الوسيط في أحكام الصيام وبعض ما يلحق به من الزكاة ونحوها

الوسيط في أحكام الصيام
وبعض ما يلحق به من الزكاة ونحوها


هذا مختصر كتبه الشيخ "عبدالرحمن بن فهد الودعان الدوسري" ليكون عونًا لكل مسلم على تعلم أحكام فريضة الصوم، وألحق به مسائل تتعلق بالزكاة والعمرة وقيام رمضان وغيرها مما يحتاجه المسلم في شهر رمضان.

 

وقد تضمن الكتاب مقدمة في معنى الصوم، ثم تلتها سبعة عشر فصلًا على النحو التالي:

الفصل الأول: مكانة الصيام وفضله.

الفصل الثاني: وجوب صيام رمضان وعلى من يجب.

الفصل الثالث: الحكمة من مشروعية الصيام.

الفصل الرابع: حكم الصيام قبل شهر رمضان.

الفصل الخامس: بماذا يجب صوم رمضان.

الفصل السادس: أحكام النية في الصيام.

الفصل السابع: من يباح لهم الفطر في رمضان أو يجب.

الفصل الثامن: مفسدات الصيام (المفطرات).

الفصل التاسع: سنن الصيام.

الفصل العاشر: قضاء الصيام.

الفصل الحادي عشر: صيام التطوع.

الفصل الثاني عشر: الأحكام المتعلقة بشهر رمضان.

الفصل الثالث عشر: وجوب زكاة الفطر من رمضان.

الفصل الرابع عشر: مشروعية العيد وصلاته.

الفصل الخامس عشر: أحكام الزكاة.

الفصل السادس عشر: معارك العزة في رمضان.

الفصل السابع عشر: مشروعية المداومة على الأعمال الصالحة.

 

 


المقدمة
الحمد لله وحده، وصلى الله على مَن لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد( ):
فهذا كتاب "الوسيط في أحكام الصيام" كتبتُه ليكون عونًا لكلِّ مسلم على تعلم أحكام هذه الفريضة العظيمة، وألحقتُ به مسائل تتعلق بالزكاة والعمرة وقيام رمضان وغيرها مما يَحتاجه المسلم في شهر رمضان.
أسأل الله - تعالى - أن ينفع به جميع المسلمين، كما أسأله - جل وعلا - أن يغفر لنا ولوالدينا ووالدِيهم، وإخواننا وأخواتنا وأزواجنا وذُرِّياتنا، ولجميع شيوخنا وأساتذتِنا وتلاميذنا وعلمائنا وأحبَّتنا، وأن يجعل الفردوس مأوانا جميعًا، كما أسأله - جلَّ وعلا - أن يغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات... آمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
[email protected]

تمهيد: في معنى الصيام
معنى الصيام:
الصيامُ لغةً هو: الإمساكُ، يقالُ: صام الإنسان إذا سكت وامتنعَ عن الكلام، قال الله - تعالى - إخبارًا عن مريم - رضي الله عنها -: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26]؛ أي: نذرتُ إمساكًا عن الكلام، وكان مشروعًا في شريعتهم لا في شريعتنا.
ويقال: صام النهار، إذا قام قائم الظهيرة ووقفَ سيرُ الشمسِ في نظر الناظر، ويقال: صامت الخيل، إذا وقفت؛ قال النابغة:
خَيلٌ صِيامٌ وَخَيلٌ غَيرُ صائِمَةٍ = تَحتَ العَجاجِ وخيلٌ تَعلُكُ اللُّجُما
والمعنى أنه قسَّم الخيلَ إلى ثلاثة أقسامٍ؛ خيل واقفة ساكنة ليست في قتال، فهي مُستغنى عنها لكثرة الخيل عندهم، وأخرى غير صائمة، فهي تحتَ العَجاجِ في الحرب والقتال، وقسم ثالث تَعلكُ اللُّجما، يعني قد أُسرجَت وأُلجمت وأُعدَّتْ للحربِ، فهي مُهَيَّأةٌ للقِتال.
والصيامُ شرعًا هو: التعبُّدُ لله تعالى بالإمساكِ عنِ المُفطراتِ من طلوعِ الفجرِ الصادقِ إلى غروب الشمس.

الفصل الأول: مكانة الصيام وفضله
أولاً - مكانة صيام رمضان:
صيام رمضان أحد أركان الإسلام ومبانيه العِظام؛ فعن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان))؛ متفق عليه، وفي لفظ لمسلم: ((وصيام رمضان، والحج))، فقال رجل: الحج، وصيام رمضان، قال: لا، ((صيام رمضان والحج))، هكذا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم( ).
ثانيًا - فضل رمضان وصيامه:
لِصيام رمضان فضائل كثيرة نُوجِزها فيما يلي:
الفضيلة الأولى: أن من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غَفر الله له ما تقدم من ذنبه؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبِه))؛ متفق عليه( ).
والمراد بالإيمان: التصديق بوجوب صومه، والاعتقاد بحق فرضيته، وبالاحتساب: طلب الثواب من الله - تعالى - قال الخطابي - رحمه الله - في معنى الاحتساب: هو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه، طيبةً نفسه بذلك، غير مُستثقِل لصيامه، ولا مستطيل لأيامه؛ اهـ ( )، فهنيئًا لمن فرح برمضان، واستقبله بالبشر والسرور، سعيدًا بلُقياه، فَرِحًا بعطاء ربه فيه، فصامه كما أحب الله وَفْق شريعة الله، وحفظ فيه سمعه وبصرَه ولسانه وجوارحه عما حرَّم الله، هنيئًا له بمغفرة الذنوب، ورضا علام الغيوب.
الفضيلة الثانية: ما خصَّ الله به شهر رمضان من أنه إذا دخل فُتِّحت أبواب الجنة فلم يُغلَق منها باب، وغُلقت أبواب جهنم فلم يُفتَح منها باب، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا دخل رمضان فُتحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب جهنم، وسُلسلت الشياطين))؛ مُتَّفق عليه( ).
وذلك علامةً لدخول هذا الشهر الكريم يُدرِكها أهل السماء، ويَستشعِرها أهل الأرض المؤمنون بخبر الصادق المصدوق، وفي هذا تعظيم لهذا الشهر، وإشعار بمكانته وحرمته، وفيه إيذان بكثرة الأعمال الصالحة فيه، وترغيب للعاملين بطاعة الله - تعالى - وإشعار بقلة المعاصي من أهل الإيمان؛ ولهذا تَكثُر الطاعات في هذا الشهر وتقلُّ المُنكَرات، ويُقبِل المؤمنون على ربهم، وفي علم المؤمنين بذلك تحفيز لهم وتشجيع على فعل الطاعات وترك المُنكَرات، ورفع لهِمَمهم، ودعوة لهم إلى تعظيم هذا الشهر الكريم كما عظَّمه الله - تعالى - بهذه الخصائص التي لا تَكون في غيره.
الفضيلة الثالثة: ما خص الله به شهر رمضان من تصفيد الشياطين جميعًا أو مرَدَتهم بالسلاسل والأغلال تعظيمًا لهذا الشهر الكريم، وليَمتنِعوا من إيذاء المؤمنين وإغوائهم، فلا يَخلصوا إلى ما كانوا يَخلصون إليه في غير رمضان، ولا يَصِلوا إلى ما يريدون من عباد الله من الإضلال عن الحقِّ، والتثبيط عن الخير، وهذا من معونة الله لعباده المؤمنين أنْ حبَس عنهم عدوهم الذي يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير؛ ولذلك تَجِد عند الناس من الرغبة في الخير والعزوف عن الشر في هذا الشهر أكثر مما يكون في غيره من الشهور.
وفي تصفيد الشياطين في رمضان إشارة إلى رفعِ عُذرِ المكلَّف، كأنه يقال له: قد كُفَّت عنك الشياطين فلا تتعلَّلْ بهم في ترْك الطاعة ولا فِعل المعصية، فما بقي إلا هواك ونفْسك الأمارة بالسوء، فلتكن قويًّا عليها تكبَح جماحها، وتأطرها على الحق أطرًا، وليعلم المسلم أنه كلما حافظ على صيامه والتزم بآدابه كان تأثير الشياطين عليه أقلَّ وبُعدهم عنه أكبر، وإذا كان صيامه مجرَّد عادة، لم يُحافظ عليه عما يَجرحه، ولم يلتزم بآدابه كان تأثيرها عليه بحسب بُعدِه عن الصيام الحقيقي.
الفضيلة الرابعة: أن الله - تعالى - خص رمضان بليلة شريفة هي أشرف الليالي وأفضلها، وهي ليلة القدر، ولهذه الليلة فضائل كثيرة، منها: أن الله - تعالى - أنزل فيها القرآن الكريم، ومنها: أن ثواب العمل يُضاعَف فيها إلى ثواب ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، ومنها: أن من قام هذه الليلة غفَر الله له ما تقدَّم من ذنبه( ).
الفضيلة الخامسة: أن من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفَر الله له ما تقدَّم من ذنبه؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه))؛ متفق عليه( ).
ثالثًا - فضل الصيام عمومًا:
للصيام فضائل كثيرة نُوجِزها فيما يلي:
الفضيلة الأولى: أن الله - تعالى - اختصه من بين الأعمال بإضافته إلى نفسه الشريفة إضافة تشريف، وفي هذا مزيَّة عظيمة ليست لغيره من الأعمال؛ كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به))؛ متفق عليه( )، وفي رواية لمسلم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل عمل ابن آدم يُضاعَف، الحسنة عشرُ أمثالها إلى سبعمائة ضِعف، قال الله - عز وجل -: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به؛ يدَع شهوته وطعامه من أجلي)).
الفضيلة الثانية: أن الله - تعالى - وعد أن يجزي الصائمين جزاءً من عنده غير محصور ولا معدود، وأكرم الأكرمين إذا وعد أنه يتولى الجزاء بنفسِه اقتضى ذلك سعة العَطاء، وخروجه عن إحصاء العادِّين وحساب الحاسبين، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قال الله: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به))؛ متفق عليه( )، وفي رواية لمسلم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل عمل ابن آدم يُضاعَف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله - عز وجل -: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به))، وما هنا مُوافِق لقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، والمعنى: أن الصابرين يؤجَرون بلا عدد، وإنما يُصبُّ عليهم الثواب صبًّا بلا حساب، والصوم يجمع أنواع الصبر كلها.
الفضيلة الثالثة: أن الصيام جُنَّة، والمعنى: أنه وقاية لصاحبه من النار، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((والصيام جُنة))؛ متفق عليه( )، وقد جاء مُصرَّحًا بأنه جُنَّة من النار في رواية أحمد والترمذي لهذا الحديث بلفظ: ((والصوم جُنَّة من النار))( ).
الفضيلة الرابعة: أن خُلوف فم الصائم أطيَب عند الله من ريح المسك، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((والذي نفس محمد بيده لخُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك))؛ متفق عليه( )، والخُلوف - بضم الخاء -: تغيُّر رائحة الفم، وهذا يدل على محبة الله - تعالى - لأثر هذه العبادة العظيمة، وإن كان مَكروهًا عند الناس.
الفضيلة الخامسة: أن للصائم فرحتين؛ الأولى: أنه إذا أفطر فَرِح بفِطره، والثانية: أنه إذا لقي ربه فجزاه وأثابه فرح بصومه في الدنيا، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فَرِح، وإذا لقي ربه فَرِح بصومه))؛ متفق عليه( )، وفي رواية لمسلم: ((للصائم فرحتان: فرحة عند فِطره، وفرحة عند لقاء ربه))، وفي رواية له أيضًا: ((إذا لقي الله فجزاه فَرح)).
الفضيلة السادسة: بشارة الصائم بدخول الجنة، وذلك أنه إذا لقي الله يوم القيامة فجازاه الله - تعالى - بصيامه فرح بذلك كما تقدم في الحديث، وفي الإخبار بفرحه وسعادته يوم القيامة بشارة له بدخول الجنة؛ لأن من فرح يوم القيامة لا يَشقى أبدًا.
الفضيلة السابعة: أن الصيام لا يُعادله شيء من الأعمال في ثوابه؛ فقد ثبَت من حديث أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: أتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ: مُرني بعمل يدخلني الجنة، قال: ((عليك بالصوم؛ فإنه لا عِدلَ له))، ثم أتيته الثانية، فقال: ((عليك بالصيام))؛ رواه أحمد والنَّسائي، وصحَّحه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن حجر( ).
الفصل الثاني: وجوب صيام رمضان وعلى مَن يجب
أولاً - حكم صيام رمضان:
أجمع المسلمون على فرضيَّة صوم رمضان إجماعًا قطعيًّا معلومًا بالضرورة من دين الإسلام، فمَن أنكَر وجوبه فقد كفر فيُستتاب، فإن تاب وأقرَّ بوجوبه وإلا قتله الحاكم كافرًا مرتدًّا عن الإسلام.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
وقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185].
وعن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان))؛ متَّفق عليه، وفي لفظ لمسلم: ((وصيام رمضان، والحج))، فقال رجل: الحج، وصيام رمضان، قال: لا، ((صيام رمضان والحج))، هكذا سمعتُه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم( ).
ثانيًا - من يجب عليهم صيام رمضان:
يجب صيام رمضان على من اجتمعت فيه الشروط التالية:
الشرط الأول: الإسلام، فلا يُخاطَب به الكافر، ولا يصح منه لو فعله؛ لأن الإسلام شرط لصحة الأعمال.
الشرط الثاني: البلوغ، فلا يجب الصيام على الصبي مميزًا كان أو غير مميِّز، بلَغ العاشرة أو لم يَبلغها؛ وذلك لأن التكاليف الشرعية كلها لا تجب إلا بالبلوغ؛ لحديث علي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يَستيقِظ، وعن الصبي حتى يَحتلم، وعن المجنون حتى يَعقِل))؛ رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وصحَّحه ابن خزيمة وابن حبان( ).
ويَحصل البلوغ بواحدة من ثلاث علامات، هي:
الأولى: تمام خمس عشرة سنة.
الثانية: خروج المنيِّ الدافق باحتلام أو غيره.
الثالثة: نبات شَعر العانة، وهو الشعر الخشن حول القبُل.
وتزيد الأنثى علامة رابعة هي: خروج دم الحيض.
الشرط الثالث: العقل، فلا يجب الصيام على المَجنون، ولا يصحُّ منه.
وفي حُكمِه: كبير السن الذي أصابه الخرف والهذيان، فلا يجب عليه الصوم، ولا الإطعام؛ لارتفاع التكليف عنه بحُصول الخرَف.
الشرط الرابع: القُدرة، فلا يجب الصيام على من عجَز عنه عجزًا دائمًا؛ كالكبير الذي لا يَستطيع الصيام، ولم يَبلغ درج الخرف والهذيان، والمريض مرضًا لا يُرجى شفاؤه، فهؤلاء لا يلزمهم الصيام لعدم القُدرة عليه، ويلزمهم بدلُه، وهو: إطعام مسكين واحد عن كل يوم من أيام رمضان، فإذا كان الشهر ثلاثين يومًا لزِم إطعام ثلاثين مِسكينًا، وإن كان تسعة وعشرين يومًا لزِم إطعام تسعة وعشرين مسكينًا.
ثالثًا - من لا يجب عليه الصيام:
الذين لا يجب عليهم الصيام أنواع من الناس، هم:
أولاً: الهَرِم الذي بلَغ الهذيان وسقَط تمييزه فلا يجب عليه الصيام ولا الإطعام عنه؛ لسقوط التكليف عنه بزَوال تمييزه، فأشبه الصبي قبل التمييز، فإن كان يُميِّز أحيانًا ويَهذي أحيانًا وجَب عليه الصوم في حال تمييزه دون حال هذَيانه، والصلاة كالصوم لا تلزمه حال هذَيانه وتلزَمه حال تمييزه.
ثانيًا: المجنون وهو فاقد العقل، فلا يجب عليه الصيام؛ فعن علي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلِم، وعن المجنون حتى يَعقِل))؛ رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه( )، ولا يصحُّ منه الصيام؛ لأنه ليس له عقل يعقل به العبادة ويَنويها، والعبادة لا تصحُّ إلا بنيَّة.
فإن كان يُجنُّ أحيانًا ويُفيق أحيانًا لزمه الصيام في حال إفاقته دون حال جنونه، وإن جُنَّ في أثناء النهار لم يَبطُل صومه كما لو أغمي عليه بمرض أو غيره؛ لأنه نوى الصوم وهو عاقل بنية صحيحة، وعلى هذا فلا يلزم قضاء اليوم الذي حصل فيه الجنون.
ثالثًا: الصغير حتى يبلغ؛ لحديث عليٍّ السابق، ومما يجب التنبُّه له أن بلوغ البنت يَحصل بنزول الحيض منها، وبعض البنات يبلُغْن بذلك مُبكِّرًا في سن العاشرة أو الحادية عشرة أو الثانية عشرة، ويُهمِل أبواها تعليمها ما يجب عليها، ومنه الصيام، وهذا من التقصير في المسؤولية التي أوجبها الله - تعالى - على الأبوين.
فائدة: في مشروعيَّة أمر الصبيان بالصيام إذا أطاقوه:
يُسنُّ لولي الصغير ذكَرًا كان أو أنثى أن يأمره بالصوم إذا أطاقه تمرينًا له على الطاعة ليألفها بعد بلوغه، اقتداءً بالسلف الصالح - رضي الله عنه - فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يُصوِّمون أولادهم وهم صغار، فإذا بكى أحدهم من الجوع جعلوا له اللعبة من العِهن - وهو الصوف ونحوه - فأعطوه إيَّاها ليتلهى بها حتى يأتي موعد الإفطار؛ فعن الرُّبيِّع بنت مُعوِّذ - رضي الله عنها - قالت: أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: ((من أصبح مُفطِرًا فليُتمَّ بقية يومه، ومن أصبح صائمًا فليَصُم))، قالت: فكنا نصومه بعد، ونصوِّم صِبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العِهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار"؛ متفق عليه( ).
وذكر عبدُالله بن أبي الهذيل أنه كان عند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فأُتي برجل قد أفطر وشرب الخمر في رمضان، فلما رُفع إليه عثَر على وجهه، فقال عمر: على وجهك، ويلك، تُفطِر وصِبيانُنا صيام، ثم أمر به فضرَبه الحد ثمانين سوطًا( )، وبعض الأولياء اليوم يَغفُلون عن هذا الأمر ولا يأمرون أولادهم بالصيام، بل إن بعضهم يمنع أولاده من الصيام مع رغبتهم فيه؛ يزعم أن ذلك رحمة بهم، والحقيقة أن رحمتهم هي القيام بواجب تربيتهم على شعائر الإسلام وتعاليمه، وإنما يَمنعهم إذا صاموا فرأى عليهم ضررًا بالصيام، فلا حرَج عليه في مَنعِهم حينئذ.
رابعًا - حكم ترك صيام رمضان ممَّن وجَب عليه:
ترك صيام رمضان كله، أو ترك بعضِه والإفطار فيه بغير عذر ذنب عظيم، وكبيرة من كبائر الذنوب، وقد ورد الوعيد الشديد لفاعله؛ فعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((بينما أنا نائم إذ أتاني رجلان فأخذا بضَبعَيَّ))، وساق الحديث، وقال فيه: ((ثم انطلَقا بي فإذا قوم مُعلَّقون بعراقيبهم، مُشقَّقة أشداقهم دمًا، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يُفطِرون قبل تَحلَّة صومهم))؛ رواه النَّسائي في السنن الكبرى، وصحَّحه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والألباني( ).
ومن وقع منه ذلك وجَب عليه المبادَرة بالتوبة إلى الله - تعالى - والعزم على عدم العودة إلى هذا الإثم العظيم، ويجب عليه قضاء ما أفطَره من الأيام، وإذا كان الفِطر بالجماع، فعليه مع ذلك الكفارة المغلَّظة.

