نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم


يقول الكاتب "محمد بن علي بن جميل المطري" في خاتمة كتابه "نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم": "ما أرسل الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم إلا لشيء واحد عظيم كبير شامل بيّنه الله بقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107].

فشريعته صلى الله عليه وسلم كلها رحمة، ودعوته رحمة، وسيرته رحمة، وأقواله رحمة، وأفعاله رحمة، وكل ما أمر به النبي عليه الصلاة والسلام وجوباً أو استحباباً ففعله رحمة، وكل ما نهى عنه تحريماً أو تنزيهاً فتركه رحمة".

 

يبين الكاتب في هذا البحث مظاهر الرحمة للبشر في شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث قام الكاتب بجمع الآيات والأحاديث المتعلقة برحمة النبي صلى الله عليه وسلم، وقام باستقصاء أوجه هذه الرحمة من خلال دراسة السيرة النبوية، ومواقفه - صلى الله عليه وسلم.

 

وقد قسم الكاتب كتابه إلى أحد عشر بابًا، يضم كل باب عدة فصول يوضح فيها أهم النقاط والعناصر المندرجة تحت عنوان الباب، وقد جاءت عناوين أبواب البحث على النحو التالي:

الباب الأول: التعريف بنبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم وسيرته.


الباب الثاني: ثناء الله على رسوله بالرحمة.


الباب الثالث: مواقف من رحمة النبي عليه الصلاة والسلام.


الباب الرابع: حث النبي عليه الصلاة والسلام أمته على الرحمة.


الباب الخامس: رحمة النبي عليه الصلاة والسلام في التشريع.


الباب السادس: رحمة النبي عليه الصلاة والسلام في الحكم والسياسة.


الباب السابع: رحمة النبي عليه الصلاة والسلام في الترويح والتسلية.
 

الباب الثامن: رحمة النبي عليه الصلاة والسلام في الأدعية والأذكار.

 

الباب التاسع: رحمة النبي عليه الصلاة والسلام في التعامل مع الكافرين.

الباب العاشر: رحمة النبي عليه الصلاة والسلام يوم القيامة.

الباب الحادي عشر: كشف الشبهات حول رحمة النبي عليه الصلاة والسلام.


وقد ختم الكاتب بحثه بخاتمة قصيرة بين فيها خلاصة البحث، ثم أورد أهم المراجع والمصادر التي اعتمد عليها في تأليف مادة بحثه.


نبي الرحمة
محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
(مادة مرشحة للفوز بمنسابقة كاتب الألوكة الثانية)




تأليف
محمد بن علي بن جميل المطري
غفر اللهُ له ولوالدَيه ولجميعِ المسلمين

 


 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
المقــدمـة
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على نبي الرحمة محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، أرسله الله رحمة للعالمين، ووصفه في كتابه بأنه رءوف رحيم، ووعده بالمقام المحمود يوم الدين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يُحيي ويُميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمدًا عبدالله ورسوله، نبي الرحمة، وشفيع الأمة، وكاشف الكربة والغمّة، والمخرج بإذن الله من الظلمات إلى النور، والهادي إلى صراط العزيز الغفور.
 أما بعد:
فإن موضوع مظاهر الرحمة للبشر في شخصية محمد صلى الله عليه وسلم موضوع عظيم لا تخفى على أي مسلم أهميته، لاسيما في هذا الزمان الذي كثر فيه تجرؤ كثير من الكافرين الحاقدين في الطعن في سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالكتابة في هذا الموضوع تعتبر نصراً عظيماً للإسلام والمسلمين، ورداً مفحماً للمستهزئين، وهدى ونوراً للمسترشدين.
وقد استعنت بالله تعالى في الكتابة في هذا الموضوع،فقمت بجمع الآيات والأحاديث المتعلقة برحمة النبي صلى الله عليه وسلم، وتفرغت لدراسة السيرة النبوية، فوجدت مظاهر الرحمة للبشر في شخصية نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من أن تُحصر؛ فسيرته رحمة، وأقواله رحمة، وأفعاله رحمة، وشريعته رحمة، وصدق الله إذ يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 107]، ويقول عليه الصلاة والسلام: «إنما بُعِثتُ رحمة»( ).
وقد قسمت الموضوع إلى أحد عشر باباً، وأكثر الأبواب تحتها فصول، وحرصت على أن أجعل أحاديث كل باب أو فصل عشرة أحاديث غالبًا، وأفردت الباب الحادي عشر لشبهات والجواب عنها حول رحمة النبي عليه الصلاة والسلام.
وقد التزمت في هذا البحث سلوك سبيل الاعتدال، متجنبًا التطويل المُمِلُّ، والإيجاز المُخِلُّ، وحرصت أن تكون أحاديث هذا البحث صحيحة، معتمدًا على ما حكم بصحته المُحَدِّثون المتقنون من المتقدمين أو المتأخرين، وأخرجت الأحاديث في الهوامش باختصار، مع العزو إلى كتب الحديث المعتبرة، وقد أكتفي نادراً  بالإحالة إلى المصدر الذي صُحِّح فيه الحديث دون ذكر من أخرج الحديث.
وأسأل الله أن ينفع بهذا البحث، وأن يبارك فيه، وأن يكتب له القَبول، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

محمد المطري
1 محرم 1428ﻫ
صنعاء   اليمن
   

 
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهــيد
كان العَالم قُبيل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في اضطراب شامل، وفوضى تغلغلت في كل مرافق الحياة، ولم يبق أحد على دين الأنبياء الحق إلا بقايا قليلة من أهل الكتاب، فقد بدّل اليهود دين موسى عليه الصلاة والسلام، وحرّفوا التوراة، كما بدّل النصارى دين عيسى عليه الصلاة والسلام، وحرّفوا الإنجيل.
أما العرب فكانوا غافلين عن دين الأنبياء، يعبدون الأصنام والأوثان، ويعتقدون الخرافات والأوهام، وكانوا متفرقين، ليس لديهم دولة عربية تحميهم، وتجمع شتاتهم، فكل قبيلة كانت تعتبر نفسها دولة مستقلة، وأمة منفصلة، لا حرمة لغيرها من القبائل عندها، فهي تستحل دماء غيرها، وتستبيح أموالهم، ويستعبد القوي منهم الضعيف، كانوا قساة القلوب، فالرجل يقتل ولده، ويدفن ابنته وهي حية؛ خشية الفقر أو العار، وكانوا يأكون أموال اليتامى ظلماً بحجة أنهم لا يستطيعون حمل السلاح والدفاع عن القبيلة، وقد وصف جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أحوالهم للنجاشي ملك الحبشة فقال: «أيها الملك! كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ماكنا نعبد نحن وآباؤنا من دون الله من الحجارة والأوثان، وأمرنا بالصدق والأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء والفواحش وشهادة الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصن، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئاً، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة...» ( ).
وبالجملة فقد كان أهل الأرض جميعاً يعيشون في الظلم والظلمات، والجهل والخرافات؛ فبعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى الناس كافة؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن الله، ويهديهم إلى صراط مستقيم.
 وقد ختم الله به الأنبياء، وجعل شريعته أيسر الشرائع، وجعل أمته أفضل الأمم، وقد بشّر ببعثته موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وذكر الله صفته في التوراة والإنجيل، قال الله سبحانه وتعالى: { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].
 فلا منّة علينا لأحد بعد الله كما لهذا النبي الكريم، إذ به هدانا الله إلى الصراط المستقيم، ووقانا من حر نار الجحيم، قال الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، به حصلت لنا مصالح الدنيا والآخرة، ماترك من خير إلا وحث أمته عليه، ولاترك من شر إلا وحذرهم منه.
جاء بشريعة من عند الله سهلة سمحة، ليس فيها حرج ولا مشقة.
جاء بشريعة تسع الناس كلهم على اختلاف أجناسهم وأوطانهم وألسنتهم وطبقاتهم وأحوالهم.
جاء بشريعة العمل بها في أي زمان ومكان يجلب المصالح ويكملها، ويدفع المفاسد ويقللها، قال الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].
وقد بيّن الله عز وجل أنه ما أرسل رسوله إلا لشيء واحد عظيم كبير شامل بيّنه في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
أرسله الله رحمة للعالمين كلهم، ولم يكن رحمة للعرب وحدهم، ولا لزمنه فقط، وإنما كان رحمة للناس كافة في كل زمان ومكان، كان ولم يزل رحمة للعالمين.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسمِّي لنا نفسه أسماء فقال: «أنا محمد، وأحمد، ونبي التوبة، ونبي الرحمة»( ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إنما أنا رحمة مُهداة»( ).
* * *
 
الباب الأول
التعريف بنبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم وسيرته
الفصل الأول
أصله ونشأته وأحواله قبل النبوة
هو محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم، ينتهي نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام.
قبيلته قريش أفضل قبائل العرب قاطبة، ومساكنها في مكة أم القرى، وأسرته الهاشمية أشرف قريش وأفضلها.
ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول عام حادثة الفيل، الموافق 20 إبريل سنة 571م، وحادثة الفيل هي القصة المشهورة التي أهلك الله فيها جيش أبرهة الحبشي حينما أراد أن يهدم الكعبة، فأرسل الله عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، وقد كان العرب يؤرخون بتلك الحادثة لشهرتها.
وقد نشأ النبي محمد صلى الله عليه وسلم يتيماً، إذ مات أبوه وهو حمل في بطن أمه، ثم ماتت أمه وهو ابن ست سنين.
لما شب كان يتاجر، وعُرِف في معاملاته بغاية الأمانة والصدق والعفاف حتى لُقِّب بالأمين.
وقد كان جامعاً للصفات الحميدة، والأخلاق النبيلة، وأحاطه الله بالحفظ والرعاية، وبغّض إليه ما كان في قومه من سوء وخرافة.

* * *

 
الفصل الثاني
بدء الوحي والدعوة إلى الله
لما اكتملت سن النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، أتاه الملَك جبريل الأمين، بالقرآن المبين، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى دين الله سراً لمدة ثلاث سنوات، فاستجاب له بعض أقاربه وأصدقائه ومن شاء الله هدايته، ثم أمره الله أن يجهر بالدعوة، فجهر بها؛ فعاداه المشركون أشد العِداء، وقاموا بشتى الوسائل للقضاء على هذه الدعوة، من السخرية والاستهزاء بالرسول والمسلمين، والحيلولة بين الناس وبين سماع القرآن الكريم، وإثارة الشبهات حول الرسول الأمين، والقرآن المبين، والجدال بالباطل لتكذيب التوحيد والرسالة والبعث بعد الموت، وتعذيب المسلمين بأشد أنواع العذاب، ووصل الأمر إلى قتل بعض الرجال والنساء من المسلمين.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه المستضعفين أن يهاجروا إلى الحبشة؛ ليفروا بدينهم من كفار قريش، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم بين كفار قريش يدعوهم إلى الله، ويتلو عليهم كلام الله، فما زادهم ذلك إلا نفوراً واستكباراً، وكانوا يؤذون النبي عليه الصلاة والسلام بأنواع من الأذى قولاً وفعلاً، وهو صابر لربه صبراً جميلاً.

* * *






 
الفصل الثالث
الهجرة إلى المدينة وتأسيس الدولة الإسلامية
كان النبي عليه الصلاة والسلام يخرج في موسم الحج إلى منازل القبائل الوافدة إلى مكة؛ ليدعوهم إلى الإسلام، فكان يلقى منهم التكذيب والاستهزاء، ولم يمنعه ذلك من الدعوة إلى الله في كل موسم حج، حتى التقى بنفر من أهل المدينة سنة 11 من النبوة فأسلموا.
 وفي الموسم المقبل سنة 12 من النبوة قدم نفر من أهل المدينة فأسلموا وبايعوا، وأرسل معهم بعض أصحابه ليعلمهم القرآن، فانتشر الإسلام في المدينة.
 وفي موسم حج سنة 13 من النبوة اجتمع النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من سبعين مسلماً من أهل المدينة، وبايعوه على أن ينصروه إذا قدم إليهم.
 وبعد هذه البيعة هاجر المسلمون الذين في مكة إلى المدينة، ورجع إليها عامة من كان بأرض الحبشة، واستمر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو كفار قريش إلى الله، حتى قرروا قتله، فأمره الله بالهجرة سنة 1ﻫ   622م، ونجاه الله من كيدهم.
 ولما استقر عليه الصلاة والسلام في المدينة بدأ في بناء المسجد النبوي، وآخى بين المهاجرين والأنصار، وعقد معاهدات بين المسلمين وبين مشركي المدينة واليهود الساكنين في المدينة، وأصبحت المدينة وضواحيها دولة ذات استقلال وسيادة، والكلمة النافذة فيها للمسلمين.

* * *




 
الفصل الرابع
الجهاد في سبيل الله
أحاط الخطر بالمسلمين في المدينة من داخلها وخارجها، بسبب مكائد الكفار للقضاء على المسلمين، فأنزل الله قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 39، 40]، فلما أذن الله للمسلمين بالقتال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتب الدوريات العسكرية، ويؤمر عليها أحداً من أصحابه، وربما خرج فيها بنفسه، وقد غزا النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه 19 غزوة، وكان المقصود منها ما يلي:
1)    استكشاف حركات العدو، وتأمين أطراف المدينة حتى لا يؤخذ المسلمون على غرة.
2)    عقد مواثيق التحالف أو عدم الاعتداء مع بعض القبائل.
3)    الضغط على قريش بالتعرض لقوافلهم حتى يشعروا بالخطر على تجارتهم وأموالهم وأنفسهم، فإما أن يسالموا المسلمين، ويتركوهم ينشرون الإسلام، وإما أن يختاروا طريق القتال فيخسروا طريق تجارتهم التي تمر بأطراف المدينة، ويلقوا جزاء عدوانهم بإذن الله.
4)    إبلاغ رسالة الله، ونشر دعوة الإسلام؛ لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.

وهذه أهم الغزوات:
1)    غزوة بدر الكبرى سنة 2ﻫ   624م: كانت هذه الغزوة أول معركة فاصلة بين المسلمين وكفار قريش، وكان عدد المسلمين فيها 313 رجلاً، وكان عدد المشركين ألف رجل.
    نصر الله فيها المسلمين نصراً مؤزراً، فقتلوا (70) من المشركين، وأسروا (70)، ومعظم القتلى والأسرى من عظماء قريش، واستُشهد في هذه المعركة (14) صحابياً.
    وأخذ نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم الفدية من الأسرى، ومن كان منهم يقرأ ويكتب جعل فديته أن يُعلِّم عشرة غلمان من المسلمين القراءة والكتابة، وأحسن إلى بعض الأسرى فأطلقهم بغير فدية.
2)    غزوة أحد سنة 3ﻫ   625م: جهز كفار قريش (3000) مقاتل للانتقام من المسلمين، ووصل هذا الجيش إلى ضواحي المدينة قرب جبل أحد، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم لقتالهم ومعه (700) مقاتل، وعيّن (50) رجلاً من الرماة على جبل صغير ليحموا ظهور المسلمين، وأكّد لهم ألا يتركوا مكانهم حتى يأتي أمره، سواء انتصر المسلمون أو انهزموا.
    وبدأت المعركة، ووقعت الهزيمة بالمشركين، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأخذون الغنائم، وحينئذ أخطأ الرماة فنزل أكثرهم ليجمعوا الغنائم، فانقض فرسان المشركين على المسلمين من خلف الجبل، ورجع المشركون المنهزمون؛ فانهزم المسلمون، وتشتتوا، ونجح رسول الله صلى الله عليه وسلم في إنقاذ جيشه المطوق، وسحبه إلى شعب الجبل، واكتفى المشركون بما حققوا من نصر فانصرفوا إلى مكة.
    وفي هذه المعركة شُج رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكُسرت رباعيته، واستُشهد (70) صحابياً، وبلغ عدد قتلى المشركين (22) رجلاً.
    وفي صباح اليوم الثاني من المعركة أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يلحقوا المشركين خوفاً من أن يرجعوا لغزو المدينة، فبلغوا مكاناً يسمى (حمراء الأسد) على بعد ثمانية أميال من المدينة، وعسكروا هناك وهم منهكون من الجراح والتعب، ومن الحزن والألم، وكان المشركون قد أجمعوا أن يعودوا إلى المدينة ليستأصلوا المسلمين، فلما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد لحقهم انهارت معنوياتهم، فعجَّلوا الارتحال إلى مكة، ثم رجع المسلمون إلى المدينة سالمين آمنين.
3)    غزوة الأحزاب سنة 5ﻫ   627م: حرّض اليهود قريشاً وغطفان وكثيراً من القبائل على استئصال المسلمين، وبلغ خبر تجمعهم وتحركهم إلى المدينة، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فأُشير عليه بحفر خندق شمال المدينة، وهي الجهة الوحيدة التي يمكن منها دخول العساكر إلى المدينة.
    فحفر المسلمون الخندق ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكابدوا أثناء حفره شدة الجوع والبرد. وأقبلت قريش ومن تبعهم في (4000) مقاتل، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد في (6000) مقاتل، ونقض يهود بني قريظة العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصاب المسلمين بلاء كبير، وكرب عظيم، وزُلزِلوا زلزالاً شديداً، وظهر نفاق المنافقين، وثبّطوا المسلمين عن القتال، وفرض المشركون الحصار على المدينة بعد أن تفاجئوا بالخندق، والمسلمون يرشقونهم بالنبل حتى لا يقتربوا منه.
    وكانت قريظة في جنوب المدينة، والمسلمون في شمالها، وكان المسلمون (3000) مقاتل، ولم يكن أحد يحول بين يهود بني قريظة وبين نساء المسلمين وأطفالهم، فكان الخطر عليهم شديداً من اليهود الغادرين، فأرسل نبي الرحمة (500) من أصحابه لحراسة ذراري المسلمين.
    واستمر الحصار نحو شهر، ثم يسر الله أموراً حتى تخاذل الأحزاب، وأرسل الله عليهم ريحاً شديدة؛ فانصرفوا، قال الله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25].
    وكانت هذه الغزوة أكبر محاولة قام بها أعداء الإسلام للقضاء على الإسلام والمسلمين، ولكن الله خيبهم.
    وجاء الملَك جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يغزو بني قريظة، الذين نقضوا العهد، وتآمروا مع المشركين على إبادة جميع المسلمين، فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بغزو بني قريظة، فتحصنوا في حصونهم، وحاصرهم المسلمون خمسة وعشرين ليلة، ثم استسلموا، فاعتقل الرجال، وجعل النساء والذراري بمعزل عنهم في ناحية، وجعل الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ الأنصاري، وقد كان حليفاً ليهود بني قريظة قبل الإسلام، فحكم أن يُقتل الرجال، وتسبى الذرية، وتقسم الأموال، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قضيت بحكم الله»( ).
    وقد كان هذا الحكم مطابقاً لشريعة اليهود، وهو في غاية العدل والإنصاف، فإن يهود بني قريظة بالإضافة إلى ما ارتكبوا من الغدر الشنيع، كانوا قد جمعوا لإبادة المسلمين (1500) سيف، و(2000) رمح، و(300) درع، و(500) ترس، حصل عليها المسلمون بعد فتح ديارهم. فضُربت أعناق الخائنين من يهود بني قريظة، وكانوا (400) رجل، وكان قد أسلم نفر من اليهود قبل الاستسلام فلم يتعرض لهم المسلمون، وطلب بعض المسلمين من النبي صلى الله عليه وسلم أن يمنّ على بعض اليهود، فمنّ عليهم وأطلقهم.
4)    غزوة خيبر سنة 7ﻫ - 629م: يهود خيبر هم الذين حزّبوا الأحزاب ضد المسلمين، وأغروا يهود بني قريظة على الغدر والخيانة، وكانوا يتصلون بالمنافقين للكيد بالمسلمين، فكانت خيبر وكراً للتآمر على المسلمين.
    وفي سنة 7 من الهجرة غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ومعه (1400) مقاتل، وحاصروا حصون خيبر، ثم صاروا يفتحونها حصناً حصناً، ثم إن اليهود طلبوا الأمان على أن يخرجوا من خيبر بنسائهم وذراريهم، فأجابهم نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، وعاهدهم على ذلك، وسمح لهم أن يأخذوا من الأموال ما حملت رِكابهم، إلا الذهب والفضة والخيل والسلاح.
    ولما حصل اليهود على الأمان اقترحوا على نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم أن يتركهم في خيبر على أن يقوموا على النخل والزرع، ولهم نصف ما يخرج منها، فرضي نبي الرحمة بذلك على أن يجليهم منها متى شاء.
    وبعد ما ذهب الخوف عن اليهود عادوا إلى خبثهم، وتآمروا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فأهدوا له شاة مسمومة بواسطة امرأة أحد كبارهم، فقبل نبي الرحمة هديتها، وتناول منها مضغة ولاكلها ثم لفظها، وعرف أنها مسمومة، وسأل المرأة واليهود فاعترفوا بجريمتهم، فعفا عنهم وعن المرأة.
    ثم إن بعض أصحابه مات من هذا السم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل هذه المرأة قصاصاً.
5)    فتح مكة سنة 8ﻫ   630م: كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد عاهد كفار قريش في الحديبية سنة 6ﻫ على وقف الحرب بين المسلمين وبين كفار قريش لمدة عشر سنوات، وكان من بنود الصلح أن من أراد أن يدخل في عهد محمد صلى الله عليه وسلم دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه.
    فدخلت قبيلة خزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ودخلت قبيلة بني بكر في عهد قريش، وكان بين خزاعة وبني بكر دماء وثارات، فلما وقعت هذه الهدنة، وأمن كل فريق من الآخر، أراد بنو بكر أن يصيبوا من خزاعة الثأر القديم، فأغاروا عليهم ليلاً سنة 8هجرية، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح والرجال، وكان هذا نقضاً من قريش لصلح الحديبية.
    فلما بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ عزم على نصرتهم، وأمر المسلمين بغزو مكة، وتوجه إلى مكة في شهر رمضان سنة 8ﻫ ومعه عشرة آلاف من المسلمين، وباغت أهل مكة، وأمر منادياً ينادي: من أغلق عليه بابه فهو آمِن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمِن، فأسرع كفار قريش إلى بيوتهم وإلى المسجد الحرام، وحصلت مناوشة خفيفة مع بعض كفار قريش قُتِل فيها 12 رجلاً من المشركين، وفر الباقون.
    ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً منتصراً، وهو مطأطئ رأسه تواضعاً لله، فطاف بالكعبة، وكان حولها 360 صنماً، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]، { جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49]، والأصنام تتساقط على وجوهها.
    ثم أمر بفتح الكعبة، وأمر بتكسير ما فيها من الأصنام، وصلى فيها ركعتين.
    وكان كفار قريش قد ملئوا المسجد الحرام صفوفاً، فخطب النبي عليه الصلاة والسلام فيهم خطبة بليغة بيّن فيها كثيراً من أحكام الإسلام، وأسقط أمور الجاهلية، وعفا عن كفار قريش، وبايع الناس على الإسلام، فأسلم أكثر أهل مكة من الرجال والنساء.
    وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة 19 يوماً يجدد فيها معالم الإسلام، ويطهرها من آثار الجاهلية.
6)    غزوة حنين: بعد فتح مكة اجتمعت قبائل هوازن وثقيف على قتال المسلمين، وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجمعهم، فخرج من مكة في شوال سنة 8ﻫ ومعه اثنا عشر ألفاً.
    وكمن العدو للمسلمين في وادي حنين، ثم أمطروا المسلمين بالنبال كأنها جراد منتشر؛ فانهزم المسلمون، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قليل من المهاجرين والأنصار، ونزل عن بغلته ودعا ربه واستنصره، وأمر من ينادي أصحابه، فرجعوا واجتمع حول رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع عظيم، فكرّوا على المشركين حتى تفرقوا وهربوا، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، وغنموا شيئاً كثيراً جداً، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجمع الغنائم في منطقة (الجِعرانة).
    وكان أكثر العدو قد فر إلى الطائف، فحاصر النبي صلى الله عليه وسلم الطائف (40) يوماً دون جدوى، فقد كان مع العدو قوت سنة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالرحيل.
    وعاد نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة، فمكث بها بضعة عشر يوماً لا يقسم الغنائم، يبتغي أن يقدم المشركون تائبين، فيرد إليهم أموالهم وسبيهم، فما جاء أحد منهم، فأخرج الخمس من الغنيمة وأعطاها لأناس ضعفاء الإيمان يتألفهم، ولأناس لم يسلموا بعد من أهل قريش ليحبب إليهم الإسلام.
    وبعد توزيع الغنائم قدم وفد هوازن إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وأسلم هذا الوفد، وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد إليهم الأموال والسبي، فقال: «إن معي من ترون، وإن أحب الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إما السبي وإما المال» فاختاروا السبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أما ما كان لي وبني عبد المطلب فهو لكم، وسأسأل الناس، فقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم ».( ).
    فرد نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم إليهم جميع السبي، ففرحوا فرحاً عظيماً، وبعد ذلك   أسلموا كلهم رجالهم ونساؤهم.
7)    غزوة تبوك سنة 9ﻫ - 631م: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجمع الروم لغزو المسلمين في المدينة، فاستنفر المسلمين، وحث الموسرين على تجهيز المعسرين، وخرج من المدينة ومعه (30000) مقاتل يريد منطقة تبوك، وهي في شمال الجزيرة العربية.
    وكانت هذه الغزوة عسيرة على المسلمين لقلة الظهر والزاد، ولبعد المسافة، وشدة الحرارة.
    ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك بعد خمسة عشر يوماً من السفر الطويل الشاق، ولما علمت الروم بذلك خارت عزائمهم، ولم يجترئوا على اللقاء، وتفرقوا داخل بلادهم.
    وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك 20 يوماً يُرهِب العدو، ويستقبل الوفود، وصالح بعض القبائل على الجزية، وكانت هذه الغزوة آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* * *

 
الفصل الخامس
آخر حياته صلى الله عليه وسلم
كان العرب ينتظرون نتيجة الصراع القائم بين قريش والنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان لقريش الصدارة الدينية عند العرب، وكانوا يعتقدون أن الباطل لا يمكن أن يسيطر على المسجد الحرام بالقوة والفتح، ولم تكن قصة أصحاب الفيل عنهم ببعيدة.
فلما أكرم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بفتح مكة سنة 8ﻫ - 630م لم يبق عند العرب أدنى شك في كونه رسولاً حقاً، فبدأت القبائل العربية تتوافد إليه تترى لتؤمن برسالته، وتقر بطاعته، وأخذ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، حتى اتسعت رقعة الدولة الإسلامية من ساحل البحر الأحمر إلى ساحل الخليج العربي، ومن مناطق جنوب الأردن إلى سواحل اليمن وعُمان.
 وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ينظم أمور هذه البلاد الشاسعة، فيرسل الدعاة المعلمين، وينصب الولاة العادلين، ويبعث جباة الصدقات المنصفين، ويوفر ما يحتاج إليه نظام العباد والبلاد( ).
وعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على حج بيت الله سنة 10ﻫ - 632م، فأعلم الناس بذلك؛ فاجتمع في المدينة بشر كثير، كلهم يريد أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج، فحج معه نحو (120) ألفاً من المسلمين، وأراه الله ثمرة دعوته وصبره وجهاده.
 وعلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين المناسك، وأوصاهم ووعظهم، ونزل عليه قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } [المائدة: 3].
وفي آخر حياته نزلت عليه آخر سورة من القرآن، وهي قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } [النصر: 1 - 3]، وفي هذه السورة إشارة من الله تعالى لنبيه الكريم بدنو أجله؛ فقد بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده.
وبعد أن تم له 63 سنة اشتد به المرض، ثم فاضت روحه الكريمة في يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة 11ﻫ الموافق سنة 632م.
 واختار الصحابة أبا بكر الصديق رضي الله عنه خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفنوه في حجرة زوجته عائشة رضي الله عنها في الموضع الذي توفي فيه.
 قال عمرو بن الحارث رضي الله عنه: «ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً ولا درهماً ولاعبداً ولا أمة، إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه، وأرضاً جعلها لابن السبيل صدقة»( ).
هذه سيرة نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام على وجه الاختصار والإيجاز( ).

* * *



 
الفصل السادس
معجزاته ودلائل نبوته
محمد صلى الله عليه وسلم هو أكثر الرسل معجزة، وأبهرهم آية، وأظهرهم برهاناً، فمن معجزاته ودلائل نبوته:
1)    انشقاق القمر، عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر»( )، وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: «انشقت القمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم شقتين، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «اشهدوا»( )، وأنزل الله قوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } [القمر: 1 - 3].
2)    الإسراء والمعراج، والمراد بالإسراء توجه النبي صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى بيت المقدس بصحبة جبريل عليه السلام، والمراد بالمعراج صعوده عليه الصلاة والسلام إلى العالم العلوي، وكان ذلك بجسده وروحه في ليلة واحدة، قال الله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]، وقال تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 17، 18].
3)    تكثير الطعام القليل حتى يكفي المئات، وقد وقع هذا أكثر من مرة( ).
4)    نبع الماء من بين أصابعه، وقد وقع هذا أكثر من مرة حضراً وسفراً( ).
5)    كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخطب إلى جذع، فلما صُنِع له المنبر تحول إليه، فحنّ الجذع وصاح صياح الصبي حتى ضمه النبي صلى الله عليه وسلم إليه، ومسحه حتى سكت( ).
6)    استجابة الله لدعائه مالا يعد ولا يحصى( ).
7)    إبراء المرضى على يديه أكثر من مرة( ).
8)    ما أُطِلع عليه من الغيوب وما يكون، فقد أعلم أصحابه ووعدهم بفتح مكة وبيت المقدس واليمن والشام والعراق، وأخبر بفتح خيبر على يد علي بن أبي طالب رضي الله عنه في غد يومه، وأخبر بقسمتهم كنوز كسرى وقيصر، وغير ذلك مما وقع كما أخبر به( ).
9)    آثار الرسول صلى الله عليه وسلم في البشرية، فقد أحيا أمة ميتة، وأخرجها من الظلمات إلى النور، وعلمها من بعد جهل، وأعزها من بعد ذلة، ووحدها من بعد فرقة، وزكاها حتى صارت خير أمة أخرجت للناس.
هذا؛ وإذا تخلت هذه الأمة في أي زمان ومكان عن اتباع منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم أذلها الله، وإذا اتبعت منهجه أعزها الله، فما أعظم هذه المعجزة!
10)    أعظم معجزات النبي صلى الله عليه وسلم على الإطلاق القرآن الكريم، وهذه المعجزة باقية إلى قيام الساعة، ووجوه إعجاز القرآن الكريم كثيرة منها:
‌أ-    حسن سياقه، والتئام كَلِمه، وفصاحته وبلاغته الخارقة، وقد تحدى النبيُ صلى الله عليه وسلم العرب الفصحاء على أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، قال الله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [الإسراء: 88]، وقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23، 24].
‌ب-    ما اشتمل عليه من الإخبار بالمغيبات،ومالم يكن ولم يقع؛ فوجد على الوجه الذي أخبر به.
‌ج-    ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة، والأمم البائدة، والشرائع الداثرة، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا القليل من أحبار أهل الكتاب، فيورده النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه، ويأتي به على نصه، وقد علموا أنه صلى الله عليه وسلم أمّيٌّ لا يقرأ ولا يكتب، ولا اشتغل بمدارسة في صغره وشبابه.
‌د-    الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه، والهيبة التي تعتريهم عن تلاوته.
‌ه-    كونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا، مع تكفل الله بحفظه، قال تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9].
‌و-    أن قارئه لا يمله، وسامعه لا يمجّه، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة، وترديده يوجب له محبة، لا يزال غضاً طرياً، وغيره من الكلام يمل مع الترديد.
‌ز-    جمعه لعلوم ومعارف لم تعهد العرب بمعرفتها، ولا يحيط بها أحد من علماء الأمم، ولا تمل عليها كتابًا من كتبهم، إلى ما حواه من أنباء الأمم، والمواعظ والحكم، وحقيقة الدنيا الفانية، وأخبار الدار الآخرة، ومحاسن الآداب والأخلاق، قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل:76- 77].
‌ح-    تيسير الله تعالى حفظه لمتعلميه، وتيسير فهمه لدارسيه، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17]، فما أكثر من يحفظه عن ظهر قلب من الكبار والصغار، والرجال والنساء، والعرب والعجم، في كل زمان ومكان( )!

