أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير- ط: التفاسير - المجلد التاسع

يوجد طبعة أخرى في نفس الصفحة طبعة مكتبة العلوم والحكم بالمدينة المنورة
http://www.islamland.com/arb/books/view/13460

هذا تفسير موجز لكتاب الله تعالى القرآن الكريم وضعه الإمام "أبو بكر جابر الجزائري" مراعياً فيه حاجة المسلمين اليوم إلى فهم كلام الله تعالى الذي هو مصدر شريعتهم وسبيل هدايتهم هو عصمتهم من الأهواء وشفاؤهم من الأدواء، قال تعالى "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين".

هذا ونظراً لليقظة الإسلامية اليوم فقد عكف المصنف إلى وضع تفسيره هذا محاولاً الجمع فيه بين المعنى المراد من كلام الله، وبين اللفظ القريب من فهم المسلم اليوم. حيث بين فيه العقيدة السلفية المنجية، والأحكام الفقهية الضرورية، هادفاً من وراء هذا التفسير تربية ملكة التقوى في النفوس، بتحبيب الفضائل وتبغيض الرذائل، والحثّ على أداء الفرائض واتقاء المحارم، مع التجمل بالأخلاق القرآنية والتحلي بالآداب الربانية.

وبالعودة لمضمون هذا التفسير نجد أنه جاء متميزاً بالميزات التالية: أولاً: الوسطية بين الاختصار المخل والتطويل الممل، ثانياً: اتباع منهج السلف في العقائد والأسماء والصفات، ثالثاً: الالتزام بعدم الخروج عن المذاهب الأربعة في الأحكام الفقهية، رابعاً: إخلاؤه من الإسرائيليات صحيحها وسقيمها، إلا ما لا بد منه لفهم الآية الكريمة وكان مما تجوز روايته لحديث، خامساً: إغفال الخلافات التقسيمية، سادساً: الالتزام بما رجحه ابن جرير الطبري في تفسيره عند اختلاف المفسرين في معنى الآية، سابعاً: إخلاء الكتاب في المسائل النحوية والبلاغية والشواهد العربية، ثامناً: عدم التعرض للقراءات إلا نادراً حيث يتوقف معنى الآية على ذلك، واقتصار الأحاديث على الصحيح والحسن منها، تاسعاً: خلو التفسير من ذكر الأقوال وإن كثرت والالتزام بالمعنى الراجح الذي عليه جمهور المفسرين من السلف الصالح.

وقد جعل المؤلف الكتاب دروساً منظمة منسقة. فقد يجعل الآية الواحدة أو الآيتين أو الأكثر درساً فيشرح كلماتها ثم يبين معانيها ويذكر هدايتها المقصودة منها للاعتقاد والعمل. وجعل الآيات مشكولة على قراءة حفص.

http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



الكتاب : أيسر التفاسير
المؤلف : أبو بكر الجزائري
مصدر الكتاب : موقع التفاسير
http://www.altafsir.com
[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]

 

وقوله تعالى : { وإذا قال موسى لقومه } أي اذكر قال موسى لقومه من بني اسرائيل يا قوم لم تؤذوني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم والحال أنكم تعلمون أني رسول الله إليكم حقاً وصدقاً ، وقد آذوه بشتى أنواع الأذى بألسنتهم السليطة وآرائهم الشاذة من ذلك قولهم إن موسى آدُر ولذا هو لا يغتسل معنا ، ومعنى آدر به أدر وهي انتفاخ الخصية .
وقوله تعالى : { فلما زاغوا } أي مالوا عن الحق بعد علمه غاية العلم فآثروا الباطل على الحق والشر على الخير والكفر على الإِيمان عاقبهم الله فصرف قلوبهم عن الهدى نقمة منه تعالى عليهم ، وذلك لأنّه سنته تعالى فيمن عرض عليه الخبر فأباه بعد علمه به ، ثم دعى إليه فلم يستجب ثم رغب فيه فلم يرغب وواصل الشر مختاراً له عندئذ يصبح ما اختار من الفسق أو الكفر أو الظلم أو الإِجرام طبعاً له وخلقاً ثابتاً ولا يتغير . وعلى هذا يؤول مثل قوله تعالى والله لا يهدي القوم الكافرين لأنه تعالى أضلهم حسب سنته في الإِضلال فلا يستطيع أحد غيره تعالى أن يهدي عبداً أضله الله على علم وهذا معنى قوله تعالى من سورة النحل { إن الله لا يهدى من يضل } وقوله تعالى : { وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم } أي اذكر يا رسولنا للاتعاظ والعبرة قول عيسى بن مريم لليهود : يا بني اسرائيل نسبم إلى جدهم يعقوب الملقب باسرائيل بن اسحق بن ابراهيم الخليل عليهم السلام . أنى رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة وهذا برهان على صدقي في دعوتي إذ لم أخالف فيما أدعو إليه من عبادة الله وحده ما في التوراة كتاب الله عز وجل وهو بين أيديكم فوفاقنا دال على أن مصدر تشريعنا واحد هو الله عز وجل فكما آمنتم بموسى وهرون وداود وسليمان آمنوا بي فإني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه احمد ، فلهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى » إذ ابراهيم لما كان يبنى البيت مع اسماعيل كانا يتقاولان ما أخبر تعالى به في قوله : { ربنا وابعث فيه رسولا منهم يتلو عليهم آياتك . . . } الآية .
وقوله تعالى { فلما جاءهم } أي محمد صلى الله عليه وسلم بالبينات أي بالحجج الدالة على صدق رسالته ووجبو اتباعه في العقيدة والشريعة كفروا به وقالوا في القرآن هذا سحر مبين كما قالها فرعون مع موسى . وكما قالتها اليهود مع عيسى عليه السلام .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان غنى الله تعالى عن خلقه وأنه سبح لله ما في السموات وما في الأرض وأن ما شرعه لعباده من العبادات والشرائع إنما هو لفائدتهم وصالح أنفسهم يكلموا عليه أرواحاً واخلاقاً ويسعدوا به في الحياتين .
(4/251)
________________________________________
2- حرمة الكذب وخلف الوعد إذ قول القائل أفعل كذا ولم يفعل كذِب وخلف وعدٍ . ولذا كان قوله من المقت الذي هو أشد البغض ، ومن مقته الله فقد أبغضه أشدَّ البغض وكيف يفلح من مقته الله .
3- فضيلة الجهاد والوحدة والاتفاق وحرمة الخلاف والقتال والصفوف ممزقة حسياً أو معنوياً .
4- التحذير من مواصلة الذنب بعد الذنب فإنه يؤدى إلى الطبع وحرمان الهداية .
5- بيان كفر اليهود بعيسى عليه السلام وازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم .
6- بيان كفر النصارى إذ رفضوا بشارة عيسى وردوها عليه ولم يؤمنوا بالمبشر به محمد صلى الله عليه وسلم .
(4/252)
________________________________________
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
شرح الكلمات :
{ ومن أظلم ممن افترى على الله : أي لا أحد أعظم ظلماً ممن يكذب عل الله فينسب إليه الولد الكذب } والشريك ، والقول والحكم وهو تعالى برىء من ذلك .
{ وهو يدعى إلى الإِسلام } : أي والحال أن هذا الذي يفترى الكذب على الله يدعى إلى الإِسلام الذى هو الاستسلام والانقياد لحكم الله وشرعه .
{ والله لا يهدى القوم الظالمين } : أي من ظَلم ثم ظلم وواصل الظلم يصبح الظلم طبعاً له فلا يصبح قابلاً للهداية فيحرمها حسب سنة الله تعالى في ذلك .
{ ليطفئوا نور الله بأفواههم } : أي يريد المشركون بكذبهم على الله وتشويه الدعوة الإِسلامية ، ومحاربتهم لأهلها يريدون إطفاء نور الله القرآن وما يحويه من نور وهداية بأفواههم وهذا محال فإنّ إطفاء نور الشمس أو القمر أيسر من إطفاء رنور لا يريد الله إطفاءه .
{ هو الذي أرسل رسوله بالهدى } : أي أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى أي بالهداية البشرية .
{ ودين الحق } : أي الإِسلام إذ هو الدين الحق الثابت بالوحى الصادق .
{ ليظهره على الدين كله } : أي لينصره على سائر الأديان حتى لا يبقى إلا الإِسلام ديناً .
{ ولو كره المشركون } : أي ولو كره نصره وظهوره على الأديان المشركون الكافرون .
معنى الآيات
يقول تعالى { ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب } والحال أنه يدعى الإِسلام الدين الحق إنه لا أظلم من هذا الإِنسان أبداً ، إن ظلمه لا يقارن بظلم هذا معنى قوله تعالى في الآية الأولى ( 7 ) { ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب } . أي اختلق الكذب على الله عز وجل وقال له كذا وكذا وقال أو شرع كذا وهو لم يقل ولم يشرع . كما هى حال مشركى قريش نسبوا إليه الوليد والشريك وحرموا السوائب والبحائر والحامات وقالوا في عبادة أصنامهم لو شاء الله ما عبدناهم إلى غير ذلك من الكذب الاختلاق على الله عز وجل . وقوله وهو يدعى إلى الإسلام إذ لو كان أيام الجاهلية حيث لا رسول ولا قرآن لهان الأمر أما أن يكذب على الله والنور غامر والوحي ينزل والرسول يدعو ويبين فالأمر أعظم والظلم أظلم .
وقوله تعالى في الآية الثانية ( 8 ) { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم } أي يريد أولئك الكاذبون على الله القائلون في الرسول : ساحر وفي القرآن إنه سحر مبين إطفاء نور الله الذي هو القرآن وما حواه من عقائد الحق وشرائع الهدى وبأى شيء يريدون إطفاءه إنه بأفواههم وهل نور الله يطفأ بالأفواه كنور شمعة أو مصباح . إن نورا لله متى أراد الله إتمامه إطفاء نور القمر أو الشمس أيسر من إطفائه فليعرفوا هذا وليكفوا عن محاولاتهم الفاشلة فإن الله يريد أن يتم نوره ولو كره المشركون إنه تعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق دين الله الحق الذي هو الإِسلام ليظهره على الدين كله وذلك حين نزول عيسى إذ يبطل يومها كل دين ولم يبق الا الإِسلام ولو كره ذلك المشركون فإن الله مظهره لا محاله .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- عظم جرم الكذب على الله وأنه من أفظع أنواع الظلم .
2- حرمان الظلمة المتوغلين في الظلم من الهداية .
3- إيئاس المحاولين إبطال الإِسلام وانهاء وجوده بأنهم لا يقدرون إذ الله تعالى أراد إظهاره فهو ظاهرة منصور لا محالة .
4- تقرير نبّوة محمد صلى الله عليه وسلم .
(4/253)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
شرح الكلمات :
{ هل أدلكم على تجارة } : أي أرشدكم إلى تجارة رابحة .
{ تنجيكم من عذاب أليم } : أي الربح فيها هو نجاتكم من عذاب مؤلم يتوقع لكم .
{ تؤمنون بالله ورسوله } : أي تصدقون بالله ربّاً وإلهاً وبمحمد نبياً ورسولاً لله تعالى .
{ وتجاهدون في سبيل الله } : أي وتبذلون أموالكم وأرواحكم جهاداً في سبيل الله تعالى .
{ ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون } : أي الدخول في هذه الصفقة التجارية الرابحة خير لكم من تركها حرصاً على بقائكم وبقاء أموالكم مع أنه لا بقاء لشىء في هذ الدار .
{ يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم } : أي هذا هو الربح الصافي مقابل ذلك الثمن الذاهب الزائل .
{ جنات تجرى من تحتها الأنهار : الذي هو المال والنفس مع أن الكل لله تعالى واهبكم أنفسكم ومساكن طيبة في جنات عدن } وأموالكم .
{ ذلك الفوز العظيم } : أي النجاة من عذاب النار الأليم ثم دخول الجنة والظفر بما فيما من النعيم المقيم هو حقاً الفوز العظيم .
{ وأخرى تحبونها نصر من الله : أي وعلاوة أخرى تحبونها قطعاً إنها نصر من الله لكم وليدنكم وفتح قريب } وفتح قريب للأمصار والمدن ، وما يتبع ذلك من رفعة وسعادة وهناء .
{ وبشر المؤمنين } : أي وبشر يا رسولنا المؤمنين الصدقين بذاك الفوز وهذه العلاوة .
{ كونوا أنصار الله } : أي لتنصروا دينه ونبيه وأولياءه .
{ كما قال عيسى بن مريم : أي فكونوا أنتم أيها المؤمنون مثل الحواريين ، والحواريون للحواريين من أصنارى إلى الله } : أصحاب عيسى وهم أول من آمن به وكانوا اثني عشر رجلاً .
{ فآمنت طائفة من بنى اسرائيل } : يا بعيسى عليه السلام ، وقالوا إنه عبد الله رفع إلى السماء .
{ وكفرت طائفة } : أي من بني إسرائيل فقالوا إنه ابن الله رفعه إليه .
{ فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم } : فاقتتلت الطائفتان : فنرسنا وقوينا الذين آمنوا .
{ فأصبحوا ظاهرين } : أي غالبين عالين .
معنى الآيات :
قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } أي يا من صدقتم الله وروسله هل لنا أن ندلكم على تجارة عظيمة الربح ثمرتها النجاة من عذاب أليم في الدينا والآخرة . وقوله { تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم } هذا هو رأس المال الذي تقدمونه . إيمان بالله ورسوله حق الإِيمان ، جهاد الله بالنفس والمال وأُنبه إلى أن هذ الصفقة التجارية خير لكم من عدمها إن كنتم تعلمون ربحها وفائدتها .
{ يغفر لكم ذبنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار } إنها النجاة من العذاب الدنيوي والأخروي أولاً ، ثم مغفرة ذنوبكم وإدخالكم جنات تجري من تحتها الأنهار ، أي من تحت قوصرها وأشجارها ، ومساكن طيبة في جنات عدن أي إقامة دائمة . ثانياً ثم زاد الحق في ترغيبهم فقال { ذلك الفوز العظيم } إنه النجاة من النار ، ودخول الجنة ، فلا فوز أعظم منه قط هذا ولكم علاوة على ذلك الربح العظيم وهي ما أخبر تعالى عنها بقوله : { وأخرى تحبونها } أي وفائدة أخرى تحبونها : نصر من الله أي لكم على أعدائكم ولدينكم على سائر الأديان وفتح قريب لمكة ولباقى المدن والقرى فى الجزيرة وما وراءها .
(4/254)
________________________________________
وقوله تعالى { وبشر المؤمنين } أي وبشر يا رسولنا الذين آمنوا بنا وبرسولنا وبوعدنا ووعيدنا بحصول ما ذكرناه كاملا ، وقد تم لهم كاملاً ولله الحمد والمنة . وقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا } هذا نداء ثانٍ في هذا السياق الكريم ناداهم بعنوان الإِيمان أيضاً إذ الإِيمان وهو الطاقة المحركة الدافعة فقال { يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله } أي التزموا بنصرة ربكم وإلهكم الحق في دينه ونبيه وأوليائه أي من ينصرني في حال كوني متوجهاً إلى الله انصر دينه وأولياءه ، فأجابوه قائلين نحن أنصار الله . فكونوا أنتم أيها المسلمون مثلهم ، وقد كانوا رضي الله عنهم كما طلب منهم .
وقوله تعالى { فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا } أي فاقتتلوا فأيدنا أي قوينا ونصرنا الذين آمنوا وهم الذين قالوا عيسى عبد الله ورسوله رفعه ربه تعالى إلى السماء ، على عدوهم وهم الطائفة الكافرة التى قالت عيسى ابن الله رفعه إليه تعالى الله أن يكون له ولد .
وقوله تعالى { فأصبحوا ظاهرين } أي غالبين عالين إلى أن احتال اليهود على إفساد الدين الذي جاء به عيسى وهو الإِسلام أي عبادة الله وحده بما شرع أن يبعد به فحينئذ لم يبق من المؤيدين إلا أنصار قليلون هنا وهناك وعلا الكفر والتثلث واستمر الوضع كذلك إلى أن بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم فانضم الى الإِسلام انضم من النصارى فأصبحوا بالإِسلام ظاهرين يقولون : هو ابن الله ، ومرة يقولون : ثالث ثلاثة هو الله . وضللهم وتركهم في هذه المتاهات الانتفاعيون من الرؤساء والجاهلون المقلدون من المرءوسين كما فعل نظارؤهم في الإِسلام فحولوه الى طوائف وشيع إلا أن الإِسلام تعهد الله بحفظه الى يوم القيامة فمن أراده وجده صافياً كما نزل في كتاب لله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن لم يرده وأراد الضلالة وجدها في كل عصر ومصر .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- فضل الجهاد بالمال والنفس وأنه أعظم تجارة رابحة .
2- تحقيق بشرى المؤمنين التى أمر الله رسوله أن يبشرهم بها فكان هذا برهاناً على صحة الإِسلام وسلامة دعوته .
3- بيان استجابة المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طلب منهم من نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه والمؤمنين معه . وهى نصرة الله تعالى المطلوبة .
(4/255)
________________________________________
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
شرح الكلمات :
{ سبح لله ما في السموات وما في : أي ينزه الله تعالى عما لا يليق به ما في السموات وما في الأرض } الأرض من سائر الكائنات بلسان القال والحال ، ولم يقل ( من ) بدل ( ما ) تغليباً لغير العاقل لكثرته علي العاقل .
{ في الأميين } : أي العرب لندرة من كان يقرأ منهم ويكتب .
{ رسولاً منهم } : أي محمداً صلى الله عليه وسلم إذ هو عربي قرشي هاشمي .
{ ويزكيهم } : أي يطهرهم أرواحاً واخلاقاً .
{ ويعلمهم الكتاب والحكمة } : أي هدى الكتاب وأسرار هدايته .
{ وان كانوا من قبل لفى ضلال : أي وإن كانوا من قبل بعثة الرسول في ضلال الشرك مبين } الجاهلية .
{ وآخرين منهم لما يلحقوا بهم } : أي وآخرين مؤمنين صالحين لما يلحقوا أي لم يحضروا حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُعلْم الكتابَ والحكمة ، وسيلحقون بهم وهم كل من لم يحضر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب والعجم .
{ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } : أي كون الصحابة حازوا فضل السبق هذا فضل يؤتيه من يشاء فلا اعتراض ولكن الرضا وسؤال الله من فضله فإنه ذو فضل عظيم .
{ معنى الآيات } :
قوله تعالى : { يسبح لله ما في السموات وما في الأرض } يخبر تعالى عن نفسه أنه يسبحه بمعنى ينزهه عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله من سائر مظاهر العجز والنقص ويقدسه كذلك وذلك بلسان الحال والقال وهذا كقوله من سورة الإِسراء وان من شيء إلا يسبح بحمده ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم . ومع هذا شرع لنا ذكره وتسبيحه وتعبدنا به ، وجعله عونا لنا على تحمل المشاق واجتياز الصعاب فكم أرشد رسوله له في مثل قوله : سبح اسم ربك ، وسبحه بكرة وأصيلا ، وسبح بحمد ربك قبل طولع الشمس وقبل الغروب ، ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاً . وواعد على لسانه رسوله بالجزاء العظيمن على التسبيح في مثل قوله صلى الله عليه وسلم « من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرة ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر » ورغب فيه في مثل قوله : « كلمتان ثقيلتان في الميزان خفيفتان على اللسان حبيبتان على الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم » .
وقوله { الملك القدوس } أي المالك الحاكم المتصرف في سائر خلقه لا حكم إلا له . ومرد الأمور كلها إليه المنزه عن كل ما لا يليق بلاله وكماله من سائر النقائص والحوادث .
وقوله تعالى { وهو العزيز الحكيم } أي كل خلقه ينزهه ويقدسه وهو العزيزن الغالب على أمره الذي لا يُحال بينه وبين مراده الحكيم في صنعه وتدبيره لأوليائه وفي ملكه وملكوته . وقوله تعالى : { هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم } أي بعث في الأمة العربية الأمية رسولا منهم هو محمد صلى الله عليه وسلم إذ هو عربي قرشي هاشمي معروف النسب الي جده الأعلى عدنان من ولد اسماعيل بن إبراهيم الخليل .
(4/256)
________________________________________
وقوله : { يتلو عليهم آياته } أي آيات الله التى تضمنها كتابه القرآن الكريم وذلك لهدايتهم وإصلاحهم ، وقوله ويزكيهم أي ويطهرهم أرواحاً وأخلاقاً وأجساماً من كل ما يدنس الجسم ويدنس النفس ويفسد الخلق . وقوله ويعلمهم الكتاب والحكمة . أي يعلمهم الكتاب الكريم يعلمهم معانيه وما حواه من شرائع وأحكام ، ويعلمهم الحكمة في كل أمورهم والإِصابة والسداد في كل شؤونهم ، يفقههم في أسرار الشرع وحكمه في أحكامه . وقوله { وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين } اي والحال والشأن أنهم كانوا من قبل بعثته فيهم لفى ضلال مبين ضلال في العقائد ضلال في الآدب والاخلاق ضلال في الحكم والقضاء في السياسة ، وادارة الأمور العامة والخاصة .
وقوله تعالى : وآخرين منهم لما يلحقوا بهم أي وآخرين من العرب والعجم جاءوا من بعدهم وهم تابعون وتابعوا التابعين الى يوم القيامة آمنوا وتعلموا الكتاب والحكمة التى ورثها رسول الله فيهم لما يلحقوا بهم في الفضل لأنهم فازوا بالسبق إلى الإِيمان وبصحبة رسول الله صلى الله عليه وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير التوحيد .
2- تقرير النبوة المحمدية .
3- بيان فضل الصحابة على غيرهم .
4- شرف الإِيمان والمتابعة للرسول وأصحابه رضي الله عنهم .
(4/257)
________________________________________
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
شرح الكلمات :
{ حملوا التوراة } : أي كلفوا بالعمل بها عقائد وعبادات وقضاء وآداباً وأخلاقاً { ثم لم يحملوها } : أي لم يعملوا بما فيها ، ومن ذلك نعته صلى الله عليه وسلم والأمر بالإِيمان فجحدوا نعته وحرفوه ولم يؤمنوا به وحاربوه .
{ بئس مثل القوم الذين كذبوا : أي المصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم هذا المثل الذي ضربه الله لليهود بآيات الله } كمثل الحمار يحمل أسفاراً أي كتباً من العلم وهو لا يدرى ما فيها .
{ قل يا أيها الذين هادوا } : أي اليهود المتدينون باليهودية .
{ إن زعمتم أنكم أولياء لله من : أي وأنكم أبناء الله وأحباؤه وأن الجنة خاصة بكم .
دون الناس } { فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } : أي ان كنتم صادقين في أنكم أولياء الله فتمنوا الموت مؤثرين الآخرة على الدنيا ومبدأ الآخرة الموت فتمنوه إذاً .
{ بما قدمت أيديهم } : أي بسب بما قدموه من الكفر والتكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يتمنون .
{ والله عليم بالظالمين } : أي المشركين ولازم علمه بهم أنه يجزيهم بظلمهم العذاب الأليم .
{ تفرون منه } : أي لأنكم لا تتمنونه أباً وذلك عين الفرار منه .
{ فإنه ملاقيكم } : أي حيثما اتجهتم فإنه ملاقيكم وجهاً لوجه .
{ ثم تردون الى عالم الغيب : أي الى الله تعالى يوم القيامة .
الشهادة } معنى الآيات :
قوله تعالى : { مثل الذين حملوا التوراة } أي كلفوا بالعمل بها من اليهود والنصارى ثم لم يحملوها أي ثم لم يعملوا بما فيها من أحكام وشرائع ومن ذلك جحدهم لنعوت النبي محمد صلى الله عليه وسلم والأمر بالإِيمان به واتباعه عند ظهوره . وقوله تعالى : { كمثل الحمار يحمل أسفاراً } أي كمثل حمار يحمل على ظهره أسفاراً من كتب العلم النافع وهو لا يعقل ما يحمل ولا يدرى ماذا على ظهره من الخير ، وذلك لأنه لا يقرأ ولا يفهم . وقوله تعالى { بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله } أي المصدقة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم هذا المثل الذي ضربه تعالى لأهل الكتاب من يهود ونصارى . وقوله والله لا يهدى القوم الظالمين ولهذا ما هداهم إلى الإِسلام . لتوغلهم في الظلم والكفر والشر والفساد لم يكونوا أهلاً لهداية الله تعالى .
وقوله تعالى : { قل يا أيها الذين هادوا } أي قل يا رسولنا يا أيها الذين هادوا أي يا من هم يدَّعون أنهم على الملة اليهودية ، إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس حيث ادعيتم انكم أبناء الله وأحباؤه ، وأن الجنة لكم دون غيركم الى غير ذلك من دعاويكم فتمنوا الموت إن كنتم صادقين في دعاويكم إذ الموت طريق الدار الآخرة فتمنوه لتمتوا فتستريحوا من كروب الدنيا وأتعابها .
وقوله تعالى : { ولا يتمنونه أبداً } أخبر تعالى وهو العليم أنهم لا يتمنونه في يوم من الأيام أبداً ، وبيّن تعالى علة ذلك بقوله : بما قدمت أيديهم من الذنوب والآثام الموجبة للعذاب .
(4/258)
________________________________________
وقوله { والله عليم بالظالمين } أي من أمثال هؤلاء اليهود وسيجزيهم بظلمهم عذاب الجحيم . وقوله تعالى : { قل إن الموت الذي تفرون منه } أي قل لهم يا رسولنا إن الموت الذي تفرون منه ولا تتمنونه فراراً وخوفاً منه فإنه ملاقيكم لا محالة حيثما كنتم سوف يواجهكم وجهاً لوجه ثم تُردون إلى عالم الغيب والشهادة وهو الله تعالى الذي يعلم ما غاب في السماء والأرض ، ويعلم ما يسر عباده ، وما يعلنون وما يظهرون وما يخفون فينبئكم بما كنتم تعملون ويجزيكم الجزاء العادل إنه عليم حكيم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- ذم من يحفظ كتاب الله ولم يعمل بما فيه .
2- التنديد بالظلم والظالمين .
3- بيان كذِب اليهود وتدجيلهم في أنهم أولياء الله وأن الجنة خالصة لهم .
4- بيان أن ذوى الجرائم أكثر الناس خوفاً من الموت وفراراً منه .
(4/259)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
شرح الكلمات :
{ إذا نودى للصلاة } : أي إذا أذن المؤذن لها عند جلوس الإِمام على المنبر .
{ من يوم الجمعة } : أي في يوم الجمعة وذلك بعد الزوال .
{ فاسعوا الى ذكر الله } : أي امضوا الى الصلاة .
{ وذروا البيع } : أي اتركوه ، وإذا لم يكن بيع لم يكن شراء .
{ وابتغوا من فضل الله } : أي اطلبوا الرزق من الله تعالى بالسع والعمل .
{ تفلحون } : أي تنجون من النار وتدخلون الجنة .
{ انفضوا إليها } : أي إلى التجارة .
{ وتركوا قائماً } : أي على المنبر تخطب يوم الجمعة .
{ ما عند الله خير من اللهو ومن : أي ما عند الله من الثواب في الدار الآخرة خير من اللهو ومن التجارة } التجارة .
{ والله خير الرازقين } : أي فاطلبوا الرزق منه بطاعة واتباع هداه .
معنى الآيات
قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا } أي يا من صدقتم الله ورسوله { إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة } أي إذا أذن المؤذن بعد زوال يوم الجمعة وجلس الإِمام عل المنبر { فاسعوا إلى ذكر الله } أي امضوا إلى ذكر الله الذي هو الصلاة والخطبة إذ بهما يُذكر الله تعالى . وقوله { وذروا البيع } إذ هو الغالب من أعمال الناس ، والا فسائر الأعمال يجب إيقافها والمضيُّ إلى الصلاة .
وقوله { ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } أي ترك الأعمال من بيع وشراء وغيرها والمضيُّ إلى أداء صلاة الجمعة وسماع الخطبة خير ثوابا عاقبة .
وقوله تعالى { فإذا قضيت الصلاة } أي أديت وفرغ منها فانتشروا في الأرض أي لكم بعد انقضاء الصلاة أن تتفرقوا حيث شئتم في أعمالكم اذكروا الله ولا تنسوه واذكروه ذكراً كثيراً لعلكم تفلحون أي رجاء فلاحكم وفوزكم في دنياكم وآخرتكم .
وقوله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً } هذه الآية نزلت في شأن قافلة زيت كان صحابها دحية بن خليفة الكلبى الأنصارى رضى الله عنه قدمت من الشام ، وكان عادة أهل المدينة إذا جاءت قافلة تجارية تحمل الميرة يستقبلونها بشيء من اللهو كضرب الطبول والمزامير . وصادف قدوم القافلة يوم الجمعة والناس في المسجد ، فلما انقضت الصلاة وطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب ، وكانت الخطبة بعد الصلاة لا قبلها كما هي بعد ذلك فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم الا اثنا عشر رجلاً وامرأة فنزلت هذه الآية تعيب عليهم خروجهم وتركهم نبيهم يخطب . فقال تعالى في صورة عتاب شديد { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا اليها } أي خرجوا إليها { وتركوك } يا رسولنا قائما على المنبر تخطب . وقوله تعالى : لأقل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة } أي أعلمهم يا نبينا أن ما عند الله ن ثواب الآخرة خير من اللهو التجارة التي جرجتم إليها ، { والله خير الرازقين } فاطبلا الرزق منه بطاعته وطاعة رسوله ولا يتكرر منكم مثل هذا الصنيع الشين .
(4/260)
________________________________________
وإلا فقد تتعرضون لعذاب عاجل غير آجل .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- وجوب صلاة الجمعة ووجبو المضى اليها عند النداء الثاني الذي يكون والامام على المنبر .
2- حرمة البيع والشراء وسائر العقود إذا شرع المؤذن يؤذن الاذان الثاني .
3- الترغيب في ذكر الله والإِكثار منه والمرء يبيع ويشترى ويعمل ويصنع ولسانه ذاكر .
4- ينبغي أن لا يقل المصلون الذين تصح صلاة الجمعة بهم عن اثنى عشر رجلاً أخذاً من حادثة انفضاض الناس عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الى القافلة لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً .
(4/261)
________________________________________
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
شرح الكلمات :
{ إذا جاءك المنافقون } : أي حضر مجلسك المنافقون كعبد الله بن أبي وأصحابه .
{ قالوا نشهد إنك لرسول الله } : أي قالوا بألسنتهم ذلك وقولهم على خلافه .
{ والله يشهد إنَّ المنافقين : أي والله يعلم أن المنافقين لكاذبون أي بما أضمروه من أنك لكاذبون } غير رسول الله .
{ اتخذوا ايمانهم جنة } : أي سترة ستروا بها أموالها وحقنوا بها دماءهم .
{ فصدوا عن سبيل الله } : أي فصدوا بها عن سبيل الله أي الجهاد فيهم .
{ إنهم ساء ما كانوا يعلمون } : أي قبح ما كانوا يعملونه من النفاق .
{ ذلك } : أي سوء عملهم .
{ بأنهم آمنوا ثم كفروا } : أي آمنوا بألسنتهم ، ثم كفروا بقلوبهم أي استمروا على ذلك .
{ فطبع على قلوبهم } : أي ختم عليها بالكفر .
{ فهم لا يفقهون } : أي الإِيمان أي لا يعرفون معناه ولا صحته .
{ تعجبك أجسامهم } : أي لجمالها إذ كان ابن أبي جسيما صحيحاً وصبيحاً ذلق اللسان .
{ وإن يقولوا تسمع لقولهم } : أي لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم .
{ كأنهم خشب مسندة } : أي كأنهم من عظم أجسامهم وترك التفهم وعدم الفهم خشب مسندة أي أشباح بلا أرواح ، وأجسام بلا أحلام .
{ يحسبون كل صيحة عليهم } : أي يظنون كل صوت عال يسمعونه كنداء في عسكر أو إنشاد ضالة عليهم وذلك لما في قلوبهم من الرعب أن ينزل فيهم ما يبيح دماءهم .
{ هم العدو فاحذرهم } : أي العدو التام العداوة فاحذرهم أن يفشوا سرك أو يريدوك بسوء .
{ قاتلهم الله أنى يؤفكون } : أي لعنهم الله كيف يصرفون عن الإِيمان وهم يشاهدون أنواره وبراهينه .
معنى الآيات :
قوله تعالى { إذا جاءك المنافقون } لنزول هذه السورة سبب هو أن زيد بن أرقم رضى الله عنه قال كنت مع عمى فسمعت عبد الله بن أبىُّ بن سلول يقول لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فذكرت ذلك لعمى فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل رسولاً إلى ابن أبي وأصحابه فحلفوا من قالوا فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبنى فأصابنى هم لم يصبنى مثله فجلست في بيتي فأنزل الله عز وجل إذا جاءك المنافقون الى قوله الأعز منها الأذل فأرسل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال إن الله قد صدقك .
قوله إذا جاءك المنافقون أي إذا حضر مجلسك المنافقون عبد الله بن أبي ورفاقه قالوا نشهد إنك لرسول الله وذلك بألسنتهم دون قلوبهم . قال تعالى : { والله يعلم إنك لرسوله } سواء شهد بذلك المنافقون أو لم يشهدوا . والله يشهد إنَّ المنافقين لكاذبون في شهادتهم لعدم مطابقة قولهم لاعتقادهم . اتخذوا أيمانهم جنة أي جعلوا من أيمانهم الكاذبة جنة كجنة المقاتل يسترون بها كما يستتر المحارب بجنته فوق رأسه ، فهم بأيمانهم الكاذبة أنهم مؤمنون وقوا بها أنفسهم وأواجهم وذرياتهم من القتل والسبي ، وبذلك صدوا عن سبيل الله أنفسهم وصدوا غيرهم ممن يقتدون بهم وصدوا المؤمنين عن جهادهم بما أظهروه من إيمان صورى كاذب .
(4/262)
________________________________________
قال تعالى : { إنهم ساء ما كانوا يعملون } يذم تعالى حالهم ويقبح سلوكهم ذلك وهو اتخاذ أيمانهم جنة وصدهم عن سبيل الله وقوله تعالى الآية رقم 3 { ذلك بأنهم أمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم } أي سوء عملهم وقبح سلوكهم ناتج عن كونهم آمنوا ثم شكوا أو ارتابوا فنافقوا وترتب على ذلك أيضاً الطبع على قلبوهم فهم لذلك لا يفقهون معنى الايمان ولا صحته من بطلانه وهذا شأن من توغل في الكفر أن يختم على قلبه فلا يجد الإِيمان طريقاً الى قلب قد أقفل عليه بطابع الكفر وخاتم النفاق والشك والشرك .
وقوله تعالى في الآية ( 4 ) { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم } أي وإذا رأيت يا رسولنا هؤلاء المنافقين ونظرت إليهم تعجبك أجسامهم لجمالها إذ كان أبن أبي جسيما صبيحاً وإن يقولوا تسمع لقولهم وذلك لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم . وقوله تعالى : { كأنهم خشب مسندة } وهو تشبيه رائع : انهم لطول أجسامهم وجمالها وعدم فهمهم وقلة الخير فيهم كأنهم خشب مسندة على جدار لا تشفع ولا تنفع كما يقال .
وقوله تعالى : { يحسبون كل صيحة عليهم } وذلك لخوفهم والرعب المتمكن من نفوسهم نتيجة ما يضمرون من كفر وعداء وبغض للإِسلام وأهله فهم إذا سمعوا صيحة في معسكر أو صوت منشد ضاله يتوقعون أنهم معنيون بذلك شأن الخائن وأكثر ما يخافون أن ينزل القرآن بفضيحتهم وهتك أستارهم . قال تعالى هم العدو فاحذرهم يا رسولنا إن قلوبهم مع أعدائك فهم يتربصون بك الدوائر .
قال تعالى : { قاتلهم الله أني يؤفكون } فسجل عليهم لعنة لا تفارقهم إلى يوم القيامة كيف يصرفون عن الحق وأنواره تغمرهم القرآن ينزل والرسول يعلم ويزكى وآثار ذلك في المؤمنين ظاهرة في آرائهم وأخلاقهم . ولم يشاهدوا شيئاً من ذلك والعياذ بالله من عمى القلوب وانطماس البصائر .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان أن الكذب ما خالف الاعتقاد وإن طابق الواقع .
2- التحذر من الاستمرار على المعصية فإنه يوجب الطبع على القلب ويُحرم صاحبه الهداية .
3- التحذير من الاغترار بالمظاهر كحسن الهندام وفصاحة اللسان .
4- الكشف عن نفسية الخائن والظالم والمجمين وهو الخوف والتخوف من كل سوت أو كلمة خشية أن يكون ذلك بيانا لحالهم وكشفاً لجرائمهم .
(4/263)
________________________________________
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
شرح الكلمات :
{ وإذا قيل لهم تعالوا } : أي معتذرين .
{ لووا رؤوسهم } : أي رفضوا الاعتذار الى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ ورأيتهم يصدون } : أي يعرضون عما دعوا إليه وهم مستكبرون .
{ سواء عليهم استغفرت لهم : أي يا رسولنا .
أم لم تستغفر لهم } { لن يغفر الله لهم } : أي أيأس من مغفرة الله لهم .
{ إن الله لا يهدى القوم الفاسقين } : أي لأن من سنة الله انه لا يهدى القوم الفاسقين المتوغلين في الفسق عن طاعة الرب تعالى وهم كذلك .
{ يقولون } : أي لأهل المدينة .
{ لا تنفقوا على من عند رسول الله } : أي من المهاجرين .
{ حتى نفضوا } : أي يتفرقوا عنه .
{ لئن رجعنا إلى المدينة } : أي من غزوة كانوا فيها هى غزوة بنى المصطلق .
{ ليخرجن الاعز منها الأذل } : يعنون بالأعز أنفسهم ، وبالأذل المؤمنين .
{ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } : أي الغلبة والعلو والظهور .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في الحديث عن المنافقين فقوله تعالى في الآية ( 5 ) { وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله } وذلك عندما قال ابن أُبى ما قال من كلمات خبثة منها قوله فى المهاجرين . سمن كلبك يأكلك . وقوله لصاحبه : لا تنفقوا على المهاجرين حتى يتفرقوا عن محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله مهدداً لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز يعنى نفسه ورفاقه المنافقين الأذل يعنى الأنصار والمهاجرين . فلما قال هذا كله وأكثره في غزوة بنى المصطلق وأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء فحلف بالله ما قال شيئاً من ذلك أبداً وذهب فنزلت هذه السورة الكريمة تكذبه .
ولما نزلت هذه السورة بفضيحته جاءه من قال له : يا أبا الحباب « كنية أبن أبي » إنه قد نزل فيك آي شِداد فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك فلوى رأسه أي عطفه إلى جهة غير جهة من يخاطبه وقال : أمرتموني أن أؤمن فآمنت وأمرتمونى أن أعطى زكاة مالى فأعطيت فما بقى إلا أن أسجد لمحمد صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآيات الثلاث وإذا قيل لهم تعالوا أي معتذرين يستغفر لكم رسول الله . لووا رؤوسهم أي رفضوا العرض ورأيتهم يصدون عنك وهم مستكبرون والمراد بهم ابن أبي عليه لعائن الله قال تعالى لرسوله : سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم فأيأس رسوله من المغفرة لهم ، وعلل تعالى ذلك بقوله : إن الله لا يهدى القوم الفاسقين وابن أبي من أكثر الفاسقين فسقاً! إذ جمع بين الكذب والحلف الكاذب والنفاق والشقاق والعداء والكبر والكفر الباطنى وذكر تعالى قولات هذا المنافق واحدة بعد واحدة فقال هم الذين يقولون : لا تنفقوا على من عند رسول الله أي قال لإِخوانه لا تنفقوا على المهاجرين حتى يتفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرعه رب العزة وأدبه ببيان فساد ذوقه ورأيه فقال تعالى : { ولله خزائن السموات والأرض } فجميع الأرزاق بيده وهو الذي يزرق من يشاء والمنافق نفسه رزقه على الله فكيف يدعى انه إذا لم ينفق على من عند رسول الله يجوعون فيتفرقون يطلبون الرزق بعيداً عن محمد صلى الله عليه وسلم .
(4/264)
________________________________________
ولكن المنافقين لعماهم وظلمة نفوسهم ومرض قلوبهم لا يفقهون هذا ولا يفهمونه ، ولذا قال رئيسهم كلمته الخبيثة . تلك كانت القولة الأولى . والثانية هي قوله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . قالها في غزوة بني المصطلق وهي غزوة سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُعلم أن بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحارث بن أبي ضرار وهو أبو جويريه زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدى أمهات المؤمنين . فلما سمع بذلك خرج إليهم حتى لقبهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل فوقع القتال فهزمالله بنى المصطلق وأمكن رسوله من أبنائهم ونسائهم وأموالهم وأفاءها على المؤمنين ، واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه جويرية بوصفها بنت سيد القوم إكراماً لها ثم عتقها وتزوجها فرأى المؤمنون أن ما بأيديهم من السبي لا ينبغي لهم وقد أصبحوا أصهار نبيهم فعتقوا كل ما بأيديهم فقالت عائشة رضى الله عنها ما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها من جويرية بنت الحارث فقد أُعتق بتزويج رسول الله لها مائة أهل بيت من بنى المصطلق .
في هذه الغزاة قال ابن أبي قولته الخبيثة وذلك أن رجلين انصارياً ومهاجراً تلاحيا على الماء فكسع المهاجر الانصارى برجله فصاح ابن أبي قائلا عليكم صاحبكم ، ثم قال : والله ما مثلنا ومحمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك ، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وغاب عن ذهن هذا المنافق أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين أي الغلبة والظهور والعلو لا للمنافقين والمشركين الكافرين ولكن المنافقين لا يعلمون ذلك ولا غيره لعمى بصائرهم ولما بلغ الغزاة المدينة وقف عبد الله بن عبد الله بن أبي في عرض الطريق واستل سيفه فلما جاء أبوه يمر قال له والله لا تمر حتى تقول : محمد الأعز وأنا الأذل ، فلم يبرح حتى قالها : وكان ولده مؤمناً صادقاً من خيرة الأنصار .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- لا ينفع الاستغفار للكافر ولا الصلاة عليه بحال .
2- ذمّ الإِعراض والاستكبار عن التوبة والاستغفار . فمن قيل له استغفر الله فليستغفر ولا يتكبر بل عليه أن يقول : استغفر الله أو اللهم اغفر لي .
3- مصادر الرزق كلها بيد الله تعالى فليطلب الرزق بطاعة الله ورسوله لا بمعصيتهما .
4- العزة الحقة لله ولرسوله وللمؤمنين ، فلذا يجب على المؤمن أن لا يذل ولا يهون لكافر .
(4/265)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
شرح الكلمات :
{ لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم } : أي لا تشغلكم .
{ عن ذكر الله } : كالصلاة والحج وقراءة القرآن وذكر الله بالقلب واللسان .
{ ومن يفعل ذلك فاولئك هم : أي ومن أَلهته أمواله وأولاده عن أداء الفرائض فترك الصلاة أو الخسرون } الحج وغيرهما من الفرائض فقد خسر ثواب الآخرة .
{ وأنفقوا مما رزقكم الله } : أي النفقة الواجبة كالزكاة وفي الجهاد والمستحبة .
{ لولا أخرتني } : أي هلا أخرتني يطلب التأخير ولا يقبل منه .
{ فأصّدق وأكن من الصالحين } : أي حتى أزكى وأحد وأكثر من النوافل والأعمال الصالحة .
معنى الآيات :
قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا } نادى تعالى المؤمنين لينصح لهم أن لا تكون حالهم كحال المنافقين الذين تقدم في السياق تأديبهم فقال لهم يا من آمنتم بالله ورسوله : لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم أي لا تشغلكم عن ذكر الله بأداء فرائضه واجتناب نواهيه والإكثار من طاعته والتقرب إليه بأنواع القرب . ثم خوفهم نصحاً لهم بقوله : { ومن يفعل ذلك } أي بأن ألهته أمواله وأولاده عن عبادة الله فأولئك البعداء هم الخاسرون يوم القيامة بحرمانهم من الجنة ونعيمها ووجودهم في دار العذاب لا أهل لهم فيها ولا ولد . وبالغ عز وجل في إرشادهم فقال : { وأنفقوا مما رزقناكم } مبادرين الأجل فإنكم لا تدرون متى تموتون . من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول متمنياً طالباً حاثاً في طلبه . ربّ أي يا رب لولا أخرتني إلى أجل قريب أي إلى قوت قريب من هذا فأصدق بمالى ، وأكن من الصالحين فأحج وأتقرب إليك يا رب بما تحب من أنواع القربات والطاعات ولكن لا ينفعه التمنى ولا الطلب والدعاء ، لأن حكم الله الأزلي أنه تعالى لن يؤخر نفساً أي نفس إذ جاء إجلها أي إذا حضر وقت وفاتها وقوله تعالى : { والله خبير بما تعملون } يحث المؤمنين على إصلاح أعمالهم والتزويد لآخرتهم بإعلامهم بأنه مطلع على أعمالهم خبير بها .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- حرمة التشاغل بالمال والولد مع تضييع بعض الفرائض والواجبات .
2- حرمة تأخير الحج مع القدرة على أدائه تسويفاً وتماطلاً مع الإِيمان بفرضيته .
3- وجوب الزكاة والترغيب في الصدقات الخاصة كصدقة الجهاد والعامة على الفقراء والمساكين .
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
(4/266)
________________________________________
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)
شرح الكلمات :
{ سبح لله } : أي ينزه الله ويقدسه عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله .
{ ما في السموات وما في الأرض : أي من سائر المخلوقات بلسان الحال والقال .
الأرض } { له الملك وله الحمد } : أي له دون غيره الملك الدائم الحق وله الحمد العام .
{ وهو على كل شيء قدير } : أي هو ذو قدرة كاملة على فعل ما أراد ويريد .
{ فمنكم كافر ومنكم مؤمن } : أي فبعضكم مؤمن موقن ببه ولقائه وبعضكم كافر جاحد دُهرى ، والواقع شاهد .
{ وصوركم فأحسن صوركم } : أي صوركم في الأرحام فأحسن صوركم .
{ وإليه المصير } : أي المرجع يوم القيامة .
{ والله عليم بذات الصدور } : أي بما في الصدور من الضمائر والسرائر .
معنى الآيات :
قوله تعالى { يسبح لله ما في السموات وما في الأرض } يخبر تعالى معلماً عباده بربوبيته الموجبة لعبادته وطاعته وطاعة رسوله بأنه يسبحه جميع خلائقه في الملكوت الأعلى والأسفل وقوله { له الملك وله الحمد } أي أنه له الملك وهو الملك الحق وأنه له الحمد وهو الثناء الجميل { وهو على كل شيء قدير } أي وأنه على فعل كل شيء قدير لا يعجزه شيء { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن } أي وأنه خالق الكل فمن عباده المؤمن به ومنهم الكافر كما هو الواقع . وأنه بما يعمل عباده من خير أو شر من حسنات أو سيئات خبير أي مطلع وسيجزى الكل بأعمالهم حسنها وسيئها ، وأنه خلق السموات والأرض بالحق لا للهو ولا اللعب ولا للعبث بل بالحق وهو ، يذكر ويشكر من عباده وأنه صور العباد في الأرجام فأحسن صورهم وجملها ، فهى أجمل المخلوقات الأرضية على الإِطلاق ، وانه إليه لا إلى غيره المرجع يوم القيامة فيحاسب ويجزى وهو الحكم العدل العزيز الحكيم . وانه تعالى يعلم ما في السموات والأرض من سائر المخلوقات والحوادث ، وانه يعلم ما يُسر عباده من أعمال وأقوال ونيات ، وما يعلنون من ذلك . وأنه عليم بذات الصدور أي ما فيها من أسرار وخواطر ونيات وارادات .
أخبر عباده بهذا ليؤمنوا به ويعبدوه دون غيره فيكملون ويسعدون بعبادته فله الحمد وله المنة وهو الرحمن الرحيم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تعليم الله تعالى عباده وتعريفهم بجلاله وكماله ليؤمنوا به ويعبدوه ليكملوا ويسعدوا في الحياتين بالإِيمان به وبطاعته وطاعة رسوله .
2- تقرير عقيدة القضاء والقدر إذ المؤمن مؤمن ، والكافر كافر مكتوب ذلك في كتاب المقادير ، ثم يظهره تعالى فى عالم الشهادة قائما على سننه في خلقه .
3- وجوب مراقبة الله تعالى والحياء منه لأنه عليم بذات الصدور .
(4/267)
________________________________________
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
شرح الكلمات :
{ ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من : أي ألم يأتكم يا كفار قريش خبر الذين كفرو من قبلكم .
قبل } { فذاقوا وبال أمرهم } : أي عقوبة كفرهم في الدنيا .
{ ولهم عذاب أليم } : أي في الآخرة .
{ ذلك } : أي العذاب في الدنيا والآخرة .
{ بأنه كانت تأتيهم رسلهم } : أي بسبب أنها كانت تأتيهم رسلهم .
{ بالبينات } : أي بالحجج القواطع الدالة على صحة رسالاتهم .
{ فقالوا : أبشر يهدوننا } : أي ردوا عليهم ساخرين مكذبين : أبشر يهدوننا؟
{ فكفروا وتولوا } : أي فكفروا برسلهم وتولوا عنهم أي أعرضوا .
{ واستغنى الله } : أي عن إيمانهم .
{ والله غني حميد } : أي غنى عن خلقه محمود بأفعاله وآلائه على خلقه .
معنى الآيتين :
بعد أن بيَّن تعالى للناس مظاهر ربوبيته المقتضية لعلمه وقدرته وحكمته وعدله ورحمته في الآيات السابقة والموجة لألوهيته قرر في هاتين الآيتين نبوة ورسالة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فقال لكفار مكة { ألم يأتكم نبأ } أي خبر { الذين كفروا من قبل } : كقوم عادٍ وثمود وأصحاب مدين ، { فذاقوا وبال أمرهم } من عقوبة كفرهم التى كانت عقوبة ثقيلة شديدة فأهلكوا فى الدنيا بعذاب إبادى استئصالى ، وفي الآخرة لهم عذاب أليم وبين لهم سبب ذلك الهلاك والعذاب فقال : { ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات } أي بالحجج والبراهين على أنهم رسل إليهم ، وأنه لا إله إلا الله فلا تصح العبادة لغير الله ، فيقابلونهم بالسخرية والإِعراض الاستنكار وهو ما أخبر تعالى به عنهم في قوله : { فقالوا أبشر يهدوننا } أي كيف يكون بشر مثلكم يهدوننا ، وبذلك كفروا وتولوا عن الإِيمان والإِسلام . واستغنى الله عن إيمانهم فأهلكهم لما كفروا به وبرسله . ولم يأسفْ أو يَأْسَ عليهم لعدم حاجته إليهم والله غنى عنهم وعن سائر خلقه حميد أي محمود بأفعاله الشاهدة . بكماله وجلاله وجماله .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين :
1- توبيخ من يستحق التوبيخ وتأنيب من يستحق التأنيب .
2- التكذيب للرسل والكفر بتوحيد الله موجب للعقوبة في الدنيا والعذاب في الآخرة .
3- تقرير نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإثباتها لأن شأنه الرسل من قبله .
(4/268)
________________________________________
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
شرح الكلمات :
{ زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا } : أي قالوا كاذبين إنهم لن يبعثوا أحياء من قبورهم .
{ قل بلى وربى لتبعثن } : قل لهم يا رسولنا بلى لتبعثن ثم تنبئون بما عملتم .
{ وذلك على الله يسير } : أي وبعثكم وحسابكم ومجازاتكم بأعمالكم شيء يسير على الله .
{ والنور الذى أنزلنا } : أي وآمنوا بالقرآن الذي أنزلناه .
{ ليوم الجمع } : أي يوم القيامة إذ هو يوم الجمع .
{ ذلك يوم التغابن } : أي يغبن المؤمنون الكافرين يأخذ منازل الكفار في الجنة واخذ الكفار منازل المؤمنين في النار .
{ ذلك الفوز العظيم . } : أي تكفيره تعالى عنهم سيئاتهم وإدخالهم جنات تجرى من تحتها الأنهار هو الفوز العظيم .
{ بئس المصير } : أي قبح المصير الذي صاروا إليه وهو كونهم أهلاً للجحيم .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في مطلب هداية قريش إنه بعد أن ذكرهم بمصير الكافرين من قبلهم وفي ذلك دعوة واضحة لهم إلى الإِيمان بتوحيد الله وتصديق رسوله . دعاهم هنا إلى الإِيمان بأعظم أصل من أصول الهداية البشرية وهو الإِيمان بالبعث والجزاء وهم ينكرون ويجاحدون ويعاندون فيه فقال في أسلوب غير المواجهة بالخطاب زعم الذين كفروا والزعم ادعاء باطل وقول إلى الكذب أقرب منه إلى الصدق . أن لن يبعثوا أي أنهم إذا ماتوا لن يبعثوا أحياء يوم القيامة .
قل لهم يا رسولنا : { بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤنًَّ بما عملتم } ولازم ذلك الجزاء العادل على كل أعمالكم وهي أعمال فسادة غير صالحة مقتضية للعذاب والخزي في جهنم { وذلك على الله يسير } أي وأعلمهم أن بعثهم وتنبئنهم بأعمالهم وإثباتهم عليها أمر سهل هين لا صعوبة فيه وبعد هذه اللفتة اللطيفة دعاهم دعوة كريمة إلى طريق سعادتهم ونجاتهم فقال عز وجل : { فآمنا بالله ورسوله } أي صدقوا بتوحيد الله وبنبوة رسوله وبالنور الذي أنزلنا وهو القرآن الكريم ، واعملوا الصالحات وتباعدوا عن السيئات { والله بما تعملون خبير } أي وسيجزيكم بأعمالكم . وذلك { يوم يجمعكم ليوم الجمع } وهو يوم القيامة ويجازيكم بأعمالكم خيرها وشرها ذلك يوم التغابن الحقيقي حيث يرث أهل الجنة منازل أهل النار في الجنة ويرث أهل النار منازل أهل الجنة في النار ، وهذا قائم على أساس أن الله تعالى أوجد لكل انسان منزلاً في الجنة وآخر في النار ، فمن آمن وعمل صالحا دخل الجنة وحاز منزله ومنزل إنسان آخر هو في النار فحصل بذلك الغبن بينه وبين من هو في النار قد ورث منزله فيها وبعد هذا الدعاء الخاص الموجه إلى كفار قريش قال ويعمل صالحاً يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم لأنه ناة من النار ودخول الجنة هذا وعده الصادق لمن آمن وعمل صالحاً ، وقال : والتكذيب مانع من العمل الصالح قطعاً إذاً { أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير } النار والخلود فيها هذا وعيده تعالى المقابل لوعده السابق اللهم اجعلنا من أهل وعدك ولا تجعلنا من أهل وعيدك يا واسع الفضل يا رحمن .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير البعث والجزاء .
2- تقرير التوحيد والنبوة .
3- بيان كون القرآن نوراً فلا هداية في هذه الحياة إلا به فمن طلبها في غيره ما اهتدى .
4- الترغيب في الإِيمان والعمل الصالح وبيان أنهما مفتاح دار السلام .
5- التحذير من الكفر والتكذيب بالقرآن وشرائعه وأحكامه فان ذلك يقود الى النار .
(4/269)
________________________________________
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
شرح الكلمات :
{ ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله } : أي ما أصابت احداً من النار مصيبةٌ الا بقضاء الله تعالى وتقديره ذلك عليه .
{ ومن يؤمن بالله يهد قلبه } : أي ومن يصدق بالله فيعلم أنه لا أحد تصيبه مصيبة الا بإذنه تعالى يهد قلبه للتسليم ولارضاء بقضائه فيسترجع ويصبر .
{ فإن توليتم } : أي عن طاعة الله ورسوله فلا ضرر ولا بأس على رسولنا في توليكم إذ عليه إبلاغكم لا هدايتكم .
معنى الآيات :
قوله تعالى { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله } في هذه الآية رد على الكافرين الذين يقولون لو كان المسلمون على حق ، وما هم عليه حقاً لصانهم الله من المصائب في الدنيا ، ولما سلط عليهم كذا وكذا . . . فأخبر تعالى أنه ما من أحد من الناس تصيبه مصيبة في نفس أو ولدٍ أو مالٍ إلا وهى بقضاء الله وتقديره ذلك عليه ، ومن يؤمن بالله ربّاً وإلهاً عليماً حكيماً وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه يهد قلبه فيصبر ويسترجع فيُؤجر وتخف عنده المصيبة بخلاف الكافر بالله وقضائه وقدره .
وقوله تعالى { والله بكل شيء عليم } فلا يخفى عليه شيء فلا يحدث حدث في الكون الا بعلمه وإذنه وهذه حال تقتضى الرضا بالقضاء والقدر والتسليم لله تعالى فيما يقضى به على عبده وفي ذلك خير كثير لا يعرفه إلا أصحاب الرضا بالقضاء والتسليم للعليم الحكيم .
وقوله تعالى { وأطيعوا الله واطعيوا الرسول } يأمر تعالى عباده عامة بطاعة الله وطاعة رسوله لأن كمال الإِنسان وسعادته مرتبطة بهذه الطاعة التى هي عبارة عن تطبيق نظام دقيق ينتج صفاء روح وزكاة نفس يتأهل بها العبد إلى النزول بالملكوت الأعلى « الجنة دار الأبرار » .
وقوله { فإن توليتم } أي أعرضتم عن هذه الدعوة فرفضتم طاعة الله ورسوله فلا ضرر على رسولنا ولا ضير إذا عليه البلاغ المبين وقد بلغ مبيناً غاية التبيين ، وأما هدايتكم فلم يكلف بها إذ لا يقدر عليها ولا يكلف الله نفساً إلا طاقتها .
وقوله تعالى : { الله لا إله إلا هو } أي أن الذي أمركم بطاعته وطاعة رسوله هو الله الذي لا إله إلا هو أي المعبود الذي لا تنبغي العبادة ولا تصلح الا له لأنه الخالق لكم الرازق المدبر لحياتكم ، { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } فإنه يكفي المؤمن الذي يتوكل عليه يكفيه كل ما يهمه من أمر دنياه وآخرته . ولا كافى إلا هو سبحانه وتعالى .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة القضاء والقدر .
2- وجوب الصبر عند نزول المصيبة والرضا والتسليم لله تعالى في قضائه وحكمه ، ومن تكن هذه حالُه يهد الله قلبه ويرزقه الصبر وعظيم الأجر ويلطف به في مصيبته وإن هو استرجع قائلاً إنا لله وإنا اليه راجعون أَخلفه الله عما فقده وآجره .
3- وجوب طاعة الله وطاعة رسوله في الأمر والنهي .
4- تقرير التوحيد .
5- وجوب التوكل على الله تعالى وهو فعل المأمور وترك المنهى وتفويض الامر لله بعد ذلك .
ولن يكون الا خيراً بإن الله تعالى .
(4/270)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
شرح الكلمات :
{ إن من أزواجكم واولادكم عدوا : أيّ من بعض أزواجكم وبعض أولادكم عدوّاً أي لكم } يشغلونكم عن طاعة الله أو ينازعونكم في أمر الدين أو الدنيا .
{ فاحذروهم } : أي أن تطيعوهم في التخلف عن فعل الخير كترك الهجرة أو الجهاد أو صلاة الجماعة أو التصدق على ذوي الحاجة .
{ وان تعفوا } : أي من ثبطكم عن الخير من زوجة وولد .
{ وتصفحوا وتغفروا } : أي وتعرضوا عنهم وتغفروا لهم ما عملوه معكم من تأخيركم عن الهجرة أو الإِنفاق في سبيل الله .
{ فان الله غفور رحيم } : أي يغفر لمن يغفر ويرحم من يرحم .
{ إنما أموالكم وأولادكم فتنة } : أي بلاء واختبار لكم فاحذروا أن يصرفوكم عن طاعة الله أو يوقعوكم في معصيته .
{ والله عنده أجر عظيم } : أي فآثروا ما عنده تعالى على ما عندكم من مال وولد .
{ فاتقوا الله ما استطعتم } : أي ومن يقه الله شح نفسه فيعافيه من البخل والحرص على المال .
{ يضاعفه لكم } : أي الدرهم بسبعمائة .
{ والله شكور حليم } : أي يُجازى على الطاعة ولا يعاجل بالعقوبة .
معنى الآيات :
هذه الآيات الكريمة { يا أيها الذين آمنوا } الى قوله { العزيز الحكيم } نزلت في أناس كان لهم أزواج وأولاد عاقوهم عن الهجرة والجهاد فترة من الوقت فلما تغلبوا عليهم وهاجروا ووجدوا الذين سبقوهم إلى الهجرة قد تعلموا وتفقهوا في الدين فتأسفوا عن تخلفهم فهموا بأزواجهم وأولادهم الذين عاقوهم عن الهجرة فترة طويلة أن يعاقبوهم بنوع من العقاب من تجويع أو ضرب أو تثريب وعاتب فأنزل الله تعالى هذه الآيات يا أيها الذين آمنوا أي يا أيها المؤمنون إن من أزواجكم وأولادكم أي من بعضهم لا كلهم إذ منهم من يساعد على طاعة الله ويكون عوناً عليها عدواً لكم يصرفكم عن طاعة الله والتزود للدار الآخرة ، وقد ينازعونكم في دينكم ودنياكم إذاً فاحذروهم أي كونوا منهم على حذر أن تُطيعوهم في التخلف عن فعل الخير من هجرة وجهاد وغيرهما وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا أي عمن شغلوكم عن طاعة الله فعاقوكم عن الهجرة والجهاد فلم تضربوهم ولم تجوعوهم ولم تثبوا عليهم ولم تعاتبوهم بل تطلبون العذر لما قاموا به نحوكم يكافئكم الله تعالى بمثله فيعفوا عنكم ويصفح ويغفر لكم كما عفوتم وصفحتم وغفرتم لأزواجكم وأولادكم الذين أخروا هجرتكم وعطلوكم عن الجهاد في سبيل الله .
وقوله تعالى { إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم } أي إنما أموالكم وأولادكم أي كل أموالكم وأولادكم فتنة واختبار من الله لكم هل تحسنون التصرف فيهم فلا تعصوا الله لأجلهم لا بترك واجب ولا بفعل ممنوع ، أو تسيئون التصرف فيحملكم حبهم على التفريط في طاعة الله أو التقصير في بعضها بترك واجب أو فعل حرام والله عنده أجر عظيم فآثروا ما عند الله على ما عندكم من مال وودل ، إن ما عند الله باق ، وما عندكم فانٍ ، فآثروا الباقى على الفانى .
(4/271)
________________________________________
وقوله تعالى { فاتقوا اله ما استطعتم } هذا من إحسان الله تعالى الى عباده المؤمنين إنه لما علمهم أن أموالهم وأولادهم فتنة وحذرهم أن يؤثروهم على طاعة الله ورسوله علم أن بعض المؤمنين سوف يزهدون فى المال والولد ، وأن بعضاً سوف يعانون أتعاباً ومشقة شديدة في التوفيق بين خدمة المصلحتين فأمرهم أن يتقوه في حدود ما يطيقون فقط وخير الأمور الوسط فلا يفرط في ولده وماله ، ولا يفرط في علة وجوده وسبب نجاته وسعادته وهي عبادة الله تعالى التي خلق لأجلها وعليها مدار نجاته من النار ودخوله الجنة .
وقوله تعالى واسمعوا ما يدعوكم الله ورسوله إليه { وأطيعوا وأنفقوا } في طاعة الله من أموالكم خيراً لأنفسكم من عدم الإِنفاق فإنه شر لكم وليس بخير .
وقوله تعالى : { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } أعلمهم أن عدم الإِنفاق ناتج عن شح النفس ، وشح النفس لا يقى منه إلا الله ، فعليكم باللجوء إلى الله تعالى ليحفظكم من شح نفوسكم فادعوه وتوسلوا إليه بالإِنفاق قليلاً قليلاً حتى يحصل الشفاء من مرض الشح الذي هو البخل مع الحرص الشديد على جمع المال والحفاظ عليه ومن شفي من مرض الشح أفلح وأصبح في عداد المفلحين الفائزين بالجنة بعد النجاة من النار . وقوله { إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم ويغفر لكم } هذا الترغيب عظيم من الله تعالى للمؤمنين في النفقة في سبيله إذ سماها قرضاً والقرض مردود وواعد بمضاعفتها وزيادة أخرى أن يغفر لهم بذلك ذنوبهم ، واشتراط الحسن للقرض اشتراط معقول وهو أن يكون المال الذي أقرض الله حلالاً لا حراماً ، وأن تكون النفس طيبة به لا كارهة له ، وهذا من باب النصح للمؤمنين ليحصلوا على الأجر مضاعفاً وقوله تعالى { والله شكور حليم } ترغيب ايضا لهم في الإِنفاق لأن لشكور معناه يُعطي القليل فيكافيء بالكثير ، والحليم الذي لا يعاجل بالعقوبة . ومثله يقرض القرض الحسن .
وقوله { عالم الغيب والشهادة } ترغيب ايضاً في الإِنفاق إذا أعلمهم أنه لا يغيب عنه من أمورهم شيء يعلم الخفي منها والعلنى ، وما غاب عنهم فلم يروه وما ظهر لهم فشهدوه فذو العلم بهذه المثابة معاملته مضمونة لا يخاف ضياعها ولا نسيانها . وقوله { العزيز الحكيم } أي العزيز الانتقام من أعدائه الحكيم في إجراء أحكامه وتدبير شؤون عباده .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان أن من بعض الزوجات والأولاد عدواً فعلى المؤمن أن يحذر ذلك ليسلم من شرهم .
2- الترغيب في العفو والصفح والمغفرة على من أساء أو ظلم .
3- التحذير من فتنة المال والولد ووجوب التيقظ حتى لا يهلك المرء بولده وماله .
4- وجوب تقوى الله بفعل الواجبات وترك المنهيات في حدود الطاقة البشرية .
5- الترغيب في الإِنفاق في سبيل الله تعالى والتحذير من الشح فإنه داء خطير .
(4/272)
________________________________________
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)
شرح الكلمات :
{ يا أيها النبي } : أراد الله بالنداء النبي صلى الله عليه وسلم وأمته بدليل ما بعده .
{ إذا طلقتم النساء } : أي إذا أردتم طلاقهن .
{ فطلقوهن لعدتهن } : أي لِقُبُلِ عدتهن أي في طهر لم يجامعها فيه .
{ وأحصوا العدة } : أي احفظوا مدتها حتى يمكنكم المراجعة فيها .
{ واتقوا ربكم } : أي أطيعوه في أمره ونهيه .
{ لا تخرجوهن من بيوتهن } : أي لا تخرجوا المطلقة من بيت زوجها الذي طلقها حتى تنقضي عدتها .
{ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } : أي إلا أن يؤذين بالبذاء في القول وسوء الخلق ، أو يرتكبن فاحشة من زناً بينة ظاهر لا شك فيها .
{ وتلك حدود الله } : أي المذكورات من الطلاق في أول الطهر وإحصاء العدة وعدم إخراج المطلقة من بيتها حتى تنقضي عدتها .
{ لا تدرى لعلّ الله يحدث بعد : أي يجعل في قلب الزوج الرغبة في مراجتها فيراجعها إذا لم ذلك امراً } تكن الثالثة من الطلقات .