الفصل الثالث: الحِكمة من مشروعية الصيام
أولاً - الحِكمة من مشروعية الصيام:
شرع الله تعالى صيام شهر رمضان لحِكمة عظيمة، هي: تحقيق التقوى؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وتقوى الله - تعالى - تكون باتِّباع شرعه وعبادته وطاعته بفعل ما أمر به وترك ما نَهى عنه؛ وذلك أن الصيام تربية على ترك بعض المُباحات فترة محدَّدة استجابة لأمر الله - تعالى - فإذا استجاب المسلم لترك ما هو مُباح في الأصل، فلَأَنْ يمتنع عما حرَّمه الله - تعالى - في كل وقت وحينٍ أَولى.
فالصيام مدرسة يتربى فيها المسلم على طاعة الله - تعالى - فمن لم يتربَّ في هذه المدرسة فهو كالطالب يدخل المدرسة ويخرج منها ولم يتعلَّم القراءة والكتابة، فلا بد أن يتميَّز المسلم في صيامه بتقوى الله - جل وعلا - فيترك ما اعتاده من التقصير في الواجبات؛ مثل: ترْك صلاةِ الفجر، وترك الصلاة مع الجماعة، كما أنه يَحرِص على ترْك ما اعتاده من المنكرات، مثل: عقوق الوالدين، وشرب الدُّخَان، وحَلقِ اللحية، ومتابعة الأفلام الهابطة، والقنوات الفاسدة، ومُشاهَدة صور النساء بأي طريق، وليعزم على التوبة، والاستمرار على ما اكتسبه في رمضان من عمل الصالِحات وترك المُنكَرات.
ثبَت في صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن لم يدَعْ قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة أن يدَع طعامه وشرابه))( )، وهذا الحديث أصل عظيم في بيان الحكمة من مشروعية الصيام؛ فقد بيَّن فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله - تعالى - لم يشرَع الصيام لأجل الامتناع عن الطعام والشراب ونحوهما من المباحات في الأصل، وإنما شرَع الصيام لحكمة عظيمة هي في حقيقتها ما ذكره الله - تعالى - في كتابه الكريم وهي تقوى الله - جل وعلا - فـ: ((قول الزور)): الكذب وقول الباطل، ((والعمل به)): يعني العمل بالباطل، ((والجهل)): السَّفه، سواء أكان سفهًا على النفس أو على الآخَرين.
ويدخل في الجَهْل جميع المعاصي؛ لأنها من الجهل بالله وعظيم قدرِه وشرعِه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 17]، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: مَن عمل السوء فهو جاهل؛ من جهالته عمل السوء( )، وقال أبو العالية: إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو بجَهالة( )، وقال قتادة: اجتمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأوا أن كل شيء عُصي [الله] به فهو جَهالة، عمدًا كان أو غيره( ).
وقد دلَّ الحديث السابق على أمرَين:
الأول: أنه يتأكَّد على الصائم ترك الذنوب والمعاصي أكثر من غيره، وإلا لم يكن لصيامه معنى.
الثاني: أن الذنوب والمعاصي تؤثِّر في الصوم فتَجرحه وتُضعِف ثوابَه، وإلا لم يكن لتخصيصها بالذِّكر في هذا الحديث معنى.
ورُوي عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - أنه قال: إذا صُمتَ فليَصُم سمعُك وبصرك ولسانك عن الكذب والمَحارم، ودعْ أذى الخادِم( )، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامِك، ولا تجعل يوم فطرك وصومك سواءً( ).
ثانيًا - أسباب التقوى في رمضان:
أسباب التقوى في رمضان كثيرة، منها:
أولاً: فتح أبواب الجنة، فلا يُغلَق منها باب، وفي هذا إيذان بكَثرة الأعمال الصالِحة في رمضان، وترغيب للعاملين بطاعة الله - تعالى.
ثانيًا: إغلاق أبواب النار فلا يُفتح منها باب، وفي هذا إشعار بقلَّة المَعاصي من أهل الإيمان في رمضان.
ثالثًا: تصفيد الشياطين جميعًا أو مرَدَتهم، وفي هذا إشارة إلى رفع عذْر المكلَّف كأنه يُقال له: قد كفَّت عنك الشياطين فلا تتعلل بهم في ترك الطاعة ولا فعل المعصيَّة، فما بقي إلا هواك ونفسك الأمارة بالسوء، فجاهِدها على مرضاة الله - تعالى.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا دخل رمضان فُتحت أبواب الجنة، وغُلقت أبواب جهنم، وسُلسِلت الشياطين))؛ متَّفق عليه( ).
رابعًا: أن الصيام يُذكِّر بالزهد في الدنيا، وذلك بما شرع الله فيه من الامتناع عن أعظم شهواتها، وهي شهوتا: البطن والفرْج.
خامسًا: أن الصيام يُعوِّد النفس على الامتناع عن المَحبوبات والشهوات والعوائد طاعة لله - تعالى - وابتغاء لمرضاته، وفي هذا تعويد لها على عموم الطاعات التي هي حقيقة التقوى.
سادسًا: أن الصيام يُضعِف البدن، فيؤدي به ذلك إلى البُعد عن فعل الشر وارتكاب المعاصي.
سابعًا: أن الصيام في رمضان عبادة مُشترَكة لعموم المسلمين، فيحصل به التعاون على الخير والتنشيط على العبادة، فكل الناس يتعبَّدون معًا ويَستشعِرون التقوى معًا، وكثير منهم لا يرضى التهاون والتكاسُل في هذا الشهر، ولا يَرضى المعصية ولا جَرح صومه، فتَشعُر أن الطاعة حاصلة من الجميع في البيت والشارع والمسجد مما يَزيد الإيمان والتقوى.
ثامنًا: ما هيأ الله - تعالى - فيه من أسباب المَغفِرة، وهي كثيرة، بيانها في الفقرة التالية - إن شاء الله تعالى.
ثالثًا - أسباب المَغفِرة في رمضان:
أسباب المغفرة في رمضان كثيرة، منها:
السبب الأول: صيام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ كما دلَّ عليه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه))؛ متفق عليه( ).
السبب الثاني: قيام رمضان؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه))؛ متفق عليه( ).
السبب الثالث: قيام ليلة القدر؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدَّم من ذنبِه))؛ متفق عليه( ).
السبب الرابع: اجتنابُ كبائر الذنوب، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ((الصلوات الخَمس، والجُمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان؛ مُكفِّرات ما بينهنَّ إذا اجتنَب الكبائر))؛ رواه مسلم( ).
السبب الخامس: التوبة إلى الله - تعالى - من جميع الذنوب، وهي واجبة دائمًا، ووظيفة العمر كله في رمضان وغيره، فيَنبغي على المسلم الحِرص على التوبة وتجديدها دائمًا، فقد كان النبي يَتوب إلى الله دائمًا، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرةً))؛ رواه البخاري( ).
وعن الأغرِّ المُزني - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال: ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرَّة))؛ رواه مسلم( )، بل قال عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما -: ((إن كنا لنعدُّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المَجلس الواحد مائة مرة: ربِّ اغفر لي وتبْ عليَّ، إنك أنت التواب الرحيم))؛ رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وصحَّحه الترمذي وابن حبان( ).
ورمضان كغيره من الأوقات، بل هو أولى بالتوبة وتجديدها؛ لأنه زمن فاضل، فالأعمال الصالِحة فيه أفضل من غيره، والتوبة من أفضل الأعمال الصالِحة.
وقد قسَّم الله - تعالى - الناس إلى قسمين لا ثالث لهما، فقال - تعالى -: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]، قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: قسم العِباد إلى تائب وظالم، وما ثم قسم ثالث البتة، وأوقَع اسم الظالم على من لم يَتب، ولا أظلَم منه لجَهلِه بربه وبحقِّه وبعيب نفسه وآفات أعماله؛ اهـ( )، وقال الإمام النووي - رحمه الله تعالى -: واتَّفقوا على أن التوبة من جميع المعاصي واجبة، وأنها واجبة على الفور، ولا يَجوز تأخيرها، سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة؛ اهـ( ).
فالواجب علينا أن نُبادِر في أيام الإقبال على الله - تعالى - ونُقلع إقلاعًا عامًّا عن جميع الذنوب، فهذه فرصة العمر وما يدرينا لعلها لا تتكرَّر مرةً أخرى، فالتوبة التوبة يا عباد الله، والأوبة الأوبة إلى الله في هذا الشهر الكريم الذي تُقبِل فيه النفوس على الله - تعالى.
وفي اجتماع هذه الأسباب الكثيرة للتقوى في رمضان لا يكون للمسلم عذر في مُجانَبة التقوى وترك أسبابها، وهي لا تتهيَّأ له في غير هذا الشهر كما تهيأت فيه، فلا يَنبغي أن يكون المسلم عاجزًا عن تَحصيل التقوى بعد أن هيَّأ الله أسبابها الكونية والشرعية.
وفي إقبال أكثر الناس على الطاعة في هذا الشهر تحقيق لإعجاز تشريعي عظيم يَتجلَّى لنا بتحقُّق التقوى في هذا الشهر لكثير من الناس مما لم يكن مُتحقِّقًا في غيره من الشهور.
رابعًا - أثر الصيام في التعامل مع الآخرين:
الصيام مدرسة يتربَّى فيها المسلم على تقوى الله - تعالى - والتقوى تتضمَّن حسن التعامل مع الآخَرين، وذلك بسلوك الأخلاق الحسنة التي دعا إليها الإسلام، وتجنُّب الأخلاق المذمومة التي حذَّر منها الإسلام، فلا بدَّ أن يظهر أثرُ الصيام في ذلك على صاحبِه، وهذا ما أرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((وإذا كان يومُ صومِ أحدكم فلا يرفث ولا يصخَب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم))؛ متفق عليه( ).
فيَنبغي للصائم أن يتجنَّب ((الرَّفَث)) وهو: الكلام الفاحِش، و((الصخَب)) وهو: رفع الصوت على الناس من الغضب ونحوه، كما أن عليه ترك الاستِرسال مع من خاطبه بالكلام الخارج عن الأدب واللياقة، وذلك بترك الرد عليه، مع إشعاره بالمانع له من ذلك، والباعث له على التزام حُسْن الأدب ألا وهو الصيام، وليقل له بصريح العبارة: ((إني امرؤ صائم)).
وليعلم الصائم أن هذا الخلُق ليس خاصًّا بحال الصيام، ولكن الصيام هو المدرَسة التي يَنطلِق منها المسلم إلى محاسِن الأخلاق وكريم السجايا؛ قال الله - تعالى -: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]، والمعنى: أنه إذا خاطبَهم جاهل بكلام سوء، ردوا عليه بكلام حسَن يَسلَمون به من الإثم، وقال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، وقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53].
 
الفصل الرابع: حكم الصيام قبل شهر رمضان
أولاً - حكم تقدُّم رمضان بصيام:
أ - نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصيام قبل رمضان بيوم أو يومين، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقدَّموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلا رجل كان يصوم صومًا فليَصمه))؛ متَّفق عليه( )، وهذا النهي يُفيد التحريم؛ لعدم ما يَصرِفه عن ذلك إلى الكراهية.
ب - ورد النهي عن الصيام إذا انتصف شهر شعبان، وذلك في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان النِّصف من شعبان فأَمسِكوا عن الصوم حتى يكون رمضان))؛ رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصحَّحه ابن حبان( )، ومفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق: ((لا تقدَّموا)) يدل على إباحة الصيام قبل رمضان بثلاثة أيام فصاعدًا، وقد اختلَف العلماء - رحمهم الله - في الجمع بين هذَين الحديثين، مع حديث صيامه - صلى الله عليه وسلم - لأكثرِ شعبان( )، وأرجح الأقوال في المسألة:
أن من كان يصوم قبل مُنتصَف شعبان فله أن يصوم بعده من غير كراهية؛ لأن ذلك هو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن لم يكن يصوم قبل منتصف شعبان فيُكرَه له الصيام بعد مُنتصفِه لهذا الحديث، إلى أن يَبقى منه يوم أو يومان فيكون صيامها محرَّمًا كما تَقدَّم.
ت - يُستثنى من النهي عن الصيام قبل رمضان كل ما كان من الصيام المعتاد الذي يصومه الشخص، فهذا جائز؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق: ((إلا رجل كان يصوم صومًا فليَصمْه)) وله أمثلة، منها:
أولاً: من كان يصوم يومًا ويَترُك يومًا، فله أن يصوم إلى نهاية شعبان من غير كراهة.
ثانيًا: من كان يصوم الاثنين والخميس، فله أن يصوم إلى نهاية شعبان ولو وافَق اليوم التاسع والعشرين أو الثلاثين.
ثالثًا: من كان يصوم أكثر شعبان، فله أن يَصوم إلى نهايته ولو اتَّصل برمضان؛ للأحاديث السابقة، وأصرَح منها حديث أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: ((ما رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام شهرين متتابعين، إلا إنه كان يَصِل شعبان برَمضان))؛ رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه( )؛ وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم أكثر شعبان، وهذا من الصيام المعتاد الداخل في الاستثناء الوارد في الحديث، قال مجاهد - رحمه الله -: إذا كان رجل يُديم الصوم فلا بأس أن يَصِله( ).
رابعًا: من بقي عليه قضاء شيء من رمضان، فيجب عليه صيامه ما بقي شيء من شهر شعبان.
ثانيًا - حكم صيام يوم الشك:
اختلف العلماء - رَحِمهم الله - في تحديد يوم الشك، وفي حكم صومه، والصحيح أنه يوم الثلاثين من شعبان مُطلَقًا، سواء أكان في ليلته غيم أو غبار أم لم يكن.
والصحيح مِن أقوال العلماء - رحمهم الله - أنه لا يجوز صيامه؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تَقدَّموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلا رجل كان يَصوم صومًا فليَصمْه))؛ متفق عليه( )، ويؤيده حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنهما - قال: ((مَن صام اليوم الذي يَشكُّ فيه الناس فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم))؛ رواه الأربعة وصحَّحه الترمذي والدارقطني( ).
الفصل الخامس: بماذا يجب صيام رمضان؟
أولاً - بماذا يجب صيام رمضان؟
 أ - لا يجب صيام رمضان حتى يَثبُت دخول الشهر، ويُحكَم بدخول شهر رمضان بواحد من أمرَين:
الأول: رؤية هلال شهر رمضان عقب غروب الشمس من يوم التاسع والعِشرين من شهر شعبان، والدليل على هذا: حديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غمَّ عليكم فاقدروا له))؛ متَّفق عليه( ).
ولا يُشترَط أن يراه كل واحد بنفسه، بل إذا رآه من يَثبُت بشهادته دخول الشهر وجب الصوم على الجميع، وإذا أُعلِن ثبوت الشهر من قِبَل الحكومة بالراديو أو التلفاز أو المواقع الرسمية على الشبكة أو غيرها، وجَب العمل بذلك في دخول الشهر وخروجِه.
الثاني: إكمال شهر شعبان ثلاثين يومًا إذا لم يُرَ هلال رمضان، أو حال دون رؤيته غَيمٌ أو غبار أو غيرهما؛ لأن الشهر القمري لا يزيد على ثلاثين يومًا؛ يدلُّ على ذلك: حديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا رأيتُموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأَفطِروا، فإن غمَّ عليكم فاقدروا له))؛ متفق عليه( )، ومعنى ((فاقدروا له)): قدِّروا له تمام العدد ثلاثين يومًا، كما قاله مالك وأبو حنيفة والشافعي وجُمهور السلف والخلَف( )، ويُبينه الروايات والأحاديث الأخرى؛ ففي رواية لهذا الحديث في البخاري: ((فإن غُمَّ عليكم فأَكمِلوا العدة ثلاثين))( ).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فإن غُبِّي عليكم فأَكمِلوا عدة شعبان ثلاثين))؛ متفق عليه، وهذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: ((فأكملوا العدد))، وفي لفظ له: ((فعدُّوا ثلاثين))( ).
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحفَّظ من هلال شعبان ما لا يتحفَّظ من غيره، ثم يصوم برؤية رمضان، فإن غُمَّ عليه عَدَّ ثلاثين يومًا ثم صام))؛ رواه أحمد وأبو داود، وصحَّحه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني وابن حجر( ).
ثانيًا - أحكام مُتعلِّقة برؤية الهلال:
أ - مَن انتقل من بلدٍ إلى بلد آخر أثناء شهر رمضان:
من انتقل من بلد إلى بلد آخَر أثناء شهر رمضان، وبين البلدين اختلاف في بدء الصيام ونهايته فحكمُه حكم البلد الذي يوجد فيه أثناء دخول الشهر أو خروجِه، على ألا يكون صيامه للشهر أقل من تسعة وعشرين يومًا؛ لأن الشهر الهجري لا يكون أقل من ذلك، فإن كان صيامه أقل كثمانٍ وعشرين يومًا وجب عليه قضاء يوم ليتمَّ له شهر تسعة وعشرون يومًا.
فلو انتقل أول الشهر من بلد ثبتَت فيه الرؤية ليلة الأول من رمضان إلى بلد آخَر لم تَثبُت فيه الرؤية فلا يلزمه الصوم اعتبارًا بالبلد الذي سافر إليه، وإذا انتقل شخصٌ آخِرَ الشهرِ إلى بلد وجَب عليه أن يصوم مع البلد الذي انتقل إليه، ولو زاد صيامه عن ثلاثين يومًا بيوم أو يومين؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: ((وإذا رأيتموه فأَفطِروا))؛ متفق عليه( )، وهو في بلد لم يروا فيه هلال شوال، فحكمُه حكمُهم.
ب - إذا صام الناس ثمانيةً وعشرين يومًا من رمضان، ثم رأوا هلال شوال:
إذا صام الناس ثمانية وعشرين يومًا من رمضان، ثم رأوا هلال شوال، وثبَت ذلك بالشهادة المُعتبَرة شرعًا، فإنه يلزمهم الإفطار؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وإذا رأيتموه فأَفطِروا))؛ متَّفق عليه( )، ولأن هذا يوم عيد، وقد ثبَت النهيُ عن صيام يوم العيد.
ويجب عليهم قضاء يوم واحد فقط؛ لأن الشهر الهجري لا يمكن أن يكون أقل مِن تسعة وعشرين يومًا، قال الوليد بن عتبة الليثي: صُمْنا مع علي - رضي الله عنه - ثمانية وعشرين يومًا، فأمرَنا يوم الفِطر أن نقضي يومًا( ).

الفصل السادس: أحكام النية في الصيام
أولاً - النيَّة شرط لصحة الصيام:
الصيام - كغيره من العبادات - لا يَصحُّ إلا بنيَّة؛ لحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيَّة، وإنما لامرئ ما نوى، فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يُصيبها، أو امرأة يتزوَّجها، فهِجرته إلى ما هاجَر إليه))؛ متَّفق عليه( )، فمَن أمسك عن الطعام والشراب وسائر المُفطِرات طوال النهار ولم يَنوِ الصيام الشرعي لم يُعتبَر صائمًا.
اشتراط استِدامة نيَّة الصيام:
مِن شرط صحَّة الصيام عدم قطْع نيَّته طوال النهار، فمَن صام ثم قطَع نية الصيام بأن نوى الإفطار فسَد صومه( ) أكَل أو لم يَأكُل، وله في ذلك حالان:
الحال الأولى: أن يكون هذا اليوم في رمضان وقد قطَع نيته لعذر صحيح؛ كالمرض والسفر، فإنه يُفطِر ويقضي بدلاً عنه، وإن كان لغير عذر شرعي فسَد صومه ووجب عليه الإمساك بقية اليوم؛ لأن كل مَن أفطر في رمضان لغير عذر لزمه الإمساك والقضاء.
الحال الثانية: أن يكون هذا اليوم في غير رمضان، فإن كان صومًا واجبًا كقضاء رمضان أو صيام نَذرٍ أثم بقَطعِه، ولم يلزمه الإمساك بقية اليوم، ويقضي بدلاً عنه، وله إن لم يأكل أو يَشرب أن يَستأنِف الصيام بنية التطوُّع.
وإذا كان الصوم تطوعًا فقطَع نيته فلا حرج عليه، وله أن يُفطِر فيأكل أو يَشرب، وله أن يُجدِّد نية الصوم فيستأنف صيامًا جديدًا.
ثانيًا - وقت صحة النية للصيام:
يختلف وقت صحة النية في الصيام الواجب عن غيره، وبيان ذلك فيما يلي:
أولاً: الصيام الواجب بأنواعه؛ مثل: صيام رمضان وقضائه، وصيام النَّذر والكَفارات، وهذا تَجب نيته ليلاً قبل طلوع الفجر؛ وذلك لأن الأصل في النية أن تَسبِق العمل، ويدخل في ذلك الصيام الواجب كله.
ثانيًا: صيام التطوع بأنواعه؛ مثل: صيام عرفة، وستٍّ من شوال، والتطوع المُطلَق، وهذا تصح نيته من أي ساعة من النهار، سواء أكان ذلك قبل الزوال أو بعده( )، بشرط ألا يكون الشخص قد تناوَل مُفطرًا بعد طلوع الفجر.
والدليل على صحة نيته من النهار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سهَّل في ذلك؛ كما في حديث أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخل عليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فقال: ((هل عندكم شيء؟)) فقلنا: لا، قال: ((فإني إذًا صائم))، ثم أتانا يومًا آخَر، فقلنا: يا رسولَ الله، أُهدي لنا حَيْسٌ، فقال: ((أَرينيه، فلقد أصبحتُ صائمًا))، فأكل؛ رواه مسلم( ).
يكفي في صيام رمضان نية واحدة:
يكفي في صيام رمضان نية واحدة من أوله على الصحيح من قولي العلماء - رحمهم الله تعالى - فلا يلزم تجديد النية لكل يوم ليلته، علمًا بأن من أكل بنية الصيام كفاه ذلك عن النية المُعتبَرة.
لكن من قطع نية الصيام لأي سبب من الأسباب، وجَب عليه استئناف النية قبل الفَجر، كما لو سافر أثناء الشهر فنوى الفِطر، أو مرض فنوى الفطر، أو حاضت المرأة، فإنه يجب على كل واحد من هؤلاء استئناف النية من الليل إذا أراد الصيام بعد ذلك، فلو لم ينوِ الصيام حتى أصبح، أو بات مُتردِّدًا ولم يَجزم بالنية حتى أصبح لم يصحَّ صومه ذلك اليوم.

الفصل السابع: مَن يُباح لهم الفِطر في رمضان أو يجب
الأسباب المُبيحَة للفِطر:
تتنوَّع الأسباب المُبيحة للفِطر في رمضان، وهذا بيانها:
السبب الأول: الحَمل أو الرضاعة: فإذا احتاجَت الحامل أو المُرضع إلى الفطر أفطَرت في رمضان كله، أو في بعض أيامه حسَب حاجتها، وإذا صامَت بعضه وأحسَّت بالمشقة عليها أو خافَت على نفسِها أو على جنينها، فلها أن تُفطِر.
أما إذا لم يكن عليها مشقَّة ولا خوف ولا على جنينها ولا طِفلها الرضيع فليس لها الفطر، كما لو كان يَكفيه ما تدرُّ له من الحليب مع صيامها من غير مشقَّة عليها، أو كان يتغذى على الحليب الصناعي فليس لها الفِطر في هذه الحالة؛ لأن الفطر رخصة عند حاجتها إليه أو حاجة طِفلها، فإذا لم تكن حاجة لم يُبَح الفِطر.
والدليل على إباحة الفطر لهما حديث أنس بن مالك الكعبي - رضي الله عنه - قال: أغارت علينا خيلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجدتُه يتغدَّى، فقال: ((ادنُ فكُلْ))، فقلت: إني صائم، فقال: ((ادن أُحدِّثك عن الصوم أو الصيام، إن الله - تعالى - وضَع عن المسافر الصوم وشَطر الصلاة، وعن الحامل أو المرضع الصوم أو الصيام))، والله لقد قالهما النبي - صلى الله عليه وسلم - كلتيهما أو إحداهما، فيا لهف نفسي ألا أكون طعمتُ من طعام النبي - صلى الله عليه وسلم؛ رواه الخمسة وصحَّحه ابن خزيمة( ).
ما يجب على الحامل والمُرضِع إذا أفطرتا؟
إذا أفطرتِ الحامل أو المُرضِع، وجب على كل منهما القضاء بعدد الأيام التي أفطرتها، ووقت القضاء موسَّع إلى زوال عُذرِها، وقد يستمرُّ ذلك سنةً أو سنتين فأكثر، فلا حرج عليها في تأخير القضاء، ولكن متى زال عُذرها وجب عليها القضاء فيما بين زوال العذر إلى رمضان التالي له، وليس عليها مع القضاء إطعام، سواء أكان الفِطر خوفًا على نفسها أو خوفًا على جنينها أو وليدها، على الصحيح من أقوال أهل العلم - رحمهم الله تعالى - وذلك لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أخبر أن الحامل والمُرضع كالمسافر قد وضع الله عنهما الصيام كما وضعَه عنه، والمسافر يقضي فقط؛ كما قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ} [البقرة: 185]، وهكذا الحامل والمُرضع تقضيان فقط، ولأنهما في حكم المريض، والمريض يقضي فقط من غير إطعام.
السبب الثاني: المرض، وللمريض ثلاث أحوال:
الحال الأولى: إذا كان المريض يتضرَّر بالصيام، ولا يُرجى شفاؤه من هذا المرض، مثل: المريض بالسرطان المُنتشِر في البدن، والمريض بالسكري ويَعجز عن الصيام والقضاء، والذي يَغسل الكُلى ولا يستطيع الصيام في رمضان ولا القضاء، فهؤلاء يُفطرون، ويجب عليهم أن يطعموا مسكينًا عن كل يوم من رمضان.
الحال الثانية: إذا كان المريض يتضرَّر بالصيام، ولا يُرجى شفاؤه من هذا المرض، لكنه يستطيع صيام بعض الأيام دون بعض، ويستطيع القضاء، مثل: المريض بالسكري الذي يستطيع صيام بعض الأيام دون بعض، فيصوم الأيام التي يستطيعها، ويُفطِر الأيام التي يشقُّ عليه صيامها، ثم يقضي فيما بعد، وهكذا الذي يغسل الكلى ويستطيع صيام بعض الأيام دون بعض، فيصوم ما يستطيعه ويفطر الأيام التي يغسل فيها الكلى والأيام التي يشقُّ عليه صيامها، ثم يقضي فيما بعد.
الحال الثالثة: إذا كان المريض يتضرَّر بالصيام، ويُرجى شفاؤه من هذا المرض، مثل عامة الأمراض غير المُزمنة، فهذا يُفطِر الأيام التي يعجز فيها عن الصيام، أو يشقُّ عليه الصيام فيها مشقَّة ظاهِرة، ثم إذا شُفي صام بقية الشهر، ويقضي ما أفطره من أيام، وليس عليه إطعام بسبب ذلك.
السبب الثالث: الحيض أو النفاس:
من رحمة الله - تعالى - بالمرأة أنها إذا حاضت أو نَفسَت لا تؤمر بالصيام، بل إنها تُنهى عن الصيام في هذه الحالة، ولو صامت أَثِمت ولم يصحَّ صومها؛ فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: خرَج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أضحى أو فِطْر إلى المصلى، فمرَّ على النساء فقال: ((يا معشر النساء، تصدَّقن؛ فإني أُريتُكنَّ أكثر أهل النار))، فقلن: وبمَ يا رسول الله؟ قال: ((تُكثِرن اللعن، وتَكفُرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبِّ الرجل الحازم من إحداكن))، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: ((أليس شهادة المرأة مثل نِصف شهادة الرجل؟))، قلن: بلى، قال: ((فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تَصُم؟))، قلن: بلى، قال: ((فذلك من نُقصان دينها))؛ متفق عليه( ).
وإنما مُنعت المرأة من الصيام في هاتين الحالتين؛ لأنها في حالة من الضعف تَحتاج معها إلى الراحة والطعام والشراب، فلم يُناسِبها إيجاب الصيام عليها، بل إن الله - تعالى - رحمةً بها وضَع عنها الصلاة المَفروضة.
ويجب عليها أن تقضي بعدد الأيام التي أفطرتها من رمضان؛ فعن معاذة بنت عبدالله العدويَّة قالت: سألتُ عائشة - رضي الله عنها - فقلتُ: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أَحروريَّة أنتِ( )؟! قلتُ: لست بحروريَّة، ولكني أسأل، قالت: ((كان يُصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمَر بقَضاء الصلاة))؛ متفق عليه( ).
ووقت القضاء موسَّع لها من رمضان الذي أفطَرت فيه إلى رمضان الآخَر، ولا يجوز لها تأخير القضاء إلى ما بعد رمضان الآخَر بغير عذر.
إذا طَهُرت الحائض ليلاً أو نهارًا فماذا عليها؟
إذا رأت المرأة الحائض الطهرَ الكامل قبل الفجر وجب عليها صيام اليوم التالي، ويكون الطُّهر برؤية القَصة البيضاء لمن طُهرها بالقَصة البيضاء، أو بالجَفاف الكامل لمن طُهرها بذلك، فيَجب عليها في هذه الحالة أن تصوم اليوم التالي، وإن لم تَغتسِل إلا بعد طلوع الفَجر.
وأما إذا لم تر الطُّهر الكامل إلا في أثناء النهار فإنها تُكمل يومها مُفطِرةً، فلها أن تأكل وتشرب بقية النهار على الصحيح من قولي العلماء، وتصوم من اليوم التالي.