* * *
 
الباب الثاني
ثناء الله على رسوله بالرحمة
أثنى الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرحمة وما يتعلق بها في آيات كثيرة من كتابه الكريم، ومن ذلك:
1)    قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 107].
قال الإمام المفسر ابن كثير رحمه الله: ((يخبر الله تعالى أنه جعل محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين أي: أرسله رحمة لهم كلهم، فمن قبل هذه الرحمة، وشكر هذه النعمة سعد في الدنيا والاخرة، ومن ردها وجحدها خسر الدنيا والآخرة. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله! ادع على المشركين قال: «إني لم أُبعث لعّاناً، وإنما بُعثت رحمة» رواه مسلم( )، وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا رحمة مهداة»( )، وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيما رجل سببته في غضبي أو لعنته لعنة فإنما أنا رجل من ولد آدم أغضب كما تغضبون، وإنما بعثني الله رحمة للعالمين، فأجعلها صلاة عليه يوم القيامة»( )، [أي: يسأل الله أن يجعلها عليه رحمة يوم القيامة]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [من تبعه كان له رحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يتبعه عوفي مما كان يُبتلى به سائر الأمم من الخسف والمسخ والقذف]( )اﻫ باختصار وتصرف.
ومعنى كلام ابن عباس: أن الأمم السابقة التي كذبت رسلها عذبهم الله في الدنيا قبل الآخرة بالهلاك العام، فقوم نوح عليه السلام أغرقهم الله بالطوفان، وقوم هود عليه السلام أهلكهم الله بريح صرر عاتية، وقوم صالح عليه السلام أهلكهم الله بالصيحة الشديدة، وأغرق الله فرعون وجنوده عندما كذبوا بموسى عليه السلام، أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد بعثه الله رحمة للعالمين، حتى من كفر به لا يهلكهم الله بالعذاب العام في الدنيا، فلا يخسف بهم الأرض، ولا يمسخهم حيوانات أو نحوها، ولا يقذفهم بحجارة من السماء، بل يَسْلَمون في الدنيا من عذاب الاستئصال.
2)    قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [التوبة: 128].
قال ابن كثير رحمه الله: ((قوله تعالى: { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } أي: يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها؛ ولهذا جاء في الحديث: «بعثت بالحنيفية السمحة»( )،وفي الصحيح: «إن الدين يسر»( )،وشريعته كلها سهلة سمحة كاملة يسيرة على من يسرها الله تعالى عليه. { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } أي: على هدايتكم، ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم)) ( )اﻫ مختصراً.
وقال السعدي في تفسير قوله تعالى: { بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }: (( أي: شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم)) ( ) اﻫ.
3)    قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159].
قال السعدي رحمه الله: ((أي: برحمه الله لك ولأصحابك منّ الله عليك أن ألنت لهم جانبك، وترققت عليهم، وحسنت لهم خلقك؛ فاجتمعوا عليك وأحبوك، وامتثلوا أمرك، { وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا } أي: سيء الخلق { غَلِيظَ الْقَلْبِ } أي: قاسيه { لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } لأن هذا ينفرهم، ويبغضهم لمن قام به هذا الخلق السيء.
ثم أمره الله بأن يعفو عنهم ما صدر منهم من التقصير في حقه صلى الله عليه وسلم، ويستغفر لهم في التقصير في حق الله، وأن يشاورهم في الأمور التي تحتاج إلى استشارة ونظر وفكر)) ( ) اﻫ مختصراً.
4)    قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
قال السعدي رحمه الله: ((يخبر الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار أنهم بأكمل الصفات، وأجل الأحوال وأنهم { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ }
أي: جادون ومجتهدون في عداوتهم، وساعون في ذلك بغاية جهدهم { رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }
أي: متحابون متراحمون متعاطفون كالجسد الواحد، يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه)) ( ) اﻫ باختصار.
والمراد بالكفار هنا المحاربون لهم، أما من لم يحاربهم من الكفار فقد قال الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [الممتحنة: 8].
5)    قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الدخان: 5، 6].
قال السعدي رحمه الله: { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } للرسل، ومنزلين للكتب، { رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } أي: إن إرسال الرسل وإنزال الكتب – التي أفضلها القرآن – رحمة من رب العباد بالعباد، فما رحم الله عباده برحمة أجل من هدايتهم بالكتب والرسل، وكل خير ينالونه في الدنيا والآخرة فإنه من أجل ذلك وسببه { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } أي: يسمع جميع الأصوات، ويعلم جميع الأمور الظاهرة والباطنة، وقد علم تعالى ضرورة العباد إلى رسله وكتبه، فرحمهم بذلك، ومنّ عليهم، فله تعالى الحمد والمنة والإحسان)) ( ) اﻫ.
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام عن نفسه: «إنما أنا رحمة مهداة»( ).
قال المناوي رحمه الله: ((أي: ما أنا إلا ذو رحمة للعالمين أهداها الله إليهم، فمن قبل هديته أفلح ونجا، ومن أبى خاب وخسر)) ( ) اﻫ.
6)    قوله تعالى: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } [الأعراف: 157].
قال ابن كثير رحمه الله: ((هذه صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء، فقد بشروا أممهم ببعثته، وأمروهم بمتابعته، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم، ومن صفة النبي عليه الصلاة والسلام في الكتب المتقدمة أنه لا يأمر إلا بخير، ولا ينهى إلا عن شر، ومن أهم ذلك وأعظمه ما بعثه الله به من الأمر بعبادته وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة ما سواه، ويحل لهم ما كانوا حرّموه على أنفسهم مما كانوا ضيقوا به على أنفسهم من الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث كلحم الخنزير والربا وما كانوا يستحلونه من المآكل التي حرمها الله، فكل ما أحل الله من المآكل فهو طيب نافع في البدن والدين. وكل ما حرمه فهو خبيث ضار في البدن والدين. وقوله { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } أي: أنه جاء بالتيسير والسماحة كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: «بعثت بالحنفية السمحة»( )، وقال صاحبه أبو برزة الأسلمي: إني صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت تيسيره( )، وقد كانت الأمم السابقة في شرائعهم ضيق عليهم فوسع الله على هذه الأمة أمور دينها، وسهلها لهم))( ) اﻫ مختصراً.
7)    قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46].

هذه الأشياء الخمسة هي المقصود من رسالة النبي عليه الصلاة والسلام، وهي:
1-    كونه شاهداً على أمته بما عملوه من خير أو شر، وهو شاهد عدل مقبول.
2-    كونه مبشراً، فهو يبشر المؤمنين بكل ثواب دنيوي وديني، كما يبشرهم في الآخرة بالجنة.
3-    كونه نذيراً، فهو ينذر الكافرين والمجرمين بالعقوبات الدينية والدنيوية المرتبة على كفرهم وظلمهم وإجرامهم، كما ينذرهم في الآخرة بالعقاب الأليم.
4-    كونه داعياً إلى الله، فهو يدعو الخلق إلى ربهم، ويأمرهم بعبادته التي خلقوا لها.
5-    كونه سراجاً منيراً، وذلك يقتضي أن الخلق في ظلمة عظيمة، لا نور يُهتدى به في ظلماتها، ولا علم يُستدل به في جهالاتها، حتى جاء الله بهذا النبي الكريم، فأضاء الله به تلك الظلمات، وعلّم به من الجهالات، وهدى به ضُلاّلاً إلى الصراط المستقيم. فأصبح أهل الاستقامة قد وضح لهم الطريق، فمشوا خلف هذا الإمام العظيم والنبي الكريم، فعرفوا به الخير من الشر، واستناروا به لمعرفة معبودهم الحق( ).
8)    قوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الطلاق: 10، 11].
قال السعدي رحمه الله: ((ذكّر الله عباده المؤمنين بما أنزل عليهم من كتابه الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليخرج الخلق من ظلمات الكفر والجهل والمعصية إلى نور العلم والإيمان والطاعة)) ( ) اﻫ.
ولا شك أن تلاوة نبي الرحمة لآيات كتاب الله ليخرج المؤمنين من الظلمات إلى النور من رحمته بهم وشفقته عليهم.
9)    قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].
قال السعدي رحمه الله: ((هذه المنّة التي امتن الله بها على عباده، أكبر النعم، وأصل النعم، وهي الامتنان عليهم بهذا الرسول الكريم الذي أنقذهم الله به من الضلالة، وعصمهم به من الهلكة، يعرفون نسبه وحالله ولسانه، من قومهم وقبيلتهم، ناصحاً لهم، مشفقاً عليهم، يتلو عليهم آيات الله، يعلمهم ألفاظها ومعانيها، ويزكيهم من الشرك والمعاصي والرذائل وسائر مساوئ الأخلاق، ويعلمهم القرآن والسنة، ففاقوا بهذه الأمور العظيمة جميع المخلوقين، وكانوا من العلماء الربانيين، { وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ } بعثة هذا الرسول { لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } لا يعرفون الطريق الموصل إلى ربهم، ولاما يزكي النفوس ويطهرها)) ( ) اﻫ مختصراً.
10)    قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33].
هذه الآية تدل على أن وجود نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام بين أمته أمان لهم من عذاب الله، قال أبوبكر الجزائري في تفسير هذه الآية: ((النبي صلى الله عليه وسلم أمان أمته من العذاب، فلم تُصَب هذه الأمة بعذاب الاستئصال والإبادة الشاملة)) ( ).
عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فقال في آخر سجوده: «رب! ألم تَعِدْني ألا تُعَذِّبهم وأنا فيهم؟ ألم تعدني ألا تعذبهم وهم يستغفرون؟» ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته وقد انجلت الشمس( ).
* * *
 
الباب الثالث
مواقف من رحمة النبي عليه الصلاة والسلام
سيرة النبي صلى الله عليه وسلم كلها رحمة، وقد بلغ الغاية في الرحمة، وبلغ الغاية في الأخلاق الحسنة، قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وقد قال عليه الصلاة والسلام عن نفسه: «إنما بُعِثْتُ لأُتمم صالح الأخلاق»( )، وقال: «إن الله تعالى جعلني عبدًا كريمًا، ولم يجعلني جبارًا عنيدًا»( )، وقال: «إنما بعثت رحمة»( ).
وهذه مواقف مشهورة من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم:
1)    خرج النبي صلى الله عليه وسلم سنة10 من النبوة من مكة إلى الطائف ماشيًا على قدميه ومعه مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه، والطائف تبعد عن مكة نحو ستين ميلاً، فدعا أهل الطائف إلى الله، وأقام فيهم عشرة أيام يدعوهم إلى الله، فطردوه من بلادهم، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم وصبيانهم يسبونه ويرمونه بالحجارة حتى اختضب نعلاه بالدماء( ).
قالت عائشة رضي الله عنها: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحد؟ قال: «لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبدكلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقَرْن الثعالب [اسم مكان]، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملَك الجبال، فسلم عليّ ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين [وهما جبلان عظيمان] فقال نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا»( ).
2)    كان يحرص النبي صلى الله عليه وسلم على دعوة قومه إلى الإسلام رغم شدة الأذى التي كان يلقاها منهم؛ رحمة بهم لينقذهم من النار، ولقد ضربوه مرة حتى غُشي عليه( ).
وكان ينادي الناس في سوق ذي المجاز: «يا أيها الناس! قولوا: لا الله إلا الله؛ تُفلحوا» وأبو جهل يحثي عليه التراب ويقول: يا أيها الناس! لا يغوينكم هذا عن دينكم، فإنما يُريد لتتركوا آلهتكم، ولتتركوا اللات والعُزى، وما يُلتفت إليه صلى الله عليه وسلم ( )،.
ذات يوم كان عليه الصلاة والسلام يُصلي عند الكعبة فوضع المشركون على ظهره سلا جزور [الجلدة التي يكون فيها ولد الناقة عندما يولد] وهو ساجد( ).
ومع إيذائهم الشديد له استمر نبي الرحمة يدعوهم إلى الله حتى قرروا قتله؛ فأمره الله بالهجرة، وقد أقام في مكة ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الله، قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا } [الجن: 19، 20].
قال الحسن البصري رحمه الله: لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا الله إلا الله، ويدعو الناس إلى ربهم» كادت العرب تلبد عليه جميعًا.
وقال قتادة: تلبدت [أي: اجتمعت] الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه فأبى الله إلا أن ينصره ويمضيه ويظهره على من ناوأه( ).
3)    عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبدالله بن أبي أمية، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي طالب: «ياعم! قل: لا الله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله» فقال أبوجهل وعبدالله بن أبي أمية: يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبدالمطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعرضها عليه، ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبوطالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبدالملطب، وأبى أن يقول: لا الله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أما والله! لأستغفرن لك مالم أُنه عنك»؛ فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]؛ وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56] ( ).
4)    عن أنس رضي الله عنه قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال: «أسْلِمْ» فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم. فأسْلَمَ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «الحمد لله الذي أنقذه من النار»( ).
فمن رحمة النبي عليه الصلاة والسلام أنه دعا هذا الغلام الصغير إلى الإسلام، مع كونه لن ينتفع به، وقد كان في مرض موته، فلما أسلم فرح نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام لأنه نجا من النار بإسلامه.
5)    كان النبي عليه الصلاة والسلام حريصًا على بعث الدعاة والمعلمين؛ ليدعوا الناس إلى دين الله، وليعلموا من استجاب منهم شريعة الله، وكان يوصيهم بالتبشير والتيسير، ويحذرهم من التنفير والتعسير، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أمره قال: بشِّروا ولا تُنَفِّروا، ويسِّروا ولا تُعسِّروا»( ).
6)    عن أنس رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا بايعه الناس يُلَقِّنَهم: فيما استطعت»( ).
وهذا من رحمته وشفقته بهم، فإذا بايعوه على الجهاد والنصرة يلقنهم: فيما استطعت، حتى لا يكلفهم ما لا يستطيعونه.
7)    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قدم طُفَيل بن عمرو الدَوسي وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! إن دَوساً عصتْ وأبت [أي: أبت الإسلام] فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوسٌ [أي: لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سيدعو عليها] فقال: «اللهم اهدِ دَوساً، وائت بهم»( ) فهداهم الله وجاءوا مسلمين.
8)    عن أبي واقد رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخف الناس صلاة على الناس، وأطول الناس صلاة لنفسه»( ).
وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحياناً يطيل الصلاة على الناس بما لا يشق على المصلين، فإذا حصلت مشقة على بعضهم ترك التطويل، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي، مما أعلم من شدة وجْد أمه من بكائه»( ).
9)    عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يأنف ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين والعبد حتى يقضي له حاجته»( ).
10)    عن أنس رضي الله عنه أن أعرابياً بال في المسجد، فصاح به الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «دعوه ولا تُزْرِموه» [أي: اتركوه يبول في المسجد، ولا تقطعوا بوله]، فلما فرغ من بوله دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلو من ماء فصبه على بوله»( ).
وفي رواية: «ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن»( ).
فانظر كيف بلغ النبي عليه الصلاة والسلام الغاية في الرحمة والشفقة، والتلطف في التعليم والتوجيه، وكيف علّم أصحابه الرحمة في التعامل مع من كان جاهلاً عملاً بقوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: 17].
11)    عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: «إن فتى شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه، فزجروه، وقالوا: مه مه! فقال رسول الله: «ادنه»، فدنا منه قريباً، فجلس، قال: «أتحبه لأمك؟» قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم» قال: «أتحبه لابنتك؟» قال: لا والله  يا رسول الله  جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لبناتهم» قال: «أفتحبه لأختك؟» قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لأخواتهم» قال: «أفتحبه لعمتك؟» قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لعماتهم» قال: «أفتحبه لخالتك؟» قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لخالاتهم» فوضع يده عليه، وقال: «اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه»، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء»( ) أي: أنه أبغض الزنا، ولم يعد يفكر فيه.
12)    عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه رُفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ابن ابنته وهو يموت، ففاضت عيناه، فقيل له: يا رسول الله! ماهذا؟! فقال: «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء»( ).
13)    عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ابنه إبراهيم رضي الله عنه وهو يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان [تدمعان]، فقيل له: وأنت يا رسول الله؟! فقال: «إنها رحمة»، ثم أتبعها بأخرى فقال: «إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك - يا إبراهيم - لمحزونون»( ).
14)    وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: «اشتكى سعد بن عبادة فعاده النبي صلى الله عليه وسلم فبكى، فلما رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم بكوا»( ).
15)    عن جابر رضي الله عنه قال: «عزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل نجد، فلما رجعنا أدركتنا القائلة [نوم الظهيرة] في واد كثير الشجر، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة وعلّق بها سيفه، وتفرق الناس يستظلون بالشجر، ونمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي فقال: «إن هذا اخترط عليّ سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتاً، فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله»، ولم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ).
فهذا الرجل كان يريد أن يقتل النبي عليه الصلاة والسلام، ثم سقط السيف من يده عندما أجابه النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله سيمنعه من قتله؛ فأخذ نبي الرحمة السيف وعفا عنه مع القدرة على قتله أو أسره.
16)    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية قِبَل نجد، فجاءت بثُمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أطلقوا ثمامة» فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا الله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وقال: يا محمد! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلي( ).
هذا الأسير كان سيد أهل اليمامة، وقد عرض على النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه ما شاء من المال ليفدي نفسه، ولكن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم منّ عليه وأطلقه من الأسر بلا فداء، وكان ذلك بعد ثلاثة أيام من ربطه في المسجد.
17)    كان عبدالله بن أُبَيّ ابن سَلول رأس المنافقين، وتاريخه مليء بإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم في نفسه وعرضه، والكيد بالمسلمين، ومظاهرة المشركين، ولكنه كان يظهر الإسلام مع إبطانه الكفر، فقَبِل منه النبي صلى الله عليه وسلم ظاهره، ووكل باطنه إلى الله، وقد طُلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتله أكثر من مرة فأبى، وصبر عليه حتى مات. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «لما توفي عبدالله بن أبي جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه قميصه، وأمره أن يكفنه فيه، ثم قام يصلي عليه، فأخذ عمر بن الخطاب بثوبه فقال: تصلي عليه وهو منافق، وقد نهاك الله أن تستغفرلهم؟! قال: «إنما خيرني الله فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 80] فقال: سأزيده على سبعين! فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلينا معه ثم أنزل الله عليه: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } [التوبة: 84] ( ).
18)    عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا أتاه الفيء قسمه في يومه، فأعطى الآهل حظين، وأعطى العزب حظاً»( ).
الفيء هو: ما يغنمه المسلمون بغير قتال، فمن رحمته عليه الصلاة والسلام أنه كان يُعجِّل بقسمته بين أصحابه في يوم مجيئه، ولا يؤخره عنهم، ومن رحمته أيضاً أنه كان يجعل للمتزوج حظين؛ رحمة بزوجته وأولاده؛ لأن نفقاته أكثر من العازب.
19)    عن أنس رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يزور الأنصار، ويُسَلِّم على صبيانهم، ويمسح رءوسهم»( ).
وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يأتي ضعفاء المسلمين، ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم»( ).
وعن جابر رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتخلف في المسير، فيزجي الضعيف، ويردف، ويدعو لهم»( ).
أي: كان يتأخر خلف الجيش حال السفر، فيسوق الضعيف، ويركبه معه على ناقته، يفعل هذا وهو قائد الجيش عليه الصلاة والسلام، ويمكنه أن يأمر أحدًا من أصحابه أن يفعل ذلك!
20)    عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا في غزوة بدر كل ثلاثة منا على بعير، وكان علي وأبولبابة زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان عقبة النبي صلى الله عليه وسلم [أي: دوره في المشي] قالا: اركب  يا رسول الله  حتى نمشي عنك، فيقول: «ما أنتما بأقوى على المشي مني، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما»( ).

* * *
 
الباب الرابع
حث النبي عليه الصلاة والسلام أمته على الرحمة
الفصل الأول
أحاديث عامة في الترغيب في الرحمة
ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة جدًا في الترغيب في الرحمة، ومدح أهلها، وذم من لم يتصف بها، نذكر منها ما يلي:
1)    عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»( ).
2)    عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تُنْزَع الرحمة إلا من شقِي»( ).
3)    عن عمرو بن حبيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «خاب عبدٌ وخسِر لم يجعل الله تعالى في قلبه رحمة للبشر»( ).
4)    عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «حُرِّم على النار كل هيّنٍ ليّنٍ سهلٍ قريبٍ من الناس»( ).
قوله: «هين» أي: ساكن متئد رفيق.
5)    عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من رحم ذبيحةً رحمه الله يوم القيامة»( ).
6)    عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن الله رفيق يُحب الرفق، ويُعطي على الرفق ما لا يُعطي على العنف، ومالا يُعطي على ما سواه»( ).
7)    عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه»( ).
8)    عن جرير بن عبدالله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من يُحرم الرفق يُحرم الخير»( ).
9)    عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة، وألين قلوبًا، الإيمان يمان، والحكمة يمانية»( ).
10)    عن خالد بن الوليد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أشد الناس عذابًا للناس في الدنيا، أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة»( ).

* * *
 
الفصل الثاني
الرحمة بالنفس
جاءت شريعة النبي صلى الله عليه وسلم بالحفاظ على نفس الإنسان، والرحمة بها، وجلب ما يهديها ويصلحها ويُسعدها، ودفع ما يضلها ويفسدها ويشقيها، وقد علَّم النبيُ صلى الله عليه وسلم أمته أنه يجب على المسلم أن يُحافظ على نفسه ويرحمها، ويسعى في أسباب صلاحها في دينها ودنياها؛ ليسعد في هذه الدنيا، ويحيا فيها حياة مطمئنة كريمة، ولينجو في الآخرة من عذاب النار، ويدخل الجنة مع الأبرار.
والأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الرحمة بالنفس كثيرة جدًا، وسأذكر فيما يلي بعضًا منها:
1)    عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبدالله! ألم أُخبر أنك تصوم النهار، وتقوم الليل؟» قلت: بلى يا رسول الله! قال: «فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإنّ لجسدك عليك حقًا، وإنّ لعينيك عليك حقًا، وإنّ لزوجك عليك حقًا، وإنّ لزورك [أي: زائرك] عليك حقًا»( ).
2)    عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبِرُوا كأنهم تقالّوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأُصلي الليل أبدًا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر أبدًا ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأُفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سُنتي فليس مني»( ).
3)    عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة [أي: تاركة لثياب الزينة]، فقال لها: ما شأنك؟! قالت: أخوك أبوالدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبوالدرداء فصنع له طعامًا فقال له: كل فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبوالدرداء يقوم فقال: نم، فنام ثم ذهب يقوم فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن. فصلَّيا، فقال له سلمان: إنّ لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه. فأتى أبوالدرداء النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «صدق سلمان»( ).
4)    عندما تاب كعب بن مالك وتاب الله عليه قال: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول صلى الله عليه وسلم: «أمسِك بعض مالك، فهو خير لك»( ).
فهذا الصحابي أراد أن يتصدق بجميع ماله، ولكن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم أمره أن يمسك بعض ماله، ولا يتصدق به كله؛ رحمة بنفسه، فالمال الحلال خير للرجل الصالح.
5)    عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا أعطى الله أحدكم خيرًا فليبدأ بنفسه وأهل بيته»( ).
6)    عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا»( ).
أي: فتصدق بالمال الفائض يمينًا وشمالاً في غير الأقربين بعد أن تحسن إلى نفسك وأهلك وأقاربك.
7)    عن زهير بن أبي علقمة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا آتاك الله مالاً فليُرَ عليك، فإن الله يحب أن يُرى أثرُه على عبده حسنًا، ولا يحب البؤس ولا التباؤس»( ).
أي: التفاقر وإظهار تخَشُّع الفقراء.
8)    عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه: يتعرض للبلاء لما لا يطيق»( ).
9)    عن يسار بن عبيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لا بأس بالغنى لمن اتقى، والصحة لمن اتقى خير من الغنى، وطِيْب النفس من النعيم»( ).
10)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كُلٍ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان»( ).
أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلم أن يحرص على كل ما ينفعه في دينه ودنياه، وهذه الوصية عظيمة تدخل فيها أشياء كثيرة جدًا.
وهذه الأحاديث -وغيرها مما لم أذكرها- تبين أن المسلم مأمور أن يرحم نفسه، وهو يؤجر على كل إحسان يحسن به إلى نفسه إذا نوى ذلك واحتسبه، فإذا كان جائعًا فأطعم نفسه كان له أجر، وكذلك إذا كان عطشانًا فشرب، أو متعبًا فنام أو استراح، أو مريضًا فتداوى... إلى غير ذلك.
ومن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالنفس أنه يحل الطيبات من أنواع المآكل والمشارب والمستلذات، ويحرم الخبائث التي تضر الصحة، وتجلب للنفس المضرة، فحرم بأمر الله الخمر والخنزير والميتة والدم، وحرم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير.
وهكذا حرم بأمر الله الزنا واللواط وإتيان المرأة في دبرها أو وهي حائض أو نفساء، وكل هذه أمور خبيثة محرمة في جمع الشرائع السماوية، وأضرارها كثيرة، ومفاسدها عديدة، وتحريم النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الخبائث رحمة بنفس الإنسان.
ومن الأحاديث الواردة في الرحمة بالنفس أحاديث التداوي وحفظ الصحة وهي كثيرة جدًا، ومنها ما يلي:
1)    عن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا عباد الله! تداووا، فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له دواء، غير داء واحد: الهرم»( ).
أي: كِبَر السن.
2)    عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «عليكم بألبان البقر، فإنها دواء، وسمنها شفاء»( ).
3)    عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «عليكم بالإثْمِد عند النوم، فإنه يجلو البصر»( ).
الإثمد:كحل معروف.
4)    عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام»( ).
أي: الموت.
5)    عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة مِحْجَم، وكيّة نار، وأنهى أمتي عن الكي»( ).
فالعسل والحجامة والكي فيهن شفاء، لكن الكي فيه إيلام للنفس؛ فنهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم رحمة بالنفس، وهذا النهي للكراهة، فإن كان المرض شديداً ولن يزول إلا بالكي، فآخر العلاج الكي، وقد كوى النبيُ صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ بيده الشريفة( ) وبعث إلى أبي بن كعب طبيباً فقطع منه عرقاً ثم كواه عليه( ).
ومن الأحاديث الواردة في الرحمة بالنفس أحاديث الطهارة والنظافة، فنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم جاء بالطهارة والنظافة، قال الله تعالى: {وثيابك فَطَهِّر} [المدثر:4]، وقد شرع الله الوضوء عند القيام لكل صلاة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6].
فالمسلم يتوضأ كل يوم خمس مرات، ويجب عليه أن يغتسل لكل جنابة، ويجب على الحائض إذا طهرت من الدم أن تغتسل، ولا يجوز لزوجها أن يطأها حتى تغتسل قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].
والمراد باعتزال النساء في المحيض اعتزال جماعهن، وليس اعتزال معاشرتهن، فقد قال نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح»( ).
وهكذا يجب على المسلم أن يستنجي بالماء، ويستجمر بالأحجار أو نحوها كالمناديل بعد البول أو الغائط.
ويشرع لمن أسلم أن يغتسل، ومن توفي من المسلمين وجب غسله وتكفينه، فالإسلام دين الطهارة من البداية إلى النهاية، ظاهراً بتطهير الأعضاء من النجاسات والأوساخ، وباطناً بتطهير القلب من الشرك والأخلاق الرذيلة، وأحاديث الطهارة والنظافة كثيرة جداً، وهي تدل على رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالنفس، وأقتصر على ذكر ما يلي منها:
1)    عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم [أي: بالغ]، وأن يَسْتَنَّ [أي: يستعمل السواك]، وأن يمس طيباً إن وجد»( ).
2)    عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «عليكم بالسواك، فإنه مطيبة للفم، مرضاة للرب»( ).
3)    عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «حبذا المتخلِّلون من أمتي»( ).
أي: الذين يخللون أسنانهم من آثار الطعام، ويخللون أصابع أيديهم وأرجلهم عند الوضوء.
4)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «خمس من الفطرة: الخِتان، والاستحداد [أي: حلق العانة]، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وقص الشارب»( ).
5)    عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «طهِّروا أفنيتكم، فإن اليهود لا تطهر أفنيتها»( ).
هذه بعض الأحاديث الواردة في الرحمة بالنفس من حيث الطهارة والنظافة.

ومن الأحاديث الواردة في الرحمة بالنفس أحاديث الحث على العمل والكسب، وأحاديث الزجر عن البطالة وسؤال الناس، ومن تلك الأحاديث ما يلي:
1-    عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يأتي الجبل، فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها، فيكف الله بها وجهه؛ خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه»( ).
2-    عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود صلى الله عليه وسلم كان يأكل من عمل يده»( ).
3-    عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة»( ).  هذا الحديث فيه الحث على الزراعة.
4-    عن حكيم بن حزام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة ماكان عن ظهر غنى، ومن يستعْفِف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله»( ).
اليد العليا هي يد المعطي، والسفلى هي يد السائل، وقوله: «يستعفف»: أي يطلب العفة، وهي: الكف عن الحرام وعن سؤال الناس، وقوله: «يستغن» أي: يطلب الغنى من الله تعالى لا من الناس.
5-    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من سأل الناس تكثراً [أي: ليكثر ماله] فإنما يسأل جمراً، فليستقل أو ليستكثر»( ).
هذه الأحاديث فيها الحث على العمل والكسب، وفي ذلك رحمة بالنفس، حيث تستغني عن صدقات الناس، ولا تتطلع إلى مافي أيديهم، وبهذا يكون الإنسان عزيزاً عفيفاً، وقد جاءت شريعة نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم بذلك:
 قال الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].
وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].
وقال سبحانه: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 11].
وقال سبحانه: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10].
فنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم جاء بصلاح الدين والدنيا، ومن الأدعية القرآنية: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [البقرة: 201]، ومن أدعية النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم أصلح لي ديني الذي هو عِصْمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر»( ).
وهذا كله مما يبين رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالنفس، وأنه جاء بصلاحها وسعادتها في الدنيا والآخرة.
* * *

 
الفصل الثالث
الرحمة بالناس عموماً
كما حث النبي صلى الله عليه وسلم المسلم أن يرحم نفسه، فقد حثه أن يرحم غيره، والأحاديث الثابته عن نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم في الرحمة بالناس عموماً كثيرة جداً، ويعجز الإنسان عن حصرها، وسأذكر هنا ما تيسر منها:
1)    عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»( ).
2)    عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «أَحَبُّ الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهراً، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً –ولوشاء أن يمضيه أمضاه- ملأ الله قلبه رضا يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له، أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخلُ العسل»( ).
3)    عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَحِبْ للناس ما تحب لنفسك تكن مسلماً»( ).
4)    عن جرير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من لا يرحم الناسَ لا يرحمه الله»( ).
5)    عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»( ).
6)    عن رجل من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:«لا يحل لمسلم أن يروِّع مسلماً»( ).
أي: يفزعه ويخيفه سواء كان جاداً أو هازلاً.
7)    عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أكبر الكبائر: الإشراك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور»( ).
فجعل نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم قتل النفس بغير حق من أكبر الكبائر.
8)    عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرحل في أرض الضلال [أي: التائه] صدقة، وإماطتك الحجر والشوك عن الطريق صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة»( ).
9)    عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وكونوا إخواناً كما أمركم الله»( ).
10)    عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي الإسلام خير؟ قال: «تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف»( ).
11)    عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المسلمين أفضل؟ قال: «من سَلِم المسلمون من لسانه ويده»( ).


12)    عن سعد بن عبادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «أفضل الصدقة سقي الماء»( ).
13)    عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «كل معروف صنعته إلى غني أو فقير فهو صدقة»( ).
14)    عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط، وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك»( ).
15)    عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «اسمح يُسْمَح لك»( ).
أي: اسمح لمن أساء في حقك، يسمح الله لك فيما أخطأت في حقه.
16)    عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى»( ).
معنى «اقتضى» أي: طلب الدَّين الذي له، فيطلبه برفق وسهولة.
17)    عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا [أي: لا تتقاطعوا] وكونوا –عباد الله- إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام»( ).
أي: إذا أساء مسلم إلى آخر، فلا يجوز له أن يهجره إلا ثلاثة أيام حتى يزول ما في نفسه، ثم يجب عليهما أن يصطلحا، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1].
18)    عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»( ).
19)    عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يدخل الإيمانُ في قلبه! لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم يتتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله»( ) أي: ولو في بيته.
20)    عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «أجيبوا الداعي، ولاتردوا الهدية، ولا تضربوا المسلمين»( ).
21)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه»( ).
22)    عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»، فقال رجل: يا رسول الله! إذا كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: «تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره»( ).
23)    عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»( ).
24)    عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى يختلطوا بالناس، من أجل أن ذلك يحزنه»( ).
25)    عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا مر أحدكم في مسجدنا أوفي سوقنا ومعه نبل فليمسك على نصالها أن يصيب أحداً من المسلمين منها بشيء»( ).
26)    عن حَنيفة الرقاشي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه»( ).
27)    عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا»( ).
28)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لا يوردن ممرض على مصح»( ).
    أي: حتى لا يعدي غيره بمرضه، فقد ينتقل المرض إلى الأصحاء بالعدوى إذا قدّر الله ذلك.
29)    عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لا ضرر ولاضرار»( ).
    أي: لا تضر الناس أبداً سواء بشيء لك فيه مصلحة أو لا، قال الشيخ السعدي رحمه الله: ((الضرر منفي شرعاً، فلا يحل لمسلم أن يضر أخاه المسلم بقول أو فعل أو سبب بغير حق، وسواء كان له في ذلك نوع منفعة أم لا)) ( ) اﻫ.
30)    عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لن تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على ما تحابوا عليه؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: «أفشوا السلام بينكم، تحابوا. والذي نفسي بيده! لا تدخلوا الجنة حتى تراحموا» قالوا: يا رسول الله! كلنا رحيم، قال: «إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكن رحمة العامة، رحمة العامة»( ).
    ونحو هذا الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «والذي نفسي بيده! لا يضع الله رحمته إلا على رحيم، قالوا: يا رسول الله! كلنا يرحم، قال: ليس برحمة أحدكم صاحبه، يرحم الناس كافة»( ).

* * *
 
الفصل الرابع
الرحمة بالوالدين
للوالدين حق عظيم في الإسلام، وقد قرن الله حقهما بحقه في آيات كثيرة في القرآن، قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36]، وقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23، 24]، وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 14، 15].
والأحاديث الثابتة عن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم في الرحمة بالوالدين، والإحسان إليهما، والتحذير من عقوقهما كثيرة منها:
1)    عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: «الصلاة على وقتها» قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين» قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله»( ).
2)    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك»، قال: ثم من؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال «أمك» قال: ثم من؟ قال: «أبوك»( ).
3)    عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، قال: «أحي والداك؟» قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد»( ).


4)    عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لرجل: «ارجع إلى أبويك فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما»( ).
5)    عن جاهمة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك، فقال: «هل لك من أم؟» قال: نعم، قال: «الزمها فإن الجنة تحت رجليها»( ).
6)    عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: جاء رجل فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبواي يبكيان، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما»( ).
7)    عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: «قَدِمَتْ علي أمي وهي مشركة، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: «نعم، صلي أمك»( ).
8)    عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لا يدخل الجنة عاق»( ).
9)    عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أكبر الكبائر: الإشراك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور»( ).
10)    عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد»( ).

