم بجاه نبيك اسقنا، ثم أصبحوا يقولون بعد وفاته : اللهم بجاه العباس اسقنا؛ لأن مثل هذا الدعاء البدعي لم يتعلمه الصحابة من النبي  ، وليس له أصل في كتاب الله ولذلك لم يفعلوه، ولو كان التوسل بجاه أحد بعد موته  جائزًا لكان التوسل به أولى، وهذا نوع من التوسل: كشرك المشركين في العهد المكي، قال تعالى عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].
واعلم رحمك الله: أنه إذا وقع التوسل بمخلوق أو بجاه مهما كانت منزلته مع اعتقاد أن له شيئًا من الأمر من جلب نفع أو دفع ضر؛ فهذا شرك أكبر مخرج من ملة الإسلام والعياذ بالله.
ثانيًا – الدعاء والنذر والاستغاثة بالأولياء والصالحين: إن دعاء الصالحين والتوسل بجاههم والنذر لهم وهم أموات «ليس من دين الله في شيء بل هو من الشرك الأكبر ومناف للتوحيد، كقول أحدهم: يا سيدي فلان ومولاي فلان.. خذ بيدي وكن لي كذا.. وادع الله لي بكذا، أو أنا في حماك وأنا بك وبالله، فكل ذلك من الأقوال الشركية.
 كذلك النذر للأموات ليس بوسيلة مشروعة، كقول أحدهم: يا سيدي فلان إن رزقني الله كذا أجعل لك كذا، ويا سيدي فلان أجعل لك كذا، أو إن تحصلت على كذا أجعل لك كذا أو أقدم لك كذا.. وكل هذا النذر يعتبر لغير الله، وعبادة قد صرفت لغيره تعالى، والإسلام بريء منه، قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136]؛ إذ ليس من هدي النبي  وأصحابه والتابعين لهم الإقبال على غير الله ودعاؤهم أو بناء قباب عليهم أو بإيقاد الشموع على أضرحتهم.. وغيرها من الأعمال التي يقوم بها بعض الجهال؛ لأنهم يعتقدون بأن الدعاء يجب أن يصرف لله، كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، وعلمهم إمام الموحدين  بأن: «الدعاء هو العبادة» [رواه الترمذي]، فكيف تصرف الدعاء لغير الله وهو من خصائص الإلهية.
واعلم: أن هذه الأعمال كلها تتنافى مع كلمة التوحيد التي بُعث بها الأنبياء والمرسلون؛ وهو نفي العبادة عن كل أحد وإثباتها لله تعالى وحده لا شريك له، وبينوا بأن الله لا يتقبل من العمل إلا ما كان صالحًا وموافقًا لشرعه، والله يغفر كل شيء إلا الشرك قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48].
ثالثًا- الذبح على أرواح الأولياء والعكوف حول قبورهم: إن ما يفعله بعض الجهلة من المسلمين وما تعارفوا عليه من الذبح على أضرحة الأولياء وعلى المشاهد وحول القباب في المواسم وغيرها من الأوقات، ونقل المرضى إليها والعكوف حولها والمبيت هناك والاستشفاع بأصحاب تلك الأضرحة والقبور ونداؤهم وطلب الدعاء منهم والاستغاثة بهم، كل هذا يعتبر من البدع الضالة فلم يشرعها الله ، وإنما هو من عمل الجاهلية الأولى والشرك بالله تعالى في عبادته. وقد نهى الله عن هذا الشرك فقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]، وقال أيضًا: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] وإن المصرّ على هذا الباطل والمقرّ عليه كلاهما سواء في الحكم، وهو الشرك بالله .
 وإنك لتعجب حين ترى كثيرًا من الجهلة المنتسبين إلى الإسلام يتمسكون بهذه التوسلات البدعية ، ويُعرضون عن أنواع التوسلات المشروعة فلا يستعملون شيئًا منها مع ثبوتها في الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وتراهم بدلاً من ذلك يعمدون إلى أدعية اخترعوها، وتوسلات ابتدعوها لم يشرعها الله عز وجل، ولم يستعملها الرسول  ولم تنقل عن سلف هذه الأمة.
إخوة الإسلام: نحن لم نتفرد بإنكار تلك التوسلات المبتدعة؛ بل هذا هو الأصل في الدين وما طرأ عليه من البدع هي الممنوعة؛ بل هذا هو مذهب الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة ومن تبعهم.