معنى الآية
قوله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } يخاطب الله تبارك وتعالى رجال أمة الإِسلام في شخصية نبيها محمد صلى الله عليه وسلم فيقول : إذا طلقتم أي إذا أردتم طلاقهن لأمر اقتضى ذلك فطلقوهن لعدتهن أي لأول عدتهن وذلك في طهر لم تجامع فيه لتعدَّ ذلك الطهر أو لعدتها . وقوله تعالى : { وأحصوا العدة } أي احفظوها فاعرفوا بدايتها ونهايتها لما يترتب على ذلك من أحكام من صحة المراجعة وعدمها ، ومن النفقة ، والإِسكان وعدمهما . وقوله : { واتقوا الله ربكم } فامتثلوا أوامره وقفوا عند حدوده فلا تتعدوها ، لا تخرجوهن أي المطلقات من بيوتهن اللاتي طلقن فيهن ، ولا يخرجن من أي ويجب أن لا يخرجن من بيوتهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة كزناً ظاهرٍ أو تكون سيئة بذيئة اللسان فتؤذى أهل البيت أذىً لا يتحملونه فعندئذ يباح إخراجها .
وقوله تعالى : { وتلك حدود الله } أي المذكورات من الطلاق لأول الطهر ، وإحصاء العدة ، وعدم إخراجهن من بيوتهن ، وقوله { ومن يتعد حدود الله } فيتجاوزها ولم يقف عندها فقد ظلم نفسه وتعرض لعقوبة الله تعالى عاجلا أو آجلاً .
وقوله تعالى : { لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } أي بأن يجعل الله تعالى في قلب الرجل رغبة في مراجعة مطلقته فيراجعها ، وفي ذلك خير كثير .
هداية الآية :
من هداية الآية :
1- بيان السنة في الطلاق وهي أن يطلقها في طهرٍ لم يمسها فيه بجماع .
2- أن يكون الطلاق واحدة لا اثنتين ولا ثلاثاً .
3- وجوب إحصاء العدة ليعرف الزوج متى تنقضي عدة مطلقته لما يترتب على ذلك من أحكام الرجعة والنفقة الإِسكان .
4- حرمة إخراج المطلقة من بيتها الذي طلقت فيه إلى أن تنقضي عدتها إلاَّ أن ترتكب فاحشة ظاهرة كزناً أو بذاءة أو سوء خلق وقبيح معاملة فعندئذ يجوز إخراجها .
(4/273)
________________________________________
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
شرح الكلمات :
{ فإذا بلغن أجلهن } : أي قاربن انقضاء عدتهن .
{ فأمسكوهن بمعروف } : أي بأن تراجعوهن بمعروف من غير ضرر .
{ أو فارقوهن بمعروف } : أي أتركوهن حتى تنقضى عدتهن ولا تضاروهن بالمرجعة .
{ وأشهدوا ذوى عدل منكم } : أي اشهدوا على الطلاق وعلى الرجعة رجلين عدلين منكم أي من المسلمين فلا يشهد كافر .
{ وأقيموا الشهادة لله } : أي لا للمشهود عليه أوله بل لله تعالى وجده .
{ ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله : أي ذلكم المذكور من أول السورة من أحكام يؤمر به واليوم الأخر } وينفذه من كان يؤمن بالله واليوم الآخر .
{ ومن يتق الله } : أي في أمره ونهيه فلا يعصه فيهما .
{ يجعل له مخرجاً } : أي من كرب الدنيا والآخرة .
{ ويرزقه من حيث لا يحتسب } : أي من حيث لا يرجو ولا يؤمل .
{ فهو حسبه } : أي كافيه ما يهمه من أمر دينه ودنياه .
{ قد جعل الله لكل شيء قدراً } : أي من الطلاق والعدة وغير ذلك حداً وأجلاً وقدراً ينتهى إليه .
معنى الآيتين :
ما زال السياق الكريم في بيان العِدَدِ وأحكام الطلاق والرجعة . قال تعالى : { فإذا بلغن } أي المطلقات أجلهن أي قاربن انقضاء العدة فأمسكوهن بمعروف أي راجعوهن على أساس حسن العشرة والمصاحبة الكريمة لا للإِضرار بهن كأن يراجعها ثم يطلقها يطول عليها العدة فهذا لا يجوز لحرمة الإِضرار بالناس وفي الحديث : « ا ضرر ولا ضرار » . وقوله { أو فارقوهن بمعروف } وذلك بأن يعطيها ما بقى لها من مهرها ويُمتّعها بحسب حاله غنىّ وفقراً . وقوله تعالى { وأشهدوا ذوي عدل منكم } أي أشهدوا على النكاح والطلاق والرجعة أما الإِشهاد على النكاح فركن ولا يصح النكاح بدونه ، وأما في الطلاق والرجعة فهو مندوب ، وقد يضح الطلاق والرجعة بدونه ، ويشترط في الشهود أن يكونوا عدولاً ، وأن يكونوا مسلمين لا كافرين . وقوله : { وأقيموا الشهادة لله } أي أدوها على وجهها ولا تراعوا فيها الا وجه الله عز وجل ، وقوله : { ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر } أي ذلكم المأمور به من أول السورة كالطلاق في طهر لم يجامعها فيه وكإحصاء العدة وعدم إخراج المطلقة من بيتها والإِمساك بالمعروف والفراق بالمعروف والإِشهاد في النكاح والطلاق والرجعة الإِقساط في الشهادة كل ذلك يوعظ به أي يؤمر به وينفذه المؤمن بالله واليوم الآخر إذ هو الذي يخاف عقوبة الله وعذابه فلا يقدم علي معصيته .
وقوله تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب } هذه الآية نزلت في عوف بن مالك الأشجعي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله إن ابني أسره العدو وجزعت أمُّهُ فبم تأمرني؟ قال « آمرك وإياها أن تكثروا من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله » .
(4/274)
________________________________________
فقالت المرأة نعم ما أمرك به فجعلا يكثران منها فغفل العدو عن ابنهما فاستقا غنمهم وجاء بها الى أبويه فنزلت هذه الآية ، وهي عامة في كل من يتق الله تعالى فإنه يجعل له من كل ضيق مخرجاً ومن كل كرب فرجا ، ويرزقه من حيث لا يرجو ولا يؤمل ، ولا يخطر له على بال ، ومن يتوكل على الله تعالى في أمره فلا يفرط في أمر الله ، ولا يضيع حقوقه فإن الله تعالى يكفيه ما يهمه من أمر دينه ودنياه ، وقوله تعالى { إن الله بالغ أمره } أي منفذ أمره في عباده لا يعجزونه أبداً ، وقد جعل لكل شيء قدراً أي مقداراً وزماناً ومكاناً فلا يتقدم ولا يتأخر ، ولا يزيد ولا ينقص فمن رضى فله الرضا ، ومن سخط فله السخط ، ولا يقع في ملك الله الا ما يريد الله .
هداية الآيتين :
من هداية الآياتين :
1- لا تصح الرجعة إلا في العدة فإن انقضت العدة فلا رجعة للمطلقة ان تتزوج من شاءت هو أو غيره من ساعة انقضاء عدتها .
2- لا تحل المراجعة للإِضرار ، ولكن للفضل والإِحسان وطيب العشرة .
3- مشروعية الإِشهاد على الطلاق والرجعة معاً .
4- يشترط في الشهود العدالة ، فإذا خفت العدالة في الناس استُكْثِرَ من الشهود .
5- وعد الله الصادق بالفرج القريب لكل من يتقه سبحانه وتعالى ، والرزق من حيث لا يرجو .
6- تقرير عقيدة القضاء والقدر .
7- كفاية الله لمن توكل عليه .
(4/275)
________________________________________
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
شرح الكلمات :
{ واللائي يئسن من المحيض } : والنسوة اللائي يئسن من الحيض .
{ إن ارتبتم } : أي شككتم في عدتهن .
{ واللائي لم يحضن } : أي لكبر سن أو صغر سن .
{ وأولات الأحمال } : أي ذوات الأحمال : النساء الحوامل .
{ أجلهن } : أي في انقضاء عدتهن أن يضعن حملهن .
{ ذلك أمر الله } : أي ذلك المذكور في العدة وتفاصيلها .
{ أنزله إليكم } : أي لتأتمروا به وتعملوا بمقتضاه .
معنى الآيتين :
ما زال السياق الكريم في بيان أحكام الطلاق والرجعة والعدة فقال تعالى : { واللائي يئسن من المحيض } أي لكبر سنهن كمن تجاوزت الخمسين من عمرها إذا طلقت بعد الدخول بها . أن ارتبتم أيها المؤمنون في مدة عدتهن ، فعدتهن ثلاثة أشهر . واللائي لم يحضن أي لصغرهن كذلك ، عدتهن ثلاثة أشهر وقوله { وأولات الأحمال } أي الحوامل إن طلقن أو مات عنهن أزواجهن أجلهن في انقضاء عدتهن أن يضعن حملهن أي وضع حملهن فمتى ولدت ما في بطنها من جنين فقد انقضت عدتها ولو وضعته قبل استكمال التسعة أشهر ، إن لم تتعمد إسقاطه بالإجهاض المعروف اليوم عند الكوافر والكافرين .
وقوله تعالى : { ومن يتق الله } أي منكم أيها المؤمنون في هذه الأحكام المتعلقة بالطلاق والرجعة والعدة فلا يخالف أمره في ذلك يكافئه الله تعالى من فضله فيجعل له من أمره يُسرا فيسهل عليه أمره ويرزقه ما تقر به عينه ويصلح به شأنه .
وقوله تعالى : { ذلك أمر الله أنزله إليكم } أي ذلك المذكور من الأحكام في هذه السورة من الطلاق والرجعة والعدة وتفاصيلها حكم الله أنزله إليكم لتأمروا وتعلموا بع فاعملوا به ولا تهملوه طاعة لله وخوفاً من عذابه ومن يتق الله في أوامره ونواهيه فيؤدى الواجبات ويتجنب المحرمات يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً أي يغفر له ذنوبه ويدخله الجنة .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
بيان العدة وهي كالتالي :
1- متوفى عنها زوجها وهي غير حامل عدتها : أربعة أشهر وعشر ليال .
2- متوفى عنها زوجها وهى حامل : عدتها وضع حملها .
3- مطلقة لا تحيض لكبر سنها أو لصغر سنها وقد دخل بها : عدتها ثلاثة أشهر .
4- مطلقة تحيض عدتها ثلاثة قروء أي تحيض تبتدئ بالحيضة التي بعد الطهر الذي طلقت فيه . أو ثلاثة أطهار كذلك الكل واسع ولفظ القرء مشترك دال على الحيض وعلى الطهر .
5- بين أن أحكام الطلاق والرجعة والعدد مما أوحى الله به وأنزله في كتابه فوجب العمل به ولا يحل تبديله أو تغييره باجتهاد ابداً .
6- فضل التقوى وأنها باب كل يسر وخير في الحياة الدنيا والآخرة .
(4/276)
________________________________________
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
شرح الكلمات :
{ من وجدكم } : أي من وسعكم بحيث يسكن الرجل مطلقته في بعض سكنه .
{ ولا تضاروهن } : أي لا تطلبوا ضررهن بأي حال من الأحوال سواء في السكن أو النفقة .
{ لتضيقوا عليهن } : أي لأجل أن تضيقوا عليهن السكن فيتركنه لكم ويخرجن منه .
{ وإن كنّ أولات حمل } : أي حوامل يحملن الأجنة في بطونهن .
{ فان ارضعن لكم } : أية أولادكم .
{ فآتوهن أجورهن } : فاعطوهن أجورهن على الإرضاع هذا في المطلقات .
{ وأتمروا بينكم بمعروف } : أي وتشاورا أو ليأمر كل منكم صاحبه بأمر ينتهى باتفاق على أجرة معقولة لا إفراط فيها ولا تفريط .
{ وان تعاسرتم } : فإن امتنعت الأم من الإرضاع أو امتنع الأب من الأجرة .
{ لينفق ذو سعة } : أي لينفق على المطلقات المرضعات ذو الغنى من غناه .
{ ومن قدر عليه رزقه } : ومن ضيق عليه عيشه فلينفق بحسب حاله .
معنى الآيتين :
بعد بيان الطلاق بقسميه الرجعى والبائن وبيان العدد على اختلافها بين تعالى في هاتين الآيتين أحكام النفقات والأرضاع فقال تعالى : { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } أي من وسعكم ولا تضاروهن بأي مضارة لا في السكن ولا في الإنفاق في غيره من أجل أن تضيقوا عليهن فيتركن لكم السكن ويخرجن . وهؤلاء المطلقات طلاقاً رجعياً وهن حوامل أو غير حوامل . وقوله تعالى { وان كان أولات حمل فانفقوا حتى يضعن حملهن } أي وان كانت المطلقة طلاق البتة أي طلقها ثلاث مرات فانفقوا عليهن حتى يضعن حملهن أي أسكنوهن وأنفقوا عليهن وان شاء هو أرضع ولده مرضعاً غير أمه وهو معنى قوله تعالى فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وائتمروا بينكم بمعروف وذلك يتم بتبادل الرأي الى الاتفاق على أجرة معينة ، وان تعاسرا بأن طلب كل واحد عسر الثاني أي تشاحا في الأجرة فلم يتفقا فلترضع له أي للزوج امرأة أخرى من نساء القرية .
وقوله تعالى : { لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله } أمر تعالى المؤمن إذا طلق أن ينفق على مطلقته التي ترضع له ولده أو التي في عدتها في بيته بحسب يساره وإعساره أو غناه وافتقاره ، إذ لا يكلف الله نفساً إلا ما أعطاها من قدرة أو غنى وطول والقاضى هو الذي يقدر النفقة عند المشاحة وتكون بحسب دخل الرجل وما يملك من مال .
وقوله تعالى : { سيجعل الله بعد عسر يسراً } هذا وعد صدق أتمه لأصحاب رسوله حيث كانوا في عسر ففتح عليهم ملك كسرى والروم فأبدل عسرهم يسراً . وأما غيرهم فمشروط بالتقوى كما تقدم ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً .
هداية الآيات :
من هداية الآيتين :
1- وجوب السكن والنفقة للمطلقة طلاقاً رجعياً .
2- وجوب السكنى والنفقة للمطلقة الحامل حتى تضع حملها .
(4/277)
________________________________________
3- وجوب السكنى والنفقة للمتوفى عنها زوجها وهى حامل .
4- المطلقة البائن والمبتوتة لم يقض لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سكنى لحديث فاطمة بنت قيس أخت الضحاك ، ومن الفضل الذي ينبغي أن لا ينسى ان كانت محتاجة الى سكن أو نفقة ان يسكنها مطلقها وينفق عليها مدة عدتها . وأجره عظيم لأنه أحسن والله يحب المحسنين .
5- النفقة الواجبة تكون بحسب حال المطلق غنىً وفقراً والقاضى يقدرها ان تشاحا .
6- المطلقة طلاقاً بائناً أن أرضعت ولدها لها أجرة إرضاعها حسب إتفاق الطرفين الأم والأب .
7- بيان القاعدة العامة وهى أن لا تكلف نفس إلا وسعها .
(4/278)
________________________________________
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
شرح الكلمات :
{ وكأين من قرية } : أي وكثير من قرية أي مدينة .
{ عنت عن أمر ربها } : أي عصت يعنى أهلها عصوا ربهم ورسله .
{ عذاباً نكراً } : أي فظيعاً .
{ ذكراً رسولاً } : أي القرآن وأرسل إليكم رسولاً هو محمد صلى الله عليه وسلم .
{ من الظلمات إلى النور } : أي من ظلمات الكفر والشرك إلى نور الإيمان والتوحيد .
{ قد أحسن الله له رزقاً } : اي رزق الجنة التي لا ينقطع نعيمها ابداً .
{ ومن الأرض مثلهن } : أي سبع أرضين فوق أرضاً كالسموات سماء فوق سماء .
{ يتنزل الأمر بينهن } : أي الوحي بين السموات والأرض .
{ لتعلموا أن الله على كل شيء قدير } : أي أعلمكم بذلك الخلق العظيم والتنزيل العجيب لتعلموا . .
معنى الآيات :
لما قرر تعالى أحكام الطلاق والرجعة والعدة والنفاقات وقال ذلك أمر الله أنزله إليكم ، وأوجب العمل به حذر في هذه الآية من إهمال تلك الأحكام وتجاهلها وعدم القيام بها فقال : { وكأين من قرية } أي كثير من المدن عتا أهلها أي ترفعوا متكبرين عن أوامر الله ورسله فلم يمتثلوها وعن الحقوق فلم يؤدوها حاسبها الله تعالى في الدنيا حساباً شديداً وعذبها عذاباً نكراً أي فظيعاً .
فذاقت بذلك وبال أمرها أي عقوبته وكان عاقبة أمرها خسراً أي خساراً وهلاكاً وأعد الله لهم عذاباً شديداً هو عذاب يوم القيامة وفي تكرار الوعيد تحذير من الوقوع فيه بالشرك والظلم .
وقوله تعالى { فاتقوا الله } أي خافوا عقابه فلا تهملوا أحكامه ولا تعطلوها فيحل بكم ما حل بغيركم ممن عتوا عن أمر ربهم ورسله يا أولى الألباب أي العقول الذين آمنوا قد أنزل إليكم ذكراً هو القرآن { رسولاً } هو محمد صلى الله عليه وسلم { يتلو عليكم آيات الله مبينات } واضحات في نفسها الا خفاء فيها ولا غموض ، ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات أي ظلمات الكفر والشرك الى النور نور الإيمان والتوحيد والعمل الصالح .
وقوله تعالى { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً ندخله جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً قد أحسن الله له رزقاً } هذا وعد كريم من رب رحيم يعد كل من آمن به وعمل صالحاً أن يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً قد أحسن له فيها رزقاً وهو نعيم الجنة الذى لا ينفد ولا ينقطع ابداً .
وقوله { الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن } أي سبع أرضين واحدة فوق الأخرى كالسموات سماء فوق سماء هذا هو الله المعبود بحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه .
وقوله تعالى : { لتعلموا أن الله على كل شيء قدير ، وأن الله قد احاط بكل شئ علما } أي أعلمكم بخلقه العظيم من السموات والأرضين وبتنزل الأمر بينهن في كل وقت وحين لتعلموا أنه تعالى على كل شيء قدير لترغبوا فيما عنده وأنه أحاط بكل علما لترهبوه وتراقبوه ، وبذلك تتهيؤن لإنعامه ورضاه .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- التحذير من ترك الأحكام الشرعية وإهمالها والعبث بها .
2- بيان منة الله على هذه الأمة بإنزال القرآن عليها وإرسال الرسول إليها .
3- بيان أن الكفر ظلمة وان الإيمان نور .
4- بيان عظمة الله تعالى وسعة علمه .
(4/279)
________________________________________
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
شرح الكلمات :
{ لم تحرم ما أحل الله لك } : أي لم تحرم جاريتك مارية التي أحلها الله لك .
{ تبتغي مرضات أزواجك } : أي بتحريمها .
{ قد فرض لكم تحلة أيمانكم } : أي شرع لكم تحليلها بالكفارة المذكورة في سورة المائدة .
{ وإذ أسر النبي الى بعض أزواجه } : هي حفصة بنت عمر رضي الله عنهما .
{ حديثا } : هو تحريم مارية وقوله لها لا تفشيه .
{ فلما نبأت به } : أي نبأت حفصة عائشة اي أختبرها به ظناً منها أنه لا حرج في ذلك باجتهادٍ .
{ وأظهره الله عليه } : أي اطلعه عليه على المنبأ به .
{ عرف بعضه } : أي لحفصة .
{ وأعرض عن بعض } : أي تكرما منه صلى الله عليه وسلم .
{ إن تتوبا الى الله } : اي حفصة وعائشة رضي الله عنهما تقبل توبتكما .
{ فقد صغت قلوبكما } : أي مالت الى تحريم مارية أي سركما ذلك .
{ وإن تظاهرا عليه } : أي تتعاونا أي على النبي صلى الله عليه وسلم فيما يكرهه .
{ فإن الله هو ملاه } : أي ناصره .
{ وصالح المؤمنين } : أي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما .
{ والملائكة بعد ذلك ظهير } : أي ظهراء وأعوان له .
{ قانتات } : أي عابدات .
{ سائحات } : أي صائمات أو مهاجرات .
معنى الآيات :
قوله تعالى : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضات أزواجك والله غفور رحيم } في هذا عتاب الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إذ حرم جاريته مارية ترضية وذلك أنه صلى الله عليه وسلم خلا بها في بيت إحدى نسائه فاطلعت عليه فقالت يا رسول الله في بيتي وعلى فراشي فجعلها أي مارية عليه حراماً ترضية لصاحبة الحجرة والفراش . فأنزل الله تعالى هذه الآيات مشتملة على هذه القصة فقال تعالى : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } يعني جاريته مارية القبطية أم إبراهيم . { تبتغي مرضات ازواجك } أي تطلب رضاهن { والله غفور رحيم } بك فلا لوم عليك بعد هذا ولا عتاب فجاريتك لا تحرم عليك وكفر عن يمينك . إذ قال لها هى على حرام ووالله لا أطؤها .
وقوله تعالى { قد فرض لكم تحلة أيمانكم } أي ما تتحللون به من أيمانكم إذا حلفتم وهي ما جاء في سورة المائدة من قوله تعالى { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ، ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } وقوله تعالى والله مولاكم أي متولى وناصركم . وهو العليم بأحوال عباده الحكيم في قضائه وتدبيره لخلقه .
وقوله تعالى { وإذا أسر النبي } أي أذكر إذ أسر النبي لبعض أزواجه حديثاً وهي حفصة بنت عمر رضي الله عنهما إذ قال لها لقد حرمت فلانة ووالله لا أطاها وطلب منها أن لا تفشى هذا السر . فحدثت به عائشة وكانت متصافية معها توادها .
فأطلع الله تعالى رسوله على ذلك .
(4/280)
________________________________________
فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه لحفصة وأعرض عن بعض تكرماً منه صلى الله عليه وسلم . قالت أي حفصة من أنبأك هذا؟ قال نبأني العليم الخبير . وقوله : إن تتوبا الى الله أي حفصة وعائشة فقد صغت قلوبكما أي مالت إلى التحريم مارية أي سركما ذلك .
وجواب الشرط تقديره تقبل توبتكما . وقوله تعالى : { وان تظاهرا عليه } أي تتعاونا عليه صلى الله عليه وسلم فيما يكرهه ، فإن تعاونكما يا حفصة وعائشة رضي الله عنكما لن يضره شيئاً فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين أبوبكر وعمر ، والملائكة بعد ذلك ظهير له أي ظهراء وأعوان له عن كل يؤذيه أو يريده بسوء .
وقوله تعالى { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن } ، وفي هذا تخويف شديد لأمهات المؤمنين وتأديب رباني كبير لهن إذ وعد رسوله أنه لو طلقهن لأبدله خيراً منهن { مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات } أي صائمات أو مهاجرات ، { ثيبات وأبكاراً } أي بعضهن ثيبات وبعضهن أبكاراً إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلقهن والله تعالى لم يبدله فهن زوجاته في الدنيا زوجاته في الآخرة هذا وأنبه الى أن خلافاً كبيراً بين أهل التفسير في الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه وعاتبه ربه عليه . وأحله الله هل هو شراب كان يحبه ، أو هو جاريته مارية ومن الجائز أن يكون غير ما ذكر؛ لأن الله تعالى لم يذكر نوع ما حرم رسوله على نفسه ، وإنما قال لم تحرم ما أحل الله لك . والجمهور على أن المحرم مارية ، وفي البخاري أنه العسل والله أعلم فلذا أستغفر الله تعالى أن أكون قد قلت عليه أو على رسوله مالا يرضيهما أستغفر الله ، أستغفر الله ، أستغفر الله إن ربي غفور رحيم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير نبوته صلى الله عليه وسلم وبشريته الكاملة .
2- أخذ الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى من هذه الآية أن من قال لزوجته أنت حرام أو حرمتك وهو لم ينو طلاقها أن عليه كفارة يمين لا غير ، وذكر القرطبي في هذه المسألة ثمانية عشر قولاً للفقهاء أشدها البتة وأرفقها أن فيها كفارة يمين كما هو مذهب الإمامين الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى .
3- كرامة الرسول صلى الله عليه وسلم على ربه .
4- فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما .
(4/281)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
شرح الكلمات :
{ قوا أنفسكم وأهليكم } : أي اجعلوا لها وقاية بطاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم .
{ ناراً وقودها الناس والحجارة } : أي توقد بالكفار والأصنام التي تعبد من دون الله ، لا بالحطب ونحوه .
{ لا تعتذروا اليوم } : أي لأنه لا ينفعكم اعتذار ، يقال لهم هذا عند دخولهم النار .
{ توبة نصوحا } : أي توبة صادقة بأن لا يعاد الى الذنب ولا يراد العود إليه .
{ يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا } : أي بإدخالهم النار .
{ يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } : أي أمامهم ومن كل جهاتهم على قدر أعمالهم .
{ ربنا أتمم لنا نورنا } : أي إلى الجنة ، لأن المنافقين ينطفيء نورهم .
معنى الآيات :
قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة } هذا نداء الله الى عباده المؤمنين يعظهم وينصح لهم فيه أن يقوا أنفسهم وأهليهم من زوجة وولد ، ناراً عظيمة ، وقودها أي ما توقد به الناس من المشركين والحجارة التي هي أصنامهم التي كانوا يعبدونها يقون أنفسهم بطاعة الله ورسوله تلك الطاعة التي تزكي أنفسهم وتؤهلهم لدخول الجنة بعد النجاة من النار .
وقوله تعالى { عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } أي على النار قائمون عليها وهم الخزنة التسعة عشرة غلاظ القلوب والطباع شداد البطش إذا بطشوا ولا يعصون الله لا يخالفون أمره ، وينتهون الى ما يأمرهم به وهو معنى ويفعلون ما يؤمرون .
وقوله تعالى { يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم } هذا يقال لأهل النار ينادون ليقال لهم : لا تعتذروا اليوم حيث لا ينفع الإعتذار . وإنما تجزون ما كنتم تعملون الحسنة بالحسنة والسيئة بالسيئة .
وقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا توبوا الى الله توبة نصوحاً } هذا هو النداء الثاني الذي ينادي فيه الله تعالى عباده المؤمنين يأمرهم فيه بالتوبة العاجلة النصوح التي لا يعود صاحبها الى الذنب كما لا يعود اللبن الى الضرع ، ويعدهم ويبشرهم يعدهم بتكفير سيئاتهم ، يبشرهم بالجنة دار النعيم المقيم فيقول { عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم } أي بعد ذلك { جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه أي بإدخالهم الجنة . وقوله تعالى { نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم } أي وهم مجتازون الصراط يسألون ربهم أن يبقي لهم نورهم لا يقطعه عنهم حتى يجتازوا الصراط وينجوا من السقوط في جهنم كما يسألونه أن يغفر لهم ذنوبهم التى قد يردون بها الى النار بعد اجتياز الصراط .
وقولهم : إنك على كل شيء قدير هذا توسل منهم لقبول دعائهم حيث توسلوا بصفة القوة والقدرة لله تعالى فقالوا إنك على كل شيء قدير فأتمم لنا نورنا واغفر لنا .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وجوب العناية بالزوجة والأولاد وتربيتهم وأمرهم بطتعة الله ورسوله ونهيهم عن ترك ذلك .
2- وجوب التوبة الفورية على كل من أذنب من المؤمنين والمؤمنات وهى الإقلاع من الذنب فوراً أي تركه والتخلى عنه ، ثم العزم على أن لا يعود إليه في صدق ، ثم ملازمة الندم والاستغفار كلما ذكر ذنبه استغفر ربه وندم على فعله وان كان الذنب متعلقاً بحق آدمي كأخذ ماله أو ضرب جسمه أو انتهاك عرضه وجب التحلل منه حتى يعفو ويسامح .
(4/282)
________________________________________
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
شرح الكلمات :
{ جاهد الكفار } : أي بالسيف .
{ والمنافقين } : أي باللسان .
{ واغلظ عليهم } : أي أشدد عليهم في الخطاب ولا تعاملهم باللين .
{ فخانتاهما } : أي في الدين إذ كانتا كافرتين .
{ فلم يغنيا عنهما } : أي نوح ولوط عن امرأتيهما .
{ من الله شيئاً } : أي من عذاب الله شيئاً وإن قل .
{ امرأة فرعون } : أي آسيا بنت مزاحم آمنت بموسى .
{ أحصنت فرجها } : أي حفظته فلم يصل اليه الرجال لا بنكاح ولا بزنا .
{ فنفخنا فيه من روحنا } : أي نفخنا في كم درعها بواسطة جبريل الملقب بروح القدس .
{ وصدقت بكلمات ربها } : أي بولدها عيسى أنه كلمة الله وعبده ورسوله .
معنى الآيات :
في الآية الأولى ( 9 ) يأمر تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بعدما ناداه النبوة تشريفاً وتكريماً يأمره بجهاد الكفار والمنافقين فالكفار بالسيف ، وشن الغارات عليهم حتى يسلموا ، والمنافقين بالقول الغليظ والعبارة البليغة المخيفة الحاملة للوعيد والتهديد . وقوله تعالى : { واغلظ عليهم } أي أشدد وطأتك على الفريقين باللسان ، وعلى الكافرين بالسنان . ومأواهم جهنم وبئس المصير إذا ماتوا على نفاقهم وكفرهم ، أو من علم الله موتهم على ذلك . وقوله تعالى في الآية الثانية ( 10 ) ضرب الله مثلاً في عدم انتفاع الكافر بقرابة المؤمن مهما كانت درجة القرابة عنده . وهو امرأة لوط إذ كانت كل واحدة منها تحت نبي رسول فخانتاهما في دينهما فكانتا كافرتين فامرأة نوح تفشى سر من يؤمن بزوجها وتُخبر به الجبابرة من قوم نوح حتى يبطشوا به وكانت تقول لهم إن زوجها مجنون ، وامرأة لوط كانت كافرة وتدل المجرمين على ضيوف لوط إذا نزلوا عليه في بيته وذلك في الليل بواسطة النار ، وفي النهار بواسطة الدخان . فلما كانتا كافرتين لم تُغن عنهما قرابتهما بالزوجة شيئاً . ويوم القيامة يقال لهما : ادخلا النار مع الداخلين من قوم نوح وقوم لوط . هذا مثل وآخر في عدم تضرر المؤمن بقرابة الكافر ولو كانت القرابة الزوجية وما أقواها ، وهو - المثل - إمرأة فرعون الكافر الظالم آسيا بنت مزاحم كانت قد آمنت بموسى مع من آمن فلما عرف فرعون إيمانها أمر بقتلها فلما علمت بعزم الطاغية على قتلها قالت في مناجاتها لربها : رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله الذي هو الكفر والظلم حتى لا أكون كافرة بك ولا ظالمة لأحد من خلقك ، ونجني من القوم الظالمين أي من عذابهم فُشدت أيديها وأرجلها لتلقى عليها صخرة عظيمة إن هى أصرت على الإيمان فرفعت بصرها الى السماء فرأت بيتها في الجنة ففاضت روحها شوقاً الى الله والى بيتها في الجنة وقد رأته فوصلت الصخرة اليها بعد ان فاضت روحها فنجاها الله من عذاب القتل الذي أراده لها فرعون وعصابته الظلمة الكافرون .
وقوله تعالى ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها .
(4/283)
________________________________________
عطف تعالى مريم على آسيا ليكون المثل مكوناً من امرأتين مؤمنتين ، كالمثل الأول كان مكوناً من امرأتين كافرتين فقال عز وجل ومريم بنت عمران التي أحصنت فرجها عن الرجال في الوقت الذي عم البغاء والزنا ديار بني اسرائيل كما هي الحال اليوم في ديار اليهود وأمثالهم قد لا تسلم امرأة من الزنا بها فلم يضر ذلك مريم لما كانت عفيفة طاهرة بل أكرمها الله لما أحصنت فرجها بأن أرسل إليها روحه جبريل عليه السلام وأمره أن ينفخ في كم درعها فسرت النفخة بقدرة الله تعالى في جسمها فحملت بعيسى الذي كان بكلمة الله كن فيكون في ساعة وصول أهواء النفخة وولدته للفور كرامة الله للتى أحصنت فرجها خوفاً من الله وتقربا إليه ، وما ضرها أن العهر والزنا قد انتشر حولها ما دامت هى طاهرة كما لم يضر كفر فرعون آسيا الطاهرة . وكما لم ينفع إيمان وصلاح نوح ولوط امرأتيهما الكافرتين الخائنتين .
قال ابن عباس رضي الله عنهما ما بغت امرأة نبي قط ، وهو كما قال فوالله ما زنت امرأة نبي قط لولاية الله تعالى لأنبيائه فكيف يخزيهم ويذلهم حاشاه تعالى أن يخزي أولياء أو يذلهم فالمراد من الخيانة المذكورة في قوله تعالى فخانتاهما الخيانة في الدين وإفشاء الأسرار .
وقوله تعالى : وصدقت بكلمات ربها أي بشرائعه وبكتبه التي أنزلها على رسله ، وكانت من القانتين أي المطعين لله تعالى الضارعين له المخبتين .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وجوب الجهاد في الكفار بالسيف وفي المنافقين باللسان ، وعلى حكام المسلمين القيام بذلك لأنهم خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم في أمته .
2- تقرير مبدأ : لا تزر وازرة وزر أخرى . فالكافر لا ينتفع بالمؤمن يوم القيامة .
3- والمؤمن لا يتضرر بالكافر ولو كانت القرابة روحية نبوة أو انسانية أو أبوة أو بنوة فإبراهيم لم يضره كفر آزر ، ونوح لم يضره كفر كنعان ابنه ، كما أن آزر وكنعان لم ينفعهما إيمان وصلاح الأب والإبن .
هذا وقرابة المؤمن الصالح تنفع المؤمن دون الصالح لقوله تعالى والذين آمنوا واتبعهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم .
(4/284)
________________________________________
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)
شرح الكلمات :
{ تبارك الذي بيده الملك } : أي تعاظم وكُثر خير الذي بيده الملك أجمع ملكاً وتصرفاً وتدبيراً .
{ وهو على كل شيء قدير } : أي وهو على إيجاد كل ممكن وإعدامه قدير .
{ الذي خلق الموت والحياة } : أي أوجد الموت والحياة فكل حيّ هو بالحياة التي خلق الله وكل ميت هو بالموت الذي خلق الله .
{ ليبلوكم أيكم أحسن عملا } : أي أحياكم ايختبركم أيكم يكون أحسن عملاً ثم يميتكم ويحييكم ليجزيكم .
{ وهو العزيز الغفور } : أي وهو العزيز الغالب على ما يريده الغفور العظيم المغفرة للتائبين .
{ طباقا } : أي طبقة فوق طبقة وهي السبع الطباق ولا تماس بينها .
{ ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } : أي من تباين وعدم تناسب .
{ هل ترى من فطور } : أي مرتين مرة بعد مرة .
{ خاسئا وهو حسير } : أي ذليلاً مبعداً كالاً تعباً منقطعاً عن الرؤية إذ لا يرى خللا .
{ بمصابيح } : أي بنجوم مضيئة كالمصابيح .
{ رجوماً للشياطين } : أي مراجم جمع مرجم وهو ما يرجم به أي يرمى .
{ وأعتدنا لهم عذاب السعير } : أي وهيأنا لهم عذاب النار المسعرة الشديدة الاتقاد .
معنى الآيات :
قوله { تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير } مجد الرب تعالى نفسه وعظمها وأثنى عليها بما هو أهله من الملك والسلطان والقدرة والعلم والحكمة فقال عز وجل تبارك أي تعاظم وكثر خير الذي بيده الملك الحقيقي يحكم ويتصرف ويدير بعلمه وحكمته لا شريك له في هذا الملك والتدبير والسلطان . { وهو على كل شيء قدير } فما أراد ممكنا إلا كان ، ولا أراد انعدام ممكن إلا انعدم . الذي خلق الموت والحياة لحكمة عالية لا باطلا ولا عبثاً كما يتصور الكافرون والملاحدة الدهريون بل { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } أي خلق الحياة بكل ما فيها ، ليذكر ويشكر من عباده فمن ذكر وشكر وأحسن ذلك ، أعد له جنات ينقله إليها بعد نهاية والعمل فيها ، ومن لم يذكر ولم يشكر من عباده فمن وشكر ولم يحسن ذلك بأن لم يخلص فيه لله ، ولم يؤده كما شرع الله أعد له ناراً ينقله إليها بعد نهاية الحياة الدنيا حياة العمل ، إذ هذه الحياة للعمل ، وحياة الآخرة للجزاء على العمل .
وقوله تعالى { وهو العزيز الغفور } ثناء آخر أثنى به تعالى على نفسه فأعلم أنه العزيز الغالب الذي لا يُحال بينه وبين ما يريد الغفور العظيم المغفرة إذ يغفر الذنوب للتائب ولو كانت مثل الجبال وزبد البحر . وقوله { الذي خلق سبع سموات طباقاً } هذا ثناء بعظيم القدرة وسعة العلم والحكمة خلق سبع سموات طباقاً سماء فوق سماء مطابقة لها ولكن من غير مماسة إذ ما بين كل سماء وأخرى هواء وفراغ مسيرة خمسمائة عام فالمطابقة المعادلة والمساواة في الجرم لا بوضع سماء على الأخرى كغطاء القدر مثلاً .
(4/285)
________________________________________
وقوله { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } أي من اختلاف أو تضاد وتباين والسماء فوقك فإنك لا تجد إلا الاتساق والانتظام لا تصدع ولا انفطار وإن شئت فارجع البصر وانظر هل ترى من فطور أي إنك لا ترى ذلك ثم ارجع البصر كرتين فإنك لا تجد تفاوتاً ولا تبايناً أبداً ولو نظرت الدهر كله كل ما في الأمر أن بصرك أيها الناظر الى السماء يرجع إليك خاسئا أي ذليلاً مبعداً من الأرض القريبة منها بمصابيح هي النجوم والكواكب .
وجعلناها أي النجوم رجوماً للشياطين ترجم بها الملائكة شياطين الجن الذين يريدون استراق السمع من كلام الملائكة حتى لا يفتنوا الناس في الأرض عن دين الله عز وجل . وقوله تعالى { وأعتدنا لهم عذاب السعير } أي وهيأنا للشياطين عذاب السعير يعذبون به يوم القيامة كسائر الكافرين من الإنس والجن .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير ربوبية الله تعالى بعرض دلائل القدرة والعلم والحكمة والخير والبركة وهي موجبة لألوهيته أي عبادته دون من سواه عزوجل .
2- بيان الحكمة من خلق الموت والحياة .
3- بيان الحكمة من خلق النجوم وهي في قول قتادة رحمه الله : أن الله جل ثناؤه إنما خلق هذه النجوم لثلاث خصال : زينة لسماء الدنيا ، ورجوماً للشياطين ، وعلامات يهتدى بها .
(4/286)
________________________________________
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
شرح الكلمات :
{ كفروا بربهم } : أي لم يؤمنوا به فلم يعبدوه .
{ إذا ألقوا فيها } : أي في جهنم ألقتهم الملائكة فيها وذلك يوم القيامة .
{ سمعوا لها شهيقا } : أي سمعوا لجهنم صوتاً منكراً مزعجاً كصوت الحمار .
{ وهي تفور تكاد تميز من الغيظ } : أي تغلي تكاد تتقطع من الغيظ غضباً على الكفار .
{ سألهم خزنتها } : سؤال توبيخ وتقريع وتأنيب .
{ ألم يأتكم نذير } : أي رسول ينذركم عذاب الله يوم القيامة ؟ .
{ وقلنا ما نزل الله من شيء } : أي كذبنا الرسل وقلنا لهم ما نزل الله مما تقولون لنا من شيء .
{ إن أنتم إلا في ضلال كبير } : أي ما أنتم أيها الرُسل إلا في ضلال كبير أي خطأ عقلي وتصور نفسي باطل .
{ لو كنا نسمع أو نعقل } : أي وبخوا أنفسهم بأنفسهم وقالوا لو كنا في الدنيا نسمع أو نعقل لآمنا وعبدنا الله وما كنا اليوم في أصحاب السعير .
معنى الايات :
لما ذكر تعالى في الآيات السابقة أنه أعد للشياطين مسترقي السمع من الملائكة في السماء عذاب السعير عطف عليه قوله { وللذين كفروا بربهم } أي جحدوا ألوهيته ولقاءه فما عبدوه ولا آمنوا به من الإنس والجن عذاب جهنم وبئس المصير هي أي يصيرون إليها وينتهون الى عذابها بها شرائها الحميم وطعامها الضريع والزقوم . وقوله تعالى في وصف ما يجري في النار { إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً } إذا ألقي الكافرون في النار سمعوا شهيقاً أي صوتاً منكراً مزعجاً كصوت الحمار إذا شهق أو نهق . { وهي تفور } تغلي { تكاد تميز } أي تقرب أن تتقطع من الغيظ الذي هو شدة الغضب وغضبها من غضب الرب مالكها لما غضب الجبار غضبت لغضبه ، وكل مؤمن بالله عارف به يغضب لما يغضب له ربه ويرضى به ربه . وقوله تعالى { كلما ألقي فيها فوج } أي جماعة { سألهم خزنتها } أي الملائكة الموكلون بالنار وعذابها وهم الزبانية وعددهم تسعة عشر ملكاً سألوهم سؤال توبيخ وتقريع لأنهم يعلمون ما يسألونهم عنه { ألم يأتكم نذير } أي رسول في الدنيا يدعوكم الى الإيمان والطاعة؟ فيجيبون قائلين { بلى } قد جاءنا نذير ولكن كذبنا الرسل وقلنا لهد رداً على دعوتهم { ما نزّل الله من شيء } أي مما تقولون وتدعوننا إليه { إن أنتم إلا في ضلال كبير } أي وقلنا لهم ما أنتم أيها الرسل إلا في ضلال عقلي وخطأ تصوري كبير . ثم رجعوا إلى أنفسهم يوبخونها بما أخبر تعالى به عنهم في قوله { وقولوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } قال تعالى { فاعترفوا بذنبهم فسحقاً } أي بعداً بعداً من رحمة الله { لأصحاب السعير } أي سعير جهنم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء ببيان ما يجري فيها من عذاب وعقاب .
2- بيان أن تكذيب الرسل كفر موجب للعذاب ، وتكذيب العلماء كتكذيب الرسل بعدهم أي في وجوب العذاب المترتب على ترك طاعة الله ورسوله .
3- بيان أن ما يقوله أهل النار في إعترافهم هو ما يقوله الملاحدة اليوم في ردهم على العلماء بأن التدّين تأخر عقلي ونظر رجعي .
4- تقرير أن الكافر اليوم لا يسمع ولا يعقل أي سماعاً ينفعه وعقلاً عن المهالك باعتراف أهل النار إذ قالوا { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } .
(4/287)
________________________________________
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
شرح الكلمات :
{ يخشون ربهم بالغيب } : أي يخافونه وهو غائبون عن أعين الناس فلا يعصونه .
{ لهم مغفرة وأجر كبير } : أي لذنوبهم وأجر كبير هو الجنة .
{ ألا يعلم من خلق } : أي كيف لا يعلم سركم كما يعلم جهركم وهو الخالق لكم فالخالق يعرف مخلوقه .
{ وهو اللطيف الخبير } : أي بعبادة الخبير بهم وبأعمالهم .
{ ذلولاً } : أي سهلة للمشي والسير عليها .
{ فامشوا في مناكبها } : أي في جوانبها ونواحيها .
{ وإليه النشور } : أي إليه وحدة مهمة نشركم أي أحياءكم من قبوركم للحساب والجزاء .
معنى الآيات :
لما ذكر تعالى جزاء الكافرين وأنه عذاب السعير رغب في الإيمان والطاعة للنجاة من السعير فقال { إن الذين يخشون ربهم بالغيب } أي يخافونه وهم لا يرونه ، وكذا وهم في غيبة عن الناس فيطيعونه ولا يعصونه هؤلاء لهم مغفرة لما فرط من ذنوبهم وأجر كبير عند ربهم أي الجنة . ولما قال بعض المشركين في مكة لا تجهروا بالقول فيسمعكم إله محمد فيطلعه على قولكم قال تعالى رداً عليهم وتعليما { وأسروا قولكم أو اجهروا به } فإنه يعلم السر وما هو أخفى منه كحديث النفس وخواطرها { إنه عليم بذات الصدور } أي بما هو مكنون مستور في صدور الناس { ألا يعلم من خلق } أي كيف لا يعلم وهو اللطيف بهم الخبير بأحوالهم وأعمالهم . وقوله تعالى { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً } أي سهلة فامشوا في مناكبها جوانبها ونواحيها شرقاً وغرباً وكلوا من رزقه الذي خلق لكم ، وإليه وحده نشوركم أي إحيائكم واخراجكم من قبوركم ليحاسبكم ويجزيكم على إيمانكم وطاعتكم بخير الجزاء وهو الجنة ونعيمها ، وعلى كفر من كفر منكم وعصى بشر الجزاء وهو النار وعذابها .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- فضيلة الإيمان بالغيب ومراقبة الله تعالى في السر والعلن .
2- مشروعية السير في الأرض لطلب الرزق من التجارة والفلاحة وغيرهما .
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
(4/288)
________________________________________
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
شرح الكلمات :
{ أن يخسف بكم الأرض } : أي يجعلها بحيث تغورون فيها وتصبحون في جوفها .
{ فإذا هي تمور } : أي تتحرك وتضطرب حتى يتم الخسف بكم .
{ أن يرسل عليكم حاصباً } : أي ريحاً عاصفاً نرميكم بالحصباء فتهلكون .
{ كيف نذير } : أي كان عاقبة انذاري لكم بالعذاب على ألسنة رسلي .
{ فكيف كان نكير } : أي إنكاري عليهم الكفر والتكذيب والجواب كان إنكاراً حقاً واقعاً موقعه .
{ صآفات } : أي باسطات أجنحتها .
{ ويقبضن } : أي ويمسكن أجنحتهن .
{ ما يمسكهن إلا الرحمن } : أي حتى لا يسقطن على الأرض حال البسط للأجنحة والقبض لها .
معنى الآيات :
يقول تعالى واعظاً عباده ليؤمنوا له ويعبدوه وحده فيكملوا ويسعدوا أأمنتم من في السماء الذي هو العلو المطلق وهو الله عزوجل في عليائه فوق عرشه بائن من خلقه أن يخسف بكم الأرض لتهلكوا كلكم في جوفها فإذا هي حال الخسف تمور أي تتحرك وتضطرب حتى تغورو في بطنها والجواب لم يأمنوا ذلك فكيف إذا يصرون على الشرك والتكذيب للرسول وقوله { أم أمنتم من في السماء } وهو الله عز وجل أن يرسل عليكم حاصباً أو ريحاً تحمل الحصباء والحجارة فتهلكهم { فستعلمون كيف نذير } إي إنذاري لكم الكفر والتكذيب أي انه حق وواقع مقتضاه وقوله تعالى { ولقد كذب الذين من قبلهم } كعاد وثمود وغيرهما أي كذبوا رسلي بعدما أنكروا عليهم الشرك والكفر فأهلكناهم { فكيف كان نكير } أي إنكاري لهم كان حقاً وواقع المقتضى وقوله تعالى { أو ألم يروا الى الطير فوقهم صآفات } أي باسطات أجنحتهن ويقبضنها ما يمسكهن في حالة البسط أو القبض إلا الرحمن أنكره المشركون وقالوا وما الرحمن وهم يعيشون في رحمته التي وسعت كل شيء وهو متجلية حتى في الطير تحفظه من السقوط والتحطيم أي أينكرون ألوهية الله ورحمته ولم يروا إلى الطير وهي صافات وقابضات أجنحتها ولا يمسكها أحد من الناس فمن يمسكها إذاً ؟ إنه الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه بما شاء من السنن والنواميس التي يحكم بها خلقه ويدبر بها ملكوته أن أمر المشركين في كفرهم بالله لعجب وقوله { إنه بكل شيء بصير } سواء عنده السابح في الماء والسارح في الغبراء والطائر في السماء والمستكن في الأحشاء .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تحذير المعرضين عند الله وإنذارهم بسوء العواقب إن استمروا على إعراضهم فإن الله قادر على أن يخسف بهم الأرض أو يرسل عليهم حاصباً من السماء وليس هناك من يؤمنهم ويجيرهم بحال من الأحوال . إلا إيمانهم وإسلامهم الله عز وجل .
2- في الهالكين الأولين عير وعظات لمن له قلب حي وعقل يعقل به .
3- من آيات الله في الآفاق الدالة على قدرة الله وعلمه ورحمته الموجبة لعبادته وحدة طيران الطير في السماء وهو يبسط جناحيه ويقبضهما ولا يسقط إذ المفروض أن يبقى دائماً يخفق بجناحيه يدفع نفسه فيطير بمساعدة الهواء أما إن قبض أو بسط المفروض أنه يسقط ولكن الرحمن عز وجل يمسكه فلا يسقط .
(4/289)
________________________________________
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
شرح الكلمات :
{ جند لكم } : أي أعوان لكم .
{ من دون الرحمن } : أي غيره تعالى يدفع عنكم عذابه .
{ إن الكافرون } : أي ما الكافرون .
{ إلا في غرور } : غرهم الشيطان بأن لا عذاب ينزل بهم .
{ أن أمسك رزقه } : أي إن أمسك الرحمن رزقه ؟ لا أحد غير الله يرسله .
{ بل لجوا في عتو ونفور } : أي أنهم لم يتأثروا بذلك التبكيت بل تمادوا في التكبر والتباعد عن الحق .
{ أفمن يمشي مكباً } : أي واقعاً على وجهه .
{ أمن يمشي سوياً } : أي مستقيماً .
{ والأفئدة } : أي القلوب .
{ قليلاً ما تشكرون } : أي شكركم قليل .
{ ذرأكم في الأرض } : أي خلقكم في الأرض وإليه تحشرون لا إلى سواء .
{ متى هذا الوعد } : أي الذي تعدوننا وهو يوم القيامة .
{ قل إنما العلم عند الله } : أي علم مجيئه عند الله لا غير .
{ فلما رأوه زلفة } : أي لما رأوه العذاب قريباً منهم في عرصات القيامة .
{ سيئت وجوه الذين كفروا } : أي تغيرت مسودة .
{ هذا الذي كنتم به تدعون } : أي هذا العذاب الذي كنتم بإنذاره تكذبون وتطالبون بهد تحدياً منكم .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في مطلب هداية كفار قريش فقال تعالى مخاطباً لهم { أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن؟ } أي من هذا الذي هو جند لكم أيها المشركون بالله تعالى ينصركم من دون الرحمن أن أراد الرحمن بكم سوءاً فيدفعه عنكم . وقوله تعالى { إن الكافرون إلا في غرور } أي ما الكافرون إلا في غرور أوقعهم الشيطان فيه زين لهم الشرك ووعدهم ومناهم أنه لا حساب ولا عقاب ، وان آلهتهم تشفع لهم وقوله تعالى { أمن هذا الذي يرزقكم أن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور } أي أي من هذا الذي يطعمكم ويسقيكم ويأتي بأقواتكم أن أمسك الله ربكم رزقه عنكم فلو قطع عليكم المطر ما أتاكم به أحد غير الله . وقوله تعالى { بل لجوا في عتو ونفور } أي انهم لم يتأثروا بهذا التبكيت والتأنيب بل تمادوا في الكبر والبتاعد عن الحق .
وقوله تعالى { أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أم من يمشي سوياً على صراط مستقيم؟ } هذا مثل ضربه الله تعالى للمشرك والموحد تبياناً لحالهما وتحقيقاً لواقع مذهبهما فقال أفمن يمشي مكباً أي واقعاً على وجهه هذا هو المشرك الذي سيكب على وجهه في جهنم أهدى أمن يمشي سوياً أي مستقيماً على صراط مستقيم أي طريق مستقيم هذا هو الموحد فأيهما أهدى؟ والجواب قطعاً الذي يمشي سوياً على صراط مستقيم إذاً النتيجة أن الموحد مهتد والمشرك ضال . وقوله تعالى { قل هو الذي أنشاكم } أي خلقكم { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } أي القلوب أي وأنتم لا تنكرون ذلك فمالكم إذا لا تشكرون المنعم عليكم بهذه النعم وذلك الإيمان به وبرسوله وطاعته وطاعة رسوله إنكم ما تشكرون إلا قليلاً وهو اعترافكم بأن الله هو المنعم لا غير .
(4/290)
________________________________________
وقوله تعالى { قل هو الذي ذراكم في الأرض وإليه تحشرون } أي قل لهم يا رسولنا الله هو الذي ذرأكم في الأرض أي خلقكم لا أصنامكم التي لا تخلق ذباباً وإليه تعالى وحده تحشرون يوم القيامة إذا فكيف لا تؤمنون به وبرسوله ولا تكشرونه ولا تخافونه وإليه تحشرون فيحاسبكم ويجزيكم بأعمالكم .
وقوله تعالى { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } أي ويقول الكافرون لرسول الله والمؤمنين : متى هذا الوعد الذي تعدوننا به وهو يوم القيامة أي متى يجيء؟ وهنا قال تعالى لرسوله إجابة لهم على سؤالهم : قل { إنما العلم عند الله } أي علم مجيء القيامة عند الله ، وليس هو من شأني وإنما أنا نذير منه مبين لا غير . وقوله تعالى { فلما رأوه } أي عذاب يوم القيامة { زلفة } أي قريباً منهم { سيئت وجوه الذين كفروا } أي أساءها الله فتغيرت بالاسوداد والكآبة والحزن . وقيل لهم أو قالت لهم الملائكة هذا العذاب الذي كنتم به تطالبون متحدين رسولنا والمؤمنين وتقولون : { متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير حقيقة ثابتة وهي أن الكافر يعيش في غرور كامل ولذا يرفض دعوة الحق .
2- تقرير حقيقة ثابتة وهي إنحراف الكافر وضلاله وإستقامة المؤمن وهدايته .
3- وجوب الشكر لله تعالى على نعمة السمع والبصر والقلب وذلك بالإيمان والطاعة .
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
(4/291)
________________________________________
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
شرح الكلمات :
{ قل أرأيتم } : أي أخبروني .
{ ومن معي } : أي من المؤمنين .
{ أو رحمنا } : أي لم يهلكنا .
{ فمن يجير الكافرين } : أي فمن يحفظ ويقي الكافرين العذاب .
{ قل هو الرحمن } : أي قل هو الرحمن الذي أدعوكم إلى عبادته .
{ إن أصبح ماؤكم غوراً } : أي غائراً لا تناله الدلاء ولا تراه العيون .
{ بماء معين } : أي تراه العيون لجريانه على الأرض .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في مطلب هداية كفار قريش فقال تعالى لرسوله قل لهؤلاء المشركين الذين تمنوا موتك وقالوا نتربص به ريب المنون قل لهم { أرأيتم } أي أخبروني { إن أهلكني الله ومن معي } من المؤمنين ، { أو رحمنا } فلم يهلكنا بعذاب { فمن يجير الكافرين من عذاب أليم؟ } والجواب : لا أحد إذاً فماذا تنتفعون بهلاكنا . وقوله تعالى { قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا } أي قل يا رسولنا لهؤلاء المشركين قل هو الرحمن الذي يدعوكم الى عبادته وحده وترك عبادة غيره آمنا به وعلينا توكلنا أي اعتمدنا عليه وفوضنا أمرنا إليه فستعلمون في يوم ما من هو في ضلال ممن هو على صراط مستقيم . وقوله { قل أرأيتم أن أصبح ماؤكم غوراً } أي غائراً { فمن يأتيكم بماء معين } أي قل لهؤلاء المشركين يا رسولنا تذكيراً لهم أخبروني أن أصبح ماؤكم الذي تشربون منه ( بئر زمزم ) وغيرها غائراً لا تناله الدلاء ولا تراه العيون . فمن يأتيكم بماء معين غير الله تعالى ؟ والجواب لا أحد إذا فلم لا تؤمنون به وتوحدونه في عبادته وتتقربون إليه بالعبادات التي شرع لعبادة أن يعبدوه بها ؟
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان ما كان عليه المشركون من عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنوا موته .
2- وجوب التوكل على الله عز وجل بعد الإيمان .
3- مشروعية الحجاج لإحقاق الحق وإبطال الباطل .
(4/292)
________________________________________
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
شرح الكلمات :
{ ن~ } : هو أحد الحروف المقطعة يكتب هكذا ن~ ويُقرأ نُون .
{ والقلم وما يسطرون } : أي والقلم الذي كتب به الذكر ( القدر ) والذي يخطون ويكتبون .
{ ما أنت بنعمة ربك } : أي لست بما أنعم الله عليك من النبوة وما وهبك من الكمال .
{ بمجنون } : أي بذع جنون كما يزعم المشركون .
{ غير ممنون } : أي غير مقطوع بل هو دائم أبدا .
{ بأيكم المفتون } : أي بأيكم الجنون .
معنى الآيات :
قوله تعالى { ن~ } هذا أحد الحروف المقطعة نحو ق~ ، وص~ ، وحم~ الله أعلم بمراده به وقوله تعالى ( والقلم وما يسطرون } أي والقلم الذي كتب أول ما خلق وقال له اكتب فقال ما اكتب قال اكتب ما هو كائن الى يوم القيامة فجرى بذلك وما يسطرون أي وما تسطره وتكتبه الملائكة نقلا من اللوح المحفوظ ، وما يكتبه الكرام الكاتبون من أعمال العباد قسمي أي أقسم تعالى بشيئين الأول القلم ، والثاني ما سطر به وكتب مما خلق من كل شيء . والمقسم عليه قوله { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } تكذيب للمشركين الذي قالوا إن محمداً مجنون بسبب ما رأوا من الوحي والتأثير به على من هداه الله للإيمان ، وقوله تعالى { وإن لك لأجراً غير ممنون } هذا داخل تحت القسم أي مقسم عليه وهو أن للنبي صلى الله عليه وسلم أجراً غير مقطوع أبداً بسبب ما قدمه من أعمال صالحة أعظمها ما بينه من الهدى وما سنه من طرق الخير إذ من سن سُنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها الى يوم الدين كما أن الجنة أجر كل عمل صالح وللرسول فيها أجر غير مقطوع بل له أعلاها وأفضلها وقوله { وإنك لعلى خلق عظيم } هذا أيضاً داخل في حيز المقسم عليه وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم لعلى خلق أي أدب عظيم حيث أدبه ربه فكيف لا يكون أكمل الخلق أدباً وسيرته وما خوطب به في القرآن من مثل خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين . ومثل وشاورهم في الأمر ومثل لو كنت فظاً غليظ القلب لأنفضوا من حولك الى غير ذلك من الآداب الرفيعة التي أدب الله بها رسوله مما جعله أكمل الناس أدباً وخلقاً وقد سئلت عائشة عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت كان خلقه القرآن وقال هو عن نفسه أدبني ربي فأحسن تأديبي وقال إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق .
وقوله تعالى { فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون } أي دم على ما أنت عليه من الكمال يا رسولنا واصبر على دعوتنا فستبصر بعد قليل من الزمن ويبصر قومك المتهمون لك بالجنون بأيكم المفتون أي المجنون أنت - وحاشاك - أو هم . وقوله تعالى { إن ربك هو أعلم بما ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } في هذا الخبر تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسلية له ليبصر على دعوة الله أعلم بالمهتدين معناه أن سيعذب حسب سنته الضال وسيرحم المهتدي .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير مسألة أن الله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه .
2- بيان فضل القلم الذي يكتب به الهدى والخير .
3- تقرير عقيدة القضاء والقدر إذ كان ذلك بالقلم الذي أول ما خلق الله .
4- بيان كمال الرسول صلى الله عليه وسلم في أدبه وأخلاقه وجعله قدوة في ذلك .
(4/293)
________________________________________
فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
شرح الكلمات :
{ ودّوا لو تدهن } : أي تمنوا وأحبوا لو تلين لهم بأن لا تذكر آلهتهم بسوء .
{ فُيدهنون } : فيلينون لك ولا يغلظون لك في القول .
{ كل حلاف مهين } : أي كثير الحلف بالباطل حقير .
{ هماز مشاء بنميم } : أي عياب مغتاب .
{ معتد أثيم } : أي على الناس بأذيتهم في أنفسهم وأموالهم أثيم يرتكب الجرائم والآثام .
{ عتل بعد ذلك زنيم } : أي غليظ جاف . زنيم دعي في قريش وليس منهم وهو الوليد بن المغيرة .
{ قال أساطير الأولين } : أي ما وردته الأولون من قصص وحكايات وليس بوحي قرآني .
{ سنسمه على الخرطوم } : أي سنجعل على أنفه علامة يعير بها ما عاش فخطم أنفه بالسيف يوم بدر .
معنى الآيات :
قوله تعالى { فلا تطع المكذبين } أي بناء على أنك أيها الرسول مهتد وقومك ضالون فلا تطع هؤلاء الضالين المكذبين بالله ولقائه وبك وبما جئت به من الدين الحق وقوله { ودوا لو تدهن فيدهنون } أي ومما يؤكد لك عدم مشروعية طاعتهم فيما يطالبون ويقترحونه عليك أنهم ودوا أي تمنوا وأحبوا لو تلين لهم فتمالئهم بسكوتك عن آلهتهم فيدهنون بالكف عن أذيتك بترك السبّ والشتم . وقوله تعالى { ولا تطع كل حلاف مهين } بعدما نهاه عن إطاعة الكافرين عامة نهاه عن طاعة أفراد شريرين لا خير فيهم البتة كالوليد بن المغيرة فقال : { ولا تطع كل حلاف } كثير الحلف بالباطل { مهين } أي حقير . { هماز } عياب { مشاء بنميم } أي مغتاب نمام ينقل الحديث على وجه الإفساد { مناع للخير } أي يبخل بالمال أشد البخل { معتد أثيم } أي ظالم للناس معتدٍ على أموالهم وأنفسهم { أثيم } كثير الإثم لغشيانه المحرمات وقوله { عتل بعد ذلك زنيم } أي غليظ الطبع جاف لا أدب معه . { زنيم } أي دعي في قريش وليس منهم . وقوله تعالى { أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين } أي لأجل إن كان ذا مال وبنين حمله الشعور بالغنى على التكذيب بآيات الله فإذا تُليت عليه وسمعها قال أساطير الأولين رداً لها ووصفها بأنها أسطورة أي أكذوبة مسطرة ومكتوبة من أساطير الأولين من الأمم الماضية . قال تعالى { سنسمه على الخرطوم } أي نجعل له سمة شر وقبح يعرف بها مدى حياته تكون بمثابة من جدع أنفه أو رسم على أنفه فكل من رآه استقبح منظره .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- التنديد بأصحاب الصفات التالية كثرة الحلف بالكذب ، المهانة ، الهمزة النميمة ، الغيبة ، البخل ، الأعتداء ، غشيان الذنوب ، الغلظة والجفاء ، الشهرة بالشر .
2- التحذير من كثرة المال والولد فإنها سبب الطغيان { إن الإنسان ليطغى أن آراه استغنى } 3- التنديد بالمكذبين بآيات الله تعالى جملة أو تفصيلاً . والعياذ بالله تعالى .
(4/294)
________________________________________
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
شرح الكلمات :
{ إنا بلوناهم } : أي امتحنا كفار مكة بالمال والولد والجاه والسيادة فلم يشكروا نعم الله عليهم بل كفروا بها تكذيبهم رسولنا وإنكارهم توحيدنا فأصبناهم بالقحط والقتل لعلهم يتوبون كما امتحنا أصحاب الجنة المذكورين في هذا السياق .
{ ليصر منها فطاف عليها طائف من ربك } : أي ليجدُنها أي يقطعون ثمارها صباحاً .
{ وهو نائمون } : أي نار فأحرقتها .
{ فأصبحت كالصريم } : أي كالليل الأسود الشديد الظلمة والسواد .
{ على حرثكم } : أي غلة جنتكم وقيل حرث لأنهم عملوا فيها .
{ وهم يتخافتون } : أي يتشاورن بأصوات مخفوضة غير رفيعة حتى لا يسمع بهم .
{ وغدوا على حرد قادرين } : أي وغدوا صباحا على قصد قادرين على صرمها قبل أن يطلع عليهم المساكين .
{ إنا لضالون } : أي مخطئوا الطريق أي ما هذا طريق جنتنا ولا هي هذه .
{ بل نحن محرمون } : أي لما علموا أنها هي وقد احترقت قالوا بل نحن محرومون منها لعزمنا على حرمان المساكين منها .
{ قال أوسطهم } : خيرهم تقوى وأرجحهم عقلا .
{ لولا تسبحون } : أي تسبحون الله وتستثنون عندما قلتم لنصرمنها مصبحين .
{ يتلاومون } : أي يلوم بعضهم بعضاً تندماً وتحسراً .
{ إنا الى ربنا راغبون } : أي طامعون .
{ كذلك العذاب } : أي مثل هذا العذاب بالحرمان العذاب لمن خالف أمرنا وعصانا .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في مطلب هداية قريش قوم محمد صلى الله عليه وسلم فقال تعالى { إنا بلوناهم } يعني كفار قريش أي امتحانهم واختبرناهم بالآلاء والنعم لعلهم يشكرون فلم يشكروا ثم بالبلاء والنقم اي بالقحط والجدب والقتل لعلهم يتوبون كما بلونا أصحاب الجنة ثم ذكر تعالى قصة أصحاب الجنة الذين ابتلاهم فتابوا إليه ورجعوا الى طاعته فقال { إنا بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا } - حلفوا - { ليصرمنها مصبحين } أي ليقطعن ثمارها ويجدونه في الصباح الباكر قبل أن يعلم المساكين حتى لا يعطوهم شيئاً . ولا يستثنون في حلفهم لم يقولوا إلا أن يشاء الله . { فطاف عليها طائف من ربك } يا رسولنا وهو نار أحرقتها { فأصبحت كالصريم } أي الليل المظلم الأسود الشديد السواد . { فتنادوا مصبحين } أي نادى بعضهم بعضاً وهو إخوة كثير في أول الصباح قائلين { اغدوا على حرثكم } إن كنتم فعلاً جادين في الصرام هذا الصباح . { فانطلقوا مسرعين وهم يتخافون } يتشاورون في صوت خافت حتى لا يفطن لهم فقراء البلد ومساكينها وأجمعوا على { أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين } كما كانوا يدخلونها ويأخذون منها أيام حياة والدهم رحمة الله عليه قال تعالى { وغدوا على حرد قادرين } أي وانطلقوا صبحاً على حرد أي قصد تام قادرين على أن لا يدخلنها اليوم عليهم مسكين بل يجدونها ويحملونها الى مخازنها ولا يشعر بهم أحد من الفقراء والمساكين . قال تعالى { فلما رأوها } محترقة سواء مظلمة { قالوا } ما هذه جنتنا { إنا لضالون } عنها بأن أخطئنا الطريق إليها ، ولما علموا أنها هي ولكن احترقت ليلا اضربوا عن قولهم وقالوا { بل نحن محرومون } أي منها لعزمنا على منع المساكين منها وقد كان والدنا يمنحهم منها ويعطيهم شكراً الله وأداء لحقه .