* * *

 
الفصل الخامس
الرحمة بالنساء
كانت المرأة قبل بعثة نبي الرحمة مهانة عند جميع أمم الأرض من العرب والروم والفرس والهند والصين والسودان وغيرهم، كانت مظلومة لا تعطى حقوقها، ولا تراعى كرامتها، فجاء النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالرحمة بالنساء، وأعطى للمرأة حقوقها سواء كانت أماً أو زوجة أو بنتاً أو أختاً أو غير ذلك، وقد تقدم في الفصل السابق ذكر الرحمة بالأم، وسأذكر هنا بعض الأحاديث الواردة في الرحمة بالزوجة والبنات والأخوات وعموم النساء:
1)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «استوصوا بالنساء خيراً»( ). أي: ليوصي بعضكم بعضاً بالنساء خيراً.
2)    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً، وخياركم خياركم لنسائهم»( ).
3)    عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: «أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولاتُقَبِّح، ولا تهجر إلا في البيت»( ).
معنى «لا تقبح» أي: لا تقل لها: قبحك الله! وتسبها.
4)    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يَفْرُك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خُلُقاً رضي منها غيره»( ).
لا يفرك أي: لا يبغض.
5)    عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن أحق الشروط أن تُوَفُّوا به ما استحللتم به الفروج»( ).
هذا الحديث يعطي للمرأة قبل زواجها الحق في اشتراط ما شاءت من الأمور المباحة، وعلى زوجها أن يفي بذلك، فلها أن تشترط أن يسكنها في منزل بصفة معينة أو في مكان معين، ولها أن تشترط ألا يسافر بها من مدينتها أو قريتها، ولها أن تشترط أن تكمل دراستها أو يسمح لها بأداء عملها خارج البيت... إلى غير ذلك.
ورجح كثير من العلماء أن لها أن تشترط عليه ألا يتزوج عليها، فإذا قبل ما اشترطت عليه فإنه يلزم شرعاً وقضاء أن يفي به( ).
6)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إني أُحرِّج عليكم حق الضعيفين: اليتيم والمرأة»( ).
قال النووي رحمه الله: ((معنى «أُحرِّج» أي: أُلحق الحرج -وهو الإثم- بمن ضيع حقهما، وأحذر من ذلك تحذيراً بليغاً، وأزجر عنه زجراً أكيداً ))( ).
ويدخل في قوله: «المرأة»: الأم والزوجة والبنت والأخت وسائر النساء، فيحرم ظلمهن، والتقصير فيما يجب لهن، والتهاون في حقوقهن.
7)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار»( ).
الأرملة هي: المرأة التي توفي زوجها، ويدخل في قوله: «المسكين» المرأة المسكينة سواء كانت قريبة النسب أو بعيدة، فالساعي على هؤلاء الذي يطلب الرزق ليطعمهم ويكسيهم ويقضي حاجاتهم أجره كأجر المجاهد في سبيل الله أو أجر من يصلي في الليل ويصوم النهار.
وهذا الحديث فيه حث عظيم وترغيب كبير في الرحمة بالأرملة والمسكين.
8)    عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من عال جاريتين حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو» وضم أصابعه ( ).
أي: من عال ابنتين له أو لغيره، وأحسن إليهما حتى تبلغا سن الزواج، بُعِث يوم القيامة وهو مع النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الحديث فيه حث عظيم على الرحمة بالبنات والنفقة عليهن.
9)    عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من كان له ثلاث بنات، فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن وكساهن من جِدَتِه [أي: من غناه]؛ كن له حجاباً من النار يوم القيامة»( ).
وإنما خص نبي الرحمة البنات بالذِّكْر لأن كثيراً من الناس يكره البنات، ويفرح بالذَّكَر مالايفرح بالبنت، وقد قال نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام: «لا تكرهوا البنات، فإنهن المؤنسات الغاليات»( ).
10)    عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إنما النساء شقائق الرجال»( ).
قال ابن الأثير: أي: نظائرهم وأمثالهم كأنهن شققن منهم، ولأن حواء خُلِقَت من آدم عليه الصلاة والسلام( ).

* * *

 
الفصل السادس
الرحمة بالأولاد
كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أرحم الناس بالعيال( )، وقد ثبتت عنه أحاديث كثيرة في الرحمة بالأطفال ذكوراً وإناثاً، ومن هذه الأحاديث:
1)    عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق كبيرنا، فليس منا»( ).
2)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الأقرع بن حابس أبصر النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنه من لا يَرحم لا يُرحم»( ).
3)    عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتُقَبِّلون صبيانكم؟! فقالوا: نعم، فقالوا: لكنا -والله- ما نُقَبِّل، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أوَ أمِلك إن كان الله نزع منكم الرحمة؟!»( ).
4)    عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كفى بالمرء إثماً أن يُضيِّع من يقوت»( ).
أي: يترك النفقة على من تلزمه النفقة عليهم كالأولاد الصغار.
5)    عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أفضل دينار ينفقه الرجل: دينار ينفقه على عياله»( ).
6)    عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لا تدعوا على أولادكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم»( ).

7)    عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ما من الناس من مسلم يتوفى له ثلاثة لم يبلغوا إلا أدخله الله الجنة، بفضل رحمته إياهم»( ).
8)    عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال له: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة [أي: فقراء] يتكَفَّفون الناس»( ) أي:يسألونهم.
وسبب هذا الحديث أن سعدًا رضي الله عنه استأذن النبيَ صلى الله عليه وسلم أن يوصي بماله كله في مرضه، فمنعه النبيُ صلى الله عليه وسلم من ذلك، ثم استأذنه أن يوصي بثلثي ماله، فمنعه، ثم استأذنه أن يوصي بنصف ماله، فمنعه، ثم استأذنه أن يوصي بثلث ماله، فرخص له النبي صلى الله عليه وسلم وقال له ذلك.
9)    عن أنس رضي الله عنه قال: كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل، فجاء ابن له فقبَّله وأجلسه على فخذه، ثم جاءت بنت له فأجلسها إلى جنبه، فقال: «فهلا عدلت بينهما؟!»( ).
أي: في التقبيل والجلوس على فخذك.
10)    عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «سألت ربي ألا يعذب اللاهين من البشر، فأعطانيهم»( ).
أي: سأل نبي الرحمة الله تعالى ألا يعذب يوم القيامة الأطفال وإن كانوا من أطفال المشركين؛ فاستجاب الله دعوته، وهذا من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالأطفال.
ويلحق بهذا الفصل الرحمة باليتامى، وقد أمر الله في كتابه بالإحسان إليهم فقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى } [النساء: 36]، وقال: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} [الضحى: 9]، وقال: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].
وقد صحت عن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في الرحمة باليتامى منها:
1)    عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «أتحب أن يلين قلبك، وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك؛ يلِنْ قلبك، وتدرك حاجتك»( ).
2)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال له: «إذا أردت أن يلين قلبك، فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم»( ).
3)    عن سهل بن سعد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا» وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى( ).
4)    عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أنا وكافل اليتيم له أو لغيره في الجنة»( )أي: سواء كان اليتيم من أقاربه أو غيرهم.
5)    عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إني أُحَرِّج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة»( ).

* * *

 
الفصل السابع
الرحمة بالأهل والأقارب
الأحاديث التي تدل على رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالأهل والأقارب -وهم الأرحام- كثيرة منها:
1)    عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»( ).
2)    عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «اتقوا الله، وصِلُوا أرحامكم»( ).
3)    عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «بُلُّوا أرحامكم ولو بالسلام»( ).
أي: صِلوا أرحامكم وأحسنوا إليهم بما تستطيعون، فإن لم تستطيعوا أن تصِلوهم بالمال والفعال فلا أقل من أن تصِلوهم بالسلام.
4)    عن أبي مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «نفقة الرجل على أهله صدقة»( ).
5)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «دينار أنفقته في سبيل الله [أي: في الجهاد]، ودينار أنفقته في رقبة [أي: في عتق مملوك]، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك؛ أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك»( ).
6)    عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحِمه وصلها»( ).
أي: ليست صلة الرحم أن تصلهم إذا وصلوك، بل الصلة أن تصلهم إذا قطعوك، وتحسن إليهم إذا أساءوا إليك.
7)    عن جُبير بن مطعِم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لا يدخل الجنة قاطع رحِم»( ).
8)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلْيَصِلْ رَحِمَه»( ).
9)    عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا قضى أحدكم حجه فليعجل الرجوع إلى أهله، فإنه أعظم لأجره»( ).
هذا الحديث فيه حث من غاب عن أهله أن يعجل الرجوع إليهم بعد أن يقضي حاجته، ولو كان في سفر عبادة؛ لكونهم يشتاقون إلى رجوعه، ويشق عليهم طول غيابه، وهذا من رحمة النبي عليه الصلاة والسلام بالأهل والأقارب.
10)    عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون [أي: شباب متقاربون في السن]، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رقيقاً، فظن أنا قد اشتقنا أهلنا، فسألنا عمن تركنا من أهلنا، فأخبرناه، فقال: «ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعلموهم»( ).

* * *

 
الفصل الثامن
الرحمة بالضعفاء وكبار السن
تكاثرت الأحاديث عن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم في الرحمة بالضعفاء وكبار السن، ومن هذه الأحاديث:
1)    عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ابْغُوني الضعفاء، فإنما تُرْزَقون وتُنْصَرون بضعفائكم»( ).
أي: من أراد أن تكون له منزلة عندي، فليحسن إلى الضعفاء، فإن الله يرزقكم وينصركم بسبب ضعفائكم.
2)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إذا أم أحدُكم الناسَ فليخفف، فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف والمريض، فإذا صلى وحده فليصل كيف شاء»( ).
3)    عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «صل بصلاة أضعف القوم»( ).
4)    عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنت إمامهم [أي: إمام قومك]، واقتد بأضعفهم»( ).
5)    عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لولا ضعف الضعيف، وسقم السقيم، لأخرت صلاة العتمة»( ).
أي: لصلى صلاة العشاء في آخر وقتها قبل منتصف الليل، لكنه عليه الصلاة والسلام ترك تأخيرها رحمة بالضعفاء، فكان يصليها بعد أن يذهب الشفَق الأحمر، ويؤخرها قليلاً بما لا يشق على المصلين.
6)    عن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يأتي ضعفاء المسلمين، ويزورهم»( ).
7)    عن جابر رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتخلف في المسير فيزجي الضعيف، ويردف، ويدعو لهم»( ).
أي: يتأخر خلف الجيش حال السفر، فيسوق الضعيف المتخلف وراء الجيش لضعفه أو مرضه، فيركبه معه على ناقته، وهو بهذا يمتثل قول الله عز وجل له: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88].
8)    عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا»( ).
9)    عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم»( ).
أي: من تعظيم الله إكرام كبير السن المسلم.
10)    عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «البَرَكة مع أكابركم»( ).
    البركة هي: ثبوت الخير وزيادته، وفي هذا الحديث حث على إكرام كبار السن وتعظيمهم ومشاورتهم والأخذ بنصائحهم.

* * *

 
الفصل التاسع
الرحمة بالمرضى
وردت أحاديث كثيرة في الرحمة بالمرضى، والحث على تداويهم، ومن هذه الأحاديث:
1)    عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد لله فشمته [أي: قل له: يرحمك الله]، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه»( ).
2)    عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «فُكُّوا العاني [أي: الأسير]، وأجيبوا الداعي، وأطعموا الجائع، وعودوا المريض»( ).
3)    عن رجل من الأنصار قال: عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً به جرح، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ادعوا له طبيب بني فلان» قال: فدعوه فجاء، فقال: يا رسول الله! ويغني الدواء شيئاً؟ فقال: «سبحان الله! وهل أنزل الله من داء في الأرض إلا جعل له شفاء؟!»( ).
4)    عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد مريضاً فقال: «ألا تدعوا له طبيباً؟ قالوا: يا رسول الله! وأنت تأمرنا بهذا؟ قال: «إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل معه دواء»( ).
5)    عن أم الدرداء رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن الله خلق الداء والدواء، فتتداووا، ولاتتداووا بحرام»( ).
6)    عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «ما أنزل الله داء، إلا قد أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله»( ).
هذا الحديث فيه حث على تعلم الطب، والبحث عن علاج الأمراض؛ رحمة بالمرضى.
7)    عن عبد الله عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من تطبب ولم يُعلم منه طب فهو ضامن»( ).
هذا الحديث فيه الرحمة بالمرضى حيث جعل نبي الرحمة الطبيب يتحمل المسئولية إذا لم يكن عالماً بالطب؛ حتى لا يتعدى أحد الأطباء على المرضى.
8)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام»( )، وهو الموت.
9)    عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن أفضل ماتداويتم به الحجامة»( ).
10)    عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «شفاء عِرْق النَّسَاء [مرض معروف] إلية شاة أعرابية تُذاب، ثم تجزأ ثلاثة أجزاء، ثم تشرب على الريق، كل يوم جزء»( ).
قال المناوي في "فيض القدير": قال أنس: وصفته لثلاثمائة نفس كلهم يعافى. وهذا خطاب لأهل الحجاز ونحوهم فإن هذا العلاج ينفعهم، إذ المرض يحدث من يبس، وقد يحصل من مادة غليظة لزجة، وفي الألية إنضاج وتليين، والمرض يحتاجها، وخص الشاة الأعرابية [وهي التي تعيش في البادية] لقلة فضولها، ولطف جوهرها، وطيب مرعاها( ).اﻫ

* * *

 
الفصل العاشر
الرحمة بالمساكين
جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة بالمساكين، وقد أنزل الله عليه قوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ } [الإسراء: 26]، وقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [النساء: 36]، وابن السبيل هو المسافر الذي انقطعت به النفقة، وهو من جملة المساكين، والأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الرحمة بالمساكين كثيرة منها:
1)    عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار»( ).
هذا الحديث فيه ترغيب عظيم في النفقة على المساكين.
2)    عن صهيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «خيركم من أطعم الطعام»( ).
3)    عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «شر الطعام طعام الوليمة، يمنعها من يأتيها [أي: الفقراء]، ويدعى إليها من يأباها»( ).
4)    عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: «إدخالك السرور على مؤمن، أَشْبَعت جوعته أو كسوت عورته أو قضيت حاجته»( ).
5)    عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء، فهكذا وهكذا» يقول: فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك( ).
6)    عن جرير بن عبدالله رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه قوم حفاة عراة، فتمعّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بهم من الفاقة [أي: تغير وجهه حزناً لم بهم من الفقر]، فصلى بالناس ثم خطب فقال: «تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، ولو بشق تمرة [أي: نصف تمرة]» قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل ( ).
7)    عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيراً فنفح فيه عن يمينه وشماله وبين يديه ووراءه، وعمل فيه خيراً»( ).
8)    عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لهم في سفر: «من كان معه فضل ظهر [أي: زيادة في المركوب] فليعد به على من لا ظهر له، [أي: فليتصدق بالزيادة على من لا مركوب له]، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له»( ).
9)    عن الحسين بن علي رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن الجداد بالليل، والحصاد بالليل»( ).
أي: نهى عن قطع ثمرة النخيل وحصاد الزرع في الليل، بل يكون ذلك في النهار، حتى يأتي المساكين فيتصدقون عليهم، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267].
10)    عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «بُنِي الإسلامُ على خمس: شهادة أن لاالله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت»( ).
هذه هي أركان الإسلام، ومنها إيتاء الزكاة، تؤخذ من الأغنياء وترد على الفقراء، وهي واجبة في الإبل والبقر والغنم، وفي الذهب والفضة وما يقوم مقامهما من الأوراق النقدية، وفي الحبوب والثمار، ولها أحكام معلومة، وهي من محاسن الإسلام، حيث يؤخذ جزء يسير من مال الغني ليعطى للفقير المحروم، وهذا الجزء المأخوذ لا يضر بمال الغني، بل فيه طهارة لمالله ونفسه، قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103].
وللمساكين في الشريعة الإسلامية مصادر كثيرة يرزقون منها، ومن هذه المصادر:
1)    الزكاة الواجبة.
2)    الصدقات المستحبة.
3)    الغنيمة، فللمساكين حق معلوم مما يغنمه المجاهدون في سبيل الله.
4)    الفيء، وهو ما يغنمه المسلمون من أموال الكفار بلا قتال، فللمساكين نصيب معلوم منه.
5)    الكفارات، فكثير من الكفارات فيها إطعام مساكين أوكسوتهم أو التصدق عليهم.

* * *

 
الفصل الحادي عشر
الرحمة بالجار والضيف
الأحاديث الواردة عن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم في الرحمة بالجار والضيف كثيرة منها ما يلي:
1)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «أحسن إلى جارك تكن مؤمناً»( ).
2)    عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه»( ).
3)    عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك»( ).
4)    عن أبي قراد السلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن أحببتم أن يحبكم الله تعالى ورسوله فأدوا إذا ائتُمنتم، واصدقوا إذا حدَّثتم، وأحسِنوا جوار من جاوركم»( ).
5)    عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من كانت له أرض فأراد أن يبيعها فليعرضها على جاره»( ).
ومثل الأرض البيت، فقد يكون للجار رغبة في شراء أرض جاره أو بيت جاره، فمن الرحمة به أن يعرض عليه ذلك.
6)    عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره»( ).
7)    عن أبي شريح رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت»( ).
وفي هذا الحديث إكرام الضيف، ومنشأ إكرام الضيف الرحمة.
8)    عن أبي شريح العدوي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه»( ).
9)    عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لا خير فيمن لا يضيف»( ).
10)    عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! الرجل أمرُّ به فلا يقْرِيني ولا يضيفني، ثم يمر بي أفأجزيه؟ [أي: هل أمنعه حقه من الضيافة كما منعني؟] قال: (لا، بل أقره»( ).
أي: أضفه قاله الترمذي رحمه الله.

* * *

 
الفصل الثاني عشر
الرحمة بالأصحاب
وردت أحاديث كثيرة عن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم في الرحمة بالأصحاب، منها ما يلي:
1)    عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلْق»( ) أي: منبسط.
2)    عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه»( ).
3)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «تهادوا تحابوا»( ).
4)    عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «المؤمن يألَف ويُؤلف [أي: أنه حسن العشرة للأصحاب]، ولا خير فيمن لا يَألف ولا يُؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس»( ).
5)    عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يحل للمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام»( ).
أي:إذا حصل بين الصاحبين خصام، فيجب عليهما أن يصطلحا، ورخص النبي عليه الصلاة والسلام لهما في التهاجر ثلاثة أيام، حتى يزول مافي أنفسهما، والهجر بعد الثلاثة الأيام حرام، بل ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه»( ) أي: في الإثم.
6)    عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «المؤمن مِرْآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه»( ).
 قال في "عون المعبود": ((أي: إنما يعلم الشخص عيب نفسه بإعلام أخيه كما يعلم خلل وجهه بالنظر في المرآة (يكف عليه ضيعته) أي: يمنع تلفه وخسرانه، قال في "النهاية": وضيعة الرجل ما يكون من معاشه كالصنعة والتجارة والزراعة وغير ذلك، أي: يجمع إليه معيشته ويضمها له (يحوطه من ورائه) أي: يحفظه وصونه ويذب عنه بقدر الطاقة))( ).اﻫ
7)    عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من ذب عن عرض أخيه بالغَيبة، كان حقاً على الله أن يعتقه من النار»( ).
أي: من دافع عن عرض أخيه وهو غائب، بأن سمع من يغتابه ويطعن فيه؛ فرد عليه، ونصر صاحبه، فجزاؤه أن يُعتقه الله من النار يوم القيامة إن كان من المسلمين.
8)    عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال رجل: يا رسول الله! إذا كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: «تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره»( ).
9)    عن السائب بن يزيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يأخذ أحدكم متاع صاحبه لا عباً ولا جاداً، وإن أخذ عصا صاحبه فليردها عليه»( ).
10)    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من النار»( ).
أي: لا يشير إلى أخيه بالسلاح سواء كان جاداً أو لاعباً، فلعله يصيبه فيجرحه أو يقتله فيستحق دخول النار.
* * *
 
الفصل الثالث عشر
الرحمة بالعصاة
أرسل الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، حتى للعصاة والمذنبين، وقد أمره الله أن ينادي الذين أسرفوا على أنفسهم بالكفر والمعاصي بقوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، والأحاديث الواردة عن نبي الرحمة ونبي التوبة عليه الصلاة والسلام في الرحمة بالعصاة كثيرة منها:
1)    عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون»( ).
2)    عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»( ).
3)    عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن الله يقبل توبة العبد مالم يغرغر»( ).
 أي: مالم يحضره الموت، فمن تاب من أي ذنب سواء كان كفراً أو معصية كبيرة أو صغيرة فإنه كمن لا ذنب له، فلا يُعيَّر بذنبه في الدنيا، ولا يؤاخذ به في الآخرة، فالتوبة تمحو ما قبلها، بل يبدل الله سيئات المذنبين حسنات إذا تابوا إلى الله، قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا } [الفرقان: 68 - 71].
فما أعظم هذه الرحمة التي رحم الله بها عباده بواسطة رسوله نبي الرحمة والتوبة عليه أفضل الصلاة والتسليم!
4)    عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم»( ).
هذا الحديث ليس تهويناً للذنوب، وإنما هو حث للمذنبين على التوبة إلى الله، وعدم اليأس من رحمة الله.
5)    عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا بلغه عن الرجل شيء لم يقل: ما بال فلان يقول؟ ولكن يقول: «ما بال أقوام يقولون كذا وكذا»( ).
هذا من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالمخطئين، حيث يستر المخطئ ولا يفضحه، ومع ذلك يبين له وللناس الخطأ حتى لا يتكرر.
6)    عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة»( ).
فمن رأى عاصياً فنصحه ولم يفضحه، ستره الله في الدنيا والآخرة.
7)    عن نُعيم بن هزّال رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لأبيه: «يا هزال! لو سترته بثوبك كان خيراً لك»( ).
أي: الزاني الذي زنى، وهو ماعز بن مالك، فإن هزالاً هو الذي أمره أن يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقر عنده بما صنع، فلما أخبر النبيَ صلى الله عليه وسلم بذلك قال له: «ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه!» فرجع ثم جاء فقال: يا رسول الله! طهرني، فقال: ارجع فاستغفر الله وتب إليه (أربع مرات)، فسأل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أبه جنون؟ فأُخبر أنه ليس بمجنون، فقال: أشرب خمراً؟ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح الخمر، فأمر به فرُجم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «استغفروا لماعز بن مالك، لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم»( ).
وفي رواية من حديث نعيم بن هزال: «هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه؟!»( ).
وذلك أنه بعد ما رُمي بالحجارة هرب، فلحقوه حتى قتلوه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام ذلك.
8)    عن بُريدة رضي الله عنه أن امرأة غامدية جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! طهرني. فقال: «ويحك ارجعي استغفري الله وتوبي إليه» فقالت: يا رسول الله! لِم تردني؟! لعلك أن تردني كما رددت ماعز بن مالك، فوالله! إني لحُبلى من الزنا، فقال: «اذهبي حتى تلدي» فلما ولدته جاءت بالصبي في خرقة فقال: «اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه»، فلما فطمته أتته بالصبي وفي يده كسرة خبز فقالت: هذا يا نبي الله قد فطمته، وأكل الطعام. فدفع الصبيَّ إلى رجل من المسلمين، ثم أمر الناس أن يرجموها، فسبها خالد؛فقال عليه الصلاة والسلام: «مهلاً يا خالد! فوالذي نفسي بيده! لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس [أي: ضريبة] لغُفِر له»( ).
وفي حديث عِمران بن حُصين رضي الله عنه: «فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم وليّها فقال: «أحسن إليها، فإذا وضعت فائتني بها، ففعل، فلما رجمت صلى عليها، فقال له عمر: تصلي عليها –يا نبي الله- وقد زنت؟! فقال: «لقد تابت توبه لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟»( ).
ومن هذا الحديث وغيره أخذ العلماء أن من أصاب حداً فعليه أن يتوب إلى الله فيما بينه وبين ربه، ولا يفضح نفسه، لقول نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم لمن زنى: «ويحك! ارجع فاستغفر الله وتب إليه»، فيُستحب لمن أصاب حداً أن يستر على نفسه، لكن إن أبى إلا الاعتراف لدى الحاكم فإنه يجب على الحاكم أن يقيم الحد عليه.
9)    عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله تعالى عنها [أي: كبائر الذنوب مثل الزنا والسرقة والخمر] فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله، فإنه من يبد لنا صفحته، نقم عليه كتاب الله»( ).
أي: من يعترف، ويظهر لنا نفسه؛ نقم عليه الحد الذي أمر الله به في كتابه.
10)    عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود»( ).
أي: اعفوا عن أصحاب المروءات والخصال الحميدة زلاتهم إلا ما يوجب الحدود، وأراد من العثرات ما يتوجه فيه التعزيز( ).

* * *

 
الفصل الرابع عشر
الرحمة بالأجير والخادم
ثبتت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث في الرحمة بالأجير والخادم، ومن هذه الأحاديث:
1)    عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه»( ).
2)    عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن أعظم الذنوب عند الله رجل تزوج امرأة، فلما قضى حاجته منها طلقها وذهب بمهرها، ورجل استعمل رجلاً فذهب بأجرته، وآخر يقتل دابةً عبثًا»( ).
3)    عن أنس رضي الله عنه قال: «احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حجمه أبوطيبة، فأمر له بصاعين من طعام، وكلم أهله فوضعوا عنه من خراجه»( ).
 أي: طلب من أهله أن يرفقوا به فيضعوا عنه من الخراج الذي كلفوه أن يعطيهم عبدهم هذا الحجام؛ فخففوا عنه.
4)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إذا أتى أحدَكم خادمُه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله أُكلة أو أُكلتين، أو لقمة أو لقمتين، فإنه ولي حره وعلاجه»( ).
أي: هو الذي تولى إصلاح الطعام، وأصابه دخانه وحرارته.
5)    عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «ما أطعمت خادمك فهو لك صدقة»( ).
6)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إذا ضرب أحدكم خادمه فليتق الوجه»( ).
7)     عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! كم أعفو عن الخادم؟ قال: «كل يوم سبعين مرة»( ).
8)    عن رجل من الصحابة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يقول للخادم: «ألك حاجة؟»( ).
9)    عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: «سل» فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: «أوغير ذلك؟» قلت: هو ذاك، قال: «فأعني على نفسك بكثرة السجود»( ).
10)    عن أنس رضي الله عنه قال: قالت أمي: يا رسول الله! خادمك أنس ادع الله له، فقال: «اللهم أكثر مالله وولده، وبارك له فيما أعطيته» قال أنس: فإني لمن أكثر الأنصار مالاً، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المائة اليوم( ).

* * *


 
الفصل الخامس عشر
الرحمة بالرقيق
الرقيق هم العبيد والإماء (المماليك)، وقد تكاثرت الأحاديث عن نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم في الرحمة بهم، والترغيب في تحريرهم، والوصية بالإحسان إليهم، ومن هذه الأحاديث:
1)    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أيما مسلم أعتق امرأً مسلمًا استنقذ الله بكل عضو منه عضوًا من النار»( ).
2)    عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إخوانكم خولكم، جعلهم الله قُنية تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه من طعامه، وليلبسه من لباسه، ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه»( ).
 (خولكم) أي: ملكهم الله إياكم.
3)    عن يزيد بن حارث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «أرقاءكم أرقاءكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، وإن جاءوا بذنب لا تريدون أن تغفروه فبيعوا عباد الله ولا تعذبوهم»( ).
4)    عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «أفضل الرقاب أغلاها ثمنًا، وأنفسها عند أهلها»( ).
 أي: أفضل الرقاب أجرًا.
5)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «للمملوك طعامه وكسوته، ولا يُكلف إلا ما يطيق، فإن كلفتموهم فأعينوهم، ولا تعذبوا عباد الله خلقًا أمثالكم»( ).


6)    عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه»( ).
ما أعظم هذا الحديث! فمن ضرب مملوكه بغير حق فكفارة إثمه أن يعتقه ويحرره.
7)    عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: كنت أضرب غلامًا لي، فسمعت من خلفي صوتًا «اعلم  أبامسعود  لله أقدر عليك منك عليه» فالتفت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله، فقال: «لو لم تفعل للفحتك النار»( ).
8)    عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإخصاء( ).
أي: خصي العبيد، فقد كان بعضهم يفعل ذلك حتى يقطع شهوة عبده؛ ليدخله على نسائه لخدمتهن، فنهى نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
9)    عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من فرّق بين والدة وولدها، فرّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة»( ).
أي: من ملك أمة مع ولدها فلا يجوز له أن يفرق بينهما بأن يبيعهما متفرقين، أو يبيع أحدهما ويبقي الآخر عنده، بل يبيعهما جميعًا أو يبقيهما عنده جميعًا.
10)    عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان آخر كلام النبي صلى الله عليه وسلم: «الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم»( ).
فآخر وصية أوصى بها نبي الرحمة أمته قبل موته هي المحافظة على الصلاة، والإحسان إلى ما ملكت أيمانهم من الرقيق، ولم تشغله شدة كربات الموت وسكراته عن الوصية بالإحسان إليهم، فهو رحمة للعالمين حتى في آخر لحظات حياته.

* * *

 
الفصل السادس عشر
الرحمة بالميت
رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالناس هي عامة في حياتهم وبعد موتهم، وهذه بعض الأحاديث في بيان رحمته صلى الله عليه وسلم بالميت:
1)    عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من غسّل ميتًا فستره، ستره الله من الذنوب، ومن كفّنه كساه الله من السندس»( ).
وذلك أنه يجب غسل الميت المسلم، وعلى من يتولى تغسيله أن يستره، ولا يُحدِّث بما رأى منه مما لا يحسن ذكره؛ ومن كفّنه كساه الله في الآخرة من السندس وهو الحرير الرقيق.
2)    عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إذا ولِي أحدكم أخاه فليحسن كفنه»( ).
هذا حث من نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام على تحسين كفن الميت رحمة به وإحساناً إليه، وإكراماً له.
3)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من شهد الجنازة حتى يُصلى عليها فله قِيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان» قيل: وما القيراطان؟ قال: «مثل الجبلين العظيمين»( ).
هذا ترغيب من النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الميت، وشهود جنازته حتى تدفن، وأخبر أن من فعل ذلك فله قيراطان من الأجر.
4)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء»( ).
5)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن امرأة سوداء كانت تقُم المسجد [أي: تنظفه] ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عنها فقالوا: ماتت، فقال: «أفلا كنتم آذنتموني؟! [أي: أعلمتموني] قال: فكأنهم صغروا أمرها فقال: «دلوني على قبرها» فدلوه، فصلى عليها ثم قال: «إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل ينورها لهم بصلاتي عليهم»( ).
6)    عن يزيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لا يموت فيكم ميت مادمت بين أظهركم إلا آذنتموني به، فإن صلاتي له رحمة»( ).
7)    عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: «استغفروا الله لأخيكم، وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل»( ).
أي: يسالله الملكان عن ربه ونبيه ودينه.
8)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى على جنازة فقال: «اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وشاهدنا وغائبنا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده»( ).
9)    عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ماقدموا»( ).
10)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر»( ).
وهذا من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالميت حيث أمر باحترام قبره، ونهى عن الجلوس عليه وإهانته.

* * *

 
الفصل السابع عشر
الرحمة بالحيوان
نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، رحمه للكبار والصغار، رحمة للأقارب والأباعد، رحمة للمحسنين والمسيئين، رحمة للأحياء والأموات، وليست رحمته للبشر فقط، بل حتى للحيوانات، وبيان رحمته لها يدل على عظيم ما اتصف به من الرحمة، ومن كان رحيماً بالحيوان فرحمته بالإنسان أولى وأحرى، والأحاديث الدالة على رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوان كثيرة جداً، ومنها ما يلي:
1)    عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِبحة، وليُحِد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته»( ).
2)    عن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مر ببعير قد لحق ظهره ببطنه [أي: من الهزال والضعف] فقال: «اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة»( ).
3)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض، وإذا سافرتم في السَّنة [أي: الجدب] فأسرعوا عليها السير»( ).
4)    عن أم كرز رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «أقروا الطير على مَكِناتِها»( ).
أي: أوكارها وأماكنها، والمعنى: لا تزجروها.
5)    عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «أما بلغكم أني لعنت من وسم [أي: كوى] البهيمة في وجهها، أو ضربها في وجهها؟»( ).
6)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «بينما رجل [أي: ممن كان قبلكم] يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب منها، ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث، يأكل الثرى [التراب] من العطش، فقال: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ بي، فنزل البئر، فملأ خفه ماء، ثم أمسك بفيه، ثم رقي [صعد]، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له» قالو: يا رسول الله! وإن لنا في هذه البهائم لأجراً؟ فقال: «في كل كبد رطبة أجر»( ).
أي: لكم أجر في كل حيوان أحسنتم إليه.
7)    عن عبدالله بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى أن يُتخذ شيءٌ فيه الروح غرضاً( ).
أي: هدفاً يُرمى إليه.
8)    عن معاوية بن قرة عن أبيه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «والشاة إن رحمتها يرحمك الله»( ).
9)    عن سوادة بن الربيع قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته، فأمر لي بذود [أي: إبل]، ثم قال لي: «إذا رجعت إلى بيتك فمرهم فليحسنوا غذاء رَباعهم [المراد: مواشيهم]، ومرهم فليقلموا أظفارهم، ولا يبطلوا بها ضروع مواشيهم إذا حلبوا»( ).
أي: لا يجرحوا الضروع عندما يحلبوا المواشي بسبب طول أظافرهم.
10)    عن عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجة، فرأينا حُمَّرة [طائر صغير] معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحُمّرة، فجعلت تُفَرِّش [أي: ترفرف بجناحيها]، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «من فجع هذه بولدها؟! ردوا ولدها إليها»، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قرية نمل قد حرقناها، فقال: «من حرّق هذه؟!» قلنا: نحن، قال: «إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار»( ).
 