السبب الرابع - العجز عن الصيام لكِبر السنِّ:
كبير السن الذي لا يستطيع الصيام، أو يشقُّ عليه الصيام مشقةً ظاهرةً يجوز له أن يفطر، ويجب عليه أن يُطعِم مسكينًا عن كل يوم من رمضان، ومِقدار الإطعام: نصف صاع عن كل يوم، ويساوي بالكيلو: كيلو ونصف تقريبًا من الأرز أو غيره، فيُجزئ عن الشهر كله إذا كان تامًّا كيس أرز كبير من الذي يزن (45 كجم) خمسةً وأربعين كيلو جرام، ويجوز إعطاؤه لعائلة فقيرة أيًّا كان عددها.
وإذا وصل الكبير إلى درجة الخرَف فلم يَعُد يَعقل شيئًا، فإنه يزول عنه التكليف، ولا يلزمه شيء، فلا يُصام عنه، ولا يُطعَم عنه.
وإذا وصل الكبير إلى درجة الخرف فلم يعد يَعقِل شيئًا فإنه يزول عنه التكليف، ولا يلزمه شيء، فلا يُصام عنه، ولا يُطعَم عنه.
السبب الخامس - السفر:
يجوز للمسافر سفرًا مُباحًا الفطر بإجماع العلماء، إلا أن يَقصد بالسفر التحايل به على الفطر فلا يجوز له الفطر؛ قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185].
عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن حمزة بن عمرو الأسلمي - رضي الله عنه - قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أأصوم في السفَر؟ - وكان كثير الصيام - فقال: ((إن شئتَ فصم، وإن شئتَ فأَفطِر))؛ متفق عليه( ).
وهذه الأدلة تعمُّ كل مسافر، وإن لم يجد مشقَّة؛ كمن سافر بالطائرة وكان الجو باردًا؛ إذ المبيح للفِطر هو السفر وليس المشقَّة.
ولا يجوز العيب على من أفطر في هذه الحالة؛ لأنه مترخِّص برخصة الله - تعالى - قال أنس - رضي الله عنه -: سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان، فلم يَعِب الصائمُ على المُفطِر، ولا المفطر على الصائم؛ متفق عليه( )، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: يجوز الفِطر للمسافر باتفاق الأمة، سواء كان قادرًا على الصيام أو عاجزًا، وسواء شقَّ عليه الصوم أو لم يشقَّ؛ بحيث لو كان مسافرًا في الظل والماء، ومعه من يخدمه، جاز له الفِطر والقَصر، ومن قال: إن الفطر لا يجوز إلا لمن عجَز عن الصيام فإنه يُستتاب، وكذلك من أنكر على المُفطِر فإنه يستتاب من ذلك، فإن هذه الأحوال خلاف كتاب الله، وخلاف سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلاف إجماع الأمة؛ اهـ( ).
أحوال الناس في الصيام في السفر، ومتى يكون الأفضل الصوم أو الفطر؟
للناس في الصيام في السفر خَمسة أحوال:
الحال الأولى: مَن يتضرَّر بالصيام، فهذا يُكره له الصيام، وإن صام أجزأه، وذهب بعض العلماء إلى تحريم الصيام عليه، وعلى هذا يُحمل ما رواه جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرَج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، [فقيل له: إن الناس قد شقَّ عليهم الصيام، وإنما يَنظُرون فيما فعلت، فـ] دعا بقدح من ماء [بعد العصر] فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: ((أولئك العُصاة، أولئك العُصاة))؛ رواه مسلم( ).
الحال الثانية: مَن يشقُّ عليه الصيام ولا يتضرَّر به، فهذا يُكره له الصيام أيضًا، وإن صام أجزأه، وعلى هذا يُحمل ما رواه جابر - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فرأى زحامًا ورجلاً قد ظُلِّل عليه، فقال: ((ما هذا؟))، فقالوا: صائم، فقال: ((ليس من البرِّ الصوم في السفر))؛ متفق عليه( ).
الحال الثالثة: مَن لا يشق عليه الصيام، ولكن يشق عليه القضاء؛ كالذي يكون مشغولاً في غير رمضان بوظيفة أو سفر فيشقُّ عليه القضاء، أو يَنشط في الصيام مع الناس ولا ينشط وحده، أو أن عنده عبادات أو أعمالاً أخرى في فِطره تستغرق أكثر وقته ويشقُّ عليه القضاء في هذه الحالة؛ فالأفضل لهذا أن يصوم في السفر.
الحال الرابعة: من يستوي عنده الأمران الصيام وعدمه، ولا يشقُّ عليه القضاء، فقد اختلف العلماء في الأفضل له، والصحيح أن الأفضل له الفِطر، وهو مذهب الإمام أحمد، وقول ابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب والشعبي والأوزاعي وإسحاق وابن خزيمة وابن حبان، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخُنا ابن باز، واللجنة الدائمة للإفتاء.
وذلك لأنه يَستمتِع برخصة الله - تعالى - وفي حديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يحب أن تؤتى رُخصُه، كما يَكره أن تؤتى معصيته))؛ رواه أحمد وصحَّحه ابن خزيمة وابن حبان( )، ويدل عليه أيضًا قوله - تعالى -: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]؛ حيث جعل الأصل للمريض والمسافر الإفطارَ؛ لأنه نقله مباشرةً إلى القضاء، ولم يخيِّره في الصيام وعدمه، ولولا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنه - كان يصومون في السفر لكان لمن قال بوجوب الفطر وجهٌ من هذه الآية الكريمة.
الحال الخامسة: أن يستفيد المسافر بالفِطر زيادة عبادة أو مصلحة، كأن يتقوَّى به على الجهاد، أو على أداء العمرة أول ما يدخل مكة نهارًا؛ لأن الابتداء بها أول قدومه هو السنَّة، أو أدائها على وجه أتمَّ مما لو أداها صائمًا، أو يكون لو أداها صائمًا شق عليه، فالأفضل له في هذه الحال الفِطر كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه - رضي الله عنه - بالفطر في فتح مكة( ).
وقت جواز الفطر للمُسافر:
يجوز الفِطر للمُسافر من أول ما يخرج من بلده ولو كان قد ابتدأ الصيام، كما يجوز له الفِطر أثناء السفر، والفطر إذا أقام ببلد إقامة لا تمنَع قصر الصلاة كاليوم واليومين والثلاثة ونحوها.
وله الفطر أيضًا في رجوعه، وإذا دخَل بلده مُفطرًا فله أن يُتمَّ فطره ولا يلزمه الإمساك على الصحيح من قولي العلماء، وهو مذهب مالك والشافعي، ورواية عن الإمام أحمد؛ لأنه لا دليل على وجوب الإمساك، والأصل أن من أفطَر أول النهار بعذرٍ جاز له الفطر آخِرَه، ويؤيده قول ابن مسعود - رضي الله عنه -: مَن أكل أول النهار فليأكل آخره؛ رواه ابن أبي شيبة( ).
وأما إذا قدِمَ بلدَه ودخلها صائمًا، فلا يجوز له الفِطر، ويلزمه إتمام صيامه.
السبب السادس - الإغماء:
أكثر أهل العلم على أن من أُغمي عليه يومًا كاملاً من رمضان فأكثر، أنه يقضي ما فاته من الصيام، ولو أغمي عليه الشهر كله، والدليل على ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]، فنص على أن المريض يجب عليه القضاء، والإغماء نوع من المرض، وأما من نوى الصيام ثم أغمي عليه بعض النهار أو أكثره وأفاق في جزء منه فإن صيامه صحيح، سواء أكانت إفاقته من أول اليوم أم من آخِره( ).
السبب السابع - الضرورة أو الحاجة الشديدة:
من صام صومًا واجبًا ثم عرضت له ضرورة للفطر، أو مشقَّة شديدة فاحتاج معها إلى الفِطر جاز له أن يُفطر؛ كما لو خاف على نفسه الهلاك، أو تلف عضو من أعضائه، أو المرض أو نحو ذلك، فإنه يجوز له الفِطر لهذه الضرورة، ويَقضي بدله.
ومن ذلك: من احتاج للفطر لدفع ضرورة غيره؛ كإنقاذ معصوم من غرق أو حريق أو هدمٍ جاز له الفِطر، ويلزمه قضاء ما أفطرَه.
ومن ذلك: من احتاج إلى الفطر للتقوِّي به على الجهاد في سبيل الله فإنه يُفطر، سواء أكان ذلك في السفر أم في الحضر، كما لو دهمَهم العدو في بلادهم، ويلزمه قضاء ما أفطرَه.
ولا يجوز الفِطر في الحضر لمجرَّد احتمال وجود المشقَّة أو ظنِّها، بل لا يفطر حتى تحصل بالفعل، فإذا وجد السبب المبيح جاز الفِطر، وإذا لم يوجد لم يَجز الفطر، والله أعلم.

الفصل الثامن: مُفسِدات الصيام (المُفطرات)
أولاً - مفسدات الصيام (المفطرات):
مُفسدات الصيام عديدة، بيانها فيما يلي - إن شاء الله تعالى -:
أولاً - الأكل أو الشرب: أيًّا كان نوع المأكول أو المشروب؛ لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].
ويدخل في حُكْمهما: إدخال الشراب أو الطعام عن طريق الأنف؛ لأن الأنف مدخل يوصل إلى الحَلق ثم إلى المعدة، يدلُّ على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - للَقِيط بن صبرة - رضي الله عنه -: ((أَسبِغ الوضوء، وخلِّل بين الأصابع، وبالغ في الاستِنشاق إلا أن تكون صائمًا))؛ رواه الأربعة، وصحَّحه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن حجر والنووي( ).
ثانيًا: ما كان بمعنى الأكل والشرب، وهو شيئان:
أحدهما: حقن الدم في الصائم، مثل أن يُصاب بنزيف فيحقن به دم فيُفطِر بذلك؛ لأن الدم هو غاية الغذاء بالطعام والشراب، ومثله في التفطير: غسيل الدم بالنسبة لمرضى الكُلى (الغسيل الدموي).
ثانيهما: الإبر المُغذية التي يُكتفى بها عن الأكل والشرب، فإذا تَناولها أفطر؛ لأنها وإن لم تكن أكلاً ولا شربًا حقيقةً، فإنها بمعناهما، فثبَت لها حكمهما.
ثالثًا: الجِماع، وهو إيلاج الذكر في الفرج حتى يَغيب رأسه (الحشفة)، وهو أعظم المُفطرات وأكبرها إثمًا، فمتى جامع الصائم بطَل صومه فرضًا كان أو نفلاً.
ثم إن كان في نهار رمضان والصوم واجب عليه، لزمه التوبة إلى الله - تعالى - من هذا الإثم العظيم، والإمساك عن المفطرات في هذا اليوم الذي جامَع فيه، مع قضاء يوم بدلاً عنه، ووجب عليه أيضًا الكفارة المُغلَّظة، وهي: عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرَين مُتتابعين لا يُفطِر بينهما إلا لعذر شرعي؛ كأيام العيدين والتشريق، أو لعذر حسي؛ كالمرض والسفر لغير قصد الفِطر، فإن أفطَر لغير عذر - ولو يومًا واحدًا - لزمه استئناف الصيام من جديد ليَحصل التتابُع.
فإن لم يَستطِع صيام شهرَين مُتتابعين، فإطعام ستين مسكينًا، لكل مسكين كيلو وربع أو كيلو ونصف تقريبًا من الأرز أو غيره من طعام الآدميين.
والدليل على وجوب الكفارة: حديثُ أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بينما نحن جلوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، هلكتُ! قال: ((ما لك؟))، قال: وقعتُ على امرأتي وأنا صائم! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هل تجد رقبةً تعتِقها؟))، قال: لا، قال: ((فهل تستطيع أن تصوم شهرَين مُتتابعين؟))، قال: لا، فقال: ((فهل تجد إطعام ستين مسكينًا))، قال: لا، قال: فمكَث النبي - صلى الله عليه وسلم - فبينا نحن على ذلك أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعَرَق فيه تمر - والعَرق المكتل - قال: ((أين السائل؟))، فقال: أنا، قال: ((خذ هذا فتصدَّق به))، فقال الرجل: أعلى أفقَر مني يا رسول الله؟! فوالله ما بين لابتَيها - يريد الحرتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضَحِك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أنيابه، ثم قال: ((أَطعِمه أهلك))؛ متفق عليه( ).
رابعًا: إنزال المني بفعله قصدًا، مثل: إنزاله بالمباشرة أو اللمس أو التقبيل أو الاستِمناء أو بتكرار النظر للنساء أو الصور أو الأفلام، وهذا لا يجوز للصائم؛ لأنه من الشهوة التي لا يكون الصوم إلا باجتنابها كما جاء في الحديث القدسي: ((يترك طعامه وشرابه وشَهوته من أجلي))؛ متفق عليه( )، ومَن فعَله فقد أفطر، ويجب عليه التوبة إلى الله تعالى، والإمساك عن الطعام والشراب في اليوم الذي فعل فيه هذا، ويجب عليه قضاؤه فيما بعد، وليس عليه كفارة.
نزول المني بغير فعله:
أما نزول المني بغير فِعله ولا اختياره، مثل: نزوله بالاحتلام أو التفكير المجرَّد عن العمل، أو بالنظرة الأولى، فهذا لا حرج على الإنسان فيه، ولا يُفطر الصائم؛ لأن الاحتلام يقع بغير اختيار الصائم، وأما التفكير فمَعفوٌّ عنه؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تجاوَز لأمتي عما وَسوَست أو حدَّثت به أنفسها، ما لم تعمَل به، أو تكلم))؛ متفق عليه( ).
إنزال المذيِ بتقبيل أو لمس ونحوهما:
وأما إنزال المذي بتقبيل أو لمس ونحوهما فلا يَنبغي للصائم أن يفعله، وقد اختلف العلماء في التفطير به، والصحيح أنه لا يُفطر الصائم، ولكنه ينبغي له أن يتجنَّب ما يدعوه إلى ذلك.
التقبيل واللمس بشهوة بدون إنزال للمَني:
أما التقبيل واللمس بشهوة بدون إنزال للمني فالناس صنفان:
الصنف الأول: الذي يَملك نفسه من الوقوع في الجماع أو إنزال المني بشهوة، فهذا لا بأس بفعله؛ فعن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقبِّل وهو صائم، ويُباشِر وهو صائم، ولكنه أملَككم لإربه))؛ متفق عليه، وفي رواية لمسلم: ((في رمضان))( ).
الصنف الثاني: الذي لا يَملك نفسه ويخشى من الوقوع في الجِماع أو إنزال المني بشهوة، فلا يجوز له ذلك، سدًّا للذريعة، وصونًا لصيامه عن الفساد، فليَحذر الشباب من ذلك، وبخاصة من تزوَّج حديثًا، فكثيرًا ما يقع منهم التفريط في هذا، فيقعون في إفساد صيامهم الذي هو كبيرة من كبائر الذنوب، مع تحمُّل الكفارة المغلَّظة.
وقد رَوى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المُباشَرة للصائم، ((فرخَّص له))، وأتاه آخَر فسأله: ((فنَهاه)) فإذا الذي رخص له شيخ، والذي نهاه شاب؛ رواه أبو داود والبيهقي( ).
خامسًا: إخراج الدم بالحجامة وما في معناها من إخراج الدم الكثير:
الحجامة هي: إخراج الدم من البدن بآلة خاصة تُسمى المحجم أو المحجمة( )، وقد ذهب إلى التفطير بها الإمام أحمد وأكثر فقهاء الحديث( )؛ كعبدالرحمن بن مهدي، وإسحاق بن راهويه، وابن المنذر، وابن خزيمة، وابن حبان، وأبي الوليد النيسابوري، والحاكم أبي عبدالله النيسابوري، وبه قال علي بن أبي طالب، وأبو هريرة، وعائشة - رضي الله عنهم - والحسن البصري، وابن سيرين، وعطاء، والأوزاعي - رحمهم الله( )، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميَّة وتلميذه ابن القيم، واللجنة الدائمة للإفتاء، وشيخنا ابن باز، والعلامة ابن عثيمين - رحمهم الله جميعًا( ).
والدليل على ذلك: حديث شداد بن أوس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أفطَر الحاجم والمحجوم))؛ رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وصحَّحه الأئمة: أحمد، وابن المديني، وابن راهويه، والبخاري، والعقيلي، وابن خزيمة، والحاكم، وغيرهم( ).
والدم الخارج من البدن بغير الحِجامة نوعان:
النوع الأول: ما يَلحق بالحِجامة في الحكم، وهو الدم الكثير المؤثِّر على البدن، مثل: سحب الدم للتبرع به إذا كان كثيرًا يؤثر على البدن تأثير الحجامة، فلا يَجوز للصائم صومًا واجبًا أن يتبرَّع بإخراج دمه الكثير إلا أن يوجد مُضطرٌّ له لا تَندفِع ضرورته إلا به، وإذا فعله للضرورة فقد أفطَر ذلك اليوم، ووجب عليه القضاء.
النوع الثاني: ما لا يَلحق بالحجامة في الحكم، وهو الدم اليسير الخارج من أي جزء من أجزاء البدن، وهذا لا يُفسِد الصيام، مثل: خروج الدم بالرعاف، أو الباسور، أو قلع السنِّ، أو الجرح، أو غرز الإبرة ونحوها، أو سحب الدم القليل للتحليل، أو خروجه من اللثة باستعمال السواك أو فرشاة الأسنان؛ فلا يُفطِر الصائم بشيء من ذلك؛ لأنه ليس حجامةً ولا بمعناها؛ إذ لا يؤثِّر في البدن كتأثير الحجامة، والأصل صحة الصوم إلا بدليل.
تنبيه:
يُفطِر الإنسان بخروج الدم الكثير بغير اختياره كما لو كان بسبب حادث سيارة أو غيره، لكنه إذا احتاج إلى الفِطر لضعفه، أفطر وقَضى.
سادسًا: التقيُّؤ عَمدًا، وهو إخراج ما في المَعدة من طعام أو شراب عن طريق الفم، قال ابن قدامة - رحمه الله -: هذا قول عامة أهل العلم، قال الخطابي - رحمه الله -: لا أعلم بين أهل العِلم فيه خلافًا، وقال ابن المنذر - رحمه الله -: أجمع أهل العلم على إبطال صوم مَن استقاء عامدًا؛ اهـ( ).
ويُفطر إذا تعمَّد التقيُّؤ إما بالفعل كعصر بطنه أو غمْز حلقه، أو بالشم مثل أن يشم شيئًا ليقيء به، أو بالنظر كأن يتعمَّد النظرَ إلى شيء ليَقيء به، فيفطر بذلك كله، أما إذا ذرعه القيء وغلبه فخرَج بغير إرادته فصومه صحيح، وإذا راجَت معدته لم يلزمه منْع القيء؛ لأن ذلك يضره، ولكن يتركه فلا يُحاول القيء ولا منعه.
سابعًا - خروج دم الحيض أو النفاس:
إذا صامت المرأة ثم نزل منها دم الحيض قبل غروب الشمس فقد بطَل صيامها وصارت مُفطِرة، فلها أن تأكل وتشرب، ويجب عليها قضاء هذا اليوم، وهكذا لو خرج منها دم النفاس نهارًا وهي صائمة، فإنها تُفطِر، ويجب عليها القضاء.
وأما إذا شعرت بمقدِّمات الحيض كألم الظهر، واعتِصار البطن ونحوهما ولكن لم ينزل معها دم الحيض إلا بعد غروب الشمس فصومها هذا اليوم صحيح ولا يجب عليها قضاؤه، وهكذا لو صامت الحامل فخرَج منها سوائل بيضاء، أو خرج منها دم غير دم النِّفاس، وهو الدم الذي لا يكون قبيل الولادة، أو قبيلها ولكن ليس معه علامة الولادة وهي الطلق، فإن صيامها صحيح.
ثانيًا - شروط الفطر بالمفطرات:
لا يُفطر الصائم بشيء من المُفطرات إلا إذا توافَرت ثلاثة شروط( ):
الشرط الأول: أن يكون عالِمًا، فإن كان جاهلاً لم يُفطِر؛ لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 5].
وسواء أكان جاهلاً بالحكم الشرعي، مثل: أن يظن أن هذا الشيء غير مُفطر فيفعله، أم كان جاهلاً بالحال؛ أي بالوقت، مثل: أن يظن أن الفجر لم يَطلع فيأكل وهو طالع، أو يظن أن الشمس قد غربت فيأكل وهي لم تَغرُب، فلا يفطر في ذلك كله، لكن متى تبين له وهو يأكل أو يشرب أن الشمس لم تَغرُب، أو أن الفجر قد طلع، أمسك ولفظ ما في فمِه إن كان فيه شيء لزوال عذره حينئذ.
الشرط الثاني: أن يكون ذاكرًا، فإن كان ناسيًا فصيامه صحيح ولا قضاء عليه؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتمَّ صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه))؛ مُتفق عليه( ).
لكن متى ذكَر أو ذُكِّر وجَب عليه الإمساك ولفظ ما في فمه إن كان فيه شيء لزوال عذرِه حينئذ، ومن رأى صائمًا يأكل أو يَشرب فإنه يجب عليه أن يُنبِّهه؛ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
الشرط الثالث: أن يكون مختارًا، بأن يَتناول المُفطر باختياره وإرادته، فإن كان مُكرَهًا فصيامه صحيح ولا قضاء عليه، ولو تمضمَض أو استنشَق فنزل إلى جوفه شيء من الماء بغير اختياره فصيامه صحيح.
ثالثًا - ما لا يفسد الصيام:
لا يُفطِر الصائم بشيء مما يلي:
أولاً: دخول شيء إلى البدن إذا كان من غير طريق الفم والأنف، ولم يكن مُغذيًا، مثل: استعمال الإبر غير المُغذية، وهي الإبر العلاجية، مثل: الإبر المسكِّنة، وإبر المُضادات الحيوية، وإبر الأنسولين لمرضى السكر.
ثانيًا: استعمال بخاخ الرَّبو.
ثالثًا: استعمال الأكسجين أو البُخار للمرضى.
رابعًا: شمُّ الروائح الطيبة، مثل: الطيب والريحان والبخور؛ لأنه ليس للرائحة جِرم يدخل إلى الجوف، ولم يأتِ دليل شرعي يمنع الصائم من ذلك، ولكن يَنبغي تجنُّب استِنشاق البخور؛ لأن له جِرمًا يَنفذ إلى الجوف.
خامسًا: خروج الدم اليسير من أي جزء من أجزاء البدن، مثل: خروج الدم بالرعاف، أو الباسور، أو قلع السنِّ، أو الجرح، أو غرز الإبرة ونحوها، أو سحب الدم القليل للتحليل، أو خروجه من اللثة باستعمال السواك أو فُرشاة الأسنان، فلا يفطر الصائم بشيء من ذلك؛ لأنه ليس حجامةً ولا بمعناها؛ إذ لا يؤثر في البدن كتأثير الحجامة والأصل صحة الصوم إلا بدليل، وتقدَّم.
سادسًا: خروج الدم الكثير بغير اختياره كما لو كان بسبب حادث سيارة أو غيره، لكنه إذا احتاج إلى الفِطر لضعفه، أفطر وقضى، وتقدَّم.
سابعًا: خروج القيء بغير إرادته.
ثامنًا: خروج المذيِ، وقد اختلف العلماء في التفطير به، والصحيح أنه لا يُفطِّر الصائم.
تاسعًا: التقبيل بشهوة أو بغير شهوة، ولكن الذي لا يملك نفسه ويخشى من الوقوع في الجماع أو إنزال المني بشهوة، فلا يجوز له ذلك؛ سدًّا للذريعة، وصونًا لصيامه عن الفساد.