(4/295)
________________________________________
وهنا تكلم أوسطهم أي خيرهم تقوى وأرجحهم عقلاً بما أخبر تعالى عنه في قوله { قال أوسطهم ولم تستثنوا فقلت ومنها العجر والاستثناء تنزيه لله عن ذلك لأن الذي يقول أفعل ولم يستثن اعطى لنفسه قدرة كقدرة الله الذي إذا قال أفعل فعل ولا يعجز فهو هنا اشرك نفسه في صفة من صفات الله تعالى فلذا كان الاستثناء تسبيحاً لله وتنزيهاً له عن المشارك في صفاته وأفعاله . فلما ذكرهم أخوهم العاقل الرشيد قالوا { سبحان ربنا إنا كنا ظالمين } فنابوا بهذا الاعتراف قال تعالى { فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون } أي يلوم بعضهم بعضاً على خطأهم في عزمهم على حرمان المساكين وعلى عدم الاستثناء في اليمين قالوا من جملة ما قالوا { يا ويلنا } أي يا هلاكنا احضر { إنا كنا طاغين } أي متجاورين حدود الله التي حد لنا غفلة منا وجهلا بأنفسنا وبما يعاقب به امثالنا . وهنا بعد أن رجعوا على انفسهم باللوم وإلى الله بالتوبة رجوا ربهم ولم ييأسوا من رحمته فقالوا { عسى أن يبدلنا ربنا خيراً منها إنا إلى ربنا راغبون } هكذا ابتلوا بالنعمة ثم بسلبها فتابوا فهل كفار قريش وقد ابتلوا بالنعمة ثم سلبوها فهل يتوبون كما تاب أصحاب الجنة ؟ إنما سبقت هذه القصة تذكيراً وتعليماً فهل يتذكرون فيتوبوا ؟ قال تعالى { كذلك العذاب } أي مثل هذا العذاب بالحرمان العذاب لمن خالف أمر الله وعصاه { ولعذاب الآخرة أكبر من عذاب الدنيا لو كانوا يعلمون } فإن عذاب الدنيا وقته محدود وأجله معدود أما عذاب الآخرة فإنه أبدي لا يحول ولا يزول .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- الابتلاء يكون بالسراء والضراء أي بالخير والشر وأسعد الناس عند السراء الصابرون على طاعة الله ورسوله عند الضراء .
2- مشروعية التذكير بأحوال المبتلين والمعافين ليتخذ من ذلك طريق إلى الشكر والصبر .
3- صلاح الآباء ينفع أبناء المؤمنين فقد انتفع أصحاب الجنة بصلاح أبيهم الذي كان يتصدق على المساكين من غلة بستانه وعلامة انتفاعهم توبتهم .
4- مشروعية الاستثناء في اليمين وأنه تسبيح لله تعالى ، وأن تركه يوقع في الإثم ولذا إذا حنث الحالف الذي لم يستثن تلوثت نفسه بإثم كبير لا يُمحى إلا بالكفارة الشرعية التي حددها الشارع وهي إطعام أو كسوة عشرة مساكين أو عتق رقبة فإن لم يقدر على واحدة من هذه الأنواع صام ثلاثة أيام ليمحي ذلك الذنب من نفسه .
(4/296)
________________________________________
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
شرح الكلمات :
{ إن للمتقين } : أي الذين اتقوا ربهم فآمنوا به ووحده فاتقوا بذلك الشرك والمعاصي .
{ عند ربهم جنات النعيم } : أي لهم جنات النعيم يوم القيامة عند ربهم عزوجل .
{ أفنجعل المسلمين كالمجرمين } : أي أنحيف في الحكم ونجور فنجعل المسلمين والمجرمين متساوين في العطاء والفضل والجواب لا ، لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة .
{ أم لكم كتاب فيد تدرسون } : أي تقرأون فعلمتم يواسطته ما تدعون .
{ أن لكم فيه لما تخيرون } : أي فوجدتم في الكتاب الذي تقرأون أن لكم فيه ما تختارونه .
{ إن لكم أيمان علينا بالغة } : أي ألكم عهود منا موثقة بالأيمان لا نخرج منها ولا نتحلل إلى يوم القيامة .
{ إن لكم لما تحكمون } : أي أعطيناكم عهودنا الواثقة أن لكم ما تحكمون به لأنفسكم كما تشاءون .
{ سلهم أيهم بذلك زعيم } : أي سلهم يا رسولنا عن زعيمهم الذي يكفل لهم مضمون الحكم الذي يحكمون به لأنفسهم من أنهم يعطون في الآخرة أفضل مما يعطى المؤمنون .
{ أم لهم شركاء } : أي أعندهم شركاء موافقون لهم في هذا الذي قالوا يكفلون لهم به ما ادعوه وحكموا به لأنفسهم وهو أنهم يعطون أفضل مما يعطى المؤمنون يوم القيامة .
{ يوم يكشف عن ساق } : أي يوم يعظم الهول ويشتد الكرب ويكشف الرب عن ساقه الكريم التي لا يشبهها شيء عندما يأتي لفصل القضاء .
{ ترهقهم ذلة } : أي تغشاهم ذلة يالها من ذلة .
{ وقد كانوا يدعون الى السجود وهم سالمون } : وهم سالمون أي وقد كانوا يدعون في الدنيا الى الصلاة وهو سالمون من أية علة ولا يصلون حتى لا يسجدوا تكبراً وتعظماً .
معنى الآيات :
قوله تعالى { إن للمتقين } الآيات نزلت رداً على المشركين الذين ادعوا متبجحين أنهم إذا بعثوا يوم القيامة يعطون أفضل مما يعطى المؤمنون قياساً منهم على حالهم في الدنيا حيث كانوا أغنياء والمؤمنون فقراء فقال تعالى { إن للمتقين عند ربهم يوم القيامة جنات النعيم } أي جنات كلها نعيم لا شيء فيها غيره . ثم قال في الرد منكراً على المشركين دعواهم مقرعاً مؤنبا إياهم في سبعة استفهامات إنكارية تقريعية أولها قوله تعالى { أفنجعل المسلمين الذين أسلموا لله وجوهم وأطاعوه بكل جوارحهم مالمجرمين الذين جرموا على أنفسهم بارتكاب أكبر الكبائر كالشرك وسائر الموبقات أي نحيف ونجور في حكمنا فنجعل المسلمين كالمجرمين في الفضل والعطاء يوم القيامة ، فنسوي بينهما وثانيهما قوله : ما لكم ؟ أي أي شي حصل لكم حتى ادعيتم هذه الدعوى وثالثها كيف تحكمون أي كيف هذا الحكم ما حجتكم فيه ودليلكم عليه ؟ ورابعها قوله { أم لكم كتاب فيد تدرسون } أي أعندكم كتاب جاءكم به رسول من عند الله تقرأون فيه هذا الحكم فيه لما تخيرون أي ألكم في هذا الكتاب ما تختارون والجواب . لا .
(4/297)
________________________________________
لا وخامسها قوله بأيمان لا نتحلل منها الى يوم القيامة بأن لكم ما حكمتم به لأنفسكم من أنكم تعطون أفضل مما يعطى المؤمنون وسادسها { سلهم أيهم بذلك زعيم } أي سلهم يا رسولنا عن زعيمهم الذي يكفل لهم مضمون الحكم الذين يحكمون به لأنفسهم من أنهم يعطون في الآخرة أفضل مما يعطى المؤمنون سابعها قوله { أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين } أي ألهم شركاء موافقون لهم في هذا الذي قالوه يكلفونه لهم فليأتوا بهم إن كانوا صادقين في ذلك . بهذه الإستفهامات الإنكارية التقريعية السبعة نفى تعالى عنهم كل ما يمكنهم أن يتشبثوا به في تصحيح دعواهم الباطلة عقلاً وشرعاً . وقوله تعالى { يوم يكشف عن ساق } أي اذكر لهم يا رسولنا مبينا واقع الأمر يوم القيامة ، ليخجلوا من تشدقهم بدعواهم الساقطة الباردة اذكر لهم يوم يعظم الهول ويشتد الكرب ، ويأتي الرب لفصل القضاء ويكشف عن ساق فيخر كل مؤمن ومؤمنة ساجداً ويحاول المنافقون والمنافقات السجود فلا يستطيعون إذ يكون ظهر أحدهم طبقاً واحداً أي عظماً واحداً فلا يقدر على السجود وذلك علامة شقائه المترتب على نقاقه في الدنيا .
ويدعون الى السجود أي امتحانا لهم ليعرف من كان يسجد إيماناً واحتساباً ممن كان يسجد نفاقاً ورياء فلا يستطيعون لأن ظهر أحدهم يصبح عظماً واحداً خاشعة أبصارهم لا تطرف من شدة الخوف ترهقهم ذلة أي تغشاهم ذلة عظيمة وقوله وقد كانوا يدعون الى السجود أي في الدنيا وهم سالمون معافون في أبدانهم ولا يسجدون تكبراً وكفراً بالله ربهم وبشرعه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير أن المجرمين لا يساوون المؤمنين يوم القيامة أذ لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة فمن زعم أنه يطعى المؤمنون من جنات النعيم فهو مخطئ في تصوره كاذب في قوله .
2- بيان عظم هول يوم القيامة وأن الرب تبارك وتعالى يأتي لفصل القضاء ويكشف عن ساق فلا يبقى أحد إلا سجد وأن الكافر والمنافق لا يستطيع السجود عقوبة له وفضيحة إذ كان في الدنيا يدعى الى السجود لله فلا يسجد أي الى الصلاة فلا يصلي تكبراً وكفراً .
(4/298)
________________________________________
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
شرح الكلمات :
{ ذرني ومن يكذب } : أي دعني ومن يكذب أي لا يصدق .
{ بهذا الحديث } : أي بالقرآن الكريم .
{ سنستدرجهم } : أي نستنزلهم درجة درجة حتى نصل بهم إلى العذاب .
{ وأملي لهم } : أي وامهلهم .
{ إن كيدي متين } : أي شديد قويّ لا يطاق .
{ فهم من مغرم مثقلون } : أي فهم مما يعطونكه مكلف5ون حملا ثقيلا .
{ أم عندهم الغيب } : أي اللوح المحفوظ .
{ فهم يكتبون } : أي ينقلون منه ما يدعونه ويقولونه .
{ ولا تكن كصاحب الحوت } : أي يونس في الضجر والعجلة .
{ وهو مكظوم } : أي مملوء غماً .
{ بالعراء } : أي الأرض الفضاء .
{ وهو مذموم } : لكن لما تاب نُبِذَ وهو غير مذموم .
{ فاجتباه ربه } : أي اصطفاه .
{ ليزلقونك بأبصارهم } : أي ينظرون إليك نظرا شديدا يكاد أن يصرعك .
{ وما هو إلا ذكر } : أي محمد صلى الله عليه وسلم .
{ للعالمين } : أي الإِنس والجن فليس بمجنون كما يقول المبطلون .
معنى الآيات :
بعد ذلك التقريع الشديد للمشركين المكذبين الذي لم يؤثر في نفوسهم أدنى تأثير قال تعالى لرسوله { فذرني } أي بناء على ذلك فذرني ومن يكذب بهذا الحديث أي دعني وإياهم ، والمراد من الحديث القرآن الكريم { سنستدرجهم } أي نستنزلهم درجة درجة { من حيث لا يعلمون } حتى تنتهي بهم إلى عذابهم المترتب على تكذيبهم وشركهم . وقوله تعالى { وأملي لهم إن كيدي متين } أي وأمهلهم فلا أعاجلهم بالعهذاب فأوسع لهم ي الرزق واصحح لهم الجسم حتى يروا أن هذا لكرامتهم عندنا وأ ، هم خيرٌ من المؤمنين ثم نأخذهم . وهذا من كيدي الشديد الذي لا يطاق ، وقوله تعالى { أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون } أي بل أتسألهم على تبليغ الدعوة أجراً مقابل التبليغ فهم من مغرم مثقلون اي فهم يشعرون بحمل ثقيل من أجل ما يعطونك من الأجر فلذا هم لا يؤمنون بك ولا يتابعونك على دعوتك . أم عندهم الغيب أي اللوح المحفوظ فهم يكتبون منه ما هم يقولون به ويُقرُّونه والجواب لا إذاً فاصبر يا رسولنا لحكم ربك فيك وفيهم وامض في دعوتك ولا يثني عزمك تكذيبهم ولا عنادهم ولا تكن كصاحب الحوت يونس بن متَّى أي في الضجر وعدم الصبر . إذ نادى وهو مكظوم أي مملوء غمّاً فقال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين وقوله لولا أن تداركه نعمة من ربّه لنبذ بالعراء وهو مذموم أي لولا أن أدركته رحمة الله تعالى حيث ألهمه الله التوبة ووفقه لها لنبذ أي لطرح بالفضاء وهو مذموم ولكن لما تاب الله عليه طُرح على ساحل البحر وهو غير مذموم بل محمود فاجتباه ربّه أي اصطفاه مرة ثانية بعد الأولى فجعله من الصالحين أي الكاملي الصلاح من الأنبياء والمرسلين ، ومعنى اجتباه مرة ثانية لأن الاجتباء الأول إذ كان رسولا في أهل نينوي وغاضبوه فتركهم ضجراً منهم فعوقب وبعد العقاب والعتاب اجتباه مرة أخرى وارسله إلى أهل بلاده بعد ذلك الانقطاع قال تعالى من سورة اليقيطن فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين .
(4/299)
________________________________________
وقوله تعالى { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر } أي وان يكاد الذين كفروا ليصرعونك من شدة النظر إليك وكلهم غيظ وحنق عليك بأبصارهم { لما سمعوا الذكر } أي القرآن نقرأه عليهم . ويقولون إنه لمجنون حسداً لك ، وصرفاً للناس عنك ، وما هو أي محمد صلى الله عليه وسلم إلا ذكر للعالمين أي يذكر به الله تعالى الإِنس والجن فليس هو بمجنون كما يقول المكذبون المفتونون .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- ردّ الأمور إلى الله إذا استعصى حلّها فالله كفيل بذلك .
2- لا يصح أخذ أجرة على تبليغ الدعوة .
3- وجوب الصبر على الدعوة مهما كانت الصعاب فلا تترك لأذىً يصيب الداعي .
4- بيان حال المشركين مع الرسول صلى الله عليه وسلم وما كانوا يضمرونه له من البغض والحسد وما يرمونه به من الاتهامات الباطلة كالجنون والسحر والكذب .
(4/300)
________________________________________
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)
شرح الكلمات :
{ الحاقة } : أي الساعة الواجبة الوقوع وهي القيامة .
{ بالقارعة } : أم بالقيامة لأنها تقرع القلوب بالخوف والهول .
{ فأهلكوا بالطاغية } : أي بطغيانهم وعتوهم عن أمر ربهم فأخذتهم صيحة طاغية أيضاً .
{ بريح صرصر عاتية } : أي ذات صوت لشدة عصوفها عاتية على خزانها في الهبوب .
{ حسوماً } : أي متتابعات الهبوب بلا فاصل كتتابع الكيّ القاطع للداء .
{ كأنهم أعجاز نخل خاوية } : أي أصول نخل ساقطة فارغة ليس في جوفها شيء .
{ والمؤتفكات بالخاطئة } : أي أهلها وهي قرى لوط بالفعلات ذات الخطأ .
{ أخذة رابية } : أي زائدة في الشدة على غيرها .
{ لما طغا الماء } : أي علا فوق كل شيء من الجبال وغيرها .
{ حملناكم في الجارية } : أي السفينة التي صنعها نوح ونجا بها هو ومن معه من المؤمنين .
{ وتعيها أذن واعية } : أي وتحفظها أذن واعية أي حافظة لما تسمعٌ .
معنى الآيات :
قوله تعالى { الحاقة ما الحاقة } أي أي شيء هي؟ وما أدراك ما الحاقة أي أي شيء أعلمك بها ، والمراد بها القيامة لأنها حاقة المجيى واجبته لا محالة . وقوله تعالى { كذّبّت ثمود وعاد } بالقارعة } اي كذبت ثمود قوم صالح وعاد قوم هود بالقارعة أي بالقيامة . فهم ككفار قريش مكذبون بالبعث والجزاء . فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية أي بطغيانهم وعتوهم عن أمر ربهم فأخذتهم صيحة طاغية ، وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر أي ذات صوت شديد عاتية أي عتت على خزانها في الهبوب . سخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أي حسوماً أي متتابعات بلا انقطاع حسما لوجودهم كما يحسم الدواء بالكي الحاسم للداء المتتابع . وقوله تعالى فترى أيها السرول القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية أي فترى القوم في تلك الليالي والأيام صرعى ساقطين على الأرض كأنهم أصول نخل ساقطة فارغة ليس في أجوافها شيء فهل ترى لهم من باقية اي من نسلهم لا شيء إذ هلكوا كلهم أجمعون ، وقوله تعالى { وجاء فرعون ومن قبله } كقوم نوح وعاد وثمود والمؤتفكات بالخاطئة أي بالأفعال الخاطئة وهي الشرك والمعاصي وبينها تعالى بقوله { فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية } أي زائدة في اشلدة على غيرها وقوله تعهالى { إنا لما طغا الماء } أي ماء الطوفان الذي أهلك الله به قوم نوح حملكناكم في الجارية أي حملنا آباءكم في الجارية التي هي سفينة نوح عليه السلام وقوله لنجعلها لكم تذكرة أي لنجعل السفينة تذكرة لكم عظة وعبرة وتعيها أي وتحفظ هذه العظة أذن حافظة لا تنسى ما هو حق وخير من المعاني .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
2- بيان أن كلا من عاد وثمود كانوا يكذبون بالبعث وبيان ما أهلكهم الله به .
3- بيان أن معصية الرسول موجبة للعذاب الدنيوي والأخروي .
4- التذكير بحادثة الطوفان وما فيها من عظة وعبرة .
(4/301)
________________________________________
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)
شرح الكلمات :
{ نفخة واحدة } : أي النفخة الأولى .
{ حملت الأرض والجبال } : أي رُفعت من أماكنها .
{ فدكتا دكة واحدة } : أي ضرب بعضها ببعض فاندكت وصارت كثيبا مهيلا .
{ وقعت الواقعة } : أي قامت القيامة .
{ فهي يومئذ واهية } : أي مسترخية ضعيفة القوة .
{ على أرجائها } : أي على أطرافها وحافاتها .
{ ثمانية } : أي من الملائكة وهم حملة العرش الأربعة وزيد عليهم أربعة .
{ لا تخفى منكم خافية } : أي لا تخفى منكم سريرة من السرائر التي تخفونها .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الحديث عن القيامة تقريرا لعقيدة البعث والجزاء التي هي الدافع إلى فعل الخير وترك الشر في الدنيا فقال تعالى { فإذا نفخ في الصور } أي نفخ اسرافيل في الصور الذي هو البوق أو القرن النفخة الأولى وهو المراد بقوله { نفخة واحدة } ، وقوله تعالى { وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة } أي ضرب بعضها ببعض فاندكت فصارت هباء منبثا ، { فيومئذ وقعت الواقعة } أي قامت القيامة { وانقشت السماء } أي انفطرت وتمزقت { فهي يومئذ واهية } ضعيفة مسترخية . { والملك على أرجائها } أي على أطرافها وحافاتها ، { ويحمل عرش ربك فوقهم ثمانية } اي ثمانية من الملائك أربعة هم حملة العرش دائما وزيد عليهم أربعة فصاروا ثمانية قال تعالى { يومئذ تعرضون على الله لا تخفى منكم خافية } أي سريرة مما كنتم تسرون .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
2- بيان كيفية الانقلاب الكوني لنهاية الحياة الأولى وبداية الحياة الثانية .
3- تقرير العرض على الله عز وجل للحساب ثم الجزاء .
(4/302)
________________________________________
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)
شرح الكلمات :
{ هاؤم } : أي خذوا .
{ إني ظننت } : أي علمت .
{ راضية } : أي يرضى بها صاحبها .
{ قطوفها دانية } : أي ما يقتطف ويجنى من الثمار .
{ بما أسلفتم } : أي بما قدمتم .
{ في الأيام الخالية } : أي الماضية .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء ببيان ما يجري في يوم القيامة فقال تعالى { فأما من أُوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم أقرؤا كتابية } أي إنه بعد مجيء الربّ تبارك وتعالى لفصل القضاء تعطى الكتب فمن آخذ كتابه بيمينه ، ومن آخذ كتابه بشماله فأما من أوتي كتابه الذي ضم حسناته بيمينه فيقول في فرح عظيم هاؤم أي خذوا كتابي فاقرأواه إنه مشرق كله ما فيه سواد السيئات ، ويُعلل لسلامة كتابه من السيئات فيقول إني ظننت أي علمت أني ملاقٍ حسابية لا محالة فلذا لم اقارف السيئات وإن قدر عليّ شيء فقارفته جهلا فإِني تبت منه فورا فانمحى أثره من نفسي فلم يكتب عليّ قال تعالى مخبراً عن آثار نجاحه في سلامة كتابه من السيئات فهو في عيشة راضية . أي يرضاها لهناءتها وسعة خيراتها في جنّة عالية قطوفها أي جناها وما يقتطف منها دانية أي قريبة التناول ينالها بيده وهو متكيء على أريكته ويقال لهم كلوا واشربوا من طعام الجنة وشرابها هنيئاً ويذكر لهم سبب فوزهم فيقول { بما أسلفتم } أي قدمتم لأنفسكم { في الأيام الخالية } أي ايام الدنيا الماضية إذ كانوا مؤمنين صوامين قوامين بالمعروف آمرن وعن المنكر ناهين .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء أي الإِيمان باليون الآخر .
2- آثار الإِيمان بالبعث والجزاء ظاهرة في سلامة كتاب المؤمن من السيئات . وقد علل لذلك بقوله إني ظننت أني ملاق حسابي فلذا لم أعصِ ربي .
3- إثبات حقيقة هي قول العامة الدنيا مزرعة الآخرة أي من عمل في الدنيا نال ثمار عمله في الآخرة خيراً أو شراً .
(4/303)
________________________________________
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
شرح الكلمات :
{ يا ليتني لم أُوت كتابية } : أي يتمنى أنه لم يعط كتابه لما رأى فيه من السسيئات .
{ كانت القاضية } : أي الموتة في الدنيا كانت القاطعة لحياتي حتى لا أبعث .
{ هلك عني سلطانية } : أي قوتي وحجتي .
{ خذوه } : أي أيها الزبانية خذوا هذا الكافر .
{ فغلوه } : أي اجعلوا يديه إلى عنقه في الغل .
{ ثم الجحيم صلوه } : أي ثم في النار المحرقة أدخلوه وبالغوا في تصليته كالشاة المصلية .
{ حميم } : أي من قريب ينفعه أو صديق .
{ إلا من غسلين } : أي صديد أهل النار الخارج من بطونهم لأكلهم شجر الغسلين .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر ما يجري من أحداث وقد تقدم ذكر الذي أُوتي كتابه بيمينه وما له من كرامة عند ربّه وفي هذه الآيات ذكر الذي أُوتي كتابه بشماله وما له من مهانة وعذاب جزاء كفره فقال تعالى { وأما من أُوتي كتابه } أي في عرصات القيامة فيقول بعد النظر فيه وما يلوح له فيه من السيئات { يا ليتني لم أُوت كتابيه } يتمنى لو أنه لم يعط كتابه ولم يدر ما حسابه وأن الموتة التي ماتها في الدنيا يتمنى لو كانت القاطعة لحياته حتى لا يبعث ، ثم يواصل تحسره وتحزنه قائلا { ما أغنى عني مايه } أي مالي والهاء في ماليه وفي كتابيه وحسابية وفي مالية وسلطانية يقال لها هاء السكت يوقف عليها بالسكون قراءة كافة القراء وقوله { هلك عني سلطانية } أي ذهبت عني حججي فلم أجد ما احتج به لنفسي قال تعالى للزبانية { خذوه فغلوه } أي شدوا يديه في عنقه بالغل { ثم الجحيم صلوه } أي أدخلوه فيها وصلوه بحرها المرة بعد المرة كما يصلى الكبش المشوى المصلي ، { ثم في سلسلة } طويلة { ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه } ولم يعرف مدى طول هذه الذراع إلا أنه إذا كان الكافر ما بين كتفيه كما بين مكة وقديد قرابة مائة وخمسين ميلا فإِن السلسلة في ذرعها السبعين ذراعا لا بد وأن تكون مناسبة لهذا الجسم { فاسلكوه } أي ادخلوه فيها فتدخل من فمه وتخرج من دبره كسلك الخرزة في الخيط وذكر تعالى علّة هذا الحكم عليه فقال { إن كان أي في الدنيا لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين } فانحصرت جريمته في شيئين الكفر بالله ومنع الحقوق الواجب في المال ثم أخبر تعالى عن حال هذا الكافر الشقي في جهنم فقال { فليس له اليوم ها هنا } أي في جهنم { حميم } اي صديق أو قريب ينتفع به فيدفع عنه العذاب أو يخففه { ولا طعام إلا من غسلين } أي وليس له طعام يأكله إلا من طعام الغسلين الذي هو صديد أهل النار فإِنهم عندما يأكلون شجر الغسلين يكون كالمسهل في بطونهم فيخرج كل ماف ي بطونهم وذلك هو الغسلين الذي يأكلونه ذلك الغسلين الذي لا يأكله إلا الخاطئون أي الذين ارتكبوا خطيئة الكفر والعياذ بالله تعالى .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحداثها .
2- المال الذي باع المفلسون فيه الأمة والملة لا يغني يوم القيامة عن صاحبه شيئا .
3- التنديد بالكفر بالله وأهله .
4- عظم جريمة منع الحقوق المالية من الزكاة وغيرها .
(4/304)
________________________________________
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
شرح الكلمات :
{ بما تبصرون ومالا تبصرون } : أي بكل مخلوق في الأرض وفي السماء .
{ إنه لقول رسول كريم } : أي القرآن قاله تبليغا رسول كريم هو محمد صلى الله عليه وسلم .
{ وما هو بقول كاهن } : أي ليس القرآن بقول كاهن إذ ليس فيه من سجع الكهان شيء .
{ لأخذنا منه باليمين } : أي بالقوة لأخذنا بيمينه لنقتله .
{ ثم لقطعنا منه الوتين } : أي نياط القلب الذي إذا انقطع مات الإِنسان .
{ حاجزين } : أي مانعين وهو خبر ما النافية العالمة عمل ليس وجمع لأن أحد يدل على الجمع نحو لا نفرق بين أحد من رسله وبين لا تقع إلا بين اثنين فأكثر .
{ وإنه لحسرة على الكافرين } : أي التكذيب بالقرآن حسرة يوم القيامة على المكذبين به .
{ وإنه لحق اليقين } : أي الثابت يقينا أو اليقين الحق .
{ فسبح باسم ربك العظيم } : أي نزه ربك العظيم الذي كل شيء أمام عظمته صغير حقير أي قل سبحان ربي العظيم .
معنى الآيات :
قوله تعالى فلا أقسم بما تبصرون ومالا تبصرون أي فلا الأمر كما ترون وتقولون أيها المكذبون أقسم بما تبصرون ومالا تبصرون من المخلوقات في الأرض وفي السموات إنه أي القرآن لقول رسول كريم على ربّه تعالى وهو محمد صلى الله عليه وسلم أي إنه تبليغه وقوله إليكم وما هو بقول شاعر . كما تقولون كذباً قليلا ما تؤمنون أي إن إيمانكم قليل ضيق الدائرة فلو كان واسعاً لا تسع للإِيمان بالقرآن إنه كلام الله ووحيه وليس هو من جنس الشعر لمخالفته له نظماً ومعنىً . وما هو بقول كاهن قليلا ما تذكرون أي وليس القرآن بقول كاهن قليلا ما تذكرون أي تذكركم قليل جدا فلو تذكرتم كثيرا لعلمتم أن القرآن ليس بكلام الكهان لملازمته للدصق والحق والهدى ولبعد قائله عن الإِثم والكذب بخلاف قول الكهان فإِن سداه لوحمته الكذب وقائله هو الإِثم كله فأين القرآن من قول الكهان؟ واين محمد الرسول من الكهان اخوان الشيطان إنه تنزيل من ربّ العالمين أيها المكذبون الضالون . وأمر آخر هو أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ولو تقول علينا بعض الأقاويل ونسبها إلينا لأخذنا منه باليمين أي لبطشنا به وأخذنا بيمنيه ثم لقطعنا منه الوتين فيهلك إذ الوتين هو عرق القلب إذا قطع مات الإِنسان وإذا فعلنا به هذا فمن منكم يحجزنا عنه؟ وهو معنى قوله تعالى { فما منكم من أحد عنه حاجزين } وقوله تعالى { وإنه } أي القرآن { لتذكرة } أي موعظة عظيمة للمتقين الذين يخافون عقاب الله ويخشون نقمه وعذابه وإنا لنعلم أن منكم أيها الناس مكذبين ليس بخاف عنا أمرهم وسنجزيهم وصفهم وانه لحسرة على الكافرين اي يوم القيامة عندما يرون المؤمنين به يؤخذ بهم ذات اليمين إلى دار السلام والمكذبين به يؤخذ بهم ذات الشمال إلى دار البوار .
(4/305)
________________________________________
وإنه لحق اليقين اي اليقين الحق . وبعد هذا التقرير في إثبات الوحي والنبوة أمر تعالى رسوله الذي كذب برسالته المكذبون أمره أن يستعين على الصبر بذكر الله تعالى فقال له { فسبح باسم ربك العظيم } أي قل سبحان ربي العظيم منزها اسمه عن تحريفه وتسمية المحدثات به معظما ربك غاية التعظيم إذ هو العليّ العظيم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- لله تعالى أن يحلف بما شاء من مخلوقاته لحكم عالية وليس للعبد أن يحلف بغير الربّ تعالى .
2- تقرير الوحي وإثبات النبوة المحمدية .
3- وصف الرسول بالكرم وبكرامته على ربّه تعالى .
4- عجز الرسول صلى الله عليه وسلم عن الكذب على الله تعالى وعدم قدرته على ذلك لو أراده ولكن الذي لا يكذب على الناس لا يكذب على الله كما قال هرقل ما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله ردّاً على أبي سفيان لما قال له لم نجرب عليه كذباً قط .
5- مشروعية التسبيح بقول سبحان ربي العظيم إن صح أنه لما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه اجعلوها في ركوعكم فكانت سنة مؤكدة سبحان ربي العظيم ثلاثا في الركوع أو أكثر .
(4/306)
________________________________________
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
شرح الكلمات :
{ سأل سائل } : أي دعا داع بعذاب واقع .
{ ليس له دافع من الله } : أي فهو واقع لا محالة .
{ ذي المعارج } : أي ذي العلو والدرجات ومصاعد الملائكة وهي السموات .
{ تعرج الملائكة والروح إليه } : أي تصعد الملائكة وجبريل إلى الله تعالى .
{ في يوم كان مقداره خمسين ألف : أي تصعد الملائكة وجبريل من منتهى أمره من أسفل سنة } الأرض السابعة إلى منتهى أمره من فوق السموات السبع في يوم مقداره خمسون ألف سنة بالنسبة لصعود غير الملائكة من الخلق .
{ إنهم يرونه بعيداً } : أي العذاب الذي يطالبون به لتكذيبهم وكفرهم بالبعث .
{ يوم تكون السماء كالمهل } : اي كذائب النحاس .
{ وتكون الجبال كالعهن } : أي كالصوف المصبوغ ألوانا في الخفة والطيران بالريح .
{ ولا يسأل حميم حميما } : أي قريب قريبه لانشغال كل بحاله .
{ يبصرونهم } : أي يبصر الأَحْماء بعضهم بعضا ويتعارفون ولا يتكلمون .
{ وصاحبته } : أي وزوجته .
{ وفصيلته التي تؤويه } : أي عشيرته التي تضمه إليها نسباً وتحميه من الأذى عند الشدة .
{ إنها لظى نزاعة للشوى } : أي ان جهنم هي لظى نزاعة للشوى جمع شواة جلدة الرأس .
{ أدبر وتولى } : أي عن طاعة الله ورسوله وتولى عن الإِيمان فأنكره وتجاهله .
{ وجمع فأوعى } : أي جمع المال وجعله في وعاء ومنع الله تعالى فيه فلم ينفق منه في سبيل الله .
معنى الآيات :
قوله تعالى { سأل سائل بعذاب واقع } هذه الآيات نزلت رداً على دعاء النضر بن الحارث ومن وافقه اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأكطر علينا حجارة من السماء أو إئتنا بعذاب أليم فأخبر تعالى عنه بقوله { سال سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله } أي انه واقع لا محالة إذ ليس له دافع من الله { ذي المعارج } اي صاحب العلو والدرجات ومصاعد الملائكة وهي السموات وقوله تعالى { تعرج الملائكة والروح إليه } أي تصعد الملائكة وجبريل إليه تعالى { في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } أي يصعدون من منتهى أمره من أسفل الأرض السابعة إلى منتهى أمره من فوق السموات السبع في يوم مقداره خمسون ألف سنة بالنسبة لصعود غير الملائكة من الخلق { فاصبر صبراً جميلاً } وقوله تعالى { إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً } يعني أن المشركين المكذبين يرون العذاب بعيدا لتكذيبهم بالبعث الآخر . ونحن نراه قريبا ويبين تعالى وقت مجيئه فقال { يوم تكون السماء كالمهل } أي تذوب فتصير كذائب النحاس { وتكون الجبال كالعهن } أي الصوف المصبوغ خفه وطيرانا بالريح وهذا هو الانقلاب الكوني حيث فني كل شيء ثم يعيد الله الخلق فإِذا الناس في عرصات القيامة واقفون حفاة عراة { لا يسأل حميم حميما } لانشغال كل بنفسه كما قال تعالى { لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } عن السؤال عن غيره أو عن سؤال غيره وقوله تعالى { يبصرونهم } اي عدم سؤال بعضهم بعضا ليس ناتجا عن عدم معرفتهم لبعضهم بعضاً لا بل يبصرهم ربهم بهم فيعرف كل قريب قريبه ولكن اشتغاله بنفسه يحول دجون سؤال غيره ، ويشرح هذا لمعنى قوله تعالى يودّ المجرم أي ذو الاجرام على نفسه بالشرك والمعاصي لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه اي أولاده الذكور ففضلا عن الإِناث وصاحبته أي زوجته وأخيه وفصيلته التي تؤويه بأن تضمنه إلى نسبها والفصيلة العشيرة انفصلت من القبيلة ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه لنتصرو عذابا يود المجرم من خوفه منه أن يفتدي بكل شيء في الأرض كيف يكون؟ ومن هنا يرى القريب قريبه ولا يسأله عن حاله لانشغال نفسه عن نفس غيره .
(4/307)
________________________________________
وقوله تعالى { كلا } أي لا قرابة يومئذ تنفع ولا فداء يقبل { إنها } أي جهنم { لظى نزاعة لشوى } أي لجلدة الراس ولكل عضو غير قاتل للإِنسان إذا نزع منه . تدعو أي جهنم المسماة لظى تدعو تنادي إليّ يا من ادبر عن طاعة الله ورسوله وتركها ظهره فلم يلتفت إليها وتولى عن الإِيمان فلم يطلبه تكميلا له ليصبح إيمانا يحمله على الطاعات وجمع الأموال فأوعاها في أوعية ولم يؤد منها الحقوق الواجبة فيها من زكاة وغيرها إذ في المال حق غير الزكاة .
ومن دعته جهنم دفع إليها دفعاً كما قال تعالى { يوم يُدَعُّون إلى نار جهنم دعا } نعوذ بالله من جهنم وموجباتها من الشرك والمعاصي .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- حرمة سؤال العذاب فإِن عذاب الله لا يطاق ولكن تسأل الرحمة والعافية .
2- وجوب الصبر على الطاعة وعلى البلاء فلا تسخّط ولا تجزع .
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
4- عظم هول الموقف يوم القيامة وصعوبة الحال .
5- التنديد بالمعرضين عن طاعة الله ورسوله الجامعين للأموال المشتغلين بها حتى سلبتهم الإِيمان والعياذ بالله فأصبحوا يشكُّون في الله وآياته ولقائه .
(4/308)
________________________________________
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
شرح الكلمات :
{ إن الإنسان خلق هلوعا } : أي إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعا أي كثير الجزع سريعه وكثير المنع حريصا عليه .
{ على صلاتهم دائمون } : أي لا يقطعونهات أبداً ما داموا أحياء يعقلون .
{ حق معلوم } : أي نصيب معيّن عينه الشارع وهو الزكاة .
{ للسائل والمحروم } : أي الطالب الصدقة والذي لا يطلبها حياء وتعففا .
{ يصدقون بيوم الدين } : أي يؤمنون بيوم القيامة للبعث والجزاء .
{ مشفقون } : أي خائفون متوقعون العذاب عند المعصية .
{ لفروجهم حافظون } : أي صائنون لها عن النظر إليها وعن الفاحشة .
{ أو ما ملكت أيمانهم } : أي من السُّريات من الجواري التي يملكونها .
{ فأولئك هم العادون } : أي المعتدون الظالمون المتجاوزون الحلال إلى الحرام .
{ لأماناتهم } : أي ما ائتمنوا عليه من أمور الدين والدنيا .
{ راعون } : أي حافظون غير مفرطين .
{ قائمون } : اي يقيمون شهاداتهم لا يكتمونها ولا يحرفونها .
{ يحافظون } : أي يؤدونها في أوقاتها في جماعات مع كامل الشروط والأركان والواجبات والسنن .
معنى الآيات :
قوله تعالى إن الإِنسان أي هذا الآدمي المنتصب القامة الضاحك الذي سمي بالإِنسان لأنسه بنفسه ورؤية محاسنها ولنسيانه واجب شكر ربّه هذا الإِنسان خلق هلوعاً قابلا لوصف الهلع فيه عند بلوغه سن التمييز والهلع مرض نفسي عرضه الذي يُعرَف به جزعه الشديد متى مسه الشر ، ومنعه القوي للخير متى مسه وظفر به . فقد فسر تعالى الهلع بقوله ، { إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً } . ثم ذكر تعالى ما يعالج به هذا المرض باستثنائه من جنس الإِنسان من يتصفون بالصفات الآتية وهي عبارة عن عبادات شرعية بعضها فعل وبعضها ترك من شأنها القضاء على هذا المرض الخطير المسمى بالهلع والذي لا يعالج إلا بما وصف تعالى في قوله : 1 ) إدامة الصلاة بالمواظبة عليها ليل نهار إذ قال تعالى { إلا المصلين الذي هم على صلاتهم دائمون } وبشرط أن تؤدى غيماناً واحتساباً وأداءً صحيحا بمراعاة شروطها وأركانها وسننها .
2 ) الاعتراف بما أوجب الله في المال من حق وإعطاء ذلك الحق بطيب نفس لمن سأل ولمن لم يسال ممن هم أهل للزكاة والصدقات لقوله { والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم } .
3 ) التصديق الكامل بيوم القيامة وهو البعث والجزاء لقوله تعالى { والذين يصدقون بيوم الدين } .
4 ) الاشفاق والخوف من عذاب الله عند عروض خاطر المعصية بترك واجب أو فعل محرم لقوله تعالى { والذين هم من عذاب ربهم مشفقون } اي دائما وأبداً لأن عذاب ربهم غير مأمون الوقوع .
5 ) حفظ الفرج بستره عن أعين الناس م عدا الزوج وصيانته من فاحشة الزنا واللواط وجلد عميرة أي الاستمناء باليد والمعروف اليوم بالعادة السرية لقوله تعالى { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } من السراري { فإنهم غير ملومين } في إتيانهم أزواجهم وجواريهم اللائي ملكوهنّ بالجهاد أو الشراء الشرعي وقوله تعالى { فمن ابتغى } أي طلب ما وراء الزوجة والسريّة { فأولئك هم العادون } اي الظالمون الذين تجاوزوا الحلال إلى الحرام فكانوا بذلك معتدين ظالمين .
(4/309)
________________________________________
6 ) حفظ الأمانات والعهود ومن أبرز الأمانات وأقوى العهود ما التزم به العبد من عبادة الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله والوفاء بذلك حتى الموت زيادة على أمانات الناس والعهود لهم الكل واجب الحفظ والرعاية لقوله { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } أي حافظون .
7 ) إقامة الشهادة بالاعتدال فيها بحيث يؤذيها ولا يكتمها ويؤديها قائمة لا اعوجاج فيها لقوله تعالى { والذين هم بشهاداتهم قائمون } .
8 ) المحافظة على الصلوات الخمس مستوفاة الشروط والركان من الخشوع إلى الطمأنينة في الركوع والسجود والاعتدال في القيامة لقوله تعالى { والذين هم على صلاتهم يحافظون } بعد أدائها وعدم قطعها بحال من الأحوال .
فهذه الوصفة الربانية متى استعملها الإِنسان المؤمن تحت إشراف عالم ربّاني إن وجده وإلاّ فتطبيقها بدون إشراف ينفع بإِذن الله متى اجتهد المؤمن في حسن تطبيقها برئ من ذلك المرض الخطير واصبح أهلا لإِكرام الله تعالى في الدار الآخرة قال تعالى في ختام هذه الوصفة { أولئك في جنّات مكرمون } أي أولئك المطبقون لهذه الوصفة الناجحون فيها { في جنّات مكرمون } في جوار ربهم اللهم اجعلنا منهم يا غفور يا رحيم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بين شر صفات الإِنسان وانها الهلع .
2- بيان الدزاء لهذا الداء داء الهلع الذي لا فلاح معه ولا نجاح .
3- انحصار العلاج في ثماني صفات أو ثماني مركبات دوائية .
4- وجوب العمل بما اشتملت عليه الوصفة من واجبات .
5- حرمة ما اشتملت عليه الوصفة من محرمات .
(4/310)
________________________________________
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
شرح الكلمات :
{ قبلك مهطعين } : أي نحوك مديمي النظر إليك .
{ عزين } : أي جماعات حلقا حلقا يقولون في استهزاء بالمؤمنين لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلها قبلهم .
{ إنا خلقناهم مما يعلمون } : أي من منيّ قذر وإنما يستوجب دخول الجنة بالطاعات المزكية للنفوس .
{ على أن نبدل خيرا منهم } : أي إنا لقادرون على أن نهلكهم ونأتي بأناسٍ خير منهم .
{ وما نحن بمسبوقين } : أي بعاجزين على إيجاد ما ذكرنا من اهلاك القوم والإِتيان بخير منهم .
{ يوم يخرجون من الأجداث } : أي من القبور مسرعين إلى المحشر .
{ سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون } : أي كأنهم في إسراعهم إلى المحشر إلى نصب أي شيء منصوب كراية أو علم يسرعون .
{ ترهقهم ذلة } : أي تغشاهم ذلة .
{ ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون } : أي يوعدون بالعذاب فيه وهو يوم القيامة؟
معنى الآيات :
قوله تعالى فما للذين كفروا قبلك مهطعين يخبر تعالى مقبحا سلوك المشركين إزاء رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول ما للذين كفروا من كفار مكة قبلك أي جهتك حيث كنت في المسجد الحرام مهطعين أو مسرعين مديمي النظر إليك عن اليمين وعن الشمال عزين أي عن يمينك وعن شمالك عزين جمع عزة أي جماعة فهم حلق حلق يستمعون إلى قراءتك بحثا عن كلمة يمكنهم أن يشنعوا بها عليك ويجعلونها مطعنا في دعوتك أي سخرية يسخرون بها وبك ويقولون استهزاء بالمؤمنين لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلنها قبلهم فرد تعالى عليهم منكرا طمعهم الفارغ بقوله { ايطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم } اي بستان إكرام وتنعم كلا لن يتم هذا لهم ولن يكون وهم أنجاس الأرواح بالشرك والمعاصي ، ولفت النظر إلى أصل الخلقة وهي المنيّ القذر والقذر لا يدخل دار السلام فمن اراد الجنة فليزك نفسه وليطهرها بالإِيمان والعمل الصالح مبعداً لها عما يُدَسّيها من الشرك والمعاصي وهو ما تضمنه قوله تعالى { إنا خلقناهم مما يعلمون } وقوله عز وجل { فلا أقسم بربّ المشارق والمغارب } أي فلا الأمر كما يتصورون من أنهم لا يبعثون بعد موتهم أقسم برب المشارق الثلاثمائة والستين مشرقا ومغربا حيث الشمس تطلع كل يوم في مطلع وتغرب في آخر لا تعود إليه إلاَّ بعد سنة في مثل ذلك اليوم فأقسم تعالى بنفسه ، والمقسم عليه قوله { إنَّا لقادرون } أي على أن نهلكهم ونأتي بخير منهم { وما نحن بمسبوقين } اي عاجزين عن ذلك فكيف إذاً لا نعيدهم أحياء بعد موتهم يوم القيامة { فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون } اي أمر تعالى رسوله أن يتركهم وما يخوضون فيه من اللهو واللعب والباطل في القول والعمل ، وهو تهديد خفي لهم { حتى يلاقوا } على ما هم عليه من أدران الشرك وأوضار المعاصي يومهم الذي يوعدون بالعذاب فيه وهو يوم القيامة وشرح حال اليوم فقال يوم يخردون من الأجداث اي القبور جمع جدث سراعاً اي مسرعين كأنهم إلى نصب اي شيء منصوب من راية أو علم أو تذكار يوفضون أي يحشرون مسرعين حال كون أبصارهم خاشعة اي ذليلة من الفزع والخوف ترهقهم ذلة اي تغشاهم ذلة عجيبة عظيمة .
(4/311)
________________________________________
وقوله تعالى { ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون } أي هذا هو اليوم الذي كانوا يوعدون بالعذاب فيه وهو يوم القيامة الذي أنكروه وكذبوا به ها هو ذا قد حصل فليتجرعوا غصص الندم وألوان العذاب .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان الحال التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة بين ظهراني قريش وما كان يلاقي من اذاهم .
2- بيان أن الجنة تدخل بالطهارة الروحية من قذر الشرك والمعاصي وإلاّ فأصل الناس واحد المنيّ القذر باستثناء آدم وحواء وعيسى فآدم أصله الطين وحواء خلقت من ضلع آدم ، وعيسى كان بنفخ روح القدس في كم درع مريم فكان بكلمة الله تعالى ومن عدا الثلاثة فمن كاء مهين ونطفة قذرة .
3- الاستدلال بالنشأة الأولى على إمكان الثانية .
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
5- بيان أن حياة أهل الكفر مهما تراءى لهم ولغيرهم أنها حياة مدنية سعيدة لم تَعد كونها باطلا ولهوا ولعباً .
(4/312)
________________________________________
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
شرح الكلمات :
{ إنا أرسلنا نوحا إلى قومه } : أي أهل الأرض كافة والدليل إغراقهم أجمعين .
{ أن أنذر قومك } : أي بإِنذار قومك .
{ إني لكم نذير مبين } : أي بين النذارة ظاهرها .
{ أن اعبدوا الله } : أي وحده بفعل محابه وترك مكارهه ولا تشركوا به شيئا .
{ واتقوه } : فلا تعصوه بترك عبادته ولا بالشرك به .
{ وأطيعون } : فيما آمركم به وأنهاكم عنه لأني مبلغ عن الله ربي وربكم .
{ يغفر لكم من ذنوبكم } : أي ذنوبكم التي هي الشرك والمعاصي فمن زائدة لتقوية الكلام أو هي تبعيضية لأن ما كان حقا لآدمي كمال وعرض لا يغفر إلا بالتوبة .
{ ويؤخركم إلى أجل مسمى } : أي إلى نهاية آجالكم المسماة لكم في كتاب المقادير فلا يعجل لكم بالعذاب .
{ إن أجل الله } : أي بعذابكم .
{ لا يؤخر } : إن لم تؤمنوا .
{ لو كنتم تعلمون } : أي لآمنتم .
معنى الآيات :
قوله تعالى { إنا أرسلنا نوحا إلى قومه } يخبر تعالى لافتاً نظر منكري رسالة نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم من مشركي قريش وكفار مكة أن محمداً رسول الله بأول رسول تنكر رسالته ، كما أن السورة بجملتها فيها تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما يلاقي من مشركي قومه إذ نوح عليه السلام قد لاقى ما هو اشد وأطول مدة والآيات ناطقة بذلك وقوله تعالى { أن انذر قومك } أي أرسلناه بإ~نذار قومه من قبل أن يأتيهم عذاب أليم هو عذاب الدنيا بالاستئصال وعذاب الآخرة بالاستمرار والدوام . وقوله تعالى { قال يا قوم إني لكم نذير مبين } أي امتثل نوح أمر ربه وقال لقومه يا قوم أني لكم نذير مبين اي مخوف من عواقب كفركم بالله وشرككم به . { أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } اعبدوه حده ولا تشركوا به شيئا واتقوه فلا تعصوه بترك عبادته ولا بالشرك به ، وأطيعون فيما آمركم به وأنهاكم عنه لأني مبلغ عن الله ربي وربكم ولا آمركم إلا بما يكملكم ويسعدكم ولا أنهاكم إلا عما يضركم ولا بسركم فإِن تجيبوا لما دعوتكم إليه يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم غلى أجل مسمى أي إلى نهاية آجالكم فلا يعاجلكم بالعقوبة { إن أجل الله } اي بعذابكم إذا جاء لا يؤخر { لو كنتم تعلمون } أي لو علمتم ذلك لأنبتم إلى ربكم فتبتم إليه واستغفر تمره .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير النبوة المحمدية إذ الذي أرسل نوحاً يرسل محمداً صلى الله عليه وسلم ومن شاء إلى من شاء .
2- تقرير التوحيد إذ نوح أرسل إلى قوم مشركين لإِبطال الشرك وتحقيق التوحيد .
3- تقرير معتقد القضاء والقدر لقوله { ويؤخركم إلى أجل مسمى } أي في كتاب المقادير .
(4/313)
________________________________________
قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
شرح الكلمات :
{ ليلا ونهارا } : أي دائما باستمرار .
{ إلا فرارا } : أي منّي ومن الحق الذي أدعوهم إليه وهو عبادة الله وحده .
{ جعلوا أصابعهم في آذانهم } : أي حتى لا يسمعوا ما أقول لهم .
{ واستثنوا ثيابهم } : أي تغطوا بها حتى لا ينظروا إليّ ولا يروني .
{ وأصروا } : على باطلهم وما هم عليه من الشرك .
{ يرسل السماء عليكم مدرارا } : أي ينزل عليكم المطر متتابعا كلما دعت الحاجة إليه .
{ ويجعل لكم جنات } : أي بساتين .
{ مالكم لا ترجون لله وقارا } : أي لا تخافون لله عظمته وكبرياءه وهو القاهر فوق عباده .
{ وقد خلقكم أطوارا } : أي حالا بعد حال فطورا نطفة وطورا علقة وطورا مضغة .
{ وجعل الشمس سراجا } : أي مضيئة .
{ أنبتكم من الأرض نباتا } : أي أنشأكم من تراب الأرض .
{ ثم يعيدكم فيها } : أي تقبرون فيها .
{ ويخرجكم منها إخراجا } : أي يوم القيامة .
{ سبلا فجاجا } : أي طرقا واسعة .
معنى الآيات :
هذه الآيات تضمنت لوحة مشرقة يهتدي بضوئها الهداة الدعاة إلى الله عز وجل إذ هي تمثل عرض حال قدمه نوح لربه عز وجل هو خلاصة دعوة دامت قرابة تسعمائة وخمسين سنة ولنصغ إلى نوح عليه السلام وهو يشكوا إلى ربّه ويعرض عليه ما قام به من دعوة إليه فقال { رب إني دعوت قومي } وهم أهل الأرض كلهم يومئذ { ليلا ونهارا } أي باليل وبالنهار إذ بعض الناس لا يمكنه الاتصال بهم إلا ليلا { فلم يزدهم دعائي } إياهم إلى الإِيمان بك وعبادتك وحدك { إلا فرارا } مني ومما أدعوهم إليه وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم بأن يستغفروك ويتوبوا إليك لتغفر لهم { جعلوا أصابعهم في آذانهم } حتى لا يسمعوا ما أقول لهم ، { واستغشوا ثيابهم } أي تغطوا بها حتى لا يروني ولا ينظروا إلى وجهي كراهة لي وبغضا فيّ { وأصروا } على الشرك والكفر إصراراً متزايداً عنادا { واستكبروا استكبارا } عجيباً .
{ ثم إني دعوتهم } إلى توحيدك في عبادتك وإلى ترك الشرك فيها { جهارا } أي مجاهرا بذلك { ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا } بحسب الجماعات والظروف أطرق كل باب بحثا عن استجابتهم للدعوة وقبولهم للهدى فقلت { استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا } أي ينزل عليكم المطر متتابعاً فلا يكون قحط ولا محل { ويمددكم بأموال وبنين } كما هي رغبتكم { ويجعل لكم جنات } بساتين ذات نخيل وأعناب { ويجعل لكم أنهاراً } تجري في تلك البساتين تسقيها . ثم التفت إليهم وقال لهم منكرا عليهم استهتارهم وعدم خوفهم { ما لكم لا ترجون لله وقارا } أي ما دهاكم أي شيء جعلكم لا ترجون لله وقارا لا تخافون عظمته وقدرته وكبرياءه { وقد خلقكم أطوارا } ولفت نظرهم إلى مظاهر قدرة الله تعالى فقال لهم { ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا } سماء فوق سماء مطابقة لها { وجعل القمر فيهن نورا } ينير ما فوقه من السموات وما تحته من الأرض { وجعل الشمس سراجاً } وهاجا مضيئا يضيء بوجهه السموات وبقفاه الأرض كالقمر { والله أنبتكم من الأرض نباتا } إذ أصلكم من تراب والنطف أيضا ، الغذاء المكون من التراب ثم خلقتكم تشبه النبات وهي على نظامه في الحياة والنماء .
(4/314)
________________________________________
{ ثم يعيدكم فيها } أي في الأرض بعد الموت فتدفنون فيها { ويخرجكم منها } أيضا { إخراجا } يوم القيامة للحساب والجزاء { والله جعل لكم الأرض بساطا } أي مفروشة مبسوطة صالحة للعيش فيها والحياة عليها ، { لتسلكوا منها سبلا فجاجا } أي طرقا واسعة وهكذا تجول بهم نوح عليه السلام في معارض آيات الله الكونية وكلها دالة على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته وهي موجبة للعبادة له عقلا ونفيها عما سواه كانت هذه مشكلة نوح وعرض حاله على ربّه وهو أعلم به وفي هذا درس عظيم للدعاة الهداة المهدين جعلنا الله منهم آمين .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- رسم الطريق الصحيح للدعوة القائم على الصبر وتلوين الأسلوب .
2- بيان كره المشركين للتوحيد والموحدين أنهم لبغضهم لنوح ودعوة التوحيد سدوا آذانهم حتى لا يسمعوا وغطوا وجوههم حتى لا يروه واستكبروا حتى لا يروا له فضلا .
3- استعمال الحكمة في الدعوة فإِن نوحاً لما رأى أن قومه يحبون الدنيا أرشدهم إلى الاستغفار ليحصل لهم المال والولد .
4- استنبط بعض الصالحين من هذه الآية أن من كانت له رغبة في مال أو ولد فليكثر من الاتسغفار الليل والنهار ولا يمل يعطه الله تعالى مراده من المال والولد .
(4/315)
________________________________________
قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)
شرح الكلمات :
{ عصوني } : أي لم يطيعوني فيما دعوتهم إليه وأمرتهم به من عبادتك وحدك وترك اشرك بك .
{ واتبعوا } : أي السفلة منهم والفقراء .
{ من لم يزده ماله وولده } : أي الرؤساء المنعم عليهم .
{ إلا خساراً } : أي طغيانا وكفرا .
{ مكرا كبارا } : أي عظيما جدا بأن كذبوا نوحاً وآذوه أذى شديدا .
{ وقالوا } : أي الرؤساء قالوا للسفلة منهم .
{ لا تذرن آلهتكم } : أي لا تتركن آلهتكم .
{ ولا تذرن } : أي ولا تتركن كذلك ودا ولا سواعا ولا يغوث ولا يعوق ونسرا .
{ وقد أضلوا } : أي بالأصنام كثيرا من الناس حيث أمروا بعبادتها .
معنى الآيات :
بعد ذلك العرض الكريم الذي تقدم به رسول الله نوح عليه السلام إلى ربه ليعذره ويكرمه تقدم بشكوى مشفوعة بالدعاء بالهلاك على الظالمين { فقال ربّ انهم عصوني واتبعوا من لم يزده مال وولده إلا خسارا } أي طغيانا وكفرا . { ومكروا مكرا كبارا } أي عظيما جدا حيث كانوا يعرضون بنوح وقد يضربونه وهو صابر محتسب وقالوا لبعضهم البعض متواصين بالباطل { لا تذرن آلهتكم } وسموا منها رؤساءهم وهم خمسة ود وسواع ويغوث ويعوق ونسرٌ وقد أضلوا كثيرا أي من عباد الله حيث ورثوا هذه الصنام فيهم فتبعهم الناس على ذلك فضلوا ثم دعا عليهم قائلا { ولا تزد الظالمين إلا ضلالا } قال هذا بعد أن أيس من غيمانهم وعدم هدايتهم لطول ما مكث بينهم يدعوهم وهم لا يزدادون إلا كفرا وضلالا .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- مشروعية الشكوى إلى الله تعالى ولكن بدون صخب ولا نصب .
2- بيان أن السفلة والفقراء يتبعون الرؤساء والأغنياء وأصحاب الحظ .
3- بيان أن المكر من شأن الكافرين والظالمين .
4- بيان أن المشركين لضلالهم يطلقون لفظ الآلهة على من يعبدونهم من الأصنام والأوثان .
5- مشروعية الدعاء على الظالمين عند اليأس من هدايتهم .
(4/316)
________________________________________
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
شرح الكلمات :
{ مما خطيئاتهم أغرقوا } : أي بسبب خطيئاتهم أغرقوا بالطوفان .
{ فأدخلوا نارا } : أي بعد موتهم أدخلت أرواحهم النار .
{ ديارا } : أي من يدور يذهب ويجيء اي لم يبق أحد .
{ إن تذرهم } : أي أحياء لم تهلكهم .
{ إلا تبارا } : أي هلاكا وخسارا .
معنى الآيات :
قوله تعالى { مما خطيئاتهم أغرقوا } يخبر تعالى عن نهاية قوم نوح بعد أن دعا عليهم نوح لما علم بالوحي الإِلهي أنهم لا يؤمنون فقال تعالى مما خطيئاتهم أي ومن خطيئاتهم أي بسبب خطيئاتهم التي هي الشرك والظلم والتكذيب والأذى لنوح عليه السلام أغرقوا بالطوفان فلم يبق منهم أحد { فأدخلوا نارا } اي بمجرد ما يغرق الشخص وتخرج روحه يُدخل النار في البرزخ . وقوله تعالى { فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا } وهو كذلك فمن ينصر من يريد هلاكه وخزيه وعذابه . ثم ذكر تعالى دعوة نوح التي كان الطوفان بها والهلاك وهي قوله { ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } أي لا تترك ولا تبق على الأرض اليابسة كلها يومئذ من الكافرين بخلاف المؤمنين { دياراً } أي إنساناً يدور أي يذهب ويجيء أي لا تبق من الكافرين أحداً ثم علل لطلبه الهلاك للكافرين فقال { إنك أن تذرهم يضلوا عبادك } عن صراطك الموصل إلى رضاك وذلك هو عبادتك وحدك وطاعتك وطاعة رسولك { ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً } اي غلا من يفجر عن دينك ويكفر بك وبرسولك قال نوح هذا لطول التجارب التي عاشها مع قومه إذ عاشرهم قرابة عشرة قرون ثم دعا الله تعالى له ولوالديه ولمن دخل مسجده ومصلاه من المؤمنين والمؤمنات ، وأن لا يزيد الظالمين إلا خسارا وهلاكاً فقال { ربّ اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا } .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- هلاك قوم نوح كان بخطاياهم فالخطايا إذاً موجبة للهلاك .
2- تقرير عذاب القبر فقوم نوح ما إن أغرقوا حتى ادخلوا نارا .
3- مشروعية الدعاء على الظلمة والكافرين والمجرمين .
4- مشروعية الدعاء للمؤمنين والمؤمنات .
5- يستحب البدء في الدعاء بنفس الداعي ثم يعطف من يدعو لهم .
(4/317)
________________________________________
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)
شرح الكلمات :
{ أنه استمع } : أي إلى قراءتي .
{ نفر من الجن } : أي عدد من الجن ما بين الثلاثة والعشرة .
{ قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا } : أي لبعضهم قرآنا عجبا أي يتعجب منه لفصاحته وغزارة معانيه .
{ يهدي إلى الرشد } : أي الصواب في المعتقد والقول والعمل .
{ وأنه تعالى جد ربنا } : أي تنزه جلال ربنا وعظمته عما نسب إليه .
{ ما اتخذ صاحبة ولا ولدا } : أي لم يتخذ صاحبة ولم يكن له ولد .
{ سفيهنا } : أي جاهلنا .
{ شططا } : أي غلوا في الكذب بوصفه الله تعالى بالصاحبة والولد .
{ على الله كذبا } : حتى تبين لنا أنهم يكذبون على الله بنسبة الزوجة والولد إليه .
{ يعوذون } : أي يستعيذون .
{ فزادوهم رهقا } : أي إثما وطغيانا .
{ أن لن يبعث الله أحدا } : أي لن يبعث رسولا إلى خلقه .
معنى الآيات : قوله تعالى { قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن } يأمر تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول معلنا للناس مؤمنهم وكافرهم أنه قد أوحى الله تعالى إليه نبأ مفاده أن نفرا من الجن ما بين الثلاثة إلى العشرة قد استمعوا إلى قراءته القرآن وذلك ببطن نخلة والرسول يصلي بأصحابه صلاة الفجر وكان الرسول صلى الله عليه وسلم عامدا مع أصحابه إلى سوق عكاظ . وكان يومئذ قد حيل بين الشياطين وخبر السماء حيث أرسلت عليهم الشهب فراجع الشياطين بعضهم بعضا فانتهوا إلى أن شيئا حدث لا محالة فانطلقوا يضربون في مشارق الأرض ومغاربها يتعرفون إلى هذا الحدث الجلل الذي مُنِعت الشياطين بسببه من السماء فتوجه نفر منهم إلى تهامة فوجدوا الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح بأصحابه فاستمعوا إلى قراءته في صلاته فرجعوا إلى قومهم من الجن فقالوا { إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا } فأنزل الله تعالى هذه السورة « سورة الجن » مفتتحة بقوله { قل أوحي إلى أنه استمع نفر من الجن } أي أعلن للناس يا رسولنا أن الله قد أوحى إليك خبرا مفاده أن نفرا من الجن قد استمعوا إلى قراءتك فرجعوا إلى قومهم وقالوا لهم { إنا سمعنا قرآنا عجبا } أي يتعجب من فصاحته وغزارة معانيه . يهدي إلى الرشد والصواب في العقيدة والقول والعمل { فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا } وفي هذا تعريض بسخف البشر الذين عاش الرسول بينهم إحدى عشرة سنة يقرأ عليهم القرآن بمكة وهم مكذبون به كارهون له مصرون على الشرك والجن بمجرد أن سمعوه آمنوا به وحملوا رسالته إلى قومهم وها هم يدعون بدعاة الاسلام ويقولون { فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا وأنه تعالى جد ربنا } اي وآمنا بأنه تعالى أمر ربنا وسلطانه ما اتخذ صاحبة ولا ولدا وحاشاه وإنما نسب إليه ذلك المفترون . { وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا } هذا من قول الجن واصلوا حديثهم قائلين وأنه كان يقول جاهلونا على الله شططا أي غلوا في الكذب بوصفهم الله تعالى بالصاحبة والولد تقليدا للمشركين واليهود والنصارى { وأنا ظننا أن لن تقول الإِنس والجن على الله كذبا } أي وقالوا لقومهم وإنا كنا نظن أن الإِنس والجن لا يكذبون على الله ولا يقولون عليه إلا الصدق وقد علمنا الآن انهم يكذبون على الله ويقولون عليه ما لم يقله وينسبون إليه ما هو منه براء .
(4/318)
________________________________________
وقالوا { وأنه كان رجال من الإِنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا } يخبرون بخبر عجيب وهو أنه كان رجال من الناس من العرب وغيرهم إذا نزلوا منزلا مخوفا في واد وشعب يستعيذون برجال من الجن كأن يقول الرجل أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه فزاد الإِنس الجن بهذا اللجأ إليهم والاحتماء بهم رهقا أي إثما وطغيانا . إذ ما كانوا يطمعون أن الإِنس تعظمهم هذا التعظيم حتى تستجير بهم . وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا أي وقالوا مخبرين قومهم وأنهم أي الإِنس ظنوا كما ظننتم أنتم أيها الجن أن لن يبعث الله أحدا رسولا ينذر الناس عذاب الله ويعلمهم ما يكلمهم ويسعدهم في الدنيا والآخرة .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير النبوة المحمدية وأن محمدا رسول للثقلين الإِنس والجن معاً .
2- بيان علو شأن القرآن وكماله حيث شهدت الجن له بأنه عجب فوق مستوى كلام الخلق .
3- تقرير التوحيد والتنديد بالشرك .
4- تقرير أن الإِنس كالجن قد يكذبون على الله وما كان لهم ذلك .
5- حرمة الاستعانة بالجن والاستعاذة بهم لأن ذلك كالعبادة لهم .
(4/319)
________________________________________
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)
شرح الكلمات :
{ وأنا لمسنا السماء } : أي طلبنا خبرها كما جرت بذلك عادتنا .
{ حرساً شديداً } : أي حراسا وحفظة من الملائكة يحفظونها بشدة وقوة .
{ وشهباً } : أي نجوما يرمى بها الشياطين أو يؤخذ منها شهاب فيرمى به .
{ مقاعد للسمع } : أي من أجل أن نسمع ما يحدث وما يكون في الكون .
{ شهابا رصداً } : أي أرصد وأعد لرمي الشياطين وإبعادهم عن السمع .
{ رشدا } : أي خيراً وصلاحاً .
{ كنا طرائق قددا } : أي مذاهب مختلفة إذا الطرائق جمع طريقة ، والقدد جمع قدة وهي الضروب والأجناس المختلفة .
{ ولن نعجزه هربا } : أي لانفوته هاربين في الأرض أو في السماء .
{ لما سمعنا الهدى } : أي القرآن الداعي غلى الهدى المخالف للضلال .
{ بخسا ولا رهقا } : أي نقصا من حسناته ولا إثماً يحال عليه ويحاسب به .
{ ومنا القاسطون } : أي الجائرون عن قصد السبيل وهو الإِسلام .
{ تحروا رشدا } : أي تعمدوا الرشد فطلبوه بعناية فحصلوا عليه .