الباب الخامس
رحمة النبي عليه الصلاة والسلام في التشريع
الفصل الأول
 يسر الشريعة وسماحتها
بعث الله جميع المرسلين بالتوحيد، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] والطاغوت هو كل ماعبد من دون الله.
 وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، فجميع الأنبياء دينهم الإسلام، وبيان ذلك فيما يلي:
 قال الله تعالى عن أول المرسلين نوح عليه الصلاة والسلام: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 72].
 وقال عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [البقرة:127-136].
وقال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67].
وقال الله سبحانه: { أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة: 140].
وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78].
 وحكى الله عن يوسف أنه قال: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101].
 وقال الله سبحانه عن نبيه موسى عليه الصلاة والسلام: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84].
 وحكى الله عن سحرة فرعون عندما آمنوا بموسى أنهم قالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } [الأعراف: 126].
 وقال الله سبحانه عن عيسى عليه الصلاة والسلام: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52].
فجميع الرسل دينهم واحد وهو الإسلام، ولكن الله جعل لكل منهم شريعة تناسب زمانه وقومه، قال الله سبحانه وتعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].
وقد جعل الله شريعة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم خير الشرائع وأيسرها وأكملها، قال الله سبحانه وتعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة: 185]، وقال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [المائدة: 6]، وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى: 8]، وقال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 285، 286].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره: ((المؤمنون يؤمنون بأن الله واحد أحد، لا الله غيره، ولا رب سواه، ويصدقون بجميع الأنبياء والرسل والكتب المنزلة من السماء على المرسلين والأنبياء، لا يفرقون بين أحد منهم فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، بل الجميع عندهم صادقون هادون إلى سبيل الخير، وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بعض بإذن الله، حتى نسخ الجميع بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين الذي تقوم الساعة على شريعته.
 وقوله: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } أي: لا يكلف أحداً فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم.
وقوله: { لَهَا مَا كَسَبَتْ } أي: من خير، { وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } أي: من شر.
ثم قال تعالى مرشداً عباده إلى سؤاله، وقد تكفل لهم بالإجابة: { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا } أي: إن تركنا فرضاً على جهه النسيان أو فعلنا حراماً على جهة النسيان { أَوْ أَخْطَأْنَا } أي: الصواب في العمل جهلاً منا بوجهه الشرعي، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قال الله: نعم»( ). [أي: أن الله استجاب للمسلمين هذا الدعاء]، وروى ابن ماجه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكْرِهوا عليه»( ).
وقوله: { رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } أي: لا تكلفنا من الأعمال الشاقة وإن أطقناها كما شرعته للأمم الماضية قبلنا من الأغلال والآصار التي كانت عليهم، التي بعثت نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة بوضعه في شرعه الذي أرسلته به من الدين الحنيفي السهل السمح، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله قال: «قال الله: نعم»( )، وجاء في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بعثت بالحنيفية السمحة»( ).
وقوله: { رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } أي: من التكليف والمصائب والبلاء، لا تبتلينا بما لا قبل لنا به، «قال الله: نعم».
وقوله: { وَاعْفُ عَنَّا } أي: فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا { وَاغْفِرْ لَنَا } أي: فيما بيننا وبين عبادك، فلا تظهرهم على مساوينا وأعمالنا القبيحة { وَارْحَمْنَا } أي: فيما يستقبل فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر، وقد تقدم في الحديث:«أن الله قال: نعم».
وقوله: { أَنْتَ مَوْلَانَا } أي: أنت ولينا وناصرنا { فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } أي: الذين جحدوا دينك، وأنكروا وحدانيتك، ورسالة نبيك، وعبدوا غيرك، وأشركوا معك مِنْ عبادك، فانصرنا عليهم، واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والآخرة)) ( ). اﻫ مختصراً.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن الدين يسر»( )،وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «أحب الأديان إلى الله الحنيفية السمحة»( ).
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله: ((جميع الشريعة حنيفية سمحة، حنيفية في التوحيد، مبنية على عبادة الله وحده لا شريك له، سمحة في الأحكام والأعمال، فالصلوات خمس فرائض في اليوم والليلة لا تستغرق من وقت العبد إلا جزءاً يسيراً، والزكاة جزء من مال العبد من الأموال المتمولة دون أموال القنية، وهي في كل عام مرة، وكذلك الصيام شهر واحد من كل عام، وأما الحج فلا يجب في العمر إلا مرة واحدة على المستطيع، وبقية الواجبات عوارض بحسب أسبابها، وكلها في غاية اليسر والسهولة.
وقد شرع الله لكثير منها أسباباً تعين عليها وتنشط على فعلها، كما شرع الاجتماع في الصلوات الخمس والجمعة والأعياد، وكذلك الصيام يجتمع المؤمنون في شهر واحد لا يتخلف منهم إلا معذور بمرض أو سفر أو غيرهما، وكذلك الحج، ولا شك أن الاجتماع يزيل مشقة العبادات، وينشط العاملين، ويوجب التنافس في أفعال الخير، كما جعل الله الثواب العاجل والثواب الآجل الذي لا يقادر قدره أكبر معين على فعل الخيرات وترك المنهيات.
ثم إنه مع هذه السهولة في جميع أحكام الشريعة إذا عرض للإنسان بعض الأعذار التي تعجزه أو تشق عليه مشقة شديدة خفف عنه تخفيفاً يناسب الحال، فيصلي المريض الفريضة قائماً فإن عجز صلى قاعداً فإن عجز فعلى جنبه، ويومئ بالركوع والسجود، ويصلي بطهارة الماء فإن شق عليه أو عدمه عدل إلى التيمم بالتراب [بأن يضرب كفيه على الأرض ثم يمسح بهما وجهه كفيه]، والمسافر أبيح له الفطر والقصر والجمع بين الصلاتين)) ( ) اﻫ.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه مااستطعتم»( ).
هذا الحديث تضمن سقوط كل واجب مع العجز، وإباحة المحظورات عند وقوع الاضطرار إليها، ومن القواعد الشرعية: لا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة( ).
هذا؛ والأوامر في شريعة النبي صلى الله عليه وسلم مصالحها خالصة أو راجحة، والمناهي مفاسدها خالصة أو راجحة، فالأوامر بلغت من حسنها وعموم خيرها، ومصالحها الظاهرة والباطنة نهاية الحسن والعدل والرحمة، والمناهي التي نهت عنها الشريعة ضررها عظيم، وجرمها كبير، ومفاسدها لا تعد ولا تحصى.

* * *

 
الفصل الثاني
الرحمة في الاعتقاد
أرسل الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، من ظلمات الكفر والشرك والمعاصي والرذائل إلى نور الإيمان والتوحيد والطاعة والفضائل، وأمره أن ينهاهم عن عبادة العباد ويأمرهم بعبادة رب العباد، قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ } [يونس: 104 - 106].
وقال سبحانه: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].
وقد تميز الدين الإسلامي عن غيره من الأديان والعقائد بوضوح العقيدة، وسهولة الإيمان، حيث أمر نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم الناس بعبادة الله وحده، والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وقدره خيره وشره.
فليس في العقيدة الإسلامية ألغاز لا يعرفها إلا فئة من الأحبار والرهبان، وليس فيها غموض وغبش كما في العقائد الأخرى، قال الله تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الملك: 22].
 قال الإمام المفسر ابن كثير رحمه الله: ((هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، فالكافر مثله فيما هو فيه كمثل من { يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ } أي: يمشي منحنياً لا مستوياً { عَلَى وَجْهِهِ } أي: لا يدري أين يسلك، ولا كيف يذهب، بل تائه حائر ضال، أهذا أهدى { أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا } أي: منتصب القامة { عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي: على طريق واضح بين، وهو في نفسه مستقيم، وطريقه مستقيمة؟!)) ( ).
ومن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته أنه حَمى حِمى التوحيد والإيمان، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك والكفر، ومن الأحاديث التي تبين ذلك:
1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقول: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له: من خلق ربَك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته»( ).
أي: ليستعذ بالله من الشيطان، وليترك هذا التفكير.
2) عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «تفكروا في خلق الله، ولا تفكروا في الله»( ).
أي: تفكروا في مخلوقات الله، ولا تتفكروا في الخالق فإنه كما أخبر عن نفسه: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وقال: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]، وقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4].
3) عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال: «أجعلتني لله نِدّاً؟! بل ماشاء الله وحده»( ).
4) عن محمود بن لبيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: يا رسول الله! وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جازى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً؟!»( ).
5) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إليه رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله! بايعت تسعة وأمسكت عن هذا؟! فقال: «إن عليه تميمة» [أي: حِرْز]، فأدخل يده فقطعها؛ فبايعه وقال: «من علَّق تميمة فقد أشرك»( ).
6) عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت»( ).
فمن حلف بغير الله فقد أشرك حيث عظَّم في حلفه غير الله، وقد جاء في الحديث: «من حلف بغير الله فقد أشرك»( ).
فبيّن نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام أنه يجب الحلف بالله وحده تعظيماً له.
7) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «قاتل الله اليهود! اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»( ).
فقد لعن النبي عليه الصلاة والسلام اليهود لكونهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ تحذيراً لأمته حتى لا يتخذوا قبره مسجداً، ومن باب أولى لا يتخذوا قبر غيره مسجداً، فإن ذلك يفضي إلى عبادة المقبور من دون الله، وقد لعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من فعل ذلك في مرض موته الذي مات فيه.
8) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لا تُطْروني كما أطْرتِ النصارى ابنَ مريم، فإنما أنا عبدُه، فقولوا: عبدالله ورسوله»( ).
الإطراء هو: مجاوزة الحد في المدح والثناء.
9) عن عبدالله بن الشِّخِّير رضي الله عنه قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: أنت سيدنا، فقال: «السيد الله تبارك وتعالى، قلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طَولاً فقال: قولوا بعض قولكم ولا يستجريَنَّكم الشيطان»( ).
10) عن أنس رضي الله عنه أن ناساً قالوا: يا رسول الله! يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا فقال: «يا أيها الناس! قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبدالله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل»( ).

* * *

 
الباب الثالث
الرحمة في العبادات
من رحمة الله بعباده أن شرع لهم عبادات تقربهم إليه، وتزكي نفوسهم، وتطهر قلوبهم، وتكفر سيئاتهم، وترفع درجاتهم، والأحاديث في رحمة النبي صلى الله عليه وسلم في العبادات كثيرة جداً، منها ما يلي:
1)    عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان»( ).
أي: لا يصلي أحد وقد حضر طعامه، بل يبدأ بالطعام حتى وإن فاتته صلاة الجماعة، وكذلك لا يصلي وهو يدافعه البول أو الغائط.
وفي حديث عبدالله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء، ولا يعجلن حتى يفرغ منه»( ).
2)    عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لا تصلوا صلاة في يوم مرتين»( ).
أي: لا يجوز لأحد أن يصلي صلاة الفريضة في يومٍ مرتين تنطّعاً أو شكاً في صحة الأولى بلا سبب، بل شرع نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم سجود السهو لمن شك في عدد ركعات صلاته أو زاد أو نقص سهواً، وهذه رحمة عظيمة.
3)    عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم»( ).
أي: من قام من الليل يتهجد، وأصابه النعاس؛ فليرقد.
4)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه»( ).
5)    عن أم هانئ رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر»( ).
أي:من صام تطوعاً ثم بدا له أن يفطر فله أن يفطر ولا إثم عليه.
6)    عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث معاذاً إلى اليمن فقال: «إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا الله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب»( ).
قوله: «وإياك وكرائم أموالهم» أي: لا تأخذ أفضل أموالهم عند قبض الزكاة منهم، بل تخرج الزكاة من وسط المال.
7)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة»( ).
فالزكاة لا تجب في أموال القنية والاستعمال، وإنما تجب في الأمول النامية إذا بلغت النصاب، ولكل صنف من أصناف الزكاة نصاب لا تجب الزكاة فيما دونه، وليس هذا موضع تفصيل ذلك.
8)    عن كعب بن عُجرة رضي الله عنه قال: أتى عليّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم [وأنا مُحْرِم] زمن الحُديبية والقمل يتناثر على وجهي، فقال: «أيؤذيك هوام رأسك؟» قلت: نعم، قال: «فاحلق، وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك نسيكة»( ).
فالمُحْرِم بالحج أو العمرة يحرم عليه حلق رأسه حال إحرامه، قال الله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196].
وهذه الآية نزلت في قصة كعب بن عجرة راوي هذا الحديث، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه وهو محرم، ويكفر عن ذلك بصيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة وتوزيعها على الفقراء، وهذا من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم في العبادات.
9)    عن أم جندب رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «يا أيها الناس! لا يقتل بعضكم بعضاً، ولا يصب بعضكم بعضاً، وإذا رميتم الجمرة فارموا بمثل حصى الخذف( ).
أي: لا يقتل بعضكم بعضاً بسبب الزحام في الحج، ولا يؤذ بعضكم بعضاً كذلك، وعند رمي الجمرة بالحصى فلتكن الحصيات صغيرة، وكل هذا من الرحمة في العبادات.
10)    عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «هلك المتنطعون» قالها ثلاثاً( ).
المتنطعون هم: المتعمقون المشددون في غير موضع التشديد قاله الإمام النووي رحمه الله( ).
فلا يجوز الغلو في العبادات، وقد علَّم النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن يقتصدوا في الطاعات، وأن يأخذوا ما يطيقون الدوام عليه من نوافل القربات، وكل هذا من الرحمة في العبادات.

* * *

 
الفصل الرابع
الرحمة في النكاح
الزواج ميثاق غليظ، وعهد متين، ربط الله به بين الرجل والمرأة، والأحاديث في رحمة النبي صلى الله عليه وسلم في النكاح كثيرة جداً منها:
1)    عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة [أي: الجماع ومئونة النكاح] فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجاء»( ).
أي: الصوم يدفع الشهوة، وقد قال الله سبحانه: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33].
2)    عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «تُنكح المرأة لمالها ولحسَبِها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدِّين تَرِبَتْ يداك»( ).
قال الإمام الصنعاني رحمه الله: ((الحديث إخبار أن الذي يدعو الرجال إلى الزواج هذه الأربع، وآخرها عندهم ذات الدين، فأمرهم صلى الله عليه وسلم أنهم إذا وجدوا ذات الدين فلا يعدلوا عنها. وقوله: (تربت يداك) أي: التصقت بالتراب من الفقر، وهذه الكلمة خارجة مخرج ما يعتاده الناس في المخاطبات لا أنه صلى الله عليه وسلم قصد بها الدعاء)) ( ).
3)    عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة»( ).
4)    عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لم يُر للمتحابين مثل النكاح»( ).
 
فالعشق بلا زواج داء عظيم، وقد أرشد النبي عليه الصلاة والسلام المتحابين إلى النكاح، وهذا أعظم دواء لهذا الداء( ).
5)    عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل»( ).
6)    عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشِّغار» والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، وليس بينهما صَداق( ).
7)    عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما« أن جارية بكراً أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوّجها وهي كارهة، فخيّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم »( ).
8)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن المرأة كالضلع، إذا ذهبت تقيمها كسرتها، وإن تركتها استمتعت بها وفيها عوج»( ).
أي: أن المرأة لا تستقيم لك على طريقة، بل هي في طبيعتها كالضلع أعوج، فعلى الزوج أن يعيش بها على ما فيها من التقصير، وإذا أراد أن يقيمها على هواه فإنه سيكسرها كمن يريد أن يقيم الضلع فيكسره، والمراد بكسرها طلاقها، وهذا حديث عظيم في الوصية بالنساء، وأنه ينبغي مداراتهن، ومعرفة طبيعتهن، واحتمال تقصيرهن.
9)    عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «خير الصَداق أيسره»( ).
وهذا فيه ترغيب في تخفيف المهور، وعدم المغالاة فيها.
10)    عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء.
 وأربع من الشقاء: المرأة السوء، والجار السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق»( ).
والمرأة الصالحة هي التي وصفها نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام بقوله: «خير النساء التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره»( ).
وقوله: «خير النساء من تُسِرك إذا أبصرت، وتطيعك إذا أمرت، وتحفظ غيبتك في نفسها ومالك»( ).

هذا؛ ومن رحمة النبي عليه الصلاة والسلام في النكاح أن جعل للزوج حقوقاً على زوجته، يجب عليها أن تؤديها له، وجعل للزوجة حقوقاً على زوجها، يجب عليه أن يؤديها لها،
فمن الأحاديث في بيان حقوق الزوج على زوجته:
1)    عن عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ماهذا يا معاذ؟!» قال: أتيت الشام فوافقتهم يسجدون لاساقفتهم وبطارقتهم، فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «فلا تفعلوا، فإني لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمد بيده! لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها [أي: للجماع] وهي على قََتَب [هو ما يوضع على ظهر الجمل ويُركب عليه] لم تمنعه»( ).
2)    عن طلق بن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا الرجل دعا زوجته لحاجته فلْتأتِه، وإن كانت على التنور»( ).
3)    عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لو تعلم المرأة حق الزوج ما قعدت ما حضر غداؤه وعشاؤه حتى يفرغ منه»( ).
4)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع»( ).
5)    عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «ألا أخبركم بنسائكم من أهل الجنة؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: «كل ولود ودود إذا غضبت أو أُسيء إليها أو غضب زوجها قالت: هذه يدي في يدك، لا أكتحل بغمض حتى ترضى»( ).

ومن الأحاديث في بيان حقوق الزوجة على زوجها ما يلي:
1)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «استوصوا بالنساء خيراً»( ).
2)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «خياركم خياركم لنسائهم»( ).
3)    عن معاوية بن حَيدة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: «أن تُطْعِمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تُقَبِّح، ولا تهجر إلا في البيت»( ).
4)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لا يفْرُك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خُلُقاً رضي منها غيره»( ).
لا يفرك: أي: لا يبغض، فأرشد نبي الرحمة الزوج ألا يبغض زوجته بسبب خلق فيها، فقد يكره خلقاً سيئاً واحداً فيها، ولكن فيها عشرات الأخلاق المرضية، وهذا الحديث توجيه عظيم لإصلاح ذات البين بين الزوجين.
5)    عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنما المرأة كالضلع إن أقمتها كسرتها، فدارِها تعِش بها»( ).
قال المناوي رحمه الله: ((معناه: إن ترد إقامة المرأة تكسرها، وكسرها طلاقها،(فدارها تعش بها) أي: لاطفها ولاينها، فإنك بذلك تبلغ ما تريده منها من الاستمتاع بها وحسن العشرة معها الذي هو أهم المعيشة، وفيه إشعار بكراهة الطلاق بلا سبب شرعي)) ( ) اﻫ.

* * *
الفصل الخامس
الرحمة في المعاملات المالية
جاء النبي صلى الله عليه وسلم بصلاح الدين والدنيا، ولم تقتصر رحمته عليه الصلاة والسلام في التشريع على العقيدة والعبادة والنكاح، بل شملت حتى المعاملات المالية التي تأخذ مساحة واسعة من حياة الإنسان العملية، والأحاديث في رحمة النبي عليه الصلاة والسلام في المعاملات المالية كثيرة جداً، منها ما يلي:
1)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لا يُتَفَرَّقنَّ عن بيع إلا عن تراض»( ).
2)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من غش
فليس منا»( ).
3)    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغَرر( ).
[الغرر هو: الخطر].
قال النووي رحمه الله: ((النهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة كبيع المعدوم، والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه، ومالم يتم ملك البائع عليه)) ( ) اﻫ مختصراً.
وإنما نهى نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام عن بيع الغرر لأنه يؤدي إلى العداوة والبغضاء بين المتبايعين؛ لأن أحدهما قد يُظلم ويُغبن فيندم ويحقد على الآخر، وربما خاصمه وقاتله.
4)    عن معمر بن عبدالله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لا يحتكر إلا خاطئ»( ).


5)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من أقال مسلماً أقال الله عثرته»( ).
الإقالة هي: رفع العقد الواقع بين المتعاقدين، فإذا اشترى أحد شيئاً من بائع ثم ندم على اشترائه إما لظهور الغبن أو لزوال حاجته إليه أو لانعدام الثمن، فرد المبيع على البائع، وقبل البائع رده؛ أزال الله مشقة البائع يوم القيامة حيث أحسن على المشتري بقبول الرد( ).
6)    عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر»( ).
أي: حتى يترك البيع أو الخطبة؛ وذلك لأن الإنسان إذا كلم آخر في شراء سلعة منه أو خطبة ابنته ثم جاء آخر فأفسد عليه شراءه أو خطبته فإن ذلك يورث العداوة والبغضاء، وقد جاء نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم بسد كل باب يوصل إلى العداوة والبغضاء، بل أمر بكل ما يوجب المحبة والإخاء.
7)    عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من أقرض وَرِقاً [أي: فضة] مرتين، كان كعدل صدقة مرة»( ).
أي: من أقرض درهمين فله أجر من تصدق بدرهم، وهذا فيه ترغيب في قرض الناس قرضاً حسناً بلا ربا.
8)    عن أبي اليسر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله»( ).
أي: في ظل العرش يوم القيامة، فرغب نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام في إنظار المعسر الذي لا يجد ما يفي به دينه، ورغب في الوضع عنه أو التجاوز عن دينه، وقد قال: «من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة»( ).
9)    عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعن آكل الربا، وموكل، وشاهديه، وكاتبه، وقال: «هم فيه سواء»( ) أي: في الإثم.
فقد حرم الله ورسوله الربا لما فيه من ظلم الناس، واستغلال لظروفهم، وهو سبب في إفشاء الفقر والغنى الفاحشين، وسبب لزرع الأحقاد والضغائن بين أبناء المجتمع الواحد، وتحريم الربا متفق عليه بين الشرائع السماوية، فهو محرم في شريعة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ولكن اليهود والنصارى استحلوه، حتى صار النظام الاقتصادي العالمي اليوم قائماً على الربا، رغم كثرة الأضرار الكبيرة، والمفاسد الكثيرة، والمشاكل العديدة الناتجة عنه.
10)    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «المسلمون على شروطهم»( ).
أي: إذا شرط مسلم على آخر شرطًا في معاملة ما فإنه يلزمه أن يفي بذلك الشرط، ما دام أنه قد قبله، لكن يُشترط أن يكون هذا الشرط غير مخالف لشريعة الله، ففي الحديث: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط»( ).
وكل هذا مما يبين رحمة النبي صلى الله عليه وسلم في المعاملات، وأنه جاء بما يصلح أمور الدين والدنيا.

* * *

 
الفصل السادس
الرحمة في العقوبات
لقد تميزت شريعة النبي صلى الله عليه وسلم عن غيرها من الشرائع والقوانين في التشريع الجنائي بالرحمة في العقوبات سواء في الحدود أو الجنايات، والحدود هي: العقوبات المقدرة شرعًا لمن ارتكب كبائر الفواحش،والجنايات هي: القصاص في النفوس والأطراف.
والأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الرحمة في العقوبات كثيرة منها ما يلي:
1-    عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها [أي: كبائر الذنوب التي توجب إقامة الحد]، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله، فإنه من يُبد لنا صفحته نُقِم عليه كتاب الله»( ).
هذا الحديث فيه ترغيب في التوبة إلى الله من هذه الفواحش، مع الستر على النفس، وعدم إخبار أحد بها، فإن اعترف أمام الحاكم بذنبه يقام عليه الحد؛ لأن الحد لا يقام إلا بالشهود أو الاعتراف.
2-    عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «تعافوا الحدود فيما بينكما، فما بلغني من حد فقد وجب»( ).
أي: تجاوزوا عن الحدود ولا ترفعوها إلى الحكام، فإنه إذا بلغ الحدُ الحاكمَ وجب عليه تنفيذ حكم الله على من وقع في الحد، فيستحب عدم رفع الحدود إلى الحكام لهذا الحديث، وهذا من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أمر بالستر( ).
3-    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يُثَرِّب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها، ولو بحبل من شعر»( ).
الأَمَة هي: الجارية المملوكة، وحدها إذا زنت خمسون جلدة، سواء كانت بكرًا أو متزوجة.
قوله: «ولا يثرب عليها» قال النووي رحمه الله: ((التثريب: التوبيخ واللوم على الذنب)) ( ). أي: لا يجمع عليها العقوبة بالجلد والتعيير، وهذا من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم.
4-    عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ليس على المنتهب ولا على المختلس ولا على الخائن قطع»( ).
المنتهب هو الذي يأخذ المال على وجه العلانية قهرًا، والمختلس هو من اختطف المال وسلبه على طريقة الخِلسة، والخائن هو الذي يخون ما جُعِل عليه أمينًا كأن يخون في وديعة أو عارية، فهؤلاء ليس عليهم قطع، وإنما يعاقبون بالحبس أو الضرب أو نحو ذلك.
5-    عن بُسْر بن أبي أرطأة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لا تقطع الأيدي في السفر»( ).
سبب هذا الحديث - كما ذكر المباركفوري - أن رواي الحديث وجد رجلاً يسرق في الغزو فجلده ولم يقطع يده وقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القطع في الغزو( ). والله أعلم.
6-    عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تُقطع اليد في تمر معلق، فإن ضمّه الجرين قُطعت في ثمن المِجَن [الترس]، ولا تقطع في حريسة الجبل، فإذا آوى المراح قطعت في ثمن المجن»( ).
الجرين هو: موضع تجفيف التمر، وهو كالبيدر للحنطة، والحريسة من لها من يحرسها ويحفظها، وليس فيما يحرس بالجبل قطع إذا سرق لأنه ليس بحرز( ).
7-    عن العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا قَوَد في المأمومة ولا الجائفة ولا المُنَقِّلة»( ).
القود هو: القصاص، والمأمومة هي: الشجّة التي لم تبلغ أم الدماغ، والجائفة هي: الطعنة التي تنفذ إلى الجوف، والمنقلة هي:الشجة التي تنقل العظام.
فهذه الجنايات جعل فيها نبي الرحمة الأرْش لا القصاص؛ لعدم انضباطها، ولأنه يعسر القصاص فيها بلا مجاوزة الحد، وهذا من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم،والأرش هو:دية الجراحات.
8-    عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من قُتِل في عِمِّيَّا، في رمي يكون بينهم بحجارة أو بالسياط أو ضرب بعصا فهو خطأ، وعقله عقل الخطأ، ومن قتل عمدًا فهو قَوَد يد، ومن حال دونه فعليه لعنة الله وغضبه، لا يقبل منه صرفًا ولا عدلاً»( ).
قال في عون المعبود: ((أي: من قُتل في حال يعمى أمره فلا يتبين قاتله ولا حال قتله مثل ترامي القوم فحكمه حكم القتل الخطأ حيث تجب الدية لا القصاص، وقوله: «عقله عقل الخطأ» أي: ديته دية الخطأ [أي: تكون مخففة]، وقوله: «فهو قود»، أي: حكمه القصاص «ومن حال دونه» أي: صار حائلاً ومانعًا من الاقتصاص.
«لا يقبل منه صرفاً ولا عدلاً» قال الخطابي: فسروا العدل: الفريضة، والصرف: التطوع( ).اﻫ مختصرًا
9-    عن أسامة بن شريك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجني نفس على أخرى»( ).
أي: من تعدى على آخر بقتل أو ما دونه فلا يتحمل جريمته غيره، بل هو الذي يتحمل عقوبة جنايته في الدنيا والآخرة.
10-    عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، ولا يؤخذ الرجل بجناية أبيه ولا بجناية أخيه»( ).
أي: بذنبه بأن يعاقب في الآخرة عليه أو في الدنيا بالقتل ونحوه( ).
* * *
 
الباب السادس
رحمة النبي عليه الصلاة والسلام في الحكم والسياسة
الفصل الأول
وصية الولاة بالعدل والرحمة
رحمة النبي صلى الله عليه وسلم تعم الراعي والرعية، والحاكم والمحكومين، وقد أسس نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام دولة إسلامية قامت على العدل والرحمة، وأعطت كل ذي حق حقه، وقد وردت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث كثيرة في أمر الولاة بالعدل والرحمة، وفي تحذيرهم من الظلم والتعسف مع الرعية، ومن هذه الأحاديث:
1-    عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راعٍ، وهو مسئول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته، وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده، وهي مسئولة عنهم»( ).
2-    عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة»( ).
3-    عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم؛ فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم؛ فارفق به»( ).
4-    عن أبي مريم الأزدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من ولي من أمور المسلمين شيئًا، فاحتجب دون خلتهم وحاجتهم وفقرهم وفاقتهم؛ احتجب الله عنه يوم القيامة دون خلته وحاجته وفاقته وفقره»( ).
5-    عن عمرو بن مرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من إمام يُغلِّق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة؛ إلا أغلق الله أبواب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته»( ).
6-    عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك؛ إلا أتى الله عز وجل مغلولاً يوم القيامة يده إلى عنقه، فكّه بره أو أوبقه إثمه، أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم القيامة»( ).
أوبقه أي: أهلكه.
7-    عن عوف بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي؟ أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة، إلا من عدل، فكيف يعدل مع أقربيه؟!»( ).
8-    عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من ولي منكم عملاً، فأراد الله به خيرًا، جعل له وزيرًا صالحًا، إن نسي ذكَّره، وإن ذكر أعانه»( ).
وهذا فيه حث للولاة على تقريب الصالحين منهم، وجعل وزرائهم ومستشاريهم وأعوانهم من الصالحين.
9-    عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم؟!»( ).
أي: كيف يطهرها الله ويزكيها وولاتها لا يأخذون الحق من الظلمة الأشداء، ويعطون الحق لأهله الضعفاء؟!
 
10-    عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلُّوا»( ).
هذا الحديث فيه فضل العادلين في حكمهم وأهليهم وولايتهم، وقد جاء في حديث آخر أن الإمام العادل ممن يظلهم الله يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله( ).

* * *

 
الفصل الثاني
وصية الرعية بالطاعة والمناصحة للولاة والصبر عليهم
وردت أحاديث كثيرة عن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم فيها حث الرعية بالسمع والطاعة للولاة، والصبر على ما يجدون منهم من ظلم، وعدم الخروج عليهم، والنصح لهم، وكل هذا من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالراعي والرعية، إذ في الالتزام بهذا خير كثير، ودفع شر كبير، وفي عدم الالتزام بهذا مفاسد كثيرة، وشرور عديدة، ومصائب كبيرة، ومن هذه الأحاديث ما يلي:
1-    عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «عليك السمع والطاعة، في عسرك ويسرك، ومنْشَطك ومَكْرَهك، وأثرة عليك»( ).
 قال النووي رحمه الله: ((أي: عليك السمع والطاعة لولاة الأمور فيما يشق وتكرهه النفوس مما ليس بمعصية، والأثرة هي: الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا عليكم، أي: اسمعوا وأطيعوا وإن اختص الأمراء بالدنيا، ولم يوصلوكم حقكم مما عندهم، وهذا حتى تجتمع كلمة المسلمين، فإن الخلاف سبب لفساد أحوالهم في دينهم ودنياهم))( )اﻫ مختصرًا.
2-    عن وائل الحضرمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمِّلُوا، وعليكم ما حُمِّلْتم»( ).
قال النووي في شرح صحيح الإمام مسلم في باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم: «وحاصله الصبر على ظلمهم، وأنه لا تسقط طاعتهم بظلمهم»( ).
3-    عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها» قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم»( ).
قال النووي رحمه الله: ((هذا من معجزات النبوة، وقد وقع هذا الإخبار متكررًا، ووجد مخبَره متكررًا، وفيه الحث على السمع والطاعة وإن كان المتولي ظالمًا عسوفًا، فيعطى حقه من الطاعة، ولا يخرج عليه، ولا يُخلع، بل يتضرع إلى الله تعالى في كشف أذاه ودفع شره وإصلاحه)) ( )اﻫ.
4-    عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من رأى منكم من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرًا فيموت إلا مات ميتة جاهلية»( ).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري": ((قال ابن بطال: في الحديث حجة في ترك الخروج على السلطان ولو جار، وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب، والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقن الدماء، وتسكين الدهماء [جماعة الناس] وحجتهم هذا الخبر وغيره، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح، فلا تجوز طاعته في ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها))( ).اﻫ
5-    عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لاطاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف»( ).
أي: من أمركم من الولاة بمعصية الله فلا تطيعوه، إنما الطاعة في الأمور التي لا تخالف الشريعة.
6-    عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: « من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله»( ).
أي: من أهان من أعزه الله وألبسه خلعة السلطنة أهانه الله( ).
 ويدخل في ذلك سب ولاة الأمور وغيبتهم، فإن أبا بكرة راوي الحديث سمع رجلاً يغتاب الأمير بأنه يلبس ثياب الفساق، فزجره أبوبكرة، وروى له هذا الحديث.
7-    عن عَرْفجة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه»( ).
قال النووي رحمه الله: ((فيه الأمر بقتال من خرج على الإمام أو أراد تفريق كلمة المسلمين ونحو ذلك، ويُنهى عن ذلك، فإن لم ينته قوتل، وإن لم يندفع شره إلا بقتله فقتل كان هدرًا))( )اﻫ.
8-    عن عوف بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم، وتصلون عليهم [أي: يدعون لكم وتدعون لهم]، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم»، قيل: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئًا تكرهونه فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يدًا من طاعة»( ).
9-    عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع» قالوا: يا رسول الله! أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا، ماصلوا»( ).
10-    عن تميم بن أوس الداري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الدين النصيحة» قلنا: لمن؟ قال «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»( ).
قال ابن رجب رحمه الله تعالى: ((وأما النصيحة لأئمة المسلمين فحب صلاحهم ورشدهم وعدلهم، وحب اجتماع الأمة عليهم، وكراهة افتراق الأمة عليهم، والتدين بطاعتهم في طاعة الله عز وجل، والبغض لمن رأى الخروج عليهم، وحب إعزازهم في طاعة الله عز وجل))( )اﻫ.