 

الفصل التاسع: سنن الصيام
أولاً - سُنيَّة السحور للصائم وفضله:
تعريفه وحكمه:
السُّحور (بالضم): الأكل أو الشرب في وقت السحر بنية الصوم، ثبت عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((تسحَّروا؛ فإن في السحور( ) بركةً))؛ متفق عليه( )، فدلَّ الحديث على الترغيب في السحور، والأظهر أنه سُنَّة مؤكَّدة؛ لكثرة النصوص التي تحثُّ عليه مع ما فيه من المخالفة لأهل الكتاب، فإنهم لا يتسحَّرون( ).
وقت السحور:
يبدأ وقت السحور من آخِر الليل قبيل الصبح إلى طلوع الفجر الصادق، وحدَّد بدايتَه بعض العلماء بالفجر الكاذب، وعبَّر بعضهم فقال: هو ما بين الفجرين الصادق والكاذب، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: والسَّحَر قبيل الصبح، وقيل: أوله الفجر الأول؛ اهـ( )، وقال بعض العلماء: يبدأ من السدس الأخير من الليل، وهذا قريب مما تقدَّم، وأما قول النووي وغيره من الفقهاء - رحمهم الله -: يبدأ وقتُه من نصف الليل، فهو قول ضعيف، لا تعضده السنَّة ولا اللغة( ).
والسنَّة تأخير السحور؛ بحيث يكون الانتهاء منه عند الأذان الثاني لصلاة الفجر.
أقل السحور:
أطلَق الحديث السحور، فدل على أنه يُجزئ فيه أقل ما يسمى سحورًا؛ قليلاً كان أم كثيرًا، فمن تسحَّر بالقليل دخل في بركة السحور، فيَنبغي للمسلم ألا يدع السحور ولو بشربة ماء أو بتمرة أو بغير ذلك.
أفضل ما يُتسحَّر به:
من أفضل ما يُتسحَّر به الماء والتمر، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتسحَّر بهما؛ فعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك في السحر: ((يا أنس، إني أريد الصيام، فأطعمني شيئًا))، قال: فجئتُه بتمر وإناء فيه ماء؛ رواه أحمد( ).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((نِعم سُحور المؤمن التمر))؛ رواه أبو داود( ).
برَكة السحور:
دلَّ الحديث على أن في السحور بركة، وهذه البركة المذكورة في الحديث تشمَل نوعين من البركة( ): أولهما: البركة الشرعيَّة؛ وذلك لما فيه من امتثالِ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء به واتِّباع سنته، وحصول الأجر والثواب، والتسبُّب في الذكر والدعاء والاستغفار في وقت السَّحر الذي هو مظنَّة الإجابة، كما أن فيه مخالفة لأهل الكتاب؛ حيث إنه ليس في صيامهم أكلة السحَر.
وثانيهما: البركة البدنيَّة؛ وذلك لما فيه من تغذية البدن وقوَّته على الصوم، والزيادة في النشاط ومُدافَعة سوء الخلُق الذي يُثيره الجوع؛ ولهذا ينصح الأطباء بالسحور؛ لأنه يدرأ عن الصائم (صداع الجوع)، الذي يقع لبعض الصائمين الذين لا يتسحَّرون، وسببه: هبوط نسبة السكر في الدم، كما يَنصح الأطباء أن يتضمَّن السحور طعامًا حلوًا كالتمر ونحوه؛ وذلك لأن في التمر نسبةً عاليةً من السكريات التي توفِّر الطاقة للجسم خلال فترة الصوم( ).
ثانيًا - سُنية تعجيل الفطر للصائم:
السنَّة تعجيل الفطر والمبادرة إليه بعد تحقُّق غروب الشمس؛ فعن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفطر))؛ متفق عليه( )، ومعنى الحديث: أنه لا يزال أمر الأمة مُنتظمًا وهو بخير ما داموا محافظين على هذه السنَّة، مُتجنِّبين لسنن اليهود والنصارى ونحوهم من الكافِرين، وإذا أخَّروه كان ذلك علامةً على فساد يَقعون فيه.
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجل فِطره، كما دلَّت على ذلك أحاديث كثيرة، منها: أنه لما أخبرت عائشة - رضي الله عنها - عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه كان يُعجِّل الإفطار ويُعجِّل الصلاة، قالت: ((هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنَع))؛ رواه مسلم( )، وهكذا كان أصحابه - رضي الله عنهم - قال عمرو بن ميمون الأودي - رحمه الله -: كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أسرع الناس إفطارًا، وأبطأهم سُحورًا( ).
ما يسنُّ الإفطار عليه:
مِن السنَّة أن يُفطر الصائم على الرطب، فإن لم يتيسر فعلى التمر، فإن لم يتيسَّر فعلى الماء؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم يكن رطبات فتمرات، فإن لم يكن تمرات حَسا حسوات من ماء))؛ رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، وصحَّحه الدارقطني( )، وكان أحيانًا يُفطر على ماء فقط؛ فعن أنس - رضي الله عنه - قال: ((ما رأيتُ النبي قطُّ صلى صلاة المغرب حتى يُفطر، ولو كان على شربة من ماء))؛ رواه ابن أبي شيبة وأبو يعلى، وصحَّحه ابن خزيمة( ).
وكان - صلى الله عليه وسلم - أحيانًا يُفطر على السويق؛ فعن عبدالله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فقال لرجل: ((انزل فاجدَح لي))، قال: يا رسول الله، الشمس، قال: ((انزل فاجدح لي))، قال: يا رسول الله، الشمس، ((انزل فاجدح لي))، فنزل فجدَح له، فشرب، ثم رمى بيده ها هنا ثم قال: ((إذا رأيتُم الليل أقبل من ها هنا، فقد أفطر الصائم))؛ متفق عليه( )، قال النووي: (الجدح): خلط السويق بالماء وتحريكه حتى يستوي( )؛ اهـ، والسويق: دقيق القمح أو الشعير أو الذرة أو غيرها إذا قُلي بالنار، يتزوَّد به المسافر وغيره، فإذا احتيج إلى أكله خُلِط بماء أو لبن أو عسل أو سمن أو نحوها، وهذا هو الجدح( )، وهو قريب مما يُسمى اليوم بـ: (الشوربة).
وبهذا نعلم أن السنَّة الفِطر على أشياء خفيفة لا تؤذي المعدة، خلاف ما قد يفعله بعض الناس اليوم من ملء المعدة عند الإفطار بأطعمة ثقيلة تُتعبها ولا يمتصُّها الجسم بسرعة، وأما الرطب أو التمر فهو سريع الهضم سريع الامتصاص؛ لما يَشتمِل عليه من المواد السكرية، فهو سهل على المعدة ويمتصُّه الجسم سريعًا فيُشعره بنوع من الامتلاء فلا يَهجم على الطعام بشدة، ويُعوِّضه سريعًا عما افتقده من السكريات بسبب الصيام( ).
الحِكمة من تعجيل الفِطر:
لمشروعية تعجيل الفطر حِكَم مُتعدِّدة، منها:
أولاً: المبادرة لطاعة الله - تعالى - بالفطر كما حصلَت طاعته بالصوم.
ثانيًا: ترك الغلوِّ والتنطُّع في الدين بالزيادة على الفرض بما لم يشرعْه الله - تعالى.
ثالثًا: الأخذ برخصة الله - تعالى - والتمتُّع بما في شريعته من التيسير والتسهيل؛ حيث لم يلزمهم بمُواصَلة الصيام، ولا بزيادة وقته عن غروب الشمس.
رابعًا: ترك التشبُّه بأهل الكتاب فإنهم يؤخِّرون الفطر، كما جاء ذلك في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يزال الدين ظاهرًا ما عجَّل الناس الفِطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخِّرون))؛ رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وصحَّحه ابن خزيمة، وابن حبان( ).
خامسًا: أنه علامة على أن الأمة بخير باستِمساكها بسنَّة نبيِّها - صلى الله عليه وسلم - وترك اتِّباع أهل الغواية والضلالة من اليهود والنصارى وغيرهم.
سادسًا: أنه أرفق بالصائم، وأقوى له على مواصَلة العبادة.
ثالثًا - سُنية السواك للصائم:
السواك سنة للصائم في نهار رمضان وغيره في الفرض والنفْل، في أول النهار وفي آخِره، فلا يُكرَه السواك للصائم على الصحيح من أقوال أهل العلم - رحمهم الله تعالى( ).
والدليل على ذلك: عموم حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لولا أن أشقَّ على أمتي - أو على الناس - لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة))؛ متفق عليه، ولفظ مسلم: ((عند كل صلاة))( )، فيدخُل فيه الصائم وغيره.
قال ابن القيم - رحمه الله -: أكثرُ أهل العلم لا يكرهونه؛ اهـ( )، وقال ابن العراقي - رحمه الله -: ذهب الأكثرون إلى استحبابه لكل صائم في أول النهار وفي آخرِه كغيره؛ اهـ( ).
ضَعْف حديث النهي عن السواك بعد الزوال:
أما حديث علي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تَستاكوا بالعشي؛ فإن الصائم إذا يَبِست شفتاه كان له نور يوم القيامة))، فقد رواه البزار مرفوعًا، ورواه الدارقطني والبيهقي والطبراني موقوفًا على علي - رضي الله عنه - ورووه أيضًا عن خباب - رضي الله عنه - مرفوعًا، وهو حديث ضعيف لا يصحُّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم( )، قال ابن القيم - رحمه الله -: لم يَجئ في منع الصائم منه حديث صحيح؛ اهـ( ).
حكم استِعمال فرشاة الأسنان والمَعاجين المخصَّصة لذلك:
يسنُّ للصائم كغيره استعمالُ فرشاة الأسنان والمعاجين المخصَّصة لذلك، وحكمها في الجملة كحُكْم السواك الرطب، ولا يُكره له استعمالها كالسواك؛ وذلك لأن باطن الفم في حُكْم الظاهر؛ ولهذا يتمضمَض الإنسان بالماء ولا يضرُّه، ولو كان داخل الفم في حكم الباطن لكان الصائم ممنوعًا من المضمضة، سُئل شيخنا الإمام عبدالعزيز بن باز - رحمه الله -: هل يجوز للصائم أن يَستعمِل معجون الأسنان في نهار رمضان؟ فأجاب - رحمه الله -: لا حرج في ذلك مع التحفُّظ عن ابتلاع شيء منه، كما يشرع استعمال السواك للصائم في أول النهار وآخره؛ اهـ( ).
ويجب عليه أن يتحرَّز من نفوذ شيء من المَعجون إلى داخل جوفه، ويُكره له المبالغة في التفريش على اللسان وغيره، كما يكره له المبالغة في الاستِنشاق؛ وذلك لئلا ينزل شيء من المَعجون إلى الجوف، فإن نزل شيء بغير اختياره لم يؤثِّر في الصيام، وإن نزَل من اللثة أو الأسنان دم فلا يُفسد الصيام، لكن لا يجوز ابتلاعه لا للصائم ولا لغيره، ويجب لفظه.
طعم السواك مع الريق:
إذا تسوَّك الصائم واختلط طعم السواك بالريق فابتلعه لم يضرَّه ذلك، سئل العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله -: إذا استاك وهو صائم فوجَد حرارة أو غيرها من طعمِه فبلَعه، فهل يضره؟ وإذا أخرَجه من فمه وعليه ريق ثم أعاد وبلَعه، فهل يضرُّه؟ فأجاب: لا يضره في الصورتين، كما نصَّ عليه الأصحاب في الأخيرة، وهو ظاهر كلامهم في الأولى، والأمر بالسواك للصائم وإباحته يشمل ذلك كله، فلا بأس به - إن شاء الله؛ اهـ( )، وقال رجل لابن سيرين - رحمه الله تعالى -: ما ترى في السواك للصائم؟ قال: لا بأس به، قال: إنه جريدة، وله طعم! قال: الماء له طعم وأنت تمضمَض به( ).
الفصل العاشر: قضاء الصيام
قضاء الصيام:
حكم القضاء:
مَن أفطَر في رمضان لعذر شرعي؛ كالمرض أو السفر أو غيرهما، فإنه يجب عليه قضاء ما أفطره بعدد الأيام التي أفطر؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ} [البقرة: 185]، ومن أفطر جميع الشهر لزمه جميع أيامه، فإن كان الشهر ثلاثين يومًا لزمه ثلاثون يومًا، وإن كان تسعةً وعشرين يومًا لزمه تسعة وعشرون يومًا فقط.
وقت القضاء:
وقت القضاء موسَّع من نهاية رمضان إلى رمضان من السنَة التي تَليها؛ بحيث يكون بينه وبين رمضان الثاني بعدد الأيام التي عليه، فإذا كان عليه عشرة أيام من رمضان جاز تأخيرها إلى أن يكون بينه وبين رمضان الثاني عشرة أيام، ولا يَجوز تأخير القضاء بعد رمضان الآخَر بدون عذر.
ومما يدلُّ على سعة وقت القضاء قول عائشة - رضي الله عنها -: ((كان يكون عليَّ الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان))؛ متفق عليه( ).
والأفضل المبادرة بالقضاء؛ لأن هذا من تعجيل الخير، والإسراع لبراءة الذمة، وخشية من عروض العوارض أو النسيان، ولكي يصحَّ له صيام ستة أيام من شوال؛ لأنها لا تُصام إلا بعد القضاء.
وله أن يصوم القضاء مُتتابعًا، وله أن يصومه مُفرَّقًا.
أحوال المريض من حيث القضاء والكفارة والصيام عنه:
من أفطر في رمضان لعذر، فله حالان:
الحال الأولى: أن يكون لمرض لا يُرجى شفاؤه منه، فهذا يجب أن يُطعم عن كل يوم مسكينًا، فإن مات قبل أن يُطعم أُطعِم عنه مِن تركتِه، وإن صام عنه بعض أقاربه من أولاده أو زوجته أو غيرهم، أجزأ عنه ذلك وكفى عن الإطعام.
الحال الثانية: أن يكون لمرض يُرجى شفاؤه منه، أو لسبب غيره من سفر ونحوه، وهذا له حالتان:
الحالة الأول: أن يستمرَّ به العذر حتى يموت، فهذا لا شيء عليه؛ لأن الله - تعالى - أوجب عليه عدةً من أيام أُخَر ولم يتمكَّن منها فسقطت عنه كمَن مات قبل دخول شهر رمضان لا يلزمه صومه.
الحالة الثانية: أن يتمكَّن من القضاء، ولكنه فرَّط فيه حتى مات، فهذا أولياؤه بالخيار، إما أن يُطعموا عنه مِن تَركتِه كل يوم مسكينًا، لكل مسكين كيلو وربع إلى كيلو ونصف من الأرز ونحوه، ولهم أن يصوموا عنه جميع الأيام التي تمكَّن من قضائها وفرَّط فيه؛ لحديث أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن مات وعليه صيام، صام عنه وليُّه))؛ متفق عليه( ).
ويجوز أن يصوم عنه واحد أو اثنان أو أكثر، ويجوز أن يصوم عنه جماعة بعدد الأيام التي عليه في يوم واحد، قال الحسن: إن صام عنه ثلاثون رجلاً يومًا واحدًا جاز( ).
ويدخل في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من مات وعليه صيام، صام عنه وليُّه))، جميع الصيام الواجب كالنذور والكَفارات، ولكن يلاحظ أنه فيما يجب فيه التتابُع أنه لا بد من تتابُع القضاء، سواء أكان الذي يَقضي عنه واحد، أم كانوا جماعة يَتناوَبون الأيام.
الفصل الحادي عشر: صيام التطوع
أولاً - مشروعيَّة صيام التطوع وحكمته:
من رحمة الله - تعالى - بعباده أن شرَع لهم مع كل فريضة نافلة من جِنسها لتكون جابرة لما قد يكون وقع فيها من خلل، ومُتمِّمة لما قد يكون فيها من نقص، ومن ذلك الصيام؛ فقد شرع الله بعد فرضه نوافل متنوعة، ومن حكمة مشروعية النوافل أيضًا: أن الله - تعالى - يُنوِّع لعباده العبادات لتسهُل عليهم، وليَغتنمِوا الفرص للتقرُّب إليه - سبحانه وتعالى - بما يُناسبهم ويسهل عليهم، ومن ذلك ما شرعه من أنواع الصيام المختلفة في أيام السنَة.
ثانيًا - أنواع صيام التطوع:
لصيام التطوع أنواع كثيرة، منها:
النوع الأول - سُنية صيام ستة أيام من شوال:
صيام ستة أيام من شوال سنَّة حثَّ عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيَّن فضلها، كما في حديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن صام رمضان، ثم أتبعه ستًّا من شوال، كان كصيام الدهر))؛ رواه مسلم( ).
وهي بالنسبة لرمضان كالسنَّة الراتبة بالنسبة للصلاة المفروضة، فليكن حِرصنا على صيامها كبيرًا، ويَنبغي علينا حثُّ أزواجنا وأولادنا وإخواننا وأصحابنا على صيامها؛ ليتمَّ لكل مِنا - بفضل الله تعالى - فضل صيام عام كامل، ومَن حافظ عليها كل عام كان ذلك مثل صيام الدهر، وذلك من واسع فضل الله ورحمته بهذه الأمة الشريفة أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث أوسع لها العطاء والجزاء وإن قلَّ العمل.
مسائل مُتعلِّقة بصيام ستٍّ من شوال:
من المسائل المتعلقة بصيام ست من شوال ما يلي:
أولاً: لا يتمُّ هذا الفضل إلا لمَن بادَر بقضاء ما فاته من رمضان أولاً، ثم أتبعه بست من شوال، فعلى من أفطر في رمضان بسفر أو مرض أو المرأة بحيض أو غير ذلك، أن يبدأ بقضاء رمضان أولاً، ثم يصوم الستَّ من شوال( ).
ثانيًا: يتوهَّم بعض الناس أن مَن صامها عامًا لزمته كل عام؛ فلذلك يتقاعَس عن صيامها حتى لا تجب عليه بعد ذلك، وهذا كلام باطل لم يقلْه أحد من أهل العلم، ولا دليل عليه، بل هو قول ألقاه الشيطان في بعض الأذهان، وأذاعوه لأمثالهم من أهل الجَهل ليُقعِدهم عن هذه السنَّة المبارَكة.
ثالثًا: مَن شرع في صيام يوم من الست ثم بدا له أن يُفطر لأمر عرض له فلا بأس بالفطر؛ لأن صوم التطوع يَجوز قطعه، ويصوم بدلاً عنه يومًا آخَر، بخلاف صوم القضاء فمَن شرع فيه لم يَجُزْ له قطعه إلا بعذر شرعي كسفر أو مرض.
رابعًا: يَصِحُّ صيام الست من شوال بنيَّة من النهار فلا يشترط في صيامها تبييت النية من الليل؛ لأنها من صوم التطوع، وصوم التطوع لا يشترط لصحته تبييتُ النيَّة، وليس لمن فرَّق بين التطوع المُطلَق والتطوع المعيَّن دليل من السنَّة يَعتمِد عليه، والفقهاء الذين يُصحِّحون التطوع بنيَّة من النهار لا يُفرِّقون بين التطوع المُطلَق والتطوع المعين.
خامسًا: إطلاق الحديث يَدلُّ على أن كل شهر شوال موضِع لصيام هذه الست، سواء صامها مُتفرِّقة أو مُتتابِعة، مِن أوَّله أو آخرِه، فالأمر في هذا واسع، والمبادرة بالعمل الصالح أفضل دائمًا؛ ولهذا استحبَّ كثيرٌ من العلماء المبادرة بها من أول شوال وتتابُعها؛ وذلك من باب المسابقة إلى فِعْل الخيرات، وتلافيًا لما قد يَعرِض للإنسان مما يَمنعه من صيامها أو صيام بعضِها.
النوع الثاني: صيام يوم عرَفة، وهو اليوم التاسع من شهر ذي الحجَّة؛ فالسنَّة صيامه لغير الحاجِّ؛ لحديث أبي قتادة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((صيام يوم عرفة أَحتسِب على الله أن يُكفِّر السنَة التي قبله، والسنَة التي بعده، وصيام عاشوراء أحتسِب على الله أن يُكفِّر السنَة التي قبله))؛ رواه مسلم( ).
النوع الثالث: صيام يومِ عاشوراء، وهو اليوم العاشر من شهر محرَّم، فالسنَّة صيامه لحديث أبي قتادة - رضي الله عنه - السابق، ويُسَنُّ أن يصام معه اليوم التاسع مخالَفةً لأهل الكتاب؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد همَّ بذلك قبل موته؛ فعن عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله: ((فإذا كان العام المُقبِل - إن شاء الله - صمْنا اليوم التاسع))، قال: فلم يأتِ العام المُقبل حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم؛ رواه مسلم( )، وفي لفظ له: ((لئن بقيتُ إلى قابل لأصومنَّ التاسع))؛ فإن لم يَصُمِ التاسع معه صام الحادي عشر، وإن صام الأيام الثلاثة معًا فحسَن، والله أعلم.
النوع الرابع: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، يدلُّ لذلك حديث عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: أُخبِر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني أقول: والله لأصومنَّ النهار، ولأقومنَّ الليل ما عشتُ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنتَ الذي تقول: والله لأصومنَّ النهار، ولأقومنَّ الليل ما عشتُ؟))، قلتُ: قد قلتُه [بأبي أنت وأمي، يا رسول الله]، قال: ((إنك لا تَستطيع ذلك، فصمْ وأَفطِر، وقُمْ ونَمْ، وصُمْ من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسَنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر))؛ متفق عليه( ).
وهذا العددُ هو أقل عددٍ ورَد الحثُّ عليه في كل شهر في الأحاديث المَشهورة( )، وللإنسان أن يَصوم اليوم واليومين، فهو خير على كل حال، لكن الأفضل ألا ينقص عن ثلاثة أيام من كلِّ شَهر.
ولم يُحدِّد النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبدالله بن عمرو الأيام الثلاثة التي يُشرَع صيامها من كل شهر، بل أطلَقها؛ فللمسلم أن يَصومها فيما شاء من أيام الشهر متواليةً أو مُتفرِّقةً، والأفضل في صيامها فعلُ واحِدٍ مما يلي:
أولاً: صيام أيام الليالي البيض، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر قَمريٍّ، وهذه الصفة أفضل شيء؛ لكثرة الأحاديث الواردة في الأمر بها والحث عليها.
ثانيًا: صيام أول اثنين ثم الخميس ثم الاثنين، أو صيام أول اثنين من الشهر والخَميسين بعده، أو صيام ثلاثة أخمسة، أو ثلاثة أثانين.
النوع الخامس: صيامُ يومٍ وإفطار يومين، يدلُّ لذلك حديث عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - السابق، وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال له: ((صُمْ من الشهر ثلاثة أيام))، قال: إني أطيق أفضل من ذلك يا رسول الله، قال: ((فصُم يومًا وأفطر يومين))؛ متفق عليه( )، فعلى هذا يصوم ثلُث الشهر، عشرة أيام كل شهر.
النَّوع السادس: صيامُ يوم وإفطار يوم، يدلُّ لذلك حديث عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - السابق، وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال له: ((فصم يومًا وأفطر يومين))، قال: إني أُطيق أفضل من ذلك، قال: ((فصم يومًا وأَفطِر يومًا، وذلك صيام داود، وهو أعدَل الصيام [وفي رواية: أفضل الصيام]))، قلتُ: إني أطيق أفضل من ذلك يا رسول الله، قال: ((لا أفضل مِن ذلك))؛ متفق عليه( )، فعلى هذا يصوم نصف الشهر، خمسة عشر يومًا كل شهر، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذا ((أفضل الصيام))، وهو ((صيام داود)) - عليه السلام.
ثالثًا - الأحكام المتعلِّقة بصيام التطوع:
من الأحكام المتعلقة بصيام التطوع ما يلي:
أولاً: يصحُّ صيام التطوع بنيَّة من النهار؛ بحيث إن المسلم إذا لم يأتِ بأي مُفطِر بعد الفجر كالأكل أو الشرب أو الجماع، فإنه يجوز له أن يَنوي صيام التطوع في أي ساعة من النهار ولو بعد العصر، ثم يتم يومه صائمًا.
ثانيًا: إذا صام المسلم تطوعًا فالأفضل له إتمام صيامه، وإن قطعه لعذرٍ شرعي أو لغير عذر فلا حرَج عليه، وإن قضى بدلاً عنه يومًا آخَر فهو حسن.
ثالثًا: من كان عليه قضاء شيء من رمضان، فالأفضل أن يَقضيه قبل أن يصوم تطوعًا، ولكن من صام تطوعًا في هذه الحال فصومه صحيح على الراجح من قولي العلماء؛ لأن وقت قضاء صيام رمضان موسَّع؛ فجاز التطوع قبل فعله؛ كالصلاة يتطوَّع في أول وقتها إلا ما تقدَّم من صيام الست من شوال، وأنه يَنبغي أن يقدِّم القضاء عليها.
الفصل الثاني عشر: الأحكام المتعلِّقة بشهر رمضان
أولاً - مشروعيَّة قيام رمضان وفضْله:
قيام رمضان سنة ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله وفعله، ولها فضل عظيم بيَّنه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه))؛ متفق عليه( )، فيَنبغي للمسلم أن يَحرِص على هذه الصلاة لينال فضلها.
صلاتها مع الجماعة:
السنَّة قيامُ رمضانَ جماعةً مع الأئمة في المساجدِ، وهي الصلاة المسمَّاة بـ (التراويح)، وقد فعَلها النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه، ثم تركها خَشية أن تُفرَض عليهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: صلاة التراويح جماعة ليسَت بدعة في الشريعة، بل هي سنَّة بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعله، قد صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجماعة في أول شهر رمضان ليلتين، بل ثلاثًا، وصلاها أيضًا في العَشر الأواخِر في جماعة مرات، وكان الناس يُصلونها جماعة في المسجد على عهده - صلى الله عليه وسلم - ويقرُّهم، وإقراره سنَّة منه - صلى الله عليه وسلم؛ اهـ( ).
وقد ثبَت من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: صمْنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يُصلِّ بنا حتى بقي سبع من الشهر، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، ثم لم يقم بنا في السادسة، وقام بنا في الخامسة حتى ذهَب شطر الليل، فقلنا له: يا رسول الله، لو نفلتَنا بقيَّة ليلتنا هذه، فقال: ((إنه من قام مع الإمام حتى يَنصرِف كتب له قيام ليلة))؛ رواه الخمسة، وصحَّحه ابن خزيمة وابن حبان( ).
وللإنسان - رجلاً أو امرأة - أن يُصلِّيها في بيتِه، والأفضل صلاتها جماعة؛ لأمور، منها:
1 - أن ذلك هو السنَّة، فقد فعَلها النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعَلها أصحابه - رضي الله عنهم - من بعده.
2 - أن من صلى مع الإمام حتى يَنصرِف كُتِب له قيام ليلة، وهذا لا يتأتَّى لمن صلى وحده حتى يُصلي قريبًا من ثلث الليل أو نحوه.
ويَنبغي لمن فاتته صلاة التراويح مع الناس لأيِّ سبب أن يُصليها في بيته إما وحده، أو مع جماعة أهل بيته كزوجته وأولاده.
صلاتها كاملةً مع الإمام:
يَنبغي للمسلم أن يَحرِص على صلاة التراويح مع الإمام من أولها إلى آخِرها فيبدأ معه من أول صلاته، ويَبقى معه حتى ينتهي من صلاته؛ لأنه إذا فعل ذلك كُتب له قيام ليلة كاملة، سواء أكانت صلاة الإمام طويلة أم متوسِّطة أم خفيفة؛ لعموم حديث أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - السابق.
ومن قام هكذا إيمانًا بموعود الله - جل وعلا - وطلبًا للأجر والثواب منه، فإنه - إن شاء الله تعالى - ينال الثواب الذي أخبر به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في قوله: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه))، ومن لم يُتمَّ الصلاة مع الإمام فله أجر ما صلى، ولكن لا يُكتَب له قيام ليلة كاملة.
تنبيه: يدخل في حكم الإمام الواحد الإمامان اللذان يَتناوبان الصلاة في مسجد واحد، بحيث يُصلي أحدهما بعض الصلاة، ويُتمُّها الآخَر؛ وذلك لأن الثاني يكمل صلاة الأول، فهو نائب عنه، فكانا كالإمام الواحد، فيصلي معهما المأموم حتى يتمَّ الثاني الصلاة، وبهذا يُكتب له قيام ليلة.
الزيادة بعد صلاة الإمام:
من أراد الزيادة بعد صلاة الإمام في بيته أو غيره فيَنبغي له ألا يَنصرف إذا قام الإمام للوتر، بل إنه يصليه معه ويَنويه شفعًا، فإذا سلَّم الإمام قام فأتى بركعة وسلم، ثم صلى بعد ذلك ما كُتِب له، ثم أوتر في آخِر صلاته.
ومن أوتر مع الإمام ثم بدا له أن يصلي فله أن يصلي ما شاء شفعًا ركعتين ركعتين، ولا يُعيد الوتر ولا يَنقضه( ).
عدد ركعات قيام الليل في رمضان وغيره:
ليس لقيام رمضان ولا لغيره حد محدود لا يُزاد عليه ولا ينقص منه، ودليل ذلك إطلاق حديث أبي ذر - رضي الله عنه - السابق وغيره من الأحاديث المُرغِّبة في قيام الليل، مع ما ثبَت عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على المِنبر: ما ترى في صلاة الليل؟ قال: ((مَثنى مثنى، فإذا خَشي الصبح صلى واحدةً فأوترَت له ما صلى))؛ متفق عليه( ).
ولكن الأفضل ما كان يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - غالبًا، وهو إحدى عشرة ركعة، كما قالت عائشة - رضي الله عنها -: ((ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعةً))؛ متفق عليه( )، وإن زاد على هذا العدد أو نقَص منه، فلا بأس بذلك.
حقيقة صلاة الوتر وأن دعاء القنوت ليس شرطًا فيها:
صلاة الوتر هي الركعة المُفردة التي تُصلَّى بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، وقد يكون ثلاثًا متصلةً، أو خمسًا متصلةً، أو سبعًا متصلةً، أو تسعًا متصلةً، أو إحدى عشرة متصلةً، وليس من شرطه دعاء القنوت الذي يقال بعد الركوع أو قبله، وبعض الناس قد يَترك الوتر؛ لأنه لا يحفظ دعاء القنوت، وهو خطأ وحرمان، فلك أن تصلي الوتر من غير دعاء القنوت، ولك أن تدعو بما شئتَ، ولك أن تقرأ الدعاء من ورقة، والأولى فعل القنوت أحيانًا وتركه أحيانًا؛ لأن عامَّة الأحاديث المحفوظة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قيام الليل لم يُذكَر فيها أنه كان يدعو في صلاة الوتر، وجاء في بعض الأحاديث، وثبَت عن الصحابة - رضي الله عنهم - فِعله، فلهذا الأولى أن يفعل أحيانًا ويَترك أحيانًا، والله أعلم.
مسح الوجه باليدَين بعد الدعاء:
الأولى ترك مسحِ الوجه باليدَين بعد الدعاء؛ لعدم ثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء في فتاوى اللجنة الدائمة: الدعاء عبادة مشروعة، ولم يَثبُت في مسح الوجه بالكفَّين عقبه سنَّة قولية أو عملية، بل روي ذلك من طرق ضعيفة؛ فالأولى تركُه عملاً بالأحاديث الصحيحة التي لم يذكر فيها المسح؛ اهـ( ).
ثانيًا - فضلُ ليلة القدر ومشروعيَّة تحرِّيها وقيامها:
لقد امتنَّ الله على هذه الأمة بأن خصَّها بليلة شريفة مُبارَكة في شهر رمضان من كل عام، وبخاصة في العشر الأخيرة منه، هذه الليلة هي ليلة القدر التي قال الله فيها: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]، ووصفَها بأنها ليلة مُبارَكة، فقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 3]، ومن خصائص هذه الليلة:
أولاً: أنها ليلة مباركة، يَعني: كثيرة الخير والفضل والثواب؛ كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3].
ثانيًا: أن الله - تعالى - أنزل فيها القرآن الكريم؛ كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1].
ثالثًا: أن العمل فيها خير من العمل في ألف شهر؛ كما قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]، وهذا يُعادِل أكثر من ثلاث وثمانين سنة.
رابعًا: أن الملائكة تتنزَّل فيها إلى الأرض؛ كما قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [القدر: 4]، وهم ينزلون بالخير والبركة والرحمة.
خامسًا: أنها ليلة سلام؛ كما قال تعالى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5]، والمعنى: أن هذه الليلة مباركة كثيرة الخير، قليلة الشرِّ والآفات مما يَكون في غيرها من الليالي، وذلك لما جعل الله - تعالى - فيها من الخير والبركة، وكثرة نُزول الملائكة.
سادسًا: أن من صلى ليلتها إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه.
سبب تسمية هذه الليلة بليلة القدر:
اختلف العلماء - رحمهم الله تعالى - في معنى (القدر) الذي سُميَت به هذه الليلة الشريفة على عدة أقوال، ذهَب إلى كل واحد منها جماعة من الأئمَّة، أشهرها ثلاثة الأقوال، هي( ):
القول الأول: أن القَدْر بمعنى التقدير، والمراد: أن هذه الليلة الشريفة تُقدَّر فيها مَقادير الخلائق، والمراد بهذا التقدير: التقدير السنَوي، وهو ما يكون بين يدي الملائكة الكرام - عليهم السلام - كل عام من ليلة القدر إلى التي تليها من العام الآخَر؛ قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4]، أما التقدير الأول العام فقد كان قبل خَلقِ السموات والأرض بخَمسين ألف سنَة.
القول الثاني: أن القدر بمعنى الشرف وعلوِّ المنزلة، والمراد: أن هذه الليلة شريفة عند الله - تعالى - ومن شرفِها أن أنزل فيها كتابه الكريم، وجعلها خيرًا من ألف شهر.
القول الثالث: أن القدر بمعنى التضييق، والمراد: أن هذه الليلة الشريفة يَكثُر فيها تَنزُّل الملائكة الكرام - عليهم السلام - إلى الأرض حتى تَضيق بهم، وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في ليلة القدر: ((إن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى))؛ رواه الطيالسي وأحمد، وصحَّحه ابن خزيمة( )، وكل هذه أقوال صحيحة لا تَعارُض بينها، ويؤيد ذلك اللغة، وواقع هذه الليلة الشريفة الذي دلَّت عليه النصوص الشرعية.
تحرِّي ليلة القدر وما يُشرَع فيها:
ليلة القدر مُتنقِّلة في العشر الأواخر؛ ولهذا يُشرَع تحريها في جميع العشر، وليالي الأوتار آكَد، وقد تكون في ليالي الأشفاع، وأولى الليالي بتحريها ليلة سبع وعشرين.
ويُسَنُّ أن يجتهد المسلم في جميع ليالي العشر بالطاعات كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك، لعله أن يوافِق هذه الليلة المُبارَكة، فيتضاعف أجره وعمله إلى عمل أكثر من ثلاث وثمانين سنة، وإن مِن أعظم التفريط: إضاعة هذه الليالي المباركة بالسهر فيما لا ينفع أو في المُحرَّمات وترْك الطاعة والتقصير فيها، وعدم الاهتمام بما عظَّمه الله - تعالى - وشرَّفه من الليالي والأيام.
ومما يُشرَع في هذه الليالي:
أولاً: الحِرص على الفرائض وعدم التفريط فيها.
ثانيًا: الإكثار من ذِكر الله - تعالى - وتلاوة القرآن الكريم.
ثالثًا: الإكثار من الدعاء، ومِن أحسنِه الدعاء الذي علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - حيث قالت: يا رسول الله، أرأيت إن وافقتُ ليلة القدر، بم أدعو؟ قال: ((تقولين: اللهم إنك عفو تحبُّ العفو فاعف عني))؛ رواه أحمد والترمذي وابن ماجه( ).
رابعًا: الحِرص على الاعتكاف هذه العشر أو بعضها ما أمكن ذلك؛ فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحرَّى الاعتكاف في العشر الأواخِر ليُوافق ليلة القدر.
خامسًا: الحرص على قيام الليل في هذه الليالي المباركة، فإن من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا؛ غُفر له ما تقدَّم من ذنبه))؛ متَّفق عليه( ).
ثالثًا - استِحباب العمرة في رمضان وفضلها:
العمرة من الأعمال الصالحة المرغوب فيها شرعًا، ولها فضائل كثيرة، منها ما ثبَت عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((العُمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))؛ متفق عليه( ).
وأفضل زمن للاعتمار شهر رمضان؛ فالعمرة فيه تَعدِل في الفضل حجةً أو حجةً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ثبَت في حديث عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لامرأة من الأنصار يقال لها أم سنان: ((إذا جاء رمضان فاعتمري، فإن عمرةً فيه تَعدِل حجةً))؛ متفق عليه( )، وفي رواية لهما: ((حجةً معي))( ).
فيَنبغي الحرص على أداء العمرة عمومًا وفي رمضان خصوصًا، وهي مشروعة في رمضان كله، ليس لآخره فضل خاص على أوله، ولا يُخص بها شيء من أيامه أو لياليه.
وحقيقة العمرة في رمضان أن يُحرِم الإنسان بها بعد دخول شهر رمضان ويؤدِّيها فيه، هذا ما لا خلاف فيه بين العلماء، أما من أحرَم بها قبل دخول شهر رمضان وأداها فيه، أو أحرم بها في نهاية شهر رمضان وأداها في شوال، فقد اختلف العلماء في اعتبارها عمرة رمضانيَّة، والله أعلم بالصواب.
الإحرام بالعمرة:
من كان يمرُّ في ذهابه إلى مكة معتمرًا بأحد المواقيت، فإنه يجب عليه الإحرام من الميقات الذي يمرُّ به، ولا يجوز له تجاوُزه بدون إحرام، والذي يسافر بالطائرة يُحرِم إذا حاذى الميقات أو قبله بيسير، وإن تجهَّز في بيته بالاغتسال ولبس ملابس الإحرام فهو حسن؛ لأنه أيسر له، وقد لبس النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - أزُرهم وأرديَتهم في المدينة قبل الخروج إلى ذي الحُلَيفة؛ قال عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما -: انطلَق النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة بعدما ترجَّل وادَّهن ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه - رضي الله عنهم؛ رواه البخاري( ).
ما يَحصل به التحلُّل من الإحرام:
إذا عقَد المُحرم نية الإحرام ولبَّى بالعمرة فإنه لا يتحلَّل من هذا الإحرام متى شاء، بل لا يتحلل إلا بأحد أمرَين، هما:
أولاً: إتمام عمرته، بأن يأتي بأركانها وواجباتها، ويتحلَّل منها بالحَلقِ أو التقصير.
ثانيًا: أن يَحصُل له مانع قَهري يمنعه من إتمام العمرة، فإن كان قد اشترط عند الإحرام فقال: "لبَّيك عمرة، فإن حبَسني حابس فمَحلي حيث حبستَني"، فإنه يتحلَّل عند وجود هذا المانع من غير شيء، وإن لم يكن اشترط عند الإحرام فله حكم المُحصَر، فيتحلَّل بذبح شاة، ثم يَحلِق أو يُقصِّر، وبهذا يتحلَّل من إحرامه.
صفة العمرة إجمالاً:
تتكوَّن العُمرة في الجملة من أربعة أشياء؛ هي: الإحرام، ثم الطواف وركعتين بعده، ثم السعي، ثم الحَلق أو التقصير، وصفتها - باختصار - على النحو التالي:
أولاً: الإحرام، بأن يقول: لبَّيك عمرة، ناويًا بذلك الدخول في النُّسك، ويسنُّ التلبية بعده يرفع بها الرجلُ صوتَه وتَخفضه الأنثى، ويستمر مُلبيًا حتى يدخل مكة ويرى بيوتها.
ثانيًا: إذا وصل المسجد الحرام دخله برجله اليمنى، وقال الذكر الوارد عند دخول المسجد، ثم يشرَع في الطواف مُبتدئًا بالحجر الأسود، فيستقبله ببدنه، ويُشير إليه بيده اليُمنى قائلاً: "الله أكبر"، وإن تيسَّر استلام الحجر وتقبيله من غير مُزاحَمة وإيذاء فهو أفضل.
ثالثًا: يسنُّ أن يطوف الرجل مُضطبعًا في جميع طواف العمرة بأن يَكشِف منكبه الأيمن، ويجعل طرفي الرداء على منكبه الأيسر، ويسنُّ أن يُسرع المشي في الأشواط الثلاثة الأولى وهو (الرَّمَل)، ويَذكر الله ويدعوه بما أحب، وليس للطواف ذكر خاص إلا التكبير في أول شوط، وأن يَختم كل شوط بقوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201].
رابعًا: إذا أتمَّ سبعة أشواط فقد أتمَّ الطواف، فيترك الاضطباع، ويجعل رداءه على منكبَيه، ويسنُّ أن يصلي ركعتين بعد الطواف خلف مقام إبراهيم - عليه السلام - إن تيسَّر قريبًا منه أو بعيدًا، ولا يُضايق الناس، وله أن يُصليها في أي مكان.
خامسًا: يتجه إلى المسعى، فإذا دنا من الصفا فالسنَّة أن يقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، ثم يقول: أبدأ بما بدأ الله به، ثم يصعَد على الصفا، ويستقبل القِبلة، ويرفع يدَيه كهيئة الداعي، ويُكبِّر ثلاثًا ويقول ما ورَد، ثم يدعو بما شاء، ثم يُكبِّر ثلاثًا ويقول ما ورَد، ثم يدعو بما شاء، ثم يُكبِّر ثلاثًا ويقول ما ورَد، ولا يدعو بعده.
سادسًا: ثم يَنزل من على الصفا ماشيًا متجهًا إلى المروة، ويسنُّ للرجل الإسراع بين العلامتين الخضراوَين، فإذا وصل المروة فإنه يصعَد عليها ويستقبل القِبلة، ويرفع يديه كهيئة الداعي، ويُكبِّر ثلاثًا ويقول ما ورد، ويدعو بين ذلك كما فعله على الصفا.
ثم يتمُّ سبعة أشواط هكذا، الذهاب شوط والرجوع شوط آخَر، ويَذكُر الله ويدعوه أثناء السعي بما أحبَّ، وليس للسعي ذِكر خاص إلا ما تقدَّم في أول كل شوط.
سابعًا: إذا أتمَّ السعي خرج من المسجد الحرام وحلَق الرجل شَعره كله أو قصَّره كله، والحَلقُ أفضل، وقصَّرت المرأة من شَعرها كلِّه، وبهذا تمَّت العمرة، وتحلَّل من إحرامه.
رابعًا: وجوب حفظ الجوارِح عن الحرام في الصيام وغيره:
ثبَت من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كُتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مُدرك ذلك لا محالة؛ فالعينان زناهما النظر، والأُذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زِناها البطش، والرِّجل زناها الخُطى، والقلب يهوى ويتمنَّى، ويُصدِّق ذلك الفرْجُ ويكذِّبه))؛ متفق عليه( ).
فيجب على المؤمن أن يحفظ أعضاءه من فِعل الحرام، وبخاصة في هذا الشهر الكريم؛ حيث يسَّر الله للمسلم أسباب التقوى وحفظ الجوارح، ومِن أهمِّها: الصيام، ومِن أولى ما يجب حفظ الجوارح منه: زنا الأعضاء التي هي وسائل الزنا الحقيقي، وقد نبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث إلى أنواع، منها:
فأولها: زِنا العينين: وهو النظر إلى المحرَّمات كلها، وبخاصة ما يؤدي إلى الوقوع في الزنا؛ فإن العين طريق مِن أعظم الطرُق المؤدية إلى الفاحِشة؛ ولذلك بدأ بها في الحديث، وسواء أكان النظر مُباشَرة أم كان عن طريق الصور بأنواعها الثابتة والمتحرِّكة، وإذا نظر المسلم إلى ما لا يحلُّ له قصدًا فهو آثِم، ويجب عليه مدافَعة نفسه والتوبة والاستغفار، وإن وقع نظرُه عن غير قصد منه فهو مَعفوٌّ عنه، ويجب عليه أن يَصرف بصره عن الحرام ولا يَسترسِل معه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُتبع النظرة النظرة؛ فإنما لك الأولى وليست لك الآخِرة))؛ رواه أحمد وأبو داود والترمذي( )؛ ولهذا يجب على المسلم أن يتجنَّب مشاهدة صور النساء الكاسيات العاريات والصور الفاضحة في القنوات الفضائية والمواقع الإباحية وغيرها.
وثانيها: زِنا الأذنين، وهو الاستماع إلى الحرام؛ كاستماع الأغاني المُحرَّمة، والتجسُّس على الناس، والتلذُّذ بالاستماع إلى أصوات النساء، والاستِماع إلى المُعاكَسات، فالواجب الحذر من كل ذلك، والتوبة إلى الله - تعالى - مما قد يكون وقع منه.
وثالثها: زنا اللسان، وهو الكلام المحرَّم؛ كالنُّطق بالكلام الفاحش، والقذف بالزنا والفُجور، ومعاكَسة النساء عن طريق الكلام المباشر أو المحادَثات عن طريق الهاتف أو غرف المحادثات عبر الشبكة العنبكوتية (البالتوك) أو غيرها، وإن سابَّه أحد أو شاتمه فليتذكَّر صيامه، وليقل له: ((إني صائم)).
ورابعها: زنا اليدَين، وله معنًى واسع نبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بعضه، فمنه: إيذاء الناس باليدَين؛ كالبطش بهم وضربهم بدون وجه حق، وكل مُنكَر يُرتكَب باليدَين، وبخاصة ما يُوصِّل إلى الزنا الحقيقي؛ كمعاكسة النساء برسائل الجوالات أو البلوتوث أو عن طريق الشبكة، أو ما يُسمَّى بالترقيم، والتصوير المحرَّم بكل طريق عبر الكاميرات أو الرسم باليد، ونشر ذلك في أي موضِع عن طريق الجوال أو الشبكة أو على جدران الشوارع وأبواب الحمامات في المساجد والمدارس.
وخامسها: زنا القدَمين، وهو استعمالهما في معصية الله - تعالى - كالمشي بهما في المعاكسات، أو للزِّنا الحقيقي، أو المشي بهما للإفساد في الأرض وانتِهاك الحرُمات.
اجتماع أنواع من زنا الأعضاء في بعض الأعمال:
قد يَجتمع أنواع من زنا الأعضاء في بعض الأعمال، وبخاصة في عَصرنا هذا، فمن ذلك:
أولاً: استخراج الصور الموجودة في الجوالات عن طريق البرامج المتخصِّصة؛ فيَجتمِع في هذا زِنا اليدَين والعينين، كما أن فيه تجسُّسًا وكشفًا للعَورات، وإشاعةً للفاحشة، ونَشرًا للرذيلة، وإيذاءً للمؤمنين، وليَنتظِر فاعلُ ذلك أن يفضحه الله في الدنيا قبل الآخِرة ما لم يَتُبْ من هذا الفعل القبيح.
ثانيًا: نشر الصور المحرَّمة المُخلَّة بالأدب والسلوك، وتوزيعها عن طريق المجلات أو الجرائد بأنواعها، أو عن طريق البلوتوث أو الشبكة العنكبوتية، والواجب ترك هذا الفعل من أساسه، ومَن وصلت إليه صورة من ذلك محرَّمة كصور النساء في الزواجات، أو صور بعض الكاسيات العاريات، أو الصور الفاضِحة أيًّا كانت، فالواجب عليه المبادَرة بإتلافها أو مَسحِها؛ ولا يجوز له السعي في نَشرِها بأي وجه.
ثالثًا: نشر الفساد عبر الفضائيات الفاضِحة بأنواعها، وهو من الزنا باليدَين أو العينين، بل من الزنا بالرأي والفِكر والمال، ومن التخطيط لإشاعة الفاحِشة بين المؤمنين؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19]، وهؤلاء الذين نزَلت فيهم الآية لم يَعدوا أن يتكلَّموا فقط، فكيف بمن سعى في نَشرِها بكلِّ جهده وطاقته، وبكل الوسائل التي أتيحت له.