{ فكانوا لجهنم حطبا } : أي وقوداً تتقد بهم يوم القيامة .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في ما قالته الجن بعد سماعها القرآن الكريم . وهو ما أخبر تعالى به عنهم في قوله { وانّا لمسنا السماء } اي طلبناها كعادتنا { فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهبا } أي ملائكة أقوياء يحرسونها وشهبا نارية يرمى بها كل مسترق للسمع منا . وقالوا : { وأنا كنا نقعد منها } أي من السماء { مقاعد } اي أماكن معينة لهم { للسمع } أي لأجل الاستماع من ملائكة السماء . { فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً } أي أرصد له خاصة فيرمى به فيحرقه أو يخبله ، وقالوا { وأنا لا ندري أشرٌ أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا } اقول عجبا لهؤلاء المؤمنين من الجن كيف تأدبّوا مع الله فلم ينسبوا إليه الشر ونسبوا إليه الخير فقالوا { اشر اريد بمن في الأرض } ولو اساءوا الأدب مثلنا لقالوا اشر أراده الله بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا أي خيرا وصلاحا قالوا هذا لما وجدوا السماء قد ملئت حرسا شديدا وشهبا وهو تفكير سديد ناتج عن وعي وإدراك سليم . وهذا التغير في السماء الذي وجدوه سببه أن الله تعالى لما نبأ رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم وأخذ يوحي إليه حمى السماء حتى لا يسترق الشياطين السمع ويشوشوا على الناس فيصرفوهم عن الإِيمان والدخول في الإِسلام وهو الرشد الذي أراد الله لعباده وقالوا { وإنا منا الصالحون } اي المؤمنون المستقيمون على الإِيمان والطاعة { ومنَّا دون ذلك } ضعف إيمان وقلة طاعة ، { كنَّا طرائق قددا } اي مذاهب وأهواء مختلفة . { وإنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض } أي إن أراد بنا سوءا ومكروها ولن نعجزه هربا إن طلبنا في الأرض أو في السماء . { وإنا لما سمعنا الهدى آمنا به } اي بالقرآن الذي هو هدى لله يهدي به من يشاء من عباده { فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا } أي نقصا من حسناته يوم القيامة { ولا رهقا } أي إثما يضاف إلى سيئاته ويعاقب به وهو لم يرتكبه في الدنيا .
(4/320)
________________________________________
وقالوا { وإنا منَّا المسلمون ومنَّا القاسطون } اي الجائرون عن قصد السبيل وهو الإِسلام . فمن اسلم أي انقاد لله تعالى بطاعته وخلص من الشرك به فهؤلاء تحروا الرشد وفازوا به ، { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا } توقد بهم وتستعر عليهم وعلى الكافرين الجائرين أمثالهم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- وجود تجانس بين الجن والملائكة لقرب مادّتي الخلق من بعضها إذ الملائكة خلقوا من مادة النور ، والجن من مادة النار ، ولذا يرونهم ويسمعون كلامهم ويفهمونه .
2- من الجن أدباء صالحون مؤمنون مسلمون اصحاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
3- ذم الطرق والأهواء والاختلافات .
4- الاشادة بالعدل وتحري الحق والخير .
(4/321)
________________________________________
وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)
شرح الكلمات :
{ على الطريقة } : أي الإِسلام .
{ ماء غدقا } : أي مالا كثيرا وخيرات كبيرة .
{ لنفتنهم فيه } : أي نختبرهم أيشكرون أم يكفرون .
{ عن ذكر ربه } : أي القرآن وشرائعه وأحكامه .
{ عذابا صعدا } : أي شاقا .
{ فلا تدعوا } : أي فيها مع الله أحدا .
{ عبد الله يدعوه } : أي محمد صلى الله عليه وسلم يدعو الله ببطن نخلة .
{ عليه لبدا } : أي في ركوب بعضهم بعضا تزاحما لأجل أن يسمعوا قراءته .
{ ضرا ولا رشدا } : أي غيا ولا خيرا .
{ ملتحدا } : أي ملتجأ ألجأ إليه فأحفظ نفسي .
{ أي بلاغا } : أي لا أملك إلا البلاغ إليكم .
{ وأقل عددا } : أي أعوانا المسلمون أم الكافرون .
معنى الآيات :
قوله تعالى { وأن لو استقاموا على الطريقة } أي وأوحى إليّ أن لو استقام هؤلاء المشركون من كفار قريش استقاموا على الإِيمان والتوحيد والطاعة لله ولرسوله - وهم يشكون القحط - { لأسقيناهم ماء غدقا } فتكثر أموالهم وتتسع أرزاقهم ، { لنفتنهم فيه } اي لنختبرهم في ذلك الخير الكثير أيشكرون أم يكفرون؟ ثم إن شكروا زادهم ، وإن كفروا سلبهم وعذبهم . وقوله تعالى { ومن يعرض عن ذكر ربّه } اي القرآن وما يدعو إليه من الإِيمان وصالح الأعمال ولم يتخلَّ عن الشرك وسوء الأفعال { نسلكه عذابا صعدا } أي نُدخله في عذاب شاق في الدنيا بالذل والمهانة والفقر والرذالة والنذالة . وفي الآخرة في جهنم حيث السموم والحميم ، والضريع والزقوم . وقوله { وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً } أي ومما أوحي إليّ أن المساجد لله فإِذا دخلتموها للعبادة فلا تدعو فيها مع الله أحدا إذ كيف البيت له وأنت فيه وتدعو معه غيره زيادة على أن الشرك محرم وصاحبه في النار فإِنه من غير الأدب أن يكون المرء في بيت كريم ويدعو معه غيره من فقراء الخلق أو أغنيائهم وقوله { وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا } أي وأوحي إليّ أنّه لما قام عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم يدعو ربّه في الصلاة ببطن نخلة كاد الجن أن يكونوا عليه لبدا أي كالشيء المتلبد بعضه فوق بعض . وقوله { قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا } هذا إجابة لقريش عندما قالوا له صلى الله عليه وسلم لقد جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا فنحن نجيرك أي نحفظك فأُمر أن يقول لهم إنما أدعو ربي اي أعبده إلهاً واحداً ولا اشرك به أحدا . وأن يقول أيضا إني لا أملك لكم يا معشر قريش الكافرين ضرا ولا رشدا أي ضلالا ولا هداية إنما ذلك الله وحده يضل من يشاء ويهدي من يشاء وأمر أن يقول لهم ايضا إني لن يجيرني من الله أحد إن أنا عصيته وأطعتكم ، ولن أجد من دونه أي من غيره ملتحدا اي ملتجأ التجأ إليه .
(4/322)
________________________________________
وقوله إلا بلاغاً من الله ورسالاته أي لا أملك لكم ضراً ولا رشداً إلا بلاغاً من الله ورسالته فإِني ابلغكم عنه ما أمرني به وأرشدكم إلى ما أرسلني به من الهدى والخير والفوز وقوله { ومن يعص الله ورسوله فإِن له نار جهنم خالدين فيها أبداً } أي يخبر تعالى موعداً أن من يعصي الله بالشرك به وبرسوله بتكذيبه وعدم اتباعه فيما جاء به فإِن له جزاء شركه وعصيانه نار جهنم خالدين فيها أبدا . وقوله { حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من اضعف ناصرا وأقل عددا } أي فإِن استمروا على شركهم وتكذيبهم حتى إذا رأوا ما يوعدون من عذاب يوم القيامة فسيعلمون عندئذ من أضعف ناصراً أي من ناصره ضعيف أو قوي ، ومن أقل عدداً من أعوانه المؤمنون محمد وأصحابه أم هم المشركون المكذبون .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- الاستقامة على منهج الله تعالى القائم على الإِيمان والطاعة لله ورسوله يفضي بسالكه إلى الخير الكثير والسعادة الكاملة في الدنيا والآخرة .
2- المال فتنة وقل من ينجح فيها قال عمر رضي الله عنه أينما يكون الماء يكون المال وأينما يكون المال تكون الفتنة .
3- حرمة دعاء غير الله في المساجد وفي غيرها إلا أنها في المساجد أشد قبحا .
4- الخير والغير والهدى والضلال لا يملكها إلا الله فليطلب ذلك منه لا من غيره .
5- معصية الله والرسول موجبة لعذاب الدنيا والآخرة .
(4/323)
________________________________________
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
شرح الكلمات :
{ قل إن أدري } : أي قل ما أدري .
{ ما توعدون } : أي من العذاب .
{ أمدا } : أي غاية وأجلا لا يعلمه إلا هو .
{ فلا يظهر } : أي لا يطلع .
{ من ارتضى من رسول } : أي فإِنه يطلعه .
{ رصدا } : أي ملائكة يحفظونه حتى يبلغه مع الوحي الذي يبلغه لكافة الناس .
{ ليعلم } : أي الله علم ظهور أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم .
{ أحصى كل شيء عددا } : أي أحصى عدد كل شيء .
معنى الآيات :
قوله تعالى { قل إن أدري } أمر تعالى رسوله أن يقول للمشركين المطالبين بالعذاب استخفافا وعناداً وتكذيباً أمره أن يقول لهم ما أدري أقريب ما وعدكم ربكم به من العذاب بحيث يحل بكم عاجلا أم يجعل له ربي أمدا أي غاية وأجلا بعيدا يعلمه هو ولا يعلمه غيره . عالم الغيب إذ هو عالم الغيب وحده فلا يظهر علي غيبه أي لا يطلع على غيبه أحدا من عباده إلا من ارتضى من رسول اي رضيه أن يبلغ عنه فإِنه يطلعه مع الاحتياط الكافي حتى لا يتسرب الخبر الغيب إلى الناس { فإنه يسلك من بين يديه } الرسول المرتضى ومن خلفه رصداً من الملائكة ثم يطلعه ضمن الوحي الذي يوحي إليه . وذلك ليعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أن الرسل قبله قد بلغت رسالات ربها لما أحاطها تعالى به من العناية حتى انه إذا جاءه الوحي كان معه اربعة ملائكة يحمونه من الشياطين حتى لا يسمعوا خبر السماء فيبلغوا أولياءهم من الإِنس ، فتكون فتنة في النار وقوله { وأحاط } أي الله جل جلاله { بما لديهم } اي بما لدى الملائكة والرسل علما { وأحصى كل شيء عددا } أي وأحصى عدد كل شيء فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- استئثار الله تعالى بعلم الغيب فلا يعلم الغيب إلا الله .
2- قد يطلع الله تعالى من ارتضى أن يطلعه من الرسل على غيب خاص ويتم ذلك بعد حماية كاملة من الشياطين كيلا ينقلوه إلى أوليائهم فيفتنوا به الناس .
3- بيان إحاطة علم الله بكل شيء واحصائه تعالى لكل شيء عدَّا .
(4/324)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)
شرح الكلمات :
{ يا أيها المزمل } : أي المتلفف بثيابه أي النبي صلى الله عليه وسلم .
{ قم الليل } : أي صل .
{ إلا قليلا } : أي نصف الليل .
{ نصفه أو انقص منه قليلا } : أي انقص من النصف إلى الثلث .
{ أو زد عليه } : أي إلى الثلثين فأنت مخير في أيها تفعل تقبل .
{ ورتل القرآن ترتيلا } : أي ترسل في قراءته وبيّنه تبييناً .
{ إنا سنلقي عليك قولا } : أي قرآنا .
{ ثقيلا } : أي محملة ثقيلا العمل به لما يحوى من التكاليف .
{ إن ناشئة الليل } : أي ساعة الليل من صلاة العشاء فما فوق كل ساعة تُسمى ناشئة .
{ هي أشد وطئاً } : أي هي أقوى موافقة السمع للقلب على تفهم القرآن فيها .
{ وأقوم قيلا } : أي أبين قولا وأصوب قراءة من قراءة النهار لسكون الأصوات .
{ واذكر اسم ربك } : أي دم على ذكره ليلا ونهارا على أي وجه من تسبيح وتهليل وتحميد .
{ وتبتل إليه تبتيلا } : أي انقطع إليه في العبادة وفي طلب الحاجة وفي كل ما يهمك .
{ لا إله إلا هو } : أي لا معبود بحق سواه ولا تنبغي العبادة لغيره .
{ فاتخذه وكيلا } : أي فوض جميع أمورك إليه فإِنه يكفيك .
معنى الآيات :
قوله تعالى { يا أيها المزمل } نادى الربّ تبارك وتعالى نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم مذكراً إياه بتلك الساعة السعيدة التي فاجأه فيها الوحي لأول مرة فرجع بها ترجف بوادره فانتهى إلى خديجة وهو يقول زملوني دثروني فالمزمل هو المتزمل أي المتلفف في ثيابه ليقول له قم الليل إلا قليلا أي صل في الليل { نصفه أو انقص منه قليلاً } إلى الثلث { أو زد عليه } أي على النصف إلى الثلثين وامتثل الرسول أمر ربّه فقام مع أصحابه حتى تورمت أقدامهم . ثم خفف الله تعالى عنهم ونزل آخر هذه السورة بالرخصة في ترك القيام الواجب وبقى الندب والاستحباب وقوله تعالى { ورتل القرآن ترتيلا } يرشده ربّه إلى أحسن التلاوة وهي الترسل وعدم السرعة حتى يبيّن الكلمات تبييناً ويترقى القلب في معانيها . وقوله { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا } يخبره ربّه تعالى بأنه سيلقي عليه قولا ثقيلا هو القرآن فإِنه ثقيل مهيب ذو تكاليف العمل بها ثقيل إنها فرائض وواجبات أعلمه ليوطن نفسه على العمل ويهيئها لحمل الشريعة علما وعملا ودعوة . وقوله { إن ناشئة الله هي أشد وطئا وأقوم قيلا } يخبر تعالى مُعلما أن ساعات الليل من بعد صلاة العشاء إلى آخر الليل القيام فيها يجعل السمع يواطيء القلب على فهم معاني القرآن الذي يقرأه المصلي ، وقوله وأقوم قيلا أي أبين قولا وأصوب قراءة من قراءة الصلاة في النهار . وقوله { إن لك في النهار سبحا طويلا } يخبر تعالى رسوله بأن له في النهار أعمالاً تشغله عن قراءة القرآن فلذا أرشده إلى قيام الليل وترتيل القرآن لتفرغه من عمل النهار وقوله { واذكر اسم ربك } أي داوم على ذكره ليلا ونهارا على أي وجه كان الذكر من تسبيح وتحميد وتكبير وتهليل .
(4/325)
________________________________________
وقوله { وتبتل إليه } أي إلى الله { تبتيلا } أي انقطع إليه في العبادة إخلاصا له وفي طلب حوائجك ، وفي كل ما يهمك من أمر دينك ودنياك وقوله { رب المشرق والمغرب } أي هو تعالى ربّ المشرق والمغرب أي مالك المشرقين والمغربين { لا إله إلا هو } فلا تنبغي العبادة إلا له ولا تصح الألوهية إلا له أيضاً وقوله { فاتخذه وكيلا } أي من كل ما يهمك فإِنه يكفيك وهو على كل شيء قدير .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- الندب إلى قيام الليل وأنه دأب الصالحين وطريق المتقربين .
2- الندب إلى ترتيل القرآن وترك العجلة في تلاوته .
3- صلاة الليل أفضل من صلاة النهار لتواطئ السمع والقلب فيها على فهم القرآن .
4- الندب إلى ذكر الله تعالى بأي وجه من صلاة وتسبيح وطلب علم ودعاء وغير ذلك .
(4/326)
________________________________________
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)
شرح الكلمات :
{ واصبر على ما يقولون } : أي على ما يقوله لك كفار مكة من أذى كقولهم شاعر وساحر وكاذب .
{ واهجرهم هجرا جميلا } : أي اتركهم تركا جميلا أي لا عتاب معه .
{ وذرني } : أي اتركني .
{ والمكذبين } : أي صناديد قريش فإِني أكفكهم .
{ أولي النعمة } : أي أهل التنعم والترف .
{ ومهلهم قليلا } : أي انتظرهم قليلا من الزمن حتى يهلكوا ببدر .
{ إن لدينا انكالا } : أي قيودا وهي جمع نِكل وهو اليد من حديد .
{ وطعاما ذا غصة } : أي بغص في الحلق هو الزقوم والضريع .
{ يوم ترجف الأرض } : أي تتزلزل .
{ كثيباً مهيلا } : أي رملا مجتمعا مهيلا اي سائلا بعد اجتماعه .
{ فأخذناه أخذا وبيلا } : أي ثقيلا شديدا غليظا .
{ فكيف تتقون يوما } : أي عذاب يوم يجعل الولدان لشدة هوله شيبا .
{ السماء منفطر به } : أي ذات انفطار وانشقاق أي بسبب هول ذلك اليوم .
{ كان وعده مفعولا } : أي وعده تعالى بمجيء ذلك اليوم كان مفعولا اي كائنا لا محالة .
{ إن هذه تذكرة } : أي ان هذه الآيات المخوفة تذكرة اي عظة للناس .
{ اتخذ إلى ربّه سبيلا } : أي طريقا بالإِيمان والطاعة إلى النجاة من النار ودخول الجنة .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تربية الرسول صلى الله عليه وسلم وامته بأنواع التربية الربانية الخاصة فقال تعالى لرسوله { واصبر على ما يقولون } أي كفار قريش من كلام يؤذونك به كقولهم هو ساحر وشاعر وكاهن ومجنون وما إلى ذلك ، وقوله { واهجرهم هجرا جميلا } يرشد تعالى رسوله إلى هجران كفار قريش وعدم التعرض لهم والهجر الجميل هو الذي لا عتاب معه وقوله { وذرني والمكذبين أولي النعمة } أي اتركني والمكذبين من صناديد قريش أولي النعمة أي النعم والترف { ومهلهم قليلا } أي انظرهم ولا تستعجل فإِني كافيكهم ، ولم يمض إلا زمن يسير حتى هلكوا في بدر على أيدي المؤمنين . وقوله تعالى { إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما } اي عندنا للمكذبين بك في الآخرة أنكالا قيودا من حديد وجحيما أي نارا مستعرة محرقة وعذابا أليما اي موجعا وطعاما هو الزقوم والضريع ذا غصة أي يغصّ في حلق آكله ، وعذابا أليما اي موجعاً وذلك يحصل لأهله وينالهم يوم ترجف الأرض والجبال ، أي تتحرك وتضطرب وكانت الجبال كثيبا اي من الرمل مهيلا سائلا بعد اجتماعه . وقوله تعالى { إنا أرسلنا إليكم } أي يا أهل مكة وكل من ورائها من سائر الناس والجن { رسولا شاهدا عليكم } بما تعملون في الدنيا لتجزوا بها في الآخرة وقوله { كما أرسلنا إلى فرعون رسولا } أي موسى بن عمران عليه السلام { فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا } أي غليظا شديدا . وقوله تعالى مخاطبا الكافرين المكذبين { فكيف تتقون يوما } أي عذاب يوم { يجعل الولدان شيبا } وذلك لهوله وللكرب الذي يقع وحسبه أن السماء منفطر به اي منشقة بسبب أهواله . وذيك يوم يقول الرب تعالى لآدم يا آدم ابعث بعث النار أي خذ من كل ألف من أهل الموقف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار ولم ينج من كل ألف إلا واحد هنا يشتد البلاء ويعظم الكرب .
(4/327)
________________________________________
وقوله { كان وعده مفعولا } اي وعده تعالى بمجيء هذا اليوم كان مفعولا اي كائنا لا محالة وقوله { إن هذه تذكرة } أي إن هذه الآيات المشتملة على ذكر القيامة وأهوالها تذكرة وعظة وعبرة { لمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا } فليتخذها وهي الإِيمان والعمل الصالح بعد التخلي عن الشرك والمعاصي .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- وجوب الصبر على الطاعة وعن المعصيّة .
2- الهجر الجميل هو الذي لا عتاب فيه .
3- تقرير النبوة المحمدية .
4- تقرير البعث والجزاء .
(4/328)
________________________________________
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
شرح الكلمات :
{ أنك تقوم } : أي للتهجد .
{ أدنى } : أي أقل .
{ وطائفة } : أي وطائفة معك من اصحابك تقوم كذلك .
{ والله يقدر الليل والنهار } : أي يحصيها ويعلم ما يمضي من ساعات كل منهما وما يبقى .
{ علم أن لن تحصوه } : أي الليل فلا تطيقون قيامه كله لأنه يشقّ عليكم .
{ فتاب عليكم } : أي رجع بكم غلى التخفيف في قيام الليل إذ هو الأصل .
{ فاقرأوا ما تيسر } : أي صلوا من الليل ما سهل عليكم ولو ركعتين .
{ وأقيموا الصلاة } : أي المفروضة .
{ وآتوا الزكاة } : أي المفروضة .
{ وأقرضوا الله قرضاً حسنا } : أي تصدقوا بفضول أموالكم طيبة بها نفوسكم فذلك القرض الحسن .
{ وما تقدموا لأنفسكم من خير } : أي من نوافل العبادة من صلاة وصدقة وصيام وحج وغيرها .
معنى الآيات :
يخبر تعالى رسوله بأنه يعلم ما يقومه من الليل هو وطائفة من اصحابه وأ ، هم يقومون أحيناً أدنى من ثلثي الليل أي أقل ويقومون أحيانا النصف والثلث ، كما في أول السورة هذا معنى قوله تعالى { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك } ، وقوله { والله يقدر الليل والنهار } أي يحصي ساعاتهما فيعلم ما مضى من الليل وما بقى من ساعاته ، وقوله { علم أن لن تحصوه } أي لن تطيقوا ضبط ساعاته فيشق عليكم قيام أكثرة تحريا منكم لما هو المطلوب . { فتاب عليكم } لذلك وبهذا نسخ قيام الليل الواجب وبقى المستحب يُؤدى ولو بركعتين في أي جزء من الليل وكونهما بعد صلاة العشاء أفضل وقوله تعالى فاقرأوا ما تيسر من القرآن اي صلوا من الليل ما تيسر اطلق لفظ القرآن وهو يريد الصلاة لأن القرآن هو الجزء المقصود من صلاة الليل ، وقوله { علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض ييبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله } فذكر فيه تعالى ثلاثة أعذار لهم وهي المرض ، والضرب في الأرض للتجراة والجهاد في سبيل الله وكلها يشق معها يام الليل فرحمة بالمؤمنين نسخ الله تعالى هذا الحكم الشاق بقوله { فاقرأوا ما تيسر منه } ، كررَّه تأكيداً لنسخ قيام الليل الذي كان واجبا واصبح بهذه الآية مندوبا . وقوله وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة أي المفروضتين . وقوله وأقرضوا الله قرضا حسنا أي انفقوا في سبيل الله الذي هو الجهاد فإِن الحسنة فيه بسبعمائة وما تقدموا لأنفسكم من نوافل الصلاة والصدقات والحج وسائر العبادات تجدوه عند الله يوم القيامة هو خيراً وأعظم أجرا . وقوله واستغفروا الله من كل ما يفرط منكم من تقصير في جنب الله تعالى إن الله غفور رحيم يغفر لمن تاب ويرحمه فلا يؤاخذه بذنب قد تاب منه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقومونه من الليل تهجداً .
2- نسخ واجب قيام الليل وبقاء استحبابه وندبه .
3- وجوب إقام الصلاة وإيتاء الزكاة .
4- الترغيب في التطوع من سائر العبادات .
5- وجوب الاستغفار عند الذنب وندبه واستحبابه في سائر الأوقات لما يحصل من التقصير .
(4/329)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
شرح الكلمات :
{ يا أيها المدثر } : أي يا أيها المدثر أي المُتلفف في ثيابه وهو النبي صلى الله عليه وسلم .
{ قم فأنذر } : أي خَوف أهل مكة النار إن لم يؤمنوا ويوحدوا .
{ وربك فكبر } : أي عظم ربك من إشراك المشركين .
{ وثيابك فطهر } : أي طهر ثيابك من النجاسات .
{ والرجز فاهجر } : أي أدم هجرانك للأوثان .
{ ولا تمنن تستكثر } : أي لا تمنن على ربك ما تقوم به من أعمال لأجله طاعة له .
{ فإِذا نقر في الناقور } : أي نفخ في الصور النفخة الثانية .
معنى الآيات :
قوله تعالى { يا أيها المدثر } أي المتلفف في ثيابه والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم روى الزهري قال فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة فحزن حزناً فجعل يعدو شواهق رؤوس لجبال ليتردّى منها فكلما أوفى بذروة جبل تبدّى له جبريل عليه السلام فيقول إنك نبيّ الله فيسكن جاشه وتسكن نفسه ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث عن ذلك فقال « بينما أنا أمشي يوما إذ رأيت الملك الذي كان يأتيني بحراء على كرسيّ بين السماء والأرض فجئثت منه رعبا فرجعت إلى خديجة فقلت زملوني » فزملناه أي فدثرناه فأنزل الله يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر قال الزهري فأول شيء أنزل عليه اقرأ باسم ربّك الذي خلق خلق الإِنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإِنسان ما لم يعلم . وعليه فهذا النداء الإِلهي كان بعد فترة الوحي الأولى ناداه ملقبا له بهذا اللقب الجميل تكريما وتلطفا معه ليقوم بأعباء الدعوة وما أشد ثقلها ، ومن يقدر عليها إنها أعباء ثقيلة اللهم لقد أُعنت عليها رسولك فأعني على قدر ما اقوم به منها ، وإن كان ما أقوم به منها لا يساوي جمرة من لظى ولا قطرة من ماء السماء . يا أيها المدثر في ثيابه يا محمد رسولنا قم فأذنر لم يبق لك مجال للنوم والراحة فأنذر قومك في مكة وكل الثقلين من وراء مكة أنذرهم عذاب النار المترتب على الكفر والشرك بالواحد القهار وربك فكبر أي وربّك فعظمه تعظيماً يليق بجلاله وكماله فإِنه الأكبر الذي لا أكبر منه والعظيم الذي لا أعظم منه فأعلن عن ذلك بلسانك قائلا الله أكبر ويحالك فلا تذل إلا له ولا ترغب إلا فيه وكبره بأعمالك فلا تأتي منها إلاّ ما أذن لك فيه أو أمرك به { وثيابك فطهر } أي طهر ثيابك من النجاسات مخالفاً بذلك ما عليه قومك؛ إذ يجرون ثيابهم ولا يتنزهون من ابوالهم { والرجز فاهجر } أي والأصنام التي يعبدها قومك فاهجرها فلا تقربها ودُم على هجرانها على دعوتك أجرا ، ولا تمنن عطاء أعطيته لغيرك تستكثر به ما عندك إن ذاك مناف لأجمل الآخلاق وكريم السجايا وسامي الآداب .
(4/330)
________________________________________
ولربك وحده دون سواه فاصبر على كل ما تلقاه في سبيل إبلاغ رسالتك ونشر دعوتك دعوة الخير والكمال هذا الذي أدب به الله رسول الله في فاتحة دعوته . ثم نزل فإِذا نقر في الناقور والناقور البوق الذي ينفخ فيه اسرافيل والنقر يُحدث صوتا والصوت هو صوت البوق والمراد به النفخة الثانية نفخة البعث والجزاء فإِذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير صعب شديد لا يحتمل ولا يطاق على الكافرين غير يسير فذكر به من تدعوهم فإِن التذكير به نافع إن شاء الله ، ولذا كان من أعظم أركان العقيدة التي إن تمكنت من النفس تهيأ صاحبها لحمل كل ثقيل ولإِنفاق كل غال ورخيص ولفراق الأهل والدار الإِيمان بالله واليوم الآخر إذ هما محوزر العقيدة وعليهما مدار الإِصلاح والهداية .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- الجد طابع المسلم ، فلا كسل ولا خمول ولا لهو ولا لعب ومن فارق هذه فليتهم نفسه في إسلامه .
2- وجوب تعظيم أسمائه وصفاته وتعظيم كلامه وكتابه ، وتعظيم شعائره وتعظيم ما عظم .
3- وجوب الطهارة للمؤمن بدناً وثوبا ومسجداً . أكلاً وشرباً وفراشاً ونفساً وروحا .
4- حرمة العجب فلا يعجب المؤمن بعمله ولا يزكي به نفسه ولو صام الدهر ، وأنفق الصخرة وجاهد الدهر .
5- وجوب الصبر على الطاعات فعلا وعلى المعاصي تركاً وعلى البلاء تسليما ورضا .
(4/331)
________________________________________
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
شرح الكلمات :
{ ذرني ومن خلقت وحيدا } : أي اتركني ومن خلقته وحيداً منفرداً بلا مال ولا ولد فأنا أكفيكه .
{ وبنين شهودا } : أي يشهدون المحافل وتُسمع شهادتهم وأغلب الوقت حاضرون ولا يغيبون .
{ ومهدت له تمهيدا } : أي بسطت له في العيش والعمر والولد والجاه حتى كان يلقب بريحانة قريش .
{ عنيدا } : أي معانداً وهو الوليد بن المغيرة المخزومي .
{ سأرهقه صعودا } : أي سأكلفه يوم القيامة صعود جبل من نار كلما صعد فيه هوى في النار أبداً .
{ إنه فكر وقدّر } : أي فيما يقول في القرآن الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وقدر في نفسه ذلك .
{ ثم نظر ثم عبس وبسر } : أي تروَّى في ذلك ثم عبس أي قبض ما بين عينيه ثم يسر أي كلح وجهه .
{ ثم أدبر واستكبر } : أي عن الإِيمان واستكبر عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم .
{ سحر يؤثر } : أي ينقل من السحرة كمسيلمة وغيره .
{ سأصليه سقر } : سأدخله جهنم وسقر اسم لها يدخله فيها لإِحراقه بنارها .
{ لا تبقي ولا تذر } : أي لا تترك شيئا من اللحم ولا العصب إلا أهلكته ثم يعود كما كان لإِدامة العذاب .
{ لواحة للبشر } : أي محرقة مسودة لظاهر جلد الإِنسان وهو بشرته والجمع بشر .
{ عليها تسعة عشر } : أي ملكاً وهم خزنتها .
معنى الآيات :
لقد تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عبء الدعوة وأمر بالصبر وشرع صلى الله عليه وسلم في إنذار قومه وبدأت المعركة كأحرّ وأشد ما تكون إذ أعلم قومه وهم من هم أنه لا إله إلا الله وأ ، ه هو رسول الله فتصدى له طاغية من أعظم الطغاة ساد الوادي مالاً وولداً وجاهاً عريضا حتى لقب بريحانة قريش هذا هو الوليد بن المغيرة صاحب عشرة رجال من صلبه وآلاف الدنانير من الذهب فلما أرهب رسول الله وأخافه قال له ربّه تبارك وتعالى { ذرني } اي دعني والذي خلقته { وحيدا } فريدا بلا مال ولا ولد ، { وجعلت له مالاً ممدوداً } واسعا تمده به الزراعة والتجارة فصلا بعد فصل ويوما بعد يوم ، { وبنين شهودا } لا يغيبون كما يغيب الذين يطلبون العيش كما أنهم لمكانتهم يستشهدون فيشهدون فهم شهود على غيرهم . ويشهدون المحافل وغيرها . { ومهدت له تمهيدا } أي بسطت له في العيش والعمر والولد والجاه العريض في ديار قومه ، { ثم يطمع أن أزيدؤ أي أن أزيده من المذكور في الآيات { كلا } أي لن أزيده بعد اليوم ، وعلل تعالى لمنعه الزيادة بقوله : { إنه كان لآياتنا } « القرآنية » { عنيداً } أي معانداً يحاول ابطالها بعد رفضه لها . { سأرهقه صعودا } اي سأكلفه عذابا شاقا لا قبل له به وذلك جبل من نار في جهنم يكلف صعوده كلما صعد سقط وذلك ابداً . وعلل أيضا لهذا العذاب الذي أعده له وأوعده به فقال تعالى { إنه فكر } أي فيما يقول في القرآن لما طلبت منه قريش أن يقول فيه ما يراه من صلاح أو فساد .
(4/332)
________________________________________
{ وقدر } في نفسه { فقتل كيف قدر } اي لعن كيف قدر ذلك التقدير الذي هو قوله { إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر } . { ثم قتل كيف قدر } فلعنه الله لعنتين تلازمانه واحة في الدنيا والأخرى في الآخرة وقوله تعالى عنه { ثم نظر } أي ترّوى { ثم عبس } أي قطب فقبض ما بين عينيه { وبسر } أي كلح وجهه فاسودّ . فقال اللعني نتيجة تفكير وتقدير ونظر { إن هذا إلا سحر يؤثر } أي ما هذا القرآن إلا سحر ينقل عن السحرة في اليمين ونجد والحجاز { إن هذا إلا قول البشر } أي ما هذا الذي يتلوه محمد صلى الله عليه وسلم إلا قول البشر قال تعالى موعداً إياه على قولته الكافرة الفاجرة { سأصليه سقر } أي سأدخله نار سقر يصطلي بنارها ، ثم عظّم تعالى من شأن سقر فقال { وما أدراك ما سقر } أي أي شيء يدريك ما هي وما شأنها فإِنها عظيمة { لا تبقي ولا تذر } أي لا تبقي لحما ولا تذر عصبا بل تأتي على الكل لواحة للبشر أي تحرق الجلود وتسوّدها . والبشر جمع بشرة الجلدة ومن ذلك سمي الآدميون بشرا لأن بشرتهم مكشوفة ليست مستورة بوبر ولا صوف ولا شعر ولا ريش . وقوله تعالى { عليها تسعة عشر } أي على سقر ملائكة يقال لهم الخزنة عدتهم تسعة عشر ملكاً لقد كان لنزول هذه الآية سبب معروف وهو أن قريشا اتهمت الوليد بأنه صبا أي مال إلى دين محمد فسمع ذلك منهم فأنكر وحلف لهم فطلبوا إليه إن كان صادقا أن يقول في القرآن كلمة يصرف بها العرب عن محمد وما يقوله ويدعو إليه فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ويقرأ في صلاته فاستمع إليه ففكر وقدر كما أخبر تعالى عنه في هذه الآيات وقال قولته الفاجرة الكافرة . إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر بعد أن وصف القرآن وصفا دقيقا بقوله ووالله إن لقوله لحلاوة وإنه ليحطم ما تحته ، وإنه ليعلو ولا يُعلى أي عليه فقالوا والله لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه فقال دعوني حتى افكر ففكر وقال ما تقدم فنزلت هذه الآيات { ذرني ومن خلقت وحيدا } إلى قوله { تسعة عشر } .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- المال والبنون والجاه من عوامل الطغيان إلاّ أن يُسلّم الله عبده من فتنتها .
2- من أكفر الناس من يعاند في آيات الله يريد صرف الناس عنها وإبطال هدايتها .
3- بيان ما ظفر به طاغية قريش الوليد بن المغيرة من لعنة وعذاب شديد .
4- تقرير الوحي وإثبات النبوة المحمدية .
5- تقرير البعث والجزاء .
(4/333)
________________________________________
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
شرح الكلمات :
{ أصحاب النار } : أي خزنتها مالك وثمانية عشر معه .
{ إلا ملائكة } : أي لم نجعلهم بشراً ولا جنَّاً حتى لا يرحموهم بحكم الجنس .
{ وما جعلنا عدتهم } : أي كونهم تسعة عشر .
{ إلا فتنة للذين كفروا } : أي ليستخفوا بهم كما قال أبو الأشُدين الجُمحي فيزدادوا ضلالا .
{ ليستيقن الذين أوتوا الكتاب } : أي ليحصل اليقين لأهل التوراة والإِنجيل بموافقة القرآن لكتابيهما التوراة والإِنجيل .
{ ولا يرتاب } : أي ولا يشك أهل الكتاب والمؤمنون في حقيقة ذلك .
{ وليقول الذين في قلوبهم مرض } : أي مرض النفاق .
{ ماذا أراد الله بهذا مثلا } : أي أي شيء أراد الله بهذا العدد الغريب استنكاراً منهم .
{ كذلك } : أي مثل اضلال منكر هذا العدد وهدى مصدقه يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء .
{ وما هي إلا ذكرى للبشر } : أي وما النار إلا ذكرى للبشر يتذكرون بها .
{ إذ أدبر } : أي ولى ومضى .
{ إذا أسفر } : أي أضاء وظهر .
{ إنها لاحدى الكبر } : أي جهنم لإِحدى البلايا العظام .
{ نذيراً للبشر } : أي عذاب جهنم نذير لبني آدم .
{ لمن شاء منكم } : أي أيها الناس .
{ أن يتقدم } : أي بالطاعة .
{ أو يتأخر } : أي بالمعصية .
معنى الآيات :
قوله تعالى { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا } هذه الآية نزلت ردّاً على أبي الأشُدين كلدة الجمحي الذي قال لما سمع قول الله تعالى { وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر } قال لقريش ساخراً مستهزئاً أنا أكفيكم سبعة عشر واكفوني أنتم اثنين ، ومرة قال أنا أمشي بين ايديكم على الصراط فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وتسعة بمنكبي الأيسر في النار ونمضي فنخل الجنة . فأنزل الله تعالى قوله { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } أي لم نجعلهم بشراً ولا جنَّا حتى لا يرحموا أهل النار بخلاف لو كانوا بشرا قد يرحمون بني جنسهم ولو كانوا جنا فكذلك ، ولذا جعلهم من الملائكة فلا تناسب بينهم وبين الإِنس والجن والمراد بأصحاب النار خزنتها وهم مالك وثمانية عشر هؤلاء رؤساء في جهنم أما من عداهم فلا تتسع لهم العبارة ولا حتى الرقم الحسابي وكيف وقد قال تعالى { وما يعلم جنود ربك لا هو } ، وقوله { وما جعلنا عدتهم } أي كونهم تسعة عشر { إلا فتنة للذين كفروا } ليزدادوا ضلالا وكفرا وقد تم هذا فإن أبا جهل كابي الشدين قد فتنا بهذا العدد وازدادا ضلالا وكفرا بما قالا ، وقوله تعالى { ليستيقن الذين أوتوا الكتاب } اي أخبرنا عن عددهم وأنه تسعة عشر ليستيقن الذين أوتوا الكتاب لموافقة القرآن لما عندهم في كتابهم . ويزداد الذين آمنوا إيمانا فوق إيمانهم عندما يرون أن التوراة موافقة للقرآن الكريم كشاهد له ، وقوله { ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون } أي حتى لا يقعوا في ريب وشك في يوم من الأيام لما اكتسبوا من المناعة بتضافر الكتابين على حقيقة واحدة .
(4/334)
________________________________________
وقوله { وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا } اي وما جعلنا عدتهم تسعة عشر إلا ليقول الذين في قلوبهم مرض وهو النفاق والشك والكافرون الكفر الظاهر من قريش وغيرهم ماذا أراد الله بهذا مثلا اي اي شيء اراده الله بهذا الخبر الغريب غرابة الأمثال قالوا هذا استنكارا وتكذيبا . فهذه جملة علل ذكرها تعالى لإِخباره عنزبانية جهنم ثم قال وقوله الحق { كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء } اي مثل اضلال منكر هذا العدد وهُدَى مصدقه يضل الله من يشاء إضلاله ويهدي من يشاء هدايته . وقوله تعالى { وما يعلم جنود ربك إلا هو } هذا جواب أبي جهل القائل أما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر استخفافا وتكذيبا فأخبر تعالى أن له جنوداً لا يعلم عددها ولا قوتها غلا هو وقد ورد أن لأحدهم مثل قوة القلين يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل فيرمي بهم في النار ويرمي الجبل عليهم ، ولا عجب اربعة ملائكة يحملون العرش الذي هو أكبر من السموات والأرضين فسبحان الخلاق العليم سبحان الله العزيز الرحيم سبحان الله ذي الجبروت والملكوت . وقوله تعالى وما هي أي جهنم إلا ذكرى للبشر اي تذكرة يذكرون بها عظمة الله ويخافون بها عقابه . وقوله { كلا والقمر والليل إذا أدبر والصبح إذا اسفر } اي كلا أي ليس القول كما يقول من زعم من المشركين أنه يكفي أصحابه المشركين خزنة جهنم حتى يجهضهم عنها . والقمر والليل إذا أدبر ولى ذاهبا والصبح إذا أسفر أي أضاء وأقبل { إنها لإِحدى الكبر } اي أقسم تعالى بالقمر والليل إذا أدبر والصبح إذا أسفر على أن جهنم لإِحدى الكبر أي البلايا العظام { نذيرا للبشر } أي بني آدم ، وقال نذيرا ولم يقل نذيرة وهي جهنم لأنها بمعنى العذاب أي عذابها نذير للبشر . وقوله { لمن شاء منكم أن يتقدم } في طاعة الله ورسوله حتى يبلغ الدرجات العلا ، { ومن شاء أن يتأخر } في معصية الله ورسوله حتى ينزل الدركات السفلى .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان الحكمة من جعل عدد الزبانية تسعة عشر والإِخبار عنهم بذلك .
2- موافقة التوراة والإِنجيل للقرآن من شأنها أن تزيد إيمان المؤمنين من الفريقين .
3- في النار من الزبانية مالا يعلم عددهم إلا الله تعالى خالقهم .
4- جهنم نذير للبشر أي عذابها نذير للبشر لمن شاء أن يتقدم بالطاعة أو يتأخر بالمعصية .
(4/335)
________________________________________
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
شرح الكلمات :
{ كل نفس } : أي مأمورة منهية .
{ رهينة } : أي مرهونة مأخوذة بعملها في جهنم .
{ إلا أصحاب اليمين } : أي المؤمنين فهم ناجون من النار وهم في جنات النعيم يتساءلون عن المجرمين .
{ ولم نك نطعم المسكين } : أي بخلا بما آتاهم الله .
{ وكنا نخوض } : أي في الباطل وفيما يكره الله تعالى مع الخائضين .
{ نكذب بيوم الدين } : بيوم المجازاة والثواب ولا نصدق بثواب ولا عقاب .
{ حتى أتانا اليقين } : اي الموت .
{ عن التذكرة معرضين } : أي الموعظة منصرفين لا يسمعونها ولا يقبلون عليها .
{ حُمر مستنفرة } : أي كأنهم حمر وحشية مستنفرة .
{ فرت من قسورة } : أي هربت من أسدٍ أشَدَّ الهرب .
{ بل يريل كل امرئ منهم } : أي ليس هناك قصور في الأدلة والحجج التي قدمت لهم بل يريد كل واحد منهم .
{ أن يؤتى صحفا منشرة } : أي يصبح وعند رأسه كتاب من الله رب العالمين إلى فلان آمن بنبينا محمد واتبعه .
{ إنه تذكرة } : أي عظة وعبرة .
{ فمن شاء ذكره } : أي قرأه واتعظ به .
{ هو أهل التقوى } : أي هو أهل لأن يتقي لعظمه سلطانه وأليم عقابه .
{ وأهل المغفرة } : أي وأهل لأن يغفر للتائبين من عباده والموحدين .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى { كل نفس } أي يوم القيامة { رهينة } بمعنى مرهونة محبوسة أي كل نفس مأمورة منهية بمعنى مكلفة بخلاف نفوس غير المكلفين من أطفال ومجانين وقوله { إلا اصحاب اليمين } فإِنهم قد فك رهنهم وهم في جنات النعيم يتساءلون فيما بينهم عن أصحاب الجحيم وكيف حالهم ثم يتصلون بهم وهم في جنات النعيم والمجرمون في سواء الجحيم ، ويتم الاتصال برؤية الشخص وسماع كلامه وفي الصناعات الحديثة اليوم ما جعل هذا امراً معقولا فيقولون لهم { ما سلككم في سقر } أي أدخلكم في سقر فأجابوهم قائلين { لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين } . فذكروا لهم أعظم الجرائم وهي ترك الصلاة ومنع الزكاة والتخوض مع أهل الباطل في كل شر وفساد والتكذيب بيوم القيامة وانه لا حساب ولا جزاء أي لا ثواب ولا عقاب وأنهم مع هذه الجرائم الموجبة للسلوك في سقر لم يتوبوا منها حتى أتاهم اليقين أي الموت . وقد يقال ألم يكن هناك شفعاء من الملائكة والأنبياء والعلماء والشهداء يشفعون؟ والجواب هو في قوله تعالى { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } أي لم تكن لهم شفاعة لأنهم ملاحدة مجرمون . وقوله تعالى { فما لهم عن التذكرة معرضين } أي فما لهؤلاء المشركين المكذبين بالبعث والجزاء عن التذكرة التي يذكرون بها في ىيات هذه السورة وغيرها معرضين إنه أمر عجيب أي شيء يجعلهم يعرضونم عنها هاربين منها فارين { كأنهم حمر } وحشية { مستنفرة فرت من قسورة } أي فرت هاربة أشد الهرب من اسد من اسود الصحراء الطاغية إن فرارهم من هذه الدعوة وإعراضهم عنها ليس عن قصور في أدلتها وضعف في حجتها بل يريد كل واحد منهم أن يؤتى كتاباً من الله يأمره فيه بالإِيمان واتباع محمد صلى الله عليه وسلم وهذا هو العناد والمكابرة وصاحبهما غير مستعد للإِيمان بحال من الأحوال .
(4/336)
________________________________________
وهذه الآية كقوله تعالى : { حتى تنزل علينا كتابا نقرأه } هذا معنى قوله تعالى { بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة } . وقوله تعالى { كلا بل لا يخافون الآخرة } أي ليس الأمر كما يقولون ويدعون بل إن علة إعراضهم الحقيقة هي عدم خوفهم من عذاب الله يوم القيامة . وقوله تعالى { كلا إنه تذكرة } أي ألا إن هذا القرآن تذكرة فمن شاء ذكره أي قرأه فاتعظ به فآمن بالله واتقاه فإِنه ينجو ويسعد في جوار مولاه ومن لم يشأ ذلك فحسبه سقر وما أدراك ما سقر . وقوله تعالى { وما يذكرون إلا أن يشاء الله } أي ما يذكر من يذكر إلا بمشيئة الله فلا بد من الافتقار إلى الله وطلب توفيقه في ذلك إذ لا استقلال لأحد عن الله ولا غنى بأحد عن الله بل الكل مفتقر إليه ومشيئته تابعة لمشيئته وقوله { هو أهل التقوى وأهل المغفرة } لقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية فقال قال ربكم « أنا أهل أن أُتقى فلا يُجعل معي إله فمن اتقاني فلم يجعل معي إلهاً فأنا أهل أن أغفر له » .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- فكاك كل نفس مرهونة بكسبها هو الإِيمان والتقوى .
2- بيان أكبر الجرائم وهي ترك الصلاة ومنع الزكاة والخوض في الباطل وعدم التصديق بالحساب والجزاء .
3- لا شفاعة يوم القيامة لمن مات وهو يشرك بالله شيئا .
4- مرد الانحراف في الإِنسان إلى ضعف إيمانه بالبعث والجزاء .
5- الله جل جلاله هو ذو الأهلية الحقة لأمرين عظيمين التقوى فلا يتقى على الحقيقة إلا هو والمغفرة فلا يغفر الذنوب إلا هو اللهم اغفر ذنوبنا فإِنه لا يغفر الذنوب إلا أنت .
(4/337)
________________________________________
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)
شرح الكلمات :
{ لا } : أي ليس الأمر كما يدعي المشركون من أنه لا بعث ولا جزاء .
{ أقسم بيوم القيامة } : أي الذي كذب به المكذبون .
{ ولا أقسم بالنفس اللوامة } : أي لتُبعثن ولتحاسبن ولتعاقبن أيها المكذبون الضالون .
{ اللوامة } : أي التي إن أحسنت لامت عن عدم الزيادة وإن أساءت لامت عن عدم التقصير .
{ أيحسب الإِنسان } : أي الكافر الملحد .
{ أن لن نجمع عظامه } : أي ألاّ نجمع عظامه لنحييه للبعث والجزاء .
{ بلى قادرين } : أي بلى نجمعها حال كوننا قادرين مع جمعها على تسوية بنانه .
{ على أن نسوي بنانه } : أي نجعل أصابعه كخف البعير أو حافر الفرس فلا يقدر على العمل الذي يقدر عليه الآن مع تفرقة أصابعه . كما نحن قادرون على جمع تلك العظام الدقيقة عظام البنان وردّها كما كانت كما نحن قادرون على تسوية تلك الخطوط الدقيقة في الأصابع والتي تختلف بين إنسان وإنسان اختلاف الوجوه والصوات واللهجات .
{ بل يريد الإِنسان } : أي بإِنكار البعث والجزاء .
{ ليفجر أمامه } : اي ليواصل فجوره زمانه كله ولذلك أنكر البعث .
{ يسأل أيان يوم القيامة } : أي يسأل سؤال استنكار واستهزاء واستخفاف .
{ فإِذا برق البصر } : أي دهش وتحير لمّا رأى ما كان به يكذب .
{ وخسف القمر } : أي أظلم بذهاب ضوئه .
{ وجمع الشمس والقمر } : أي ذهب ضوءهما وذلك في بداية الانقلاب الكوني الذي تنتهي فيه هذه الحياة .
{ أين المفر } : أي إلى اين الفرار .
{ كلا } : ردع له عن طلب الفرار .
{ لا وزر } : أي لا ملجأ يتحصن به .
{ بل الإِنسان على نفسه بصرة } : أي هو شاهد على نفسه حيث تنطق جوارحه بعمله .
{ ولو ألقى معاذيره } : أي فلا بد من جزائه ولو القى معاذيره .
معنى الآيات :
قوله تعالى { لا أقسم بيوم القيامة } اي ما الأمر كما تقولون أيها المنكرون للبعث والجزاء أقسم بيوم القيامة الذي تنكرون وبالنفس اللوامة التي ستحاسب وتجري لا محالة لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير . وقوله تعالى { أيحسب الإِنسان ألنّ نجمع عظامه } أي بعد موته وفنائه وتفرق أجزائه في الأرض ، والمراد من الإِنسان هنا الكافر الملحد قطعاً { بلى قادرين على أن نسوي بنانه } اي بلى نجمعها حال كوننا قادرين على ذلك وعلى ما هو أعظم وهو تسوية بنانه أي أصابعه بأن نجعلها كخف البعير أو حوافر الحمير ، فيصبح يتناول الطعام بفمه كالكلب والبغل والحمار . وقوله { بل يريد الإِنسان ليفجر أمامه } أي ما يجهل الإِنسان قدرة خالقه على إعادة خلقه ولكنه يريد أن يواصل فجوره مستقبله كله فلا يتوب من ذنوبه ولا يؤوب منمعاصيه لأن شهواته مستحكمة فيه ، وقوله تعالى { يسأل أيّان يوم القيامة؟ } يخبر تعالى عن المنكر للبعث من أجل مواصلة الفجور من زنا وشرب خمور بأنه يقول ايّان يوم القيامة استبعادا واستنكارا وتسويفا للتوبة فبيّن تعالى له وقت مجيئه بقوله { فإِذا برق البصر } اي عند الموت بأن تحير واندهش { وخسف القمر } اي أظلم وذهب ضوءه ، روجمع الشمس والقمر } أي ذهب ضوءهما وذلك في بداية الانقلاب الكوني الذي تنتهي فيه هذه الحياة { يقول الإِنسان } الكافر { يومئذ اين المفر؟ } أي إلى أين الفرار يا ترى؟ قال تعالى { كلا } أي لا فرار اليوم من قبضة الجبار أيها الإِنسان الكافر { لا وزر } اي لا حصن ولا ملتجأ وإنما { إلى ربك } اليوم { المستقر } أي الانتهاء والاستقرار إما إلى جنة وإما إلى نار وقوله تعالى { يُنبأ الإِنسان يومئذ بما قدم وأخر } أي يوم تقوم الساعة يخبّر الإِنسان من قبل ربّه تعالى بما قدم من أعماله في حياته الخير والشر سواء وبما أخر بعد موته منسنة حسنة سنّها أو سيئة كذلك وقوله تعالى { بل الإِنسان على نفسه بصيرة ولو القى معاذيره } أي عندما يتقدم الإِنسان للاستنطاق فيخبر بما قدم وأخر هناك يحاول أن يتنصل من بعض ذنوبه فتنطق جوارحه ويختم على لسانه فيتخذ من جوارحه شهود عليه فتلك البصيرة ولو ألقى معاذيره واعتذر ولا يقبل منه ذلك لكونه شاهدا على نفسه بجوارحه .
(4/338)
________________________________________
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
2- بيان إفضال الله على العبد في خلقه وتركيب أعضائه .
3- معجزة قرآنية اثبتها العلم الصناعي الحديث وهي عدم تسوية خطوط الأصابع .
4- فكما خالف تعالى بين الإِنسان والإِنسان وبين صوت وصوت فَرَّق بين خطوط الأصابع فلذا استعملت في الإمضاءات وقبلت في الشهادات .
5- تقرير مبدأ أن المؤمن يثاب على ما أخر من سنة حسنة يُعمل بها بعده كما يأثم بترك السنة السيئة يُعمل بها كذلك بعده .
(4/339)
________________________________________
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)
شرح الكلمات :
{ لا تحرك به لسانك } : أي لا تحرك بالقرآن لسانك قبل فراغ جبريل منه .
{ لتعجل به } : أي مخافة أن يتفلت منك .
{ إن علينا جمعه } : أي في صدرك .
{ وقرآنه } : أي قراءتك له بحيث نُجريه على لسانك .
{ فإِذا قرأناه } : أي قرأه جبريل عليك .
{ فاتبع قرآنه } : أي استمع قراءته .
{ ثم إن علينا بيانه } : أي لك بتفهيمك ما يشكل عليك من معانيه .
{ كلا } : أي ليس الأمر كما تزعمون أنه لا بعث ولا جزاء .
{ يحبون العاجلة } : أي الدنيا فيعملون لها .
{ ويذرون الآخرة } : أم ويتركون الآخرة فلا يعملون لها .
{ ناضرة } : أي حسنة مضيئة .
{ إلى ربها ناظرة } : أي إلى الله تعالى ربها ناظرة بحيث لا تحجب عنه تعالى .
{ باسرة } : أي كالحة مسودة عابسة .
{ تظن } : أي توقن .
{ أن يفعل بها فاقرة } : أي داهية عظيمة تكسر فقار الظهر .
معنى الآيات :
لما ندد تعالى بالمعرضين عن القرآن المكذبين به وبالبعث والجزاء ذكر في هذه الآيات المقبلين على القرآن المسارعين إلى تلقيه فكانت المناسبة بين هذه الآيات وسابقاتها المقابلة بالتضادّ . فقال تعالى مؤدباً رسوله محمد صلى الله عليه وسلم { لا تحرك به } أي بالقرآن { لسانك } قبل فراغ جبريل من قراءته عليك . إذ كان صلى الله عليه وسلم حريصا على القرآن يخاف أن يتفلّت منه شيء فأكرمه ربّه بالتخفيف عليه وطمأنه أن لا يفقد منه شيئا فقال له { لا تحرك به لسانك لتعجل به } مخافة أن يتفلت منك { إن علينا جمعه } اي في صدرك { وقُرآنه } على لسانك حيث نسهل ذلك ونجربه على لسانك ، { فإِذا قرأناه } أي قرأه جبريل عليك { فاستمع } له ثم اقرأه كما قرأه واعمل بشرائعه وأحكامه ، وقوله تعهالى { ثم إن علينا بيانه } أي إنا نبيّن لك ما يشكل عليك من معانيه حتى تعمل بكل ما طلب منك أن تعمل به . وقوله تعالى { كلاّ بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة } عاد السياق الكريم إلى تقرير عقيدة البعث والجزاء والت عليها وعلى الإِيمان بالله مدار الإِصلاح والتهذيب فقال { كلا } أي ليس كما تدعون من عدم إكان البعث والجزاء لأنكم تعلمون أن القادر على إيجادكم اليوم وإعدامكم غداً قادر على إيجادكم مرة أخرى ، ولكن الذي جعلكم تكذبون بالبعث والجزاء هو حبكم للحياة للعاجلة اي للدنيا وما فيها من لذات وشهوات ، وترككم للآخرة أي للحياة الآخرة لأنها تكلفكم الصلاة والصيام والجهاد ، والتخلي عن كثير من اللذات والشهوات . بعد أن كشف عننفسيات المكذبين توبيخا لهم وتقريعاً عرض على أنظارهم منظراً حيا وصورة ناطقة لما يتجاهلونه من شأن الآخرة فقال { وجوه يومئذ } أي يوم إذ تقوم القيامة { ناضرة } اي حسنة مضيئة مشرقة لأن ارواح أصحابها كانت في الدنيا مشرقة بنور الإِيمان وصالح الأعمال { إلى ربها ناظرة } سعيدة بلقاء ربها مكرمة بالنظر غليه وهي في جواره { ووجوه يومئذ باسرة } اي كالحة مسودة عابسة وذلك لأن أرواح اصحابها كانت في الدنيا تعيش على ظلمة الكفر وعفن الذنوب ودخان المعاصي فانطبعت النفس على الوجه فهي باسرة حالكة عابسة { تظن } أي توقن أي الوجوه والمراد اصحابها { أن يفعل بها فاقرة } اي داهية عظيمة تكسر فقار الظهر منها وهي القاؤه { في سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر } فاذكروا هذا يا بشر!!
(4/340)
________________________________________
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
شرح الكلمات :
{ إذا بلغت } : أي النفس .
{ التراقي } : جمع ترقوة أي عظام الحلق .
{ وقيل من راق } : أي وقال من حوله من عواده أو ممرضيه هل هناك من يرقيه ليشقى؟
{ وظن أنه الفراق } : أي أيقن أنه الفراق للدنيا لبلوغ الروح الحلقوم .
{ والتفت الساق بالساق } : أي التقت احدى ساقيه بالأخرى أو التفت شدة فراق الدنيا بشدة اقبال الآخرة وما فيها من أهوال .
{ إلى ربك يومئذ المساق } : أي إذا بلغت الروح الحلقوم تساق إلى ربها وخالقها لتلقى جزاءها .
{ فلا صدق ولا صلى } : أي الإِنسان الذي يحسب أن لن يجمع الله عظامه ما صدق ولا صلى .
{ ولكن كذب } : أي بالقرآن .
{ وتولى } : أي عن الإِيمان .
{ يتمطى } : أي يتبختر في مشيته إعجابا بنفسه .
{ أول لك } : أي وليك المكروه أيها المعجب بنفسه المكذب بلقاء ربه .
{ فأولى } : أي فهو أولى بك .
{ ثم اولى لك فأولى } : أي وليك المكروه مرة ثانية فأولى فهو أولى بك أيضا .
{ أن يترك سدى } : أي مهملا لا يكلف في الدنيا ولا يحاسب ويجزى في الآخرة .
{ تمنى } : أي تصب في الرحم .
{ فخلق فسوى } : أي خلق الله منها الإِنسان فسواه بتعديل أعضائه .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء فقوله تعالى { كلا } اي ليس الأمر كما تحسب ايها الإِنسان أن الله لا يجمع عظامك ولا يحييك ولا يجزيك انظر إليك وأنت على فراش الموت إلى أين يكون مساقك إذا بلغت روحك التراقي من عظام حلقك وقال عوادك وممرضوك هل من راق يرقيك أو طبيب يداويك وأيقنت أنه الفراق لدنياك وأهلك وذويك ، والتفت ساقك اليمنى باليسرى وشدة فراقك الدنيا بشدة اقبالك على الآخرة هنا انظر إلى أين يذهب بك أما جسمك فإِلى مقره في الأرض تواريك ، وأما روحك فإِلى ربك ليحكم فيك . وقد كذبت بآياته وكفرت بالآية . فلا صدقت ولا صليت ، ولكن كذبت وتوليت كان هذا نصيبك من دينك ، وأما دنياك ، فقد كنت تتمطى استكبارا وتتبختر اعجابا . إذاً { أولى لك فأولى } أي وليك الهلاك في الدنيا { ثم أولى لك فأولى } أي وليك العذاب في الأخرى وعودة غلى تقريعك وتوبيخك يا من كفرت ربك وتنكرت لأصلك اسمع ما يُقال لك أحسبت أنك تترك سدى ، تعيش سبهللا ، لا تؤمر ولا تنهى ، لا يؤخذ منك ولا تُعطى كلا ألم تك قبل كفرك وجحودك نطفة قطرة ماء من منيّ تمنى قل بلى أو أولى لك فأولى ، ثم كنت علقة فخلقك الله جل جلاله منها فسوىّ خلقك بتعديل أعضائك فجعل من نوعك الذكر والأنثى . قل لي بربك هل تنكر ذلك فإِن قلت لا . قلنا اليس الله بقادر على أن يحيى الموتى؟ سبحانك اللهم بلى .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- مشروعية الرقية إذا كانت بالقرآن أو الكلم الطيب .
2- التنويه بشأن الزكاة والصلاة فرائض ونوافل .
3- تحريم العجب والكبرياء والتبختر في المشي .
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
5- الإِنسان لم يخلق عبثا والكون كله كذلك .
6- مشروعية قول سبحانك اللهم بلى لمن قرأ هذه الآية أو سمعها إماماً كان أو مأموماً وهي { أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى } .
(4/341)
________________________________________
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)
شرح الكلمات :
{ هل أتى } : أي قد أتى .
{ على الإنسان } : أي آدم عليه السلام .
{ حين من الدهر } : أي أربعون سنة .
{ لم يكن شيئا مذكورا } : أي لا نباهة ولا رفعة له لأنه طين لازب وحمأ مسنون وذلك قبل أن ينفخ الله تعالى فيه الروح .
{ أمشاج } : أي أخلاط من ماء المرأة وماء الرجل .
{ نبتليه } : أي نختبره بالتكاليف بالأمر والنهي عند تأهله لذلك بالبلوغ والعقل .
{ إنا هديناه السبيل } : أي بينا له طريق الهدى ببعثة الرسل وإنزال الكتب .
{ إنا أعتدنا } : أي هيأنا .
{ سلاسل } : أي يسحبون بها في نار جهنم .
{ وأغلالا } : أي في أعناقهم .
{ وسعيرا } : أي ناراً مسعرة مهيجة .
{ إن الأبرار } : أي المطيعين لله ورسوله الصادقين في إيمانهم وأقوالهم وأحوالهم .
{ مزاجها } : أي ما تمزج به وتخلط .
{ يفجرونها } : أي يجرونها ويُسيلونها حيث شاءوا .
{ شره مستطيرا } : أي ممتدا طويلا فاشيا منتشرا .
{ عبوسا } : أي تكلح الوجوه من طوله وشدته . { نضرة وسرورا } : أي حسنا ووضاءة في وجوههم وفرحاً في قلوبهم .
معنى الآيات :
قوله تعالى { هل أتى على الإِنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا } يخبر تعالى عن آدم أبي البشر عليه السلام أنه أتى عليه حين من الدهر قد يكون أربعين سنة وهو صورة من طين لازب لا روح فيها ، فلم يكن في ذلك الوقت شيئا له نباهة أو رفعة فيُذكر . هذا الإِنسان الأول آدم أخبر تعالى عن بدء أمره . وقوله { إنا خلقنا الإِنسان من نطفة أمشاج } يخبر تعالى عن الإِنسان الذي هو ابن آدم أنه خلقه من نطفة وهي ما ينطف ويقطر من ماء الرجل وماء المرأة ، ومعنى أمشاج أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة فهذا مبدأ خلق الإِنسان ابن آدم . وقوله { نبتليه } اي نختبره بالتكاليف بالأمر والنهي وذلك عند تأهله لذلك بالبلوغ والعقل ولذلك جعله سميعا بصيرا إذ بوجود السمع والبصر معاً أو بأحدهما يتم التكليف فإِن انعدما فلا تكليف لعدم القدرة عليه .
وقوله تعالى { إنا هديناه السبيل } أي بيّنا له طريق الهدى ببعثه الرسل وإنزال الكتب واستبان له بذلك أيضا طريق الغيّ والردى إذ هما النجدان إن عرف أحدهما عرق الثاني وهو في ذلك إما أن يسلك سبيل الهدى فيكون شكورا ، وإما أن يسلك سبيل الغي والردى فيكون كفروا ، والشكور المؤمن الصادق في غيمانه المطيع لربه ، والكفور المكذب بآيات الله ولقائه . وقوله تعالى { إنا اعتدنا للكافرين } الايات شروع في بيان ما أعد لكل من سالكي سبيل الرشد وسالكي سبيل الغي فقال بادئا بما أعد لسالكي سبيل الغي موجزا في بيان ما أعد لهم من عذاب بخلاف ما أعد لسالكي سبيل الرشد فإِنه نعيم تفصيله محبوب والإِطناب في بيانه مرغوب فقال { إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالا } يسحبون بها في النار ، وأغلالا تغل بها أيديهم في أعناقهم وسعيرا متأججا وجحيما مستعرا .
(4/342)
________________________________________
هذا موجز ما أعد لسالكي سبيل الغي أما سالكي سبيل الرشد فقد بينه بقوله { إن الأبرار } أي المؤمنين المطيعين في صدق لله والرسول { يشربون من كأس } ملأى شرابا مزاجها كافورا ومزجت بالكافور لبرودته وبياض لونه وطيب رائحته عينا يشرب بها عباد الله لعذوبة مائها وصفائه أصبحت كأنها أداة يشرب بها ولذا قال يشرب بها ولم يقل يشرب منها وقوله يفجرونها تفجيرا أي يجرونها ويسيلونها حيث شاءوا من غرفهم وقصورهم ومجالس سعادتهم . وقوله { يوفون بالنذر } قطع الحديث عن نعيمهم ليذكر بعض فضائلهم ترغيبا في فعلهم ونعيمهم ، ثم يعود غلى عرض النعيم فقال { يوفون بالنذر } اي كانوا في دار الدنيا يوفون بالنذر وهو ما يلتزمونه من طاعات لربهم كالصلاة والصيام والحج والصدقات تقرباً إلى ربهم وتزلفا إليه ليحرزوا رضاه عنهم وتلك غاية مناهم . وقوله ويخافون يوما مان شره مستطيرا اي وكانوا في حياتهم يخافون يوم الحساب يوم العقاب يوما كان شره فاشيا منتشرا ومع ذلك يطعمون الطعام على حبه اي مع حبهم وشهوتهم له ورغبتهم فيه ، يطعمونه مسكينا فقيرا مسكنه الفقر وأذلته الحاجة ، ويتيما لا عائل له ولا مال عنده ، وأسيرا سجينا بعيد الدار نائي المزار لا يعرف له أصل ولا فصل يطعمونهم ولسان حالهم أو قالهم يقول إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء تجازوننا به في يوم ما من الأيام ولا شكورا ينالنا منكم . إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا أي كالح الوجه مسود ثقيلا طويلا لا يطاق . واستجاب الله لهم وحقق بفضله مناهم فوقاهم الله شر ذلك اليوم العبوس القمطرير ، ولقاهم نضرة في وجوههم وسرورا في قلوبهم وجزاهم بما صبروا على فعل الصالحات وعن ترك المحرمات جنّة وحريرا ، وما سيذكر بعد في الايات التاليات .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان نشأة الإِنسان الأب والإِنسان الأبن وما تدل عليه من إفضال الله وإكرامه لعباده .
2- حاستا السمع والبصر وجودهما معاً أو وجود إحداهما ضروري للتكليف مع ضميمة العقل .
3- بيان أن الإِنسان أمامه طريقن فلليسلك أيهما شاء وكل طريق ينتهي به إلى غاية فطريق الرشد يوصل إلى الجنة دار النعيم ، وطريق الغي يوصل إلى دار الشقاء الجحيم .
4- وجوب الوفاء بالنذر فمن نذر شيئا لله وجب أن يفي بنذره إلا أن ينذر معصية فلا يجوز له الوفاء بنذره فيها فمن قال لله على أن أصوم يوم أو شهر كذا وجب عليه أن يصوم ومن قال لله علي أن لا أصل رحمي ، أو أن لا أصلي ركعة مثلا فلا يجوز له الوفاء بنذره وليصل رحمه وليصل صلاته ولا كفارة عليه .
5- الترغيب في إطعام الطعام للمحتاجين إليه من فقير ويتيم وأسير .
(4/343)
________________________________________
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
شرح الكلمات :
{ على الأرائك } : أي على الأسرة بالحجلة واحد الأرائك أريكة .
{ ولا زمهريرا } : أي ولا بردا شديدا ولا قمرا إذ هي تضاء من نفسها .
{ ودانية } : أي قريبة منهم ظلال اشجار الجنة .
{ وذللت قطوفها تذليلا } : أي بحيث ينالها المؤمن قائما وقاعدا ومضطجعا .