* * *

 
الباب السابع
رحمة النبي عليه الصلاة والسلام في الترويح والتسلية
الفصل الأول
الترفيه عن النفس
علّم النبي صلى الله عليه وسلم أمته بأقواله وأفعاله أن على المسلم أن يحرص على ما ينفعه في دينه ودنياه وآخرته، وأن يستكثر من الأعمال الصالحة التي تقربه من الله، ويرفع الله بها درجاته في الجنة يوم يلقاه، قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41، 42]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77].
وقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أتقى الناس وأخشاهم وأعبدهم لله تعالى، كان يطيل الصلاة في الليل، ويكثر الصوم في النهار، ويذكر الله على كل أحيانه، ويتلو آيات القرآن، ويتفكر في مخلوقات الرحمن. وكان يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن. وكان يجاهد الكافرين والمنافقين بالسيف والسِّنان، والحجة والبرهان. وكان يعود المرضى، ويزور الضعفاء، ويتبع الجنائز. وكان يتفقد أحوال المسلمين، ويطعمهم، ويقضي حاجاتهم. وكان يقيم أمر الدولة بالعدل والرحمة، والحزم والحكمة، فيبعث الولاة والقضاة وقابضي الزكاة، ويبعث الدعاة والمعلمين والجيوش.... إلى غير ذلك من الترتيبات الإدارية للدولة الإسلامية. ومع هذا كله كان يعطي كل ذي حق حقه من نسائه وأولاده وأقربائه وجيرانه....إلخ.
هكذا ينبغي أن تكون الحياة جدًا وكفاحًا وحرصًا على ما ينفع في أمر الدين والدنيا والآخرة، لكن النفس لها حق في الترفيه، فهي تمل، ويشق عليها أن تستمر في الجد والجهاد والمجاهدة أبدًا بدون ترفيه عنها، فالترفيه وسيلة لتحقيق التوازن بين جوانب الإنسان المختلفة، فالجد هو الأصل، والترفيه هو الفرع.
 إذاً: الترفيه والترويح عن النفس وسيلة لا غاية، وهذا هو ما كان عليه نبي الرحمة
صلى الله عليه وسلم، وقد كان أطيب الناس نفسًا، وأكثرهم تبسمًا، وأحسنهم خلقًا،

والأحاديث في ترفيه النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه كثيرة منها ما يلي:
1-    عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول لأصحابه: «هل رأى أحد منكم من رؤيا؟»فيقص عليه ما شاء الله أن يقص»( ).
ولا شك أن في سماع الرؤى ترفيه عن النفس.
2-    عن عبدالله بن عمر رضي الله عنها قال: «إن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يرون الرؤيا فيقصونها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله»( ).
3-    عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من الشعر لحكمة»( ).
وسماع الأشعار والأناشيد المباحة من الترفيه عن النفس.
4-    عن عبدالله بن رواحة رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير له، فقال له: «يا ابن رواحة! انزل فحرِّك الركاب، [أي: نشط الإبل بالحِداء، وهو النشيد]، فقال: يا رسول الله! قد تركت ذاك، فقال له عمر: اسمع وأطع، فرمى نفسه وقال:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
فأنزلن سكينة علينا
        ولا تصدقنا ولا صلينا
وثبت الأقدام إن لا قينا( )

5-    عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يبدو إلى التِّلاع( ).
التلاع: مسايل الماء من الجبال وما ارتفع من الأرض حتى ينصب في الوادي( )، وهذه من أماكن النزهة، وكانت هذه التلاع التي كان عليه الصلاة والسلام يخرج إليها في البادية( ).
6-    عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه سأل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: خرج ووجّه ههنا، قال: فخرجت على إثره أسأل عنه حتى دخل بئر أريس، فإذا هو قد جلس على البئر، وتوسط قُفّها [الدكة التي حول البئر]، وكشف عن ساقيه، ودلاهما في البئر، ثم جاء أبوبكر فجلس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في القف، ودلى رجليه في البئر كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكشف عن ساقيه، ثم جاء عمر فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في القف عن يساره، ودلى رجليه في البئر) ( ).
7-    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كنا قعودًا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا أبوبكر وعمر في نفر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا، فأبطأ علينا، وخشينا أن يقطع دوننا، وفزعنا فقمنا، فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته في حائط للأنصار) ( ).
أي: في حائط نخل، وهذا فيه ترفيه عن النفس بالتنزه والنظر.
8-    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة وأنا جنب، فأخذ بيدي، فمشيت معه حتى قعد، فانسللت فأتيت الرحل فاغتسلت، ثم جئت وهو قاعد، فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟! فقلت: كنت جنبًا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال: «سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس»( ).
وهذا فيه ترفيه عن النفس بالمشي مع الأصحاب،والجلوس معهم.
9-    عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يحب الحلواء والعسل»( ).
ولا شك أن أكل الحلواء وشرب العسل مما يطيب النفس وينشطها.

10-    عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «حُبِّب إلي النساء والطيب، وجُعِلت قرة عيني في الصلاة»( ).
ولا شك أن معاشرة الرجل لزوجته مما يسر النفس ويرفه عنها، وكذلك الطيب [العطر] يبهج النفس ويشرح الصدر، أما الصلاة فلذتها يعلمها كل من ذاق طعم الإيمان، فهي نور وقرة عين، وجميع العبادات سبب للحياة الطيبة المطمئنة، قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]، وقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].

هذا؛ ومن الترفيه عن النفس الترفيه عن الزوجة والصغار والأصحاب كما سيأتي في الفصول التالية...
 
الفصل الثاني
الترفيه عن الزوجة
وردت أحاديث قولية وفعلية وتقريرية عن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم في الترفيه عن الزوجة، ومن هذه الأحاديث:
1-    عن عائشة رضي الله عنها قالت: «سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته»( ).
ثم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سابقها فسبقها وقال: «هذه بتلك السبقة»( ).
2-    عن جابر رضي الله عنه قال: تزوجت امرأة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا جابر! تزوجت؟» قلت: نعم، قال: «بكر أم ثيب؟»، قلت: ثيب، قال: «فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك»( ).
3-    عن عائشة رضي الله عنه قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر دار على نسائه فيدنو منهن»( ).
4-    عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «كل شيء ليس من ذكر الله لهو ولعب إلا أن يكون أربعة: ملاعبة الرجل أهله، وتأديب الرجل فرسه، ومشي الرجل بين الغرضين، وتعليم الرجل السباحة»( ).
الغرض هو الهدف الذي يرمى فيه، فيمشي الرجل بين الغرضين لأخذ السهام التي يرمي بها من غرض إلى غرض آخر.
5-    عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «وفي بضع أحدكم صدقة»[أي: في جماع الرجل زوجته صدقة] قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟!
قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر»( ).
6-    عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن لزوجك عليك حقًا»( ).
7-    عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت ألعب بالبنات [أي: اللعب] عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمعن منه [أي: يستترن منه]، فيُسرِّبهن إلي [أي: يرسلهن واحدة بعد الأخرى] فيلعبن معي( ).
8-    عن عائشة رضي الله عنها قالت: والله! لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم على باب حجرتي، والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه؛ لكي أنظر إلى لعبهم، ثم يقوم من أجلي، حتى أكون أنا التي أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، حريصة على اللهو( ).
9-    عن عائشة رضي الله عنها قالت: «دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان، فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه»( ).
وكانتا تغنيان بدف، وكان ذلك في يوم عيد.
10-    عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرًا أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه»( ).
وفي السفر بالزوجة ترفيه عنها كما لا يخفى.

* * *

 
الفصل الثالث
الترفيه عن الصغار
كان نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام أرحم الناس بالصبيان من الذكور والإناث، والأحاديث الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم في الترفيه عنهم كثيرة، منها ما يلي:
1-    عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحسن الناس خلقًا، وكان لي أخ يقال له: أبوعمير، وكان إذا جاء قال: «يا أبا عمير! ما فعل النغير؟» نغير [طائر] كان يلعب به( ).
2-    عن أنس رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يزور الأنصار، ويسلم على صبيانهم، ويمسح على رءوسهم»( ).
3-    عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يلاعب زينب بنت أم سلمة ويقول: «يا زوينب! يا زوينب! مرارًا»( ).
4-    عن البراء رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والحسن على عاتقه يقول: «اللهم إني أُحبه فأحبه»( ).
5-    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدلع لسانه [أي: يخرج] للحسن بن علي، فيرى الصبي حمرة لسانه، فيبهش إليه»( ).
أي: يعجبه ويشتهيه.
6-    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بيت ابنته فاطمة فقال: «أثم لُكَع؟ [يعني: الحسن بن علي] فجاء يسعى حتى اعتنق كل واحد منهما صاحبه فقال: «اللهم إني أحبه فأحبه، وأحب من يحبه»( ).
7-    عن عبدالله بن شداد عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء وهو حامل حسنًا أو حسينًا، فوضعه ثم كبّر للصلاة، فصلى فسجد في صلاته سجدة أطالها، فرفعت رأسي فإذا الصبي على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى الصلاة قال الناس: يا رسول الله! إنك سجدت سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليك، قال: «كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني [أي: صعد على ظهري] فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته»( ).
8-    عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: «خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه، فصلى، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها»( ).
وأمامة هذه هي بنت زينب بنت رسول الله.
9-    عن عبدالله بن جعفر رضي الله عنهما قال: «كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا قدم من سفر تُلقي بصبيان أهل بيته»( ).
وكان يركبهم معه على ناقته، ويلاطفهم بذلك( ).
10-    عن محمود بن الربيع الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم «مجَّ مجة من ماء في وجهه من بئر كانت في دارهم، وهو ابن خمس سنين»( ).
أي: قذف النبي صلى الله عليه وسلم الماء من فمه إلى وجه هذا الصبي ملاعبًا له.

* * *


 
الفصل الرابع
الترفيه عن الأصحاب
وردت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الترفيه عن أصحابه، وممازحتهم، وملاطفتهم، ومن هذه الأحاديث:
1-    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الصحابة قالوا: يا رسول الله! إنك لتداعبنا، قال: «إني لا أقول إلا حقًا»( ).
2-    عن أنس رضي الله عنه أن النبي قال  له:«يا ذا الأذنين»( ) يعني: يمازحه.
3-    عن أنس رضي الله عنه أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: احملنا على بعير [أي: سألته أن يعطيها جملاً لتركبه]، فقال: «أحملكم على ولد الناقة» فقالت: وما نصنع بولد الناقة؟! [لأنه صغير لا يتحمل الركوب عليه] فقال: «هل تلد الإبل إلا النوق؟»( ).
أي: سأحملك على جمل كبير، وهو في الحقيقة ابن ناقة، فالنبي صلى الله عليه وسلم مازح المرأة ولكنها لم تفهمه.
4-    عن جابر رضي الله عنه أنه كان يسير على جمل له قد أعيا، فأراد أن يسيّبه، قال: فلحقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا لي، وضربه فسار سيرًا لم يسر مثله، فقال: «بعنيه بأُوقية» [أي: أربعون درهمًا] قلت: لا، ثم قال: «بعنيه»، فبعته بأوقية، واستثنيت عليه حملانه إلى أهلي، فلما بلغت أهلي أتيته بالجمل، فنقدني ثمنه، ثم رجعت فأرسل في أثري، فقال: «أتراني ماكستك لآخذ جملك؟! خذ جملك ودراهمك فهو لك»( ).
5-    عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتته عجوز فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يدخلني الجنة فقال: «إن الجنة لا تدخلها عجوز» فلقيت مشقة وشدة من كلمته، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن ذلك كذلك، إن الله إذا أدخلهن الجنة حولهن أبكارًا»( ).
فالنبي عليه الصلاة والسلام مازحها ولكنها لم تفهم، فإن الجنة لا يدخلها عجوز، ومن كان عجوزًا  رجلاً أو امرأة  وكان من أهل الجنة؛ يرده الله شابًا.
6-    عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أتى رجلاً يسمى زاهرًا وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه، والرجل لا يبصره، فقال: أرسلني، من هذا؟! فلما عرف أنه رسول الله جعل يلزق ظهره بصدره، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من يشتري مني هذا العبد؟» فقال زاهر: تجدني  يا رسول الله  كاسدًا، قال: «بل أنت عند الله غالٍ»( ).
فهذا من مزاح النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه بالفعل والقول.
7-    عن أنس رضي الله عنه قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة لعبت الحبشة لقدومه فرحًا بذلك، لعبوا بحرابهم( ).
8-    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما الحبشة يلعبون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بحرابهم إذ دخل عمر بن الخطاب، فأهوى إلى الحصباء يحصبهم بها [أي: يرميهم بالحصى، وظنهم أساءوا الأدب باللعب أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ]، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعهم يا عمر!» ( ).
9-    عن عائشة رضي الله عنها أنها زفّت امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يا عائشة! ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يُعجِبُهم اللهو»( ).
10-    عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سابق بين الخيل، وكان عبدالله بن عمر ممن سابق فيها( ).
وهذه المسابقة تعتبر إعدادًا للجهاد في سبيل الله، وتدريبًا للفرسان، بالإضافة إلى الترفيه عن المتسابقين ومن يشاهدهم.

* * *
 
الباب الثامن
رحمة النبي عليه الصلاة والسلام في الأدعية والأذكار
علّم نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم أمته كثيرًا من الأدعية والأذكار التي فيها خير كثير، وفضل كبير، وهي تدل على عظيم رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته، وحرصه على إيصال كل خير لهم في أمر دينهم ودنياهم وآخرتهم، وهذه الأدعية كثيرة جداً، وسأقتصر منها على ما يلي:
1)    عن عبدالله بن جعفر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «سل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة»( ).
هذا الدعاء يتضمن العفو عما مضى من الآثام، والعافية من كل سوء في الحال وفي المستقبل في أمور الدنيا والآخرة، فما أعظمه من دعاء!
2)    عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال له: «ألا أعلمك كلمات، لوكان عليك مثل جبل ديناً أداه الله عنك؟ قل: اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، واغنني بفضلك عمن سواك»( ).
3)    عن خولة بنت حكيم رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا نزل أحدكم منزلاً فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك»( ).
4)    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من قال حين يمسي ثلاث مرات: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ماخلق، لم يضره لدغة حية في تلك الليلة»( ).
أي: إن لدغته حية أو عقرب أو نحوهما لم يضره السم، وهوّن الله عليه تلك اللدغة، وكفاه شرها.
5)    عن عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من قال حين يمسي: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم (ثلاث مرات) لم يصبه فجأة بلاء حتى يصبح، ومن قالها حين يصبح ثلاث مرات لم يصبه فجأة بلاء حتى يمسي»( ).
هذا الدعاء حرز عظيم من الشرور والبلايا بإذن الله.
6)    عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم علمها هذا الدعاء: «اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه ومالم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه ومالم أعلم، اللهم إني أسألك من خير ما سألك عبدك ونبيك، وأعوذ بك من شر ما استعاذ منه عبدك ونبيك، اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، وأسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيراً»( ).
7)    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من رأى مبتلى فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً، لم يصبه ذلك البلاء»( ).
هذا الدعاء تحصين عظيم بإذن الله من كل بلاء يراه الإنسان في غيره من أي مرض من الأمراض أو فقر أو مذلّة أو جنون أو أي مصيبة من المصائب، ويقول هذا الدعاء في نفسه ولا يسمع صاحب البلاء.
8)    عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: «اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما يهون علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا»( ).
9)    عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي؛ إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحاً، فقيل: يا رسول الله! ألا نتعلمها؟ فقال: بلى، ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها»( ).
10)    عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لها: «ألا أعلمك كلمات تقولينهن عند الكرب: الله الله ربي لا أشرك به شيئاً»( ).
هذا الدعاء من أدعية كشف الكرب التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم أمته رحمة بهم، وإشفاقًا عليهم.
* * *
الباب التاسع
رحمة النبي عليه الصلاة والسلام في التعامل مع الكافرين
الفصل الأول
الرحمة في الدعوة
أرسل الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، ليخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ولينذرهم من عذاب جهنم التي أعدها الله لأعدائه الكافرين، ويبشرهم بالجنة التي أعدها الله لأوليائه المؤمنين.
قال الله تعالى: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا } [الطلاق: 10، 11].
وقال سبحانه وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا } [الكهف:1-5].
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار»( ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبي» قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟! قال: «من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى»( ).
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم! إني رأيت الجيش بعيني [أي: رأيت جيشاً يريد أن يغير عليكم] فالنجاء، [أي: اهربوا وانجوا بأنفسكم]، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا [أي: ساروا من أول الليل] فانطلقوا على مهلتهم، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق»( ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما مثلي ومثل الناس: كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل الرجل يحجزهن ويغلبنه، فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار. هلم عن النار. هلم عن النار [أي: ابتعدوا عنها]، فتغلبوني تقحمون فيها»( ).
وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما أنزل إليه من القرآن، والدعوة إلى سبيله بلا توان، والصبر على ما يلقاه ممن يدعوهم من أذى وطغيان.
قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67].
وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 125 - 127].
 وقال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1 - 7]. فقام نبي الرحمة يدعو إلى الله، وظل قائماً أكثر من عشرين عاماً، يحمل على عاتقه عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض، عبء البشرية كلها، وعبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى.
قال الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
فهو حريص على هداية الناس، بل بلغ به الحرص على دعوة الناس إلى أن عاتبه الله أكثر من مرة على شدة حزنه على قومه حيث لم يؤمنوا به، وكاد يقتله الحزن رحمة بهم، وشفقة عليهم، قال الله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } [الكهف: 6].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ((يقول تعالى مسلياً لرسوله صلوات الله وسلامه عليه في حزنه على المشركين لتركهم الإيمان وبعدهم عنه كما قال تعالى: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8]، وقال: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [النحل: 127]، وقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] { بَاخِعٌ } أي: مهلك نفسك بحزنك عليهم، ولهذا قال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ} [الكهف: 6] يعني: القرآن  {أَسَفًا } [الكهف: 6]  يقول: لا تهلك نفسك أسفاً، أي: لا تأسف عليهم بل أبلغهم رسالة الله، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات)) ( ).اﻫ مختصراً
* * *
الفصل الثاني
الرحمة في الجهاد
الصراع حتمي بين الحق وأهله من جهة، والباطل وأهله من جهه أخرى، هذه سنة إلهية لا تتخلف، ووقائع التاريخ القديم والحديث تشهد على ذلك.
والنبي عليه الصلاة والسلام لم يقاتل الكفار حتى أذن الله له بقتالهم فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } [الحج: 39 - 41].
قال ابن كثير رحمه الله: (( { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } أي: لولا أنه يدفع بقوم عن قوم ويكف شرور أناس عن غيرهم بما يخلقه ويقدره من الأسباب لفسدت الأرض، ولأهلك القوي الضعيف)).
والصوامع هي المعابد الصغار للرهبان، والبيع هي كنائس اليهود، والصلوات قيل: هي كنائس النصارى، والمساجد للمسلمين))( ).
وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقتال الكافرين فقال: { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال: 38 - 40].
قال السعدي رحمه الله: (( { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي: شرك وصد عن سبيل الله، ويذعنوا لأحكام الإسلام، { وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } فهذا المقصود من الجهاد لأعداء الدين، أن يدفع شرهم عن الدين، وأن يذب عن دين الله الذي خلق الخلق له، حتى يكون هو العالي على سائر الأديان)) ( ) اﻫ.
وقد امتثل نبي الرحمة أمر ربه، فجاهد في الله حق جهاده، ولقد كان النبي عليه الصلاة والسلام أكبر قائد عسكري في الدنيا، وأعمقهم فراسة وتيقظاً، استطاع بقتاله الكفار أن يفرض الأمن، ويبسط السلام، ويطفئ نار الفتنة، ويكسر شوكة الأعداء في صراع الإسلام والوثنية.
وقد غير أغراض الحروب وأهدافها التي كانت تضطرم نار الحرب لأجلها في الجاهلية، فبينما كانت الحرب عبارة عن النهب والسلب، والقتل والإغارة وأخذ الثأر، وهتك حرمات النساء، والقسوة بالضعاف والصبيان، وإهلاك الحرث والنسل؛ إذ صارت هذه الحرب في الإسلام جهاداً في تحقيق أهداف نبيلة، وأغراض سامية، وغايات محمودة، فقد صارت الحرب جهاداً في تخليص الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد؛ ليدخلوا في دين الإسلام الذي ارتضاه الله للعباد، فإذا أسلموا عرفوا أن قتال المسلمين لهم ماهو إلا علاج لأنفسهم لتسعد بدين الله، وماهو إلا دواء لقلوبهم لتطمئن بعبادة الله، ولولا الجهاد في سبيل الله لفسدت الأرض ببقاء الكفر والضلال، ولهدمت المساجد التي يذكر فيها اسم الله.
وصارت الحرب في الإسلام أيضاً جهاداً في تخليص الإنسان من نظام الظلم إلى نظام العدل، وصارت جهاداً في تخليص {الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 75].
وصارت الحرب جهاداً في تطهير أرض الله من الغدر والخيانة والإثم والعداون، إلى بسط الأمن والسلام والرأفة والرحمة، ومراعاة الحقوق، وإعطاء كل ذي حق حقه، وأعظم ذلك أن يعطى الخالق حقه فيعبد لا يشرك به شيئاً، فمن أبى أن يعطي الخالق حقه، بل وقاتل من يدعو الناس إلى إعطاء الخالق حقه، وصد الناس عن دينه وعبادته؛ فهو أظلم الناس، ومن الرحمة بالناس أن يُزال هذا الطاغوت الذي يحول بينهم وبين عبادة خالقهم، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114].
وقد أمر الله رسوله بالغلظة على الكافرين المحاربين لدين الله، المانعين الناس عن توحيد الله، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التحريم: 9]، وقال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].
وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بما أمره به ربه من جهاد الكافرين، وكان في جهاده لهم خير عظيم لهم أنفسهم، فالذين عُجِّل قتلهم فموتهم خير لهم من حياتهم؛ لأن حياتهم على الكفر ومحاربة دين الله ما هي إلا تكثير لسيئاتهم، وزيادة في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة، وأما المعاهدون الذين يدفعون الجزية فقد عاشوا في الدنيا آمنين في عهده وذمته، وهم أقل شراً بذلك العهد من المحاربين له.
وكم حصل من خير عظيم بالجهاد في سبيل الله! ومن أعظم ذلك أن دخل في دين الله من كان يصدهم المحاربون عن سبيل الله، وينفرونهم عن توحيد الله، من أولادهم ونسائهم ومن وراءهم، بل وكم دخل في دين الله من المحاربين أنفسهم عندما جاء نصر الله! ومنهم من أُسِر فسمع كلام الله، ورأى أخلاق عباد الله، فآمن بالله، ونجا من النار بفضل الله.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل»( ).
وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «عجبت لأقوام يساقون إلى الجنة في السلاسل وهم كارهون»( ).
قال ابن الجوزي رحمه الله: ((معناه:أنهم أُسِروا وقُيّدوا، فلما عرفوا صحة الإسلام دخلوا طوعاً فدخلوا الجنة، فكان الإكراه على الأسر)) ( ) اﻫ.
فجهاد نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام ليس لأطماع دنيوية، ولا لمنافع مادية، وإنما هو لإعلاء كلمة الله، ولإنقاذ الكافرين من عذاب الله.
هذا؛ وقد ظهرت رحمة النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد في مواقف كثيرة، منها ما يلي:
1)    عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعطى الراية يوم خيبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال له: «انفُذ على رِسْلِك [أي: على مهلك] حتى تنزل بساحتهم [أي: بساحة اليهود]، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله! لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم»( ).
الشاهد: أنه أمره بدعوتهم إلى الإسلام قبل قتالهم، وأن يخبرهم بما يجب عليهم من حق الله في الإسلام من العبادة والطاعة، وأخبره أن هداية رجل واحد منهم إلى الإسلام على يديه خير له من الإبل الحمر التي كانت أنفس وأغلى أموال العرب في ذلك الزمان.
2)    عن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال: «اغزوا، ولا تغُلُّوا [أي: لا تأخذوا من الغنيمة قبل قسمتها]، ولا تغدروا، ولا تُمثِّلوا [أي: بالقتلى من المشركين]، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم»( ).
والثلاث الخصال هي:
1.    الإسلام، فيكونوا مسلمين، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم.
2.    الجزية، وهي مال يدفعونه للمسلمين مع بقائهم على دينهم.
3.    القتال، فيقاتلهم المسلمون إن استكبروا عن قبول دين الله، وأبوا أن يدفعوا الجزية.
3)    عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان»( ).
وذلك لكون النساء والصبيان لا يقاتلون، ويلحق بهم كبار السن والأجراء الذي لا يعينونهم على قتال المسلمين، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث رجلاً إلى خالد بن الوليد وهو على المقدمة فقال: «قل لخالد: لا تقتلن امرأة ولا عسيفاً»( ) أي: أجيراً.
4)    عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «إن الغادر ينصب اللهُ له لواءً يوم القيامة، فيقال: ألا هذه غدرة فلان»( ).
وعموم هذا الحديث يدل أنه لا يجوز الغدر حتى في قتال الكافرين، وهذا من رحمة النبي عليه الصلاة والسلام في الجهاد.
5)    في غزوة الغابة طارد سلمة بن الأكوع رضي الله عنه المشركين الذي أغاروا على إبل المسلمين وقتلوا الراعي؛ حتى استنقذ جميع ما أخذوا، فقال سلمة: يا رسول الله! إن القوم عطاش، فلو بعثتني في مائة رجل استنقذت ماعندهم من السَّرح، وأخذت بأعناق القوم [أي: غنمنا إبلهم، وأسرناهم]، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا ابن الأكوع! ملكت فأسجح»( ).
قال النووي: ((أي: فأحْسِن وارفق، ولا تأخذ بالشدة فقد حصلت النكاية في العدو ولله الحمد)) ( ) اﻫ مختصراً.
6)    عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة [أي: احتمى بشجرة] فقال: أسلمت لله، أفأقتله  يا رسول الله  بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تقتله» قلت: يا رسول الله! إنه قد قطع يدي، ثم قال ذلك بعد أن قطعها، أفأقتله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تقتله»( ).
فإذا أسلم الكافر فلا يجوز قتله، حتى ولوكان قد أضر بالمسلمين في الحرب، فإن المسلمين لا يريدون إلا أن يسلم الكافر وينجو من عذاب الله.
7)    عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جهينة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت رجلاً منهم أنا ورجل من الأنصار، فلما غشيناه قال: لا الله إلا الله، فقتلته، فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: «يا أسامة! أقتلته بعدما قال: لا الله إلا الله؟ قلت: يا رسول الله! إنما كان متعوذاً [أي: قالها خوفاً من السلاح]، فقال: «أقتلته بعدما قال: لا الله إلا الله؟!» قال: فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم»( ).
فالنبي عليه الصلاة والسلام غضب من أسامة أشد الغضب عندما قتل ذلك الرجل وقد قال: لا الله إلا الله، وكان ذلك الرجل ¬ كما تفيد الروايات  قد أثخن في المسلمين، وقتل منهم، ومع ذلك فقوله: لا الله إلا الله يعصم دمه.
8)    في سنة 6ﻫ كان المسلمون في الحديبية يريدون أن يدخلون مكة معتمرين، فخرج ثمانون رجلاً من الكفار ليلاً، وحاولوا التسلل إلى معسكر المسلمين، فاعتقلهم المسلمون جميعاً، فأطلق نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم سراحهم وعفا عنهم( ).
9)    عفا النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة عن كفار قريش مع القدرة عليهم، وهم الذين طالما ناصبوه العداء، وهذا غاية ما يمكن أن يصل إليه صفح البشر وعفوهم( ).
10)    عن هشام بن حكيم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الله يعذب يوم القيامة الذي يعذبون الناس في الدنيا»( ).
هذا الحديث يبين أن الأسير لا يجوز تعذيبه، بل لا يجوز تعذيب أي إنسان كان بلا مبرر سواء كان مسلماً أو كافراً، وقد كان نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام يأمر بالإحسان إلى الأسرى، حتى إن كثيراً منهم أسلموا بسبب مارأوا من حسن معاملة النبي عليه الصلاة والسلام لهم، ورحمته بهم. ( )

* * *

 
الفصل الثالث
الرحمة بالكفار غير المحاربين
الكفار أربعة أقسام:
1)    محاربون: وهم الذين يقاتلون المسلمين.
2)    مستأمنون: المستأمن هو: الحربي الذي دخل دار الإسلام بأمان دون نية الاستيطان بها.
3)    معاهِدون: المعاهد من له عهد مع المسلمين إما بأمان من مسلم أو هدنة من حاكم
أو عقد جزية.
4)    ذميون: الذمي هو: المعاهد الذي أُعطي عهداً يأمن به على ماله وعرضه ودينه.

فالذين يقاتلهم المسلمون هم المحاربون فقط الذي يصدون عن سبيل الله، ويمنعون المسلمين عن تبليغ دين الله، أما من عداهم من المعاهدين والمستأمنين والذميين فإنهم لا يقاتلونهم قال الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [التوبة: 4]، وقال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6]، وقال الله تعالى: { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].
فالأصل في الكفار غير المحاربين أن يعاملوا بالحسنى، قال الله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46].
فدين النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو دين السماحة والرحمة، وهو يسع الناس كلهم، ويغمرهم بالرحمة والإحسان، فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو الرحمة المهداة إلى الخلق كلهم، والأحاديث في الرحمة بالكافرين غير المحاربين كثيرة منها ما يلي:
1)    عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «اتق دعوة المظلوم وإن كان كافراً»( ).
هذا الحديث فيه التحذير من ظلم الكافر في نفسه أو ماله أو عرضه.
2)    عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنكم ستفتحون مصر، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحماً»( ).
هذا الحديث فيه معجزة للنبي عليه الصلاة والسلام، فقد أخبر أن المسلمين سيفتحون مصر، وقد حصل ذلك فعلاً، وأوصاهم بالإحسان إلى أهلها مع أنهم كانوا أقباطاً غير مسلمين، وعلل ذلك بأن لهم ذمة أي: حقاً وحرمة، ورحماً لكون هاجر أم إسماعيل عليه الصلاة والسلام منهم.
3)    عن عمرو بن الحَمِق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من أمّن رجلاً على دمه فقتله فأنا بريء من القاتل، ولو كان المقتول كافراً»( ).
هذا الحديث فيه الرحمة بالكفار المستأمنين.
4)    عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من قتل نفساً معاهدة بغير حلها، حرم الله عليه الجنة أن يشم ريحها»( ).
هذا الحديث فيه الرحمة بالكفار المعاهدين.
5)    عن رجل من الصحابة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من قتل رجلاً من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاماً»( ).
هذا الحديث فيه الرحمة بالكفار الذميين.
6)    عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن الله عز وجل لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم؛ إذا أعطوكم الذي عليهم»( ).
أي: إذا أدوا الجزية التي عليهم.
7)    عن رجل من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «دعوا الحبشة ماودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم»( ).
أي: لا تتعرضوا لهم إلا إن تعرضوا لكم، أما إذا دخلوا بلاد المسلمين قهراً فيجب قتالهم( ).
وهذا الحديث يؤيد مارجحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه يجوز عقد الهدنة بين المسلمين والكفار مطلقاً بدون تحديد مدة إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين، ويكون هذا العقد جائزاً غير لازم، بمعنى أن ينص العقد على أن للمسلمين أن ينقضوه متى ما أرادوا. ( )
8)    عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء»( ).
ويدخل في هذا سب من مات من الكفار ممن هو قريب للكفار غير المحاربين فيؤذيهم سبه، فهذا منهي عنه شرعاً.
9)    عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء الصحابة عن آبائهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا من ظلم معاهِداً أو انتقصه أو كلّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسٍ منه فأنا حجيجه يوم القيامة»( ).
هذا الحديث كان مشهوراً جداً بين الصحابة والتابعين، فقد رواه ثلاثون راوياً من أبناء الصحابة عن آبائهم كما في رواية البيهقي( ).
قال في "عون المعبود": (( «معاهداً» أي: ذمياً أو مستأمناً «أو انتقصه» أي: نقص حقه أو عابه «أو كلفه فوق طاقته» أي: في أداء الجزية بأن أخذ ممن لا يجب عليه الجزية أو أخذ ممن يجب عليه أكثر مما يطيق «فأنا حجيجه» أي: خصمه ومحاجه ومغالبه بإظهار الحجج عليه))( ).اﻫ مختصراً.
10)    عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذن رهط [جماعة] من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم [أي: الموت عليكم] فقالت عائشة: بل عليكم السام واللعنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا عائشة! إن الله يحب الرفق في الأمر كله» قالت: ألم تسمع ما قالوا؟! قال: «قد قلت: وعليكم»( ).
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن اليهود إذا سلم عليكم أحدهم فإنما يقول: السام عليك، فقولوا: وعليك»( ).
الشاهد: أن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم لم يأمر بسبهم أو ضربهم، وقد ذكر الحديث الأخير الألبانيُ رحمه الله في "السلسة الصحيحة" وقال: ((فهذا التعليل يعطي أنهم إذا قالوا: السلام عليك، يرد عليهم بالمثل وعليك السلام، ويؤيده عموم قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86].
فإنها بعمومها تشمل غير المسلمين أيضاًً، ويؤيد الآية على عمومها أمران:
الأول: ما أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (1107) عن عبدالله ابن عباس قال: «ردوا السلام على من كان يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً، ذلك بأن الله يقول: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } [النساء: 86] ».
ويقوي هذه الرواية ما روى سعيد بن جبير عن عبدالله بن عباس قال: «لو قال لي فرعون: بارك الله فيك، قلت: وفيك» وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (1113)، وسنده صحيح.
والآخر: قول الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [الممتحنة: 8].
فهذه الآية صريحة بالأمر بالإحسان إلى الكفار المواطنين الذين يسالمون المؤمنين ولا يؤذونهم، والعدل معهم، ومما لا ريب فيه أن أحدهم إذا سلم قائلاً بصراحة: السلام عليكم. فرددنا عليه باقتضاب: وعليك؛ أنه ليس من العدل في شيء بله البر، لأننا في هذ الحالة نسوي بينه وبين من قد يقول منهم: السام عليكم، وهذا ظلم ظاهر، والله أعلم)) ( ) اﻫ مختصراً.
هذا؛ وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يجوز بدء الكفار بالتحية بغير لفظ السلام، كأن يُقال لأحدهم: كيف حالك، وكيف أصبحت، وكيف أنت؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن بداءتهم بالسلام، والسلام يتضمن الإكرام والدعاء؛ لأنك إذا قلت: السلام عليك فأنت تدعو له، أما هذا فهو مجرد ترحيب وتحية( ).
إذاً: يشرع للمسلم أن يرد سلام الكافر غير الحربي إذا سلّم سلاماً صحيحاً، ويجوز أن يبدأه المسلم بالتحية بغير لفظ السلام، ويحرم عليه أن يبدأه بالسلام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه»( ).
وإنما نهى عن ابتدائهم بالسلام لأن في ذلك إعزازاً لهم، وهم أعداء الله، فيجب أن يكونوا أذلين لكفرهم، ولكن نبي الرحمة لم يأمر بسبهم أو إيذائهم ما داموا مسالمين للمسلمين، أما قوله: «فاضطروه إلى أضيقه» فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((قال القرطبي: معناه: لا تتنحوا لهم عن الطريق الضيق إكراماً لهم واحتراماً.
وعلى هذا فتكون هذه الجملة مناسبة للجملة الأولى في المعنى، وليس المعنى إذا لقيتموهم في طريق واسع فألجئوهم إلى حرفه [أي:طرفه] حتى يضيق عليهم؛ لأن ذلك أذى لهم، وقد نهينا عن أذاهم بغير سبب)) ( ) اﻫ.
وقد تقدمت بعض الأدلة التي تدل على عدم جواز إيذاء الكافرين غير المحاربين وظلمهم، وتقدم أن الله تعالى أمر في كتابه الكريم بالإحسان إليهم، والعدل معهم.