سبب انحراف المسلمين في هذا الأمر
* السبب الأول: والأهم في انحراف كثير من المسلمين في مسألة التوسل الممنوع هو التقليد، والتقليد معناه: الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه، وهذا ممنوع شرعًا، والمقلد هو الذي يقلد عالمًا بعينه، ولا يخرج عن أقواله ولو ثبت له عكس ذلك بالأدلة الشرعية.
ولقد ذمه الله تعالى ونهى عنه في كثير من الآيات قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]، وعلماء السلف والأئمة المجتهدون نهوا عن التقليد أيضًا؛ لأن التقليد أحد أسباب التنازع والضعف في صف المسلمين، والوحدة في الاتباع والرجوع في الخلاف إلى أمر الله وأمر رسوله  ؛ ولذلك لا نرى الصحابة يقلدون منهم أحدًا بعينه في جميع المسائل، وكذلك الأئمة الأربعة رحمهم الله لم يتعصبوا لآرائهم، وكانوا يتركون آراءهم لحديث رسول الله ، وكانوا ينهون غيرهم عن تقليدهم دون معرفة أدلتهم، وهم كانوا يفقهون معنى قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3].
* السبب الثاني: الأخذ ببعض الآيات والأحاديث دون البعض، ومع ذلك فلا تدل على مرادهم ، ولا تُؤيِّدُ رأيهم بل لم يدركوا تفسيرها الصحيح، أو يؤولونه تأويلاً بعيدًا عن الحقيقة، ومن هذه الآيات قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]، والمراد بالوسيلة هنا التقرب إلى الله تعالى بالطاعة والعمل بما يرضيه، وهذا لا خلاف فيه بين المفسرين، أما الاستدلال في هذه الآيات على إباحة الاستغاثة بغير الله؛ فهو تحريف كلام الله عن موضوعه؛ إذًا الوسيلة التي أمر الله بها هي طلب القربة إليه بالعمل الصالح وبما يرضيه، وهذا التفسير لا خلاف فيه بين المفسرين.
ومن الأحاديث التي التبس معناها الصحيح عليهم حديث توسل عمر بالعباس الذي سبق بيانه، وقالوا كان توسلاً بالذات لقرابته من الرسول  فنقول: وما شأن يزيد بن الأسود الجرشي الذي توسل به معاوية والمسلمون لإنزال المطر فدعا الجرشي الله لهم فاستجاب الله الدعاء وأنزل الغيث؟ وكذلك حديث الأعمى الذي قال للرسول : (ادع الله أن يعافيني. فقال : «إن شئت دعوت.. وإن شئت صبرت وهو خير» قال: فادعه فأمره النبي  أن يتوضأ ويحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضي اللهم شفعه فيَّ. فعاد وقد أبصر) ومعنى الحديث واضح بأنه طلب من النبي  أن يدعو له، وأيضًا هو دعا الله أن يتقبل من رسوله  الدعاء، بقوله: اللهم شفعه فيَّ.
* السبب الثالث ؛ العمل بالأحاديث الضعيفة والموضوعة التي لا أصل لها بل تكون أحيانًا مخالفةً لأصل الدين. ونذكر مجموعة منها على سبيل المثال لا الحصر:
- (توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم) – (لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال: يا آدم وكيف عرفت محمدًا ولم أخلقه؟ قال: يا رب لما خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبًا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال: غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك) قال الإمام الذهبي في «الميزان»: خبر باطل وموضوع – (من خرج من بيته إلى الصلاة، فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وأسألك بحق ممشاي هذا..) ضعيف، ضعفه شيخ الإسلام والذهبي.
وأخيرًا: فإن من الواجب على العبد الموحد أن يتجنب أنواع التوسل الممنوع لما في العمل به من الوقوع إما في الشرك الأكبر أو الأصغر أو البدعة المحرمة، ولأن ذلك من التعدي في الدعاء وهو كفيل بعدم الإجابة؛ لأن الله تعالى لا يقبل إلا ما وافق شرعه. كما ينبغي للموحد أن يحرص على الأدعية القرآنية والنبوية؛ لأنها أقرب للإجابة ولما في الدعاء بها من الأجر والثواب.
* الرجاء... اللهم إنا نسألك ونتقرب إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، وإيماننا بك ، وحبنا لنبيك نبي الرحمة ، واتباعًا لسنته  وبأعمالنا الصالحة التي ما أردت بها إلا وجهك الكريم- أن تجعلنا من عبادك الموحدين العاملين في سبيلك داعين بدعوتك، وعلى هدي نبيك ، وأن تثبتنا على الحق، وتنصرنا على أعدائنا؛ إنك سميع مجيب الدعوات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين.

* * *