سبب تسمية هذه المعاصي زنًا:
سمَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه المعاصي زنًا لعدة أمور، منها: التنفير منها وتقبيحها؛ لأنه قد استقرَّ في النفس المؤمنة قُبحُ الزنا وشؤمه وعِظَم ضرره على الأفراد والمجتمعات، ومنها: بيان خطرها حتى لا يتساهل الناس فيها، ومنها: أنها قد تؤدي إلى الزنا الحقيقي، فما كان موصلاً إليه ووسيلة للوقوع فيه استحقَّ أن يُسمى باسمه.
خامسًا - الجود في رمضان:
جمع رسول الله - صلى الله عليه سلم - محاسن الأخلاق كلها، ومحاسن الصفات، وليس من كلمة هي أجمَع لمحاسنِه - صلى الله عليه وسلم - من الكلمة التي وصفتْه بها أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - لما سألها سعد بن هشام قائلاً: يا أمَّ المؤمنين، أنبئيني عن خُلُق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: ألستَ تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: "فإن خُلقَ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن"؛ رواه مسلم( )، قال ابن الأثير - رحمه الله -: أي متمسِّكًا بآدابه وأوامره ونواهيه وما يَشتمِل عليه من المكارم والمحاسن؛ اهـ( ).
ومع أنه - صلى الله عليه وسلم - معدن الجود والكرم وجميع المحاسِن في كل وقت إلا أنه كان جوده يتضاعف في رمضان ومحاسنه تزداد فيه؛ فعن عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود( ) ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة"؛ متفق عليه( ).
قال العلامة ابن عثيمين - رحمه الله -: وكان جوده - صلى الله عليه وسلم - يَجمع أنواع الجود كلها؛ من بذل العِلم والنفس والمال لله - عز وجل - في إظهار دينه وهداية عباده وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من تعليم جاهِلهم، وقضاء حوائجِهم، وإطعام جائعهم، وكان جوده يتضاعَف في رمضان؛ لشرف وقته ومضاعَفة أجرِه وإعانة العابدين فيه على عبادتهم، والجمع بين الصيام وإطعام الطعام، وهما من أسباب دخول الجنة؛ اهـ( ).
وقد تقرَّر عند العلماء - رحمهم الله تعالى - أن الأعمال تتضاعف بفضل الزمان والمكان، ورمضان من أفضل الأزمان، فيَنبغي للمسلم في رمضان أن يَجتهد في أنواع الجود ما استطاع بوقته ونفسه وماله، كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل، وإنه لشهر الجود والكرم الذي يَنبغي فيه أن يَقتلِع المسلم من نفسه دوافع البُخل وجذوره.
سادسًا - قراءة القرآن في رمضان:
القرآن الكريم هو أعظم كتاب أنزله الله - تعالى، وهو كلام الله - تعالى - الذي أنزله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - والمؤمن يَعرِف للقرآن الكريم منزلته العظيمة، فيَحرص على تلاوته والعمل به، ويُعظِّمه أشد التعظيم، ولما كان رمضان هو شهر القرآن، فقد اختصَّ الله - تعالى - نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بمزيد من العناية بكتابه في هذا الشهر، فكان يُرسِل جبريل إليه - صلى الله عليه وسلم - ليُدارسه القرآن ويُراجِعه معه؛ فعن عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيُدارِسه القرآن، فلَرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يَلقاه جبريل أجوَدُ بالخير من الريح المُرسَلة"؛ متَّفق عليه( ).
وهذا مما يؤكِّد العناية بكتاب الله - تعالى - في هذا الشهر، ولقد كان السلف - رحمهم الله تعالى - مع عظيم عنايتهم بكتاب الله في كل وقت قراءة وتدبُّرًا وعملاً وتعلمًا وتعليمًا إلا أنهم في رمضان تزداد عنايتهم به، وما هذا إلا لأنه {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185].
لقد كان بعض السلف يَختم في قيام رمضان في كل ثلاث ليال، وبعضهم في كل سَبعٍ، منهم: قتادة، وبعضهم في كل عشرة، منهم: أبو رجاء العطاردي.
وكان السلف - رحمهم الله تعالى - يقرؤون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها، كان الأسود يَقرأ في كل ليلتين في رمضان، وكان النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة وفي بقية الشهر في ثلاث، وكان قتادة يختم في كل سبع دائمًا، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العَشر الأواخر كل ليلة، وكان للشافعي في رمضان ستون ختمة يَقرؤها في غير الصلاة، وعن أبي حنيفة نحوه.
وكان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان، وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: إنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام، وكان مالك إذا دخل رمضان يفرُّ من قراءة الحديث ومُجالَسة أهل العلم، ويُقبِل على تلاوة القرآن من المُصحَف، وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة، وأقبل على قراءة القرآن، وكانت عائشة - رضي الله عنها - تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان، فإذا طلعَت الشمس نامت، وكان زبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المَصاحف، وجمع إليه أصحابه( ).
ومما يتعلَّق بالقرآن الكريم من المهمات ما يلي:
1 - يَنبغي للمسلم أن يكون له وِرد يومي من كتاب الله - تعالى - يحافظ عليه، ويَقضيه إذا فاته، وإن تيسَّر له أن يختم القرآن كل ثلاثة أيام، أو كل أسبوع، أو كل شهر، أو كل أربعين يومًا فهذا حسن؛ فعن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ((اقرأ القرآن في أربعين))؛ رواه أبو داود والترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب، وحسَّنه الألباني( )، قال إسحاق بن راهويه: ولا نحبُّ للرجل أن يأتي عليه أكثر من أربعين ولم يقرأ القرآن لهذا الحديث( )، يعني أن أكثر مدة لختم القرآن عند بعض السلف هي هذه المدة، وهذا الشهر الكريم فرصة طيبة للعزم على ذلك، وتعويد النفس عليه ما دامَت مُقبِلة على قراءة كتاب الله - تعالى - وفِعل الخيرات.
2 - لا يَنبغي للمؤمن أن يَهجُر كتاب الله - تعالى - فلا يقرؤه إلا يسيرًا، وقد وصف النبي المؤمن الذي يقرأ القرآن الكريم ويعمل به بالأُترجَّة التي ريحها طيِّب وطَعمُها طيِّب؛ وذلك لأن القرآن الكريم به حياة القلوب، فمَن قرأه وعمل به، طاب ظاهِرًا وباطنًا، كان ابن مسعود - رضي الله عنه - يُكثِر من قراءة القرآن ويقلِّل الصوم، فقيل له: إنك تُقلُّ الصوم؟ قال: إني إذا صمتُ ضعفتُ عن القرآن، وقراءة القرآن أحب إلي( )، ولقد اشتكى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من هَجر كتاب الله - تعالى؛ قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]، وقد ذكر العلماء - رحمهم الله تعالى - أن هجر القرآن أنواع( ):
أحدها: هَجر الإيمان به.
والثاني: هَجر قراءته والاستماع إليه.
والثالث: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه.
والرابع: هجر تحكيمه والتحاكُم إليه في أصول الدين وفروعِه، واعتقاد أنه لا يُفيد في هذا الزمان، وإنما كان يَصلُح في الأزمنة الماضية.
والخامس: هجر تدبُّره وتفهُّمه.
والسادس: هَجر الاستشفاء والتداوي به من جميع أمراض القلوب والأبدان.
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - بعد أن ذكَر نحوًا من هذا: وكل هذا داخل في هذه الآية، وإن كان بعض الهَجر أهونَ من بعض( ).
3 - ينبغي للمسلم أن يَحرص على تعلُّم كتاب الله - تعالى؛ ففي صحيح البخاري عن عثمان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خيرُكم مَن تعلَّم القرآن وعلَّمه))( )، ويدخل في ذلك:
أولاً: تعلُّم تلاوته، وقد تيسَّرت أسباب ذلك في عَصرِنا من خلال الأساتذة المتخصصين، أو تَكرار استماع أشرطة القرآن الكريم، وليس بكثير على كتاب ربنا - جل وعلا - أن يجعل بعضُنا جزءًا من وقته لتعلُّمه ومدارسته حتى يُتقِن قراءته، وبخاصة في هذا الشهر الكريم.
ثانيًا: استحِباب حفظه، وإن شقَّ ذلك على الإنسان وكلَّفه كثيرًا من الوقت والعَناء، فإن له أجرًا عظيمًا على المشقَّة زائدًا عن أجر قراءة القرآن نفسه.
ثالثًا: تعلُّم مَعانيه، وتدبُّر آياته، وتفهُّم مقاصده ومراميه؛ قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، قال الحسن بن علي - رضي الله عنهما -: إن مَن كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبَّرونها بالليل، ويتفقَّدونها في النهار( ).
سابعًا - سُنِّية الاعتكاف في رمضان:
تعريف الاعتكاف:
الاعتكاف هو: لزوم المسجد لطاعة الله - عز وجل - من الصلاة والذِّكر والدعاء وقراءة القرآن والتفكُّر، وغير ذلك.
حكم الاعتِكاف:
الاعتكاف من السنن الثابتة بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - قال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -: لا أعلم عن أحد من العلماء خلافًا أن الاعتكاف مَسنون؛ اهـ( ).
قالت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَعتكِف العَشر الأواخر من رمضان، حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده"؛ متفق عليه( ).
المقصود الحقيقي من الاعتكاف:
المقصود بالاعتكافِ: انقطاع الإنسان عن الناس ليتفرَّغ لطاعة الله في مسجد من مساجده، طلبًا لفضله وثوابه وإدراك ليلة القدر، وكما يُعبِّر عن ذلك الحافظ ابن رجب - رحمه الله تعالى - فيقول: حقيقة الاعتكاف: قطع العلائق عن الخَلائق، للاتِّصال بخدمة الخالق( )، ويقول أيضًا: المُعتكِف قد حبَس نفسه على طاعة الله وذِكره، وقطع عن نفسه كل شاغل يَشغله عنه، وعكَف بقلبِه وقالبه على ربه وما يُقرِّبه منه، فما بقي له همٌّ سوى الله، وما يُرضيه عنه( )؛ اهـ.
ولذلك يَنبغي على المُعتكِف أن يَشتغِل بالذِّكر والقراءة والصلاة والعبادة، وأن يتجنَّب ما لا يَعنيه من حديث الدنيا ولا بأس أن يتحدَّث قليلاً بحديث مُباح مع أهله أو غيرهم.
مدة الاعتِكاف:
ليس لوقت الاعتكاف حد محدود في أصحِّ أقوال أهل العلم؛ فللإنسان أن يَعتكِف العشر الأخيرة من رمضان كلها، وهذا أفضل الاعتكاف، وهو اعتِكاف النبي - صلى الله عليه وسلم - وله أن يَعتكِف بعضها، وله أن يَعتكِف يومًا وليلة، وله أن يَعتكِف لليلة كاملة، وله أن يَعتكِف بعض يوم أو بعض ليلة كساعة أو ساعتين، أو بين العشاءين، أو من العصر إلى المَغرب، أو من القيام الأول إلى الثاني في العَشر الأواخِر، كل ذلك سائغ؛ لأن الشرع لم يُحدِّد وقتًا لأقلِّه ولا لأكثرِه، فما اعتبِر اعتِكافًا في اللغة صحَّ شرعًا، مع اعتبار النية في ذلك كغيرِه من العبادات.
ليس من شرط الاعتكاف الصيام:
وليس من شرط الاعتِكاف الصيام على الصحيح من قولي العلماء، ولا أن يكون في رمضان، لكنه مع الصيام، وفي رمضان أفضل.
بداية الدخول في العشر الأواخِر ونهايته:
مَن اعتكَف العَشر الأخيرة من رمضان، فالسنَّة له أن يدخل مُعتكفه بعد صلاة الفجر من اليوم الحادي والعشرين اقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ويَخرج بانتهاء العشر ليلة العيد.
مُبطلات الاعتِكاف:
يَبطُل الاعتكاف بأربعة أمور:
الأول: الجِماع؛ قال تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، وأما مُقدِّمات الجِماع - كالتقبيل واللمسِ لشَهوة - فلا تجوز للمُعتكِف، ولكنها لا تُبطِل اعتكافه، بل تنقص أجرَه.
الثاني: الخروج من المسجد لغير حاجة، وليعلم أن خروج المُعتكَف بجميع بدنِه على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الخروج لأمر لا بد منه طبعًا أو شرعًا؛ مثل: الخروج لقضاء الحاجة والوضوء الواجب والغسل الواجب، والأكل والشربِ، فهذا جائز إذا لم يُمكِن فِعله في المسجد، فإن أمكنَ فعله في المسجد، مثل أن يكون في المسجد حَمام يُمكنه أن يقضي حاجته فيه وأن يَغتسِل فيه، أو يكون له من يأتيه بالأكل والشرب، حينئذ فالأولى عدم الخُروج لعدم الحاجة إليه.
القسم الثاني: الخُروج لأمر طاعة لا تجب عليه، كعيادة مريض وشهود جنازة ونحو ذلك فلا يَفعله إلا أن يَشترط ذلك في ابتداء اعتِكافه؛ مثل أن يكون عنده مريض يجب أن يَعوده أو يخشى من موته، فيَشترِط في ابتداء اعتِكافه خروجه لذلك فلا بأس به، على ألا يَكثُر ذلك أو يطول؛ لأن هذا يُنافي الاعتكاف، فلا يَصِح للموظَّف أن يَشترِط الخروج كل يوم للدوام، ولا لإمام أو مؤذِّن أن يعتكف في غير مسجده ويَشترِط الخروج كل فرض، وإذا احتاج هؤلاء لمثل ذلك، فإنهم يُجدِّدون نيَّة الاعتكاف كلما عادوا، ولا يكون اعتكافهم متصلاً، والله أعلم.
القسم الثالث: الخروج لأمر ينافي الاعتكاف؛ كالخروج للبيع والشراء وجِماع أهله ومباشرتهم ونحو ذلك، فلا يفعله لا بِشَرط ولا بغير شرط؛ لأنه يناقِض الاعتكاف وينافي المقصود منه، ويجوز له أن يخرج لشراء ما لا بدَّ له منه كالأكل والشرب ونحوهما.
الثالث: قطع نيَّة الاعتكاف، فمَن نوى الاعتكاف وشرَع فيه، ثم قطعه بالنية، فقد انقطع اعتكافه ولو لم يَخرُج من المسجد، وله أن يَستأنفه بنية جديدة، لكنه لا يكون مكملاً للاعتكاف السابق، بل هو اعتكاف جديد، فلو نذَر اعتكاف أسبوع مثلاً لم يُجزئه البناء على الأيام السابقة، بل يَستأنف اعتكاف أسبوع من أوله، وهكذا لو شرع في اعتِكاف العشر الأواخر ثم قطعها بالنيَّة، ثم استأنف نية جديدة لم يكن مُعتكفًا للعشر كلها بل اعتكف بعضها، ثم استأنف اعتِكافًا جديدًا في بقيتها.
الرابع: الردة - أعاذَنا الله منها.
ثامنًا - الدعاء وأهميته في رمضان وغيره:
أهمية الدعاء ومكانتُه:
للدعاء مكانة عظيمة تتمثَّل فيما يلي:
أ - الدعاء من أعظم العبادات وأجلِّها؛ فعن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الدعاء هو العبادة))، ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وصحَّحه ابن حبان( ).
ب - الدعاء محبوب لله - عز وجل - فهذا نبيُّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ليس شيء أكرم على الله - عز وجل - من الدعاء))؛ رواه أحمد( ).
ت - في الدعاء إظهار لذلِّ العبوديَّة لله - تعالى - والافتقار إليه، ونفْي الكبرياء عن عبادته.
خاصية الدعاء في رمضان:
للدعاء في رمضان خاصية عظيمة؛ حيث اجتمَع فيه فضيلتان، هما: فضْل الزمان، وحال الصيام، ولقد نبَّه القرآن الكريم إلى خاصيَّة الدعاء في الصيام؛ حيث إن الله - تعالى - ذكَر استجابته لدعاء الداعين في أثناء آيات الصيام، فبدأ بفرضية الصيام وبعض ما يتعلَّق به، ثم قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، ثم عاد لذِكر بعض ما يتعلق بالصيام؛ قال العلماء - رحمهم الله تعالى -: وفي ذِكره - تعالى - هذه الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين أحكام الصيام إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العِدة، بل وعند كل فطرٍ، بل في حال الصيام كله( )؛ اهـ.
وقد ثبَت من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاثة لا تُردُّ دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يُفطِر، ودعوة المظلوم))؛ رواه أحمد والترمذي وابن ماجه بإسناد صحيح، وحسَّنه الترمذي وابن حجَر، وصحَّحه ابن خزيمة وابن حبان( )، فعلى الصائم أن يَحرِص على الدعاء أثناء صيامه، ويُكثِر منه؛ فإنه مجابٌ - بإذن الله تعالى.