* * *

 
الباب العاشر
رحمة النبي عليه الصلاة والسلام يوم القيامة
أخبر نبي الرحمة الصادق المصدوق بأحاديث عن يوم القيامة، وفيها بيان رحمته وشفقته، ومن هذه الأحاديث:
1)    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أنا سيد الناس يوم القيامة، يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب مالا يطيقون وما لا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟
فيأتون آدم فيقولون: ياآدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، نفسي نفسي، اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح! أنت أول الرسل إلى الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، اشفع لنا إلى ربك، فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم.
فيأتون إبراهيم فيقولون: أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، نفسي نفسي، اذهبوا إلى موسى.
فيأتون موسى، فيقولون: يا موسى! أنت رسول الله، فضلك الله برسالاته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، نفسي نفسي، اذهبوا إلى عيسى.
فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى! أنت رسول الله، وكلمت الناس في المهد، وكلمة منه ألقاها إلى مريم، وروح منه، فاشفع لنا إلى ربك، فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، نفسي نفسي، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
فيأتوني فيقولون: يا محمد! أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك.
فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً. لم يفتحه لأحد قبلي، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، سل تُعْطَه، اشفع تُشَفَّع. فأرفع رأسي فأقول: يا رب! أمتي أمتي»( ).
وفي حديث أنس: «فأقول: يا رب! أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج من النار من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان، فأنطلق فأفعل. ثم أقول: يا رب! ائذن لي فيمن قال: لا الله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال: لا الله إلا الله»( ).اﻫ الحديث باختصار.
وهذا هو المقام المحمود الذي وعد الله به نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } [الإسراء: 79].
2)    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «لكل نبي دعوة، وأردت إن شاء الله أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة»( ).
3)    عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا كان يوم القيامة شُفِّعت فقلت: يا رب! أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة من إيمان، فيدخلون، ثم أقول: أدخل الجنة من كان في قلبه أدنى شيء»( ).
4)    عن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فيدخلون الجنة يسمون الجهنميين»( ).
5)    عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أنا أول الناس يشفع في الجنة، وأنا أكثر الأنبياء تبعاً»( ).
6)    عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي»( ).
وهذا لا يعني الاستهانة بالكبائر والمعاصي، فإن صاحبها سيُجزى بها ولا بد كما قال تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، فيُجزى بذنبه إما في الدنيا بمصائب وبلايا أو في القبر بعذاب وفتنة أو يوم القيامة بكرب وأهوال، ثم هو تحت مشيئة الله إن شاء عذَّبه في النار بذنبه وإن شاء غفر له بلا عذاب في النار، وإن عذَّبه في النار فإنه لا يُخلَّد فيها بل يخرج بشفاعة نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث، هذا إذا كان مسلماً، أما الكافرون فليس لهم نصيب في الشفاعة، قال الله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]، وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48].
7)    عن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «رأيت ما تلقى أمتي من بعدي، وسفك بعضهم دماء بعض، وكان ذلك سابقاً من الله، كما سبق في الأمم قبلهم، فسألته أن يوليني فيهم شفاعة ففعل»( ).
فقد أعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم بما سيقع في أمته من فتنة وقتال فيما بينهم، وكان ذلك مقدراً عليهم كما قدره الله على الأمم من قبلهم، ولكن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يشفِّعه فيهم فيغفر لهم بشفاعته عليه الصلاة والسلام؛ ففعل الله ذلك، واستجاب له في أن يشفع لهم يوم القيامة.
8)    عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم: { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [إبراهيم: 36]، وقال عيسى عليه السلام: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، فرفع يديه وقال: «اللهم أمتي أمتي، وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل! اذهب إلى محمد  وربك أعلم  فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل! اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك»( ).
وهذا كما وعده الله في القرآن بقوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5].
9)    عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح [أي: أطلب الدخول] فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك»( ).
وهذا من رحمة النبي عليه الصلاة والسلام حيث يطلب فتح باب الجنة ليدخل المؤمنون، وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يشفع إلى الله فيقال: يا محمد! أدخل الجنة من أمتك من لاحساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب»( ).
10)    عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته؛ حلّت له شفاعتي يوم القيامة»( ).

* * *

 
الباب الحادي عشر
كشف الشبهات حول رحمة النبي عليه الصلاة والسلام
تبين مما سبق ذكره في الأبواب السابقة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بلغ الغاية في الرحمة بالبشر، وأنه لا كان ولا يكون أرحم منه بالبشر، وأنه كما وصفه الله رحمة للعالمين، لكن قد يورد بعض المغرضين شبهاً من شريعته أو سيرته، ويدّعون أنها تنافي رحمته عليه الصلاة والسلام، وسأذكر فيما يلي أعظم الشبه التي يدّعون أنها تنافي الرحمة، وسأبين  بإذن الله  بطلانها، وأوضح فسادها، بالحجة والبرهان، والتبيين والبيان، وهذه الشبه هي حول ما يلي:
1)    الجهاد.
2)    الجزية.
3)    الرق والتسري.
4)    الغنائم.
5)    الحدود في الإسلام.
‌أ-    حد السرقة.
‌ب-    حد الزنا.
‌ج-    حد الخمر.
‌د-    حد الردة.
6)    القصاص.
7)    تعدد الزوجات.

وفيما يلي بيان أن هذه الأمور لا تنافي رحمة النبي صلى الله عليه وسلم:
 
الجهـــاد
الحرب ظاهرة إنسانية قديمة، فمنذ خُلق الإنسان وهو يصارع ويحارب، قال ابن خلدون في مقدمته: ((اعلم أن الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله، وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض، ويتعصب لكل منهم أهل عصبية، وهو أمر طبيعي في البشر، إما غيرة ومنافسة، وإما عدوان، وإما غضب للمُلك وسعي في تمهيده،وإما غضب لله ولدينه،))( ).اﻫ باختصار.
الجهاد في الإسلام هو لإعلاء كلمة الله، قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } [الأنفال: 38 - 40].
قال الإمام المفسر ابن كثير رحمه الله: ((يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا } أي: عما هم فيه من الكفر والمشاقة والعناد، ويدخلوا في الإسلام والطاعة والإنابة، { يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } أي: من كفرهم وذنوبهم وخطاياهم، { وَإِنْ يَعُودُوا } أي: يستمروا على ما هم فيه { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ } أي: فقد مضت سنتنا في الأولين أنهم إذا كذبوا واستمروا على عنادهم أنا نعاجلهم بالعذاب والعقوبة)) ( ) اﻫ مختصراً.
وقال الإمام المفسر ابن جرير رحمه الله: ((فقاتلوهم حتى لا يكون شرك، ولا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض، وهو الفتنة، { وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } أي: وحتى يكون الطاعة والعبادة كلها لله خالصة دون غيره، قال ابن جريج: أي: لا يفتن مؤمن عن دينه، ويكون التوحيد لله خالصاً ليس له فيه شريك، ويخلع ما دونه من الأنداد.
وأما قوله: { فَإِنِ انْتَهَوْا } فمعناه: فإن انتهوا عن الفتنة وهي الشرك بالله، وصاروا إلى الدين الحق معكم { فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي: لا يخفى عليه ما يعملون من ترك الكفر، والدخول في الإسلام)) ( ) اﻫ مختصراً.
فمن أبى أن يعبد الله الذي خلقه، ولم يؤمن برسوله الذي أرسله، ولم يصدق بكتابه الذي أنزله، فإنه في الآخرة من الخاسرين، وفي الدنيا يجب أن يكون من الأذلين، قال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 20، 21].
قال ابن كثير رحمه الله: ((يقول تعالى مخبراً عن الكفار المعاندين المحادين لله ورسوله، الذين هم في حد، والشرع في حد أي: مجانبون للحق، مشاقون له، هم في ناحية، والهدى في ناحية { أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ } أي: في الأشقياء المبعدين المطرودين عن الصواب في الدنيا والآخرة { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } أي: قد حكم وكتب في كتابه الأول بأن النصرة له ولكتابه ورسله وعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة كما قال: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [غافر: 51])) ( ). اﻫ مختصراً.
ولا يشكل على هذا أن المسلمين قد يُهزمون في معركة فإن الأمر كما قال الله: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140].
قال ابن القيم رحمه الله:        
والحق منصورٌ وممتحنٌ فلا تعجبْ فهذي سنة الرحمن
وقد بين الله للمسلمين أسباب النصر في كتابه فإذا أخذوا بها  في أي زمان ومكان  نصرهم الله، وإذا لم يأخذوا بها خذلهم الله.
هذا؛ والجهاد في سبيل الله مشروع في الأمم السابقة، قال الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].
(ربيون): أي:جموع كثيرة من العلماء والصالحين قاتلوا مع الأنبياء في سبيل الله( ).
وقد أمر الله ذا القرنين أن يعذب من أبى أن يعبد الله كما أخبرنا الله في كتابه: {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا } [الكهف: 86 - 88].
وذو القرنين عبد صالح ملّكه الله في الأرض، أخبر الله عنه أنه وجد في سفره نحو المغرب أمة كافرة، فمكّنه الله منهم، وحكّمه فيهم إن شاء قتل وسبى، وإن شاء منّ عليهم، فقال: { أَمَّا مَنْ ظَلَمَ } أي: استمر على كفره وشركه بربه {فَسَوْفَ نُعَذِّبُه} أي: بالقتل { ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا } أي: شديداً بليغاً، { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ } أي: اتبعنا على ما ندعوه إليه من عبادة الله وحده لا شريك له { فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى } أي: فله الجنة في الدار الآخرة عند الله { وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا } أي: معروفاً( ).
إذاً: قتال من لم يعبد الله هو قتال بأمر الله، جزاء على ظلمه حيث لم يعبد الله وحده الذي خلقه لعبادته، فقد قال الله: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقال سبحانه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، فيجب على المخلوق أن يؤدي حق الله كما عليه أن يؤدي حق عباد الله، فكما تجب عليه طاعة والديه، وطاعة مديره، وطاعة أميره؛ فيجب عليه طاعة خالقه سبحانه، وكما يستحق الإنسان العقوبة على ترك طاعة والديه، أو مديره، أو أميره، فكذلك يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة على ترك طاعة خالقه سبحانه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(( كل من بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين الله الذي بعثه به فلم يستجيب له؛ فإنه يجب قتاله {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } [الأنفال: 39]))( ).اﻫ
إن هدف الجهاد هو إعلاء كلمة الله، وإظهار دين الله، ولهذا فالإسلام لا يبيح القتال لغايات عدوانية، أو مقاصد مادية، أو لسيادة عنصر على عنصر، أو شعب على شعب، أو توسيع رقعة مملكة أو مكاسب اقتصادية أو أسواق تجارية مما تتخذه الدول القوية قديماً وحديثاً وسيلة لإشعال الحروب، وهدم السلم الدائم، فغاية الجهاد في الإسلام مبادئ كريمة يعم نفعها الناس جميعاً في الدنيا والآخرة.
والجهاد في الإسلام إما أن يكون لدفع العدو الذي غزا المسلمين إلى ديارهم، ويريد فتنتهم في دينهم، وإما أن يكون لغزو الكفار في ديارهم، لإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فإذا أسلموا عرفوا أن قتال المسلمين لهم ما هو إلا علاج لأنفسهم الظالمة، ودواء لقلوبهم المريضة بالكفر والشرك، ولولا الجهاد في سبيل الله لفسدت الأرض ببقاء الكفر والضلال، قال الله: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] أي: لولا الله يدفع عن قوم بآخرين لفسدت الأرض بالظلم والطغيان والمعاصي والعذاب { وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } فمن رحمته بهم أنه يدفع أهل الباطل بأهل الحق؛ ولهذا شرع الله لرسوله الجهاد في سبيله.
قال المباركفوري: ((لم تكن من شيمة العرب أن يخضعوا لأحد، مهما طال القتال، ومهما غلا الثمن، فقد دام القتال بين بكر وتغلب في حرب البسوس أربعين عاماً، وكانت ضحيتها حوالى سبعين ألف مقاتل، ولم يخضع أحدهما للآخر، ودامت حروب الأوس والخزرج أكثر من مائة عام، ولم يخضع أحدهما للآخر، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالإسلام، قاتل العرب بأسلوب آخر حكيم، حتى فتح قلوبهم قبل أن يفتح بلادهم؛ ولذلك فإن مجموع من قُتِل في جميع غزواته وحروبه عليه الصلاة والسلام من المسلمين والمشركين واليهود والنصارى في حدود ألف قتيل فقط، في مدة لا تزيد على ثمانية أعوام.
وفي هذه الفترة القليلة، وبإهراق هذا القدر القليل من الدم أخضع الجزيرة العربية كلها تقريباً، وبسط الأمن والسلام في ربوعها وأرجائها.
إنها نبوة ورحمة، ورسالة وحكمة، ودعوة ومعجزة، وفضل من الله ونعمة، فقد جعل النبي عليه الصلاة والسلام الحرب سبيلاً لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، وسبيلاً لنصرة المظلومين، وكبت الظالمين، ولبسط الأمن والسلام على الأرض، وإقامة العدل)) ( ).اﻫ بتصرف.
وقال المباركفوري أيضاً: ((إن الحروب الدامية التي جرت بين المسلمين وبين أعدائهم لم تكن أهدافها  بالنسبة إلى المسلمين  مصادرة الأموال، وإبادة الأرواح، وإفناء الناس، أو إكراه العدو على اعتناق الإسلام، وإنما يهدفون إلى الحرية الكاملة للناس في العقيدة والدين {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، ولا يحول بينهم وبين ما يريدون أي قوة من القوات)) ( ).اﻫ
فمن اختار طريق الإيمان فقد فاز فوزاً عظيماً، وله العزة في الدنيا والجنة في الآخرة، ومن اختار طريق الكفر فقد خسر خسراناً عظيماً، وله المذلة في الدنيا والنار في الآخرة.
فالإسلام يخيِّر الكفار بين الدخول في دين الله الذي ارتضاه لعباده أو التعايش مع المسلمين مع دفع الجزية، وإلا فالسيف والقتال لمن استكبر عن دين الله، ولا يسلط السيف على الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة الذين لا يقاتلون، قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [البقرة: 190].
أي: قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا بقتال من لا يقاتلكم من النساء والصبيان والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم، والرهبان، وكذلك لا تحرقوا الأشجار وتقتلوا الحيوان لغير مصلحة، وكذلك لا تمثلوا بجثث القتلى { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }( ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((مقصود الجهاد أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فمن امتنع من هذا قوتِل، وأما من لم يكن من أهل المقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزَمِن [أي: المريض مرضًا لا يُرجى شفاؤه] ونحوهم فلا يُقْتَل أحد منهم إلا أن يقاتِل بقوله أو بفعله، فالقتال لمن يقاتلنا؛ وذلك أن الله تعالى أباح من قتْل النفوس ما يُحتاج إليه في صلاح الخلق، كما قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } [البقرة: 217] أي: أن القتل وإن كان فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أكبر منه، فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه؛ ولهذا أوجبت الشريعة قتال الكفار، ولم توجب قتل المقدور عليهم منهم))( )   اﻫ باختصار.
وقال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193].
أي: قاتلوا الكفار حتى لا يكون شرك، ويكون دين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان الباطلة، فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك وقتال المؤمنين فكفوا عنهم، فإن من قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم، ولا عدوان إلا على الظالمين، قال مجاهد: لا يُقاتَل إلا من قاتل( ).
والجهاد في الإسلام حرب مشروعة عند كل عقلاء البشر المنصفين، وهي من أنقى الحروب من جميع الجهات:
من ناحية الهدف، ومن ناحية الأسلوب، ومن ناحية الشروط والضوابط، ومن ناحية النتائج والآثار.
هذا؛ وقد وردت أسباب الحرب في التوراة والإنجيل.
ففي التوراة: (وحارب بنو يهوذا أورشليم، وأخذوها، وضربوا بحد السف، وأشعلوا المدينة بالنار، وبعد ذلك نزل بنو يهوذا لمحاربة الكنعانيين سكان الجبل، وسكان الجنوب والسهل) ( ).
وجاء في الإنجيل على لسان عيسى بن مريم عليه السلام: (لا تظنوا أني جئت لأرسي سلاماً على الأرض، ما جئت لأرسي سلاماً، بل سيفاً، فإني جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه، والبنت مع أمها، والكنة مع حماتها، وهكذا يصير أعداء الإنسان أهل بيته) ( ).
فالقتال سنة كونية سرت في الأمم جميعاً، ولم نر في تاريخ الأمم أمة خلت من القتال، وهو سنة شرعية لم تخل شريعة من الشرائع السماوية السابقة على الإسلام من تقريره والقيام به.
ولولا الجهاد لضاع الدين الحق، وحل محله الباطل، ألم تر كيف تصدى الكفار لعيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم، حتى استصدروا أمراً بصلبه، فنجاه الله منهم، وما زالوا بالذين اتبعوه يضطهدونهم ويقتلونهم حتى مضت ثلاثة قرون وهم مشردون في الأرض، إلى أن حماهم من أعدائهم السيف على يد الأمبراطور قسطنطين الذي أعمل السيف في الوثنيين أعداء النصارى؟!
فهل يريد مثيرو هذه الشبهة أن يقوم الإسلام على غير السنن الطبيعية في عالم مبني على سنن التدافع والتنازع؟!
هذا؛ وقد كان من نتائج جهاد النبي صلى الله عليه وسلم ما يلي:
1)    تحويل العرب الوثنيين إلى مسلمين موحدين.
2)    تحويل العرب الجفاة إلى عرب متحضرين.
3)    القضاء على أحداث السلب والنهب، وتعزيز الأمن العام في الجزيرة العربية بأكملها.
4)    إحلال الأخوة والمحبة محل العداوة والبغضاء.
5)    إثبات الشورى في الحكم مكان الاستبداد( ).
وبهذا يتبين أن الجهاد في سبيل الله لاينافي رحمة النبي عليه الصلاة والسلام، بل هو من رحمته، ففي الجهاد مصالح عديدة، وفوائد كثيرة، قال الله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
* * *
 
الجــــزية
الجزية هي: جزء من المال يؤخذ من الكفار المقاتلين كل سنة مقابل حمايتهم وإقرارهم في بلاد المسلمين.
وقد تبين من مشروعية الجهاد في الإسلام أن الله أمر المؤمنين أن يقاتلوا أعداءه الذين كفروا به، وأعرضوا عن دينه الذي ارتضاه لعباده، وكذبوا رسوله وكتابه، وصدوا الناس عن سبيله، فإن لم يقاتلوا المسلمين، وخلَّوا بينهم وبين دعوة الناس إلى دين الله، فإن المسلمين لا يقاتلونهم، ولا يكرهونهم على الدخول في دين الله، ولكن عليهم أن يدفعوا جزية تقابل ما يدفعه المسلمون من زكاة، ولهم أن يعيشوا في ظل دولة المسلمين آمنين في حياتهم، ولكن لهم الويل من الله بعد مماتهم، حيث كفروا بالله ربهم، واستكبروا عن قبول دين خالقهم، قال الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].
فقد أمر الله رسوله أن يأخذ الجزية ممن لم يؤمن به، وأخذها منهم فيها نوع من الغلظة على الكافرين التي أمر الله رسوله بها؛ جزاء على كفرهم بالله، وفيها نوع من الرحمة بهم حيث تُركوا على دينهم الباطل، ولم يُكرهوا على اتباع الدين الحق، قال الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256].
هذا؛ والجزية لا تكون إلا على من يقاتِل، فلا جزية على صبي ولا امرأة ولا فقير يعجز عنها( )، وهذا مما يبين أن الجزية لا تنافي رحمة النبي عليه الصلاة والسلام.

* * *

 
الرِّق والتسرِّي
الأصل في الإنسان الحرية، والرق أمر طارئ، والرق نظام قديم قدم المظالم والاستعباد، وكان الاسترقاق من عقوبات السرقة عند العبرانيين القدماء، وفي الحضارات القديمة كان الرق عماد نظام الإنتاج والاستغلال، وفي بعض تلك الحضارات كالفرعونية والفارسية كان النظام الطبقي يحول دون تحرير الأرقاء، وفي الحضارة الرومانية كان السادة هم الأقلية الرومانية، وكانت الأغلبية في الأمبراطورية أرقاء أو في حكم الأرقاء.
 وعندما ظهر الإسلام كانت للمظالم الاجتماعية والتمييز العرقي والطبقي منابع وروافد عديدة تغذي نهر الرق في كل يوم بمزيد من الأرقاء، وذلك مثل:
1)    الحرب، فالأسرى يتحولون إلى أرقاء، والنساء يتحولن إلى سبايا وإماء.
2)    الخطف.
3)    العجز عن سداد الديون، فيتحول المدين إلى رقيق لدى الغني الدائن في بعض الأحوال.
4)    النسل المولود من الأرقاء يصبح رقيقاً.
وأمام هذا الواقع اتخذ الإسلام طريق الإصلاح في قضية الرق، فألغى الإسلام وحرم أغلب الروافد التي كانت تزيد من الرقيق، فلم يبق منها إلا أسرى الحرب الشرعية، والنسل إذا كان أبواه من الأرقاء.
 وقد فتح الإسلام أمام أسرى الحرب باب العتق والحرية بالمن أو الفداء، قال الله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4].
وسعى الإسلام إلى تصفية كتلة الأرقاء بالتحرير، فحبب إلى المسلمين عتق الأرقاء تطوعاً، كما جعل الإسلام عتق الأرقاء كفارة كثير من الذنوب والخطايا، وجعل للدولة مدخلاً في تحرير الأرقاء، حيث جعل من مصارف الزكاة تحرير الرقاب، وجعل الحرية هي الأصل التي يولد عليه الناس، والرق هو الاستثناء الطارئ الذي يحتاج إلى إثبات، فمجهولو الحكم هم أحرار، وأولاد الأمة من الأب الحر هم أحرار.
بل شرع الله للرقيق شراء أنفسهم بنظام المكاتبة فقال: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } [النور: 33]، وهذا باب عظيم جدًا للحرية، فكل رقيق من عبد أو أمة يحب أن يحرر نفسه فإن الله أمر سيده أن يجيبه إلى طلبه إن علم فيه خيراً،بل وأمر سيده أن يؤتيه من مال الله، فأي تسهيل لتحرير العبيد بعد هذا التسهيل؟!
فشريعة نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم في الرقيق بلغت الغاية في الرحمة بهم، والحرص على تحريرهم.
وقد سبق الإسلام الحضارة الغربية الحديثة التي تزعمت في العصر الحديث الدعوة إلى تحرير الأرقاء، بعد أن استعبد المستعمرون الأسبان والبرتغاليون والإنجليز والفرنسيون سكان أمريكا الأصليين، وأهلكوهم في البحث عن الذهب، وإنشاء المزارع، ومارسوا أكبر أعمال القرصنة والخطف في التاريخ، تلك التي راح ضحيتها أكثر من أربعين مليونًا من زنوج أفريقيا، سُلْسِلوا بالحديد، وشُحِنوا في سفن الحيوانات؛ لتقوم على دمائهم وعظامهم المزارع والمصانع والمناجم، ولا يزال أحفادهم يُعانون من التفرقة العنصرية في الغرب إلى الآن كما هو معلوم.
وعندما سعت أوروبا في القرن التاسع عشر إلى إلغاء الرق، وتحريم تجارته؛ كانت دوافعها في أغلبها مادية، وفي ذلك القرن الذي دعت فيه أوروبا لتحرير الرقيق استعمرت العالم، فاسترقت بهذا الاستعمار الأمم والشعوب استرقاقًا جديدًا، ولا تزال الإنسانية تُعاني منه حتى الآن.
هذا ما يتعلق بالرق، أما التسري فهو اتخاذ مالك الأمة منها سرية يُعاشرها معاشرة الأزواج، ولم يكن الرق والتسرى تشريعًا إسلاميًا مبتكرًا، وإنما كان موروثًا اجتماعيًا واقتصاديًا إنسانيًا، ذاع وشاع في كل الحضارات عبر التاريخ، وكان التسري فرعًا من فروع الرق.
ولقد جاء في المأثورات التاريخية المشهورة أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام تسرى بهاجر المصرية أم إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وجاء في المأثورات التاريخية أن نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام تسرّى بثلاثمائة سرية، وكما شاع التسري عند العرب قبل الإسلام، فلقد مارسه في التاريخ الإسلامي غير المسلمين مثل المسلمين.
ولقد وضع الإسلام للتسَري ضوابط شرعية، وجعل الغرض من التسَري ليس مجرد إشباع غرائز الرجل، وإنما أيضًا الارتفاع بالأمة إلى ما يقرب كثيرًا من رتبة الزوجة الحرة.
وقد شرع نبي الرحمة براءة رحم الأمة قبل التسري بها فقال: «لا تُوطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض»( ) أي: حتى يتأكد مالكها من خلو رحمها من الحمل.
ومن المقاصد الشرعية من التسري تحقيق الإحصان والاستعفاف للرجل والمرأة، وثبوت النسب لأولادهن.
بل جعل الإسلام من نظام التسري سبيلاً لتحقيق مزيد من الحرية للأرقاء، فأولاد السرية يولدون أحرارًا، وبمجرد أن تلد ترتفع إلى مرتبة (أم ولد)، ثم تصبح كاملة الحرية بعد وفاة والد أولادها الذي تسرى بها( ).
وبهذا يتبين أن رحمة النبي عليه الصلاة والسلام قد عمت الرقيق من العبيد والإماء، وقد تقدم في الباب الرابع فصل مستقل في رحمة النبي عليه الصلاة والسلام بالرقيق، وهو الفصل الخامس عشر فراجعه.

* * *

 
الغنـــائم
الغنائم هي: ما يأخذه المسلمون من الكفار عند القتال، وقد كانت محرمة على الأنبياء قبل النبي عليه الصلاة والسلام، وأحلها الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أُعطِيت خمساً لم يُعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعِلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل [أي: أينما كان ولو في غير المسجد]، وأُحلت لي الغنائم، وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس كافة، وأُعطيت الشفاعة»( ).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((قال الخطابي: كان من تقدم [من الأنبياء] على ضربين: منهم من لم يؤذن له في الجهاد فلم تكن لهم مغانم، ومنهم من أذن له فيه لكن كانوا إذا غنموا شيئاً لم يحل لهم أن يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته)) ( ). اﻫ
وكما أذن الله للمسلمين في قتال أعدائه الذين لم يؤمنوا به، فقد أذن لهم في الغنائم التي يأخذونها منهم عند قتالهم، قال الله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الأنفال: 69].
وهذه الغنائم التي يستولي عليها المجاهدون ليست كلها لهم، فقد جعل الله فيها حظاً لغيرهم فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41].
فأربعة أخماس الغنيمة للغانمين، وخمس الغنيمة الباقي يُصرف في مصالح المسلمين، ولقرابة النبي عليه الصلاة والسلام إكرامًا لهم، ولكونهم لا تحل لهم الزكاة، ولليتامى والمساكين وابن السبيل.
عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لا يحل لي من غنائمكم مثل هذا [وأخذ وبرة من جنب البعير] إلا الخمس، والخمس مردود فيكم»( ).
أي: مصروف في مصالحكم.
هذا؛ والكفار إذا انتصروا على المسلمين فإنهم يأخذون الغنائم التي يقدرون عليها، فكيف لا يأخذ المسلمون الغنائم إذا انتصروا على الكافرين؟!
إن أخذ الغنائم أمر طبيعي في الحروب القديمة والحديثة، فالمنتصر يأخذ ما وجد من غنائم المنهزم، ولكن الشأن في مشروعية ذلك القتال، هل هو بحق أو أنه بغي وعدوان؟
والغنائم مذكورة في التوراة، ففيها: (وغنيمة المدن التي أخذنا الجميع دفعه الرب إلهنا أمامنا)( ).
وبهذا يتبين أن أخذ الغنائم لا ينافي رحمة النبي عليه الصلاة والسلام، فقد أمره الله بقتال الكافرين المحاربين والغلظة عليهم فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73].
ومن الغلظة عليهم أخذ ما يقدر عليه من أموالهم، هذا إن كانوا محاربين لدعوة الله، أما إن كانوا مسالمين فلا يحل قتالهم أصلاً.
وإن من رحمة النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يتأخر في قسمة الغنائم عسى أن يرجع أصحابها تائبين مسلمين، فيرد إليهم أموالهم، ففي غزوة حنين انتصر المسلمون على هوازن، وغنموا غنائم عظيمة جداً من السبي والإبل والغنم والفضة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجمعها، ثم حبسها بالجعرانة [اسم منطقة]، ثم مكث النبي عليه الصلاة والسلام بالجعرانة بضع عشرة ليلة لا يقسم الغنائم، ويتأنى بها، يبتغي أن يقدم عليه وفد هوازن تائبين فيحرزوا ما فقدوا، فلما لم يجئه أحد قسم الغنائم.
وبعد توزيع الغنائم أقبل وفد هوازن مسلماً، وطلبوا من النبي عليه الصلاة والسلام أن يرد إليهم الغنائم، ولكن قد فات الأوان، فقد وُزِّعت الغنائم، وملك كل إنسان ما أُعطِي منها، ومع هذا فإن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم قال لهم: {إن معي من ترون [أي: من الناس]، وإن أحب الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إما السبي وإما المال، وقد كنت استأنيت بكم [أي: تأخرت في قسم الغنائم من أجلكم عسى أن تتوبوا] فقالوا: فإنا نختار السبي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين فخطب فقال: «إن إخوانكم قد جاءونا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيِّب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل، فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله! [أي: تنازلنا عن حقنا من السبي] فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم» [العريف: النقيب، وهو دون الرئيس، وقد كان للصحابة عرفاء لتنظيم أمورهم] فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيّبوا وأذنوا»( ).
وعن صخر بن عيلة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إذا أسلم الرجل فهو أحق بأرضه وماله»( ) أي: قبل قسمتها.
وبهذا يتبين أن الغنائم التي تؤخذ من أعداء الله المحاربين لدينه لا تنافي رحمة النبي عليه الصلاة والسلام، بل قد بلغت رحمة النبي عليه الصلاة والسلام الغاية في أمر الغنائم.
* * *
الحدود في الإسلام
الحدود هي: العقوبات المقدرة شرعاً لمن ارتكب كبائر الفواحش، وهي زواجر تردع الناس عن تلك المحارم، وهي مانع من الجريمة على مستوى الفرد والجماعة، وليس المراد من إقامتها التشفي وتعذيب الناس، وإيقاعهم في الحرج، إنما المراد منها أن تسود الفضيلة، فهي دعوة صريحة للتخلق بالأخلاق الحسنة التي بُعث نبي الرحمة ليتممها، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق»( )؛ ولذا فإن الشريعة الإسلامية تنهى الناس عن جميع الفواحش، قال الله: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [الأنعام: 151].
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله تعالى عنها، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله، فإنه من يُبْدِ لنا صفحته نقم عليه كتاب الله»( ).
أي: من يظهر لنا أمره نقم عليه الحد الذي أمر الله به.
فالشريعة تأمر بالستر والتوبة إلى الله، أما من أظهر الفواحش، أو ظهر للناس منه ذلك، فإنه يجب إقامة الحد عليه  إذا وصل الأمر إلى الحاكم  حتى لا تشيع الفاحشة في المجتمع.
وإقامة الحدود فيها خير عظيم للناس، قال أبو هريرة رضي الله عنه: (حد يقام في الأرض خير لأهل الأرض من أن يُمطروا أربعين صباحاً) ( ).
والحدود والتعازير مشروعة في كل دين، بل وفي كل نظام قانوني قديم أو حديث، والحدود في الإسلام المقصود منها إصلاح حال البشر، وحمايتهم من المفاسد، والله تعالى أنزل شريعته رحمة للناس، وفرض العقاب على مخالفة أمره لحمل الناس على ما يحقق مصالحهم، ولصرفهم عما يؤدي لفسادهم.
والنهي عن الفاحشة والجريمة لا يكفي لحمل الناس على تركها، فإن الناس مختلفون في ضبط نفوسهم عن الفواحش، فمن الناس من يكرهها ويبتعد عنها، ومن الناس من يحبها ويسعى إليها، بل ومن الناس من يدعو الناس إليها، فلا بد من وجود عقاب رادع يضبط أصحاب القلوب المريضة من الوقوع في هذه الفواحش والجرائم التي تضر الفرد والمجتمع.
والشريعة الإسلامية شريعة عامة لكل زمان ومكان، تأمر بكل ما فيه مصلحة للفرد والمجتمع، وتنهى عن كل ما فيه مفسدة للفرد والمجتمع، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه "السياسة الشرعية":(( ينبغي أن يُعرف أن إقامة الحدود رحمة من الله بعباده؛ فيكون الوالي شديدًا في إقامة الحد، لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله، ويكون قصده رحمة الخلق بكف الناس عن المنكرات، لا شفاء غيظه، وإرادة العلو على الخلق، بمنزلة الوالد إذا أدب ولده، فإنه لو كف عن تأديب ولده لفسد الولد، وإنما يؤدبه رحمة به، وإصلاحًا لحاله، مع أنه يود ويؤثر ألا يحوجه إلى تأديب، وبمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه، وبمنزلة قطع العضو المتآكل.
فهكذا شُرعت الحدود، وهكذا ينبغي أن تكون نية الوالي في إقامتها))( ) اﻫ مختصرًا.
هذا؛ والحدود الشريعة لا تنفذ إلا بنطاق ضيق محدود جداً، وقد يظن بعض الناس أن إقامة الحدود في الإسلام كإقامة الصلاة في كثرتها، وهذا ظن خاطئ سببه دعايات المغرضين، وشبهات الحاقدين.
قال المطيعي في "المجموع": ((التضييق في تطبيق الحدود أمر محبب في الإسلام، ودرء الحدود بالشبهات المقصود منه أن تكون شريعة الحد قائمة، والتنفيذ القليل منها صالح لإنزال النكال بمن يكون بصدد الوقوع في الجريمة)) ( ). اﻫ مختصراً.