{ وأكواب } : أي اقداح بلا عُرا .
{ من فضة } : أي يرى باطنها من ظاهرها .
{ قدروها تقديرا } : أي على قدر الشاربين بلا زيادة ولا نقص .
{ ويسقون فيها كأسا } : أي خمرا .
{ كان مزاجها زنجبيلا } : أي ما تمزج وتخلط به زنجبيلا .
{ مخلدون } : أي بصفة الولدان لا يشيبون .
{ لؤلؤا منثورا } : أي من سلكه أو من صدفه لحسنهم وجمالهم وانتشارهم في الخدمة .
{ وإذا رأيت ثم } : أي في الجنة رأيت نعيما لا يوصف وملكا واسعا لا يقدر .
{ ثياب سندس } : أي حرير .
{ واستبرق } : أي ما غلظ من الديباج .
{ وحلّوا } : أي تحليهم الملائكة بها .
{ شرابا طهورا } : أي فائقا على النوعين السابقين ولذا أُسند سقيه إلى الله عز وجل .
{ إن هذا } : أي النعيم .
{ مشكورا } : أي مرضيا مقبولا .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في ذكر ما أعد الله تعالى للأبرار من عباده المؤمنين المتقين فقال تعالى { متكئين } في الجنة { على الأرائك } التي هي الأسرة بالحجال { لا يرون فيها } أي في الجنة { شمسا ولا زمهريرا } إن كان المراد بالشمس الكوكب المعروف فالزمهرير القمر ، فلا شمس في الجنة ولا قمر وإن كان المراد بالشمس الحر فالزمهرير البرد وليس في الجنة حر ولا برد وكلا المعنيين مراد وواقع فلا شمس في الجنة ولا قمر لعدم الحاجة إليهما ولا حر ولا برد كذلك .
{ ودانية عليهم ظلالها } أي قريبة منهم أشجارها فهي تظللهم ويجدون فيها لذة التظليل وراحته ومتعته وإن لم يكن هناك شمس تستلزم الظل . { وذللت قطوفها تذليلا } اي ما يقطف من ثمار أشجارها مذلل لهم بحيث يناله القائم والقاعد والمضطجع فلا شوط به ولا بعد فيه سهل التناول لأن الدار دار نعيم وسعادة وراحة وروح وريحان { ويطاف عليهم بآنية من فضة } اي يطوف عليهم الخدم الوصفاء بآنية من فضة ومن ذهب روأكواب } أي أقداح لا عرى لها كانت بفضل الله واكرامه { قواريرا قواريرا من فضة } يرى باطنها من ظاهرها لصفائها مادتها فضة وصفاؤها صفاء الزجاج ولذا سميت قارورة وجمعت على قوارير . { قدروها تقديرا } أي قدرها الخدم الطائفون عليهم بحيث لا تيزد فتفيض ولا تنقص فلا يجمل منظرها . وقوله { ويسقون فيها كأسا } اي خمرا { كان مزاجها } أي ما تمزج به { زنجبيلا } من عين في الجنة { تسمى سلسبيلا } . وقوله تعالى { ويطوف عليهم ولدان مخلدون } أي ويطوف على أولئك الأبرار في الجنة ولدان غلمان مخلدون لا يهرمون ولا يموتون حالهم دائما حال الغلمان لا تتغير { إذا رأيتهم } ونظرت إليهم { حسبتهم } في جمالهم وانتشارهم في الخدمة هنا وهناك { لؤلؤا منثورا } .
(4/344)
________________________________________
ويقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم { إذا رايت ثم } أي هناك في الجنة { رايت نعيما } لا يوصف { وملكا كبيرا } لا يقادر قدره { عاليهم ثياب سندس خضر واستبرق } يخبر تعالى أن عاليهم أي فوقهم ثياب سندس اي حرير خضر واستبرق وهو ما غلظ من الديباج . وثياب من استبرق بعضها بطائن وبعضها ظهائر البطائن ما يكون تحت الظهائر وقوله تعالى { وحُلّوا أساور من فضة } اي وحلاهم ربهم وهم في دار كرامته أساور من فضة ومن ذهب أيضا إذ يحذف المقابل لدلالة المذكور عليه نحو سرابيل تقيكم الحر أي وأخرى تقيكم البرد وقوله { وسقاهم شرابا طهورا } هذا غير ما ذكر فيما تقدم هذا إكرام خاص وهو أن الله تعالى هو الذي يسقيهم وأن هذا الشراب بالغ مبلغا عظيما في الطهارة لوصفه بالطهور . ويقال لهم تكريما لهم وتشويقا لغيرهم من أهل الدنيا الذين يسمعون هذا الخطاب التكريمي إن هذا النعيم من جنات وعيون وارائك وغلمان وطعام وشراب ولباس وما إلى ذلك { كان لكم جزاء } على إيمانكم وتقواكم { وكان سعيكم } اي عملكم في الدنيا { مشكورا } اي مرضيا مقبولا .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر صور من الجزاء الأخري .
2- حرمة استعمال أواني الذهب والفضة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم « هي لهم في الدنيا ولنا في الآخرة » .
3- حرمة الخمر لحديث « من شرب الخمر في الدنيا لا يشربها في الآخرة إن مات مستحلا لها » .
4- مشروعية اتخاذ خدم صالحين يخدمون المرء ويحسن إليهم .
5- حرمة لبس الحرير على الرجال وإباحته للنساء ، وكالحرير الذهب أيضا .
(4/345)
________________________________________
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
شرح الكلمات :
{ نزلنا عليك القرآن تنزيلا } : أي شيئا فشيئا ولم ينزله جملة واحدة لحكمة بالغة .
{ فاصبر لحكم ربك } : أي عليك بحمل رسالتك وإبلاغها إلى الناس .
{ ولا تطع منهم آثما أو كفورا } : الآثم هنا عتبة بن ربيعة والكفور الوليد بن المغيرة .
{ واذكر اسم ربك بكرة واصيلا } : أي صل الصبح والظهر والعصر .
{ ومن الليل فاسجد له } : أي صل صلاة المغرب والعشاء .
{ وسبحه ليلا طويلا } : أي تهجد بالليل نافلة لك .
{ يحبون العاجلة } : أي الدنيا .
{ ويذرون وراءهم يوما ثقيلا } : أي يوم القيامة .
{ وشددنا أسرهم } : أي قوينا أعضاءهم ومفاصلهم .
{ وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا } : أي جعلنا أمثالهم في الخلقة بدلا منهم بعد أن نهلكهم .
{ إن هذه تذكرة } : أي عظة للناس .
{ اتخذ إلى ربه سبيلا } : أي طريقا إلى مرضاته وجواره بالإِيمان والعمل الصالح وترك الشرك والمعاصي .
{ في رحمته } : أي الجنة .
{ أعد لهم عذابا أليما } : أي في النار والأليم ذو الألم الموجع .
معنى الآيات :
لقد عرض المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضا مفاده أن يترك دعوة الله تعالى إلى عبادته وتوحيده ويعبد ربّه وحده ويترك المشركين فيما هم فيه وله مقابل ذلك مال أو أزواج أو رئاسة وما إلى ذلك فأبى الله تعالى له ذلك وأنزل قوله { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا فاصبر لحكم ربك } على تحمل رسالتك وتبليغها إلى الناس { ولا تطع منهم } أي من مشركي قريش { آثما } كأبي جهل وعتبة بن ربيعة { ولا كفورا } كالوليد بن المغيرة أي لا تطعهما فيما طلبا إليك وعرضا عليك وواصل دعوتك واستعن بالصلاة والتسبيح والذكر ولدعاء ، وفي قوله تعالى { بكرة وأصيلا } إشارة غلى صلاة الصبح والظهر والعصر ، وفي قوله { ومن الليل فاسجد له } إشارة إلى صلاة المغرب والعشاء ، وقوله { وسبحه ليلا طويلا } صريح في انه التهجد إذ الصلاة نعم العون للعبد ولذا كان صلى الله عليه وسلم إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة وقوله تعالى { إن هؤلاء يحبون العاجلة } اي الدنيا يعني بهم كفار قريش يحبون الدنيا وسميت بالعاجلة لأنها ذاهبة مسرعة ، { ويذرون وراءهم يوما ثقيلا } هو يوم القيامة فلم يؤمنوا ولم يعملوا بما يسعدهم فيه ويذكرهم تعالى بأنه خالقهم وقادر على تبديلهم بغيرهم فيقول { نحن خلقناهم } أي أوجدناهم من العدم { وشددنا أسرهم } أي قوينا ظهورهم وأعضاءهم ومفاصلهم { وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا } اي جعلنا أمثالهم في الخلقة بدلا عنهم وأهلكناهم ولو شاء تعالى ذلك لكان ولكنه لم يشأ مع أنه في كل قرن يبدل جيلا بجيل هذا يميته وهذا يحييه وهو على كل شيء قدير . وفي خاتمة هذه السورة المشتملة على أنواع من الهدايات الكثيرة يقول تعالى { إن هذه تذكرة } أي هذه السورة موعظة { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا } طريقا إلى رضاه أولا ثم مجاورته في الملكوت الأعلى ثانيا ، ولما أعطى تعالى المشيئة قيدها بأن يشاء الله ذلك المطلوب أولا ، ومن هنا وجب الافتقار إلى الله تعالى بدعائه والضراعة إليه وهو قوله { وما تشاءون إلا أن يشاء الله } إن الله كان عليما بخلقه وبما يصلحهمن أو يُفسدهنم حكيما في تدبيره لأوليائه خاصة ولباقي البشرية عامة فله الحمد وله المنة .
(4/346)
________________________________________
وقوله { يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما } إنه بهذا يدعو كافة البشرية غلى الافتقار إليه ليغنيهم وإلى عبادته ليزكيهم وإلى جواره فيطهرهم ويرفعهم هؤلاء أولياؤه من أهل الإِيمان والتقوى { والظالمين } أي المشركين { أعد لهم عذابا أليما } أي أهانهم لكفرهم به وشركهم في عبادته فأعد لهم عذابا مؤلما موجعا نعوذ بالله من عذابه وشديد عقابه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- حرمة طاعة ذوي الإِثم وأهل الكفر في حال الاختيار .
2- على المؤمن أن يستعين بالصلاة والذكر والدعاء فإِنها نعم العون .
3- استحباب نافلة الليل .
4- مشيئة الله عز وجل قبل فوق كل مشيئة .
5- القرآن تذكرة للمؤمنين .
(4/347)
________________________________________
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
شرح الكلمات :
{ والمرسلات عرفا } : المرسلات الرياح الطيبة والعرف المتتابعة .
{ فالعاصفات عصفا } : فالرياح الشديدة الهبوب المضرة لشدتها .
{ والناشرات نشرا } : الرياح تنشر المطر وتفرقه في السماء نشرا .
{ فالملقيات ذكرا } : أي فالملائكة تلقى بالوحي على الأنبياء للتذكير به .
{ عذرا أو نذرا } : أي للاعذار بالنسبة إلى اقوام أو إنذار بالنسبة إلى آخرين .
{ إنما توعدون لواقع } : أي إنما توعدون أيها الناس لكائن لا محالة .
{ فإذا النجوم طمست } : أي محى نورها وذهبت .
{ وإذا السماء فرجت } : أي انشقت وتصدعت .
{ وإذا الجبال سيرت } : أي نسفت فإِذا هي هباء منبث مفرق هنا وهناك .
{ وإذا الرسل أُقتت } : أي جمعت لوقت حدد لها لتحضر فيه .
{ ليوم الفصل } : اي اليوم الذي يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق .
معنى الآيات :
قوله تعالى { والمرسلات عرفا } هذا بداية قسم الله تعالى أقسم فيه بعدة اشياء من مخلوقاته ولله أن يقسم بما شاء ، والحكمة من الإِقسام أن تسكن النفوس للخبر وتطمئن إلى صدق المخبر فيه وبذلك يحصل الغرض من إلقاء الخبر على السامعين والمقسم به هنا المرسلات وهي الرياح المتتابعة الطيبة العذبة والعاصفات منها وهي الشديدة الهبوب التي قد تعصف بالأشجار وتقتلعها وبالمباني وتهدمها والناشرات نشرا وهي الرياح المعتدلة التي تنشر السحاب وتفرقه أو تسوقه للإمطار وإِنزال المطر والفارقات فرقا وهي آيات القرآن الكريم تفرق بين الحق والباطل والملقيات ذكرا عذرا أو نذرا وهي الملائكة تلقى بالوحي على من اصطفى الله تعالى من عباده للاعذار والانذار أي تعذر أناسا وتنذر آخرين هذا هو القسم والقسم هو الله والمقسم عليه هو قوله جل ذكره إن ما توعدون أيها الناس من خير أو شر لواقع أي كائن لا محالة وعليه فأصلحوا أعمالكم بعد تصحيح نياتكم فإِن الجزاء واقع لا يتخلف أبدا ولا يتغير ولا يتبدل ومتى يقع هذا الموعود الكائن لا محالة والجواب يقع في يوم الفصل إذاً فما هو يوم الفصل والجواب يوم يحضر الله الشهود من الملائكة والرسل ويفصل بين الناس ومتى يكون يوم الفصل والجواب إذا النجوم طمست اي ذهب نورها ومحى وإذا السماء فرجت أي انشقت وتصدعت وإذا الجبال نسفت أي فتت وإذا الرسل أقتت أي حدد لها وقت معين تحضر فيه وهو يوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل تفخيم لشانه وإعلام بهوله وقوله تعالى { ويل يومئذ } أي يوم يقع الفصل العذاب الهائل الكبير { للمكذبين } بالله وبآياته ولقائه ورسوله .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
2- لله تعالى أن يقسم بما يشاء من خلقه وليس للعبد أن يقسم بغير خالقه عز وجل .
3- علامات القيامة وظاهرة الانقلاب الكوني العام وهي انطماس ضوء النجوم وانفراج السماء ونسف الجبال .
4- الوعيد الشديد بالويل الذي هو واد في جهنم تستغيث جهنم من حره للمكذبين بما يجب التصديق به من أركان الإِيمان الستة ، والوعد والوعيد الإِلهيين .
(4/348)
________________________________________
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
شرح الكلمات :
{ ألم نهلك الأولين } : أي كقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم إلى البعثة النبوية وذلك بتكذيبهم .
{ ثم نتبعهم الآخرين } : أي إن أصروا على التكذيب ككفار مكة .
{ كذلك نفعل بالمجرمين } : أي مثل ذلك الهلاك نهلك المجرمين .
{ ويل يومئذ للمكذبين } : أي إذا جاء وقت الهلاك ويل فيه للمكذبين .
{ من ماء مهين } : اي المنيّ والمهين الضعيف .
{ في قرار مكين } : أي حريز وهو الرحم .
{ إلى قدر معلوم } : أي إلى وقت الولادة .
{ فقدرنا } : أي خلقه .
{ فنعم القادرون } : أي نحن على الخلق والتقدير .
{ كفاتا } : اي تكفت الناس أي تضمهم أحياء فوق ظهرها وأمواتا في بطنها .
{ رواسي شامخات } : أي جبال عاليات .
{ فُراتا } : أي عذبا .
معنى الآيات : قوله تعالى { ألم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين كذلك نفعل بالمجرمين } إنه لما أقسم تعالى على وقوع ما أوعد به المكذبين من عذاب يوم القيامة وذكر وقت مجيئه وعلامات ذلك وذكر أن الرسل أقتت ليوم الفصل وهو اليوم الذي يفصل فيه تعالى بين الخلائق فيقتص من الظالم للمظلوم ، ويجزي المحسن بإِحسانه والمسيء بإِساءته وتوعد المكذبين بذلك فقال ويل يومئذ للمكذبين دلل هنا على قدرته على إهلاك المكذبين بما سبق له أن فعله بالمكذبين فقال في استفهام تقريري لا ينكر { ألم نهلك الأولين } من الأمم السابقة كعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط إلى زمن البعثة النبوية { ثم نتبعهم الآخرين } فقد أهلك أكابر مجرمي قريش في بدر وقوله { وكذلك نفعل بالمجرمين } وهو وعيد صريح وحقا والله لقد أهلك المجرمين ولو ينج من الهلاك مجرم وويل يومئذ للمكذبين وقوله تعالى { ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون } . هذا استدلال آخر على قدرة الله وعلمه اللذين لا يتم البعث والجزاء إلا عليهما قدرة لا يعجزها شيء وعلم لا يخفى معه شيء فقال مستفهما استفهاما تقريريا { ألم نخلقكم من ماء مهين } أي ضعيف هو المني { فجعلناه } أي الماء { في قرار مكين } أي حريز حصين وهو الرحم { إلى قدر معلوم } وهو زمن الولادة { فقدرنا } أي خلق الجنين على أحسن صورة أدق تركيب المسافات بين الأعضاء كما بين العينين كما بين اليدين والرجلين كما بين الأذنين كلها مقدرة تقديرا عجيبا لا تزيد ولا تنقص { فنعم القادرون } على الخلق والتقدير معا والجواب بلى ولم إذاً تكفرون وتكذبون؟ { ويل يومئذ للمكذبين } وقوله { ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا؟ } هذا استدلال آخر على قدرة الله على البعث والجزاء والاستفهام فيه للتقرير أيضا { ألم نجعل الأرض كفاتا } أي مكان كفاية مأخوذ من كفت الشيء إذا ضمه غلى بعضه بعضا والأرض ضامة للناس كافية لهم كافتة الأحياء على ظهرها يسكنون ويأكلون ويشربون والأموات في بطنها لا تضيق بهم أبدا كما لم تضق بالأحياء { وجعلنا فيها } أي في الأرض { رواسي شامخات } أي جبال عاليات { وأسقيناكم ماء فراتا } أي عذبا وهو ماء السماء ناقعا في الأرض وجاريا في الأودية والأنهار والجواب بلى ، بلى إذاً مالكم ايها المشركون كيف تكذبون؟ { ويل يومئذ للمكذبين } أي ويل لهم إذا حان وقت هلاكهم اي
(4/349)
________________________________________
{ يوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل؟ } هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
2- الاستدلال على البعث والجزاء بالقدرة والعلم إذ هما اساس البعث والجزاء .
3- بيان انعام الله تعالى على عباده في خلقهم ورزقهم وتدبير حياتهم أحياء وأمواتا .
4- بيان أن الناس أكثرهم لا يشكرون .
5- الوعيد الشديد للمكذبين الكافرين .
(4/350)
________________________________________
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)
شرح الكلمات :
{ انطلقوا غلى ما كنتم به تكذبون } : أي من العذاب .
{ ظل ذي ثلاث شعب } : أي دخان جهنم إذا ارتفع انقسم إلى ثلاث شعب لعظمته .
{ لا ظليل } : أي كنين ساتر يكن ويستر .
{ ولا يغني من اللهب } : أي ولا يرد شيئا من الحر .
{ إنها } : أي النار .
{ بشرر كالقصر } : أي الشررة الواحدة كالقصر في عظمته وارتفاعه .
{ كأنه جمالة صفر } : أي الشرر المتطاير من النار الشررة كالقصر في عظمها وارتفاعها وكالجمل في هيئتها ولونها والجمل الصفر السود الذي يميل إلى صفرة .
{ هذا يوم لا ينطقون } : اي فيه بشيء .
{ ولا يؤذن لهم } : أي في العذر .
{ جمعناكم والأولين } : أي من المكذبين قبلكم .
{ فإِن كان لكم كيد فكيدون } : أي حيلة في دفع العذاب فاحتالوا لدفع العذاب عنكم .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء التي عليها مدار الحياة كلها قوله تعالى { انطلقوا } هذا يقال للمكذبين يوم القيامة وهم في عرصاتها يقال لهم تقريعاً وتبكيتاً انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون وهو عذاب الآخرة ويتهكم بهم ويسخرون منهم فيقولون انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب وهو دخان النار إذا ارتفع يتشعب إلى ثلاث شعب وذلك لعظمته لا ظليل أي ليس هو ظلا حقيقيا كظل لشجرة والجدار فيكن ويستر ولا يغني من اللهب فيدفع الحر وقال تعالى في وصفها { إنها } اي النار { ترمي بشرر كالقصر } الشررة الواحدة كالقصر في كبره وارتفاعه كأنه أي الشرر جمالة صفراء اي الشررة كالجمل الصفر وهو الأسود المائل غلى الصفرة . ثم قال تعالى { ويل يومئذ للمكذبين } يتوعد المكذبين به وبآياته ولقائه ورسوله صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى { هذا يوم لا ينطقون } اي هذا يوم القيامة يوم لا ينطقون أي فيه بشيء { ولا يؤذن لهم } اي في الاعتذار فهم يعتذرون لا اعتذار ولا إذن به . ولطول يوم القيامة وتجدد الأحداث فيه يخبر القرآن مرة باعتذارهم وكلامهم في موطن ، وينفيه في آخر ، إذ هو ذاك الواقع في مواطن يتكلمون بل ويحلفون كاذبين وفي مواطن يغلب عليهم الخوف والحزن فلا يتكلمون بشيء وفي مواطن يطلب منهم أن يتكلموا فيتكلموا وفي أخرى لا ، { ويل يومئذ للمكذبين } وعيد لكل المكذبين بهذا وبغيره وقوله تعالى { هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين } أي يقال لهم يوم القيامة وهم في عرصاتها هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون جمعناكم فيه أيها المكذبون من هذه الأمة والمكذبين الأولين من قبلها ، فإِن كان لكم كيد اي حيلة على خلاصكم مما أنتم فيه فكيدون أي احتالوا عليّ وخلصوا أنفسكم يقال لهم تبكيتا لهم وخزيا وهو عذاب روحي اشد الماً من العذاب الجسماني { ويل يومئذ للمكذبين } اي ويل يوم إذ يجيء يوم الفصل للمكذبين .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- التهكم والسخرية والتبكيت من ألم أ ، واع العذاب الروحي يوم القيامة .
2- عرصات القيامة واسعة والمقام فيها طويل والبلاء فيها شديد .
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر بعض ما يتم فيه .
4- التكذيب هو رأس الكفر ، وبموجبه يكون العذاب .
(4/351)
________________________________________
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
شرح الكلمات :
{ إن المتقين } : أي الذين اتقوا ربهم فآمنوا به وأطاعوه بفعل ما يحب وترك ما يكره .
{ في ظلال } : أي في ظلال الأشجار الوارفة .
{ وعيون } : أي من ماء ولبن وخمر وعسل .
{ مما يشتهون } : لا مما يجدون كما هي الحال في الدنيا .
{ إنا كذلك نجري المحسنين } : أ كما جزينا المتقين نجزي المحسنين .
{ كلوا وتمتعوا } : أي في هذه الحياة الدنيا .
{ وإذا قيل لهم اركعوا } : أي صلوا لا يصلون .
{ بعده يؤمنون } : أي بعد القرآن غذ الكتب غيره ليست معجزة والقرآن هو المعجز بألفاظه ومعانيه فمن لم يؤمن بالقرآن ما آمن بغيره بحال من الأحوال .
معنى الآيات :
من باب الترغيب والترهيب وهو أسلوب أمتاز به القرآن الكريم ذكر تعالى ما للمتقين من نعيم مقيم بعد ذكر ما للمكذبين الضالين من عذاب الجحيم فقال تعالى { إن المتقين } وهم الذين اجتنبوا الشركَ والمعاصيَ { في ظلال وعيون } في ظلال أشجار الجنة وعيونها من ماء ولبن وخمر وعسل وفواكه كثيرة منوعة مما يشتهون على خلاف الدنيا إذ الناس يأكلون مما يجدون فلوا اشتهوا شيئا ولم يجدوه ما أكلوه وأما دار النعيم فإِن المرء ما اشتهى شيئا إلا وجده وأكله وهذا هو السر في التعبير في غير موضع بكلمة مما يشتهون . ومن إتمام النعيم أن يقال لهم تطييبا لخواطرهم كلوا واشربوا هنيئا اي متهنئين بما كنتم تعملون من الصالحات وتركون من السيئات . وقوله تعالى إنا كذلك نجزي المحسنين أي كهذا الجزاء الذي جزينا به المتقين نجزي به المحسنين .
ويل يومئذ للمكذبين اي بهذا الوعد الكريم . قوله تعالى { كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون } .
هذا قول الله تعالى لمشركي قيرش وكفارها يهددهم الرب تبارك وتعالى ناعيا عليهم إجرامهم حتى يحين وقتهم وقد حان حيث أعلمهم أنهم لا يتمتعون إلا قليلا وقد أهلكوا في بدر . وقوله { ويل يومئذ للمكذبين } هو توعد بالعذاب الليم لمن يكذب بوعيد الله هذا ووعده ذاك . وقوله تعالى { وإذا قيل لهم اركعوا } أي صلوا { لا يركعون } اي لا يصلون ولا يخشعون ولا يتواضعون فيقبلون الحق ويؤمنون به ، ويل يومئذ للمكذبين بشرائع الله وهداه التاركين للصلاة وقوله تعالى { فبأي حديث بعده يؤمنون } اي فبأي كتاب يؤمن هؤلاء المكذبون إذا لم يؤمنوا بالقرآن وذلك لما فيه من الخير والهدى ولما يدعو إليه من السعادة والكمال كما أنه معجز بألفاظه ومعانيه بخلاف الكتب غيره فمن لم يؤمن به لا يرجى له أن يؤمن بغيره بحال من الأحوال .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر ما أعد الله تعالى لأوليائه المؤمنين المتقين المحسنين .
2- بيان نعيم أهل التقوى والاحسان وفضلهما اي فضل التقوى والإِحسان .
3- صدق القرآن في أخباره إذ وعيد الله لأكابر مجرمي مكة نفذ بعد اقل من خمس سنوات .
4- من دخل مسجدا وأهله يصلون فليدخل معهم في صلاتهم وإن كان قد صلى حتى لا يكون غيره راكعا وهو غير راكع وقد جاء في الصحيح هذا المعنى .
(4/352)
________________________________________
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
شرح الكلمات :
{ عم } : أي عن أيّ شيء؟ .
{ يتساءلون } : أي يسأل بعض قريش بعضا .
{ عن النبأ العظيم } : أي ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد والنبوة والبعث الآخر .
{ الذي هم فيه مختلفون } : أي ما بين مصدق ومكذب .
{ سيعلمون } : عاقبة تكذيبهم عند نزع أرواحهم وعند خروجهم من قبورهم .
{ أوتادا } : أي تثبت بها الأرض كما تثبت الخيمة بالأوتاد .
{ سباتا } : أي راحة لأبدانكم .
{ لباسا } : أي ساتراً بظلامه وسواده .
{ وجعلنا النهار معاشا } : أي وقتا للمعاش كسبا وأكلا .
{ شدادا } : أي قوية محكمة الواحدة شديدة والجمع شداد .
{ سراجا وهاجا } : أي ضوء الشمس وهاجا وقاداً .
{ المعصرات } : أي السحابات التي حان لها أن تمطر كالجارية المعصر التي دنا وقت حيضها .
{ ثجّاجا } : أي صبابا .
{ وجنا ألفافا } : أي بساتين ملتفة .
معنى الآيات :
قوله تعالى { عم يتساءلون } أي عن أي شيء يتساءل رجال قريش فيسأل بعضهم بعضا إنهم يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون إنه ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد والنبوة والبعث الآخر . قال تعالى ردعا لهم وتخويفا كلا سيعلمون عند نزع أرواحهم عاقبة تكذيبهم لرسولنا وإنكارهم لتوحيدنا ولقائنا ، ثم كلا سيعلمون يوم يبعثون من قبورهم ويحشرون إلى نار جهنم حين لا ينفعهم علمن ولا يجديهم غيمان . وقوله تعالى { ألم نجعل الأرض مهادا } الآيات فذكر تعالى من مظاهر القدرة والعلم والرحمة والحكمة ما يوجب الإِيمان به وبتوحيده ورسوله ولقائه لو كان القوم يعقلون فقال { ألم نجعل الارض مهادا } اي فراشا ووطاء للحياة عليها؟ وهل يتم هذا بدون علم وقدرة والجبال أوتادا تثبت الأرض بها فيأمنون على حياتهم من الميدان وسقوط كل بناء وخلقناكم أزواجا الخلق مظهر من مظاهر القدرة والعلم وكونهم أزواجا مظهر من مظاهر الحكمة والرحمة وجعلنا نومكم سباتا أي راحة لأبدانكم . وجعلنا الليل لباسا ساترا بظلامه . وجعلنا النهار معاشا للعيش كسبا له وتمتعا به . وبنينا فوقكم سبعا شدادا وهي السموات السبع الشديدة القوية البناء لا تفنى ولا تزول غلى أن يأذن هو سبحانه وتعالى بزوالها ، وجعلنا سراجا وهاجا هو الشمس المشرقة المضيئة . وأنزلنا من المعصرات أي السحابات التي حان لها أن تمطر تشبيهاً لها بالجارية المعصر التي قاربت الحيض ماء ثجاجا صبابا وابلا ، وذلك لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا الحب كالبر والذرة لطعامكم ، والنبات كالكلأ والعشب لحيواناتكم ، وجنات اي بساتين ملفتة الأشجار غنّاء بالثمار المختلف الألوان ، والطعوم كل هذه المذكورات مفتقرة غلى قدرة لا يعجزها شيء وعلنم أحاط بكل شيء وحكمة لا يخلو منها شيء ورحمة تعم كل شيء والله وحده ذو القدرة والعلم والحكمة والرحمة فكيف ينكر توحيده ويكذب رسوله ، ويستبعد بعثه لناس يوم القيامة لحسابهم ومجازاتهم على أعمالهم في هذه الدار وهي مختلفة منها الصالح ومنها الفاسد هل من الحكمة في شيء أن يظلم الظالمون ويفسد المفسدون ، ويعدل العادلون ويصلح المصلحون ويموتون سواء ولا يكون هناك حياة أخرى يجزي فيها المسيء بإِساءته والمحسن بإِحسانه اللهم لا لا إنه لا بد من حياة أخرى .
(4/353)
________________________________________
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- مظاهر القدرة والعلم والحكمة والرحمة الإِلهية في كل الايات من قوله ألم نجعل الأرض مهادا إلى قوله وجنات ألفافا .
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء والنبوة والتوحيد وهي التي اختلف الناس فيها ما بين مثبت وناف ، ومصدق ومكذب .
3- سيحصل العلم الكامل بهذه المختلف فيها بين الناس عند نزع الروح ساعة الموت ، ولكن لا فائدة من العلم ساعتها إذ قضي الأمر وانتهى الخلاف .
(4/354)
________________________________________
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
شرح الكلمات :
{ إن يوم الفصل } : أي الفصل بين الخلائق ليجزي كل امرئ بما كسب .
{ كان ميقاتا } : أي ذا وقت محدد معين لدى الله عز وجل فلا يتقدم ولا يتأخر .
{ يوم ينفخ في الصور } : أي يوم ينفخ اسرافيل في الصور .
{ فتأتون أفواجا } : أي تأتون أيها الناس جماعات جماعات إلى ساحة فصل القضاء .
{ وفتحت السماء } : أي لنزول الملائكة .
{ وسيرت الجبال } : أي ذُهب بها من أماكنها .
{ فكانت سرابا } : أي مثل السراب فيتراءى ماء وهو ليس بماء فكذلك الجبال .
{ إن كهنم كانت مرصادا } : أي راصدة لهم مرصدة للظالمين مرجعا يرجعون إليها .
{ لابثين فيها أحقابا } : أي دهورا لا نهاية لها .
{ لا يذوقون فيها بردا } : أي نوما ولا شرابا مما يشرب تلذذا به إذ شرابهم الحميم .
{ وغساقا } : أي ما يسيل من صديد أهل النار ، جوزوا به عقوبة لهم .
{ جزاء وفاقا } : إذ لا ذنب أعظم من الكفر ، ولا عذاب أعظم من النار .
{ كذابا } : أي تكذيبا .
{ فلن نزيدكم إلا عذابا } : أي فوق عذابكم الذي أنتم فيه .
معنى الآيات :
بعد أن ذكر تعالى آيات قدرته على البعث والجزاء الذي أنكره المشركون واختلفوا فيه ذكر في هذه الآيات عرضا وافيا للبعث الآخر وما يجري فيه ، وبدأ بذكر الأحداث للانقلاب الكوني ، ثم ذكر جزاء الطاغين تفصيلا فقال عز وجل { إن يوم الفصل } أي بين الخلائق كان ميقاتا لما أعد الله للمكذبين بلقائه الكافرين بتوحيده المنكرين لرسالة نبيه فيه ، يجزيهم الجزاء الأوفى ، ثم ذكر تعالى أحداثا تسبقه فقال { يوم ينفخ في الصور } أي يوم ينفخ إسرافيل نفخة البعث وهي الثانية فتأتون أيها الناس أفواجا أي جماعات . { وفتحت السماء } أي انشقت { فكانت أبوابا } لنزول الملائكة منها { وسيرت الجبال فكانت سرابا } هباء منبثا كالسراب في نظر الرائي . وقوله تعالى { إن جهنم كانت مرصادا } أي إنه بعد الحساب يأتي الجزاء وها هي ذي جهنم قد أرصدت واعدت فهي مرصاد ، مرصاد لمن؟ للطاغين المتجاوزين الحد الذي حدد لهم وهو أن يؤمنوا بربهم ويعبدوه وحده ويتقربوا إليه بفعل محابه وترك مكارهه فتجاوزوا ذلك إلى الكفر بربهم والإِشراك به وتكذيب رسوله وفعل مكارهه وترك محابه هؤلاء هم الطاغون الذي ارصدت لهم جهنم فكانت لهم مرصادا ومرجعا ومآبا { لابثين فيها أحقابا } أي دهورا ، { لا يذوقون فيها بردا } أي نوما لأن النوم يسمى البرد في لغة بعض العرب ، { ولا شرابا } ذا لذة { إلا حميما } وهو الماء الحار { وغساقا } وهو ما يسيل من صديد أهل النار { جزاء وفاقا } أي موافقا لذنوبهم لأنه لا أعظم من الكفر ذنبا ولا من النار عذابا ثم ذكر تعالى مقتضى هذا العذاب فقال { إنهم كانوا لا يرجون حسابا } أي ما كانوا يؤمنون بالحساب ولا بالجزاء ولا يخافون من ذلك { وكذبوا بآياتنا كذّابا } أي بآياته وحججه تكذيبا زائدا . وقوله تعالى { وكل شيء احصيناه كتابا } إذ كانت الملائكة تكتب أعمالهم وتحصيها عليهم فهم يتلقون جزاءهم العادل ويقال لهم توبيخا وتبكيتا وهم في أشد العذاب وأمرّه { فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا } فيعظم عندهم الكرب ويستحكم من نفوسهم اليأس . وهذا جزاء من تنكر لعقله فكفر بربه وآمن بالشيطان وعبد الهوى . والعياذ بالله تعالى .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- التنديد بالطغيان وبيان جزاء الظالمين .
2- التنديد بالتكذيب بالبعث والمكذبين به .
3- أعمال العباد مؤمنهم وكافرهم كلها محصاة عليها ويجزون بها .
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر آثارها .
5- أبديّة العذاب في الدار الاخرة وعدم امكان نهايته .
(4/355)
________________________________________
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
شرح الكلمات :
{ إن للمتقين } : أي الذين اتقوا الشرك والمعاصي خوفا من ربهم وعذابه .
{ مفازا } : اي مكان فوز ونجاة وهو الجنة .
{ حدائق وأعنابا } : أي بساتين وأعنابا .
{ وكواعب } : أي شابات تكعبت ثديهن الواحدة كاعب والجمع كواعب .
{ أترابا } : أي في سن واحدة وأتراب جمع واحدة تِرب .
{ وكأسا دهاقا } : أي خمرا كأسها ملأى بها .
{ لا يسمعون فيها } : أي في الجنة لغوا اي باطلا ولا كذبا من القول .
{ عطاء حسابا } : أي عطاء كثيرا كافيا يقال أعطاني فأحسبني .
{ يوم يقوم الروح } : ملك عظيم يقوم وحده صفا والملائكة صفا وحدهم .
{ مآبا } : أي مرجعا سليما وذلك بالإِيمان والقتوى إذ بهما تكون النجاة .
{ ما قدمت يداه } : أي ما أسلفه في الدنيا من خير وشر .
{ يا ليتني كنت ترابا } : أي حتى لا أعذب وذلك يوم يقول الله تعالى للبهائم كوني ترابا وذلك بعد الاقتصاص لها من بعضها بعضا .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء المستلزمة لعقيدة التوحيد والنبوة بعد أن ذكر تعالى حال الطغاة الفجار وبين مصيرهم غاية البيان ثنّى بذكر المتقين الأبرار وبين مصيرهم وأنه جنات تجري من تحتها الأنهار فقال وقوله الحق وخبره الصدق { إن للمتقين مفازا } أي مكان فوز ونجاح وبيّنه بقوله حدائق أي بساتين وأعنابا وكواعب جمع الفتاة ينكعب ذديها اي يستدير ويرتفع كالكعب وذلك عند بلوغها وقوله في وصفهن { أترابا } جمع ترب أي في سن واحدة دون الثلاثين سنة { وكأسا دهاقا } اي كأس خمر ملأى { لا يسمعون } اي في الجنة { لغوا ولا كذابا } لا قولا باطلا ولا كذابا . وقوله تعالى { جزاء من ربك عطاء حسابا } اي جزاهم ربهم بذلك فجعله عطاء كافيا ووصف الجبار نفسه تعليما وتذكيرا فأبدل من قوله منربك : قوله { رب السموات والأرض وما بينهما } اي مالكهما والمتصرف فيهما { الرحمن } رحمان الدنيا والآخرة ورحيمها { لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح } ملك عظيم لا يقادر قدره وحده صفا { والملائكة صفا } هنا لا يملك أحد من الخلق { من الرحمن خطابا } وقوله { لا يتكلمون } بيد يديه { إلا من أذن له الرحمن وقال } قولا { صوابا } وفي الصحيح أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم هو أول من يكلم الله عز وجل في الموقف حيث يأتي تحت العرش فيخر ساجدا فلا يزال ساجدا يحمد الله تعالى . بمحامد يلهما ساعتئذ فيقول له الرب تعالى ارفع راسك وسل تعط واشفع تشفع وقوله تعالى { ذلك اليوم الحق } الذي لا مرية فيه ولا شك وهو يوم الفصل وبناء عليه فمن شاء اتخذ غلى ربه مآبا اي مرجعا إليه بالإِيمان والطاعة . وقوله تعالى { إنا أنذرناكم عذابا قريبا } اي خوفناكم عذابا قريبا جدا يبتدئ بالموت ولا ينتهي ابدا ، وذلك { يوم ينظر المرء ما قدمت يداه } من خير أو شر أي يرى جزاء عمله عيانا إن كان عمله خيراً جزي بمثله وإن كان شرا جزي بمثله . { ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا } إنه لما يرى البهائم بعد القصاص لها صارت ترابا يتمنى الكافر وهو في عذابه أن لو كان ترابا مثل البهائم ولولا العذاب وشدته ودوامه لما تمنى أن يكون ترابا ابدا .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان كرامة المتقين وفضل التقوى .
2- وصف جميل لنعيم الجنة .
3- ذم الكذب واللغو وأهلهما .
4- بيان شدة الموقف وصعوبة المقام فيه .
5- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
6- الترغيب في العمل الصالح واجتناب العمل السيء الفاسد .
(4/356)
________________________________________
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
شرح الكلمات :
{ والنازعات غرقا } : أي الملائكة تنزع أرواح الفجار والكفار عند الموت بشدة .
{ والناشطات نشطا } : أي الملائكة تنشط أرواح المؤمنين الصالحين نشطا اي تسلها برفق .
{ والسابحات سبحا } : أي الملائكة تسبح من السماء بأمر الله اي تنزل به إلى الأرض .
{ فالسابقات سبقا } : أي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة .
{ فالمدبرات أمرا } : أي الملائكة تدبر أمر الدنيا أي تنزل بتدبيره من لدن الله المدبر الحكيم .
{ يوم ترجف الراجفة } : أي النفخة الأولى نفخة الفناء التي يتزلزل كل شيء معها .
{ تتبعها الرادفة } : أي النفخة الثانية .
{ واجفة } : أي خائفة قلقة .
{ أئنا لمردودون في الحافرة } : أي أنرد بعد الموت غلى الحياة إذ الحافرة اسم لأول الأمر .
{ تلك إذا كرة خاسرة } : أي رجعة إلى الحياة خاسرة .
{ فإنما هي زجرة واحدة } : أي نفخة واحدة .
{ فإِذا هم بالساهرة } : أي بوجه الأرض أحياء سميت ساهرة لأن من عليها بها يسهر ولا ينام .
معنى الآيات :
قوله تعالى والنازعات غرقا الآيات هذا قسم عظيم اقسم تعالى به على أنه لا بد من البعث والجزاء حيث كان المشركون ينكرون ذلك حتى لا يقفوا عند حد في سلوكهم فيواصلوا كفرهم وفسادهم جريا وراء شهواتهم كل أيامهم وطيلة حياتهم كما قال تعالى بل يريد الإِنسان ليفجر أمامه فأقسم تعالى بخمسة اشياء وهي النازعات والناشطات والسابحات والسابقات والمدبرات ، ورجح أنهم أصناف من الملائكة وجائز أن يكون غير ذلك ولا حرج إذ العبرة بكونه تعالى قد اقسم ببعض مخلوقاته على أن البعث حق ثابت وواقع لا محالة ، وتقدير جواب القسم بلتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم إذ هو معهود في كثير من الإِقسام في القرآن كقوله تعالى من سورة التغابن زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير وسيتم ذل البعث والجزاء يوم ترجف الراجفة التي هي النفخة الأولى التي ترجف فيها العوالم كلها ويفنى فيها كل شيء ، ثم تتبعها الرادفة وهي النفهخة الثانية وهي نفخة البعث من القبور أحياء وأن بين النفختين أربعين سنة كما ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح وقوله تعالى قلوب يومئذ واجفة أي خائفة قلقة أبصارها خاشعة أي أبصار أصحاب تلك القلوب خاشعة أي ذليلة خائفة . وقوله تعالى يقولون أي منكرو البعث أئنا لمردودون في الحافرة أي أنرد بعد الموت إلى الحياة من جديد كما كنا أول مرة ، أئذا كنا عظاما نخرة أي بالية مفتتة وقولهم هذا استبعاد منهم للبعث وانكار له ، وقالوا تلك إذاً كرة خاسرة يعنون أنهم إذا عادوا إلى الحياة مرة أخرى فإِن هذه العودة تكون خاسرة وهي بالنسبة إليهم كذلك إذ سيخسرون فيها كل شيء حتى أنفسهم كما قال تعالى قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين .
(4/357)
________________________________________
وقوله تعالى فإِنما هي زجرة واحدة أي صيحة واحدة هي نفخة إسرافيل الثانية نفخة البعث { فإذا هم } أولئك المكذبون وغيرهم من سائر الخلق بالساهرة أي وجه الأرض وقيل فيها الساهرة لأن من عليها يومئذ لا ينامون بل يسهرون أبدا فرد تعالى بهذا على منكري البعث الآخر وقرره عز وجل بما لا مزيد عليه إعذارا وإنذارا ولا يهلك على الله إلا هالك .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان أن الله تعالى يقسم بما يشاء من مخلوقاته بخلاف العبد لا يجوز له أن يقسم بغير ربه تعالى .
2- بيان أن روح المؤمن تنزع عند الموت نزعاً سريعاً لا يجد من الألم ما يجده الكافر .
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء بالإِقسام عليها وذكر كيفية وقوعها .
(4/358)
________________________________________
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)
شرح الكلمات :
{ موسى } : أي موسى بن عمران عليه السلام .
{ بالواد المقدس طوى } : أي بالواد الطاهر المبارك بطوى .
{ اذهب إلى فرعون } : أي بأن اذهب إلى فرعون .
{ إنه طغى } : أي تجاوز حده كعبد إلى ادعاء الربوبية والألوهية .
{ إلى أن تزكى } : أي تسلم فتطهر من رجس الشرك والكفر بالإِسلام لله تعالى .
{ وأهديك إلى ربك } : أي أرشدك إلى معرفة ربك الحق فتخشاه وتطيعه فتنجو من عذابه .
{ فأراه الآية الكبرى } : أي العصا واليد إذ هي من اكبر الآيات الدالة على صدق موسى .
{ ثم أدبر يسعى } : أي بعد ما كذب وعصى رجع يجمع جموعه ويحشر جنوده لحرب موسى وقال كلمة الكفر أنا ربكم الأعلى فلا طاعة إلاّ لي .
{ فأخذه الله نكال الآخرة والأولى } : أي عذبه تعالى عذاب الآخرة وهو قوله أنا ربكم الأعلى وعذاب الأولى وهي قوله ما علمت لكم من إله غيري .
معنى الآيات : قوله تعالى هل أتاك حديث موسى الآيات . . المقصود من هذه الآيات تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يعاني من تكذيب قومه له ولما جاء به من التوحيد والشرع فقص تعالى عليه طرفا من قصة موسى مع فرعون تخفيفا عليه ، وتهديداً لقومه بعقوبة تنزل بهم كعقوبة فرعون الذي كان أشد منهم بطشاً وقد أهلكه الله فأغرقه وجنده . . فقال تعالى { هل أتاك } يا رسولنا { حديث موسى } بن عمران ، { إذ ناداه ربّه بالواد المقدس طوى } أي بالواد المطهر المبارك المسمى طوى ناده فأعلمه أولاً أنه لا إله إلا هو وأمره بعبادته ، ثم أمره بأ ، يذهب إلى فرعون الوليد بن الريان ملك القبط بمصر فقال له اذهب إلى فرعون إنه طغة أي عتا وتكبر وظلم فأفحش في الظلم والفساد . وعلمه ما يقول له إذا انتهى إله فقل { هل لك إلى أن تزكى } أي إلى أن تسلم فتزكو روحك وتطهر بالإِسلام وأهديك إلى ربك فتخشى أي وارشدك إلى ربك وأعرفك به فتخشى أي عقابه فتترك الظلم والطغيان قال تعالى فأراه الآية الكبرى والتي هي اليد والعصا ، فكذب فرعون موسى في دعوته وعصى ربّه فلم يستجب له ولم يطعه فيما أمره به ودعاه إليه من الإِيمان برسالة موسى وإِرسال بني إسرائيل معه بعد الإِسلام لله ظاهرا وباطنا . ثم أدبر فرعون أي عن دعوة الحق رافضا لها يسعى في الباطل والشر { فحشر } رجال وجنده { فنادى } أي ناداهم ليعدهم إلى حرب موسى { فقال : أنا ربكم الأعلى } يعني أنه لا ربّ فوقه ، { فأخذه الله } أي عذبه { نكال } اي عذاب { الآخرة } اي الكلمة وهي قوله : { أنا ربكم الأعلى } ونكال الأولى وهي قوله { ما علمت لكم من إله غيري } وبين الكلمتين الخبيثتين أربعون سنة فالأولى قالها في بداية الدعوة حيث ادّعى أنه يحث واستقصى في البحث واجتهدوا أنه كل ذلك الاجتهاد لم يعلم أن للناس من قومه من إله سواه .
(4/359)
________________________________________
وقوله تعالى إن في ذلك { لعبرة لمن يخشى } أي فيما قص تعالى من خبر موسى وفرعون { لعبرة } أي عظة لمن يخشى الله وعذاب الدار الآخرة فيؤمن ويتقي أي فيزداد إيماناً وتقوى .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تسلية الداعي إلى الله تعالى وحمله على الصبر في دعوته حتى ينتهي بها إلى غاياتها .
2- اثبات مناجاة موسى لربّه تعالى وأنه كلمه ربّه كفاحاً بلا واسطة .
3- تقرير أن لا تزكية للنفس البشرية إلا بالإِسلام أي بالعمل بشرائعه .
4- لا تحصل الخشية من الله للعبد إلا بعد معرفة الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء .
5- وجود المعجزات لا يستلزم الإِيمان فقد رأى فرعون أعظم الآيات كالعصا واليد وما آمن .
6- التنديد والوعيد الشديد لمن يدعي الربوبية والألوهية فيأمر الناس بعبادته .
(4/360)
________________________________________
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
شرح الكلمات :
{ أأنتم أشد خلقا أم السماء؟ } : أي أشد خلقا .
{ رفع سمكها } : أي غلظها وارتفاعها .
{ فسواها } : أي جعلها مستوية سطحا واحدا ما فيها نتوء ولا انخفاض .
{ وأغطش ليلها } : أي أظلمه جعله مظلما .
{ وأخرج ضحاها } : أي ضوءها ونهارها .
{ والأرض بعد ذلك دحاها } : أي بعد أن خلق الرض خلق السماء ثم دحا الأرض أي بسطها .
وأخرج منها ماءها ومرعاها .
{ والجبال أرساها } : أي أثبتها على سطح الأرض لتثبت ولا تميد بأهلها .
{ متاعا لكم ولأنعامكم } : أي اخرج من الأرض ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاععا لكم ولأنعامكم وهي المواشي من الحيوان .
معنى الآيات :
قوله تعالى { أأنتم اشد خلقا } الآيات . . سيقت هذه الآيات الكريمة لتقرير عقيدة البعث والجزاء بايراد أكبر دليل عقلي لا يرده العاقل ابدا وهو أن السماء في خلقها وما خلق الله فيها ، وأن الأرض في خلقها وما خلق الله فيها أشد خلقا وأقوى وأعظم من خلق الإِنسان بعد موته فالبشرية كلها لا يساوي حجمها حجم كوكب واحد من كواكب السماء ولا سلسلة واحدة من سلاسل الجبال في الرض فضلا عن السماء والأرض . إذاً فالذي قدر على خلق السماء وما فيها والأرض وما فيها قادر قطعا ومن باب أولى على خلق الإِنسان مرة أخرى وقد خلقه أولاً فإِعادة خلقه بإِحيائه بعد موته أيسر وأسهل وأمكن من خلقه أولاً على غير مثال سبق ، ولا صورة تقدمت ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون لأنهم لا يفكرون وهذا عرض الآيات قوله تعالى { أأنتم اشد خلقا } ايها المنكرون للبعث المكذبون به { أم السماء } والجواب الذي لا شك فيه هو أن السماء أشد خلقاً منهم وبيان ذلك فيما يلي :
1 ) بناها فهي سقف للأرض مرفوعة فوقها مسوّاة فلا انفطار فيها ولا ارتفاع لبعض وانخفاضاً لبعض آخر بل هي كالزجاجة في سمتها واعتدالها في خلقها .
2 ) رفع سمكها فإِن غلظها مقدر بمسيرة خمسمائة عام .
3 ) أغطش ليلها فجعله مظلما .
4 ) وأخرج ضحاها فجعل نهارها مضيئا . هذه هي السماء . والأرض بعد ذلك أي بعد أن خلقها أولا وقبل السماء عاد إليها فدحاها بأن بسطها للأنام وأخرج منها ماءها ففجر فيها عيونها وأخرج منها مرعى وهو ما يرعى من سائر الحبوب والثمار والنبات والأشجار منفعة للإِنسان ولحيوانه المفتقر إليه في ركوبه وطعامه وشرابه وما ذكر تعالى من مظاهر القدرة والعلم والحكمة والرحمة في الأرض لا يقل عما ذكر في السماء إن لم يكن أعظم فكيف إذاً ينكر الإِنسان على ربّه أن يعيده حيّاً بعد إماتته له ليحاسبه وليجزيه إنه بدل أن ينكر يجب عليه أن يشكر ، ولكن الإِنسان ظلوم كفار .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
2- بيان إفضال الله تعالى على الإِنسان وإنعامه عليه .
3- مشروعية الاستدلال بالكبير على الصغير وبالكثير على القليل وهو مما يعلم بداهة وبالضرورة إلا أن الغفلة أكبر صارف وأقوى حايل فلا بد من إزالتها أولا .
(4/361)
________________________________________
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
شرح الكلمات :
{ الطامة الكبرى } : أي النفخة الثانية وأصل الطامة الداهية التي تعلو على كل داهية .
{ ما سعى } : أي ما عمل في الدنيا من خير وشر .
{ فأما من طغى } : أي كفر وظلم .
{ وآثر الحياة الدنيا } : أي باتباع الشهوات .
{ فإِن الجحيم هي المأوى } : أي النار مأواه .
{ مقام ربه } : أي قيامه بين يديه ليساله عما قدم وأخر .
{ ونهى النفس عن الهوى } : أي المردى المهلك باتباع الشهوات .
{ فإن الجنة هي المأوى } : أي مأواه الذي يأوي إليه بعد الحساب .
{ عن الساعة } : أي القيامة للحساب والجزاء .
{ أيان مرساها } : أي متى وقوعها وقيامها .
{ فيم أنت من ذكراها } : أي في أي شيء من ذكراها أي ليس عندك علمها حتى تذكرها .
{ إلى ربك منتهاها } : أي منتهى علمها إلى الله وحده فلا يعلمها سواه .
{ لم يلبثوا } : أي في قبورهم .
{ إلا عشية أو ضحاها } : أي عشية يوم أو ضحى تلك العشية .
معنى الآيات :
بعد أن بين تعالى مظاهر قدرته في حياة الناس وما خلق لهم فيها تدليلا على البعث والجزاء وذكر في هذه الآيات مظاهر قدرته في معادهم تدليلا على قدرته على بعثهم بعد موتهم ومحاسبتهم ومجازاتهم فقال عز من قائل { فإِذا جاءت الطامة الكبرى } أي القيامة وسميت بالطامة الكبرى لأنها تطم على كل شيء ولا يعظمها شيء لا ريح عاد ولا صيحة ثمود ولا رجفة يوم الظلة . { يوم يتذكر الإِنسان ما سعى } من خير أو شر لأنه ايقن انه محاسب ومجزيّ بعمله . { وبرّزت الجحيم } أي أبرزها فظهرت لمن يراها لا يخفيها شيء . والناس بعد ذلك مؤمن وكافر والطريق طريقان طريق جنة وطريق نار . { فأما من طغى } أي عتا عن أمر ربّه فعصاه ولم يطعه بأداء فرائضه واجتناب نواهيه . { وآثر الحياة الدنيا } على الآخرة فعمل للدنيا وصرف كل جهده وطاقته لها ، ولم يعمل للآخرة فما صام ولا صلى ولا تصدق ولا زكى { فإِن الجحيم هي المأوى } اي مأواه ومستقره ومثواه شرابه الحميم وطعامه الزقوم { وأما من خاف مقام ربّه } وهو الوقوف بين يديه لمساءلته ومجازاته فأدى الفرائض واجتنب النواهي ، { ونهى النفس عن الهوى } أي نفسه عن هواها فلم يجبها في هوى يبغضه الله ولم يطعها ف شيء حرمه الله فإِن الجنة دار السلام والبرار والمتقين الأخيار هي مأواه ولنعم المأوى هي حيث العيون الجارية والسرر المرفوعة والأكواب الموضوعة والنمارق المصفوفة والزرابي المبثوثة والكواعب العرب الأتراب ولقاء الأحباب . وقوله تعالى : { يسألونك عن الساعة أيان مرساها } أي يسألك يا رسولنا المنكرون للبعث عن الساعة أيان قيامها ومتى رسوها وثبوتها وهي كالسفينة سائرة ليل نهار متى ترسو؟ { فيم } أي في أي شيء أنت من ذكراها أي ليس عندك علمها فتذكرها لهم إلى ربك وحده علم وقت مجيئها وساعة رسوها لتنقل الناس من دنياهم إلى آخرتهم ، وبذلك تنتهي رحلتهم ويستقر قرارهم .
(4/362)
________________________________________
وينتهي ليلهم ونهارهم . وقوله تعالى { إنما أنت منذر من يخشاها } اي ليس إليك يا رسولنا علمها ولا منتهى أمر ما إنما أنت مهمتك غير ما يطلب منك إنها انذار من يخشى الساعة ويخاف حلولها لإِيمانه بها ويما يكون فيها من نعيم وجحيم أما من لا يؤمن بها فهو لا يخافها وسؤاله عنها سؤال استهزاء ، فلا تحفل بهم ولا تهتم لهم فإِنهم يوم يرونها كأن لم يلبثوا في دنياهم هذه وقبورهم { إلا عشية أو ضحاها } أي عشية يوم أو ضحى تلك العشية لما يستقبلون من أهوال الموقف وفظائع العذاب .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحوالها وصفاتها .
2- الناس يوم القيامة مؤمن تقيّ في الجنة ، وكافر وفاجر في النار .
3- بيان استئثار الله تعالى بعلم الغيب والساعة .
4- بيان أي الشدائد ينسى بعضها بعضا فإِن عذاب القبر يهون أمام عذاب النار .
(4/363)
________________________________________
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
شرح الكلمات :
{ عبس } : أي النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى كلح وجهه وتغيّر .
{ وتولى } : أي أعرض .
{ أن جاءه الأعمى } : أي لأجل أن جاء عبد الله بن أم مكتوم فقطعه عما هو مشغول به من دعوة بعض أشراف قريش للإِسلام .
{ لعله يزكى } : أي يتطهر من الذنوب .
{ أو يذكر } : أي يتعظ .
{ فتنفعه الذكرى } : أي الموعظة .
{ وأما من استغنى } : عن الإِيمان والعلم والدين بالمال والجاه .
{ فأنت له تصدى } : أي تقبل عليه وتتصدى له .
{ وما عليك ألا يزكى } : أي ليس عليك بأس في عدم تزكيته نفسه بالإِسلام .
{ يسعى } : أي في طلب الخير من العلم والهدى .
{ فأنت عنه تلهى } : أي تشاغل .
{ كلا } : أي لا تعد لمثل ذلك .
{ إنها تذكرة } : أي الآيات عظة للخلق .
{ مكرمة } : أي عند الله .
{ مرفوعة } : أي في السماء .
{ مطهرة } : أي منزهة عن مس الشياطين .
{ بايد سفرة } : كتبة ينسخونها من اللوح المحفوظ .
{ كرام بررة } : مطيعين لله وهم الملائكة .
معنى الآيات :
قوله تعالى { عبس وتولى أن جاءه الأعمى } هذا عتاب لطيف يعاتب به الله سبحانه وتعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم فالذي عبس بمعنى قطب وجهه وأعرض هو رسول الله صلى الله عليه وسلم والأعمى الذي لأجله عبس رسول الله وأعرض عنه هو عبد الله بن أم مكتوم الأعمى أحد المهاجرين ابن خال خديجة بنت خويلد أم المؤمنين . وسبب هذا العتاب الكريم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في مكة يوما ومعه صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل والعباس بن عبد المطلب وأميّة بن خلف يدعوهم إلى الإِسلام مجتهدا معهم يرغبهم ويرهبهم طمعا في إسلامهم فجاء عبد الله بن أم مكتوم ينادي يا رسول الله اقرئني وعلمني مما علمك الله وكرر ذلك مرارا فانزعج لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره رسوله الله صلى الله عليه وسلم قطعه لحديثه مع القوم فعبس وتولى عنه لا يجيبه ، وما إن عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله حتى نزلت هذه الآيات { عبس وتولى } أي قطب وأعرض { أن جاءه الأعمى وما يدريك } أي وما يعلمك أنه { يزكى } بما يطلب من القرآن والسنة أي يريد زكاة نفسه وتطهير روحه بما يتعلمه منك ، أو يذكر فتنفعه الذكرى . أي وما يعلمك لعله بندائه لك وطلبه منك أن يتذكر بما يسمع منك فيتعظ به وتنفعه الذكرى منك . وقوله تعالى { أما من استغنى } اي عن الإِيمان والإِسلام وما عندك من العلم بالله والمعرفة استغنى بماله وشرفه في قومه { فأنت له تصدى } أي تتعرض له مقبلا عليه { وما عليك ألاّ يزكى } اي وأي شيء يلحقك من الأذى إن لم يتزكَّ ذاك المستغنى عنك بشرفه وماله . وكرر تعالى العتاب بالكلمات العذاب فقال { وأما من جاءك يسعى وهو يخشى } جاءك مسرعا يجري وراءك يناديك بأحبّ الأسماء إليك يا رسول الله والحال انه يخشى الله تعالى ويخاف عقابه فلذا هو يطلب ما يزكي به نفسه ليقيها العقاب والعذاب { فأنت عنه تلهى } أي تتشاغل بغيره { كلا } أي لا تفعل مثل هذا مرة أخرى .
(4/364)
________________________________________
وقوله تعالى { إنها تذكرة } اي هذه الآيات وما تحمل من عتاب حبيب إلى حبيب موعظة { فمن شاء } من عباد الله { ذكره } أي ذكر هذا الوحي والتنزيل { في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة } مكرمة عند الله تعالى مرفوعة في السماء مطهرة منزهة عن مس الشياطين لها { بأيدي سفرة كرام بررة } اي مطيعين لله صادقين هم الملائكة كتبة ينسخونها من اللوح المحفوظ وما أقرب هذا الوصف من مؤمن كريم النفس طاهر الروح يحفظ كتاب الله ويعمل به بيده مصحف يقرأه ويرتّل كلام الله فيه وقد جاء في الصحيح أن هذا العبد الذي وصفت مع السفرة الكرام البررة . اللهم اجعلني منهم برحمتك يا أرحم الراحمين .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان مقام النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أشرف مقام وأسماه دل على ذلك أسلوب عتاب الله تعالى له حيث خاطبه في أسلوب شخص غائب حتى لا يواجهه بالخطاب فيؤلمه فتلطف معه ، ثم أقبل عليه بعد أن أزال الوحشة يخاطبه وما يدريك .
2- إثبات ما جاء في الخبر أدبني ربي فأحسن تأديبي فقد دلت الآيات عليه .
3- بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأديب ربّه له مستوى لم يبلغه سواه ، فقد كان إذا جاءه ابن أم مكتوم يوسع له في المجلس ويجلسه إلى جنبه ويقول له مرحبا بالذي عاتبني ربي من أجله وولاه على المدينة مرات ، وكان مؤذناً له في رمضان .
4- استحالة كتمان الرسول صلى الله عليه وسلم لشيء من الوحي فقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لو كان للرسول أن يكتم شيئا من وحي الله لكتم عتاب الله تعالى له في عبس وتولى .
(4/365)
________________________________________
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
شرح الكلمات :
{ قتل الإِنسان } : لعن الإِنسان الكافر .
{ ما أكفره } : أي ما حمله على الكفر؟ .
{ من اي شيء خلقه } : من نطفة خلقه .
{ فقدره } : أي من نطفة إلى علقة غلى مضغة فبشر سويّ .
{ ثم السبيل يسره } : أي سبيل الخروج من بطن أمه .
{ إذا شاء أنشره } : أي إذا شاء إحياءه أحياه .
{ كلا } : حقا أو ليس الأمر كما يدعي الإِنسان أنه أدى ما عليه من الحقوق .
{ لما يقض ما أمره } : أي ما كلفه به من الطاعات والواجبات في نفسه وماله .
{ إلى طعامه } : أي كيف قدر ودبر له .
{ حبا وعنبا } : أي الحب الحنطة واشعير والعنب هو المعروف .
{ وقضبا } : أي القت الرطب وسمي قضبا لأنه يقضب أي يقطع مرة بعد مرة .
{ وحدائق غلبا } : أي كثيرة الأشجار والواحدة غلباء كحمراء كثيفة الشجر .
{ وفاكهة وأبا } : أي ما يتفكه به من سائر الفواكه والأب التبن وما ترعاه البهائم .
{ متاعا لكم ولأنعامكم } : أي ما تقدم ذكره منفعة لكم ولأنعامكم التي هي الإِبل والبقر والغنم .
معنى الآيات :
بعدما عاتب الربّ تبارك وتعالى رسوله على انشغاله بأولئك الكفرة المشركين وإعراضه عن ابن أم مكتوم الأعمى فكان أولئك المشركون هم السبب في إعراض الرسول صلى الله عليه وسلم عن ابن أم مكتوم وفي عتاب الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم فاستوجبوا لذلك لعنة الله تعالى عليهم لكفرهم وكبريائهم جَرّدَ الله تعالى شخصا منهم غير معلوم والمراد كل كافر متكبر مثلهم فقال { قتل الإِنسان } أي الكافر { ما أكفره } اي ما حمله على الكفر والكبر . فلينظر { من اي شيء خلقه } ربَّه الذي يكفر به؟ إنه خلقه من نطفة قذرة { خلقه فقدره } أي أطوارا نطفة فعلقة فمضغة . أمن ان هذا حاله يليق به أن يكفر ويتكبر ويستغني عن الله؟ فلينظر إلى مبدئه ومنتهاه وما بينهما مبدأه نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة . وهو بينهما حامل عذرة . كيف يكفر وكيف يتكبر؟ وقوله تعالى { ثم السبيل يسره } فلولا أن الله تعالى يسر له طريق الخروج من بطن أمه والله ما خرج . { ثم أماته بدون استشارته ولا أخذ رايه { فأقبره } هيأ له من يقبره وإلا لأنتن وتعفن وأكلته الكلاب ، { ثم إذا شاء أنشره } { كلا } . أما يصحو هذا المغرور أما يفيق هذا المخدوع . { لما يقض ما أمره } فما له لا يقضي ما أمره ربّه من الإِيمان به وطاعته { فلينظر هذا الإِنسان إلى طعامه } الذي حياته متوقفة عليه كيف يتم له بتقدير الله تعالى وتدبيره لعله يذكر فيشكر { إنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا } كالبر والشعير والذرة وسائر الحبوب المقتاتة وعنبا يأكله رطبا ويابسا { وقضبا } وهو القت الرطب يقضب اي يقطع مرة بعد مرة وهو علف البهائم ، { وزيتونا } يأكله حبا ويدهن به زيتا { ونخلا } يأكله ثمره بسرا ورطبا وتمرا { وحدائق غلبا } اي بساتين ملتفة الشجار كثيرتها الواحدة غلباء { وفاكهة وأبا } الفاكهة لكم والأب علف لدوابكم { متاعا لكم ولأنعامكم } أي هذه المذكورات بعضها متاعا لكم اي منافع تتمتعون بها وبعضها لأنعامكم وهو القضب والأب منفعة لها تعيش عليها فبأي وجه تكفر ربك يا أيها الإِنسان الكافر؟ .
(4/366)
________________________________________
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته وهي مقتضية للإِيمان به وبآياته ورسوله ولقائه .
2- الاستدلال بالصنعة على الصانع . وأن أثر الشيء يدل عليه ، ولذا يتعجب من كفر الكافر بربه وهو خلقه ورزقه وكلأ حياته وحفظ وجوده إلى أجله .
3- بيان أن الإِنسان لا يزال مقصراً في شكر ربّه ولو صام الدهر كله وصلى في كل لحظة من لحظاته .
(4/367)
________________________________________
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
شرح الكلمات :
{ فإِذا جاءت الصاخة } : أي النفخة الثانية .
{ وصاحبته } : أي زوجته .
{ شأن يغنيه } : أي حال تشغله عن شأن غيره .
{ مسفرة } : أي مضيئة .
{ عليها غبرة } : أي غبار .
{ ترهقها قترة } : أي ظلمة من سواد ومعنى ترهقها تغشاها .
{ الكفرة الفجرة } : أي الجامعون بين الكفر والفجور .