آداب الدعاء:
من آداب الدعاء ما يلي:
أولاً: وجوب إخلاص الدعاء لله وحده لا شريك له، ومِن أعظم الشرك: دعاء غير الله - تعالى - والاستغاثة به.
ثانيًا: وجوب إطابة المطعَم، وذلك بكسب الحلال، وتجنُّب الكسب الحرام.
ثالثًا: مشروعيَّة استِحضار القلب حين الدعاء، وعدم الغَفلة فيه.
رابعًا: مشروعيَّة الإيقان بالإجابة أو رجائها حين الدعاء.
خامسًا: استحباب ابتداء الدعاء المُستقلِّ( ) بحمد الله والثناء عليه، والصلاة والسلام على رسوله - صلى الله عليه وسلم.
سادسًا: مشروعيَّة دعاء الله - تعالى - بأسمائه الحُسنى المناسبة للدعاء المَطلوب؛ ففي الدعاء بالمغفرة والرحمة يُدعى باسمه الغفور والغفار والرحيم والرحمن، وعند الدعاء بطلب المال والولد يُدعى باسمه الكريم والمنان والوهاب، ونحو ذلك.
سابعًا: مشروعيَّة التوسُّل إلى الله - تعالى - بصفاته الحسنى؛ مثل: برحمتك أستغيث، بجودك أستجير، بكرمك ألوذ، أو بالأعمال الصالحة التي عَملها الإنسان مخلصًا لله - تعالى - فيها؛ مثل: أسألك بصلاتي لما وفَّقتني، أو ببِري بوالديَّ لما رحمتني.
ثامنًا: استحباب الطهارة أثناء الدعاء.
تاسعًا: استحباب استقبال القِبلة أثناء الدعاء.
عاشرًا: مشروعية الاستمرار على الدعاء وملازمته، وعدم الانقطاع عنه سآمةً من الدعاء ويأسًا من الإجابة.
حادي عشر: استِحباب اغتنام أوقات الإجابة وتحرِّيها، ومنها: الثلث الأخير من الليل، وعند الأذان والإقامة، وأدبار الصلوات المكتوبة عقِب الأذكار المشروعة، وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المِنبر حتى تَنقضي الصلاة، وآخر ساعة بعد العصر من يوم الجمعة، وليالي العشر الأخيرة من رمضان التي يُتحرَّى فيها ليلة القدر.
ثاني عشر: استحِباب اغتنام الأحوال التي يُستجاب فيها الدعاء وتحريها، مثل: حال السجود، والصيام، والسفر.
ثالث عشر: استِحباب رفع اليدَين مكشوفتين، وبسطهما حيال الصدر أو الوجه، وجعل بطونهما إلى السماء، مع ضمِّهما معًا، أو التفريج اليسير بينهما، أما ما يفعله كثير من الناس من التفريج بين الكفَّين كثيرًا فلا أصلَ له، ولا قاله أحد مِن أهل العلم فيما علِمناه.
رابع عشر: استحِباب تَكرار الدعاء والإلحاح فيه، وهذا يشمل نوعين من التكرار:
الأول: تَكراره في الحال الواحدة من الدعاء، بأن يُكرِّره ثلاثًا إذا دعا، قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دعا دعا ثلاثًا، وإذا سأل سأل ثلاثًا"؛ رواه مسلم( ).
الثاني: تَكراره مرارًا في جميع أحوال العَبد وأوقاته، ومَن أكثر وألحَّ على الله - تعالى - فسرعان ما يُستَجاب له.
خامس عشر: تجنُّب موانع استجابة الدعاء؛ ومنها: التوسُّع في الحرام أكلاً وشربًا ولبسًا وتغذية( )، ومنها: الاستِعجال وترك الدعاء( ).
سادس عشر: تجنُّب الدعاء المُحرَّم، وهو أنواع؛ منها:
الأول: الدعاء بالإثم؛ مثل: الدعاء بضلال فلان من الناس، أو الدعاء على شخص لم يَظلمك، أو دعاء الإنسان على نفسه أو ماله بالذهاب أو الخسارة.
الثاني: الدعاء بما فيه قطيعة رحم؛ مثل: الدعاء على الوالدَين فهو من العقوق وقطيعة الرحم، وخلاف ما أمر الله به من الدعاء لهما، أو الدعاء على الأولاد، أو الدعاء على الأقارِب من غير سبب.
سابع عشر: تجنُّب استِبطاء الإجابة.
الفصل الثالث عشر: وجوب زكاة الفطر من رمضان
أولاً - حكم زكاة الفِطر ومِقدارها، ووقتها، والحكمة من مشروعيتها:
حكم زكاة الفطر:
زَكاة الفِطر فريضة على الكبير والصغير، والذكر والأنثى من المسلمين.
والدليل على ذلك: حديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "فرض النبي - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر - أو قال: رمضان - على الذَّكرِ والأنثى، والحرِّ والمملوك، (والصغير والكبير من المسلمين)، صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، فعدل الناس به نصف صاع من بُرٍّ"؛ متفق عليه( )، وفي لفظ لهما: "أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة"( ).
ويجب على الشخص إخراجها عن نفسه، وكذلك عمَّن تلزمه مؤونته من زوجة أو ولد، ولا تجب إلا على من يَملِك في يوم العيد وليلته طعامًا زائدًا على ما يَكفيه ويكفي عياله، ولا تجب عن الحمل الذي في البطن إلا أن يتطوَّع بها فلا بأس، فقد كان أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - يُعطي صدقة الفطر عن الحبل( )، وهو الجنين.
المقدار الواجب في زكاة الفطر:
والمِقدار الواجب في زكاة الفطر: صاع بِصاع النبي - صلى الله عليه وسلم - من طعام الآدميين من تمر، أو بُرٍّ، أو أرز، أو غيرها من طعام الآدميين، ويختلف تقدير الصاع بالكيلو جرام بحسب الطعام المُخرج، ومن أخرَج عن الواحد كيلوين ونِصف إلى ثلاثة كيلو جرامات تقريبًا من الأرز أو غيره، فقد أخرَج المِقدار الواجب بيقين.

 


وقت إخراج زكاة الفِطر:
الواجب إخراج زكاة الفِطر قبل صلاة العيد، ولا يَجوز تأخيرها إلى ما بعد الصلاة على الصحيح من قولي العلماء؛ لحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمر بزكاة الفِطر أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة"؛ متفق عليه( ).
ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين؛ لما روى البخاري عن نافع مولى ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كان ابن عمر يُعطي عن الصغير والكبير، حتى وإن كان يعطي عن بَنِيَّ، وكان يُعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين( ).
قال شيخنا العلامة ابن باز - رحمه الله تعالى -: لا مانع من إخراجِها في اليوم الثامن والعشرين والتاسع والعشرين والثلاثين وليلة العيد، وصباح العيد قبل الصلاة؛ لأن الشهر يكون ثلاثين، ويكون تسعة وعشرين، كما صحَّت بذلك الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم؛ اهـ( ).
الحكمة من مشروعيَّة زكاة الفطر:
تتلخَّص الحِكمة من مشروعية زكاة الفِطر في أمرَين:
الأول: يتعلَّق بالصائمين، وذلك أن الصيام الكامل هو الذي يصوم فيه اللسان والجوارح كما يصوم البطن والفرج، فلا يَسمح الصائم للسانه، ولا لأذنِه، ولا لعينه، ولا ليَدِه، ولا لرِجْله أن تتلوَّث بما نَهى الله ورسوله عنه من قول أو فعل، وقل أن يَسلم أحد من ذلك، فجاءت زكاة الفطر في ختام الشهر لتَجبُر ذلك كله، وتَغسل ما قد يكون علق بالصائم مما يُكدِّر صومه ويُنقِص أجره.
كما أن فيها إظهار شُكرِ نِعمة الله بإتمام صيام شهر رمضان وقيامه، وفعل ما تيسر من الأعمال الصالحة فيه.
الثاني: يتعلق بالمجتمع؛ ففي زكاة الفطر إشاعة المحبة والمسرة في جميع أنحاء المجتمع، وبخاصة المساكين وأهل الحاجة؛ وذلك لأن العيد يوم فرح وسرور، فيَنبغي تعميم هذا الفرح والسرور ليشمل جميع فئات المُجتمع، ومنها الفقراء والمساكين، ولن يدخل السرورُ إلى قلوبهم إلا إذا أعطاهم إخوانُهم وأشعروهم أن المجتمع يد واحدة يتألمَّ بعضه بألم بعضه الآخر، ويَفرح لفرحه( ).
ثانيًا - أحكام زكاة الفطر:
من أهم أحكام زكاة الفطر ما يلي:
أولاً: لا يُجزئ إخراج قيمة الطعام في قول أكثر أهل العلم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرَضها من الطعام فلا يُتعدَّى ما عيَّنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإخراج القِيمة خلاف ما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أبو داود: قيل لأحمد وأنا أسمع: أُعطي دراهم - يعني في صدقة الفطر - قال: أخاف ألا يُجزئه؛ خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو طالب: قال لي أحمد: لا يُعطي قيمته، قيل له: قوم يقولون: عمر بن عبدالعزيز كان يأخذ بالقيمة! قال: يدَعون قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقولون: قال فلان، قال ابن عمر: "فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم"، وقال الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59]، وقال: قوم يردُّون السُّنن، قال فلان، قال فلان( ).
ثانيًا: لا يجوز ولا يُجزئ إخراج الرديء في زكاة الفِطر، فإن الله طيِّب لا يَقبل إلا طيبًا.
ثالثًا: من أخَّر إخراج زكاة الفِطر عن صلاة العيد لعُذر، فلا حرج عليه، ويجب عليه المبادَرة بإخراجها متى زال عذرُه، مثل أن يُصادفه العيد في البرِّ وليس عنده ما يَدفع منه أو ليس عنده من يدفع إليه، أو يأتي خبر ثُبوت العيد مفاجئًا؛ بحيث لا يتمكَّن من إخراجها قبل الصلاة، أو يكون مُعتمِدًا على شخص في إخراجها فيَنسى أن يُخرجها، فيلزمه أن يُبادِر بإخراجها ولو بعدَ العيد، وهو مَعذور في التأخير.
رابعًا: الواجب أن تَصِل زكاة الفِطر إلى مُستحقِّها أو وكيله في وقتها قبل صلاة العيد، فلو نواها لشخص ولم يُصادِفه ولا وكيله وقت الإخراج، فإنه يَدفعها إلى مستحِق آخَر ولا يؤخِّرها عن وقتها، ويُمكن أن يتمَّ التوكيل في قبضِها عن طريق الهاتف أو برسالة جوال أو بغيرهما من الوسائل المتيسِّرة الآن، ليس للتوكيل صيغة محدَّدة بل يكفي بكل لفظ دلَّ عليه، كأن يقول: يا فلان تسلَّم عني الزكاة، أو يقول: ضعْها عند فلان.
خامسًا: مَن نسي إخراج زكاة الفِطر أو وكَّل مَن يُخرجها وترك الوكيل ذلك عمدًا أو نسيانًا حتى خرَج وقتها، فالواجب عليه المبادرة بإخراجها أول ما يَذكُر أو يعلم؛ قضاءً لما فاته؛ لأنها باقية في ذمته لم تَسقط بذلك.
سادسًا: مَن تعمَّد ترْكها أو تهاوَن في ذلك وتكاسَل حتى خرَج الوقت فيجب عليه إخراجها مع التوبة إلى الله - تعالى - لتفريطه فيما وجَب عليه.
سابعًا: الأفضل دفْع زكاة الفِطر في الموضِع الذي فيه الإنسان وقت الإخراج، سواء أكان محلَّ إقامته أم غيره، وإن وكَّل من يدفعها عنه في أي مكان أجزأ ذلك.
ثامنًا: المستحقون لزكاة الفطر هم الفقراء والمساكين، ويجوز توزيع الفطرة على أكثر من فقير، ويجوز دفع عدد من الفِطَر إلى مسكين واحد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدَّر الواجب، ولم يُقدِّر عدد مَن تُدفَع إليه.
تاسعًا: يجوز للفقير الذي أخذ الفطرة أن يدفع منها عن نفسه وعائلته ما يجب عليه من الزكاة.
الفصل الرابع عشر: مشروعيَّة العيد وصلاته
أولاً - مشروعيَّة العيد والتهنئة به وصلاته:
التعبد بالعيد:
العيد في الأصل عادة من العادات، وقد جعَله الشرع فرْحة شرعية دينيَّة في ختام عبادة عظيمة هي ركن من أركان الإسلام، قال أنس بن مالك - رضي الله عنه -: قَدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ولهم يومان يَلعبون فيهما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما هذان اليومان؟))، قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، قال: ((إن الله - عز وجل - قد أبدلكم بهما خيرًا منهما: يوم الفطر، ويوم النحر))؛ رواه أحمد وأبو داود والنسائي( )، فعلى المسلم أن يَفرح بإتمام نعمة الله عليه بالصيام على أكمل وجه، ويُكلِّل ذلك بأداء صلاة العيد وصلة رَحمِه، والسلام على إخوانه المسلمين، وتهنئتهم بالعيد وإتمام هذه العبادة العظيمة.
التهنئة بالعيد:
لا بأس بالتهنئة بالعيد، وهذه من العادات الحسنة التي يُثاب عليه بالنية الطيبة، وقد كان كثير من السلف يقول بعضهم لبعض يوم العيد: تقبَّل الله منا ومنك، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: رُوينا في المحامليات بإسناد حسنٍ عن جبير بن نفير قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبَّل الله منا ومنك( )، وقال علي بن ثابت: سألتُ مالك بن أنس عن قول الناس يوم العيد: تقبَّل الله منا ومنك، فقال: ما زال ذلك الأمر عندنا، ما نرى به بأسًا( ).
صلاة العيد:
صلاة العيد شَعيرة عظيمة من شعائر الدين في يوم العيد، وهي إعلان بأن هذا العيد عِبادة جليلة ابتُدئت بالتكبير في ليلته شكرًا لله - تعالى - على نعمة الصيام والقيام، وتخلَّله هذه الصلاة العظيمة مع الخطبة قبلها، فليس العيد الإسلامي عيدَ بَطرٍ ولا أشَر ولا خروجٍ عن طاعة الله - تعالى - بل هو فرحة وسعادة مع التزام شريعة الله - تعالى.
وحكم صلاة العيد: فرض كفاية إذا حضَرها جماعة سقط الوجوب عن الباقين؛ فعن أم عطية - رضي الله عنها - قالت: "أمرَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نُخرجهنَّ في الفطر والأضحى: العواتق، والحيَّض، وذوات الخدور، فأما الحُيَّض فيَعتزلِن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين))، قلت: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: ((لتُلبِسها أختها من جلبابها))؛ متفق عليه( ).
وقد ذهب بعض العلماء إلى وجوبها عينًا على كلِّ مسلم، والصحيح عدم وجوبها؛ لعموم ما في الصحيحين من حديث طلحة بن عبيدالله - رضي الله عنه - في خبر الأعرابي الذي سأل عن الإسلام، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((خمس صلوات في اليوم والليلة))، فقال: هل علي غيرها؟ قال: ((لا، إلا أن تطوع))( ).