وفيما يلي بيان الرحمة في إقامة الحدود بالتفصيل:
أ  حدّ السرقة:
تعاقب الشريعة الإسلامية على السرقة بالقطع لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [المائدة: 38].
وليس في هذا الحد ما ينافي الرحمة، بل هو من الرحمة للمجتمع والفرد وبيان ذلك فيما يلي:
الإسلام يقرر حق كل فرد في الحياة، وحقه في كل الوسائل لحفظ حياته، ومن حق كل إنسان أن يحصل على هذه الوسائل عن طريق العمل مادام قادراً، فإن لم يستطع العمل لعجز ومرض مزمن فإن على المسلمين أن يوفروا له ما يحفظ حياته من النفقة التي تفرض له شرعاً على القادرين في أسرته، وأهل محلته، ومن الزكاة، فلماذا يسرق السارق في ظل هذا النظام؟
إنه لا يسرق إلا للطمع في الثراء من غير طريق العمل، فهو يستصغر ما يكسبه عن طريق الحلال،ويريد أن ينميه من طريق الحرام، وهو لا يكتفي بثمرة عمله فيطمع في ثمرة عمل غيره، والمال لا يطلب من هذا الوجه الذي يروع المجتمع، ويحرمه من الطمأنينة، ويحرم أصحاب المال الحلال أن يطمئنوا على مالهم، ثم إن السرقة قد تؤدي إلى القتل وما دونه من الجنايات.
والإسلام دائماً يُقوِّّم دوافع النفس حتى تنضبط إما بالترغيب أو بالترهيب، ومن هنا حض الإسلام على الكسب الحلال، ورغّب فيه، ورهّب من السرقة بهذه العقوبة  وهي قطع اليد اليمنى من السارق  حتى يستقيم المجتمع.
فالدافع الذي يدفع السارق للسرقة هو زيادة الثراء، فحاربت الشريعة هذا الدافع بتقرير عقوبة قطع اليد؛ لأن قطع اليد يؤدي إلى نقص الكسب؛ إذ إن اليد أداة العمل، وهذا يؤدي إلى نقص القدرة على الإنفاق، ويدعو إلى شدة الكدح وكثرة العمل.
فالشريعة الإسلامية بتقريرها عقوبة القطع دفعت العوامل النفسية التي تدعو لارتكاب السرقة بعوامل نفسية مضادة تصرف عن جريمة السرقة.
فيا عجباً لمن يدّعون أن عقوبة القطع لا تتفق مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية في العصر الحاضر، وكأن الإنسانية والمدنية أن نشجع السارق على السير في غوايته، وأن نعيش في خوف وقلق، وأن نكِدّ ونشقى ليستولي على ثمار عملنا العاطلون اللصوص!
أما ما يدعون من أن عقوبة الحبس للسارق أولى، فإن هذا نسيان لطبائع البشر، وتجاهل لتجارب الأمم، وإلغاء للعقول، وإهمال للنتائج المترتبة على هذه العقوبة.
إن عقوبة القطع تقوم على أساس متين من علم النفس، وطبائع البشر، وتجارب الأمم، ومنطق العقول، إن أساس عقوبة القطع هو دراسة نفسية الإنسان وعقليته، فهي عقوبة ملائمة للأفراد، صالحة للجماعة؛ لأنها تؤدي إلى تقليل الجرائم، وتأمين المجتمع، ومادامت العقوبة ملائمة للفرد وصالحة للجماعة فهي أفضل العقوبات وأعدلها.
بعض الناس يحتج على عقوبة القطع بأنها عقوبة فيها قسوة على السارق، وهي حجة داحضة، فإن العقاب لا يكون عقاباً إذا كان سهلاً ليناً، بل يكون لعباً أو عبثاً، فالقسوة لابد أن تتمثل في العقوبة، والقسوة في محلها مطلوبة.
إن من يرحم السارق ويمنع من قطع يده قد ضل حيث لم يرحم المسروق ولم يرحم المجتمع كله، فالمسروق ربما تصيبه حالة نفسية خطيرة بسبب هذا السارق، وربما يتغير عقله، وربما يجن، بل ربما تصيبه سكتة قلبية فيموت إن كانت السرقة عظيمة، فلماذا لا نرحم المسروق ونرحم السارق؟!
ونقول لمن يحتج على عقوبة القطع:لو أنه رجع إلى بيته فرأى اللصوص قد أخذوا كل ما فيه من الأشياء الثمينة، فماذا سيكون موقفه؟ وهل سيرحم السارق إذا وقعت المصيبة على رأسه؟
إنه ربما لو وجد السارق لقتله، لكن شريعة الله أرحم بالسارق من هذا، فلم تأمر بقتله بل بقطع يده.
ثم إن بعض القوانين الوضعية توجب الحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة في بعض جرائم السرقة، فكيف ترضى قلوبكم الرحيمة أن يوضع المحكوم عليه في السجن كما يوضع الحيوان في قفصه محروماً من حريته بعيداً عن أهله، فأيهما أقسى قطع يد السارق وتركه بعد ذلك يتمتع بحريته، ويعيش بين أهل وولده أم حبسه على هذا الوجه الذي يسلبه حريته وكرامته وإنسانيتة؟!
ثم إن بعض القوانين الوضعية تبيح قتل السارق في بعض الأحيان، فأيهما أرحم بالسارق: الشريعة الإلهية أو القوانين الوضعية؟!
إن الشريعة الإسلامية رحمت السارق والمجتمع بهذه العقوبة، أما السارق فرحمته حيث لم تأمر بقتله أو سجنه مدى الحياة، ورحمته حيث جعلت قطع يده كفارة لذنبه،عن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من أصاب ذنباً فأقيم عليه حد ذلك الذنب فهو كفارته»( ).
أما المجتمع فرحمته حيث تسود فيه الطمأنينة والأمن عندما تقطع فيه يد السارق، وهذا أمر معلوم في أي مكان يُطبق فيه حد السرقة، حيث قد تقطع الحكومة يد سارق واحد فقط؛ فيأمن العباد، ويقل الفساد، وتنعدم السرقات، بسبب قطع يد سارق واحد فقط فضلاً عن اثنين أو ثلاثة أو أربعة.
هذا؛ وقد رحم نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم السارق فنهى عن قطع يده إذا سرق شيئاً أو ليس ذا قيمة كبيرة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً»( ).
والدينار يساوي 4.25 جرام من الذهب، فمن سرق ما دون ربع دينار فلا تقطع يده، ولكنه يعاقب بعقوبة أخرى كضرب أو سجن أو نحو ذلك من أنواع التعزيرات.
ومن رحمة النبي عليه الصلاة والسلام بالسارق أنه نهى عن قطع يده في السفر، فعن بسر بن أبي أرطأة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لا تُقطع الأيدي في السفر»( ).
ومن رحمة النبي عليه الصلاة والسلام بالسارق ماثبت في حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ليس على خائن ولا مختلس ولا منتهب قطع»( ).
الخائن هو الذي يخون ما جُعِل عليه أميناً كأن يخون في وديعة أو عارية، والمختلس هو من اختطف المال وسلبه على طريقة الخلسة، والمنتهب هو الذي يأخذ المال على وجه العلانية قهراً.
وقد صان الله الأموال بإيجاب القطع للسارق، ولم يجعل ذلك في غير السرقة كالاختلاس والانتهاب والغصب لأنه قليل بالنسبة للسرقة، ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمر، وتسهل إقامة البينة عليه بخلاف السرقة فإنه تندر إقامة البينة عليها، فعظم أمرها، واشتدت عقوبتها( ).
ومن رحمة النبي عليه الصلاة والسلام بالسارق أنه لا تقطع يده إذا سرق مالاً من غير حرز، والحرز هو: الموضع الحصين، قال ابن عبد البر: ((الحرز كل ما يحرز به الناس أموالهم إذا أرادوا حفظها، وهو يختلف باختلاف الشيء المحروز واختلاف المواضع)) ( ).اﻫ
عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لا تقطع اليد في ثمر معلق»( ).
وقد أخذ الفقهاء من قواعد الشريعة وأصولها ضوابط كثيرة للقطع، فليس كل من سرق قُطِعت يده، فلا تقطع يد السارق مع وجود شبهة له في المال كسرقة الابن من مال أبيه أو الأب من مال ابنه أو الشريك من مال الشركة، ولا تثبت السرقة إلا بالإقرار من السارق أو شهادة عدلين، فإن وجدت شبهة فلا تقطع يده، بل يدرء الحد بالشبهة، وكذا لا تقطع يد السارق وقت المجاعات، وفي هذه الأحوال ونحوها يعزر السارق بالضرب أو الحبس أو الغرامة المضاعفة ولا تقطع يده.
هذا؛ وقد رغّب النبي عليه الصلاة والسلام في عدم إبلاغ الحاكم بحد السرقة إذا علم السارق، وأنه ينبغي للمسروق منه أن يعفو عن السارق، فعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب»( ).
قال في عون المعبود: ((الخطاب لغير الأئمة، أي: تجاوزوا عن الحدود ولا ترفعوها إلى الأئمة، فما بلغني فقد وجب علي إقامته. فالإمام لا يجوز له العفو عن حدود الله إذا رفع الأمر إليه، ويستحب عدم رفع الحدود إلى الأئمة لهذا الحديث)) ( ).اﻫ مختصراً بتصرف.
وعن صفوان بن أمية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما أمر بقطع الذي سرق رداءه [وكان ثمنه دينارين ونصف] شفع فيه [أي قال: إني أتجاوز عنه فلا تقطعه]، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به؟»( ).
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: إني لأذكر أول رجل قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتي بسارق فأمر بقطعه، فكأنما أسف وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم [أي: حزن على الرجل عندما قطعت يده] فقالوا: يا رسول الله! كأنك كرهت قطعه؟! قال: «وما يمنعني؟! لا تكونوا أعواناً للشيطان على أخيكم، إنه لا ينبغي للإمام إذا انتهى إليه حد إلا أن يقيمه، إن الله عفو يحب العفو {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] ( ).
فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يقطع يد السارق تشفياً لنفسه، وإنما امتثالاً لأمر ربه، وأمر الله فيه مصلحة العباد والبلاد؛ ولذا فأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر بإقامة الحدود على البعيد والقريب، والقوي والضعيف، والشريف والوضيع، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أقيموا حدود الله في البعيد والقريب، ولا تأخذكم بالله لومة لائم»( ).
وعن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبه صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم قام فاختطب فقال: «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»( ).
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره»( ).
فقد أمر الله بقطع يد السارق، وهو أعلم بما يصلح العباد، فمن منع من إقامة حد السرقة بشفاعته أو بفعله فقد ضاد الله في أمره، قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
وبهذا يتبين أن قطع يد السارق لا ينافي رحمة النبي صلى الله عليه وسلم، بل إنه قد شرع رحمة بالسارق أموراً كثيرة كما تقدم، فإذا قُطعت يده فإن في ذلك مصالح عديدة( ).
* * *
 
ب  حدّ الزنا:
جريمة الزنا هي من أقذر الجرائم، وقد أنكرها كل دين، بل وأنكرها العقلاء من الناس؛ وذلك لما فيها من عدوان على حقوق الأزواج، ومن اختلاط للأنساب، وحل لروابط الأسرة، وقتل لما في قلوب الآباء من عطف وحنان على الأولاد إذا شكوا في كون هؤلاء الأولاد منهم.
فالإسلام حارب هذه الجريمة البشعة بهذه العقوبة الرادعة: الرجم للمحصن، والجلد مع التغريب لمدة سنة لغير المحصن، قال الله تعالى: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2].
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم»( ).
أي: إذا زنى رجل بامرأة وهما بكران  أي: لم يتزوجا من قبل  فعقوبتهما جلد مائة، وتغريب عام من ذلك البلد الذي زنيا فيه، وإذا كانا ثيبين  أي: سبق أن تزوجا  فعقوبتهما جلد مائة ثم الرجم، وللحاكم أن يقتصر على رجم الزاني المحصن دون جلده، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد رجم بلا جلد( ).
والنظام الإسلامي كل متكامل لا تفهم جزئياته إلا في نسق واحد، فالإسلام قد حرم النظر إلى النساء الأجنبيات، قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } [النور: 30، 31].
فلا يجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة الأجنبية  وهي التي يحل له أن يتزوجها  إلا لحاجة لا بد منها كبيع وشراء، ولا يجوز له أن ينظر إلى مفاتنها مطلقاً، ولا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجل الأجنبي بشهوة، ويجوز لها أن تنظر إليه بلا شهوة.
وأمر الله النساء ألا يُظهرن الزينة إلا للأزواج أو الأقارب من الصلب الذين لا يخُشى منهم فتنة، قال الله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ } [النور: 31].
وقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 59].
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يختلي رجل بامرأة، فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم»( ).
وحرم النبي عليه الصلاة والسلام أن يمس الرجل امرأة لا تحل له، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لأن يُطعن في رأس رجل بِمخْيَط [إبرة] من حديد، خير له من أن يمس امرأة لا تحل له»( ).
والإسلام حض الرجال على إخراج هذه الشهوة بالزواج، قال الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32، 33].
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة [الزواج ومئونة النكاح] فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء»( ) أي: الصوم يضعف شهوته.
وكذلك رخّص الله للرجل أن يتزوج بامرأة واحدة أو اثنتين أو ثلاث أو أربع بشرط أن يملك النفقة عليهن، ويستطيع العدل بينهن، قال الله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } [النساء: 3].
وحث النبي عليه الصلاة والسلام أمته على عدم المغالاة في المهور، فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «خير النكاح أيسره»( ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض»( ).
وهذه الجريمة لا تحصل في المجتمع المسلم الذي تسوده الفضيلة إلا بعد تدبير عظيم من كلا الطرفين يدل على إجرامهما وفسادهما.
وقد وضعت الشريعة شروطاً من الصعب جداً توافرها قبل إيقاع العقوبة، فإن لم تتوافر هذه الشروط مجتمعة لايقام الحد على صاحب الجريمة جلداً كان أو رجماً، فهذه الجريمة لا تثبت إلا بشهادة أربعة شهود عدول يشهدون عند القاضي أنهم رأوا الرجل والمرأة يزنيان، قال الله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13].
 وقد فرضت الشريعة عقوبة الجلد ثمانين جلدة على من قذف رجلاً عفيفاً أو امرأة عفيفة بالزنا ثم لم يأت بأربعة شهداء، قال الله: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4].
 حتى لو شهد ثلاثة على رجل أو امرأة بالزنا، وذكروا أنهم رأوا منهما الزنا بلا خفاء، فإن هؤلاء الشهود الثلاثة يجلدون، ويَسلم الرجل والمرأة من حد الزنا؛ لكون الشهود لم يكونوا أربعة!
بل لو أقر رجل بأنه زنى بامرأة وسمّاها، فإنه يُقام الحد عليه وحده، ولا يقام على تلك المرأة إلا إذا أقرت!
عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلاً أتاه، فأقر عنده أنه زنى بامرأة سماها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فسألها عن ذلك فأنكرت أن تكون زنت، فجلده الحد[أي: حد الزنا] وتركها( ).
ومن القواعد الشرعية المعروفة: «ادرءوا الحدود بالشبهات» فأي شبهة تكون في صالح المتهم، ويسقط الحد عن الرجل أو المرأة بأدنى شبهة.
ولقد رغبت الشريعة الإسلامية في الستر على عورات المسلمين، وإمساك الألسنة عن ذكر الفاحشة إن وقعت، قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [النور: 19].
عن نعيم بن هزال رضي الله عنهما عن أبيه: أن ماعزاً [اسم الرجل الذي زنى] أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر عنده أربع مرات، فأمر برجمه، وقال لهزال: «لو سترته بثوبك كان خيراً لك»( ).
وذلك لأن هزالاً هو الذي أشار على ماعز أن يقر بالزنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا؛ وإن تاب الزاني  ومثله السارق وغيره  قبل القدرة عليه، فإن التوبة تُسْقِط عنه الحد( ).
فهل بعد هذا كله يقال: إن جلد الزاني غير المحصن، ورجم الزاني المحصن ينافي رحمة النبي عليه الصلاة والسلام؟!
ماذا يبقى للإنسان من آدميته وكرامته إذا تركت هذه الفاحشة يعلن بها أمراض القلوب من غير استحياء، ثم لا يمنعهم أحد من هذه الفاحشة؟!
إن من يتجرأ على هذه الفعلة الشنيعة، ثم افتضح حالله حين يراه هذا العدد في ذلك الوضع؛ لهو إنسان مفسد ضال مضل، ولو لم يتم بتره أو تربيته فإنه يشكل خطراً عظيماً على المجتمع كله.
وفيما يلي بيان حكمة الشريعة في جعل عقوبة الزاني غير المحصن جلد مائة وتغريب عام، وجعل عقوبة الزاني المحصن الرجم بالحجارة:
وضعت الشريعة الإسلامية عقوبة الجلد على أساس محاربة الدوافع التي تدعو للجريمة بالدوافع التي تصرف عن الجريمة، فالذي يدعو الزاني للزنا هو اشتهاء اللذة والاستمتاع بالنشوة التي تصحبها، والدافع الذي يصرف الإنسان عن هذه اللذة المحرمة هو الألم، فالشريعة حينما جعلت عقوبة الجلد للزاني غير المحصن لم تضعها اعتباطاً، وإنما وضعتها على أساس من طبيعة الإنسان، وفهم لنفسيته وعقليته.
والشريعة حينما قررت عقوبة الجلد للزنا دفعت العوامل النفسية التي تدعو للزنا بعوامل نفسية مضادة تصرف عن الزنا، فإذا ارتكب الزاني غير المحصن الزنا وجلد، ففيما يصيبه من ألم الجلد ما ينسيه اللذة، ويحمله على عدم التفكير فيها مرة أخرى.
بالإضافة إلى أن الزاني غير المحصن يُغرَّب من بلده الذي زنى فيه إلى بلد آخر لمدة سنة، وذلك للتمهيد لنسيان الجريمة بأسرع ما يمكن، ولأن إبعاد المجرم من مكان الجريمة يجنبه مضايقات كثيرة، والإبعاد يهيء له أن يحيا حياة كريمة من جديد، وأن يتوب إلى الله تعالى في غربته، ثم يأتي إلى الناس بوجه جديد.
فالتغريب شرع لمصلحة الجاني أولاً ثم لمصلحة المجتمع ثانياً.
ووضعت الشريعة عقوبة الرجم للزاني المحصن على نفس الأساس الذي وضعت عليه عقوبة الجلد للزاني غير المحصن، ولكن شددت عقوبة المحصن للإحصان؛ لأن الإحصان يصرف الشخص عادة عن التفكير في الزنا، فإن فكر فيه بعد ذلك فإنما يدل ذلك على قوة اشتهائه للَّذة المحرمة، وشدة اندفاعه لهذه الجريمة البشعة، فناسب أن توضع له عقوبة غليظة جداً بحيث إذا فكر في هذه اللذة المحرمة، وذكر معها العقوبة التي يستحقها شرعاً؛ تغلب التفكير في الألم الذي يصيبه من العقوبة على التفكير في اللذة التي يصيبها من الجريمة.
وبعض الناس يستكثر عقوبة الرجم على الزاني المحصن، ولو أن أحد هؤلاء وجد امرأته أو ابنته تزني واستطاع أن يقتلها ومن يزني بها لما تأخر عن ذلك.
الزاني المحصن هو مثل سيء لغيره من الرجال والنساء المحصنين، وليس للمثل السيء في الشريعة حق البقاء، فإن بقاءه في المجتمع ضرر محض، وقتله رحمة بالمجتمع كما يقطع العضو المصاب بالسرطان رحمة بالبدن.
الشريعة الإسلامية تقوم على الفضيلة المطلقة، وتحرص على الأخلاق والأعراض والأنساب من التلوث والاختلاط، وهي توجب عل الإنسان أن يجاهد شهوته ولا يستجيب لها إلا من طريق الحلال، وأوجبت عليه إذا استطاع الزواج أن يتزوج حتى لا يُعرِّض نفسه للفتنة أو يُحَمِّلها ما لا تطيق، فإذا لم يتزوج وغلبته الشهوات على عقله ودينه وعزيمته فعقابه أن يجلد مائة جلدة، وشفيعه في عدم رجمه تأخيره في الزواج الذي أدى به إلى الجريمة.
 أما إذا تزوج فأحصن فقد حرصت الشريعة ألا تجعل له بعد الإحصان سبيلاً إلى الجريمة، فلم تجعل الزواج أبدياً حتى لا يقع في الجريمة أحد الزوجين إذا فسد ما بينهما، فأباحت للزوج الطلاق، وأباحت للزوجة الخلع، وهو طلب الطلاق مقابل مال تعطيه زوجها، وأباحت كذلك للزوجة أن تطلب الفسح لغيبة الزوج الطويلة أو مرضه أو إعساره أو لأي ضرر يلحقها في بقائها معه، وهكذا أباحت للزوج أن يتزوج ثانية وثالثة ورابعة على أن يعدل بينهن.
 وبهذا فتحت الشريعة للمحصن كل أبواب الحلال، وأغلقت دونه باب الحرام، فإذا زنى مع هذا فلا وجه لتخفيف العقوبة عنه، وموته خير له حتى لا يزداد إثماً إلى إثمه، وخير للمجتمع ليسلم من شره.
 وإذا رُجم الزاني المحصن فإن هذا الرجم كفارة لما صنع من الإثم، فعن الشريد بن سويد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما أمر برجم المرأة التي زنت، فلما فرغنا جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: قد رجمنا هذه الخبيثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الرجم كفارة ما صنعت»( ).
وبعد هذا نقول: إن المتتبع لا يجد هذه العقوبة قد نفذت  حال تنفيذ العقوبات  إلا في أعداد محدودة جداً، فإن الشريعة ضيقت جداً في إثبات الزنا، فلم تجعله يثبت إلا بالإقرار أو بشهادة أربعة عدول يشهدون أنهم رأوا الرجل والمرأة يزنيان، حتى لو رأوهما مضطجعين على فراش واحد فإن هذا لا يثبت جريمة الزنا، فيعزران على فعلهما هذا، ولا يطبق عليهما حد الزنا إلا إذا اعترفا أو شهد الأربعة الشهود بالزنا الواضح الذي لا لبس فيه، وهذا من أصعب الأشياء، ولهذا لم يثبت حد الزنا على أحد بشهادة أربعة شهود منذ بعثة النبي عليه الصلاة والسلام إلى زماننا هذا إلا نادراً جداً، ولا ضرر في هذا مادام أن هذا الحد قد وفّر الأمن والاستقرار للمجتمع، وإن لم تتوافر شروط إقامة الحد على أحد من الزناة.
قال المطيعي: ((الجريمة إذا ارتُكِبت في غير إعلان يجب الاستمرار في سترها، ومنع كشفها، وهذا تضييق للعقاب، وجعله رمزاً مانعاً، بدل أن يكون عاماً جامعاً)) ( ) اﻫ.
وبهذا يتبين أن حد الزاني لا ينافي رحمة النبي عليه الصلاة والسلام، فالله هو الذي شرع هذا الحد رحمة بعباده { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] ( ).

* * *

 
ج  حدّ الخمر:
حرمت الشريعة الإسلامية الخمر تحريماً مطلقاً، وجعلت عقوبة من شرب الخمر الجلد 40 جلدة أو 80 جلدة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } [المائدة: 90، 91].
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم في الخمر أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌ سُنَّة( ).
وقد جاءت أحاديث كثيرة عن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم تنفر من الخمر، وتحذر منها، فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «الخمر أم الفواحش، وأكبر الكبائر، من شربها وقع على أمه وخالته وعمته»( ).
أي: أنه إذا سكر قد يزني بإحدى محارمه وهو لا يشعر، كما أنه قد يقتل أحد أقاربه أو غيرهم وهو لا يشعر؛ ولذا كانت الخمر أم الفواحش.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «مدمن الخمر كعابد وثن»( ).
وهذا فيه تنفير شديد من شرب الخمر، حيث شبّه مدمن الخمر بالمشرك الذي يعبد الأصنام.
 إن الدافع الذي يدفع شارب الخمر لشربها هو رغبته في أن ينسى آلامه النفسية، ويهرب من الواقع والحقائق إلى الأوهام التي تولِّدها نشوة الخمر، وقد حاربت الشريعة هذا الدافع في نفس شارب الخمر بعقوبة الجلد، فهو يريد أن يهرب من آلام النفس ولكن عقوبة الجلد ترده إلى ما هرب منه، وتضاعف له الألم، إذ تجمع له بين ألم النفس وألم البدن، هو يريد أن يهرب من عذاب الحقائق إلى سعادة الأوهام، وعقوبة الجلد ترده إلى العذاب الذي هرب منه، وتجمع له بين عذاب الحقائق وعذاب العقوبة.
فالشريعة وضعت عقوبة الجلد لشارب الخمر على أساس متين من علم النفس، وحاربت الدوافع النفسية التي تدعو إلى الجريمة بالدوافع النفسية المضادة التي تصرف عن الجريمة.
ومن المسَلَّم به من الناحية الطبية والاجتماعية أن الخمر لا فائدة فيها، وأن أضرارها لا تحصى، فهي تفسد العقل، وتفسد الصحة، وتؤدي إلى العُقم أحياناً، وإلى ضعف النسل غالباً، كما تؤدي إلى ضياع المال، وضياع الكرامة، كما توقع بين شاربيها ومن خالطهم العداوة والبغضاء، وتصد عن ذكر الله إن كان شاربها ممن يذكر الله.
 فليس في شرب الخمر مصلحة، ومفاسدها ظاهرة، ومن مقاصد الشريعة جلب المصالح وتكميلها، ودفع المفاسد وتقليلها، فجاءت الشريعة بتحريم الخمر لأن تحريمها ضروري لمصلحة الفرد والمجتمع؛ حتى يرتفع مستوى الفرد والمجتمع نحو الكمال، وقد صار العالم اليوم مهيئاً لتحريم الخمر بعد أن ثبت علمياً أنها تضر بالشعوب ضرراً بليغاً( ).
إذاً: جلد شارب الخمر لا ينافي رحمة النبي عليه الصلاة والسلام، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يأمر بجلد شارب الخمر تشفياً وإنما رحمة له؛ لتطهيره من ذنبه، وإصلاح حاله، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أُتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر فقال: (اضربوه) فلما انصرف قال له رجل: أخزاك الله! فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تقولوا هكذا، لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم» وفي رواية: «ولكن قولوا: اللهم ارحمه، اللهم تب عليه»( ).
وعن عمر رضي الله عنه أن رجلاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبدالله، وكان يضحك النبي عليه الصلاة والسلام أحياناً، وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوماً وقد شرب، فأمر به فجُلِد، فقال رجل: اللهم العنه! ما أكثر ما يُؤتى به! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «لا تلعنوه، فوالله! ما علمت إلا إنه يحب الله ورسوله»( ).

* * *

 
د  حدّ الردة:
الردة هي: ترك الدين الإسلامي والخروج عليه بعد اعتناقه، فلا تكون الردة إلا من مسلم، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] [البقرة:217].
والشريعة تعاقب على الردة بالقتل، عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من بدّل دينه فاقتلوه»( )؛ وذلك لأن الردة تقع ضد الدين الإسلامي الذي عليه يقوم النظام الاجتماعي للجماعة المسلمة، فالتساهل في هذه الجريمة يؤدي إلى زعزعة هذا النظام، ومن ثم عوقب عليها بأشد العقوبات استئصالاً للمجرم من المجتمع، وحماية للنظام الاجتماعي من ناحية، ومنعاً للجريمة وزجراً عنها من ناحية أخرى.
وأكثر الدول اليوم تحمي نظامها الاجتماعي بأشد العقوبات على من يخرج على نظامها أو يحاول هدمه أو إضعافه، وأول العقوبات التي تفرضها القوانين الوضعية لحماية النظام الاجتماعي هي عقوبة القتل، فهي تعاقب على الإخلال بالنظام الاجتماعي بنفس العقوبة التي وضعتها الشريعة لحماية النظام الاجتماعي الإسلامي( ).
وكل نظام في العالم تنص قوانينه على أن الخارج عن النظام العام له عقوبة القتل لا غير فيما يسمونه الخيانة العظمى، وهكذا فإن الإسلام لا يبيح للمسلمين الخروج من الإسلام؛ لأن هذا يعتبر خذلاناً لدين الله، والذي يرتد عن الإسلام ويجهر بردته يكون عدواً للإسلام والمسلمين، فهو يعلن بردته حرباً على الإسلام، أما من لم يجهر بردته فإنه منافق، فيعامل معاملة المسلمين، وحسابه على الله.
والإسلام لا يُكِره أحداً على أن يعتنق الإسلام، قال الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، فمن أبى الدخول في الإسلام، وأراد البقاء تحت حماية المسلمين أو في دولتهم؛ فله ذلك، على أن يدفع الجزية وهو صاغر جزاء استكباره عن الدخول في دين الله، أما الردة عن الإسلام لمن كان من المسلمين فهي تشكل خطراً على المجتمع الإسلامي، فالمرتد يرفع راية الضلال، ويدعو إليها.
 والردة ليست مجرد موقف عقلي، بل هي أيضاً تغير للولاء، وتبديل للهوية، وتحويل للانتماء، وهي أيضاً كفر بالله، وكفر برسول الله، وكفر بكتاب الله بعد أن أنعم الله على هذا المرتد بالإيمان بالله ورسوله وكتابه، فالمرتد باع دينه بعرض من الدنيا قليل، وخلع نفسه من أمة الإسلام التي كان عضواً في جسدها، وانتقل بعقله وإرادته إلى خصومها، فاشترى الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة، وقدّم الباطل على الحق، والكفر على الإيمان.
إن التهاون في عقوبة المرتد المعلن لردته يعرض المجتمع كله للخطر، ويفتح عليه باب فتنة لا يعلم عواقبها إلا الله، فلا يلبث المرتد أن يغرر بغيره من أقاربه ومن حوله من الضعفاء والبسطاء من الناس، وتتكون جماعة تستبيح لنفسها الاستعانة بأعداء المسلمين، وبذلك تقع الأمة في صراع وتمزق فكري واجتماعي وسياسي، وقد يتطور إلى صراع دموي وحرب أهلية، فمن رحمة النبي عليه الصلاة والسلام أن أمر بقتل المرتد صوناً للمجتمع من شره، وردعاً للمنافقين من إظهار ما في قلوبهم من الكفر.
 بل إن قتل المرتد خير له، فإن بقاءه يضل الناس يزيده شراً إلى شره، ويزيده في الآخرة عذاباً إلى عذابه، كما أن قتله خير لأهله وأقاربه ليَسلَموا من شره؛ لكونهم أول من قد يتأثر به، ويتعرض لدعوته.
هذا؛ وقد أخذ الفقهاء من قواعد الشريعة وأصولها أن المرتد لا يُقتل حتى يستتاب، والمقصود بالاستتابة إعطاؤه فرصة ليراجع نفسه عسى أن تزول عنه الشبهة، وتقوم عليه الحجة، ويُكلَّف العلماء بالرد عما في نفسه من شبهة حتى تقوم عليه الحجة، فإن كان يطلب الحق بإخلاص فسرعان ما يرجع إلى دين الله الذي يوافق الفطرة، وإن كانت قد فسدت فطرته، وأبى إلا إظهار كفره وردته؛ فقتله هو عين الحكمة والمصلحة( ).
وبهذا يتبين أن قتل المرتد لا ينافي رحمة النبي عليه الصلاة والسلام.