معنى الآيات :
بعدما بين تعالى بداية أمر الإِنسان في حياته ومعاشه فيها ذكر تعالى معاده ومآله فيهها فقال عز من قائل { فإِذا جاءت الصاخة } وهي القيامة ولعل تسميتها بهذا الاسم الصاخة نظرا إلى نفخة الصور التي تصخ الآذان اي تصمها بمعنى تصيبها بالصمم لشدتها . وهي النفخة الثانية وقوله تعالى { يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته } أي زوجته { وبنيه } وهؤلاء أقرب الناس إليه ومع هذا يفر عنهم اي يهرب خشية أن يطالبوه بحق لهم عليه فيؤخذ به . وقوله تعالى { لكل امرئ منهم يومئذ شأن } أي حال وأمر { يغنيه } عن السؤال عن غيره ولو كان أقرب قريب غليه . هنا ورد أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلة يا نبيّ الله كيف يحشر الرجال؟ قال « حفاة عراة » ثم انتظرت ساعة فقالت يا نبيّ الله كيف يحشر النساء؟ قال « كذلك حفاة عراة » قالت واسوأتاه من يوم القيامة : قال « وعن ذلك تسألين إنه قد نزلت علي آية لا يضرك كان عليك ثياب أم لا » قالت أي آية هي يا نبيّ الله قال « { لكل امرئ منهم يومئذ شيء يغنيه } » . وقوله تعالى { وجوه يومئذ مسفرة } أي مضيئة مشرقة { ضاحكة مستبشرة } وهي وجوه المؤمنين والمؤمنات أهل التقوى وجوههم حسنة مشرقة بالأنوار مستبشرون بالقدوم على ربهم والنزول بجواره الكريم . { ووجوه يومئذ } اي تقوم القيامة ويحشر الناس لفصل القضاء { عليها غبرة } أي غبار { ترهقها } أي تغشاها { قترة } . اي ظلمة وسواد أولئك اي الذين عليهم الغبرة وتغشاهم القترة هم { الكفرة } في الدنيا { الفجرة } فيها الذين عاشوا على الكفر والفجور وماتوا على ذلك والفجور هو الخروج عن طاعة الله تعالى بترك الواجبات وغشيان المحرمات كالربا والزنا وسفك الدماء .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان شدة الهول يوم القيامة يدل عليه فرار المرء من اقربائه .
2- خطر التبعات على العبد يوم القيامة وهي الحقوق التي يطالب بها العبد يوم القيامة .
3- شدة الهول والفزع تنسي المرء يوم القيامة أن ينظر إلى عورة أحد من أهل الموقف .
4- ثمرة الإِيمان والتقوى تظهر في الموقف نورا على الوجه وإشراقا له وإضاءة وثمرة الكفر والفجور تظهر ظلمة وسوادا على الوجه وغبارا .
5- تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرض صورة من صورها .
(4/368)
________________________________________
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
شرح الكلمات :
{ إذا } : أي ظرف لما ذكر بعد من المواضع الأثنى عشر ، وجوابها علمت نفس ما أحضرت .
{ كورت } : أي لفت وذهب بنورها .
{ انكدرت } : أي انقضت وتساقطت على الأرض .
{ سيرت } : ذهب بها عن وجه الأرض فصارت هباء منبثا . { وإذا العشار } : أي النوق الحوامل .
{ عطلت } : أي تركت بلا راع أو بلا حلب لما دهاهم من الأمر .
{ الوحوش حشرت } : أي جمعت وماتت .
{ وإذا البحار سجرت } : أي أوقدت فصارت نارا .
{ وإذا النفوس زوجت } : أي قرنت بأجسادها ثم بقرنائها وأمثالها في الخير والشر .
{ وإذا الموءودة } : أي البنت تدفن حية خوف العار أو الحاجة .
{ سئلت } : أي تبكيتا لقاتلها .
{ بأي ذنب قتلت } : أي بلا ذنب .
{ وإذا الصحف نشرت } : أي صحف الأعمال فتحت وبسطت .
{ وإذا السماء كشطت } : أي نزعت من أماكنها كما ينزع الجلد عن الشاة .
{ وإذا الجحيم سعرت } : أي النار أججت .
{ وإذا الجنة أزلفت } : أي قرّبت لأهلها ليدخلوها .
{ علمت نفس ما أحضرت } : أي كل نفس وقت هذه المذكورات ما أحضرت من خير وشر .
معنى الآيات :
قوله تعالى إذا الشمس كورت إلى قوله علمت نفس ما أحضرت اشتمل على اثنى عشر حدثا جللا ، ستة أحداث منها في الدنيا وستة في الآخرة وكلها معتبرة شرطا لجواب واحد وهو قوله تعالى علمت نفس ما أحضرت أي من خير وشر لتجزي به والسياق كله في تقرير عقيدة البعث والجزاء التي انكرها العرب المشركين وبالغوا في إنكارها مبالغة شديدة وكونها عليها مدار إصلاح الفرد والجماعة وأنه بدونها لا يتم إصلاح ولا تهذيب ولا تطهير عُنِيَ القرآن بها عناية فائقة ويدل لذلك أن فواتح سور والصافات والذاريات والطور والمرسلات والنازعات والتكوير والانفطار والانشقاق والبروج والفجر كل هذه بما فيها من إقسامات عظيمة هي لتقرير عقيدة البعث والجزاء .
وهذه الأحداث الستة التي تقع في الدنيا وهي مبادئ الآخرة .
1 ) تكوير الشمس بلفها وذهاب ضوئها .
2 ) انكدار النجوم بانقضائها وسقوطها على الأرض .
3 ) تسيير الجبال بذهابها عن وجه الأرض واستحالتها إلى هباء يتطاير .
4 ) تعطيل العشار وهي النوق الحوامل فلا تحلب ولا تركب ولا ترعى لما أصاب أهلها من الهول والفزع وكانت أفضل أموالهم وأحبها إلى نفوسهم .
5 ) حشر الوحوش وموتها وهي دواب البر قاطبة .
6 ) تسجير البحار باشتعالها نارا .
وهذه الأحداث الستة التي تقع في الآخرة :
1 ) تزويج النفوس وهو قرنها بأجسادها بعد خلق الأجساد لها ، وبعد ذلك بأمثالها في الخير والشر .
2 ) سؤال الموءودة عن ذنبها الذي قتلت به؟
3 ) نَشْرُ صحف الأعمال وفتحها وبسطها .
4 ) كشط السماء أي نزعها من أماكنها نزع الجلد عن الشاة عند سلخها .
5 ) تسعير النار اي تأجيجها وتقويتها .
6 ) إزلاف الجنة وتقريبها لأهلها أهل الإِيمان والتقوى .
وجواب هذه الأحداث التي وقعت شرطا لحرف « إذا » هو قوله تعالى علمت نفس ما أحضرت من حسنات فتصير بها إلى الجنة ، أو سيئات فتصير بها إلى النار .
(4/369)
________________________________________
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ونعوذ بك من النار وما قرب غليها من قول وعمل .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
2- بيان مفصل عن مبادئ القيامة ، وخواتيمها وفي حديث الترمذي الحسن الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم « من سره أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ إذا الشمس كورت وإذا السماء انفطرت وإذا السماء انقشت » .
3- الترغيب في الإِيمان والعمل الصالح إذ بهما المصير إلى الجنة .
4- الترهيب من الشرك والمعاصي إذ بهما المصير إلى النار .
(4/370)
________________________________________
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
شرح الكلمات :
{ الخنس } : أي التي تخنس بالنهار أي تختفي وتظهر بالليل .
{ الجواري الكنس } : أي التي تجري أحيانا وتكنس في مكانسها أحيانا أخرى والمكانس محل إيوائها كمكانس بقر الوحش وهي الدرارى الخمسة عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل .
{ إذا عسعس } : أي أقبل أو أدبر لأن عسعس من أسماء الأضداد .
{ تنفس } : أي امتد حتى يصير نهاراً بيّناً .
{ إنه } : أي القرآن .
{ لقول رسول كريم } : أي جبريل كريم على الله تعالى وأضيف إليه القرآن لنزوله به .
{ ذو قوة } : أي شديد القوى .
{ عند ذي العرش مكين } : أي عند الله تعالى ذي مكانة .
{ مطاع ثم أمين } : أي مطاع في السماء تطيعه الملائكة أمين على الوحي .
{ وما صاحبكم بمجنون } : أي محمد صلى الله عليه وسلم أي ليس به جنون .
{ ولقد رآه بالأفق المبين } : أي ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته التي خلق عليها بالأفق الأعلى البيّن من ناحية المشرق .
{ وما هو على الغيب } : أي وما محمد صلى الله عليه وسلم على الغيب وهو ما غاب من الوحي وخبر السماء .
{ بضنين } : أي ببخيل وفي قراءة بالظاء اي بمتهم فيُنْقِصُ منه ولا يعطيه كلَّه .
{ وما هو بقول شيطان رجيم } : أي وليس القرآن بقول شيطان مسترق للسمع مرجوم .
{ فأين تذهبون } : أي فأيّ طريق تسلكون في إِنكارهم القرآن وإِعراضكم عنه .
{ ما هو إلا ذكر للعالمين } : أي ما القرآن إلا موعظة للإِنس والجن .
{ أن يستقيم } : أي يتحرى الحق ويعتقده ويعمل بمقتضاه .
{ وما تشاءون إلا أن يشاء الله } : أي ومن شاء الاستقامة منكم فإِنه لم يشأها إلا بعد أن شاءها الله قبله إذ لو لم يشأها الله ما أشاءها عبده .
معنى الآيات :
لما قرر تعالى عقيدة البعث والجزاء بوصف كامل لأحداثها وكان الوصف من طريق الوحي فافتقر الموضوع غلى صحة الوحي والإِيمان به فإِذا صح الوحي وآمن به العبد آمن بصحة البعث والجزاء . ومن هنا أقسم تعالى بأعظم قسم على أن القرآن نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم وما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله ووحيه وليس هو بمجنون يقول مالا يدري ويهذر بما لا يعني ولا هو بقول شيطان رجيم ممن يسترقون السمع ويلقونه إلى إخوانهم من الكهان بل هو كلام الله صدقا وحقاً وما يخبر به كما يخبر صدق وحق فقال تعالى { فلا } اي ليس الأمر كما تدعون بأن ما يقوله رسولنا هو من جنس ما تقوله الكهنة . ولا مما يقوله الشعراء ، ولا هو بكلام مجانين . ولا هو سحر الساحرين أقسم بالخنس الجواري الكنس أي بكل ما يخنس ويجري ويكنس من الظباء وبقر الوحش والكواكب والدراري الخمسة عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل . والمراد من الخنوس الاختفاء والكنوس إيواءها إلى مكانسها مواضع إيوائها . وقوله { والليل إذا عسعس } أي أقسم بالليل إذا أقبل أو أدبر إذ لفظ عسعس بمعنى أقبل وأدبر فهو لفظ مشترك بين الإِقبال والإِدبار { والصبح إذا تنفس } أي امتد ضوءه فصار نهاراً أقسم بكل هذه المذكرات على أن القرآن الذي يصف لكم البعث والجزاء حق الوصف هو قول رسول كريم اي جبريل الكريم على ربّه ذي قوة لا يقادر قدرها فلا يقدر إنس ولا جن على انتزاع ما عنده من الوحي ولا على زيادة فيه أو نقص منه .
(4/371)
________________________________________
عند ذي العرش سبحانه وتعالى مكين أي ذي مكانة محترمة مطاع في السموات أمين على الوحي هذا أولاً وثانيا والله وما صاحبكم محمد صلى الله عليه وسلم { بمجنون } كما تقولون { ولقد رآه } اي رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبرل بالأفق المبين رآه على صورته التي خلقه الله عليها وله ستمائة جناح رآه بالأفق ناحية الشرق وقد سد الأفق كله ، والأفق بيّن والنهار طالع . { وما هو } أي محمد صلى الله عليه وسلم { على الغيب بضنين } أي بمظنون فيه التهمة بأن يزيد فيه أو ينقص منه أو يبدل أو يغير كما هو ليس ببخيل فيظن فيه أنه يكتم منه شيئاً أو يخفيه بخلا به أو ينقص منه شحاً به وبخلاً . { وما هو بقول شيطان رجيم } ممن يسترقون السمع ويلقونه إلى أوليائهم من الإِنس فيخلطون فيه ويكذبون . وقوله تعالى : { فأين تذهبون } ينكر عليهم مسلكهم الشائن في تكذيب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم واتهامه بالسحر ، والقرآن بالشعر والكهانة والأساطير . وقوله إن هو إلا ذكر للعالمين اي ما القرآن الكريم إلا ذكر للعالمين من الإِنس والجن يذكرون به خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم وما له عليهم من حق العبادة وواجب الشكر ويتعظون به فيخافون ربهم فلا يعصونه بترك فرائضه عليهم ولا بارتكاب ما حرمه عليهم وقوله تعالى لمن شاء منكم أن يستقيم على منهاج الحق فيتحرى الحق أولا ويؤمن به ويعمل بمقتضاه ثانيا . ولما سمع أبو جهل هذه الآية { لمن شاء منكم أن يستقيم } قال الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم . أنزل تعالى قوله روما تشاءون غلا أن يشاء الله ربّ العالمين } فاكبت اللعين فاعلم أن من شاء الاستقامة من العالمين لم يشأها غلا بعد أن شاءها الله تعالى له ولو لم يشأها الله تعالى والله ما شاءها العبد ابدا إذ مشيئة الله سابقة لمشيئة العبد ، وفي كل ما يشاؤه الإِنسان فإِن مشيئة الله سابقة لمشيئة لأن الإِنسان عبد والله رب والرب لا مشيئة تسبق مشيئته .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- مشروعية الإِقسام بالله تعالى وأسمائه وصفاته .
2- تقرير الوحي وإثبات النبوة المحمدية .
3- بيان صفات جبريل الكمالية الأمانة ، القوة ، علو المكانة ، الطاعة ، الكرم . .
4- براءة الرسول مما اتهمه به المشركون .
5- بيان أن مشيئة الله سابقة لمشيئة العبد . فلا يقع في ملك الله تعالى إلا ما يريد .
(4/372)
________________________________________
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
شرح الكلمات :
{ إذا السماء انفطرت } : أي انشقت .
{ وإذا الكواكب انتثرت } : أي تساقطت .
{ وإذا البحار فجرت } : أي اختلطت ببعضها وأصبحت بحراً واحداً الملح والعذب سواء .
{ وإذا القبور بعثرت } : قلب ترابها وبعث موتاها .
{ علمت نفس ما قدمت } : أي من الأعمال وما أخرت منها فلم تعمله وذلك عند قراءتها كتاب أعمالها .
{ ما غرك بربك } : أي أي شيء خدعك وجرّاك علىعصيانه .
{ الذي خلقك } : أي بعد أن لم تكن .
{ فسواك } : أي جعلك مستوى الخلقة سالم الأعضاء .
{ فعدلك } : أي جعلك معتدل الخلق متناسب الأعضاء ليست بد أطول وأرجل أطول من الأخرى .
{ كلا بل تكذبون بالدين } : ليس الكرم هو الذي غره وإنما جرّاه على المعاصي تكذيبه بالدين الذي هو الجزاء بعد البعث حياً من قبره .
{ وإن عليكم لحافظين كراما } : أي وإن عليكم لملائكة كراما على الله تعالى حافظين لأعمالكم .
{ كاتبين } : أي لها أي لأعمالكم خيرها وشرها حسنها وقبيحها .
معنى الآيات :
قوله تعالى { ذا السماء انفطرت } أي انشقت { وإذا الكواكب انتثرت } أي انفضّت وتساقطت { وإذا البحار فجرت } اي اختلط ماؤها بعضه ببعض ملحها بعذبها لانكسار ذلك الحاجز الذي كان يفصلهما عن بعضهما لزلزلة الرض إيذاناً بخراب العالم ، { وإذا القبور بعثرت } قلبت وأخرج ما فيها من الأموات ، إذا حصلت هذه الأحداث الأربعة ثلاثة منها في الدنيا وهي انفطار السماء وانتثار الكواكب وتفجر البحار وهذه تتم بالنفخة الأولى والرابع وهو بعثرة القبور يتم في الآخرة بعد النفخة الثانية ، وعندها تعلم نفس ما قدت وما أخرت وهذا جواب إذا في أول الايات . ومعنى { علمت نفس } اي كل نفس مكلفة ما قدمت من أعمال حسنة أو سيئة ، وما أخرت منأعمال لحقتها بعدها وذلك ما سنته من سنن الهدى أو سنن الضلال ، لحديث « من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عملها لا ينقص من أوزارهم شيء » وهذا العلم يحصل للنفس أولا مجملا وذلك عند ابيضاض الوجوه واسودادها ، ويحصل لها مفصلا عندما تقرأ كتاب أعمالها . وقوله تعالى { يا أيها الإِنسان ما غرك بربك الكريم } يخاطب تعالى على الكفر بربك الكريم وعصيانه بالفسق عن امره والخروج عن طاعته . وهو القادر علىمؤاخذتك والضرب على يديك ساعة ما كفرت به أو عصيته اليس هو الذي خلقك فسوى على مؤاخذتك والضرب وناسب بين أجزائك في اي صورة ما شاء ركبك إن شاء بيضك أو سودك طولك أو قصرك جعلك ذكراً أو انثى انساناً أو حيواناً قرداً أو خنزيراً هل هناك من يصرفه عما أراد لك والجواب لا أحد إذاً كيف يسوغ لك الكفر به وعصيانه والخروج عن طاعته وبعد هذا التوبيخ والتأنيب قال تعالى { كلا } أي ما غرك كرم الله ولا حلمه { بل تكذبون بالدين } أي بالبعث والجزاء في الدار الآخرة هو الذي جرأكم على الكفر والظلم والإِجرام وما علمتم والله إن عليكم لحافظين يحفظون عليكم أعمالكم ويحصونها لكم ويكتبونها في صحائفكم .
(4/373)
________________________________________
يعلمون ما تفعلون في السر والعلن وسوف تفاجأون يوم تعلم نفس ما قدمت وأخرت بصحائف أعمالكم وقد حوت كل أعمالكم لم تغادر صغيرة منها ولا كبيرة ويتم الجزاء بموجبها .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان أحداث تسبق يوم البعث وذلك في نفخة الفناء وأما النفخة الثانية وهي نفخة البعث حيث تجمع الخلائق ويجرى الحساب فتعطى الصحف وتوزن الأعمال وينصب الصراط ، ثم إلى جنة أو إلى نار .
2- التحذير من السنة السيئة يتركها المرء بعده فإِن أوزارها تكتب عليه وهو في قبره .
3- التحذير من الغرور والانخداع بعامل الشيطان من الإِنس أو الجن .
4- التحذير من التكذيب بالبعث والجزاء فإِنه أكبر عامل من عوامل الشر والفساد في الدنيا وأكبر موجب للعذاب يوم القيامة .
5- تقرير عقيدة كتابة الأعمال حسنها وسيئها والحساب بمقتضاها يوم القيامة بواسطة ملكين كريمين على كل إنسان مكلف لحديث الصحيح « يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار » الحديث .
(4/374)
________________________________________
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
شرح الكلمات :
{ إن الأبرار } : أي المؤمنين المتقين الصادقين .
{ وإن الفجار } : أي الكافرين والخارجين عن طاعة الله ورسوله .
{ يصلونها يوم الدين } : أي يدخلونها ويقاسون حرها يوم الجزاء وهو يوم القيامة .
{ وما هم عنها بغائبين } : أي بمخرجين .
{ وما أدراك ما يوم الدين } : أي أي شيء جعلك تدري لولا أنا علمناك .
{ لا تملك نفس لنفس شيئا } : أي من المنفعة وإن قلت .
{ والأمر يومئذ لله } : أي لا لغيره ، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا بإِذنه .
معنى الآيات :
تقدم أن العرض على الله حق وان المجازاة تكون بحسب الأعمال التي عملها المرء ، وأنها محفوظة محصاة عليه بواسطة ملائكة كرام . وأن الناس يومئذ كما هم اليوم مؤمن بار وكافر فاجر .
بين تعالى جزاء الكل مقروناً بعلة الحكم فقال عز وجل { إن الأبرار لفي نعيم } أي في الجنة دار السلام وذلك لبرورهم وهو طاعتهم لله في صدق كامل { وإن الفجار لفي جحيم } أي نار ذات جحيم وذلك لفجورهم وهو كفرهم وخروجهم عن طاعة ربهم . وقوله { يصلونها } اي يدخلونها ويقاسون حرها { يوم الدين } أي يوم الجزاء الذي كفروا به فأدى بهم إلى الفجور وارتكاب عظائم الذنوب . وقوله { وما هم عنها بغائبين } أي إذا دخلوها لا يخرجون منها . وقوله { وما أدراك ما يوم الدين } أي وما يعلمك يا رسولنا ما يوم الدين إنه يوم عظيم يوم يقوم الناس لربّ العالمين هكذا يخبر تعالى عن عظم شأن هذا اليوم . ويؤكد ذلك فيقول { ثم ما أدراك ما يوم الدين } ويكشف عن بعض جوانب الخطورة بقوله { يوم لا تملك نفس لنفس شيئا } من المنفعة حيث يكون الأمر كله فيه لله وحده ولا تنفع فيه الشفاعة غلا بإِذنه وما للظالمين فيه من شفيع ولا حميم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان حكم الله في أهل الموقف إذ هم ما بين بار صادق فهو في نعيم وفاجر كافر فهو في جحيم .
2- بيان عظم شأن يوم الدين وأنه يوم عظيم .
3- بيان أن الناس في يوم الدين لا تنفعهم شفاعة ولا خلة إذ لا يشفع أحد إلا بإِذن الله والكافرون هم الظالمون ، وما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع .
(4/375)
________________________________________
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
شرح الكلمات :
{ ويل } : كلمة عذاب ، وواد في جهنم .
{ للمطففين } : المنقصين في كيل أو وزن الباخسين فيهما .
{ إذا اكتالوا على الناس } : أي من الناس .
{ يستوفون } : الكيل .
{ وإذا كالوهم } : أي كالوا لهم .
{ أو وزنوهم } : أي وزنوا لهم .
{ يخسرون } : أي ينقصون الكيل أو الوزن .
{ ألا } : استفهام توبيخي انكاري .
{ يظن } : أي يتيقن . { ليوم عظيم } : أي يوم القيامة لما فيه من أهوال وعظائم الأمور .
{ يوم يقوم الناس } : أي من قبورهم .
{ لرب العالمين } : أي يقومون خاشعين ذليلين ينتظرون حكم الله فيهم .
معنى الآيات :
قوله تعالى ويل للمطففين هذه الآيات الأولى من سورة المطففين قال أحد الأنصار رضي الله عنه كنا أسوأ الناس كيلا ، حتى إنه ليكون لأحدنا مكيالان مكيال يشتري به وآخر يبيع به ، وما إن نزلت فينا ويل للمطففين حتى أصبحنا أحسن كيلا ووزنا . وصدق هذا الصاحب الجليل فوالله لقد نزلت المدينة مهاجرا عام ثلاثة وسبعين وثلثمائة والف فوجدتهم على ما كانوا عليه ولقد كنت اشفق عليهم إذا كالوا لي أو وزنوا لي . فقوله تعالى { ويل للمطففين } يتوعد سبحانه وتعالى بواد في جهنم بسيل صديد أهل النار الذين يبخسون الناس الكيل والميزان أي ينقصونهم ويبينهم تعالى بقوله { الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون } أي اشتروا منهم يأخذون كيلهم وافياً وكذا إذا وزنوا وإذا كالوهم أي كالوا لهم أو وزنوا لهم يخسرون أو ينقصون . قال تعهالى موبخاً لهم منكراً { ألا يظن أولئك } المطففون { أنهم مبعوثون } من قبورهم { ليوم عظيم } هويوم الدين والجزاء والحساب { يوم يقوم الناس لرب العالمين } خاشعين ذليلين ينتظرون حكمه فيهم ، ويطول بهم الموقف المائة سنة وأكثر وإن أحدهم ليلجمه العرق إلجاماً ومنهم من يصل العرق إلى نصف أذنيه والروايات في هذا كثيرة وصحيحة .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- حرمة التطفيف في الكيل والوزن وهو أن يأخذ زائداً ولو قل أو ينقص عامداً شيئا ولو قل .
وما كان بغير عمد ولا قصد فإِنه مما يُعفا عنه .
2- التذكير بالبعث والجزاء وتقريرهما .
3- عظم يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين ليحكم بينهم ويجزي كلا بعمله خيرا أو شرا .
(4/376)
________________________________________
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
شرح الكلمات :
{ كلا } : أي حقا وأن الأمر ليس كما يظن المطففون .
{ لفي سجين } : سجين علم على كتاب ديوان الشر دوّن فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة وهو أيضا موضع في اسفل الأرض السابعة فيه سجين الذي هو ديوان الكتب وبه أرواح الأشقياء عامة .
{ كتاب مرقوم } : أي مسطور بيّن الكتابة فيه أعمالهم .
{ يوم الدين } : اأ يوم القيامة الذي هو يوم الحساب والجزاء .
{ كل معتد } : أي ظالم مضيع حقوق ربه تعالى وحقوق غيره .
{ أثيم } : منغمس في الآثام مكثر منها .
{ أساطير الأولين } : أي ما سطره الأولون من القصص والأخبار التي لا تصح .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في التحذير من الظلم والفسق عن أوامر الرب تبارك وتعالى وقوله تعالى { كلا } أي ليس الأمر كما يظن المطففون والباخسون للحقوق أنه لا دقة في الحساب والجزاء أو أن مثل هذا لا يكتب ولا يحاسب عليه ولا يجزى به حقاً { إن كتاب الفجار } اي الظلمة الفاجرين عن الشرع حدوده { لفي سجين } موضع في أسفل الخلق به ارواح الكافرين والظالمين وكتب أعمالهم ، وقوله { وما أدراك ما سجين } أي وما أعلمك يا رسولنا ما سجين تفخيم لشأنه . وقوله { كتاب مرقوم } بيان لكتاب الفجار اي أنه مكتوب مسطور بين الكتابة ، { ويل يومئذ للمكذبين } اي العذاب الأليم بوادي الويل يوم القيامة للمكذبين بالله وآياته ولقائه المكذبين بيوم الجزاء والحساب وقوله تعالى : { وما يكذب به إلا كل معتد أثيم } يريد وما يكذب بيوم الجزاء والحساب إلا كل معتد ظالم متجاوز للحد اثيم مرتكب للذنوب والآثام بفسقه عن أوامر ربّه وخروجه عن طاعة الله بغشيانه المحارم وقوله { إذا تتلى عليه آيانا قال أساطير الأولين } هذا بيان لذلك المعتدي الأثيم وهو انه إذا قرئت عليه آيات الله تذكيرا له وتعليما ردها بقوله أساطير الأولين اي هذه حكايات وأخبار الأولين مسطرة مكتوبة وأنكر كتاب الله وكذب به .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان كتاب الفجار وأنه في سجين وسجين ديوان تدون فيه سائر كتب الفجار من أهل النار وموضع أسفل الأرض السابعة مستودع لكتب أعمال الفجار من كفار وفساق ولأرواحهم إلى يوم القيامة ولفظ سجين مشتق من السجين الذي هو الحبس .
2- الوعيد الشديد للمكذبين بالله وبآياته ولقائه .
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
(4/377)
________________________________________
كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
شرح الكلمات :
{ ران على قلوبهم } : أي غطّى قلوبهم وحجبها عن قبول الحق .
{ ما كانوا يكسبون } : أي من الذنوب والآثام .
{ لمحجوبون } : أي يحال بينهم وبين رؤية الربّ إلى يوم القيامة .
{ لصالو الجحيم } : أي لداخلوها ومحرقون معذبون بها .
{ هذا الذي كنتم به تكذبون } : أي يقال لهم توبيخا وخزيا لهم وهم في العذاب هذا الذي كنتم به تكذبون .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في التنديد بالاعتداء والمعتدين والإِثم والآثمين فقال تعالى { بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } اي ما الأمر كما يدعون من أن القرآن اساطير الأولين وإنما ران على قلوبهم اي غشّاها وغطاها اثر الذنوب والجرائم فحجبها عن معرفة الحق وقبوله ، وقوله { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } أي ردعاً لهم وزجراً عن أقوالهم الباطلة وأعمالهم الفاسدة إنهم عن ربهم لمحجوبون فلا يرونه ولا يرون كرامته { ثم إنهم لصالو الجحيم } اي لداخلوها ومصطلون بحرها معذبون بأنواع العذب فيها ثم يقال لهم توبيخاً وخزياً وتأنيباً { هذا } أي العذاب الذي كنتم به في الدنيا تكذبون حتى واصلتم كفركم وإجرامكم فحل بكم هذا الذي أنتم فيه الآن فذوقوا فلن تزدادوا إلا عذاباً .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- التحذير من مواصلة الذنوب وعدم التوبة منها حيث يؤدي ذلك بالعبد إلى أن يُحرم التوبة ففي حديث أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب صقل منها فإِن عاد عادت حتى تعظم في قلبه فذلك الران الذي قال الله كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون » .
2- تقرير رؤية الله تعالى يف الآخرة بدليل قوله إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون أي الأشقياء إذاً فالسعداء غير محجوبين فهم يرون ربهم ويشهد له قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة .
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
(4/378)
________________________________________
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
شرح الكلمات :
{ كتاب الأبرار } : أي كتاب أعمالهم والأبرار هم المطيعون لله ولرسوله الصادقون .
{ لفي عليين } : أي في موضع يسمى عليين في أعلى الجنة .
{ كتاب مرقوم } : أي كتاب مرقوم بأمان من الله إياه من النار يوم القيامة والفوز بالجنة .
{ يشهدون المقربون } : أي يحضره المقربون من أهل كل سماء ويحفظونه لأنه يحمل أماناً لصاحبه من النار وفوزه بالجنة .
{ إن الأبرار لفي نعيم } : أي إن الذين بروا ربهم بطاعته بأداء الفرائض واجتناب النواهي لفي نعيم الجنة .
{ على الأرائك } : أي على الأسرة ذات الحجال .
{ ينظرون } : أي ما آتاهم ربهم من صنوف النعيم .
{ تعرف في وجوههم نضرة النعيم } : أي حُسنه وبريقه وتلألؤه .
{ من رحيق } : أي من خمر صرف خالصة لا غش فيها ولا دنس .
{ مختوم } : أي مختوم على إنائها لا يفك ختمه إلا هم .
{ ختامه مسك } : أي آخر شربها يفوح برائحة المسك .
{ وفي ذلك } : أي لا في غيره .
{ فليتنافس المتنافسون } : أي فليطلب بالطاعة والاستقامة الطالبون للنعيم المقيم .
{ ومزاجه من تسنيم } : أي ومزاج شرابهم من عين تجري من عال تسمى التسنيم .
{ عينا يشرب بها المقربون } : عينا هي التسنيم يشرب منها المقربون صرفا وتمزج لأصحاب اليمين .
معنى الآيات :
بعد أن ذكر تعالى كتاب الفجار وما ختم له به ذكر كتاب الأبرار وما ختم له به فقال { كلا } اي حقاً { إن كتاب الأبرار } وهو جمع بر أو بار وهو المؤمن الذي بر ربه بطاعته في أداء فرائضه واجتناب نواهيه وكان صادقاً في ذلك كتاب أعمال هؤلاء الأبرار في عليين روما أدراك } يا رسولنا { ما عليون } أنه موضع في أعلى الجنان . وقوله ركتاب مرقوم } يريد كتاب الأبرار الموضوع في عليين كتاب مرقوم بأمان من الله لصاحبه من النار والفوز بالجنة { يشهده المقربون } اي مقربو كل سماء يحضرونه ويحفظون له ويشهدون بما فيه من الأمان لصاحبه من النار والفوز بالجنة . وقوله تعالى { إن الأبرار } واصحاب الكتب المودعة في عليين لفي نعيم يريد يوم القيامة والنعيم هو نعيم الجنة وهذا لون منه على الأرائك اي الأسرة ذات الحجال { ينظرون } إنهم جالسون على الأرائك ينظرون باستحسان وإعجاب ملكهم الكبير الذي ملكهم الله تعالى وقد يمتد مسافة ألفي سنة وينتهي غليه بصرهم { تعرف في وجوههم نضرة النعيم } أي حسنه وبريقه وتلألؤه وقوله { يسقون من رحيق مختوم } أي من خمر هي الرحيق صافية لا دنس فيها ولا غش مختوم على أوانيها لا يفكها إلا هم . ختامه مسك آخر هذا الشراب يفوح برائحة المسك الأذفر فهي طيبة الرائحة للغاية . وقوله تعالى { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } أي وفي مثل هذا النعيم لا في غيره من حطام الدنيا وشرابها وملكها الزائل يجب أن يتنافس المتنافسون أي في طلبه بالإِيمان وصالح الأعمال بعد البعد كل البعد عن الشرك وسيئي الأقوال وقبيح الأفعال .
(4/379)
________________________________________
وقوله تعالى { ومزاجه من تسنيم ، عيناً يشرب بها المقربون } أي إن ذلك الرحيق يمزج لصحاب اليمين بماء عين تسمى التسنيم ويشربه المقربون صرفاً اي خالصاً بدون مزج من عين التسنيم وقوله { يشرب بها } الباء بمعنى من أو ضمن يشرب معنى يلتذ اي يلتذ بها وقد سبق في سورة الإِنسان وقلت إنها لطيب شرابها تكاد تكون آلة للشرب فتكون الباء للآلة على بابها نحو شربت بالكأس .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- الثناء على الأبرار وبيّان ما أعد الله تعالى لهم وهم المؤمنون المتقون الصادقون في ذلك .
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر ما يجري فيها .
3- الترغيب في العمل الصالح للحصول على نعيم الجنة لقوله تعالى { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } .
(4/380)
________________________________________
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
شرح الكلمات :
{ إن الذين أجرموا } : أي على أنفسهم بالشرك والمعاصي كأبي جهل وأميّة بن خلف وعتبة بن ابي معيط .
{ من الذين آمنوا } : أي كبلال وياسر وعمار وصهيب وخبيب .
{ يتغامزون } : أي يشيرون إلى المؤمنين بالجفن والحاجب استهزاء بهم .
{ فاكهين } : أي إذا رجعوا غلى ديارهم وأهليهم يرجعون نشاوى فرحين معجبين بحالهم .
{ وإذا رأوّهم } : أي وإذا رأى أولئك الفكهون رأوا المؤمنين .
{ قالوا إن هؤلاء لضالون } : إن هؤلاء يعنون المؤمنين من اصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لضالون بتركهم دينهم واتخاذهم لدين محمد صلى الله عيله وسلم الجديد .
{ وما ارسلوا عليهم حافظين } : أي ولم يكلفهم الله تعالى بحفظ أعمالهم ورعاية أحوالهم .
وإنما هم متطفّلون .
{ فاليوم } : أي يوم القيامة .
{ من الكفار يضحكون } : أي من اجل ما هم فيه من العذاب حيث يرونهم وهم على أرائكهم .
{ هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون } : أي هل جوزي الكفار بما كانوا يفعلون من الكفر والشر والفساد؟ والجواب نعم نعم نعم .
معنى الآيات :
بعدما بيّن تعالى حال الأبرار في دار البرار وذكر ما شاء الله أن يذكر من نعيمهم ترغيبا وتعليماً بعد أن ذكر في الآيات قبلها حال المجرمين وما أعد لهم من عذاب في دار العذاب . ذكر تعالى هنا في خاتمة السورة ما أوجب للمجرمين وهو النار ، وما أوجب للمؤمنين وهو الجنة فذكر طرفا من سلوك المجرمين وآخر من سلوك المؤمنين فقال عز من قائل { إن الذين أجرموا } اي على أنفسهم اي افسدوها بالشرك والشر والفساد كابي جهل والوليد بن المغيرة والعاصي وغيرهم كانوا من الذين آمنوا كبلال وعمار وصهيب وخبيب وأضرابهم من فقراء المؤمنين { يضحكون } استهزاء بهم وسخرية . { وإذا مروا بهم } في شوارع مكة حول المسجد الحرام { يتغامزون } يشيرون إليهم بالجفن والحاجب على عادة المتكبرين { وإذا انقلبوا } أي رجعوا { إلى أهلهم } في ديارهم { انقلبوا فكهين } ناعمين معجبين بحالهم فرحين بما عندهم روإذا رأوهم } أي وإذا رأى أولئك المجرمون المؤمنين أشاروا إليهم وقالوا رإن هؤلاء لضالون } بتركهم دينهم واعتناق دين محمد الجديد في نظرهم . قال تعالى { وما أرسلوا عليهم حافظين } اي على أعمالهم وأحوالهم حتى يقولوا ما قالوا وإنما هم متطفلون يدعون ما ليس لهم لقبح سلوكهم وسوء فهومهم ، قال تعالى { فاليوم } يوم القيامة { الذين آمنوا من الكفار يضحكون } أي من الكفار { على الأرائك } اي الأسرى ذات الحجال { ينظرون } إلى الكفار وهم في النار ويضحكون منهم وهم يعذبون ولا عجب في كيفية رؤيتهم لهم وهم في النار أسفل سافلين والمؤمنون في أعلى عليين إذ البث التلفزيوني اليوم قطع العجب وأبطله وقوله تعالى { هل ثوّب الكفار } أي هل جوزي الكفار على أفعالهم الإِجرامية؟ والجواب معلوم مما تقدم إذ وصفت حالهم وبين عذابهم والعياذ بالله من عذابه وأليم عقابه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- التنديد بالإِجرام والمجرمين .
2- بيان ما كان عليه المشركون في مكة إبّان الدعوة وما لقيه المؤمنون منهم .
3- بيان أن المؤمنين سيرون المشركين في الجحيم ويضحكون منهم وهم في نعيمهم والمشركون في جحيمهم .
4- بيان إكرام الله لأوليائه ، وإهانته تعالى لأعدائه .
(4/381)
________________________________________
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
شرح الكلمات :
{ إذا السماء انشقت } : أي بالغمام وهو سحاب أبيض رقيق وذلك لنزول الملائكة .
{ وأذنت لربها } : أي سمعت وأطاعت .
{ وحقت } : أي وحق لها أن تسمع أمر ربها وتطيعه .
{ وإذا الأرض مدت } : أي زيد في سعتها كما يمد الأديم اي الجلد إذ لم يبق عليها بناء ولا جبل .
{ وألقت ما فيها وتخلت } : أي ألقت ما فيها من الموتى ألقتهم أحياء إلى ظهرها وتخلت عنه أي عما كان في بطنها .
{ إنك كادح } : أي عامل كاسب للخير أو الشر .
{ إلى ربك كدحا } : أي إلى أن تلقى ربك وأنت تعمل وتكسب فليكن عملك مما يرضي عنك ربك { فملاقيه } : أي ملاق ربك بعد موتك وبعملك خيره وشره .
{ كتابه } : أي كتاب عمله وذلك بعد البعث .
{ وينقلب إلى أهله مسرورا } : أي بعد الحساب اليسير يرجع إلى أهله في الجنة من الحور العين فرحا .
{ وراء ظهره } : أي يأخذه بشماله من وراء ظهره إهانة له .
{ يدعو ثبورا } : أي ينادي هلاكه قائلا واثبوراه واثبوراه اي يا هلاكه .
{ ويصلى سعيرا } : أي ويحرق بالنار تحريقا وينضج انضاجه بعد أخرى على قراءة يُصلَّى بالتضعيف .
{ إنه ظن أن لن يحور } : أي انه كان في الدنيا يظن أنه لا يرجع إلى الحياة بعد الموت فلذا لم يعمل خيرا قط ولم يتورع عن ترك الشر قط لعدم إيمانه بالبعث .
معنى الآيات :
قوله تعالى { إذا السماء انشقت } يخبر تعالى أنه إذا انشقت السماء أي تصدعت وتفطرت وذابت فصارت كالدهان { وأذنت لربها وحقت } أي وسمعت لأمر ربها واستجابت { فكانت } كما أمرها الله أن تكون منشقة منفطرة حتى تكون كالمهل ، { وإذا الأرض مدت } من الأديم واتسعت رقعتها حيث زال منها الجبال والآكام والمباني والعمارات وأصبحت قاعا صفصفا { وألقت ما فيها } أي ما في بطنها من أموات { وتخلت } عنه أي عما كان في بطنها { وأذنت لربها } في ذلك كله أي سمعت وأجابت { وحقت } أي وحق لها أن تسمع وتجيب وتطيع وجواب إذا الأولى والثانية واحد وهو { علمت نفس ما قدمت وأخرت } أو ما أحضرت كما تقدم نظيره في التكوير والانفطار . وقوله تعالى { يا أيها الإِنسان } أي يا بن آدم { إنك كادح إلى ربك } كدحا } أي إنك عامل تعمل يوميا وليل نهار إلى أن تمون وتلقى ربك إنك لا تبرح تعمل لا محالة وتكسب بجوارحك الخير والشر إلى الموت حيث تنتقل إلى الدار الآخرة وتلقى ربك وتلاقيه هذا يشهد له قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيح « كلكم يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها »
إذا فمن الخير لك ايها الإِنسان المكلف أن تعمل عملك صالحا وانظر إلى الصورة التالية { فأما من أوتي كتابه بيمينه } لأنه حوى الخير ولا شر فيه { فسوف يحاسب حسابا يسيرا } ينظر في كتابه ويقرر هل فعلت كذا فيعترف ويتجاوز عنه وينقلب إلى أهله في الجنة وهم الحور العين والنساء المؤمنات والذرية الصالحة يجمعهم الله ببعهم كرامة لهم وهو قوله تعالى { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإِيمان ألحقنا بهم ذرياتهم } { وأما من أوتي كتابه } أي كتاب أعماله روراء ظهره } حيث تغل اليمني مع عنقه وتخرج الشمال وراء ظهره ويعطى كتابه وراء ظهره { فسوف يدعو ثبورا } اي ينادي هلاكه قائلا واثبوراه واثبوراه اي يا هلاكه احضر فهذا أوان حضورك { ويصلى سعيرا } أي ويدخل نارا مستعرة شديدة الالتهاب ويصلى أيضا فيها تصلية اي ينضح فيها لحمه المرة بعد المرة وأبدا .
(4/382)
________________________________________
والعياذ بالله وعلة ذلك وسببه هو { أنه كان في أهله } في الدنيا { مسرورا } لا يخاف الله ولا يرجو الدار الآخرة يعمل ما يشاء ويترك ما يشاء إنه ظن أن لن يحور أي انه لا يرجع حيا بعد موته ولا يحاسب ولا يجزى هذه على هلاكه وشقائه فاحذروها أيها الناس اليوم فآمنوا بربكم ولقائه واعملوا عملا ينجيكم من عذابه . وقوله تعالى { بلى إن ربه كان به بصيرا } اي ليحورن وليبعثن وليحاسبن وليس كما يظن أنه لا يبعث ولا يحاسب ولا يجزى بل لا بد من ذلك كله إن ربه تعالى كان به وبعمله بصيرا لا يخفى عليه من أمره شيء ونتيجة لذلك تَمَّ له هذا الحساب والعقاب بِأَمَرِ العذاب وأشدِّه دخول النار وتصلية جحيم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء ببيان مقدماته في انقلاب الكون .
2- بيان حتمية لقاء الإِنسان ربّه .
3- كل إنسان مكلف بالعقل والبلوغ فهو عامل وكاسب لا محالة إلى أن يموت ويلقى ربه .
4- أهل الإِيمان والتقوى يحاسبون حسابا يسيرا وهو مجرد عرض لا غير ويفوزون أما من نوقش الحساب فقد هلك وعذب لأنه لا يملك حجة ولا عذرا .
5- التنعم في الدنيا والانكباب على شهواتها وملاذها مع ترك الطاعات والصالحات ثمرة عدم الإِيمان أو اليقين بالبعث والجزاء .
(4/383)
________________________________________
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
شرح الكلمات :
{ بالشفق } : أي بالحمرة في الأفق بعد غروب الشمس .
{ وما وسق } : أي دخل عليه من الدواب وغيرها .
{ إذا اتسق } : اجتمع وتم نوره وذلك في الليالي البيض .
{ طبقا عن طبق } : أي حالا بعد حال الموت ، ثم الحياةن ثم ما بعدها من أحوال القيامة .
{ فما لهم لا يؤمنون } : أي أيٌ مانع من الإِيمان بالله ورسوله ولقاء ربهم والحجج كثيرة تتلى عليهم .
{ وإذا قرئ عليهم القرآن } : أي تُلي عليهم وسمعوه .
{ لا يسجدون } : أي لا يخضعون فيؤمنوا ويسلموا .
{ بما يوعون } : أي يجمعون في صحفهم من الكفر والتكذيب .
{ لهم أجر غير ممنون } : أي غير مقطوع .
معنى الآيات :
قوله تعالى { فلا أقسم } أي فليس الأمر كما تدعون من أنه لا بعث ولا جزاء أقسم بالشفق وهي حمرة الأفق بعد غروب الشمس والليل وما وسق اي وما جمع من كل ذي روح من سابح في الماء وطائر في السماء وسارح في الغبراء والقمر إذا اتسق أي اجتمع وتم نوره وذلك في الليالي البيض .
وجواب القسم قوله تعالى { لتركبن طبقاً عن طبق } اي حالاً بعد حال الموت ثم الحياة ، ثم العرض ، ثم الحساب ، ثم الجزاء فهي أحوال وأهوال فليس الأمر كما تتصورون من أنه موت ولا غير . وقوله تعالى { فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون } أي ما للناس لا يؤمنون أي شيء منعهم من الإِيمان بالله ورسوله والدار الآخرة مع كثرة الايات وقوة الحجج وسطوع البراهين . وما لهم أيضا إذ تلي عليهم القرآن وسمعوه لا يخضعون ولا يخشعون ولا يخرون ساجدين يكذبون يحمل من أنواع الحجج والبراهين وقوله تعالى بل الذين كفروا أي بدل أن يؤمنوا ويسلموا يكذبون { والله أعلم بما يوعون } في قلوبهم من الكفر والتكذيب وفي نفوسهم من الحسد والكبر والغل والبغض وبناء على ذلك فبشرهم يا رسولنا أي أخبرهم بما يسوءهم بعذاب أليم عاجلاً وآجلاً { إلاّ الذين آمنواؤ اي منهم آمنوا بالله ورسوله وآيات الله ولقائه وعملوا الصالحات فأدوا الفرائض واجتنبوا المحارم فهؤلاء { لهم أجر } اي ثواب عند الله إلى يوم يلقونه { غير ممنون } أي غير منقوص ولا مقطوع في الجنة دار السلام . اللهم اجعلنا من أهلها برحمتك يا أرحم الراحمين .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان أن الإِنسان مقبل على أحوال وأهوال حالا بعد حال وهولا بعد هول إلى أن ينتهى إلى جنة أو نار .
2- بيان أن عدم إيمان الإِنسان بربه أمر يستدعي العجب إذ لا مانع للعبد من الإِيمان بخالقه وهو يعلم أنه مخلوق وقد تعرف إليه فأنزل كتبه وبعث رسله وأقام الأدلة على ذلك .
3- مشروعية السجود عند تلاوة هذه الآية وهي وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون .
4- علم الله تعالى بما يعي الإِنسان في قلبه وما يحمل في نفسه فذكره للعبد بأن يراقب ربه فلا يعي في قلبه إلا الإِيمان ولا يحمل في نفسه إلا الخير فلا غل ولا حسد ولا شك ولا عداء ولا بغضاء .
(4/384)
________________________________________
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
شرح الكلمات :
{ ذات البروج } : أي منازل الشمس والقمر الاثنى عشر برجا .
{ واليوم الموعود } : أي يوم القيامة إذ وعدت لله تعالى عباده أن يجمعهم فيه لفصل القضاء . { وشاهد } : أي يوم الجمعة .
{ ومشهود } : أي يوم عرفة .
{ قُتل أصحاب الأخدود } : أي لُعن أصحاب الأخدود .
{ الأخدود } : أي الحفر تحفر في الأرض وهو مفرد وجمعه أخاديد .
{ إذ هم عليها قعود } : أي على حافتها وشفيرها .
{ وما نقموا منهم } : أي ما عابوا اي شيء سوى إيمانهم بالله تعالى .
معنى الآيات :
قوله تعالى { والسماء ذات البروج } هذا قسم من أعظم القسام إذ أقسم تعالى فيه بالسماء ذات البروج وهي منازل الشمس والقمر الأثنا عشر برجا ، وباليوم الموعود وهو يوم القيامة إذ وعد الربّ تعالى عباده أن يجمعهم فيه ليحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون وبالشاهد وهو يم الجمعة وبالمشهود وهو يوم عرفة وجواب القسم أو المقسم عليه محذوف قد يكون تقديره لتبعثن ثم لتنبؤن لأن السورة مكية والسور المكية تعالج العقيدة بأنواعها الثلاثة التوحيد والنبوّة والبعث والجزاء ، وجائز أن يكون الجواب قتل بتقدير اللام وقد نحو لقد قتل اي لعن اصحاب الأخدود وهي حفر حفرها الكفار وأججوا فيها ناراً وأتوا بالمؤمنين المخالفين لدينهم وعرضوا عليهم الكفر أو الإِلقاء في النار فاختاروا الإِلقاء في النار مع بقاء إيمانهم حتى إن امرأة كانت ترضع صبياً فأحجمت عن إلقاء نفسها مع طفلها في النار فأنطق الله الصبي فقال لها : أماه امضي فإِنك على الحق فاقتحمت النار . وقوله { إذ هم عليها قعود } بيان للحال التي كانوا يفتنون فيها المؤمنين والمؤمنات إذ كانوا على شفير النار وحافتها قاعدين ، وقوله تعالى { وهم على ما يفعلون بالمؤمنين } من الإِلقاء في النار والارتداد عن الإِسلام { شهود } أي حضور ، ولم يغيروا منكراً ولم يأمروا بمعروف . وقوله تعالى { وما نقموا منهم } أي وما عابوا عنهم شيئا سوى إيمانهم بالله العزيز الحميد الذي له ملك السموات والأرض ، فحسب العبد من الله هذه الصفات فإِنها توجب الإِيمان بالله وطاعته ومحبته وخشيته وهي كونه سبحانه وتعالى عزيزاً في انتقامه لأوليائه حميداً يحمده لآلائه ونعمه سائر خلقه مالكاً لكل ما في السموات والأرض ليس لغيره ملك في شيء معه وعلمه الذي أحاط بكل شيء دل عليه قوله وهو على كل شيء شهيد . فكيف ينكر على المؤمن إيمانه بربّه ذي الصفات العلا . والجلال والجمال والكمال . سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك . وقوله تعالى { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } أي فتونهم عن دينهم فأحرقوهم بالنار { ثم لم يتوبوا } بعد فتنتهم للمؤمنين والمؤمنات { فلهم عذاب جهنم } جزاء لهم . { ولهم عذاب الحريق } عذاب جهنم في الدار الآخرة وعذاب الحريق في الدنيا . فقد روي أنهم لما فرغوا من غلقاء المؤمنين في النار والمؤمنون كانت تفيض أرواحهم قبل وصولهم إلى النار فلم يحسوا بعذاب النار والكافرون خرجت لهم النار من الأخاديد وأحرقتهم فذاقوا عذاب الحريق في الدنيا ، وسيذوقون عذاب جهنم في الآخرة هذا بالنسبة غلى أبدانهم أما أرواحهم فإِنها بمجرد مفارقة الجسد تلقى في سجين مع أرواح الشياطين والكافرين وقوله تعالى { إن الذين آمنوا } بالله وعملوا الصالحات أي آمنوا بالله ربّاً وإلهاً وعبدوه ب>اء فرائضه وترك محارمه { لهم جنات } أي بساتين { تجري من تحتها الأنهار } أي من تحت أشجارها وقصورها .
(4/385)
________________________________________
وقوله تعالى { ذلك الفوز الكبير } حقا هو فوز كبير ، لأنه نجاة من النار أولاً ودخول الجنة ثانياً . كما قال تعالى { فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا غلا متاع الغرور } هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
2- فضل يومي الجمعة وعرفة .
3- بيان ما يُبتلى به المؤمنون في هذه الحياة ويصبرون فيكون جزاؤهم الجنة .
4- الترهيب والترغيب في ذكر جزاء الكافرين والمؤمنين الصالحين .
(4/386)
________________________________________
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
شرح الكلمات :
{ إن بطش ربك } : أي أخذه أذا أخذ الكافر شديد .
{ يبدئ ويعيد } : أي يبدئ الخلق ويعيده بعد فنائه ويبدئ العذاب ويعيده .
{ الغفور الودود } : أي لذنوب عباده المؤمنين المتودد لأوليائه .
{ ذو العرش المجيد } : أي صاحب العرش إذ هو خالقه ومالكه والمجيد المستحق لكمال صفات العلو .
{ في تكذيب } : أي بما ذكر في سياق الآيات السابقة .
{ من ورائهم محيط } : أي هم في قبضته وتحت سلطانه وقهره .
{ قرآن مجيد } : أي كريم عظيم .
{ في لوح محفوظ } : أي من الشياطين والمراد به اللوح المحفوظ .
معنى الآيات :
لما ذكر تعالى ما توعد به الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات من أجل إيمانهم أخبر رسوله معرضا بمشركي قومه وطغاتهم الذين آذوا المؤمنين في مكة من أجل إيمانهم أخبره بقوله { إن بطش ربك لشديد } أي إن أخذه إذا بطش أخذه أليم شديد ودلل على ذلك بقوله { إنه هو يبدئ ويعيد } فالقادر على البدء والإِعادة بطشه شديد . وقوله { يبدئ } اي الخلق ثم يعيده . ويبدئ العذاب أيضا ثم يعيده { وهو الغفور الودود } فهو قادر على البطش بأعدائه ، وهو الغفور لذنوب أوليائه { ذو العرش المجيد } أي صاحب العرش خلقا وملكا المجيد العظيم الكريم ، { فعال لما يريد } إذ لا يُكره تعالى على شيء ولا يقدر أحد على إكراهه .
وقوله تعالى { هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود } كيف أهلكهم الله لما طغوا وبغوا وكفروا وعصوا نعم قد أتاك وقرأته على قومك الكافرين ولم ينتفعوا به لأنهم يعيشون في تكذيب لك يحيط بهم لا يخرجون منه لأنه تكذيب ناشئ من الكبر والحسد والجهل فلذا هم لم يؤمنوا بعد . وقوله تعالى { والله من ورائهم محيط } اي هم في قبضته وتحت قهره وسلطانه لا يخفى عليه منهم شيء ولا يحول بينه وبينهم متى أراد أخذهم شيء . وقوله تعالى { بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ } يرد بهذا على المشركين الذين قالوا في القرآن إنه سحر وشعر واساطير الأولين فقال ليس هو كما قالوا وادّعوا وإنما هو قرآن مجيد في لوح محفوظ من الشياطين فلا تمسه ولا تقربه ولا من غير الشياطين من سائر الخلق أجمعين .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تهديد الظلمة بالعذاب عقوبة في الدنيا وفي الآخرة .
2- إن الله تعالى لكرمه يتودد لأوليائه من عباده .
3- فائدة القصص هي الموعظة تحصل للعبد فلا يترك واجباً ولا يغشى محرما .
4- بيان إحاطة الله تعالى بعباده وأنهم في قبضته وتحت سلطانه .
5- شرف القرآن الكريم ، وإثبات اللوح المحفوظ وتقريره .
(4/387)
________________________________________
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
شرح الكلمات :
{ والطارق } : أي كل ما يطرق ويأتي ليلا وسمي النجم طارقا لطلوعه ليلا .
{ النجم الثاقب } : أي الثريّا والثاقب المضيء الذي يثقب الظلام بنوره .
{ لما عليها حافظ } : أي إلاّ عليها حافظ من الملائكة يحفظ عملها .
{ خلق من ماء دافق } : أي ماء ذي اندفاق وهو بمعنى مدفوق اي مصبوب في الرحم .
{ من بين الصلب والترائب } : الصلب : عظم الظهر من الرجل ، والترائب عظام الصدر والواحدة تريبة .
{ يوم تُبلى السرائر } : أي تختبر ضمائر القلوب في العقائد والنيات . والسرائر جمع سريرة كالسّرّ .
{ ذات الرجع } : أي ذات المطر لرجوعه كل حين والرجع من اسماء المطر .
{ ذات الصدع } : أي التصدع والتشقق بالنبات .
{ لقول فصل } : أي يفصل بين الباطل وفي الخصومات يقطعها بالحكم الجازم .
{ وما هو بالهزل } : أي باللعب والباطل بل هو الجد كل الجد .
{ يكيدون كيداً } : أي يعملون المكائد للنبي صلى الله عليه وسلم .
{ وأكيد كيدا } : أي أستدرجهم من حيث لا يعلمون لأوقعهم في المكروه .
{ أمهلهم رويدا } : أي زمنا قليلا وقد أخذهم في بدر .
معنى الآيات :
قوله تعالى { والسماء والطارق } هذا قسم إلهي حيث أقسم تعالى بالسماء والطارق ولما كان لفظ الطارق يشمل كل طارق آت بليل ، واراد طارقاً معينا فخم منشأنه بالاستفهام عنه الدال على تهويله فقال { وما أدراك ما الطارق } ثم بيّنه بقوله { النجم الثاقب } وكل نجم هو ثاقب للظلام بضوئه . والمراد به هنا الثريّا لتعارف العرب على إطلاق النجم على الثريا . هذا هو القسم والمقسم عليه هوقوله تعالى { إن كل نفس لما عليها حافظ } . وهنا قراءتان سبعيتان الأولى يتخفيف ميم لما وحينئذ تصبح زائدة لتقوية الكلام لا غير واللام للفرق بين إن النافية والمؤكدة الاخلة على الاسم وهو هنا ضمير شأن محذوف والتقدير أنه اي الحال والشأن كل نفس عليها حافظ . والثانية بتشديد لمّا وحينئذ تكون إن نافية بمعنى ما ولما بمعنى إلاّ ويصير الكلام هكذا .
ما كل نفس إلاّ عليها حافظ من ربها يحفظ عملها ويُحصي عليها ما تكسب من خير وشر . وقوله تعالى { فلينظر الإِنسان } اي الكافر المكذب بالبعث والجزاء { مم خُلق } أي من اي شيء خلق . وبين تعالى مما خلقه بقوله { خُلق من ماء دافق } اي ذي اندفاق وهو المنيّ يصب في الرحم يخرج من بين الصلب والترائب اي يخرج الماء من صلب الرجل وهو عظام ظهره وترائب المرأة وهي محل القلادة من صدرها ، وقد اختلف في تقدير فهم هذا الخبر عن الله تعالى وجاء العلم الحديث فشرح الموضوع واثبت أن ماء الرجل يخرج حقا مما ذكر الله تعالى في هذه الآية وأن ماء المرأة كذلك يخرج مما وصف عز وجل وصدق الله العظيم . وقوله تعالى { إنه على رجعه لقادر } أي الذي خلقه مما ذكر من ماء دافق فجعله بشراً سوياً ثم أماته بعد أن كان حياً قادر على إرجاعه حياً كما كان وأعظم مما كان .
(4/388)
________________________________________
وذلك يوم تبلى السرائر أي تختبر الضمائر وتكشف الأسرار وتعرف العقائد والنيات الصالحة من الفاسدة والسليمة من المعيبة ويومها { فما له من قوة ولا ناصر } ليس لهذا الكافر والمكذب بالبعث واليحاة الثانية ماله قوة يدفع بها عن نفسه عذاب ربّه ولا ناصر ينصره فيخلصه من العذاب . وقوله تعالى { والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع } أقسم تعالى بالسماء ذات السحب والغيوم والأمطار ، والأرض ذات التشقق عن النباتات والزروع المختلفة على أن القرآن الكريم قول فصل وحكم عدل في كل مختلف فيه من الحق والباطل فما أخبر به وحكم فيه من أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها هو الحق الذي لا مرية فيه واصلدق الذي لا كذب معه وقوله تعالى وما هو بالهزل أي وليس القرآن باللعب الباطل بل هو الحق من الله الذي لا باطل معه . وقوله تعالى { إنهم يكيدون كيدا } أي إن كفار قريش يمكرون بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وبدعوته مكرا ويكيدون لهما كيدا .
وقوله { وأكيد كيدا } أي وأنا أمكر بهم وأكيد لهم كيدا فمن يغلب مكره وكيده الخالق المالك أم المخلوق المملوك؟ فمهل الكافرين يا رسولنا أمهلهم قليلا ، فقد كتبنا في كتناب عندنا { لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز } وقد أنجز الله وعده لرسوله والمؤمنين فلم يمض إلاّ سنيات قلائل ، ولم يبق في مكة من سلطان إلا الله ، ولا من معبود يعبد إلا الله .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير المعاد والبعث والجزاء .
2- تقرير أن أعمال العباد محصية محفوظة وأن الحساب يجري بحسبها .
3- بيان مادة تكوين الإِنسان ومصدر تكوين تلك المادة .
4- التحذير من إسرار الشر وإخفاء الباطل ، وإظهار خلاف ما في الضمائر ، فإِن الله تعالى عليم بذلك ، وسيختبر عباده في كل ما يسرون ويخفون .
5- إثبات أن القرآن قول فصل ليس فيه من الباطل شيء وقد تأكد هذا بمرور الزمان فقد صدقت أنباؤه ونجحت في تحقيق الأمن والاستقرار أحكامه .
(4/389)
________________________________________
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
شرح الكلمات : : أي نزه اسم ربك أن يُسمى به غيره وأن يذكر بسخرية أو لعب أي لا يذكر إلا باجلال واكبار ونزه ربك عما لا يليق به من الشرك والصاحبة والولد والشبيه والنظير .
{ الأعلى } : أي فوق كل شيء والقاهر لكل شيء .
{ الذي خلق فسوى } : أي الإِنسان فوسى أعضاءه بأن جعلها متناسبة غير متفاوتة .
{ والذي قدر فهدى } : أي قدر ما شاء لمن شاء وهداه إلى إتيان ما قدره له وعليه .
{ والذي أخرج المرعى } : أي أنبت العشب والكلأ .
{ فجعله غثاء أحوى } : أي بعد الخضرة والنضرة هشيما يابسا أسود .
{ سنقرئك فلا تنسى } : أي القرآن فلا تنساه بإِذننا .
{ إلا ما شاء الله } : أي إلا ما شئنا أن ننسيكه فإِنك تنساه وذلك إذا أراد الله تعالى نسخ شيء من القرآن بلفظه فإِنه يُنسي فيه رسوله صلى الله عليه وسلم .
{ ونيسرك لليسرى } : أي للشريعة السهلة وهي الإِسلام .
{ فذكر إن نفعت الذكرى } : أي من تذكر أو لم تنفع ومعنى ذكر عظ بالقرآن .
{ ويتجنبها } : أي الذكرى أي يتركها جانبا فلا يلتفت إليها .
{ الأشقى } : أي الكافر الذي كتبت شقاوته أزلا .
{ يصلى النار الكبرى } : أي نار الدار الآخرة .
{ لا يموت فيها ولا يحيا } : أي لا يموت فيستريح ، ولا يحيا فيهنأ .
معنى الآيات :
قوله تعالى { سبح اسم ربك الأعلى } هذا أمر من الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأمته تابعة له بأن ينزه اسم ربّه عن أن يسمى به غيره ، أو أن يذكر في مكان قذر ، أو أن يذكر بعدم اجلال واحترام ، والأعلى صفة للربّ تبارك وتعالى دالى على علوه على خلقه فالخلق كله تحته وهو قاهر له وحاكم فيه . الذي خلق فسوى اي أوجد من العدم المخلوقات وسوى خلقها كل مخلوق بحسب ذاته فعدل أجزاءه وسوى بينها فلا تفاوت فيها { والذي قدر فهدى } أي قدر الأشياء في كتاب المقادير من خير وغيره وهدى كل مخلوق إلى ما قدره له أو عليه فهو طالب له حتى يدركه في زمانه ومكانه وعلى الصورة التي قدر عليها { والذي أخرج المرعى } اي ما ترعاه البهائم من الحشيش والعشب والكلأ . { فجعله غثاء أحوى } اي فجعله بعد الخضرة والنضرة هشيما متفرقا يابسا بين سواد وبياض وهي الحوّة هذه خمس ىيات الآية الأولى تضمنت الأمر بتنزيه اسم الله والأربع بعدها في التعريف به سبحانه وتعالى حتى يعظم اسمه وتعظم ذاته وتنه عن الشريك والصاحبة والولد وقوله تعالى { سنقرئك فلا تنسى } هذه عِدَةٌ من الله تعالى لرسوله . لعل سببها أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا جاءه جبريل بالآيات يخاف نسيانها فيستعجل قراءتها قبل فراغ جبريل عليه السلام من إملائها عليه فيحصل له بذلك شدة فطمأنه ربّه أنه لا ينسى ما يقرئه جبريل { إلا ما شاء الله } أن ينسيه إياه لحكمة اقتضت ذلك فإِنه ينساه فقد كان صلى الله عليه وسلم ينسى وذلك لما أراد الله أن ينسخه من كلامه .
(4/390)
________________________________________
وقوله تعالى { إنه يعلم الجهر وما يخفى } هذه الجملة تعليلية لقدرة الله تعالى على أن يحفظ على رسوله القرآن فلا ينساه ومعنى يعلم الجهر وما يخفى أي أن الله تعالى يعلم ما يجهر به المرء من قراءة أو حديث وما يخفيه الكل يعلمه الله بخلاف عباده فإِنهم لا يعلمون ما يخفى عليهم ويُسرُّ به وقوله تعالى و { نيسرك لليسر } اي للطريقة السهلة الخالية من الحرج وهي الشريعة الإِسلامية التي بنيت على أساس أن لا حرج في الدين ( وما جعل عليكم في الدين من حرج وقوله تعالى { فذكر إن نفعت الذكرى } من آيسناك من غيمانهم أو لم تنفع . لأنه صلى الله عليه وسلم مأمور بالبلاغ فيبلغ الكافر والمؤمن ويذكر الكافر والمؤمن . والأمر بعد لله . وقوله تعالى { سيذكر من يخشى } أي سيذكر ويتعظ من يخشى عقاب الله إِيمانه به ومعرفته له { ويتجنبها } أي الذكرى { الأشقى } أي أشقى الفريقين فريق من يتذكر وفريق من لا يتذكر { الذي يصلى النار الكبرى } اي يدخل النار الكبرى نار يوم القيامة { ثم لايموت فيها } من جراء عذابها فيستريح { ولا يحيا } فيهنأ ويسعد إذ الشقاء لازمه . وهذه حال أهل النار ونعوذ بالله من حال أهل النار .
هداية الآيات : من هداية الآيات : 1- وجوب تسبيح اسم الله وتنزيهه عما لا يليق به كوجوب تنزيه ذات الله تعالى عن كل مالا يليق بجلاله وكماله .
2- مشروعية قول سبحان ربّي الأعلى عند قراءة هذه الاية سبح اسم ربك الأعلى .
3- وجوب التسبيح بها في السجود في كل سجدة من الصلاة سبحان ربي الأعلى ثلاثا فأكثر .
4- مشروعية قراءة هذه السورة في الوتر فيقرأ في الركعة الأولى بالفاتحة والأعلى وفي الثانية بالفاتحة والكافرون ، وفي ركعة الوتر بالفاتحة والصمد أو الصمد والمعوذتين .
5- أحب الرسول صلى الله عليه وسلم سورة الأعلى لأنها سورة ربّه وأن ربّه بشره فيها بشارتين عظيمتين الأولى أنه يُيسره لليسرى ، ومن ثم ما خُير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين شيئين إلا اختار أيسرهما والثانية أنه حفظه من النسيان بأن جعله لا ينسى . ولذا كان يُصلي بهذه السورة الجمع والأعياد والوتر في كل ليلة ف صلى الله عليه وسلم .