 

ثانيًا - ما يشرع ليلة العيد ويوم العيد:
مما يشرع ليلة العيد ويوم العيد:
أولاً: يُسَن التكبير المُطلَق من غروب شمس آخر يوم من رمضان، ويستمر ليلة العيد وفي الطريق إلى مُصلى العيد، ووقت انتظار صلاة العيد حتى يَخرج الإمام.
ثانيًا: يُسَن الاغتسال ليوم العيد، والأصل أن يكون بعد طلوع الفجر، ولا بأس أن يكون قبيل طلوع الفجر استعدادًا للصلاة حتى لا يتأخَّر عنها.
ثالثًا: السنة أن يُفطِر قبل الخروج لصلاة العيد على تمرات، ويجعلهنَّ وِترًا؛ فعن أنس - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات))؛ رواه البخاري( )، وفي رواية له مُعلَّقة مجزومًا بها: ((ويأكلهنَّ وترًا))( )، وصحَّحها ابن خزيمة( )، ولأحمد: ((يأكلهن إفرادًا))( )، وللحاكم والبيهقي: ((ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا أو أقل من ذلك أو أكثر من ذلك وترًا))( ).
قال بعض العلماء - رحمهم الله -: الحِكمة في الأكل قبل الخروج إلى الصلاة: المبادَرة إلى امتثال أمر الله - تعالى - بفطر هذا اليوم المنهي عن الصيام فيه، كما بادرنا إلى امتثال أمره بالصيام في رمضان( ).
رابعًا: يُسَن التزين يوم العيد بأحسن اللباس، والتعطر والتسوُّك؛ فعن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: وجد عمر حُلَّة إستبرق تُباع في السوق، فأتى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ابتَعْ هذه الحُلة فتجمَّل بها للعيد وللوفود، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما هذه لباس مَن لا خلاق له))؛ متفق عليه( ).
خامسًا: السنَّة حضور النساء لصلاة العيد غير مُتعطِّرات ولا مُتزيِّنات بزينة ظاهِرة، وإذا كانت المرأة حائضًا حضرت مع النساء وشهدت الخطبة، وكبَّرت مع الناس من غير رفع لصوتها، واعتزلت موضِع الصلاة، ولا تدخل المسجد بل يُفرَش لهنَّ خارج المسجد.
سادسًا: لا بأس في يوم العيد باللعب المُباح وتناشُد الأشعار والأناشيد المباحة ونحوها.
الفصل الخامس عشر: أحكام الزكاة

أولاً - وجوب إخراج زكاة المال:
حكم الزكاة ومكانتها:
الزكاة أحد أركان الإسلام ومَبانيه العِظام، وهي قرينة الصلاة في مواضع كثيرة من كتاب الله - عز وجل - وقد أجمع المسلمون على فرضيتها إجماعًا قطعيًّا، فمَن أنكر وجوبها مع علمه به فهو كافر خارج عن الإسلام، ومَن بخل بها أو انتقص منها شيئًا فهو من الظالمين المُتعرِّضين للعقوبة في الدنيا والآخِرة.
الترهيب من ترك الزكاة:
جاء القرآن والسنة بالترهيب الشديد من ترك الزكاة والتهاون في إخراجها، فقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34، 35].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من آتاه الله مالاً فلم يؤدِّ زكاته مُثِّل له ماله يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلِهزمتَيه - يعني شدقيه - ثم يقول: أنا مالُك، أنا كنزك، ثم تلا: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180]))؛ رواه البخاري( ).
ولمسلم عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ولا صاحب كنز لا يفعل فيه حقَّه إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعًا أقرع يتبعه فاتحًا فاه، فإذا أتاه فرَّ منه، فيناديه: خذ كنزك الذي خبَّأته، فأنا عنه غني، فإذا رأى أن لا بد منه سلك يده في فيه، فيقضمها( ) قضم الفحل))؛ رواه مسلم( ).
إخراجها عن طِيب نفس:
الواجب على المسلم إخراجُها طيبةً بها نفسُه؛ فعن عبدالله بن معاوية الغاضري - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث مَن فعَلهنَّ فقد طَعِم طعمَ الإيمان))، وذكَر منها: ((وأعطى زكاةَ مالِه طيبةً بها نفسه))؛ رواه أبو داود والبيهقي( )، قال الإمام ابن جرير الطبري - رحمه الله -: معنى (إيتاء الزكاة): إعطاؤها بطيب نفس على ما فُرضَت ووجبَت( ).
أخذها من مانعها بالقوة وتعزيره:
من منع الزكاة وجب على السلطان أخذها منه مع تعزيره؛ فعن بهْز بن حكيم عن أبيه عن جدِّه معاوية بن حيدة القشيري - رضي الله عنه - قال: سمعتُ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من أعطاها مؤتجرًا فله أجرُها، ومن منعها فإنا آخذوها منه وشطر ماله، عزمةً من عزمات ربنا - تبارك وتعالى))؛ رواه أحمد وأبو داود والنسائي، قال الإمام أحمد: إسناده صالح، وصحَّحه ابن خزيمة والحاكم وغيرهم( ).
ثانيًا - الأموال التي تجب فيها الزكاة وأنصبتها:
لا تجب الزكاة في جميع الأموال التي يَملِكها المسلم، وإنما تجب في أربعة أنواع من المال فقط حدَّدها الشرع المُطهَّر، وهي: النقود، وعروض التجار، والخارج من الأرض من الحبوب والثمار والمعادن، والسائمة من بهيمة الأنعام، وبيان ذلك فيما يلي - إن شاء الله تعالى:
النوع الأول: النقود، وتُسمى: (الأثمان)، وهي ثلاثة أصناف: الذهب، والفضة، والأوراق النقدية التي قامت الآن مَقام الذهب والفضة، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34، 35].
أنصبة النقود:
لا تجب الزكاة في شيء من النقود حتى يَبلغ نصابًا، فإذا بلغ شيء من النقود المذكورة نصابًا وحال عليه الحول وجَب إخراج زكاته.
ونصاب الذهب: عشرون دينارًا، ويُساوي بالجرام (85) خمسة وثمانون جرامًا، وقيل: اثنتان وتسعون جرامًا.
ونصاب الفضة: خمس أواق، وهي مئتا درهم، وتُساوي بالجرام (595) خمسمائة وخمسة وتسعون جرامًا.
ونِصاب الأوراق النقديَّة: هو نصاب الذهب أو الفضة؛ لأنها حلت محلهما في الثمنية، فإذا بلغَت نِصاب أحدهما وجبَت فيها الزكاة، والغالب تقدير نصاب الأوراق النقدية اليوم بالفضة؛ لأنها أرخص من الذهب فتبلغ نصابها قبله، فإذا ملك المسلم ما يُعادل قيمة (595) جرامًا من الفضة، وحال عليه الحول وجبَت فيه الزكاة.
وقيمة جرام الفضة تتغيَّر من وقت لآخَر، فمن كان عنده مال قليل لا يَدري هل بلغ النِّصاب أم لا، فإنه يسأل تجار الفضة عن قيمة جرام الفضة، ثم يضربه في (595)، والناتج هو النِّصاب.
وليعلم أن الزكاة تجب في جميع الأوراق النقدية التي يَملِكها المسلم؛ ولو كان يجمعها لبناء منزل أو زواج أو شراء سيارة أو غير ذلك من الحوائج، إذا حال عليه الحول وهو في ملكه.

 

مقدار الزكاة الواجب إخراجها من النقود:
الواجب إخراجه في الزكاة من الذهب والفضة: ربع العشْر، وهو: (2.5) في المائة.
وأسهل طريقة لإخراج مقدار الزكاة الواجبة كما يلي:
أن يقسم المبلغ الذي يراد إخراج زكاته على (40 أربعين)، والناتج هو الزكاة الواجب إخراجها.
مثال ذلك: إذا كان الشخص يملك (100.000 مائة ألف ريال) وقد حال عليها الحول، فيأتي بالآلة الحاسبة، ويكتب (100.000 مائة ألف)، ثم يقسمها على (40 أربعين)، تخرج النتيجة: (2.500 ألفان وخمسمائة)، وهذا هو مقدار الزكاة الواجب إخراجه.
النوع الثاني: عُروض التجارة، وهي: كل ما أُعِدَّ للبيع والشراء من أجل الربح والتكسُّب.
ويشمل ذلك جميع أنواع الأموال من العقارات، والسيارات، والملابس، والأقمشة، والحديد، والأخشاب، والمواد الغذائية، والحيوانات، وغيرها مما أعدَّ للتجارة.
نصاب عُروض التجارة:
نصاب عروض التجارة هو نصاب الذهب أو الفضة، فإذا بلغَت قيمة العروض نصاب أحدهما وجبَت فيها الزكاة، والغالب تقديرها بالفضة؛ لأنها أرخص من الذهب فتبلغ نصابها قبله، فإذا ملك المسلم من العروض ما يعادل قيمة (595) جرامًا من الفضة وحال عليه الحول وجبَت فيه الزكاة.
مقدار الزكاة الواجب إخراجها من عروض التجارة:
الواجب إخراجه في الزكاة من عروض التجارة: ربع العشر، وهو: (2.5) في المائة منها أو من قيمتها.
وطريقة إخراج زكاتها: أن تُقوَّمَ البضائع المعدَّة للبيع عند حلول وقت الزكاة بما تساويه في هذا الوقت، سواء أكانت قيمتها بقدر ثمنها الذي اشتراها به أم أقل أم أكثر، ويُضاف إليها السيولة الناتجة عنها، ثم يخرج منها ربع العشر (2.5) في المائة.
وأسهل طريقة لإخراج مقدار الزكاة الواجبة كما تقدم في زكاة النقود: أن يجمع المبلغ المقدر لقيمة عروض التجارة مع السيولة الناتجة عنها، ثم يقسم على (40 أربعين) والناتج هو الزكاة الواجب إخراجها.