* * *

 
القصـــاص
القصاص هو: العقوبة الأصلية للقتل والجرح العمد، ومعنى القصاص أن يعاقب الجاني بمثل فعله، ويقع القصاص على النفس وعلى ما دون النفس.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]، وقال عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 179]،
وقال سبحانه: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45].
شرعت الشريعة القصاص، وجعلت للمجني عليه أو وليه أن يستوفي العقوبة بنفسه تحت إشراف السلطان، قال الله سبحانه: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33].
وقد حرّضت الشريعة ولي الدم على العفو، قال الله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، وقال: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]، واعتبرت الشريعة العفو رحمة من الله للناس، قال الله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178].
وليس تقرير حق القصاص لولي الدم إقراراً للعادات التي كانت سائدة في الشعوب الهمجية، فإن الشريعة حين قررت هذا الحق لولي الدم كانت تنظر إلى طبيعة البشر وغرائزهم، وإلى مصلحة الأفراد والجماعة، ولا أحد ينكر أن حب الانتقام طبيعة في الإنسان، وتقرير القصاص عقوبة للقتل من مصلحة الجماعة؛ لأن القتل أنفى للقتل كما قال الله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، والعفو عن القصاص بنية صحيحة يؤدي إلى حفظ الأمن، وصيانة الدماء، وتقليل الجرائم، وقد قررت الشريعة حق ولي الدم في أن يقتص بنفسه  بإذن الحاكم  لترضى بذلك نزعة الانتقام الكامنة في أغواره، ولتحول بينه وبين أن يأخذ حقه بيده قبل المحاكمة أو قبل الموعد المحدد لتنفيذ العقوبة.
وقد جعلت الشريعة لولي الدم أن يقتص أو أن يعفو، فبعد أن مكنته من القصاص كل التمكين، وسلطته على الجاني المجرم إلى هذا الحد؛ حببت إليه العفو، ودعته إليه، وأغرته به من الناحية المادية، فجعلت له أن يعفو على مالٍ كبير( ).
والشريعة قصدت من إعطاء ولي الدم حق القصاص إصلاح النفوس، وإصلاح ذات البين، وحفظ الأمن والنظام، وتقليل الجرائم، وحفظ الدماء والأرواح، فكيف يظن أن القصاص ينافي رحمة النبي عليه الصلاة والسلام؟!
ثم كيف نرحم القتلة سفّاكي الدماء وهم لا يرحمون فرائسهم؟! وكيف نقبل أعذارهم وهم لا يقبلون عذراً من ضحاياهم؟!

وكثير من القوانين الوضعية تنص على عقوبة السجن المؤبد على كثير من جرائم القتل، وهذه العقوبة لها نتائج سيئة كثيرة، منها ما يلي:
1)    إرهاق خزانة الدولة، وتعطيل الإنتاج.
2)    إفساد المسجونين، فقد صارت السجون معهداً للإفساد، وتلقين أساليب الإجرام.
3)     انعدام قوة الردع، فعقوبة السجن لا أثر لها في نفوس المجرمين.
4)    قتل الشعور بالمسئولية في نفس المجرمين، فعقوبة السجن تحبب إليهم حياة البطالة، حيث يكفون مئونة أنفسهم من مطعم وملبس وعلاج.
5)    ازدياد سلطان المجرمين، وازدياد الجرائم.
6)    انخفاض المستوى الصحي للمسجونين.
7)    تدهور المستوى الأخلاقي بالنسبة للمسجونين ونسائهم وأولادهم( ).
هذا؛ ومن رحمة النبي عليه الصلاة والسلام بالقاتل أن أمر بإحسان قتله إذا طلب أولياء المقتول القصاص، ولم يقبلوا العفو عنه ولا أخذ الدية، فعن شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إذا قتلتم فأحسنوا القِتلة»( ).
فلا يجوز تعذيب القاتل قبل قتله، ولا قتله بطريقة تزيد من آلامه، إلا إذا كان قد قتل المقتول بطريقة ما فإنه يُقتل كما قتل من باب العدل والقصاص.
وبهذا يتبين أن عقوبة القصاص سواء في الأنفس أو الجراحات لا تنافي رحمة النبي عليه الصلاة والسلام، بل هي شرع من الله الحكيم، وفي هذه العقوبة صلاح للعباد والبلاد { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].

* * *
تعدد الزوجات
 الشريعة الإسلامية تبيح تعدد الزوجات بشرط أن يعلم الزوج من نفسه القدرة على العدل بينهن، فإن كان يعلم أنه لا يستطيع العدل بينهن أو يخشى ألا يعدل بينهن فلا يجوز له أن يتزوج غير امرأة واحدة، وليس الأمر كما يظن بعضهم أن الإسلام يأمر كل مسلم أن يتزوج بأكثر من زوجة واحدة مطلقاً!
 قال الله تعالى: { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3].
وقد سايرت الشريعة الإسلامية أحكامها الخاصة، وسايرت الطبيعة البشرية، وجاءت متفقة مع الغرض من الزواج حينما قررت إباحة تعدد الزوجات.
أما مسايرة الشريعة لأحكامها الخاصة فإنها تحرم الزنا تحريماً كلياً، وتعاقب عليه أشد العقاب، ولا شك أن تحريم تعدد الزوجات يدفع الناس إلى الزنا، ذلك أن عدد النساء في العالم يزيد على عدد الرجال، ويزداد الفرق بينهما كلما نشبت الحروب وتعددت، فتحريم الزواج إلا من واحدة يؤدي إلى بقاء عدد كبير من النساء دون زواج، وحرمان المرأة من الزواج مع استعدادها له معناه أن تجاهد المرأة طبيعتها، وهو جهاد ينتهي غالباً بالفشل والاستسلام، وإباحة الأعراض والرضا بالسفاح.
وكذلك فإن الرجل والمرأة يختلفان من حيث استعدادهما للجماع، فالمرأة ليست مستعدة في كل وقت للجماع؛ لأنها تحيض في كل شهر مرة، ولا يجوز جماعها حال المحيض، ولأنها عندما تلد يحرم جماعها مدة النفاس، وهذه المدة قد تصل إلى أربعين يوماً غالباً، وكذلك فإن شهوة المرأة تضعف طول مدة الحمل أو على الأقل مدة الإثقال بالحمل، ثم إن المرأة تصل إلى سن اليأس في الخمسين من عمرها غالباً، فلا تعد صالحة للحمل بعده، وتضعف شهوتها حينها، أما الرجل فاستعداده للجماع واحد، لا يختلف باختلاف أيام الشهر والسنة، وتستمر معه شهوته إلى سن متأخرة، فإذا حُرِّم على الرجل الزواج بأكثر من واحدة كان معنى ذلك حمل الكثيرين من الرجال على الزنا؛ لأن كثيراً من الرجال لايستطيعون أن يكبتوا غرائزهم الجنسية أيام الحيض والنفاس والإثقال بالحمل وبعد يأس المرأة.
وأما أن الشريعة الإسلامية سايرت طبائع البشر في إباحة تعدد الزوجات فإنها قدرت قوة الغرائز الجنسية حق قدرها، فلم تعرض الرجل أو المرأة لامتحان إن نجح فيه العشرات من الناس سقط المئات، ولم تفرض على الرجل أن يتزوج واحدة فقط حتى لا تحكم على كثير من النساء بالبقاء عوانس مدى الحياة، يتمنين الرجل فلا يحصلن عليه من طريق الحلال، ويحلمن بالأولاد والأسرة ولاسبيل إلى تحقيق حلمهن، ويقاومن الغرائز الجنسية فلا تعود عليهن المقاومة إلا بضعف الصحة والعقل، وربما أيضاً خسارة الشرف والعفة.
ولم تفرض الشريعة على الرجل أن يتزوج واحدة فقط حتى لا تعرضه للوقوع تحت سيطرة الغرائز الجنسية في فترات الحيض والنفاس أو غيرها من الفترات التي يضعف فيها استعداد المرأة للاستجابة؛ لأن الرجل في الغالب يخضع لسلطان الغريزة أكثر مما يخضع لسلطان العقل، شأنه في ذلك شأن المرأة، إلا أن طبيعة المرأة تساعدها على كبت غريزتها أكثر مما يستطيع الرجل.
وأما أن حكم الشريعة الإسلامية في إباحة تعدد الزوجات جاء متفقاً مع الغرض من الزواج، فالأصل أن الغرائز الجنسية ركّبها الله في الرجل والمرأة لحفظ النوع الإنساني، وأن الزواج شُرِع للتناسل وتكوين الأسرة، فإذا تزوج الرجل امرأة عقيماً ولم يبح له أن يتزوج غيرها فقد تعطلت وظائفه الجنسية عن أداء الغرض التي خلقت له، وتعطل الغرض من الزواج نفسه.
 كذلك فإن قدرة الزوج على التناسل غير محدودة، أما قدرة المرأة فلها حد لا تتعداه، فالرجل يستطيع أن ينجب أولاداً حتى يبلغ الستين أو السبعين من عمره في المتوسط، وهو في الغالب أقصى عمره، أما المرأة فتنعدم قدرتها على التناسل في حدود سن الخمسين، فلو حرم على الرجل أن يتزوج أكثر من واحدة لكان معنى ذلك تعطيل وظيفته التناسلية سنوات كثيرة جداً كان يستطيع فيها أن يؤدي هذه الوظيفة.
إذاً: الشريعة الإسلامية أباحت تعدد الزوجات لدفع الضرر، ورفع الحرج، ولتحقيق المساواة بين النساء، ولرفع مستوى الأخلاق.
والشريعة الإسلامية لم تجز تعدد الزوجات مسايرة لحال العرب في الجاهلية، فقد كانوا يجيزون تعدد الزوجات إلى غير حد، لكن الشريعة حددت الجواز بأربع، وأباحت هذا التعدد؛ لترفع به مستوى المجتمع، ولتنقذه من شيوع الفاحشة من قِبَل الرجال والنساء على حد سواء.
هذا؛ وبعد الحرب العالمية الأولى والثانية تهيأت نفوس كثير من عقلاء الغرب ومصلحيهم لقبول تعدد الزوجات، حيث قُتِل في هاتين الحربين عدد كثير جداً من الرجال، وترمّل عدد كثير جداً من النساء، وزاد عدد النساء على عدد الرجال زيادة ظاهرة، ولا حل لهذه المشكلة أبداً إلا بإباحة تعدد الزوجات.
وكذلك مما هيأ نفوس الكثيرين من الغربيين لقبول تعدد الزوجات انتشار المخالّة، بحيث أصبح لكثير من الرجال الغربيين عدد من الخليلات يشاركن زوجته في رجولته وعطفه وماله، بل قد يكون لإحداهن في هذه الأمور أكثر من نصيب زوجته.
وكذلك مما هيأ نفوسهم لقبول هذا التعدد انتشار الزنا، وما يترتب عليه من جنايات عظيمة، مثل كثرة أبناء السفاح الذين يُقذف بهم إلى الشوارع بلا رحمة خوف العار، وقتل الأجنة في بطون الأمهات.
 ومنها الزيادة الطبيعية في عدد النساء، وحاجة هؤلاء إلى أن يكن زوجات وأمهات.
 ومنها قلة النسل قلة ظاهرة في الشعوب الغربية.
 فهذه الأسباب مجتمعة مع غيرها دعت كثير من أولئك الناس إلى أن يفكروا في إباحة تعدد الزوجات باعتباره العلاج الطبيعي الوحيد لهذه الظواهر والأمراض الاجتماعية الخطيرة( ).
وبهذا البيان يتبين أن إباحة تعدد الزوجات لا ينافي رحمة النبي عليه الصلاة والسلام، بل هو من رحمة شريعته عليه الصلاة والسلام؛ لما فيه من المصالح الكثيرة، والفوائد العظيمة، ولما فيه من درء المفاسد العديدة، والخسائر الكبيرة {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [المائدة: 50].
هذا؛ وإن الله سبحانه وتعالى قد أباح لرسوله عليه الصلاة والسلام أن يتزوج ما شاء من النساء، وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [الأحزاب: 50].
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: ((يقول تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه قد أحل له من النساء أزواجه اللاتي أعطاهن مهورهن، وقوله تعالى: { وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 50]
أي: وأباح لك التسري مما أخذت من الغنائم، وقد ملك صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما، وملك ريحانة النضرية ومارية القبطية وكانتا من السراري رضي الله عنهما.
وقوله: { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ } هذا عدل وسط بين الإفراط والتفريط، فإن النصارى لا يتزوجون المرأة إلا إذا كان الرجل بينه وبينها سبعة أجداد فصاعداً، واليهود يتزوج أحدهم بنت أخيه وبنت أخته، فجاءت هذه الشريعة الكاملة الطاهرة بهدم إفراط النصارى فأباحت بنت العم والعمة، وبنت الخال والخالة، وتحريم ما فرطت فيه اليهود من إباحة ابن الأخ والأخت، وهذا شنيع فظيع.
وقوله: { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } أي: ويحل لك  أيها النبي  المرأة المؤمنة إن وهبت نفسها لك أن تتزوجها بغير مهر إن شئت، قال ابن عباس: لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له، أي: أنه لم يقبل واحدة ممن وهبت نفسها له، وإن كان ذلك مباحاً له، ومخصوصاً به؛ لأنه مردود إلى مشيئته كما قال الله: { إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا } أي: إن اختار ذلك.
وقوله تعالى: { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } قال عكرمة: أي: لا تحل الموهوبة لغيرك، ولو أن امرأة وهبت نفسها لرجل لم تحل له حتى يعطيها شيئاً، وقال قتادة: ليس لامرأة تهب نفسها لرجل بغير ولي ولا مهر إلا للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: { الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } أي: من حصرهم في أربع نسوة حرائر وما شاءوا من الإماء، واشتراط الولي والمهر والشهود عليه، وقد رخصنا لك في ذلك فلم نوجب عليك شيئاً منه { لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }( ) اﻫ مختصراً.
وقد كان له صلى الله عليه وسلم في مختلف مراحل حياته إحدى عشرة امرأة، واجتمع منهن تسع في آخر حياته، وتوفيت اثنتان في حياته، وأكثرهن تزوج بهن رحمة لهن، وكلهن كن ثيبات قد تزوجن قبله عليه الصلاة والسلام سوى واحدة فقط تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام وهي بكر، وهي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
ولقد جمع النبي عليه الصلاة والسلام بين أكثر من زوجة في آخر حياته، بعد أن قضى ما يقارب من ثلاثين عاماً من ريعان شبابه مقتصراً على زوجة واحدة كبيرة في السن وهي أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها.
 وزواجه صلى الله عليه وسلم بهذا العدد الكثير من النساء إنما هو لأغراض عظيمة، فقد تزوج النبي عليه الصلاة والسلام بعائشة وحفصة ابنتي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، كما زوّج النبيُ عليه الصلاة والسلام عثمان بن عفان رضي الله عنه ابنته رقية رضي الله عنها، وبعد موتها زوجه بابنته أم كلثوم رضي الله عنها، وزوّج علي بن أبي طالب رضي الله عنه بابنته فاطمة رضي الله عنها، وهؤلاء الأربعة  أبو بكر وعمر وعثمان وعلي  هم أفضل هذه الأمة بعد نبيها، وهم خلفاء الرسول عليه الصلاة والسلام بعد موته، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام بمصاهرتهم توثيق الصِلات بهم.
وكان من تقاليد العرب الاحترام للمصاهرة، فقد كان الصهر عندهم باباً من أبواب التقرب من القبائل المختلفة، وكانوا يرون محاربة الأصهار عاراً على أنفسهم، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام بزواج عدة من أمهات المؤمنين أن يكسر شدة عداء القبائل للإسلام، وذلك حينما يرونه قد تزوج من قبائلهم، ومن بنات أعمامهم وأرحامهم.
كذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام مأموراً بتعليم وتزكية المسلمين من الرجال والنساء، فتزوج النبي عليه الصلاة والسلام من النساء ما يكفي ليعدهن لتربية نساء المسلمين العجائز منهن والشابات، فيكفينه مؤنة تعليم النساء وتزكيتهن.
وقد كان لأمهات المؤمنين فضل كبير في نقل أحواله صلى الله عليه وسلم المنزلية للناس، خصوصاً من طالت حياتها منهن كعائشة رضي الله عنها، فقد روت للمسلمين أكثر من ألف حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام من أفعالله وأقواله، حتى كان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا أشكل عليهم حديث بعد موته صلى الله عليه وسلم يرجعون إلى عائشة رضي الله عنها فيجدون عندها منه علماً.
وفيما يلي ذكر موجز لزوجاته صلى الله عليه وسلم:
1) أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها: تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام قبل البعثة وعمره 25 سنة، وكان عمرها حين تزوج بها 40 سنة، وجميع أولاده منها سوى إبراهيم، ولدت له القاسم وعبدالله وماتا وهما صغيران، وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة رضي الله عنهن.
ولم يتزوج النبي عليه الصلاة والسلام عليها امرأة أخرى مدة حياتها، وقد توفيت قبل الهجرة بثلاث سنوات وعمرها 65 سنة، وكان عمر النبي عليه الصلاة والسلام حين توفيت 50 سنة.
2) أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله عنها: كانت ممن هاجر إلى الحبشة مع زوجها، ثم مات زوجها عنها، فصارت وحيدة لا زوج لها يحفظها، ولا عشيرة تحميها، حيث كان أقاربها من كفار قريش، فرحمها النبي عليه الصلاة والسلام فتزوجها بعد وفاة خديجة رضي الله عنها بنحو شهر، وكان بإمكانه أن يتزوج بغيرها من الأبكار.
3) أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها: اختارها الله زوجة لنبيه صلى الله عليه وسلم وهي مازالت طفلة، فعنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُرِيتُك في المنام ثلاث ليال، جاءني بك الملَك في سَرَقة من حرير [قطعة حرير]، فيقول: هذه امرأتك، فأكشف عن وجهك، فإذا أنت هي، فأقول: إن يك هذا من عند الله يمضه»( ).
عقد النبي عليه الصلاة والسلام عليها من أبيها أبي بكر رضي الله عنه بعد زواجه بسودة بسنة، وكانت بنت ست سنين فقط، ولم يدخل بها لصغر سنها، ولما بلغت تسع سنين رأى النبي عليه الصلاة والسلام أنها تحتمل أن يدخل بها، فدخل بها بعد الهجرة بسبعة أشهر، ولا غرابة في دخوله بها وهي بنت تسع سنين، فإن من البنات من تكون عظيمة البنية تتحمل الزواج وهي بنت تسع سنوات لا سيما في ذلك الزمان حيث كانت بنت تسع سنوات تعتبر امرأة إذا حاضت، قالت عائشة رضي الله عنها: «إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة»( ).
وعائشة أفقه نساء الأمة، وكان في زواج النبي عليه الصلاة والسلام بها خير عظيم للأمة.
4) أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنها: أُصيب زوجها بجرح في معركة بدر، ثم مات منه، فتزوجها النبي عليه الصلاة والسلام سنة 3ﻫ؛ رحمة بها، وحباً في مصاهرة أبيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
5) أم المؤمنين زينب بنت خزيمة الهلالية رضي الله عنها: قُتِل زوجها في غزوة أحد، فتزوجها النبي عليه الصلاة والسلام في سنة 4ﻫ؛ رحمة بها، وقد توفيت بعد زواجها بالنبي عليه الصلاة والسلام بنحو ثلاثة أشهر.
6) أم المؤمنين أم سلمة بنت أبي أمية رضي الله عنها: توفي زوجها سنة 4ﻫ، فحزنت عليه حزناً عظيماً، وكان لها أولاد منه، فتزوجها نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام في تلك السنة، وجعل أولادها في رعايته عليه الصلاة والسلام.
7) أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها: هي ابنة عمة النبي عليه الصلاة والسلام، تزوجت بزيد بن حارثة رضي الله عنه الذي كان يدعى في الجاهلية زيد بن محمد، حيث تبناه النبي عليه الصلاة والسلام قبل البعثة، فطلقها زيد، وكان أهل الجاهلية يرون تحريم زوجة المتبنى على أبيه المتبني مثل تحريم زوجة الابن من الصلب، فلما انقضت عدتها من زيد سنة 5ﻫ زوجها الله بالنبي عليه الصلاة والسلام لإبطال التبني، وقد شق ذلك على النبي عليه الصلاة والسلام خشية من ألسنة الناس؛ فعاتبه الله على ذلك، وأنزل قوله: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 37 - 39].
8) أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها: سباها المسلمون في غزوة بني المصطلق سنة 6ﻫ، وكانت بنت سيد بني المصطلق، فأعتقها نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام وتزوجها، فأعتق المسلمون جميع السبي الذي استولوا عليه في تلك الغزوة، وهم مائة أهل بيت، وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكانت أعظم النساء بركة على قومها، ثم إنهم أسلموا عندما رأوا النبي عليه الصلاة والسلام تزوج بنت سيدهم، ورأوا المسلمون قد أعتقوا كل السبي الذي أخذوا، فكان زواج النبي عليه الصلاة والسلام بها رحمة عظيمة لها ولقومها.
9) أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها: هي بنت أبي سفيان قائد مشركي قريش في غزوة أحد وسيدهم، أسلمت من بين أهلها، وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة، ثم إن زوجها ارتد عن الإسلام في الحبشة ومات كافراً، وثبتت هي على الإسلام، ولكنها صارت في بلاد الحبشة غريبة وحيدة لاتدري أين تذهب، وماذا تفعل! ولكن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم جبر كسرها، ومسح دمعتها، وآنس وحشتها، فلما بعث إلى النجاشي رسولاً بكتاب يدعوه فيه إلى الإسلام، أمره أن يزوجها النبي عليه الصلاة والسلام، فزوجها النجاشي بالنبي عليه الصلاة والسلام، وبعثها إلى المدينة مع بعض المسلمين، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة 7ﻫ.
10) أم المؤمنين صفية بنت حُيي بن أخطب رضي الله عنها: هي بنت سيد بني النضير، وقد كان أبوها ألد أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم من اليهود، وقد قُتِل في غزوة بني قريظة، سُبيت صفية في غزوة خيبر، فاصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، وعرض عليها الإسلام فأسلمت، فأعتقها نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم وتزوجها وذلك بعد فتح خيبر سنة 7ﻫ.
11) أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها: كانت امرأة ثيباً من المستضعفين المؤمنين الذين في مكة، فلما اعتمر نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام سنة 7ﻫ بحسب الصلح الذي جرى بينه وبين كفار قريش تزوجها، وأخرجها من بين كفار قريش إلى المدينة.

هذه إحدى عشرة امرأة هن أمهات المؤمنين وأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان للنبي عليه الصلاة والسلام سريتان  أي: أمتان  هما:
1) مارية القبطية رضي الله عنها: أهداها للنبي صلى الله عليه وسلم المقوقسُ ملك مصر والإسكندرية سنة7ﻫ، وقد ولدت للنبي عليه الصلاة والسلام ابنه إبراهيم الذي توفي صغيراً وعمره سنة ونصف سنة، وكان موته قبل موت النبي عليه الصلاة والسلام بنحو 4 أشهر.
2) ريحانة بنت زيد رضي الله عنها: كانت من سبايا بني قريظة فاصطفاها النبي عليه الصلاة والسلام لنفسه( ).
وقد أطلت في ذكر أزواج النبي عليه الصلاة والسلام لأن بعض المغرضين يدّعون أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تزوج بعدد كثير من النساء لمصلحته الشخصية، وقد تبين مما سبق أن زواج النبي عليه الصلاة والسلام بأمهات المؤمنين إنما كان لأغراض أخرى أجل وأعظم من الغرض الذي يحققه عامة الزواج، وتبين أن زواجه بأكثرهن إنما كان رحمة بهن، وجبراً لخاطرهن، وإحساناً إليهن.
هذا؛ وقد كانت عشرته صلى الله عليه وسلم بأمهات المؤمنين في غاية الحسن والعدل والإحسان، بالرغم من كثرة مشاغله، وعظم مناصبه، وتعدد أعماله، ومما يبين ذلك ما يلي من الأحاديث:
1)    عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»( ).
2)    عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاة العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهن( ).
3)    عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا، وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعاً، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ التي هو يومها، فيبيت عندها»( ).
وهذه الأحاديث تبين عدل النبي عليه الصلاة والسلام مع أزواجه، وحسن عشرته معهن جميعاً.
4)    عن أنس رضي الله عنه قال: كان عند النبي صلى الله عليه وسلم تسع نسوة، وكان إذا قسم بينهن لا ينتهي إلى الأولى إلا في تسع ليال، فكن يجتمعن في كل ليلة في بيت التي يأتيها( ).
5)    عن ميمونة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه وهي حائض أمرها أن تأتزر»( ).
هذا الحديث يبين حسن عشرة النبي عليه الصلاة والسلام لمن كانت حائضاً من نسائه.
6)    عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيّ فيشرب، وأتعرّق العرْق [العظم الذي فيه لحم] وأنا حائض، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيّ) ( ).
7)    عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكىء في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن) ( ).
8)    عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته)( ).
9)    عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفراً أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه( ).
10)    عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي عليه الصلاة والسلام يُعطي أزواجه كل سنة مائة وسْق، ثمانين وسقاً من تمر، وعشرين وسقاً من شعير( ).
فهذه نفقة النبي عليه الصلاة والسلام على أزواجه بعد أن فتح الله عليه خيبر، وأبقى اليهود فيها على أن يعطوا المسلمين نصف ما يخرج منها من ثمر أو زرع، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يعطي نساءه نفقة سنة كاملة، ثمانين وسقاً من تمر، وعشرين وسقاً من شعير، وهذه النفقة يقتسمنها فيما بينهن بالسوية، وهي نفقة كافية، فإن الوسْق يساوي ستين صاعاً، والصاع يساوي أربعة أمداد، والمُد ملء كفي الرجل المعتدل، وقد استمرت هذه النفقة لأمهات المؤمنين رضي الله عنهن كل سنة حتى بعد وفاة نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام.

* * *

 
الخـــاتمـة
ما أرسل الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إلا لشيء واحد عظيم كبير شامل بيّنه الله بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 107].
فشريعته صلى الله عليه وسلم كلها رحمة، ودعوته رحمة، وسيرته رحمة، وأقواله رحمة، وأفعاله رحمة، وكل ما أمر به النبي عليه الصلاة والسلام وجوباً أو استحباباً ففعله رحمة، وكل ما نهى عنه تحريماً أو تنزيهاً فتركه رحمة.
جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة بالناس عموماً الرجال والنساء، والكبار والصغار، والأقارب والأباعد، والأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعفاء، والولاة والرعية، والأحرار والعبيد، والمسلمين والكافرين.
جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة بالبشرية كلها في الدنيا والآخرة، يحذرهم من عذاب الجحيم، ويدعوهم إلى طريق جنة النعيم، فمن أطاعه فقد اهتدى، ومن عصاه فقد غوى.
رحمة النبي عليه الصلاة والسلام تشمل الروح والبدن، وتستوعب الدين والدنيا، بلا إفراط ولا تفريط.
رحمة النبي عليه الصلاة والسلام تعم كافة الناس من الأولين والآخرين، فهو صاحب الشفاعة العظمى يوم القيامة حين يرغب إليه جميع الخلائق حتى النبيين.
هذا؛ وأي قول في القدح في نبي الرحمة فهو قول باطل عاطل، وأي شبهة حول رحمته عليه الصلاة والسلام فهي شبهة فاسدة كاسدة.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى أهل بيته وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
 وبارك على نبينا محمد وعلى أهل بيته وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
 
أهم المراجع والمصادر
1)    القرآن الكريم.
2)    الأدب المفرد للبخاري  دار البشائر الإسلامية  ط3/1409.
3)    إرواء الغليل للألباني  المكتب الإسلامي  ط2/1405.
4)    أيسر التفاسير للجزائري - ط4/1412.
5)    بلوغ المرام لابن حجر- دار المعرفة- ط1/1418.
6)    التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم لحسن نور- دار المجتمع-1412.
7)    تاريخ ابن خلدون -دار القلم- ط5/1984.
8)    التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي لعبد القادر عودة -مؤسسة الرسالة- ط14/1421
9)    تفسير ابن جرير الطبري -مؤسسة الرسالة- ط1/1420.
10)    تفسير القرآن العظيم لابن كثير -دار الجيل- ط1/1411.
11)    التمهيد لابن عبدالبر -وزارة الأوقاف المغربية- 1387.
12)    تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي -مؤسسة الرسالة- ط1/1421.
13)    جامع العلوم والحكم لابن رجب -دار الكتب العلمية- ط1/1419.
14)    الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين للوادعي -دار الحرمين- 1416.
15)    الجامع المفهرس لأطراف الأحاديث التي حكم عليها الألباني للهلالي-دار ابن الجوزي- ط1/1409.
16)    جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد للمغربي -مكتبة الرشد- ط1/1426.
17)    الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم -دار الكتب العلمية.
18)    الرحيق المختوم للمباركفوري -مكتبة خالد بن الوليد- ط17/1426.
19)    روضة الأنوار للمباركفوري -وزارة الشئون الإسلامية- ط1/1424.
20)    رياض الصالحين للنووي -المكتب الإسلامي- ط1/1412.
21)    زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم -مؤسسة الرسالة- ط14/1407.
22)    سبل السلام شرح بلوغ المرام للصنعاني -المكتبة التجارية الكبرى- 1357.
23)    سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني -مكتبة المعارف- ط1/1422.
24)    السلسلة الصحيحة (المختصرة) لمشهور حسن سلمان -مكتبة المعارف- ط1/1425.
25)    السيرة النبوية لابن هشام -دار إحياء التراث العربي- ط1/1415.
26)    سنن ابن ماجه مكتبة المعارف  ط1.
27)    سنن أبي داود -دار ابن حزم- ط1/1418.
28)    سنن البيهقي الكبرى -مكتبة دار الباز- 1414.
29)    سنن الترمذي -مكتبة المعارف- ط1.
30)    سنن النسائي -مكتبة المعارف- ط1.
31)    سنن النسائي الكبرى -دار الكتب العلمية- ط1/1411.
32)    السيف المسلول على شاتم الرسول لتقي الدين السبكي -دار ابن حزم- ط1/1426.
33)    شبهات المشككين -موقع وزارة الأوقاف المصرية
http://www.islamic-council.com.
34)    شرح صحيح مسلم للنووي -دار إحياء التراث- ط2/1392.
35)    شرح معاني الآثار للطحاوي  دار الكتب العلمية  ط1/1399.
36)    الشرح الممتع لابن عثيمين  دار المستقبل  ط1/1426.
37)    شرح النسائي للسيوطي -مكتب المطبوعات الإسلامية- ط2/1406.
38)    شعب الإيمان للبيهقي -دار الكتب العلمية- ط1/1410.
39)    الشفاء في التعريف بحقوق المصطفى للقاضي عياض -دار الفكر- 1995.
40)    صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان تحقيق الأرناؤوط -الرسالة- ط2/1414.
41)    صحيح البخاري -دار السلام- ط2/1419.
42)    صحيح الترغيب والترهيب للألباني -مكتبة المعارف- ط1/1421.
43)    صحيح الجامع الصغير وزيادته للألباني -المكتب الإسلامي- ط3/1408.
44)    صحيح مسلم -دار ابن حزم- ط1/1419.
45)    الصحيح المسند من دلائل النبوة للوادعي  دار الأرقم  ط1/1405.
46)    صفة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام للألباني -مكتبة المعارف- ط1/1411.
47)    عون المعبود شرح سنن أبي داود للآبادي -دار الكتب العلمية- ط2/1415.
48)    فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر -دار المعرفة- 1379.
49)    فتح المجيد لعبدالرحمن آل الشيخ -دار الفكر- 1412.
50)    فقه السنة لسيد سابق  دار الكتاب العربي.
51)    فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي -دار الكتب العلمية- 1422.
52)    القاموس المحيط للفيروزآبادي -مؤسسة الرسالة- ط2/1407.
53)    القواعد والأصول الجامعة للسعدي -دار ابن الجوزي- ط1/1421.
54)    لسان العرب لابن منظور -دار صادر- ط1.
55)    مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية -جمع عبدالرحمن بن القاسم- ط1/ الرئاسة العامة لشئون الحرمين.
56)    مختار الصحاح للرازي -مؤسسة الرسالة.
57)    مختصر الشمائل المحمدية للألباني -المكتبة الإسلامية.
58)    المستدرك للحاكم -دار الكتب العلمية- ط1/1415.
59)    مسند الإمام أحمد بن حنبل -مؤسسة قرطبة.
60)    مسند البزار -مؤسسة علوم القرآن- ط1/1409.
61)    مسند أبي يعلى -دار المأمون- ط1/1404.
62)    مشكاة المصابيح للتبريزي/ تحقيق الألباني -المكتب الإسلامي- ط3/1405.
63)    المجموع للنووي -دار إحياء التراث العربي- ط1/1422.
64)    المعجم الأوسط للطبراني -دار الحرمين- 1415.
65)    المعجم الصغير للطبراني -المكتب الإسلامي- ط1/1405.
66)    المعجم الكبير للطبراني -دار إحياء التراث العربي- ط2.
67)    المعجم الوسيط -ط2.
68)    المغني لابن قدامة -دار الفكر- ط1/1405.
69)    نظام الحكومة النبوية (التراتيب الإدارية) للكتاني -دار الكتاب العربي.