(4/391)
________________________________________
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
شرح الكلمات
{ أفلح } : أي فاز بأن نجا من النار ، ودخل الجنة .
{ من تزكى } : أي تطهر بالإِيمان وصالح الأعمال بعد التخلي عن الشرك والمعاصي .
{ وذكر اسم ربه } : أي في كل أحايينه عند الأكل وعند الشرب وعند النوم وعند الهبوب منه وفي الصلاة وخارج الصلاة من تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير .
{ فصلى } : أي الصلوات الخمس والنوافل من رواتب وغيرها .
{ تؤثرون } : أي تقدمون وتفضلون الدنيا على الآخرة .
{ إن هذا لفي الصحف الأولى } : أي إن هذا وهو قوله قد أفلح إلى قوله وأبقى .
{ صحف إبراهيم } : إذ كانت عشر صحف .
{ وموسى } : أي توراته .
معنى الآيات :
قوله تعالى قد افلح من تزكى وذكر اسم ربّه فصلى يخبر تعالى بفلاح عبد مؤمن زكى نفسه اي طهرها بالإِيمان وصالح الأعمال ، وذكر اسم ربّه على كل أحايينه عند القيام من النوم عند الوضوء بعد الوضوء في الصلاة وبعد الصلاة وعند الأكل والشرب وعند اللباس فلا يخلو من ذكر الله ساعة فصّلى الصلوات الخمس وصلى النوافل . ومعنى الفلاح الفوز والفوز هو النجاة من المرهوب والظفر بالمرغوب المحبوب . والمراد منه في الآية النجاة من النار ودخول الجنة الآية آل عمران { فمن زحزح عن النار وأدخل لجنة فقد فاز } وقوله تعالى { بل تؤثرون الحياة الدنيا } أيها الناس اي تفضلونها على الآخرة فتعملون لها وتنسون الآخرة فلا تقدمون لها شيئا .
هذا هو طبعكم أيها الناس إلا من ذكر الله فصلى بعد أن آمن واهتدى في حين أن الآخرة خير من الدنيا وأبقى خير نوعاً وابقى مدة حتى قال الحكماء لو كانت الدنيا من ذهب والآخرة من خزف . . طين لاختار العاقل ما يبقى على ما يفنى ، لأن الدنيا فانية والآخرة باقية وقوله تعالى { إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى } أي إن قوله تعالى قد افلح من تزكى إلى قوله خير وأبقى مذكور في كل من صحف غبراهيم وكانت له عشر صحف ولموسى ، التوراة .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- الترغيب في الزكاة والذكر والصلاة ، وبحصل هذا للمسلم كل عيد فطر غذ يخرج زكاة الفطر أولا ثم يأتي المسجد يكبر ، ثم يصلي حتى أن بعضهم يرى أن هذه الاية نزلت في ذلك .
2- التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة لفناء الدنيا وبقاء الآخرة .
3- توافق الكتب السماوية دليل أنها وحي الله وكتبه أنزلها على رسله عليهم السلام .
(4/392)
________________________________________
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
شرح الكلمات :
{ هل أتاك } : أي قد جاءك .
{ الغاشية } : أي القيامة وسميت الغاشية لأنها تغشى الناس بأهوالها .
{ وجوه يومئذ } : أي يوم إذ تقوم الساعة .
{ خاشعة } : أي ذليلة أطلق الوجوه وأراد اصحابها .
{ عاملة ناصبة } : أي ذات نصب وتعب بالسلاسل والأغلال وتكليف شاق الأعمال .
{ تصلى نارا حامية } : ترد هذه الوجوه ناراً حامية قد اشتدت حرارتها .
{ تسقى من عين آنية } : أي بلغت أناها من الحرارة يقال أني الحميم إذا بلغ منتهاه .
{ إلا من ضريع } : أي أخبث طعام وأنتنه ، وضريع الدنيا نبت يقال له الشبرق لا ترعاه الدواب لخبثه .
{ وجوه يومئذ ناعمة } : أي حسنة نضرة .
{ لسعيها راضية } : أي لعملها الصالحات في الدنيا راضية في الآخرة لما رأت من ثوابها .
{ لاغية } : أي كلمة لاغية من اللغو والباطل .
{ وأكواب } : أقداح لا عُرا لها موضوعة على حافة العين للشرب .
{ ونمارق مصفوفة } : أي ومساند جمع نمرقة مصفوفة الواحدة إلى جنب الأخرى للاستناد إليها .
{ وزرابي مبثوثة } : أي بسط وطنافس لها خمل ومالا خمل لها يسمى سجاده ومعنى مبثوثة مفروشة هنا وهناك مبسوطة .
معنى الآيات :
قوله تعالى { هل أتاك حديث الغاشية } هذا خطاب من الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم يقول له فيه هل أتاك نبأ الغاشية وخبرها العظيم وحديثها المهيل المخيف إن لم يكن أتاك فقد أتاك الآن إنه حديث القيامة التي تغشى الناس بأهوالها وصعوبة مواقفها واشتداد أحوالها وإليك عرضاً سريعاً لبعض ما يجري فيها : { وجوه يومئذ } تغشاهم الغاشية { خاشعة } ذليلة { ناصبة } أي ذات نصب وتعب من جرّ السلاسل والأغلال ، وتكليف أشق الأعمال { تصلى نارا حامية } أي ترد ناراً { تسقى } اي فيها { من عين آنية } قد بلغت أناها وانتهت إلى غايتها في حرارتها هذا هو الشراب أما الطعام فإِنه ليس لهم طعام إلا من ضريع قبيح اللون خبيث الطعم منتن الريح ، { لا يسمن } آكله ولا يغنيه من جوع . هذه حال من كفر وفجر كفر بالله وبآياته ولقائه ورسوله ، أو فجر عن طاعة الله ورسوله فترك الفرائض وغشي المحارم هذه وجوه ووجوه يومئذ ناعمة أي نضة حسنة فإِنها لسعيها راضية اي لسعيها في الدنيا وهو إيمانها وصبرها إيمانها وجهادها إيمانها وتقواها إيمانها وعملها الصالح أصحاب هذه الوجوه راضون بأعمالهم لما رأوا من ثوابها والجزاء عليها .
إنهم أدخلوا في جنة عالية لا يقادر علاها ، لا تسمع فيها لاغية أي كلمة باطلة تنغص سعادتهم ولا كلمة نابية تقلق راحتهم . فيها عين جارية من غير أخذدود حفر لها ، فيها سرر مرفوعة قدراً وحالاً ومكاناً ، وأكواب أقداح لا عرا لها من ذهب وفضة موضوعة لشربهم إن شاءوا شربوا بأيديهم أو ناولتهم غلمانهم ، ذاك لون من الشراب أما الفراش فإِنها سرر مرفوعة ، ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة ، وسائد قد صفت للراحة والاتكاء الواحدة إلى جنب الأخرى طنافس ذات خمائل مبثوثة مفروشة هنا وهناك مبسوطة . هذه لمحة خاطفة عن الدار الآخرة تعتبر ذكرى للذاكرين وعظة للمتقين .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر عرض سريع لها .
2- من أسماء القيامة الغاشية لأنها تغشى الناس بأهوالها .
3- بيان أن في النار نصباً وتعباً . على عكس الجنة فإِنها لا نصب فيها ولا تعب .
4- من مؤلمات النفس البشرية لغو الكلام وكذبه باطله وهو ما ينزه عنه المؤمنون أنفسهم .
(4/393)
________________________________________
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
شرح الكلمات :
{ أفلا ينظرون } : أي أينكرون البعث فلا ينظرون نظر اعتبار .
{ إلا الإبل كيف خلقت } : أي خلقا بديعا معدولا به عن سنن سائر المخلوقات .
{ وإلى السماء كيف رفعت } : أي فوق الأرض بلا عمد ولا مستند .
{ وإلى الجبال كيف نصبت } : أي على وجه الأرض نصباً ثابتا لا يتزلزل .
{ وإلى الأرض كيف سطحت } : أي بسطت .
{ فذكر } : أي ذكرهم بنعم الله ودلائل توحيده .
{ بمسيطر } : أي بمسلط .
معنى الآيات :
قوله تعالى { أفلا ينظرون } أي أينكرون البعث والجزاء وما أعد الله لأوليائه من النعيم المقيم وما أعد لأعدائه من عذاب الجحيم . أفلا ينظرون نظرة اعتبار إلى الإِبل كيف خلقت ، وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت فهل خلق الإِبل على تلك الصورة العجيبة وذاك التسخير لها وما فيها من منافع إذ يشرب لبنها ويركب ظهرها ويؤكل لحمها لا يدل على قدرة الخالق على إحياء الموتى وهل خلق السماء بكواكبها وشمسها وقمرها ثم رفعها بغير عمد يدعمها ولا سند يسندها لا يدل على قدرة الله على بعث الموتى أحياء ليحاسبهم ويجزيهم ، وهل نصب الجبال بعد خلق ترابها وغيجاد صخورها لا يدل على قدرة الله خالقها على بعث الرمم وإحياء الأجساد البالية كيف شاء ومتى شاء وهل خلق الرض بكل ما فيها ثم بسطها وتسطيحها للحياة عليها والسير فوقها وتعميرها بأنواع العمران لا يدل على قدرة الله على البعث والجزاء . فما للقوم لا ينظرون ولا يفكرون وقوله تعالى { فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر } بعد لفت أنظار المشركين إلى ما لو نظروا إليه وتفكروا فيه لاهتدوا إلى الحق وعرفوا أن الخالق لكل شيء لا يعجزه بعث عباده ولا جزاؤهم . أمر رسوله أن يقوم بالمهمة التي أنيطت به وهي التذكير دون الهداية التي هي لله وحده دون سواه فقال له { فذكر إنما أنت مذكر } اي ذكر بمظاهر قدرتنا وآياتنا في الافاق وآلائنا على العباد إنما أنت مذكر ليس غير . وقوله { لست عليهم بمسيطر } اي بمتسلط تجبرهم على الإِيمان والاستقامة وقوله { إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر } أي لكن من تولى عن الإِيمان فكفر بآياتنا ورسولنا ولقائنا فيعذبه الله العذاب الأكبر وهو عذاب الآخرة . وقوله تعالى { إن إلينا إيابهم } اي رجوعهم إلينا لا إلى غيرنا . { ثم إن علينا } لا على غيرنا { حسابهم } ومن ثم سوف نجزيهم الجزاء اللائق بهم ، ولذا فلا يضرك يا رسولنا إعراضهم ولا توليهم . وحسبك تذكيرهم فمن اهتدى نجا ونجاته لنفسه ، ومن ضل فإِنما يضل عليها إذ عاقبة ضلاله وهي الخسران التام عائدة عليه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير البعث والجزاء بالدعوى إلى النظر إلى الأدلة الموجبة للإِيمان به .
2- بيان أن الداعي إلى الله تعالى مهمته الدعوة دون هداية القلوب فإِنها إلى الله تعالى وحده .
3- بيان أن مصير البشرية إلى الله تعالى وهي حال تقتضي الإِيمان به تعالى وطاعته طلبا للنجاة من عذابه والفوز برحمته . وهو مطلب كل عاقل لو أن الناس يفكرون .
(4/394)
________________________________________
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
شرح الكلمات :
{ والفجر } : أي فجر كل يوم .
{ وليال عشر } : أي عشر ذي الحجة .
{ والشفع والوتر } : أي الزوج والفرد .
{ والليل إذا يسر } : أي مقبلا أو مدبراً .
{ لذي حجر } : اي حجى وعقل .
{ بعاد إرم } : هي عاد الأولى .
{ ذات العماد } : إذ كان طول الرجل منهم اثنى عشر ذراعاً .
{ جابوا الصخر بالواد } : أي قطعوا الصخر جعلوا من الصخور بيوتا بوادي القرى .
{ ذي الأوتاد } : أي صاحب الأوتاد وهي أربعة أوتاد يشدُّ إليها يدي ورجلي من يعذبه .
{ طغوا في البلاد } : أي تجبروا فيها وظلموا العباد وأكثروا فيها الفساد .
{ فأكثروا فيها الفساد } : أي الشرك والقتل .
{ سوط عذاب } : أي نوع عذاب .
{ لبالمرصاد } : أي يرصد أعمال العباد ليجزيهم عليها .
معنى الآيات :
قوله تعالى { والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر } هذه اربعة أشياء قد اقسم الله تعالى بها وهي الفجر وفي كل يوم فجر وجائز أن يكون قد اراد تعالى فجر يوم معين وجائز أن يريد فجر كل يوم { وليال عشر } وهي العشر الأول من شهر ذي الحجة وفيها عرفة والأضحى وقد اشاد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال « ما من ايام العمل الصالح أحب إلى الله تعالى من عشر ذي الحجة والشفع وهو كل زوج والوتر وهو كل فرد » فهو إقسام بالخلق كله { والليل إذا يسر } مقبلاً أو مدبراً فهو بمعنى والليل إذا سار والسير يكون صاحبه ذاهباً أو آبيا وقوله تعالى { هل في ذلك قسم لذي حجر } اي لذي حجر ولب وعقل اي نعم فيه قسم عظيم وجواب القسم أو المقسم عليه جائز أن يكون قوله تعالى { إن ربك لبالمرصاد } الآتي ، وجائز أن يكون مقدراً مثل لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير ، وهذا لأن السورة مكية وهي تعالج العقيدة ومن أكبر ما أنكره المشركون البعث والجزاء فلذا هذا الجواب مراد ومقصود . ويدل عليه ما ذكر تعالى من مظاهر قدرته في الايات بعد والقدرة هي التي يتأتّى بها البعث والجزاء فقال عز وجل { ألم تر كيف فعل ربك } اي ألم تنظر بعيني قلبك كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وهي عاد الأولى قوم هود الذين قالوا من اشد منا قوة ، وقال لهم نبيهم هود وزادكم في الخلق بسطة فقد كان طول الرجل منهم اثنى عشر ذراعا ، ولفظ إرم عطف بيان لعاد فإِرم هي عاد قوم هود ووصفها بأنها ذات عماد وأنها لم يخلق مثلها في البلاد هو وصف لها بالقوة والشدة وفعلا كانوا أقوى الأمم واشدها ولازم طول الأجسام أن تكون أعمدة المنازل كأعمدة الخيام من الطول ما يناسب سكانها في طولهم . ومع هذه القوة والشدة فقد أهلكهم الله الذي هو اشد منهم قوة وقوله تعالى { وثمود الذين جابوا الصخر بالواد } .
(4/395)
________________________________________
أي وانظر كيف فعل ربك بثمود وهم اصحاب الحجر ( مدائن صالح ) شمال المدينة النبوية قوم صالح الذين كانوا أقوياء أشداء حتى إنهم قطعوا الصخور نحتاً لها فجعلوا منها البيوت والمنازل كما قال تعالى عنهم { وتنحتون الجبال بيوتاً } والمراد بالواد واديهم الذي كان بين جبلين من جبالهم التي ينحتون منها البيوت .
فمعنى جابوا الصخر بالواد أي قطعوا الصخور بواديهم وجعلوا منها مساكن لهم تقيهم برد الشتاء القارص وحر الصيف اللافح ، ومع هذا فقد أهلكهم الله ذو القوة المتين وقوله { وفرعون ذي الأوتاد الذي طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد } وانظر يا رسولنا كيف فعل ربك بفرعون صاحب المشانق والقتل والتعذيب إذ كان له أربعة أوتاد إذا أراد قتل من كفر به وخرج عن طاعته قيد كل يد بوتد وكل رجل بوتد ويقتله كما هي المشانق التي وصعها الطغاة الظلمة فيما بعد . وقوله تعالى { الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد } وهو الشرك والمعاصي فأهلكهم الله أجمعين عاد إرم وثمود وفرعون وملأه إذ صب عليهمربك سوط عذاب اي نوع عذاب من أنواع عذابه فأهلك عاد غرم بالريح الصرصر ، وثمود بالصيحة العاتية ، وفرعون بالغرق في البحر . وقوله تعالى { إن ربك لبالمرصاد } اي لكل جبارعات وطاغية ظالم اي هو تعالى يرصد أعمال العباد ليجزيهم بها في الدينا وفي الآخرة . ولفظ المرصاد يطلق على مكان يرصد فيه تحركات الصيد الذي يصاد ، أو تحركات العدو وهو كبرج المراقبة . والرب تبارك وتعالى فوق عرشه والخليقة كلها تحته يعلم ظواهرها وبواطنها ويراقب أعمالها ويجزيها بحسبها قال تعالى { وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون } هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- فضل الليالي العشر من أول ذي الحجة إلى العاشر منه .
2- بيان مظاهر قدرة الله في إهلاك الأمم العاتية والشعوب الظالمة مستلزم لقدرته تعالى على البعث والجزاء والتوحيد والنبوة وهو ما أنكره أهل مكة .
3- التحذير من عذاب الله ونقمه فإِنه تعالى بالمرصاد فليحذر المنحرفون عن سبيل الله والحاكمون بغير شرعه والعاملون بغير هداه أن يصب عليهم سوط عذاب .
(4/396)
________________________________________
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
شرح الكلمات :
{ فأما الإِنسان } : أي الكافر المشرك .
{ ابتلاه } : أي اختبره .
{ وأكرمه ونعمه } : أي بالمال والجاه ونعَّمه بالخيرات .
{ أكرمن } : أي فضلني لمالي من مزايا على غيري .
{ فقدر عليه رزقه } : أي ضيقه ولم يوسعه عليه .
{ أهانن } : أي أذلني بالفقر ولم يشكر الله على ما وهبه من سلامة جوارحه والعافية في جسمه .
{ كلا } : أي ليس الأمر كما يرى هذا الكافر ويعتقد ويقول .
{ التراث } : أي الميراث .
{ أكلا لما } : أي أكلاً كثيرا ولمَّاً شديداً إذ يلمون نصيب النساء والأطفال لما لهم فلا يورثونهم من التركة .
{ حبا جما } : أي حبا شديداً كثيراً .
معنى الآيات :
قوله تعالى { فأما الإِنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن } لقد تقدم قول الله تعالى { إن ربك لبالمرصاد } وهو دال على أن الله تعالى يحب من عبده أن يعبده ويشكره ليكرمه في دار طرامته يوم لقائه ، وإِعلام الله تعالى عباده بأنه بالمرصاد يراقب أعمالهم دلالته على أنه يخوفهم من معاصيه ويرغبهم في طاعته واضحة فتلخص من ذلك أن الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر وأنه يحب لهم الشكر فأما الإِنسان فماذا يحب وماذا يكره قال تعالى عنه فأما الإِنسان وهو المشرك وأكثر الناس مشركون إذا ما ابتلاه ربه اي اختبره فأكرمه بالمال والولد والجاه ونعمه بالأرزاق والخيرات لينظر الله هل يشكر أو يكفر فيقول مفاخراً ربي أكرمن أي فضلني على غيري لما لي من فضائل ومزايا لم تكن لهؤلاء الفقراء وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن أي وأما إذا ما اختبره وضيق عليه رزقه لينظر تعالى هل يصبر العبد المختبر أو يجزع فيقول ربي أهانن أي أذلني فأفقرني .
وقوله تعالى { كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما } أي ألا فارتدعوا أيها الماديون الذين تقيسون الأمور كلها بمقاييس المادة فالله جل جلاله يوسع الرزق اختبارا للعبد هل يشكر نعم الله عليه فيذكرها ويشكرها بالإِيمان والطاعة ويضيّق الرزق امتحانا هل يصبر العبد لقضاء ربه أو يجزع . وإنما أنتم أيها الماديون ترون أن في التوسعة اكراما وفي التضييق إهانة كلا ليس الأمر كذلك ، ونظريتكم المادية هذه أتتكم من حبّكم الدنيا واغتراركم بها ويشهد بذلك إهانتكم لليتامى وعدم إكرامكم لهم لضعفهم وعجزهم أمامكم ، وعدم الاستفادة المادية منهم . وشاهد آخر أنكم لا تحضون أنفسكم ولا غيركم على إطعام المساكين وهم جياع أمامكم ، وآخر أنكم تأكلون التراث أي الميراث أكلا لما شديدا تجمعون مال الورثة من الأطفال والنساء إلى أموالكم . وتحرمون الضعيفين الأطفال والنساء . وآخر وتحبون المال حبا جما أي قويا شديدا . كلا ألا ارتدعوا واخرجوا من دائرة هذه النظرية المادية قبل حلول العذاب ، ونزول ما تكرهون . فآمنوا بالله ورسوله .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- النظرية المادية لم تكن حديثة عهد إذ عرفها الماديون في مكة من مشركي قريش قبل أربعة عشر قرنا .
2- وجوب إكرام اليتامى والحض على إطعام الجياع من فقراء ومساكين .
3- وجوب اعطاء المواريث لمستحقيها ذكورا أو اناثا صغاراً أو كباراً .
4- التنديد بحب المال الذي يحمل على منع الحقوق ، ويزن الأمور بميزانه قوة وضعفا .
(4/397)
________________________________________
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
شرح الكلمات :
{ إذا دكت الأرض دكا } : أي حركت حركة شديدة وزلزلت زلزالا قويا فلم يبق عليها شاخص البتة .
{ والملك صفا صفا } : أي والملائكة أي صفا بعد صف .
{ وجيء يومئذ بجهنم } : أي تجر بسبعين ألف زمام كل زمام بأيدي سبعين الف ملك .
{ يتذكر الإِنسان } : أي الكافر ما قالت له الرسل من وعد الله ووعيده ، يوم لقائه .
{ وأنى له الذكر } : أي لا تنفعه في هذا اليوم الذكرى .
{ قدمت لحياتي } : أي هذه الإِيمان وصالح الأعمال .
{ لا يعذب عذابه أحد } : أي لا يعذب مثل عذاب الله أحد أي في قوته وشدته .
{ ولا يوثق وثاقه أحد } : أي ولا يوثق أحد مثل وثاق الله عز وجل .
{ يا أيتها النفس المطمئنة } : أي المؤمنة الآمنة من العذاب لما لاح لها من بشائر النجاة .
{ ارجعي إلى ربك } : أي إلى جواره في دار كرامته أي الجنة .
{ فادخلي في عبادي } : أي في جملة عبادي المؤمنين المتقين .
{ وادخلي جنتي } : أي دار كرامتي لأوليائي .
معنى الآيات :
قوله تعالى { إذا دكت الأرض دكا دكا } هو كقوله { وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت } { وجاء ربك } أي لفصل القضاء { والملك صفا صفاً } بعد صف ، { وجيء يومئذ بجهنم } تجر بسبعين الف زمام كل زمام بأيدي سبعين ألف ملك ، هنا وفي هذا اليوم وفي هذه الساعة { يتذكر الإِنسان } المهمل المفرط المعرض عن دعوة الرسل ، الكافر بلقاء الله والجزاء على الأعمال { وأنَّى له الذكرى } هنا يتذكر وما يتذكر؟ ، وكفره كان عريضاً وشره كان مستطيراً ، ماذا يتذكر وهل تنفعه الذكرى ، اللهم لا ، لا وماذا عساه أن يقول في هذا الموقف الرهيب يقول نادما متحسراً { يا ليتني قدمت لحياتي } اي هذه الحياة الماثلة بين يديه ، وهل ينفعه التمني اللهم لا ، لا .
قال تعالى مخبرا عن شدة العذاب وقوة الوثاق { فيومئذ } أن تقوم القيامة ويجيء الربّ لفصل القضاء ويجاء بجهنم ويتذكر الإِنسان ويأسف ويتحسر في هذا اليوم يقضي الله تعالى بعذاب أهل الكفر والشرك والفجور والفسوق فيعذبون ويوثقون بأمر الله وقضائه في السلاسل ويغلون في الأغلال ويذوقون العذاب والنكال الأمر الذي ما عرفه الناس في الدنيا أيام كانوا يعذبون المؤمنين ويوثقونهم في الحبال وهو ما أشار إليه بقوله : { فيومئذ لا يعذب عذابه أحد } اي لا يعذب عذاب أحد في الدنيا مهما بالغ في التعذيب عذاب الله في الآخرة { ولا يوثق وثاقه أحد } أي لا يوثق أحد في الدنيا وثاق الله في الآخرة هذه صورة من عذاب الله لأعدائه من أهل الشرك به والكفر بآياته وروله ولقائه وأما أهل الإيمان به وطاعته وهم أولياؤه الذي آمنوا في الدنيا وكانوا يتقون فها هم ينادون فاستمع { يا ايتها النفس المطمئنة } إلى صادق وعد الله ووعيده في كتابه وعلى لسان رسوله فآمنت واتقت وتخلت عن الشرك والشر فكانت مطمئنة وذكر الله قريرة العين بحب الله ورسوله ، وما وعدها الرحمن { ارجعي إلى ربك } اي غلى جواره في دار كرامته حال كونك { راضية } ثواب الله لك مرضيا عنك من قبل مولاك { فادخلي في عبادي } اي في جملة عبادي الصالحين { وادخلي جنتي } فيقال لها هذا عندما يرسل الله الأرواح إلى الأجساد يوم المعاد ، فإِذا دخلت تلقتها الملائكة بالسلام وتساق إلى ساحة العرض وتعطى كتابها بيمينها وثم يقال لها ادخلي في عبادي أي في جملتهم وادخلي جنتي بعد مرورها على الصراط اللهم اجعل نفسي مثل تلك النفس المطمئنة بالإِيمان وذكر الله ووعد الرحمن وعد الصدق الذي كانوا يوعدون .
(4/398)
________________________________________
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير المعاد بعرض شبه تفصيلي ليوم القيامة .
2- بيان اشتداد حسرة المفرطين اليوم في طاعة الله تعالى وطاعة رسوله يوم القيامة .
3- بشرى النفس المطمئنة بالإِيمان وذكر الله ووعده ووعيده ، عند الموت وعند القيام من القبر وعند تطاير الصحف .
(4/399)
________________________________________
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
شرح الكلمات :
{ لا أقسم بهذا البلد } : أي مكة .
{ وأنت حل بهذا البلد } : أي وأنت يا نبيّ الله محمد حلال بمكة .
{ ووالد وما ولد } : أي وآدم وذريته .
{ في كبد } : أي في نصب وشدة يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة .
{ ايحسب أن لن يقدر } : أي أيظن وهو أبو الأشدين بن كلدة وكان قويا شديدا .
{ أهلكت مالا لبدا } : يقول هذا مفاخرا بعداوة الرسول وأنه أنفق فيها مالا كثيرا .
{ أيحسب أن لم يره أحد } : أي ايظن أنه لم يره أحد؟ بل الله رآه وعلم ما أنفقه .
{ وهديناه النجدين } : أي بيّنا له طريق الخير وطريق الشر بما فطرناه عليه من ذلك وبما أرسلنا به رسلنا وأنزلنا به كتبنا .
معنى الآيات :
قوله تعالى { لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد } هذا قسم لله تعالى اقسم فيه بمكة بلده الأمين والرسول بها وهو حلّ يقاتل ويقتل فيها وذلك يوم الفتح الموعود . وقد قتل صلى الله عليه وسلم يومها ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة وأقسم بوالد وما ولد فالوالد آدم وما ولد ذريته منهم الأنبياء والأولياء وجواب القسم أو المقسم عيله قوله { لقد خلقنا الإِنسان في كبد } أي في نصب وتعب لا يفارقانه منذ تخلقه في بطن أمه إلى وفاته بانقضاء عمره ثم يكابد شدائد الآخرة ثم إما غلىنعيم لا نصب معه ولا تعب ، وإما إلى جحيم لا يفارقه ما هو أشد من النصب والتعب عذاب الجحيم هكذا شاء الله وهو العليم الحكيم . وفي هذا الخبر الإِلهي المؤكد بأجل قسم على أن الإِنسان محاط منذ نشأته غلى نهاية أمره بالنصب والتعب ترويح على نفوس المؤمنين بمكة وهم يعانون من الحاجة والاضطهاد والتعذيب أحيانا من طغاة قريش لا سيما المستضعفين كياسر وولده عمار وبلال وصهيب وخبيب ، وحتى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فهو لم يسلم من أذى المشركين فإِذا عرفوا طبيعة الحياة وأن السعادة فيها أن يعلم المرء أن لا سعادة بها هان عليهم الأمر وقل قلقهم وخفت آلامهم . كما هو تنبيه للطغاة وإعلام لهم بما هم عنه غافلون لعلهم يصحون من سكرتهم بحب الدنيا وما فيها وقوله عز وجل { أيحسب } الإِنسان { أن لم يره أحد } هذا الإِنسان الذي قيل أنه ابو الأشدّيْن الذي أنفق ماله في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والإِسلام ويتبجّج بذلك ويقول { أهلكت مالا لبدا } كثيرا بعضه فوق بعض بلى إن الله تعالى قد رآه وعلم به وعَلِم القدر الذي أنفقه وسوف يحساب عليه ويجزيه به ، ولن ينجيه اعتقاده الفاسد أنه لا بعث ولا جزاء قال تعالى مقررا له بقدرته ونعيمه عليه { ألم نجعل عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين } أي أعطيناه عينين يبصر بهما ولسانا ينطق به ويفصح عن مراده وزيناه بشفتين يستر بهما فمه وأسنانه ثم هديناه النجدين أي بيّنا له طريق الخير والشر والسعادة والشقاء بما أودعنا في فطرته وبما ارسلنا به رسلنا وأنزلنا به كتبنا أنسي هذا كله وتعامى عنه ثم هو ينفق ما أعطيناه في حرب رسولنا وديننا .
(4/400)
________________________________________
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- شرف مكة وحرمتها وعلو شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وسمو مقامه وهو فيها وقد أحلها الله تعالى له ولم يحلها لأحد سواه .
2- شرف آدم وذريته الصالحين منهم .
3- اعلان حقيقة وهي أن الإِنسان لا يبرح يعاني من أتعاب الحياة حتى الممات ثم يستقبل شدئاد الآخرة إلى أن يقر قراره وينتهي تطوافه باستقراره في الجنة حيث يستريح نهائيا ، أو في النار فيعذب ويتعب أبدا .
(4/401)
________________________________________
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
شرح الكلمات : :
{ فلا اقتحم } : أي فهلا تجاوز .
{ العقبة } : أي الطريق الصعب في الجبل ، والمراد به النجاة من النار .
{ فك رقبة } : أي اعتق رقبة في سبيل الله تعالى .
{ في يوم ذي مسغبة } : أي في يوم ذي مجاعة وشدة مؤونة .
{ يتيما ذا مقربة } : أي أطعم يتيما من ذوي قرابته .
{ مسكينا ذا متربة } : أي أطعم فقيراً لاصقا بالتراب ليس له شيء .
{ وتواصوا بالصبر } : أي أوصى بعضهم بعضا بالصبر على طاعة الله .
{ وتواصوا بالمرحمة } : أي أوصى بعضهم بعضا برحمة الفقراء والمساكين .
{ اصحاب الميمنة } : أي اصحاب اليمين وهم المؤمنون المتقون .
{ اصحاب المشأمة } : أي أصحاب الشمال وهم الكفار الفجار .
{ مؤصدة } : أي مطبقة لا نافذة لها ولا كوة فلا يدخلها هواء .
معنى الآيات :
قوله تعالى { فلا اقتحم العقبة } فهلا أنفق أبو الأشدين ما أنفقه في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم هلا أنفقه في سبيل الله فاقتحم بها العقبة فتجاوزها ، وقوله تعالى { وما أدراك ما العقبة } هذا تفخيم لشأنها وتعظيم له وقوله { فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أومسكينا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة } بهذه الأمور الأربعة تقتحم العقبة وتجتاز فينجو صاحبها من النار والأمور الأربعة هي :
1- فك رقبة وقد ورد من اعتق رقبة مؤمنة فداؤه من النار .
2- إطعام في يوم ذي مسغبة أي مجاعة يتيما ذا مقربة أي قرابة أو مسكينا ذا متربة أي ذا لصوق بالأرض لحاجته وشدة فقره .
3- إيمان صادق بالله ورسوله وآيات الله ولقائه يحيا به قلبه .
4- تواصى بالصبر اي مع المؤمنين المستضعفين بالثبات على الحق ولزوم طريقه وتواصي بالمرحمة مع أهل المال أن يرحموا الفقراء والمساكين فيسدوا خلتهم ويقضوا حاجتهم .
بهذه الربعة تجتاز العقبة وينجو المرء من عذاب الله ، وفي مثل هذا تنفق الأموال لا أن تنفق في الدسائس والمكر بالصالحين وخداع المؤمنين .
وقوله تعالى { والذين كفروا بآياتنا } لما ذكر الإِيمان والعمل الصالح وهما المنجيان من عذاب الله تعالى ذكر ضدهما وهما الكفر والمعاصي وهما المهلكان الشرك والمعاصي لأن الكفر بآيات الله لازمه البقاء على الشرك المنافي للتوحيد ، والعصيان المنافي للطاعة وقوله تعالى { أولئك أصحاب المشأمة } أي الشمال { عليهم نار مؤصدة } مغلقة الأبواب مطبقة هي جزاؤهم لأنهم كفروا بآيات الله وعصوا رسوله .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- التنديد بمن ينفق ماله في معصية الله ورسوله ، والنصح له بالإِنفاق في الخير فإِنه أجدى له ، وأنجى من عذاب الله .
2- بيان أن عقبة عذاب الله يوم القيامة تقتحم وتجتاز بالإِنفاق في سبيل الله وبالإِيمان والعمل الصالح والتواصي به .
3- التنديد بالكفر والوعيد الشديد لأهله .
(4/402)
________________________________________
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
شرح الكلمات :
{ وضحاها } : أي ونهارها .
{ إذا تلاها } : أي تلا الشمس فطلع بعد غروبها مباشرة وذلك ليلة النصف من الشهر .
{ إذا جلاها } : أي إذا أضاءها .
{ إذا يغشاها } : أي غشى الشمس حتى تظلم الآفاق .
{ وما بناها } : أي ومن بناها وهو الله عز وجل حيث جعل السماء كالسقف للأرض .
{ وما طحاها } : أي ومن بسطها وهو الله عز وجل .
{ وما سواها } : أي ومن سوى خلقها وعدله وهو الله عز وجل .
{ فألهمها فجورها } : أي فبيّن لها ما ينبغي لها أن تأتيه أو تتركه من الخير والشر .
{ أفلح من زكاها } : أي فاز بالنجاة من النار ودخول الجنة من طهر نفسه من الذنوب والآثام .
{ وقد خاب } : أي خسر في الآخرة نفسه وأهله يوم القيامة .
{ من دساها } : أي دسّى نفسه غذا أخفاها وأخملها بالكفر والمعاصي وأصل دسها دسسها فأُبدلت إحدى السِينَيْن ياءً .
معنى الآيات :
قوله تعالى { والشمس وضحاها } إلى قوله { وقد خاب من دساها } تضمنت هذه الآيات العشر قسماً إلهياً من أعظم الأقسام ومقسماً عليه وهو جواب القسم ومقسما لهم وهم سائر الناس فالقسم كان بما يلي بالشمس وضحاها وبالقمر إذا تلاها أي تلا الشمس إذا طلع بعد غروبها وذلك ليلة النصف من الشهر وبالنهار إذا جلاها إذا أضاء فكشف الظلمة أو الدنيا ، وبالليل إذا يغشاها أي يغشى الشمس حتى تظلم الآفاق وبالسماء وما بناها على أن ما تكون غالبا لغير العالم وقد تكون للعالم كما هي هنا فالذي بناها هو الله سبحانه وتعالى بالأرض وما طحاها أي بسطها وهو الله تعالى وبالنفس وما سواها أي خلقها وعدل خلقها وهو الله تعالى وقوله فألهمها فجورها وتقواها اي خلقها وسوى خلقها والهمها أي بين لها الخير والشر اي ما تعمله من الصالحات وما تتجنبه من المفسدات فأقسم تعالى باربع من مخلوقاته العظام وبنفسه وهو العلي العظيم على ما دل عليه قوله { قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها } وهو المقسم عليه وهو أن من وفقه الله وأعانه فزكى نفسه اي طهرها بالإِميان والعمل الصالح مبعدا لها عما يدنسها من الشرك والمعاصي فقد افلح بمعنى فاز يوم القيامة وذلك بالنجاة من النار ودخول الجنة لأن معنى الفوز لغة هو السلامة من المرهوب والظفر بالمرغوب وأن من خذله الله تعالى لما له من سوابق في الشر والفساد فلم يزك نفسه بالإِيمان والعمل الصالح ودساها اي دسسها اخفاها وأخملها بما أفرغ عليها من الذنوب وما غطاها من آثار الخطايا والآثام فقد خاب بمعنى خسر في آخرته فلم يفلح فخسر نفسه وأهله وهو الخسران المبين .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان مظاهر القدرة الإِلهية في الآيات التي أقسم بها الرب تعالى .
2- بيان بما يكون به الفلاح ، وما يكون به الخسران .
3- الترغيب في الإِيمان والعمل الصالح والترهيب من الشرك والمعاصي .
(4/403)
________________________________________
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
شرح الكلمات :
{ ثمود } : أي أصحاب الحجر كذبوا رسولهم صالحا عليه السلام .
{ بطغواها } : أي بسبب طغيانها في الشرك والمعاصي .
{ إذ انبعث } : أي انطلق مسرعا .
{ أشقاها } : أي أشقى القبيلة وهو قُدار بن سالف الذي يضرب به المثل فيقال أشأم من قدار .
{ رسول الله } : أي صالح عليه السلام .
{ ناقة الله وسقياها } : أي ذروها وشربها في يومها .
{ فكذبوه } : أي فيما أخبرهم به من شأن الناقة .
{ فعقروها } : أي قتلوها ليخلص لهم ماء شربها في يومها .
{ فدمدم } : أي اطبق عليهم العذاب فأهلكهم .
{ بذنبهم } : أي بسبب ذنوبهم التي هي الشرك والتكذيب وقتل الناقة .
{ فسواها } : أي سوى الدمدم عليهم فلم يفلت منهم أحد .
{ ولا يخاف عقباها } : أي ولا يخاف الربّ تعالى تبعة إهلاكهم كما يخاف الإِنسان عاقبة فعله إذا هو قتل أحدا أو عذبه .
معنى الآيات :
قوله تعالى { كذبت ثمود } إلى قوله { ولا يخاف عقباها } هذه الآيات سيقت للتدليل على أمور هي أن الذنوب موجبة لعذاب الله في الدنيا والآخرة ، وأن تكذيب السرول الذي عليه كفار مكة منذر بخطر عظيم إذا استمروا عليه فقد يهلكهم الله به كما أهلك أصحاب الحجر قوم صالح ، وأن محمداً رسول الله حقا وصدقا وإن انكار قريش له لا قيمة له ، وأنه لا إله إلا الله . وأن البعث والجزاء ثابتان بأدلة قدرة الله وعلمه فقوله تعالى { كذبت ثمود } إخبار منه تعالى المراد به إنذار قريش من خطر استمرارها على التكذيب وتسلية الرسول والمؤمنين وقوله { بطغواها } أي بسبب ذنوبها التي بلغت فيها حد الطغيان الذي هو الإِسراف ومجاوزة الحد في الأمر . وبيّن تعالى ظرف ذلك بقوله { إذ انبعث } اشقى تلك القبيلة الذي هو قُدار بن سالف الذي يضرب به المثل في الشقاوة فيقال أشأم من قدار وقال فيه رسول الله اشقى الأولين والآخرين قدار بن سالف وقوله فقال لهم رسول الله أي صالح { ناقة الله } اي احذروها فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ذروها وسقياها أي وماء شربها إذ كان الماء قسمة بينهم لها يوم ولهم يوم . { فكذبوه } في ذلك وفي غيره من رسالته ودعوته إلى عبادة الله وحده { فعقروها } أي فذبحوها { فدمدم عليهم ربهم } اي أطبق عليهم العذاب وعمهم به فلم ينج منهم أحد وذلك بذنبهم لا بظلم منه تعالى ، { فسواها } في النقمة والعذاب { ولا يخاف عقباها } اي تبعة تلحقه من هلاكها إذ هو رب الكل ومالك الكل وهو القاهر فوق عباده وهو العزيز الحكيم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات : 1- بيان أن نجاة العبد من النار ودخوله الجنة متوقف على زكاة نفسه وتطهيرها من أوضار الذنوب والمعاصي ، وأن شقاء العبد وخسرانه سببه تدنيسه نفسه بالشرك والمعاصي وكل هذا من سنن الله تعالى في الأسباب والمسببات .
2- التحذير من الطغيان وهو الإِسراف في الشر والفساد فإِنه مهلك ومدمر وموجب للهلاك والدمار في الدنيا والعذاب في الآخرة .
3- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والتخفيف عنه إذ كذبت قبل قريش ثمود وغيرها من الأمم كأصحاب مدين وقوم لوط وفرعون .
4- انذرا كفار قريش عاقبة الشرك والتكذيب والمعاصي من الظلم والاعتداء .
(4/404)
________________________________________
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)
شرح الكلمات :
{ إذا يغشى } : أي بظلمته كل ما بين السماء والأرض في الإِقليم الذي يكون به .
{ إذا تجلى } : أي تكشف وظهر في الإِقليم الذي هو به وإذا هنا وفي التي قبلها ظرفية وليست شرطية .
{ وما خلق الذكر والأنثى } : أي ومن خلق الذكر والأنثى آدم وحواء وكل ذريتهما وهو الله تعالى .
{ إن سعيكم لشتى } : أي ان عملكم أيها الناس لمختلف منه الحسنة الموروثة للجنة ومنه السيئة الموجبة للنار .
{ من أعطى واتقى } : أي حق الله وانفق في سبيل الله واتقى ما يسخط الله تعالى من الشرك والمعاصي .
{ وصدق بالحسنى } : أي بالخلف لحديث اللهم أعط منفقا خلفاً .
{ فسنيسره لليسرى } : أي فسنيسره للخلة اي الخصلة اليسرى وهي العمل بما يرضاه الله منه في الدنيا ليوجب له به الجنة في الآخرة .
{ وأما من بخل واستغنى } : أي منع حق الله والإِنفاق في سبيل الله واستغنى بماله عن الله فلم يساله من فضله ولم يعمل عملا صالحا يتقرب به إليه .
{ وكذب بالحسنى } : أي بالخلف وما ثتمره الصدقة والإِيمان وهو الجنة . { فسنيسره للعسرى } : فسنهيئه للخلة العسرى وهي العمل بما يكرهه الله ولا يرضاه ليكون قائده إلى النار .
{ إذا تردى } : أي في جهنم فسقط فيها .
معنى الآيات :
قوله تعالى { والليل } أقسم تعالى بالليل { إذ يغشى } بظلامه الكون ، وبالنهار { إذا تجلى } أي تكشف وظهر وهما آيتان من ىيات الله الدالتان على ربوبيته تعالى الموجبة لألوهيته ، وأقسم بنفسه جل وعز فقال { وما خلق الذكر وانثى } أي والذي خلق الذكر والأنثى آدم وحواء ثم سائر الذكور وعامة الإِناث من كل الحيوانات وهو مظهر لا يقل عظمة على آيتي الليل والنهار والمقسم عليه أو جواب القسم هو قوله { إن سعيكم لشتى } أي إن علمكم أيها الناس لمختلف منه الحسنات الموجبة للسعادة والكمال في الدارين ومنه السيئات الموجبة للشقاء في الدارين اي دار الدنيا ودار الآخرة . وبناءً على هذا { فأما من اعطى } حق الله في المال فأنفق وتصدق في سبيل الله { واتقى } الله تعالى فآمن به وعبده ولم يشرك به { وصدق بالحسنى } التي هي الخلف أي العوض المضاعف الذي واعد به تعالى من ينفق في سبيله في قوله { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه } وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيح « ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم اعط منفقاً خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا » فَسَيُهيِّئُهُ للخلة اليسرى وهي العمل بما يرضاه الله منه ف الدنيا ويثيبه عليه في الآخرة بالجنة { وأما من بخل } بالمال فلم يعط حق الله فيه ولم يتصدق متطوعا في سبيل الله { واستغنى } بماله وولده وجاهه فلم يتقرب غلى الله تعالى بطاعته في ترك معاصيه ولا في أداء فرائضه وكذب بالخلف من الله تعالى على من ينفق في سبيله { فسنيسره للعسرى } اي فسنهيئه للخلة العسرى وهي العمل بما يكره الله تعالى ولا يرضاه من الذنوب والآثام ليكون ذلك قائده إلى النار .
(4/405)
________________________________________
وقوله تعالى { وما يغني عنه ماله إذا تردى } يخبر تعالى بأن من بخل واستغنى وكذب بالحسنى حفاظا على ماله وشحا به وبخلا أن ينفقه في سبيل ربه هذا المال لا يغني عنه شيئا يوم القيامة إذا ألقي به في نار جهنم فتردى ساقطا فيها على أم رأسه كما قال تعالى { وأما من خفت موازينه } اي لعدم الحسنات الكافية فيها { فأمه هاوية وما أدراك ما هي نار حامية } هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان عظمة الله وقدرته وعلمه الموجبة لربوبيته المقتضية لعبادته وحده دون سواه .
2- تقرير القضاء والقدر وهو أن كل انسان ميسر لما خلق له من سعادة أو شقاء لحديث « اعملوا فكل ميسر لما خلق له » مع تقرير أن من وفق للعمل بما يرضى الله تعالى كان ذلك دليلا على أنه مكتوب سعيدا إذا مات على ما وفق له من العمل الصالح . وأن من وفق للعمل المسخط لله تعالى كان دليلا على أنه مكتوب شقاوته إن هو مات على ذلك .
3- تقرير أن التوفيق للعمل بالطاعة يتوقف حسب سنة الله تعالى على رغبة العبد وطلبه ذلك والحرص عليه واختياره على غيره وتسخير النفس والجوارح له . كما أن التوفيق للعمل الفاسد قائم على ما ذكرنا في العمل الصالح وهو اختيار العبد وطلبه وحرصه وتسخير نفسه وجوارحه لذلك هذه سنة من سنن الله تعالى في خلقه .
(4/406)
________________________________________
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
شرح الكلمات :
{ إن علينا للهدى } : أي إن علينا لبيان الحق من الباطل والطاعة من المعصية .
{ وإن لنا للآخرة والأولى } : أي ملك ما فيي الدنيا والآخرة نعطي ونحرم من نشاء لا مالك غيرنا .
{ فأنذرتكم } : أي خوفتكم .
{ نارا تلظى } : أي تتوقد .
{ لا يصلاها } : أي لا يدخلها ويحترق بلهبها .
{ إلا الأشقى } : أي إلا الشقى .
{ الذي كذب وتولى } : كذب النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به وتولى أعرض عن الإِيمان به وبما جاء به من التوحيد والطاعة لله ورسوله .
{ وسيجنبها الأتقى } : أي يتطهر به فلذا يخليه من النظر غلى غير الله فهو لذلك خال من الرياء والسمعة .
{ وما لآحد عنه من نعمة تجزى } : أي ليس لأحد من الناس عليه منَّة فهو يكافئه بذلك .
{ إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } : أي يؤتي ماله في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله عز وجل .
{ ولسوف يرضى } : أي يعطيه الله تعالى من الكرامة ما يرضي به في دار السلام .
معنى الآيات :
قوله تعالى { إن علينا للهدى } الايات . . بعد أن علم تعالى عباده أن ييسر لليسرى من أعطى واتقى وصدق بالحسنى ، وأنه ييسر للعسرى من بخل واستغنى وكذب بالحسنى أعلم بحقيقة أخرى وهي أن بيان الطريق الموصل بالعبد لليسرى هو على الله تعالى متكفل به وقد بينه بكتابه ورسوله فمن طلب اليسرى فأولا يؤمن بالله ورسوله ويوطن نفسه على طاعتهما ويأخذ في تلك الطاعة يعمل بها وثانيا ينفق في سبيل الله ما يطهر به نفسه من البخل وشح النفس ويظهر فقره وحاجته إلى الله تعالى بالتقرب غليه بالنوافل وصالح الأعمال وبذلك يكون قد يُسر فعلا لليسرى وقوله تعالى { وإن لنا للآخرة والأولى } اي الدنيا وعليه فمن طلبها من غيرنا فقد أخطأ ولا يحصل عليها بحال فطلب الآخرة يكون بالإِيمان والتقوى ، وطلب الدنيا يكون بالعمل حسب سنتنا في الكسب وحصول المال وقوله تعالى { فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى } اي فبناء على ما بيّنا لكم فقد أنذرتكم أي خوفتكم نارا تلظى أي تتوقد التهابا لا يصلاها لا يدخلها ويصطلي بحرها خالداً فيها ابدا إلا الأشقى اي الأكثر شقاوة وهو المشرك وقد يدخلها الشقي من اهل التوحيد ويخرج منها بتوحيده ، حيث لم يكذب ولم يتول ، ولكن فجر وعصى ، وما اشرك وما تولى ، وقوله تعالى { وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى } اي يعطي ماله في سبيل الله يتزكى به من مرض الشح والبخل وآثار الذنوب والإِثم ، وقوله { وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } أي فهو ينفق ما ينفقه في سبيل الله خاصة وليس ما ينفقه من أجل أن عليه لأحد من الناس فضلا أو يداً فهو يكافئه بها لالا ، وإنما هو ينفق ابتغاء وجه ربه الأعلى أي يريد رضا ربه تعالى لا غير .
(4/407)
________________________________________
قال تعالى { ولسوف يرضى } أي ما دام ينفق ابتغاء وجهنا فقط فسوف نكافئه ونعطيه عطاء يرضى به وذلك في الجنة دار السلام . هذه الآية الكريمة نزلت في ابي بكر الصديق رضي الله عنه فقد كان في مكة يشتري العبيد من مواليهم الذين يعذبونهم من أجل إسلامهم فكان يشتريهم ويعتقهم لوجه الله تعالى ومنهم بلال رضي الله عنه فقال المشركون إنما فعل ذلك ليد عنده أي نعمه فهو يكافيه بها فأكذبهم الله في ذلك وأنزل قوله وسيجنبها الأتقى الآيات .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان أن الله تعالى متكفل بطريق الهدى فأرسل الرسل وأنزل الكتاب فأبان الطريق وأوضح السبيل .
2- بيان أن الله تعالى وحده الدنيا والآخرة فمن أرادهما أو إحداهما فليطلب ذلك من الله تعالى فالآخرة تطلب بالإِيمان والتقوى والدنيا تطلب باتباع سنن الله تعالى في الحصول عليها .
3- بيان فضل أبي بكر الصديق وأنه مبشر بالجنة في هذه الآية الكريمة .
(4/408)
________________________________________
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
شرح الكلمات :
{ والضحى } : أي أول النهار ما بين طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح إلى الزوال .
{ والليل إذا سجى } : غطى بظلامه المعمورة وسكن فسكن الناس وخلدوا إلى الراحة .
{ ما ودعك } : أي ما تركك ولا تخلى عنك .
{ وما قلى } : أي ما أبغضك .
{ ألم يجدك يتيما } : أي فاقد الأب إذ مات والده قبل ولادته .
{ فآوى } : أي فآواك بأن ضمك إلى عمك أبي طالب .
{ ووجدك ضالا } : أي لا تعرف دينا ولا هدى .
{ ووجدك عائلا } : أي فقيرا .
{ فأغنى } : أي بالقناعة ، وبما يسرَّ لك من مال خديجة وابي بكر الصديق .
{ فلا تقهر } : أي لا تذله ولا تأخذ ماله .
{ فلا تنهر } : أي لا تنهره بزجر ونحوه .
{ وأما بنعمة ربك فحدث } : أي اذكر ما أنعم الله تعالى به عليك شكرا له على ذلك .
معنى الآيات :
قوله تعالى { والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى } هذا قسم من الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم اقسم له به على أنه ما تركه ولا ابغضه . وذلك أنه أبطأ عنه الوحي أياما فلما رأى ذلك المشركون فرحوا به وعيَّروه فجاءت امرأة وقالت ما أرى شيطانك إلا قد تركك . فحزن لذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله سورة الضحى يقسم له فيها بالضحى وهو أول النهار من طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح إلى ما قبل الزوال بقليل ، وبالليل إذا سجى أي غطى بظلامه المعمورة وسكن فسكن الناس وخلدوا إلى الراحة فيه { ما ودعك ربك } يا محمد أي تركك { وما قلى } أي ما أبغضك { وللآخرة خير لك من الأولى } أي الدنيا وذلك لما أعد الله لك فيها من الملك الكبير والنعيم العظيم المقيم . وسوف يعطيك ربك من فواضل نعمه حتى ترضى في الدنيا من كمال الدين وظهور الأمر في الآخرة الشفاعة وأن لا يبقى أحد من أمته أهل التوحيد في النار والوسيلة والدرجة الرفيعة التي لا تكون لأحد سواه .
وقوله تعالى { ألم يجدك يتيماً فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى } هذه ثلاث منن لله تعالى على رسوله منَّها عليه وذكّره بها ليوقن أن الله معه وله وأنه ما تركه ولن يتركه وحتى تنتهي فرحة المشركين ببطء الوحي وتأخّره بضعة أيام . فالمنّة الأولى أن والد النبي صلى الله عليه وسلم قد مات عقب ولادته وأمه ماتت بعيد فطامه فآواه ربّه بأن ضمّه إلى عمه أبي طالب فكان ابا رحيما وعما كريما له وحصنا منيعا له ، ولم يتخل عن نصرته والدفاع عنه حتى وفاته والثانية منّة العلم والهداية فقد كان صلى الله عليه وسلم يعيش في مكة كأحد رجالاتها لا يعرف علما ولا شرعا وإن كان معصوما من معارفة أي ذنب أو ارتكاب اية خطيئة إلا أنه ما كان يعرف إيمانا ولا إسلاما ولا شرعا كما قال تعالى :
(4/409)
________________________________________
{ ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإِيمان } والثالثة منَّته عليه بالغنى بعد الحاجة فقد مات والده ولم يخلّف أكثر من جارية هي بركة أم أيمن وبضعة جمال ، فأغناه الله بغنى القناعة فلم يمد يده لأحد قط وكان يقول « ليس الغني عن كثرة العرض ولكن الغني غني النفس » هذه ثلاث منن إلهيّة وما أعظمها والمنة تتطلب شكرا والله يزيد على الشكر ومن هنا أرشد الله تعالى رسوله إلى شكر تلك النعم ليزيده عليها فقال فأما { فأما اليتيم فلا تقهر } لاتقهره بأخذ ماله أو إذلاله أو أذاه ذاكرا رعاية الله تعالى لك أيام يتمك . { وأما السائل } وهو الفقير المسكين وذو الحاجة يسألك ما يسدّ خلّته فاعطه ما وجدت عطاءً أو ورده بكلمة طيبة تشرح صدره وتخفف ألم نفسه ولا تنهره بزجر عنيف ولا بقول غير لطيف ذاكرا ما كنت عليه من حاجة وما كنت تشعر به من احتياج { وأما بنعمة ربك فحدث } اي اشكر نعمة الإِيمان والإِحسان والوحي والعلم والفرقان وذلك بالتحدث بها ابلاغا وتعلميا وتربية وهداية فذاك شكرها والله يحب الشاكرين هكذا أدّب الله جل جلاله ورسوله وخليله فأكمل تأديبه وأحسه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- الدنيا لا تخلو من كدر وصدق الله العظيم { لقد خلقنا الإِنسان في كبد } 2- بيان علو المقام المحمدي وشرف مكانته .
3- مشروعية التذكير بالنعم والنقم حملا للعبد على الصبر والشكر .
4- وجوب شكر النعم بصرفها في مرضاة المنعم عز وجل .
5- تقرير معنى الحديث « إذا أنعم الله تعالى على عبد نعمة أحب أن يرى أثرها عليه » .
(4/410)
________________________________________
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
شرح الكلمات :
{ الم } : الاستفهام للتقرير أي إن الله تعالى يقرر رسوله بنعمه عليه .
{ نشرح لك صدرك } : أي بالنبوة ، وبشقه وتطهيره وملئه إيمانا وحكمة .
{ ووضعنا عنك وزرك } : أي حططنا عنك ما سلف من تبعات أيام الجاهلية قبل نبوتك .
{ الذي أنقض ظهرك } : أي الذي أثقل ظهرك حيث كان يشعر صلى الله عليه وسلم بثقل السنين التي عاشها قبل النبوة لم يعبد فيها الله تعالى بفعل محابه وترك مكارهه لعدم علمه بذلك .
{ ورفعنا لك ذكرك } : أي أعليناه فاصبحت تذكر معي في الآذان والإِقامة والتشهد .
{ فإن مع العسر يسرا } : أي مع الشدة سهولة .
{ فإذا فرغت } : أي من الصلاة .
{ فانصب } : أي اتعب في الدعاء .
{ وإلى ربك فارغب } : أي فاضرع إليه راغبا فيما عنده من الخيرات والبركات .
معنى الآيات :
قوله تعالى { الم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك } هذه ثلاث منن أخرى بعد المننن الثلاث التي جاءت في السورة قبلها منّها الله تعالى على رسوله بتقريره بها فالأولى بشرح صدره ليتسع للوحي ولما سيلقاه من قومه من سيء القول وباطل الكلام الذي يضيق به الإِنسان والثانية وضع الوزر عنه فإِنه صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن له وزر حقيقة فإِنه كان يشعر بحمل ثقيل من جراء ترك العبادة والتقرب إلى الله تعالى في وقت ما قبل النبوة ونزول الوحي عليه إذ عاش عمرا أربعين سنة لم يعرف فيها عبادة ولا طاعة لله ، أما مقارفة الخطايا فقد كان محفوظا بحفظ الله تعالى له فلم يسجد لصنم ولم يشرب خمرا ولم يقل او يفعل إثما قط . فقد شق صدره وهو طفل في الرابعة من عمره وأخرجت منه العلقة التي هي محطة الشيطان التي ينزل بها من صدر الإِنسان ويوسوس بالشر للإِنسان والثالثة رفع الذكر اي ذكره صلى الله عليه وسلم إذ قرن اسمه باسمه تعالى في التشهد وفي الأذان والإِقامة وذلك الدهر كله وما بقيت الحياة . وقوله تعالى { فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا } فهذه بشرى بقرب الفرج له ولأصحابه بعد ذلك العناء الذي يعانون والشدة التي يقاسون ومن ثم بشر صلى الله عليه وسلم اصحابه وهو يقول « لن يغلب عسر يسرين لن يغلب عسر يسرين » وقوله { فإِذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب } هذه خطة لحياة المسلم وضعت لنبي الإِسلام محمد صلى الله عليه وسلم ليطبقها أمام المسلمين ويطبقونها معهم حتى الفوز بالجنة والنجاة من النار وهي فإِذا فرغت من عمل ديني فانصب لعمل دنيوي وإذا فرغت من عمل دنيوي فانصب لعمل ديني أخروي فمثلا فرغت من الصلاة فانصب نفسك للذكر والدعاء بعدها ، فرغت من الصلاة والدعاء فانصب نفسك لدنياك ، فرغت من الجهاد فانصب نفسك للحج .
(4/411)
________________________________________
ومعنى هذا أن المسلم يحيا حياة الجد والتعب فلا يعرف وقتا للهو واللعب أو للكسل والبطالة قط وقوله إلى ربك فارغب ارغب بعد كل عمل تقوم به في مثوبة ربك وعطائه وما عنده من الفضل والخير إذ هو الذي تعمل له وتنصب من أجله فلا ترغب في غيره ولا تطلب سواه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان ما أكرم الله تعالى به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم من شرح صدره ومغفرة ذنوبه ورفع ذكره .
2- بيان أن انشراح صدر المؤمن للدين واتساعه لتحمل الأذى في سبيل الله نعمة عظيمة .
3- بيان أن مع العسر يسرا دائما وأبدا ، ولن يغلب عسر يسرين فرجاء المؤمن في الفرح دائم .
4- بيان أن حياة المؤمن ليس فيها لهو ولا باطل ولا فراغ لا عمل فيه ابدا ولا ساعة من الدهر قط وبرهان هذه الحقيقة أن المسلمين منيوم تركوا الجهاد والفتح وهم يتراجعون إلى الوراء في حياتهم حتى حكمهم الغرب وسامهم العذاب والخسف حتى المسخ والنسخ وقد نسخ إقليم الأندلس ومسخت أقاليم في بلاد الروس والصين حتى الأسماء غيّرت .
(4/412)
________________________________________
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
شرح الكلمات :
{ والتين والزيتون } : هما المعروفان التين فاكهة والزيتون ما يستخرج منه الزيت .
{ وطور سنين } : جبل الطور الذي ناجى الربّ تعالى فيه موسى عليه السلام .
{ وهذا البلد الأمين } : مكة المكرمة لأنها بلد حرام لا يقاتل فيها فمن دخلها آمن .
{ لقد خلقنا الإِنسان } : جنس الإِنسان آدم عليه السلام وذريته .
{ في أحسن تقويم } : أي في أجمل صورة في اعتدال الخلق وحسن التركيب .
{ أسفل سافلين } : أي إلى أرذل العمر حتى يخرف ويصبح لا يعلم بعد أن كان يعلم .
{ أجر غير ممنون } : أي غير منقطع فالشيخ الهرم الخرف المسلم يكتب له ما كان يفعله أيام قدرته على العمل فأجره لا ينقطع إلا بموته .
معنى الكلمات :
قوله تعالى { والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين } هذا قسم جليل من أقسام الرب تعالى حيث اقسم فيه بأربعة اشياء وهي التين وهو التين المعروف وهو أشبه شيء بفاكهة الجنة لخلوه من العَجَمِ . وما يوجد بداخل الفاكهة كالنواة ونحوها ، والزيتون وهو ذو منافع يؤكل ويدهن به ويستصبح به ويتداوى به كذلك ، وبطور سينين وهو جبل سينا في فلسطين إذ تم عليه أكبر حدث في تاريخ الحياة وهو أن الله تعالى كلم موسى بن عمران نبي بني اسرائيل عليه عدة مرات وأسمعه كلامه وتجلى للجبل فصار دكا . وبمكة أم القرى التي دحيت الأرض من تحتها وفيها بيت الله وحولها حرمه هذا قسم عظيم وجوابه قوله تعالى { لقد خلقنا الإِنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون } ولقد تضمنت هذا الجواب لذلك القسم أكبر مظاهر القدرة والعلم والرحمة وهي موجبة للإِيمان بالله وتوحيده ولقائه وهو ما كذب به أهل مكة وأنكروه وبيان ذلك أن الإِنسان كائن حي مخلوق فخالقه ذو قدرة قطعا وتعديل خلقه بنصب قامته وتسوية أعضائه وحسن سمته وجمال منظره دال على علم وقدرة وهي موجبة للإِيمان بالله ولقائه إذ القادر على خلق الإِنسان اليوم وقبل اليوم قادر على خلقه غدا كما شاء متى شاء ولا يرد هذا إلا أحمق جاهل ، وقوله ثم رددناه اسفل سافلين وذلك بهرم بعض أفراده والنزول بهم إلى ما أسفل من سن الطفولة حيث يصبح الرجل فاقدا لعقله وقواه فيفقد قواه العقلية والبدنية وقوله { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون } وهو أن كانوا يقومون به من الفرائض والنوافل وسائر الطاعات والقربات لا ينقطع أجرهم منها بكبرهم وعدم قيامهم بها في سن الشيخوخة والهرم والخرف بخلاف الكافر والفاجر والفاسق فليس لهم أعمال لا تنقطع إلا من سن منهم سنة سيئة فإِن ذنبه لا ينقطع ما بقى من يعمل بتلك السنة السيئة . وقوله تعالى { فما يكذبك بعد بالدين } أي فمن يقدر على تكذيبك يا رسولنا بعد هذه الآيات والحجج والبراهين الدالة على قدرة الله وعلمه ورحمته وحكمته فمن يكذب بالبعث والجزاء على الكسب الإِرادي الاختياري في هذه الحياة من خير وشر فإِنه وإن كذب بالدين وهو الجزاء الأخروى على عمل المكلفين في هذه الحياة الدنيا فإِن هذا التكذيب قائم على أساس العناد والمكابرة إذ الحجج الدالة على يوم الدين والجزاء فيه تجعل المكذب به مكابرا أو جاحدا لا غير .
(4/413)
________________________________________
وقوله تعالى { أليس الله بأحكم الحاكمين } ؟ بلى فليس هناك أعدل من الله وأحسن حكما فكيف يظن إذا أن الناس يعملون متفاوتين في أعمالهم في هذه الدنيا ثم يموتون سواء ولا جزاء بعد بالثواب ولا بالعقاب هذا ظلم وباطل ومنكر ينزه الرب عنه سبحانه وتعالى فقضية البعث الآخر لا تقبل الجدل والمماحكة بحال من الأحوال .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان منافع التين والزيتون واستحباب غرس هاتين الشجرتين والعناية بهما .
2- بيان شرف مكة . وحرمها .
3- بيان فضل الله على الإِنسان في خلقه في أحسن صورة وأقوم تعديل .
4- تقرير فضل الله على الإِنسان المسلم وهو أنه يطيل عمره فإِذا هرم وخرف كتب له كل ما كان يعمله من الخير ويجانبه من الشر .
5- مشروعية قول بلى وأنا على ذلك من الشاهدين بعد قراءة والتين إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك .
(4/414)
________________________________________
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
شرح الكلمات :
{ اقرأ } : أي أوجد القراءة وهي جمع الكلمات ذات الحروف باللسان .
{ باسم ربك } : أي بذكر اسم ربك .
{ الذي خلق } : أي خلق آدم من سلالة من طين .
{ خلق الإِنسان } : أي الإِنسان الذي هو ذرية آدم .
{ من علق } : أي جمع علقة وهي النطفة في الطور الثاني حيث تصير علقة أي قطعة من الدم الغليظ .
{ وربك الأكرم } : أي الذي لا يوازيه كريم ولا يعادله ولا يساويه .
{ الذي علم بالقلم } : أي علم العباد الكتابة والخط بالقلم .
{ علم الإِنسان } : أي جنس الإِنسان .
{ ما لم يعلم } : أي ما لم يكن يعلمه من سائر العلوم والمعارف .
معنى الآيات :
قوله تعالى { أقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإِنسان من علق أقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإِنسان ما لم يعلم } هذه الآيات الخمس من أول ما نزل من القرآن الكريم لأحاديث الصحاح فيها فإِن اشتهر في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي حراء يتحنث فيه أي يزيل الحنث فرارا مما عليه قومه من الشرك والباطل حتى فاجأه الحق وهو في غار حراء فقال يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله ثم قال اقرأ قلت ما ، ا بقارئ قال فأخذني فغطني ثلاث مرات حتى بلغ مني الجهد ثم قال اقرأ باسم ربك الذي خلق فقرأت الحديث .
وقوله تعالى { اقرأ باسم ربك } يأمر الله تعالى رسوله أن يقرأ بادئا قراءته بذكر اسم ربّه اي باسم الله الرحمن الرحيم وقوله { الذي خلق } أي خلق الخلق كله وخلق آدم من طين وخلق الإِنسان من أولاد آدم من علق والعلق اسم جمع واحدة علقة وهي قطعة من الدم غليظة كانت في الأربعين يوما إلى مضعة لحم ، ثم إما أن يؤذن بتخلقها فتخلق وإما لا فيطرحها الرحم قطعة لحم وقوله { أقرأ وربك } تأكيد للأمر الأول لصعوبة الأمر واندهاش الرسول صلى الله عليه وسلم للمفاجأة { اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم } أي وربك الأكرم هو الذي علم بالقلم عباده الكتابة والخط . وقوله { علم الإِنسان ما لم يعلم } أي من كرمه الذي أفاض منه على عباده نعمه التي لا تحصى إنه علم الإِنسان بواسطة القلم ما لم يكن يعلم من العلوم والمعارف وهذه إشادة بالقلم وأنه واسطة العلوم والمعارف والواسطة تشرف بشرف الغاية المتوسط لها فلذا كان لا أشرف في الدنيا من عباد الله الصالحين والعلوم الإِلهية في الكتابة والسنة وما دعوا إليه وحضا عليه من العلوم النافعة للإِنسان .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير الوحي الإِلهي وإثبات النبوة المحمدية .