إخراج زكاة عروض التجارة منها:
يجوز إخراج زكاة العروض منها إذا كانت هذه العروض نافعة للفقراء على الصحيح من قولي العلماء - رحمهم الله تعالى - أما إذا لم تكن العروض نافعة للفقراء فيتعيَّن إخراج الزكاة من قيمتها.
صفة تقويم عروض التجارة:
تُقوَّم البضائع المعدَّة للبيع عند حلول وقت الزكاة بما تُساويه في هذا الوقت، والأقرب في طريقة تقويمِها: أن تقدَّر قيمتها بما لو باعها وقت حوَلان الحول بجملتها كم تساوي، فيخرج زكاته بحسب ذلك، سواء أكانت قيمتها بقدر ثمنها الذي اشتراها به أم أقل أم أكثر، ويُضاف إليها السيولة الناتجة عنها مما لا يزال باقيًا في يده ولم يستهلك، ثم يُخرِج منها ربع العشر، فإن اختلف التقدير، فالأولى أن يحتاط ويخرج ما يكون به براءة ذمته.
تنبيه: لا يدخل في التقويم الأشياء التي لا تُعدُّ للبيع، مثل: الرفوف والديكورات والثلاجات التي في البقالات ونحوها.
علاقة الزكاة بالملك لا بالربح والخسارة:
لا علاقة للخسارة في التجارة عمومًا أو في المضارَبة بالأسهم، خصوصًا بوجوب الزكاة من عدمه، فالزكاة واجبة بملك المال، فما دام الإنسان يملك مالاً زكويًّا يبلغ النِّصاب فالواجب عليه إخراج الزكاة منه إذا مضى عليه عام هجري كامل، سواء أكان رابحًا أم خاسرًا.
النوع الثالث: الخارج من الأرض من الحبوب والثمار، ولا تَجِب الزكاة فيه حتى يبلغ نصابًا وهو خمسة أوسق، كما دلَّ على ذلك حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة، وليس فيما دون خمس أواقٍ من الوَرِق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة))؛ متفق عليه( ).
والوسق: ستون صاعًا بصاع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون النِّصاب: ثلاثمائة صاع بصاع النبي - صلى الله عليه وسلم.
تقديره بالكيلو جرام:
يَنبغي أن يعلم أن تقدير الحبوب والثمار بالكيلو جرام يَختلف باختلاف أنواع الحبوب والثمار، وقد قدَّر العلامة ابن عثيمين - رحمه الله تعالى - النِّصاب بالبُرِّ الجيد بـ: (ألفين وأربعين جرامًا)؛ أي: كيلوين وخُمسَي عشْر الكيلو، فتكون زِنة النصاب بالبُرِّ الجيد ستمائة واثني عشر كيلو، فلا زكاة فيما دونها.
وأما الأصناف الأخرى فينبغي لمن شكَّ في بلوغها النِّصاب من عدمه أن يسأل ويتحرَّى، وإن تيقَّن بلوغَها النِّصاب أو غلب على ظنِّه ذلك أخرج الزكاة من غير حاجة للتحري أو السؤال عن مقدار النِّصاب، وإنما يحتاج إلى ذلك إذا شكَّ هل يبلغ ما يملكه نصابًا أو لا، والله أعلم.
مقدار الزكاة في الحبوب والثمار:
مقدار الزكاة في الحبوب والثمار العشر كاملاً فيما سُقي بدون كلفة، ونصفه فيما سُقي بكُلفة.
عدم وجوب الزكاة في الفواكه والخضروات ونحوها:
لا تجب الزكاة في الفواكه والخضروات والبطيخ ونحوها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علَّق وجوب الزكاة بما يُكال، وهذه الثمار لا تكال.
وقد رُوي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: ((ليس في الخضراوات صدقة))( )، وعن علي - رضي الله عنه - قال: ((ليس في الخضر شيء))( )، لكن إذا باعها بدراهم وحال الحول على ثمنِها ففيه الزكاة.
النوع الرابع: بهيمة الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم ضأنًا كانت أم مَعزًا، إذا كانت سائمةً وأُعدَّت للدرِّ والنسل.
والسائمة هي: التي ترعى الكلأ النابت بدون بذر آدمي كل السنَة أو أكثرها، فإن لم تكن سائمةً فلا زكاة فيها، إلا أن تكون للتجارة، فإذا كانت مُعدَّةً للتكسُّب بالبيع والشراء فهي عروض تجارة تُزكى زكاة تجارة، سواء أكانت سائمةً أم معلوفةً، إذا بلغت نصاب التجارة بنفسِها أو بضمِّها إلى تجارته من غيرها.
ويشترط لزكاة السائمة من بهيمة الأنعام أن تبلغ نصابًا، وأقل النصاب في الإبل: خمس، وفي البقر: ثلاثون، وفي الغنم: أربعون.
ثالثًا - مَن يُعطَون الزكاة:
إخراج الزكاة على الفور:
من وجبت عليه الزكاة وجَب عليه إخراجها على الفور، ولا يجوز له تأخيرها بغير عذر، وله أن يقدِّمها على وقت وجوبها بأشهر أو سنَة أو سنتَين.
أصناف الذين يُعطَون الزكاة:
الذين يعطَون الزكاة ثمانية أصناف بيَّنهم الله - تعالى - وهم قسمان:
القسم الأول: من يعطى الزكاة تمليكًا وهم:
الصنف الأول والثاني: الفقراء والمساكين، وهم الذين لا يَجدون كفايتهم، وكفاية عائلتهم لا من نقود حاضرة، ولا من رواتب ثابتة، ولا من صناعة قائمة، ولا من غلة كافية، ولا من نفقات واجبة لهم على غيرهم.
قال العلماء - رحمهم الله تعالى -: فيُعطَون من الزكاة ما يكفيهم وعائلتهم لمدة سنة كاملة حتى يأتي حول الزكاة مرةً ثانيةً، ويُعطى الفقير لزواج يحتاج إليه ما يكفي لزواجه، وطالب العلم الفقير لشراء كتُب يحتاجها، ويُعطى من له راتب لا يَكفيه وعائلته من الزكاة ما يُكمل كفايتهم؛ لأنه ذو حاجة.
الصِّنف الثالث: العاملون عليها، وهم الذين يُنصِّبهم ولاةُ الأمور لجبايةِ الزَّكاة من أهلها وحفظها وتصريفها، فيُعطَون منها بقدر عمَلِهم وإن كانوا أغنياء، وأما الوكلاء لفرد من الناس في توزيع زكاته، فليسوا من العاملين عليها، فلا يستحقون منها شيئًا من أجل وكالتهم فيها، لكن إن تبرَّعوا في تفريقها على أهلها بأمانة واجتهاد كانوا شركاء في أجرها، وإن لم يتبرَّعوا بتفريقها أعطاهم صاحب المال أجرةً من ماله لا من الزكاة.
الصنف الرابع: المؤلَّفة قلوبهم، وهم ضعفاء الإيمان أو من يُخشى شرُّهم، فيُعطون من الزكاة ما يكون به تقوية إيمانهم أو دفع شرِّهم إذا لم يَندفع إلا بإعطائهم.
القسم الثاني: مَن يُعطى الزكاة لا على سبيل التمليك، وهم:
الصنف الخامس: الرقاب، وهم الأرقَّاء من العبيد، والمكاتَبين الذين اشتروا أنفسهم من أسيادهم، كما يَجوز أن يَفتدي بها أسارى المسلمين في الحروب لدخوله في عموم الرقاب.
الصنف السادس: الغارِمون، وهم الذين يتحمَّلون غرامةً، وهي الدَّين، وهم نوعان:
الأول: مَن تحمَّل دَينًا لإصلاح ذات البَين وإطفاء الفِتنة، فيعطى من الزكاة بقدر حمالته تشجيعًا له على هذا العمل النبيل الذي به تأليف المسلمين وإصلاح ذات بينِهم وإطفاء الفِتنة وإزالة الأحقاد والتنافُر.
الثاني: من تحمَّل دَينًا في ذمَّته لنفسِه وليس عنده وفاء، فيُعطى من الزكاة ما يوفِّي به دينه وإن كَثُر، ويجوز أن يُسلم الدَّين مباشرة لمن يطلبه، كما يجوز أن يسدد به الفواتير المستحقة للماء أو الكهرباء وغيرهما مما عجز الشخص عن الوفاء به من الديون العامة أو الخاصة.
الصنف السابع: في سبيل الله، وهو الجهاد الذي يُقصَد به أن تكون كلمة الله هي العليا لا لحمية ولا لعصبية، فيُعطى المجاهِد بهذه النية ما يَكفيه لجهاده من الزكاة، أو يُشترى بها سلاح وعتاد للمُجاهِدين في سبيل الله لحماية الإسلام والذود عنه وإعلاء كلمة الله - سبحانه.
ويدخل في ذلك: بذل الزكاة في الدعوة إلى الله - تعالى - إذا كانت قائمة مقام الجِهاد في سبيل الله - تعالى - كالدعوة إلى الله - تعالى - في دول الكفر، والدعوة في مواجهة التنصير، ونحو ذلك، والله أعلم.
الصنف الثامن: ابن السبيل، وهو المسافر الذي انقطَع به السفر ونفِد ما في يده فيُعطى من الزكاة ما يوصله إلى بلده، وإن كان غنيًّا فيها ووجد مَن يُقرِضه، لكن لا يجوز أن يستصحِب معه نفقةً قليلةً لأجل أن يأخذ من الزكاة إذا نفِدت؛ لأنها حيلة على أخذ ما لا يَستحِق.
مَن لا يجوز إعطاؤه من الزكاة:
أولاً: مَن كان له كفاية من المال، وهذا داخل في حدِّ الغَنيِّ الذي لا يعطى من الصدقة، ولا يجوز إعطاؤه من الزكاة وإن سألها، بل الواجب نُصحه وتحذيره من سؤال ما لا يحلُّ له.
ثانيًا: المُكتسِب الذي به قدرة على الكسب لنفسه، ويَحصُل به ما يُغنيه عن الصدقة.
وقد ثبَت عن رجلين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهما أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - في حَجة الوداع وهو يقسم الصدقة، فسألاه منها، قالا: فرفع فينا البصر وخفضه فرآنا جَلْدَين، فقال: ((إن شئتما أعطيتكما، ولا حظَّ فيها لغني، ولا لقوي مُكتسِب))؛ رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وجوَّده أحمد( ).
ثالثًا: المرأة المتزوِّجة إذا كانت تحت زوج غني باذِل للنفقة.
رابعًا: الزوجة أو القريب الذي يجب على الإنسان النفقة عليها، وهو قادر عليها، أما إذا لم تكن نفقته واجبة عليه، أو كانت واجبة وهو عاجز عنها، فإنه يجوز إعطاؤه من الزكاة، ويجوز إعطاؤه من الزكاة ما يسدِّد به دَينه الذي يعجز عن وفائه إذا لم يكن ناتجًا عن التقصير في النفقة الواجبة.
مسائل تتعلق بذلك:
أولاً: مَن سأل الزكاة وعليه علامة الغنى عنها، وهو مجهول الحال جاز إعطاؤه منها بعد إعلامه أنه لا حظَّ فيها لغني ولا لقوي مُكتَسِب، للحديث السابق.
ثانيًا: إسقاط الدين عن الفقير ونية ذلك من الزكاة لا يجزئ؛ لأن الزكاة أخذ ورد، وإسقاط الدَّين عن الفقير ليس أخذًا ولا ردًّا.
رابعًا - الأموال التي لا تجب الزكاة فيها:
تقدَّم أنه لا تجب الزكاة إلا في أربعة أنواع من المال فقط، فما سوى ذلك من المال فلا زكاة فيه، ونذكر شيئًا من هذه الأموال على سبيل المثال والإيضاح، وإلا فلا يمكن حصرها، فمن ذلك:
أولاً: لا زكاة فيما أعده الإنسان لحاجته من طعام وشراب، وفرش، ومسكن، وحيوانات، وسيارة، ولباس، سوى حُلي الذهب والفضة، فقد اختلف العلماء في زكاته، والأفضل إخراج زكاته خروجًا من الخلاف.
والأصل في هذا براءة الذمة، وقد جاء ما يؤيد هذا الأصل من السنَّة، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليس على المسلم في عبده ولا فرسِه صدقة))؛ متفق عليه( ).
ثانيًا: لا تجب الزكاة فيما أعدَّ للأُجرة من عقارات وسيارات ونحوها، وإنما تجب الزكاة في أجرتها إذا كانت نقودًا، وحال عليها الحول، وبلغَت نصابًا بنفسها أو بضمِّها لما عنده من جنسها.
ثالثًا: لا تجب الزكاة فيما يَملِكه المسلم من المعادن سوى الذهب والفِضة، كالماس والمجوهرات والأحجار الكريمة وغيرها، إلا أن تكون للتجارة فتُزكى زكاة التجارة.
رابعًا: لا تجب الزكاة في الديون غير المرجوَّة، مثل: الديون على المُعسِرين والمفلسين والفقراء والمساكين التي قد لا يُسدِّدونها، والدَّين الذي على مُماطِل يَصعُب استخراجه منه.
ومن ذلك: ما يُسمَّى بـ (الديون المتعثِّرة) التي لا يُسدِّدها أصحابها، وقد تحتاج إلى مطالبات وقد تَرجِع أو لا ترجع، وهكذا الأموال المفقودة، أو المسروقة أو المغصوبة، وهكذا المساهمات التجارية المتعثِّرة التي تجاوَزت الحد المُعتاد في مثلها كالتي لها ثمان سنوات أو عشر سنوات ولا يُدرى متى تُباع، وهكذا كل نقد يضعف الرجاء في تحصيله ولا يستطيع صاحبه أن يتصرَّف فيه؛ وذلك لأن الملك على كل هذه الأموال ناقص، وإنما تجب الزكاة في الملك التام.
وإذا قبضت هذه الأموال فإنه يُستقبَل بها حولٌ جديد من القبض، فإن بقيَت أو بقي منها ما يبلغ النصاب بنفسه أو مع غيره سنَةً كاملة زكاه، وإلا فليس فيه زكاة، ولكن لو زكاه إذا قبَضها عن سنة واحدة فهو حسن، والله أعلم.
زكاة الدَّين المرجو:
وأما إذا كان الدَّين مرجوًّا، وهو الدَّين على مليء باذِل له، فإنه إذا حلَّ أجلُه ولم يتقاضَه صاحبه، أو لم يكن له أجل أصلاً فإن عليه أن يُزكِّيه كبقيَّة أمواله( )، أما إذا كان مؤجَّلاً إلى أجل لم يَحلَّ فلا زكاة فيه حتى يحلَّ أجله على الصحيح من قولَي أهل العلم، فإذا حلَّ أجله وتركه سنَةً، فإنه يُزكيه كبقية أمواله كل سنة، وله أن يؤخِّر زكاته حتى يَقبِضه ثم يُزكيه لكل ما مضى من السنين، وإنما أوجبْنا الزكاة فيه؛ لأن هذا المال كالحاضر عنده، وهو الذي أهمل قبضه، فلا تَسقُط عنه الزكاة الواجبة؛ لأنها حق واجب لله - تعالى - وحق للفقراء.
صفة إخراج زكاة الرواتب:
الأيسر في إخراج زكاة الفائض المحفوظ من الرواتب أن يُحدِّد الشخص شهرًا لإخراج زكاته كرمضان، فإذا جاء هذا الشهر حسَب ما عنده من النقود وأخرج الزكاة عنها جميعًا، سواء ما مضى عليه سنة أم لا، ويكون هذا من تعجيل الزكاة عن بعض المال.
انقطاع الحَول:
من كان كل شهرَين أو ثلاثة مثلاً ينقطع ما معه من نقد؛ كالموظَّف الذي لا يملك سوى راتبه، وقد يأتي آخِر الشهر وليس معه نقد، بل قد يَقترِض، فهذا لا تلزمه الزكاة في النقد؛ لأن من شرطها حوَلان الحَول.
زكاة الأسهم:
لا يَخلو المساهم من حالين:
الحال الأولى: المضارِبة بالأَسهُم، بأن يكون قصده بالأسهم المتاجرة بها، بيعًا وشراءً.
فهذا تجب عليه الزكاة إذا حال الحَول، فيقدر قيمتها في السوق على رأس السنَة، ويُضيف إليها الأرباح الناتِجة عنها إن كانت في يدِه، ويُخرج زكاتها.
الحال الثانية: الاستثمار في الأسهم، بأن يكون قصده من المساهمة الاستفادة من ربح الأسهم، وريعها السنوي، ولا يقصد المتاجرة ببَيعها.
والأفضل في هذه الحالة أن يُخرِج الزكاة من الربح السنوي إذا قبضه، وإن ترك إخراجها حتى يَحول عليه الحول إن بقي معه المال فلا بأس.
أحكام متعلقة بالزكاة:
من الأحكام المهمَّة المتعلِّقة بالزكاة ما يلي:
أولاً: من كان عنده عقار للسُّكنى فعرَضه للبيع تخلُّصًا منه، أو لشراء بيت آخر للسكنى أو لغرض آخَر غير التجارة فلا زكاة فيه على الصحيح، ولو بقي معروضًا عدة سنوات.
ثانيًا: من كان عنده عقار لا ينوي به شيئًا معينًا، أو كان متردِّدًا فيه بين عرضه للتجارة، أو سُكناه، أو تأجيره، أو تركه حتى إذا احتاج إلى بيعه باعه، فلا زكاة فيه.
الفصل السادس عشر: معارك العزة في رمضان( )
رمضان شهرُ الفتوحاتِ الإسلاميَّة، فهو شهر لقوَّة الإيمانِ وعزة المسلمين، وشهر للقوة والنشاط، وليس للتكاسل والخمول، ومن أشهر المعارك والفتوح الرمضانية ما يلي:
أولاً: غزوة بدر الكُبرى، وكانت في السنة الثانية من الهِجرة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ومُشركي مكة، وقد سمَّى الله ذلك اليوم (يوم الفرقان)؛ لأنه - سبحانه - فرَّق بين الحق والباطل بنصر رسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين وخذْل الكفار المشركين.
وكان عدد المسلمين ثلاثة عشر وثلاثمائة رجل، والمشركون ألف رجل، وفيها دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه وناشَده نصره الذي وعده، فأنزل الله - تعالى - نصره على المؤمنين وأمدَّهم بالملائكة المسومين؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 123 - 125]، فانتصر الإسلام واندحَر الشرك، وقُتِل من المشركين سبعون وأُسِر سبعون، فيها قُتِل صناديد المشركين، وعلى رأسهم فرعون الأمة أبو جهل أكبر أعداء الإسلام.
ثانيًا: غزوة فتح مكة، وكانت في السنة الثامنة لهجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان ومعه عشرة آلاف من الصحابة - رضي الله عنهم - فافتتح مكة، ودخلها فطاف بالبيت الحرام، ثم حطَّم ثلاثمائة وستين صنمًا حول الكعبة، ثم دخل الكعبة فصلى فيها ركعتين، وكبَّر في نواحي البيت، وخطب من الغدِ في الناس خطبةً عظيمةً، وبايَعه أهل مكة رجالاً ونساءً على الإسلام، وأصبحت مكة دار إسلام وإيمان، وأقام بها النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعة عشر يومًا يُجدِّد معالم الدِّين، ويُرشِد الناس إلى الإسلام، ويبثُّ سراياه حول مكة للدعوة إلى الإسلام وتحطيم الأوثان( ).
عن عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما -: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزا غزوة الفتح في رمضان))؛ رواه البخاري( )، وفي رواية للشيخين: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج في رمضان من المدينة ومعه عَشرة آلاف، وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة، فسار هو ومن معه من المسلمين إلى مكة، يصوم ويصومون، حتى بلغ الكديد، وهو ماء بين عسفان وقديد أفطر وأفطروا [حتى دخل مكة]( ).
وقال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -: سافرْنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة ونحن صيام، فنزلنا منزلاً فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنكم قد دنَوتم من عدوِّكم، والفِطر أقوى لكم))، فكانت رخصةً فمنا من صام، ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلاً آخَر فقال: ((إنكم مُصبحو عدوكم، والفِطر أقوى لكم فأفطروا))، وكانت عزمةً، فأفطرنا؛ رواه مسلم( ).
ثالثًا: وفي رمضان من السنة الخامسة كان استعداد المسلمين لغزوة الأحزاب وحفر الخندق، وأما المعركة فقد وقعت في شوال من العام نفسه.
رابعًا: وفي رمضان وقعت بعض أحداث غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهِجرة.
خامسًا: وفي رمضان من السنة الثامنة للهجرة بعَث النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد - رضي الله عنه - لهدم بيت العُزى، وبعَث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - لهدم سواع، وبعَث سعد بن زيد الأشهلي - رضي الله عنه - لهدم مَناة( )، وفي رمضان من السنة التاسعة بعَث النبي - صلى الله عليه وسلم - المغيرة بن شعبة لهدمِ (اللات) الذي كانت تَعبده ثقيف( ).
سادسًا - معركة البُويب( ): بين المسلمين والمجوس، بقيادة المثنى بن حارثة - رضي الله عنه - سنة ثلاث عشرة للهجرة، في خلافة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وقد عزم المثنى على المسلمين بالفطر فأفطروا عن آخرهم، وكان النصر فيها عظيمًا، وكانت نظير معركة اليرموك بالشام( ).
سابعًا - معركة القادسيَّة( ): وهي المعركة الفاصلة بين المسلمين والفرس في رمضان من السنة الرابعة عشرة للهِجرة، بقيادة سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقد عانى المسلمون في هذه المعركة من الفيَلة، ونفرَت منها الخيل، ولكن أبطال الإسلام شدوا عليها وقلعوا عيونها برماحهم وخراطيمها بسيوفهم، فولَّت هاربةً تدكُّ أصحابها، وانتصر المسلمون انتصارًا عظيمًا( ).
ثامنًا - فتح الأندلس: وكان في رمضان سنة اثنتين وتسعين للهِجرة، بقيادة طارق بن زياد ومعه اثنا عشر ألف جندي عامَّتهم من المسلمين البربر، فهزموا الجيش القوطي، وكان زهاء أربعين ألف جندي وقتلوا ملكهم، وكانت بداية الفتح الإسلامي للأندلس( ).
تاسعًا - معركة بلاط الشهداء: وهو سهل قريب من مدينة بُواتييه الفرنسية قرب باريس، وقعت فيه المعركة الشهيرة بين المسلمين والفرنجة بقيادة عبدالرحمن الغافقي سنة أربع عشرة ومائة للهجرة في أواخر شعبان وأول رمضان، وقد قتل فيها الغافقي - رحمه الله - وانهزم المسلمون، وكان ذلك سببًا لوقف الفتح الإسلامي في أوروبا( ).
عاشرًا: فتح عمورية: وهي بلدة كبيرة قرب أنقرة في تركيا الآن، وكانت من أفضل بلاد النصرانية، وأشرف عندهم من القسطنطينية، وكان الروم قد هاجموا المسلمين وقتلوا منهم مقتلةً عظيمةً، وأسروا الرجال وسبَوا النساء، فصاحت منهم امرأة هاشمية: "وامعتصماه"، فبلغ الخبر المعتصم، فأجابها وهو جالس على عرشه: (لبيك، لبيكِ)، وجهز جيشًا عظيمًا، وخرج إلى الروم، فافتتح عمورية في رمضان سنة ثلاث وعشرين ومائتين( ).
حادي عشر - موقِعة الزلاقة: وهي موضِع بالأندلس كانت فيه المعركة المشهورة في رمضان سنة تسع وسبعين وأربعمائة للهجرة بين جيش المرابطين بقيادة يوسف بن تاشفين الذي دخل إلى الأندلس من المغرب، وجيش الفرنجة، وكان قائد الفرنجة قد كتب كتابًا يتهدَّد فيه المسلمين، فكتب له ابن تاشفين على ظهر كتابه: "الذي يكون ستراه"، وقاد المعركة بنفسِه، وكان في الرابعة والثمانين من عمره - رحمه الله - وكتب الله فيها النصر للمسلمين( ).
ثاني عشر - معركة عين جالوت: وهي قرية قرب نابلس، حدثت المعركة بين المسلمين والتتار سنة ثمان وخمسين وستمائة للهجرة، بقيادة سلطان مصر الملك المظفَّر قُطز، فلما التقوا ألقى الملك المظفر خوذته عن رأسه إلى الأرض، وصرخ بأعلى صوته: (واإسلاماه)، وحمل بنفسه ومَن معه حملةً صادقةً فانهزم التتار، ثم رجعوا ثانيةً، وتزلزل المسلمون زلزالاً شديدًا، فصرخ السلطان صرخةً عظيمةً سمعه معظم العسكَر وهو يقول: (واإسلاماه) ثلاث مرات، يا الله، انصر عبدك قطز على التتار، فقاتلوهم قتالاً شديدًا فهزموهم، ونزل السلطان عن فرسه ومرَّغ وجهَه على الأرض وقبَّلها، وصلى ركعتين شكرًا لله - تعالى( ).
ثالث عشر - معركة شَقْحَب( ) أو مرج الصفر: وهو موضع قرب دمشق، وكانت في أول رمضان سنة اثنتين وسبعمائة بين المسلمين من أهل الشام ومصر مع التتار، بقيادة السلطان الناصر محمد بن قلاوون، ومعه شيخ الإسلام ابن تيميَّة يُشجِّعهم ويأمرهم بالجهاد ويُشارِكهم فيه، ويَعِدهم بالنصر، ويحلف لهم بالله إنهم منصورون، فيقولون له: قل: "إن شاء الله" فيقول: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا، ثقةً منه بنصر الله - تعالى - وأفتاهم شيخ الإسلام بالفِطر في رمضان، وكان يدور على الأمراء والجند ومعه شيء يأكل منه ليعلموا أنه مُفطِر، فانهزم التتار هزيمة مُنكَرة( ).
رابع عشر: وفي رمضان سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة هَزم المصريون اليهودَ في حرب العاشر من رمضان (حرب أكتوبر)، أو ما يُسمَّى بـ: (معركة العبور)؛ أي عبور القوات المصرية قناة السويس واسترداد سيناء.
الفصل السابع عشر: مشروعية المداومة على الأعمال الصالحة
أولاً - مشروعية المداومة على الأعمال الصالحة:
ثبَت عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أحب الأعمال إلى الله - تعالى - أدومها وإن قَلَّ))؛ متفق عليه( )، وقال علقمة: سألت أم المؤمنين عائشة، قلت: يا أم المؤمنين، كيف كان عمل النبي - صلى الله عليه وسلم؟ هل كان يَخُصُّ شيئًا من الأيام؟ قالت: "لا، كان عمله ديمةً، وأيكم يستطيع ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستطيع؟" متفق عليه( )، وقال مسروق: سألتُ عائشة - رضي الله عنها -: أي العمل كان أحب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم؟ قالت: "الدائم"؛ رواه البخاري( )، وفي رواية له عن عروة عنها قالت: "كان أحب العمل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يدوم عليه صاحبه"( )، ولمسلم عنها قالت: "وكان آل محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا عملوا عملاً أثبتوه"( )، ولمسلم عن القاسم بن محمد قال: وكانت عائشة - رضي الله عنها - إذا عملت العمل لزمته( ).
وهذا الحديث يدل على محبة الله - تعالى - للمداومة على الأعمال الصالحة، وهذا مما يدل على فضلها؛ إذ محبة الله - تعالى - للعمل دليل فضله، والمسلم يحبُّ ما يحبه الله - تعالى - ويَحرِص عليه؛ لأن الواجب على كل مسلم أن تكون محبوباته موافقةً لمحبوبات الله - تعالى.
وليعلم المسلم أن من رحمة الله - تعالى - به أن يُوفِّقه للأعمال الصالحة، ثم أن يوفِّقه للمداومة عليها، وهذه المداومة علامة على قَبُول العمل الصالح، وهي جزء من ثوابه؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} [الشورى: 23]؛ أي: من يعمل حسنة نؤته أجرًا وثوابًا، قال بعض السلف كسعيد بن جبير وغيره: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومن جزاء السيئة السيئة بعدها( ).
ولقد تعوَّدنا في رمضان على أعمال كثيرة من البر فهل نتركها بعد رمضان؟ لا ينبغي هذا للمؤمن؛ فرمضان مدرسة نَنطلِق بعدها محافظين على ما تعلَّمناه فيه، لقد تعوَّدنا على صلاة الفجر مع الجماعة في بيوت الله - تعالى - ولا يجوز أن نتركها بعد رمضان، لقد تعوَّدنا على قراءة القرآن يوميًّا في رمضان، فهل نهجره بعد رمضان فندخل فيمن اشتكى منهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنهم يهجرون القرآن الكريم؟ كلا، لا ينبغي لنا هجره بعد رمضان، بل ينبغي لنا أن نحافظ على قراءته دائمًا؛ فإنه لا يختص برمضان، ولا يعجز أحدنا عن تخصيص دقيقة أو دقيقتين أو ثلاث يقرأ فيها شيئًا من القرآن الكريم، ولعلنا نضيِّع كثيرًا من أوقاتنا في قراءة ما لا ينفع، فهل يثقل علينا عدة دقائق نجعلها لزيادة إيماننا بقراءة كلام ربنا، فتطمئن به قلوبنا وتنشرح به صدورنا، ولقد تعوَّدنا في رمضان على صلاة الليل وصلاة الوتر، فلا يَنبغي أن ندعها بل يَنبغي لنا أن نحافظ عليها دائمًا؛ فإنها لا تختص برمضان فنصليها ولو ركعة أو ثلاث ركعات ولا نتركها، فإنَّ أحب العمل إلى الله أدومه وإن قلَّ، وهكذا جميع الأعمال من الصدقة والذِّكر وغيرهما.
ثانيًا - سر محبة الله - تعالى - للمداومة على الأعمال الصالحة:
سر محبة الله - تعالى - للمداومة على الأعمال الصالحة تتلخَّص في أمور، منها ما يلي:
أولاً: أن العمل الصالح يُحبه الله - تعالى - فلذلك يجب المداوَمة عليه، وفي الحديث القدسي أن الله - تعالى - قال: ((وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه))؛ رواه البخاري( ).
ثانيًا: أن المداومة على العمل الصالح دليل الرغبة فيه ومحبته وعدم كراهيته، وهذا مما يحبه الله - تعالى - بخلاف تركه والتجافي عنه؛ فهي مُشعِرة بالتكاسُل عنه واستثقاله، كما أخبر الله - تعالى - عن المنافقين بقوله: {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54]، وقال عنهم: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142].
ثالثًا: أنه يشعر بقوة الإيمان وصدقِه بخلاف الذي ينقطع عن العمل ويَتركه؛ ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن))؛ رواه أحمد وابن ماجه( ).
رابعًا: أن الأصل فيما أمر الله به أن يفعل على الدوام ويُحافظ عليه؛ ففي المحافظة تطبيق للأوامر وعمل بالنصوص وتعظيم لها وتعظيم لشريعة الله؛ قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
خامسًا: في المداومة على العمل الصالح إغاظة للشيطان؛ لأن عدو الله - تعالى - يحب تثبيط المسلم عن العمل الصالح، فإذا رآه يداوم عليه ويستمر فيه كان ذلك سببًا لغيظه؛ فمن قطع العمل كان موافقًا لما يُحبه إبليس، ومن داوم عليه كان موافقًا لما يحبه الله - تعالى - ويَغيظ الشيطان.
ثالثًا - أسباب المداومة على الأعمال الصالحة:
من أسباب المداوَمة على الأعمال الصالحة ما يلي:
أولاً: معرفة أن الله - تعالى - يحب العمل الصالح، فلا تتركه وإن كان قليلاً؛ فإن الله - تعالى - يحب منك المداومة على أصل العمل وإن قلَّ؛ فالقليل من قيام الليل أحب إلى الله - تعالى - وهو أولى من تركه، والقليل من الصدقة أحب إلى الله - تعالى - وأولى من تركها، وهكذا.
ثانيًا: عدم الإثقال على النفس بالعمل بل يعمل الإنسان ما في قدرته؛ فإن الإثقال من أسباب الترك.
ثالثًا: محاسبة النفس ومراقبتها دائمًا، ولومها على ترك العمل الصالح، ثم معاودته والمحافظة عليه.
رابعًا: صحبة الصالحين؛ فبهم يَقوى الإيمان، ويزداد التمسُّك بالأعمال الصالحة، وهذه الصحبة منها الواقعية، ومنها ما يكون عبر الكتب والأشرطة ونحوها التي تَنقل أخبارهم وتذكر عباداتهم، فتنشط النفوس للاقتداء بهم.
خامسًا: إدراك فضل العمل الصالح، سواء أكان الفضل الخاص أو الفضل العام للطاعة والعبادة.
سادسًا: قوة العزيمة، مع التوكُّل على الله - تعالى - والالتجاء إليه، والإكثار من دعائه بطلب الإعانة والتوفيق، وليحرص على الدعاء الذي علَّمه النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه - حيث قال له: ((أوصيك يا معاذ: لا تدعنَّ في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذِكرك، وشُكرك، وحسن عبادتك))؛ رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصحَّحه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والنووي، وقال الحافظ: سنده قوي( ).
سابعًا: الاستِشعار بأن المداوَمة على العمل الصالح طريق لحسنِ الخاتمة بإذن الله تعالى.
الفهرس
المقدمة    3
تمهيد: في معنى الصيام    5
معنى الصيام    6
الفصل الأول: مكانة الصيام وفضله    7
أولاً: مكانة صيام رمضان    8
ثانيًا: فضل رمضان وصيامه    9
ثالثًا: فضل الصيام عمومًا    11
الفصل الثاني: وجوب صيام رمضان وعلى من يجب    13
أولاً: حكم صيام رمضان    14
ثانيًا: من يجب عليهم صيام رمضان    15
ثالثًا: من لا يجب عليه الصيام    17
رابعًا: حكم ترك صيام رمضان ممن وجب عليه    19
الفصل الثالث: الحكمة من مشروعية الصيام    20
أولاً: الحكمة من مشروعية الصيام    21
ثانيًا: أسباب التقوى في رمضان    23
ثالثًا: أسباب المغفرة في رمضان    24
رابعًا: أثر الصيام في التعامل مع الآخرين    26
الفصل الرابع: حكم الصيام قبل شهر رمضان    27
أولاً: حكم تقدم رمضان بصيام    28
ثانيًا: حكم صيام يوم الشك    30
الفصل الخامس: بماذا يجب صيام رمضان    31
أولاً: بماذا يجب صوم رمضان    32
ثانيًا: أحكام متعلقة برؤية الهلال    34
الفصل السادس: أحكام النية في الصيام    35
أولاً: النية شرط لصحة الصيام    36
ثانيًا: وقت صحة النية للصيام    37
الفصل السابع: من يباح لهم الفطر في رمضان أو يجب    38
الأسباب المبيحة للفطر    39
السبب الأول: الحمل أو الرضاعة    39
السبب الثاني: المرض    40
السبب الثالث: الحيض أو النفاس    40
السبب الرابع: العجز عن الصيام لكِبَر السن    41
السبب الخامس: السفر    42
أحوال الناس في الصيام في السفر، ومتى يكون الأفضل الصوم أو الفطر    42
السبب السادس: الإغماء    44
السبب السابع: الضرورة أو الحاجة الشديدة    44
الفصل الثامن: مفسدات الصيام (المفطرات)    46
أولاً: مفسدات الصيام (المفطرات)    47
ثانيًا: شروط الفطر بالمفطرات    52
ثالثًا: ما لا يفسد الصيام    53
الفصل التاسع: سنن الصيام    54
أولاً: سنية السحور للصائم وفضله    55
ثانيًا: سنية تعجيل الفطر للصائم    57
ثالثًا: سنية السواك للصائم    60
الفصل العاشر: قضاء الصيام    62
الفصل الحادي عشر: صيام التطوع    65
أولاً: مشروعية صيام التطوع وحكمته    66
ثانيًا: أنواع صيام التطوع    67
ثالثًا: الأحكام المتعلقة بصيام التطوع    70
الفصل الثاني عشر: الأحكام المتعلقة بشهر رمضان    71
أولاً: مشروعية قيام رمضان وفضله    72
ثانيًا: فضل ليلة القدر ومشروعية تحريها وقيامها    75
ثالثًا: استحباب العمرة في رمضان وفضلها    78
رابعًا: وجوب حفظ الجوارح عن الحرام في الصيام وغيره    81
خامسًا: الجود في رمضان    83
سادسًا: قراءة القرآن في رمضان    84
سابعًا: سنية الاعتكاف في رمضان    87
ثامنًا: الدعاء وأهميته في رمضان وغيره    90
الفصل الثالث عشر: وجوب زكاة الفطر من رمضان    94
أولاً: حكم زكاة الفطر ومقدارها ووقتها والحكمة من مشروعيتها    95
ثانيًا: أحكام زكاة الفطر    97
الفصل الرابع عشر: مشروعية العيد وصلاته    99
أولاً: مشروعية العيد والتهنئة به وصلاته    100
ثانيًا: ما يشرع ليلة العيد ويوم العيد    102
الفصل الخامس عشر: أحكام الزكاة    104
أولاً: وجوب إخراج زكاة المال    105
ثانيًا: الأموال التي تجب فيها الزكاة وأنصبتها    107
ثالثًا: من يُعطَون الزكاة    111
رابعًا: الأموال التي لا تجب الزكاة فيها    114
الفصل السادس عشر: معارك العزة في رمضان    117
الفصل السابع عشر: مشروعية المداومة على الأعمال الصالحة    122
أولاً: مشروعية المداومة على الأعمال الصالحة    123
ثانيًا: سر محبة الله تعالى للمداومة على الأعمال الصالحة    125
ثالثًا: أسباب المداومة على الأعمال الصالحة    126