2- مشروعية ابتداء القراءة بذكر اسم الله ولذا افتتحت سور القرآن ما عدا التوبة ببسم الله الرحمن الرحيم .
3- بيان لطور النطفة في الرحم إلى علقة ومنها يتخلق الإِنسان .
4- اعظام شأن الله تعالى وعظم كرمه فلا أحد يعادله في الكرم .
5- التنويه بشأن الكتابة والخط بالقلم إذ المعارف والعلوم لم تدون إلا بالكتابة والقلم .
6- بيان فضل الله تعالى على الإنسان في تعليمه ما لم يكن يعلم بواسطة الكتابة والخط .
(4/415)
________________________________________
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
شرح الكلمات :
{ كلا } : أي لا أداة استفتاح وتنبيه لكسر إن بعدها .
{ إن الإنسان } : أي ابن آدم قبل أن تتهذب مشاعره وأخلاقه بالإِيمان والآداب الشرعية .
{ ليطغى } : أي يتجاوز الحد المفروض له في سلوكه ومعاملاته .
{ أن رآه استغنى } : أي عندما يرى نفسه قد استغنى بما له أو ولده أو سلطانه .
{ إن إلى ربك الرجعى } : أي إن إلى ربك أيها الرسول الرجعى أي الرجوع والمصير .
{ الذي ينهى عبدا إذا صلى } : أي أبو جهل عمرو بن هشام المخزومي لعنه الله .
{ إن كان على الهدى أو أمر : أي هو رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بالتقوى } القرشي العدناني .
{ إن كذب وتولى : أي هو ابو جهل .
{ لئن لم ينته } : أي من أذية رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ومنعه من الصلاة خلف المقام .
{ لنسفعا بالناصية } : أي لنأخذن بناصيته ونسحبه إلى نار جهنم .
{ فليدع ناديه } : أي رجال مجلسه ومنتداه .
{ سندع الزبانية } : أي خزان جهنم .
{ كلا } : أي ارتدع أيها الكاذب الكافر .
{ واقترب } : أي منه تعالى وذلك بطاعته .
معنى الآيات : قوله تعالى { كلا إن الإِنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى } يخبر تعالى عن طبيعة الإِنسان قبل أن يهذّبه الإِيمان والمعارف الإِلهية المشتملة على معرفة محابّ الله تعالى ، ومساخطه أنه إذا رأى نفسه قد استغنى بماله أو ولده أو سلطانه أو بالكُلِّ وما اصبح في حاجة إلى غيره يطغى فيتجاوز حدّ الآداب والعدل والحق والعرف فيتكبر ويظلم ويمنع الحقوق ويحتقر الضعفاء ويسخر بغيره . وأبو جهل كان مضرب المثل في هذا الوصف وصف الطغيان حتى قيل إنه فرعون هذه الأمة ، وها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في المسجد الحرام خلف المقام فيأتيه هذا الطاغية ويهدده ويقول له لقد نهيتك عن الصلاة هنا فلا تعد ، ويقول له إن وجدتك مرة أخرى آخذ بناصيتك واسحبك على الأرض فينزل الله تعالى هذه الآيات { كلا إن الإِنسان ليطغى أن رآه استغنى } فيقف برسوله على حقيقة ما كان يعلمها وهي أن ما يجده من ابي جهل واضرابه من طغاة قريش علته كذا وكذا ويسليه فيقول له وإن طغوا وتجبروا إن مرجعهم إلينا وسوف ننتقم لك منهم { إن إلى ربك } يا رسولنا { الرجعى } إذاً فاصبر على أذاهم وانتظر ما سيحل بهم إن مصيرهم إلينا لا إلى غيرنا وسوف ننتقم منهم ثم يقول له قولا يحمل العقلاء على التعجب من سلوك أبي جهل الشائن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم { أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى } ؟ وهل الذي يصلي ينهى عن الصلاة وهل الصلاة جريمة وهل في الصلاة ضرر على أحد؟ فكيف ينهى عنها؟ ويقول له { أرأيت إن كان } أي المصلي الذي نهى عن الصلاة وهو الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم { على الهدى } الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة وكرامتهما؟ { أو أمر بالتقوى } أي أمر غيره بما يتقي به عذاب الدنيا والآخرة ، هل الأمر بالهدى والتقوى أي باسباب النجاة والسعادة يعادي ويحارب؟ ويضرب ويهدد؟ إن هذا لعجب العجاب .
(4/416)
________________________________________
ويقول أرأيت يا رسولنا إن كذب هذا الذي ينهى عبدا إذا صلى اي كذب بالحق والدين وتولى عن الإِيمان والشرع ، كيف يكون حاله يوم يلقى ربه؟ { ألم يعلم أن الله يرى } أي يرى أفعاله الاستفزازية المقيتة وتطاوله على رسول الله وتهديده له بالضرب إن وجده يصلي خلف المقام . بعد هذه الدعوة للطاغية لعله يرجع إلى الحق إذا سمع ، وإذا به يزدادا طغيانا ويقول في مجلس قريش يقول واللات والعزى لئن رايت محمدا صلى الله عليه وسلم يُصلي لأطأن على رقبته ولأعفرنّ وجهه على التراب ، وفعلا أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو صلي ليطأ على ركبته فإِذا به ينكص على عقبيه ، ويتقي بيديه ، فقيل له مالك فقال إن بيني وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا » وأنزل الله تعالى { كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية ناصية كاذبة خاطئة } أي صاحبها وهو أبو جهل أي لئن لم ينته عن أذيه رسولنا وتعرضه له في صلاته ليمنعه منها لنأخذن بناصيته ونجره إلى جهنم عيانا .
{ فليدع } حينئذ رجال ناديه ومجلس قومه فإِنا ندعو الزبانية أي خزنة النار من الملائكة كلا فليرتدع هذا الطاغية وليعلم أنه لن يقدر على أن يصل إلى رسولنا بعد اليوم بأذى .
وقال تعالى لرسوله بعد تهديده للطاغية ، وردعه له ، وارتدع فعلا ولم يجرؤ بعد ذلك اليوم أن يمدّ لسانه ، ولا يده بسوء لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم { لا تطعه } فيما يطلب منك من ترك الصلاة في المسجد الحرام فقد كفيناك شره { واقترب } إلينا بالطاعات ومن أهمها الصلاة .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان سبب نزول الآيات كلا إن الإِنسان ليطغى إلى آخر السورة .
2- بيان طبع الإِنسان إذا لم يهذب بالإِيمان والتقوى .
3- نصرة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالملائكة عيانا في المسجد الحرام .
4- تسجيل لعنة الله على فرعون الأمة أبي جهل وأنه كان أظلم قريش لرسول الله واصحابه .
5- مشروعية السجود عند تلاوة هذه السورة إذا قرأ فاسجد واقترب شرع له السجود إلا أن يكن يصلي بجماعة في الصلاة السرية فلا يسجد لئلا يفتنهم .
(4/417)
________________________________________
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
شرح الكلمات :
{ إنا أنزلناه } : أي القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا .
{ في ليلة القدر } : أي ليلة الحكم والتقدير التي يقضي فيها قضاء السنة كلها .
{ وما أدراك ما ليلة القدر } : أي إن شأنها عظيم .
{ ليلة القدر خير من الف شهر } : أي العمل الصالح فيها من صلاة وتلاوة قرآن ودعاء خير من عبادة الف شهر ليس فيها ليلة القدر وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر .
{ والروح فيها } : أي جبريل في ليلة القدر .
{ بإذن ربهم } : أي ينزلون بأمره تعالى لهم بالتنزيل فيها .
{ من كل أمر } : أي من كل أمر قضاه الله تعالى في تلك السنة منرزق وأجل وغير ذلك .
{ سلام هي حتى مطلع الفجر } : أي هي سلام من الشر كله من غروب الشمس إلى طلوع الفجر .
معنى الآيات :
قوله تعالى { إنا أنزلناه } اي القرآن الكريم الذي كذب به المكذبون وأ ، كره الكافرون يخبر تعالى أن ما يتلوه عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم هو حق وحي الله وكتابه أنزله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا وذلك في ليلة الحكم والقضاء التي يقضي الله فيها ما يشاء من أحداث العالم من رزق وأجل وغيرهما إلى بداية السنة الآتية وذلك كل سنة وهذا كقوله { إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم } إذ ما قضاه الله تعالى وحكم بوجوده قد كتب في اللوح المحفوظ ومنه القرآن الكريم ثم في ليلة القدر تؤخذ نسخة من أحداث السنة فتعطى الملائكة وتنفذ حرفيا في تلك السنة ، ولذلك كان لليلة القدر بمعنى التقدير شأن عظيم ففضلها الله على ألف شهر وأخبر عن سبب فضلها أن الملائكة تتنزل فيها وجبريل معهم بإِذن ربهم أي ينزلون بإِذن الله تعالى لهم وأمره إياهم بالنزول ينزلون مصحوبين بكل أمر قضاه الله وحكم به في تلك السنة من خير وشر من رزق وأجل ولفضل هذه الليلة كانت العبادة فيها تفضل غيرها من نوعها بأضعاف مضاعفة إذ عمل تلك الليلة يحسب لصاحبه عمل ألف ليلة أي ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر . هذا ما دل عليه قوله تعالى { إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من الف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإِذن ربهم من كل أمر } وقوله { سلام هي حتى مطلع الفجر } أي هي سلام من كل شر إذ هي كلها خير من غروب الشمس إلى طلوع فجرها إنها كلها سلام سلام الملائكة على العابدين من المؤمنين والمؤمنات وسلامة من كل شر .
والحمد لله الذي جعلنا من أهلها .
هداية الآيات :
من هداية الآيات : 1- تقرير الوحي وإثبات النبوة المحمدية .
2- تقرير عقيدة القضاء والقدر .
3- فضل ليلة القدر وفضل العبادة فيها .
4- بيان أن القرآن نزل في رمضان واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا وأنه ابتدئ نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان أيضا .
5- الندب إلى طلب ليلة القدر للفوز بفضلها وذلك في العشر الأواخر من شهر رمضان وأرجى ليلة في العشر الأواخر هي الوتر كالواحدة والعشرين إلى التاسعة والعشرين لحديث الصحيح « التمسوها في العشر الأواخر » .
6- استحباب الإِكثار من قراءة القرآن وسماعه فيها لمعارضة جبريل الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان مرتين .
(4/418)
________________________________________
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
شرح الكلمات :
{ من أهل الكتاب : } : أي اليهود والنصارى .
{ والمشركين } : أي عبدة الأصنام .
{ منفكين } : أي زائلين عما هم عليه منتهين عنه .
{ حتى تأتيهم البينة } : أي الحجة الواضحة وهي محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه القرآن الكريم .
{ رسول منالله } : أي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ صحفا مطهرة } : أي من الباطل .
{ فيها كتب قيمة } : أي في تلك الصحف المطهرة كتب من الله مستقيمة .
{ إلا من بعد ما جاءتهم البينة } : أي الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه القرآن الكريم .
{ وما أمروا } : أي في كتبهم التوراة والانجيل .
{ حنفاء } : أي مائلين عن الأديان كلها إلى دين الاسلام .
{ دين القيمة } : أي دين الملة القيمة أي المستقيمة .
معنى الآيات :
قوله تعالى { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } وهم اليهود والنصارى والمشركون هم عباد الأصنام لم يكونوا منفصلين عما هم عليه من الديانه تاركين لها إلى غاية مجيء البيّنة لهم فلما جاءتهم البينة . وهي محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه انفكوا أي انقسموا فمنهم من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وكتابه والدين الإِسلامي ومنهم من كفر فلم يؤمن . وقوله تعالى { رسول من الله } هو محمد صلى الله عليه وسلم وقوله { يتلو صحفاً } أي يقرأ على ظهر قلب ما تضمنته تلك الصحف المطهرة من الباطل والمشتملة على كتب من عند الله قيمة اي مستقيمة لا انحراف فيها عن الحق ولا بعد عن الهدى والمراد من الصحف المطهرة القرآن الكريم . وقوله تعالى { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } أي اليهود والنصارى إلا من بعد ما جاءتهم البينة } وهي محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه إذ كانوا قبل البعثة المحمدية متفقين في حين أ ، هم ما أمروا فيك تبهم وعلى ألسنة رسلهم . وكذا في القرآن وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء أي مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإِسلام ويقيموا الصلاة بأن يؤدوها في أوقاتها بشروطها واركانها وآدابها ويؤتوا الزكاة التي أوجب الله في الأموال لصالح الفقراء والمساكين . وذلك دين القيمة أي وهذا هو دين الملة اليمة المستقيمة الموصلة للعبد إلى رضا الرب وجنات الخلد بعد انجائه من العذاب والغضب .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان أن الديانات السابقة للإِسلام والتي عاصرته كانت منحرفة اختلط فيها الحق بالباطل ولم تصبح صالحة للإِسلام والهداية البشرية ولا فرق بين اليهودية والنصرانية والمجوسية .
2- إن أهل الكتاب بصورة خاصة كانوا منتظرين البعثة المحمدية بفارغ الصبر لعلمهم بما أصاب دينهم من فساد ، ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءتهم البينة على صدقه وصحة ما جاء به تفرقوا فآمن البعض وكفر البعض .
3- مما يؤخذ على اليهود والنصارى أنهم في كتبهم مأمورون بعبادة الله تعالى وحده والكفر بالشرك مائلين عن كل دين إلى دين الإِسلام ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فما بالهم لما جاءهم الإِسلام بمثل ما أمروا به كفروا به وعادوه . والجواب أنهم لما انحرفوا عز عليهم أن يستقيموا لما ألفوا من الشرك والضلالة والباطل .
4- بيان أن الملَّة القيمة والدين المنجي من العذاب المحقق للاسعاد والكمال ماقام على أساس عبادة الله وحده وأقام الصلاة وايتاء الزكاة والميل عن كل دين إلى هذا الدين الإِسلامي .
(4/419)
________________________________________
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
شرح الكلمات :
{ إن الذين كفروا من أهل الكتاب } : أي بالإِسلام ونبيه وكتابه هم اليهود والنصارى .
{ أولئك هم شر البرية } : أي شر الخليقة .
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } : أي آمنوا بالإِسلام ونبيه وكتابه وعملوا الصالحات .
{ أولئك هم خير البرية } : أي هم خير الخليقة .
{ جنات عدن } : أي بساتين اقامة دائمة .
{ رضي الله عنهم } : أي بطاعته .
{ ورضوا عنه } : أي بثوابه .
معنى الآيات :
قوله تعالى { إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } إنه بعد أن بين الدين الحق المنجي من العذاب والموجب للنعيم وهو الدين الإِسلامي اخبر تعالى أن من كفر به من أهل الكتاب ومن المشركين هم في نار جهنم خالدين فيها هذا حكم الله فيهم لكفرهم بالحق واعراضهم عنه بعد ما جاءتهم البيّنة وعرفوا الطريق وتنكبوه رضا بالباطل واقتناعا بالكفر والشرك بدل الإِيمان والتوحيد هؤلاء الكفرة الفجرة هم شر الخليقة كلها . وهو معنى قوله { إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية } كما أخبر تعالى بأن جزاء من آمن بالله ورسوله وعمل بالدين الإِسلامي فأدى الفرائض واجتنب النواهي وسابق في الخيرات والصالحات هؤلاء هم خير البرية إذ قال تعالى { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية } وقوله { جزاؤهم عند ربهم } أي جزاء أولئك الذين آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الهدى والدين الحق أولئك هم خير الخليقة وقوله { جزاؤهم عند ربهم } أي يوم يلقونه وذلك بعد الموت { جنات عدن } أي بساتين إقامة دائمة خالدين فيها أبدا أي لا يخرجون منها ولا يموتون أبدا وقوله { رضي الله عنهم ورضوا عنه } أي رضى الله عنهم بسبب إيمانهم وطاعتهم ورضوا عنه بسبب ماوهبهم وأعطاهم من النعيم المقيم في دار السلام وقوله تعالى { ذلك لمن خشي ربه } أي ذلك الجزاء المذكور وهو جزاء عظيم إذ جُمع لأهله فيه بين سعادة الروح وسعادة البدن معا هو جزاء عبد خاف ربه فلم يعصه حتى لقيه بعد موته وإن عصاه يوما تاب وإن أخطأ رجع حتى مات وهو على الطاعة لا على المعصية .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان جزاء من كفر بالإِسلام من سائر الناس وأنه بئس الجزاء .
2- بيان جزاء من آمن بالإِسلام ودخل فيه وطبق قواعده واستقام على الأمر والنهي فيه وهو نعم الجزاء رضى الله والخلود في دار السلام .
3- فضل الخشية إن حملت صاحبها على طاعة الله ورسوله فأطاعهما بأداء الفرائض وترك المحرمات في الاعتقاد والقول والعمل .
(4/420)
________________________________________
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
شرح الكلمات :
{ إذا زلزلت الأرض } : أي حركت لقيام الساعة .
{ وأخرجت الأرض أثقالها } : أي كنوزها وموتاها فألقتها وتخلت .
{ مالها } : أي وقال الكافر ما لها أي شيء جعلها تتحرك هذه الحركة .
{ تحدث أخبارها } : أي تخبر بما وقع عليها من خير وشر وتشهد به لأهله .
{ أوحى لها } : أي بأن تحدث أخبارها فحدثت .
{ يصدر الناس أشتاتا } : أي من موقف الحساب .
{ ليروا أعمالهم } : أي جزاء أعمالهم إما إلى الجنة وإما إلى النار .
{ مثقال ذرة } : زنة نملة صغيرة .
معنى الآيات :
قوله تعالى { إذا زلزلت الأرض زلزالها } أي تحركت حركتها الشديدة لقيام الساعة وأخرجت الأرض أثقالها من كنوز وذلك في النفخة الأولى ، وأموات وذلك في النفخة الثانية ففي الإِخبار اجمال إذ المقصود تقرير البعث والجزاء ليعمل الناس بما ينجيهم من النار ويدخلهم الجنة .
وقوله { وقال الإِنسان ما لها؟ } لا شك أن هذا الإِنسان السائل كان كافرا بالساعة ولذا تساءل أما المؤمن فهو يعلم ذلك لأنه جزء من عقيدته . وقوله تعالى { يومئذ تحدث أخبارها } أي تخبر بما جرى عليها من خير وشر بلسان القال أو الحال . وهي في هذا الإِخبار مأمورة لقوله تعالى { بأن ربك أوحى لها } أي بذلك وقوله { يومئذ يصدر الناس أشتاتا } اي يوم تزلزل الأرض وتهتز للنفخة الثانية نفخة يصدر الناس فيها أشتاتا اي يصدرون من ساحة فصل القضاء فمن آخذ ذات اليمين ومن آخذ ذات الشمال ليروا أعمالهم اي جزاء أعمالهم في الدنيا من حسنة وسيئة فالحسنة تورث الجنة والسيئة تورث النار . وقوله تعالى { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا } أي وزن ذرة من خير في الدنيا يثب عليه في الآخرة ومن يعمل مثقال ذرة أي وزن ذرة من شر في الدنيا يجز به في الآخرة إلا أن يعفو الجبار عز وجل وبما أن الكفر مانع من دخول الجنة فإِن الكافر إذا عمل حسنة في الدنيا يرى جزاءها في الدنيا ، وليس له في الآخرة شيء منها وذلك لحديث عائشة رضي الله عنها إذ سألت الرسول صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان هل ينفعه في الآخرة ما كان يفعله في الدنيا من إطعام الحجيج وكسوتهم فقال لها . « ا إنه لم يقل يوما من الدهر ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين » .
كما أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يأكل مع الرسول صلى الله عليه سولم ونزلت هذه الآية فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره الآية فرفع أبو بكر يده من الطعام وقال إني لراء ما عملت من خير وشر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم « إن ما ترى مما تكره فهو من مثاقيل ذرّ شرَّ كثير ، ويدخر الله لك مثاقيل الخير حتى تعطاه يوم القيامة » وتصديق ذلك في كتاب الله { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
2- الإِعلام بالانقلاب الكوني الذي تتبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات غير السموات .
3- تكلم الجمادات من آيات الله تعالى الدالة على قدرته وعلمه وحكمته وهي موجبات ألوهيته بعبادته وحده دون سواه .
3- تقرير حديث الصحيح « اتقوا النار ولو بشق تمرة » .
5- الكافر عمله الخيري ينفعه في الدنيا دون الآخرة .
6- المؤمن يجزي بالسيئة في الدنيا ويدخر له صالح عمله للآخرة .
(4/421)
________________________________________
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
شرح الكلمات :
{ والعاديات } : أي والخيل تعدو في الغزو .
{ ضبحا } : اي تضبح ضبحا والضبح صوت الخيل إذا عدت اي جرت .
{ فالموريات قدحا } : أي الخيل توري النار بحوافرها إذا سارت بالليل .
{ فالمغيرات صبحا } : أي الخيل تغير على العدو صباحا .
{ فأثرن به نقعا } : هيجن به اي بمكان عدوها نقعا اي غبارا .
{ فوسطن به جمعا } : أي بالنقع جمع العدو أي حيث تجمعاته .
{ لكنود } : لكفور بجحد نعمه تعالى عليه .
{ لشهيد } : أي يشهد على نفسه بعمله .
{ وإنه لحب الخير } : أي المال .
{ إذا بعثر } : أي أثير وأخرج ما في القبور .
{ وحصل ما في الصدور } : بيّن وأفرز ما في الصدور من الإِيمان والكفر .
معنى الآيات :
قوله تعالى { والعاديات ضبحا } الآيات إلى قوله { أفلا يعلم } تضمنت قسما إلهيا عظيما على حقيقة كبرى يجهلها كثير من الناس وهي كفر الإِنسان لربه ولنعمه عليه يعد المصائب وينسى النعم والفواضل وهذا بيان ما اقسم تعالى به وهو العاديات ضبحاً وهي الخيل تضبح أي تخرج صوتا خاصا غير الصهيل المعروف فالموريات قدحا اي الخيل توري النار بحوافرها إذا مشت فوق الحجارة ليلا ويدخل ضمن هذا كل قادحة للنار فالمغيرات صبحا اي جماعات الخيل يركبها فرسانها للإغارة على العدو بها صباحا . وقوله فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا اي فأثارت الخيل النقع وهو الغبار والتراب عند سيرها بفرسانها فتوسطت جمع العدو وكتائبه لقتال أعداء الله الكافرين بالله وآياته ولقائه المفسدين في الأرض بالشرك والمعاصي هذا ما أقسم الله تعالى به وهو الخيل ذات الصفات الثلاث : العدو والإِوراء والإِغارة والمقسم عليه قوله { إنالإِنسان لربه لكنود } المراد من الإِنسان الكافر والجاهل بربّه تعالى الذي لم تتهذب روحه بمعرفة الله ومحابه ومكارهه ولم يزك نفسه بفعل المحاب وترك المكاره هذا الإِنسان أقسم تعالى على أنه كفور لربه تعالى ولنعمه عليه اي شديد الكفر كثيره بذكر المصائب ويشعر بها ويصرخ لها ويصر عليها وينسى النعم والفواضل عليه فلا يذكرها ولا يشكر الله تعالى عليها . فالكنود الكفور . وقوله تعالى وإنه على ذلك لشهيد أي وإن الله تعالى على هذا الوصف في الإِنسان لشهيد فأخبر تعالى بما علمه من الإِنسان وشهد به عليه كما أن الإِنسان شهيد بأعماله وصنائع أقواله وأفعاله شهيد على نفسه بالكفر والجحود . وقوله وإنه لحب الخير لشديد هذا مما أقسم تعالى عليه ايضا وهو وصف للإِنسان الكنود وهو انه شديد حب المال وسمّي المال خيرا تسمية عرفية إذ تعارف الناس على ذلك كما أنه خير من حيث أ ، ه يحصل به الخير الكثير إذا أ ، فق في مرضاة الله تعالى .
وقوله تعالى { أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور إن ربهم بهم يومئذ لخبير } أي أيكفر الإِنسان بربه ويجحد نعمه عليه وإحسانه إليه ويحب المال أشد الحب فيمنع حقوق الله فيه ويكتسبه مما حرم الله عليه وقوله تعالى { أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور } أي بعثرت القبور وأخرج ما فيها من البشر للحساب والجزاء ووقفوا بين يدي الله تعالى وأفرز وبيّن ما كان خفيا في الصدور من الاعتقادات والنيات الصالحة والفاسدة ولا يخفى على الله تعالى منهمشيء حيث { إن ربهم بهم يومئذ لخبير } كما هو اليوم خبير إلا أنها ساعة الحساب والمجازاة فذكر فيها علم الله تعالى وخبرته بالظواهر والبواطن والضمائر والسرائر فلا يخفى على الله من ذلك شيء وسيتم الجزاء العادل بحسب هذا العلم وتلك الخبرة الإِلهية .
(4/422)
________________________________________
فلو علم الكفور من الناس المحب للمال هذا وأيقنه لعدّل من سلوكه واصلح من اعتقاده ومن أقواله وأعماله فالايات دعوة غلى مراقبة الله تعالى بعد الإِيمان والاستقامة على طاعته .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- الترغيب في الجهاد والإعداد له كالخيل أمس ، ونفاث الطائرات اليوم .
2- بيان حقيقة وهي أن الإِنسان كفور لربه ونعمه عليه يذكر المصيبة إذا أصابته وينسى النعم التي غطته إلا إذا آمن وعمل صالحا .
3- بيان أن الإِنسان يحب المال حبا شديدا إلا إذا هذّب بالإِيمان وصالح الأعمال .
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
(4/423)
________________________________________
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
شرح الكلمات :
{ القارعة } : القيامة وسميت القارعة لأنها تقرع القلوب بأهوالها .
{ ما القارعة } : أي أي شيء هي؟ فالاستفهام للتهويل من شأنها .
{ وما أدراك ما القارعة } : زيادة في تهويل أمرها وتعظيمه .
{ كالفراش المبثوث } : أي كغوغاء الجراد المنتشر يموج بعضهم في بعض .
{ كالعهن المنفوش } : اي كالصوف المندوف هذه حالها أولا ثم تكون كثيبا كهيلا ثم تكون هباء منبثا .
{ في عيشة راضية } : أي يرضاها صاحبها في الجنة فهي مرضية له .
{ فأمه هاوية } : أي مأواه ومسكنه الهاوية التي يهوي فيها على رأسه وهي النار .
{ نار حامية } : أي هي نار حامية .
معنى الآيات :
قوله تعالى { القارعة } إلى آخر السورة الكريمة تضمنت آياتها الإِحدى عشرة آية وصفاً لعقيدة البعث والجزاء التي كذب بها المشركون وأنكروها وبالغوا في انكارها فأخبر تعالى أن القيامة التي تقرع الناس بأهوالها وعظائم ما يجري فيها بحيث يكون الناس وهم أشرف الكائنات الأرضية يكونون في خفة أحلامهم وحيرة عقولهم كالفراش المبثوث وهو غوغاء الجارد وتجمعه وتراكمه وانتشاره وهو يموج بعضه فوق بعض . وتكون الجبال على رسوها وعلوها وضخامة ذواتها كالعهن المنفوش أي كالصوف المندوف بالمنداف وهو يتطاير هنا وهناك . هذا في أول الأمر وقد تكون كالرمل المتهيل . ثم كالهباء المنبث فإِذا بعثوا ووقفوا بين يدي ربهم لحسابهم ومجازاتهم { فمن ثقلت موازينه } أي موازين حسناته فقد نجا من النا ر وهو { في عيشة راضية } أي مرضية له وهو بها راض وكيف لا وهي الجنة دار النعيم المقيم . { ومن خفت موازينه } اي قلت حسناته وكثرت سيئاته أوْ لَمْ يكن له حسنة بالمرة كأهل الكفر والشرك { فأمه هاوية } أي فأمه التي تضمه إليها وتؤيه عندها هاوية بحيث يهوى فيها على أم رأسه وقوله تعالى { وما أدراك ما هي؟ } اي هي { نار حامية } هذا الاستفهام للتهويل من شأنها وهي كذلك لا أشد هولا منها إنها النار دار البوار والخسران أعاذنا الله تعالى منها وعتق رقابنا منها اللهم آمين .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر صورة صادقة لها .
2- التحذير من أهوال يوم القيامة وعذاب الله تعالى فيها .
3- تقرير عقيدة وزن الأعمال صالحها وفاسدها وترتيب الجزاء عليها .
4- تقرير أن الناس يوم القيامة فريقان فريق في الجنة وفريق في السعير .
(4/424)
________________________________________
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
شرح الكلمات :
{ ألهاكم } : أي شغلكم عن طاعة الله تعالى :
{ التكاثر } : اي التباهي بكثرة المال .
{ حتى زرتم المقابر } : أي تشاغلتم بجمع المال والتباهي بكثرته حتى متم ونقلتم إلى المقابر .
{ كلا } : أي ما هكذا ينبغي أن تفعلوا فارتدعوا عن هذا التكاثر .
{ سوف تعلمون } : أي إذا دخلتم قبوركم علمتم خطأكم في التكاثر في الأموال والأولاد .
{ كلا } : أي حقا .
{ لو تعلمون علم اليقين } : أي علما يقينا عاقبة التكاثر لما تفاخرتم بكثرة أموالكم .
{ لترون الجحيم } : أي النار .
{ يومئذ } : أي يوم ترون الجحيم عين اليقين .
{ عن النعيم } : اي تنعمتم به وتلذذتم من الصحة والفراغ والأمن والمطاعم والمشارب .
معنى الآيات :
قوله تعالى { ألهاكم التكاثر } هذا خطاب الله تعالى للمشتغلين بجمع المال وتكثيره للمباهاة به والتفاخر الأمر الذي ألهاهم عن طاعة الله ورسوله فماتوا ولم يقدموا لأنفسهم خيراً فقال تعالى لهم ألهاكم أي شغلكم التكاثر اي في الأموال للتفاخر بها والمباهاة بكثرتها { حتى زرتم المقابر } أي بعد موتكم نقلتم إليها لتبقوا فيها غلى أن تخرجوا منها للحساب والجزاء اي يوم القيامة . وقوله لهم { كلا } أي ما هكذا ينبغي أن تفعلوا فارتدعوا عن هذا السلوك المفضي بكم غلى الهلاك والخسران سوف تعلمون عاقبة تشاغلكم عن طاعة الله وطاعة رسوله والتزود للدار الآخرة { ثم كلا سوف تعلمون } كرّر الوعيد والتهديد . وقوله { كلا لو تعلمون علم اليقين } اي حقا لو تعلمون ما تجدونه في قبوركم ويوم بعثكم ونشوركم لما تشاغلتم بالأموال وتكاثرتم فيها . وقوله { لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين } هذا جواب قسم نحو وعزتنا لترون الجحيم اي النار وذلك يوم القيامة المشرك يراها ويصلاها والمؤمن يراها وينجيه الله تعالى منها . ثم لترونها عين اليقين اي الأمر الذي لا شك فيه إذ يؤتى بجهنم فيراتها أهل الموقف أجمعون وقوله { ثم لتسألن يومئذ } أي يوم ترون الجحيم عين اليقين { عن النعيم } الذي كان لكم في الدنيا من صحة وفراغ وأمن وطعام وشراب . فمن أدى شكره نجا ، ومن لم يؤد شكره أخذ به ولا يعفى إلا عن ثوب يستر العورة وكسرة خبز تسد الجوعة وجحر يكن من الحر والبرد وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمرو ابن التيهان « هذا من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة يشير إلى بسر ورطب وماء بارد » وصح أيضا « أنه لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن علمه ماذا عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيم انفقه؟ » .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- التحذير من جمع المال وتكثيره مع عدم شكره وترك طاعة الله ورسوله من أجله .
2- إثبات عذاب القبر وتأكيده بقوله حتى زرتم المقابر كلا سوف تعلمون أي في القبر .
3- تقرير عقيدة البعث وحتمية الجزاء بعد الحساب والاستنطاق والاستجواب .
4- حتمية سؤال العبد عن النعم التي أنعم الله تعالى عليه بها في الدنيا فإِن كان شاكرا لها فاز وإن كان كافرا لها أخذ والعياذ بالله .
(4/425)
________________________________________
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
شرح الكلمات :
{ والعصر } : أي الدهر كله .
{ إن الإِنسان } : أي جنس الإِنسان كله .
{ لفي خسر } : أي في نقصان وخسران إذ حياته هي راس ماله فإذا مات ولم يؤمن ولم يعمل صالحاً خسر كل الخسران .
{ وتواصوا بالحق } : أي أوصى بعضهم بعضا باعتقاد الحق وقوله والعمل به .
{ وتواصوا بالصبر } : أي اوصى بعضهم بعضا بالصبر على اعتقاد الحق وقوله والعمل به .
معنى الآيات :
قوله تعالى { والعصر } الآيات الثلاث تضمنت هذه الآيات حكما ومحكوما عليه ومحكوما به فالحكم هو ما حكم به تعالى على الإِنسان مل الإِنسان من النقصان والخسران والمحكوم عليه هو الإِنسان ابن آدم والمحكوم به هو الخسران لمن لم يؤمن ويعمل صالحا والربح والنجاة من الخسران لمن آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر فقوله تعالى { والعصر } هو قسم أقسم الله به والعصر هو الدهر كله ليله ونهاره وصبحه ومساؤه وجواب القسم قوله تعالى { إن الإِنسان لفي خسر } أي نقصان وهلكة وخسران إذ يعيش في كَبَددِ ويموت غلى جهنم فيخسر كل شيء حتى نفسه التي بين جنبيه وقوله { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } فهؤلاء استثناهم الله تعالى من الخسر فهم رابحون غير خاسرين وذلك بدخولهم الجنة دار السعادة والمراد من الإِيمان الإِيمان بالله ورسوله وما جاء به رسوله من الهدى ودين الحق والمراد من العمل الصالح الفرائض والسنن والنوافل ، وقوله { وتواصوا بالحق } أي باعتقاده وقوله والعمل به وذلك باتباع الكتاب والسنة ، وقوله { وتواصوا بالصبر } اي أوصى بعضهم بعضا بالحق اعتقادا وقولا وعملا وبالصبر على ذلك حتى يموت أحدهم وهو يعتقد الحق ويقول به ويعمل بما جاء فيه فالإِسلام حق والكتاب حق والرسول حق فهم بذلك يؤمنون ويعلمون ويتواصون بالثبات على ذلك حتى الموت .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- فضيلة سورة العصر لاشتمالها على طريق النجاة في ثلاث آيات حتى قال الإِمام الشافعي لو ما أنزل الله تعالى على خلقه حجة إلا هذه السورة لكفتهم .
2- بيان مصير الإِنسان الكافر وأنه الخسران التام .
3- بيان فوز أهل الإِيمان والعمل الصالح المجتنبين للشرك والمعاصي .
4- وجوب التواصي بالحق والتواصي بالصبر بين المسلمين .
(4/426)
________________________________________
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
شرح الكلمات :
{ ويل لكل همزة لمزة } : كلمة يطلب بها العذاب وواد في جهنم الهمزة كثير الهمز واللمزة وكذلك وهم الطعانون المظهرون العيوب للإِفساد .
{ جمع مالا وعدده } : اي أحصاه وأعده لحوادث الدهر .
{ يحسب أن ماله أخلده } : أي يجعله خالدا في الحياة لا يموت .
{ كلا } : أي ليس الأمر كما يزعم ويظن .
{ لينبذن } : أي ليطرحن في الحطمة .
{ في الحطمة } : أي النار التي تحطم كل ما يلقى فيها .
{ تطلع على الأفئدة } : أي تشرف على القلوب فتحرقها .
{ مؤصدة } : أي مغلقة مطبقة .
{ في عمد ممددة } : أي يعذبون في النار بأعمدة ممدة .
معنى الآيات :
قوله تعالى { ويل لكل همزة لمزة } يتوعد الربّ تبارك وتعالى بواد في جهنم يسيل بصديد أهل النار وقيوحهم كل همزة لمزة أي كل مغتاب عيّاب ممن يمشون بالنميمة ويبغون للبراء العيب وقوله { الذي جمع مالا وعدده يحسب أن ماله أخلده } هذا وصف آخر لتلك الهمزة للنزة وهو أنه { جمع مالا } كثيرا من حرام وحلال { وعدده } أي أحصاه وعرف مقداره وأعده لحوادث الدهر كما يزعم . { يحسب أن ماله أخلده } أي يظن أنه لا يموت لكثرة أمواله ومتى كان المال ينجي من الموت؟ إنه الغرور في الحياة ، لو كان المال يُخلد أحدا لأخلد قارون ، وقوله تعالى { كلا } لا يخلده ماله بل وعزتنا وجلالنا { لينبذن } أي يطرحن { في الحطمة } النار المستعرة التي تحطم كل ما يلقى فيها وقوله تعالى روما أدراك ما الحطمة } هذا الاستفهام لتعظيم أمرها وتهويل شأنها ، وبيّنها تعالى بقوله { نار الله الموقدة } اي السمتعرة المتأججة ، { التي تطلع على الأفئدة } اي تشرف على القلوب فتحرقها ، وقوله تعالى { إنها عليهم مؤصدة } أي إن النار على أولئك الهمازين اللمازين مطبقة مغلقة الأبواب وقوله تعالى { في عمد ممدة } اي يعذبون في النار بعمد ممدة ، والله أعلم كيف يكون تعذيبهم بها إذ لم يطلعنا الله تعالى على كيفيته .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
2- التحذير من الغيبة والنميمة .
3- التنديد بالمغتربين بالأموال المعجبين بها .
4- بيان شدة عذاب النار وفظاعته .
(4/427)
________________________________________
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
شرح الكلمات :
{ الم تر كيف فعل ربك } : أي ألم ينته إلى علمك فعل ربك بأصحاب الفيل .
{ بأصحاب الفيل } : أي محمود وهي أكبرها ومعه اثنا عشر فيلا وصاحبها أبرهة .
{ ألم يجعل كيدهم } : أي في هدم الكعبة .
{ في تضليل } : أي في خسار وهلاك .
{ أبابيل } : أي جماعات جماعات .
{ من سجيل } : أي طين مطبوخ .
{ كعصف مأكول } : أي كورق زرع أكلته الدواب وداسته بأرجلها .
معنى الآيات :
قوله تعالى { ألم تر كيف فعل ربك باصحاب الفيل } إلى قوله { مأكول } هي خمس آيات تضمنت الحديث عن حادث جلل وقع أمام ولادة النبي صلى الله عليه وسلم وخلاصته أن أبرهة الأشرم والي اليمن من قبل ملك الحبشة قد رأى أن يبني بيتا في صنعاء اليمن يدعو العرب إلى حجة بدل حجهم البيت الحرام والقصد من ذلك تحويل التجارة والمكاسب من مكة إلى اليمن وعرض هذا على الملك الحبشي فوافق وسره ذلك ولما بني البيت « الكنيسة » وسماها القُلَّيْس لم يبن مثلها في تاريخها جاء رجل قرشي فتغوط فيها ولطخ جدرانها بالعذرة غَصَْباً منه ، وذهب فلما رآها أبرهة الأشرم بتلك الحال استشاط غيظا وجهز جيشا لغزو مكة وهدم الكعبة وكان معه ثلاثة عشر فيلا ومن بينها فيل يدعى محمود وهو أكبرها وساروا ما وقف في وجههم حي من أحياء العرب إلا قاتلوه وهزموه حتى انتهوا إلى قرب مكة وجرت سفارة بينهم وبين شيخ مكة عبد المطلب بين هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم وانتهت المفاوضات بأن يرد أبرهة إبل عبد المطلب ثم هو وشأنه بالكعبة وأمر رجال مكة أن يخلو البلد ويلتحقوا برؤوس الجبال بنسائهم وأطفالهم خشية المعرة تلحقهم من الجيش الغازي والظالم ، وما هي إلا أن تحرك جيش أبرهة ووصل إلى وادي محسر وهو في وسط الوادي سائر وإذا بفرق من الطير فرقة بعد أخرى ترسل على ذلك الجيش حجارة الواحدة ما بين الحمصة والعدسة في الحكم وما تسقط الحجرة على رجل إلا ذاب وتناثر لحمه فهلكوا وفر أبرهة ولحمه يتناثر فهلك في الطريق وكانت هذه نصرة من الله لسكان حرمه وحماة بيته ومن ثم ما زالت العرب تحترم الكعبة والحرم وسكانه إلى اليوم . وقوله تعالى { الم تر كيف } يخاطب تعالى رسوله مذكراً إياه بفعله وعقبة من قوة أبرهة وأبادها الله تعالى في ساعة فاصبر يا محمد ولا تحمل لهؤلاء الأعداء هما فإِن لهم ساعة فكانت السورة عبارة عن ذكرى للعظة والاعتبار . وهذا شرح الآيات { الم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } أي ألم ينته إلى علمك فعل ربك بأصحاب الفيل .
{ ألم يجعل كيدهم في تضليل } اي ألم يجعل ما كادوه لبيتنا وحرمنا في خسارة وضلال فلم يجنوا إلا الخزي والدمار { وأرسل عليهم طيراً أبابيل } أي جماعات جماعات كانت تشاهد وهي تخرج من البحر يشاهدها رجال مكة المعتصمون بقمم الجبال إذ تمر فوقهم وهي تحمل حجارة من سجيل كل طائر يحمل ثلاثة أحجار كالحمصة والعدسة واحدة بمناقره واثنتين بمخلبيه كل واحدة في مخلب ترميهم بها فتفتت لحومهم وتتناثر فجعلهم كعصف مأكول أي كزرع دخلته ماشية فأكلت عصفه أي ورقه وكسرت ثائمة وهشمته فكانت آية من آيات الله تعالى . هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلاقيه من ظلم كفار قريش .
2- تذكير قريش بفعل الله عز وجل تخويفا لهم وترهيبا .
3- مظاهر قدرة الله تعالى في تدبيره لخلقه وبطشه بأعدائه .
(4/428)
________________________________________
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
شرح الكلمات :
{ لإِيلاف } : الإِيلاف مصدر آلف الشيء يؤالفه إيلافا إذا اعتاده وزالت الكلفة عنه والنفرة منه .
{ قريش } : هم ولد النضر بن كنانة وهم قبائل شتى .
{ رحلة الشتاء } : أي إلى اليمن .
{ والصيف } : أي إلى الشام .
{ فليعبدوا } : أي إن لم يعبدوا الله لسائر نعمه فليعبدوه لتحبيب هاتين الرحلتين إليهم .
{ ربّ هذا البيت } : أي مالك البيت الحرام وربّ كل شيء .
{ الذي أطعمهم من جوع } : أي من أجل البيت الحرام .
{ وآمنهم من خوف } : أي من أجل البيت الحرام .
معنى الآيات :
قوله تعالى { لإِيلاف قريش } هذا الجار والمجرور متعلق بكلام قبله وهو فعلت ما فعلت بأصحاب الفيل لإِيلاف قريش رحلتيهم ، أو أعجبوا لإِيلاف قريش رحلتهم والرحلتان هما رحلة في الشتاء إلى اليمن ، ورحلة في الصيف إلى الشام وذلك للاتجار وجلب الأرزاق إلى بلادهم التي ليست هي بذات زرع ولا صناعة فإيلافهم هاتين الرحلتين كان بتدبير الله تعالى ليعيش سكان حرمه وبلده في رغد من العيش فهي نعمة من نعم الله تعالى وعليه { فليعبدوا ربّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع } بما هيأ لهم من أسباب { وآمنهم من خوف } كذلك ولم يعدلون عن عبادته إلى عبادة الأصنام والأوثان فالله أحق أن يعبدوه إذ هو الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف بما ألقى في قلوب العرب من احترام الحرم وسكانه وتعظيمه وتعظيمهم فتمكنوا من السفر إلى خارج بلادهم والعودة إليها في آمن وطمأنينة قال تعالى جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للنا س أي لقريش تقوم مصالحهم عليها لما ألقى في قلوب العرب من تعظيم واحترام أهله .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- مظاهر تدبير الله تعالى وحكمته ورحمته فسبحانه من إله حكيم رحيم .
2- بيان إفضال الله تعالى على قريش وإنعامه عليها الأمر الذي تطلّب شكرها ولم تشكر فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بتركها للشكر .
3- وجوب عبادة الله تعالى وترك عبادة من سواه .
4- وجوب الشكر على النعم وشكرها حمدا لله تعالى عليها والثناء عليه بها وصرفها في مرضاته .
5- الاطعام من الجوع والتأمين من الخوف عليهما مدار كامل أجهزة الدولة فأرقى الدول اليوم وقبل اليوم لم تستطع أن تحقق لشعوبها هاتين النعمتين نعمة العيش الرغد والأمن التام .
(4/429)
________________________________________
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
شرح الكلمات :
{ أرأيت الذي يكذب بالدين } : اي هل عرفته والدين ثواب الله وعقابه يوم القيامة .
{ فذلك الذي يدع اليتيم } : أي فهو ذلك الذي يدفع اليتيم عن حقه بعنف .
{ ولا يحض على طعام المسكين } : أي لا يحض نفسه ولا غيره على طعام المساكين .
{ فويل للمصلين } : أي العذاب الشديد للمصلين الساهين عن صلاتهم .
{ عن صلاتهم ساهون } : أي يؤخرونها عن أوقاتها .
{ يراءون } : أي يراءون بصلاتهم وأعمالهم الناس فلم يخلصوا لله تعالى في ذلك .
{ ويمنعون الماعون } : أي لا يعطون من سألهم ماعوناً كالأبرة والقدر والمنجل ونحوه مما ينتفع به ويرد بعينه كسائر الأدوات المنزلية .
معنى الآيات :
قوله تعالى { أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين } هذه الآيات الثلاث نزلت بمكة في العاص بن وائل والوليد بن المغيرة وأضرابهم من عتاة قريش وكفارها فهذه الآيات تُعرِّض بهم وتندد بسلوكهم وتوعدهم فقوله تعالى { أرأيت } يا رسولنا الذي يكذب بالدين وهو الجزاء في الآخرة على الحسنات والسيئات فهو ذاك الذي يدع اليتيم أي يدفعه بعنف عن حقه ولا يعطيه إياه احتقارا له وتكبرا عليه ولا يحض على طعام المسكين أي ولا يحث ولا يحض نفسه ولا غيره على إطعام الفقراء والمساكين وذلك اتج عن عدم إيمانه بالدين أي بالحساب والجزاء في الدار الآخرة وهذه صفة كل ظالم مانع للحق لا يرحم ولا يشفق إذ لو آمن بالجزاء في الدار الآخرة لعمل لها بترك الشر وفعل الخير فمن اراد أن يرى مكذبا بالدين فإِنه يراه في الظلمة المعتدين القساة القلوب الذين لا يرحمون ولا يعطون ولا يحسنون وقوله تعالى { فويل للمصلين الذي هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون } هذه الآيات الأربع نزلت في بعض منافقي المدنية النبوية فلذا نصف السورة مكي ونصفها مدني } وقوله تعالى { فويل للمصلين الذي هم عن صلاتهم ساهون } هذا وعيد شديد لهم إذ الويل واد في جهنم يسيل من صديد أهل النار وقيوحهم وهو أشد العذاب إذ كانوا يغمسون فيه أو يطعمون ويشربون منه . ومعنى عن صلاتهم ساهون أنهم غافلون عنها لا يذكرونها فكثيرا ما تفوتهم ويخرج وقتها وأغلب حالهم أنهم لا يصلونها إلا عند قرب خروج وقتها هذا وصف آخر انهم { يراءون } بصلاتهم وبكل أعمالهم أي يصلون وينفقون ليراهم المؤمنون فيقولوا أنهم مؤمنون وبالمراءاة يدرءون عن أنفسهم القتل والسبي وثالث أنهم { ويمنعون الماعون } فإذا استعارهم مؤمن ماعونا للحاجة به لا يعيرون ويعتذرون بمعاذير باطلة فلا يعيرون فأسا ولا منجلا ولا قدرا ولا أيّة آنية أو ماعون لأنهم يبغضون المؤمنين ولا يريدون أن ينفعوهم بشيء فيحرمونهم من إعارة شيء ينتفعون به ويردونه عليهم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات : 1- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
2- أيما قلب خلا من عقيدة البعث والجزاء إلا وصاحبه شر الخلق لا خير فيه البتة .
3- التنديد بالذين يأكلون أموال اليتامى ويدفعونهم عن حقوقهم استصغارا لهم واحتقارا .
4- التنديد والوعيد للذين يتهاونون بالصلاة ولا يبالون في أي وقت صلوها وهو من علامات النفاق والعياذ بالله .
5- منع الماعون من صفات المنافقين والمانع لما المسلمون في حاجة إليه ليس منهم لحديث من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم فكيف بالذي يمنعهم ما هو فضل عنده وهم في حاجة إليه؟
(4/430)
________________________________________
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
شرح الكلمات :
{ إنا أعطيناك الكوثر } : أي إنا ربُّ العزة والجلال وهبناك يا نبينا الكوثر أي نهراً في الجنة .
{ فصل لربك وانحر } : أي فاشكر ذلك بصلاتك لربك المنعم عليك وحده وانحر له وحده .
{ إن شانئك } : أي مبغضك .
{ هو الأبتر } : أي الأقل الأذل المنقطع عقبه .
معنى الآيات :
قوله تعالى { إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر } هذه الآيات الثلاث مختصة برسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هو المخاطب بها وأنها تحمل طابع التعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روي أنه لما مات ابن النبي صلى الله عليه وسلم القاسم قال العاص بن وائل السهمي بتر محمد أو هو أبتر أي لا عقب له بعده فأنزل الله تعالى هذه السورة تحمل الرد على العاص والتعزية للرسول صلى الله عليه وسلم والبشرى له ولأمته بالكوثر الذي هو نهر في الجنة حافتاه من الذهب ومجراه على الدر والياقوت وتربته أطيب من المسك وماؤه أحلى من العسل وابيض من الثلج ، ومن الكوثر يملأ الحوض الذي في عرصات القيامة ولا يرده إلا الصالحون من أمته صلى الله عليه وسلم . فقوله تعالى { إنا أعطيناك } أي خصصناك بالكوثر الذي هو نهر في الجنة من أعظم أنهارها مع الخير الكثير الذي وهبه الله تعالى لك من النبوة والدين الحق ورفع الذكر والمقام المحمود وقوله { فصل لربك وانحر } أي فاشكر هذا الإِنعام بأن تصلي لربك وحد ولا تشرك به غيره وكذا لنحر فلا تذبح لغيره تعالى في هذا تعليم لأمته وهل المراد من الصلاة صلاة العيد والنحر الأضحية لا مانع من دخول هذا في سائر الصلوات والنسك وقوله تعالى إن شانئك هو الأبتر أي إن مبغضك في كل زمان ومكان هو الأقل الأذل المنقطع النسل والعقب .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان إكرام الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم .
2- تأكيد أحاديث الكوثر وأنه نهر في الجنة .
3- وجوب الإِخلاص في العبادات كلها لا سيما الصلاة والنحر .
4- مشروعية الدعاء على الظالم .
(4/431)
________________________________________
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
شرح الكلمات :
{ قل } : أي يا رسول الله .
{ يا أيها الكافرون } : أي المشركون وهم الوليد والعاص وابن خلف والأسود بن المطلب .
{ لا أعبد ما تعبدون } : أي من الآلهة الباطلة الآن .
{ ولا أنتم عابدون ما أعبد } : أي الآن .
{ ولا أنا عابد ما عبدتم } : أي في المستقبل ابدا .
{ ولا أنتم عابدون ما أعبد } : أي في المستقبل أبد لعلم الله تعالى بذلك .
{ لكم دينكم } : أي ما أنتم عليه من الوثنية سوف لا تتركونها ابدا حتى تهلكوا .
{ ولي دين } : أي الإِسلام فلا أتركه أبدا .
معنى الآيات :
قوله تعالى { قل يا أيها الكافرون } الآيات الست الكريمات نزلت ردا على اقتراح تقدم به بعض المشركين وهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السهمي ، والأسود بن المطلب وأمية بن خلف مفاده أن يعبد النبي صلى الله عليه وسلم معهم آلهتهم سنة ويعبدون معه إله سنة مصالحة بينهم وبينه وإنهاء للخصومات في نظرهم ، ولم يجبهم الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء حتى نزلت هذه السورة { قل يا ايها الكافرون } أي قل يا رسولنا لهؤلاء المقترحين الباطل يا أيها الكافرون بالوحي الإِلهي وبالتوحيد المشركون في عبادة الله تعالى أصناما وأوثانا { لا أعبد ما تعبدون } الآن كما اقترحتم { ولا أنتم عابدون } الآن { ما أعبد } لما قضاه الله لكم بذلك ، { ولا أنا عابد ما عبدتم } في المستقبل أبدا { ولا أنتم عابدون ما أعبد } في المستقبل أبدا لأن ربي حكم فيكم بالموت على الكفر والشرك حتى تدخلوا النار لما علمه من قلوبكم وأحوالكم وقبح سلوككم وفساد أعمالكم { لكم دينكم } لا أتابعكم عليه { ولي دين } لا تتابعونني عليه . بهذا أيأس الله ورسوله من إيمان هذه الجماعة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم بطمع في إيمانهم وأيأَس المشركين من الطمع في موافقة الرسول صلى الله عليه وسلم على مقترحهم الفاسد ، وقد هلك هؤلاء المشركون على الكفر فلم يؤمن منهم أحد فمنهم من هلك في بدر ومنهم من هلك في مكة على الكفر والشرك وصدق الله العظيم فيما أخبر به عنهم أنهم لا يعبدون الله عبادة تنجيهم من عذابه وتدخلهم رحمته .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة القضاء والقدر وأن الكافر من كفر أزلا والمؤمن من آمن أزلا .
2- ولاية الله تعالى لرسوله عصمته من قبول اقتراح المشركين الباطل .
3- تقرير وجود المفاصلة بين أهل الإِيمان وأهل الكفر والشرك .
(4/432)
________________________________________
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
شرح الكلمات :
{ إذا جاء نصر الله } : أي نصر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم على أعدائه المشركين .
{ والفتح } : أي فتح مكة .
{ في دين الله أفواجا } : أي في الإِسلام جماعات جماعات .
{ فسبح بحمد ربك } : أي نزهه عن الشريك ملتبسا بحمده .
{ واستغفره } : أي أُطلب منه المغفرة توبة منك إليه .
معنى الآيات :
قوله تعالى { إذا جاء نصر الله } الآيات الثلاث المباركات نزلت في أخريات أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وهي تحمل علامة للنبي صلى الله عليه وسلم على قرب أجله فقوله { إذا جاء نصر الله } أي لك يا رسولنا فأصبحت تنتصر على أعدائك في كل معركة تخوضها معهم وجاءك الفتح فتح مكة ففتحها الله عليك واصبحت دار إسلام بعد أن كانت دار كفر ، { ورأيت الناس } من سكان اليمن وغيرهم { يدخلون في } دينك الدين الإِسلامي { أفواجا } وجماعات جماعة بعد أخرى بعد أن كانوا يدخلون فرادى واحدا واحدا وهم خائفون إذا تم هذا ورأيته { فسبح بحمد ربك } شكرا له على نعمة النصر والفتح ودخول الناس في دينك وانتهاء دين المشركين الباطل . { واستغفره } أي اطلب منه المغفرة لما فرط منك مما هو ذنب في حقك لقربك وكمال علمك وأما غيرك فليس هو بالذنب الذي يُسْتَغْفَرْ منه ويَنَابُ إلى الله تعالى منه وقوله تعالى { إنه كان توابا } أي إن الله تعالى الذي أمرك بالاستغفار توبة إليه كان توابا على عباده يقبل توبتهم فيغفر ذنوبهم ويرحمهم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات : 1- مشروعية نعي الميت إلى أهله ولكن بدون إعلان وصوت عال .
2- وجوب الشكر عند تحقق النعمة ومن ذلك سجدة الشكر .
3- مشروعية قول سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي في الركوع .
(4/433)
________________________________________
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
شرح الكلمات :
{ تبت يدا أبي لهب } : أي خسرت يدا ابي لهب بن عبد المطلب أي خسر عمله .
{ وتب } : أي خسر هو بذاته إذ هو من أهل النار .
{ ما أغنى عنه ماله } : أي أي شيء أغنى عنه ماله لما سخط الله تعالى عليه وعذبه في الدنيا والآخرة .
{ وما كسب } : أي من المال والولد وغيرها .
{ سيصلى نارا } : أي يدخل نارا يصطلي بحرها ولفحها .
{ ذات لهب } : أي توقد واشتعال .
{ وامرأته } : أي أم جميل العوراء .
{ حمالة الحطب } : أي تحمل شوك السعدان وتلقيه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم أذية له وكرها .
{ في جيدها } : أي في عنقها .
{ حبل من مسد } : أي من ليف .
معنى الآيات :
قوله تعالى { تبت يدا أبي لهب } الآيات الخمس المباركات نزلت ردا على أبي لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم إذ صح أنه لما نزلت آية { وأنذر عشيرتك الأقربين } من سورة الشعراء طلع صلى الله عليه وسلم إلى جبل الصفا ونادى : واصباحاه واصباحاه فاجتمع الناس حوله فقال لهم إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد : قولوا لا إله إلا لله كلمة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم . فنطق أبو لهب فقال : ألهذا جمعتنا تبا لك طول اليوم فأنزل الله تعالى رداً عليه { تبت يدا أبي لهب } أي خسر أبو لهب وخسر كل شيء له وهذه جملة دعائية ولذا هلك بمرض خطير لم يتمكنوا من غسله فأراقوا عليه الماء ، فقط وقوله { وتب } إخبار من الله تعالى بهلاك عبد العزى أبي لهب وقوله { ما أغنى عنه ماله وما كسب } أي لما سخط الله عليه وادخله ناره لم يغن عنه اي لم يدفع عنه العذاب ماله ولا ولده . وقوله تعالى { سيصلى نارا ذات لهب } أي تَوقُّدٍ وتأجُّجٍ . { وامرأته } أم جميل العوراء { حمالة الحطب } حيث كانت تأتي بشوك السعدان وتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم عند ذهابه إلى صلاة الصبح بالمسجد الحرام . وقوله تعالى { في جيدها حبل من مسد } أي في عنقها حبل من ليف النخل أو مسد شجر الدوم بهذا حكم الله تعالى على أعدائه وأعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان حكم الله بهلاك أبي لهب وإبطال كيده الذي كان يكيده لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
2- لا يغني المال ولا الولد عن العبد شيئا من عذاب الله إذا عمل بمساخطة وترك مراضيه .
3- حرمة أذية المؤمنين مطلقا .
4- عدم إغناء القرابة شيئا من الشرك والكفر إذ أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في النار ذات اللهب .
(4/434)
________________________________________
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
ئرح الكلمات :
{ قل هو الله أحد } : أي قل لمن سألك يا نبينا عن ربك هو الله أحد .
{ الله الصمد } : أي الله الذي لا تنبغي العبادة إلا له ، الصمد : السيد الذي يصمد إليه .
في الحوائج . فهو المقصود في قضاء الحوائج على الدوام .
{ لم يلد } : أي لا يفنى إذ لا شيء يلد إلا وهو فانٍ بائدٌ لا مَحالة .
{ ولم يولد } : أي ليس بمحدث بأن لم يكن فكان فهو كائن أولا وابدا .
{ ولم يكن له كفوا أحد } : أي لم يكن أحد شبيه له أو مثيل إذ ليس كمثله شيء .
معنى الآيات :
قوله تعالى { قل هو الله أحد } الآيات الأربع المباركات نزلت جوابا لمن قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم من المشركين انسب لنا ربك أو صفه لنا فقال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم قل أي لمن سألوك ذلك هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد أي ربي هو الله اي الإِله الذي لا تنبغي الألوهية إلا له ، ولا تصلح العبادة إلا له أحد في ذاته وصفاته وأفعاله فليس له نظير ولا مثيل في ذلك إذ هو خالق الكل ومالك الجميع فلن تكون المحدثات المخلوقات كخالقها ومحدثها الله أي المعبود الذي لا معبود بحق إلا هو ، الصمد اي السيد المقصود في قضاء الحوائج الذي استغنى عن كل خلقه وافتقر الكل إليه لم يلد اي لم يكن له ولد لانتفاء من يجانسه إذ الولد يجانس والده ، والمجانسة منفية عنه تعالى إذ ليس كمثله شيء ولم يولد لانتفاء الحدوث عنه تعالى .
{ ولم يكن له كفواً أحد } أي ولم يكن أحد كفواً له ولا مثيلاً ولا نظيراً ولا شبيهاً إذ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير . فلذا هو يعرف بالأحدية والصمدية فالأحدية هو أنه واحد في ذاته وصفاته وأفعاله لم يكن له كفو ولا شبيه ولا نظير والصمدية هي أنه المستغني عن كل ما سواه والمفتقر إليه في وجوده وبقائه كل ما عداه كما يعرف بأسمائه وصفاته وآياته .
من هداية الآيات :
1- معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته .
2- تقرير التوحيد والنبوة .
3- بطلان نسبه الولد إلى الله تعالى .
4- وجوب عبادته تعالى وحده لا شريك له فيها ، إذ هو الله ذو الألوهية على خلقه دون سواه .
(4/435)
________________________________________
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
شرح الكلمات :
{ أعوذ } : أي استجير واتحصن .
{ الفلق } : أي الصبح .
{ من شر ما خلق } : من حيوان وجماد .
{ غاسق إذا وقب } : أي الليل إذا أظلم أو القمر إذا غاب .
{ النفاثات } : أي السواحر اللاتي ينفثن .
{ في العقد } : أي في العقد التي يعقدونها .
{ حاسد إذا حسد } : أي إذا أظهر حسده وأعمله .
معنى الآيات :
قوله تعالى { قل أعوذ برب الفلق } أنه لما سحر لبيد بن معصم اليهودي بالمدينة النبي صلى الله عليه وسلم أنزل تعالى المعوذتين فرقاه بهما جبريل فشفاه الله تعالى ولذا فالسورتان مدنيتان وقوله تعالى { قل أعوذ برب الفلق } أي قل يا رسولنا أعوذ أي أستجير وأتحصن برب الفلق وهو الله عز وجل إذ هو فالق الإِصباح وفالق الحب والنوى ولا يقدر على ذلك إلا هو لعظيم قدرته وسعة علمه . { من شر ما خلق } أي من شر ما خلق تعالى من الكائنات من حيوان مكلف كالإِنسان وغير مكلف كسائر الحيوانات ومن الجمادات أي من شر كل ذي شر منها ومن سائر المخلوقات . وقوله { ومن شر غاسق إذا وقب } أي الليل إذا أظلم والقمر إذا غاب إذ الظلام بدخول الليل أو بغياب القمر يكون مظنه خروج الحيات السامة والحيوانات المفترسة والجماعات المتلصصة للسطو والسرقة وابتغاء الشر والفساد . وقوله تعالى { ومن شر النفاثات في العقد } أي وتعوذ بالله برب الفلق من شر السواحر وهن النساء اللاتي ينفثن في كل عقدة يرقين عليها ويعقدونها والنفث هي إخراج هواء من الفم بدون ريق ولذا ورد من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر . وقوله تعالى { ومن شر حاسد إذا حسد } أي وتعوذ برب الفلق من شر حاسد أي من الناس إذا حسد أي أظهر حسده فابتغاك بضر أو ارادك بشر أو طلبك بسوء بحسده لك لأن الحسد زوال النعمة عن المحسود وسواء أرادها أو لم يردها وهو شر الحسد .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- وجوب التعوذ بالله والاستعاذة بجنابه تعالى من كل مخوف لا يقدر المرء على دفعه لخفائه أو عدم القدرة عليه .
2- تحريم النفث في العقد إذ هو من السحر . والسحر كفر وحد الساحر ضربة بالسيف .
3- تحريم الحسد قطعياً وهو داء خطير حمل ابن آدم على قتل أخيه وحمل إخوة يوسف على الكيد له .
4- الغبطة ليست من الحسد لحديث الصحيح « ا حسد إلا في اثنتين إذ المراد به الغبطة » .
(4/436)
________________________________________
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
شرح الكلمات :
{ أعوذ } : أي أحصن وأستجير .
{ برب الناس } : أي خالقهم ومالكهم .
{ ملك الناس } : أي سيد الناس ومالكهم وحاكمهم .
{ إله الناس } : أي معبود الناس بحق إذ لا معبود سواه .
{ من شر الوسواس } : أي من شر الشيطان سمى بالمصدر لكثرة ملابسته له .
{ الخناس } : أي الذي يخنس ويتأخر عن القلب عند ذكر الله تعالى .
{ في صدور الناس } : أي في قلوبهم إذا غفلوا عن ذكر الله تعالى .
{ من الجنة والناس } : أي من شيطان الجن ومن شيطان الإِنس .
معنى الآيات :
قوله تعالى { قل أعوذ برب الناس } هذه السورة هي إحدى المعوذتين الأولى الفلق وهذه الناس والأولى اشتملت على أربع خصال يستعاذ منها وهي من شر كل ذي شيء من سائر الخلق والثانية من شر ما يحدث في الظلام ظلام الليل أو ظلام القمر إذا غاب والثالثة من شر السواحر النفاثات في العقد والرابعة من شر حاسد إذا حسد وقد اشتملت هذه الأربع على كل ما يخاف لأذاه وضرره أما سورة الناس فإِنها قد اشتملت على شر واحد إلا أنه أخطر من تلك الأربع وذلك لتعلقه بالقلب ، والقلب إذا فسد فسد كل شيء وإذا صلح صلح كل شيء ولذا كانت سورة الناس خاصة بالتعوذ من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس . فقوله تعالى { قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس } أمر منه تعالى لرسوله وأمته تابعة له أعوذ اي أتحصن برب الناس اي خالقهم ومالكهم وإلههم الذي لا إله لهم سواه من شر الوسواس الذي هو الشيطان الموسوس في صدور الناس وذلك بصوت خفي لا يسمع فيلقى الشبه في القلب ، والمخاوف والظنون الشيئة ويزين القبيح ويقبح الحسن وذلك متى غفل المرء عن ذكر الله تعالى ، وقوله تعالى { الخناس } هذا وصف للشيطان من الجن فإِنه إذا ذكر العبد ربه خنس أي استتر وكانه غاب ولم يغب فإِذا غفل العبد عن ذكر الله عاد للوسوسة .
وقوله تعالى { من الجنة والناس } يعني أن الموسوس للإِنسان كما يكون من الجن يكون من الناس والإِنسان يوسوس بمعنى يعمل عمل الشيطان في تزيين الشر وتحسين القبيح . والقاء الشبه في النفس ، وإثارة الهواجس والخواطر بالكلمات الفاسدة والعبارات المضللة حتى إن ضرر الإِنسان على الإِنسان أكبر من ضرر الشيطان على الإِنسان ، إذ الشيطان من الجن يطرد بالتسعاذة وشيطان الإِنس لا يطرد وإنما يصانع ويُدَارَى للتخلص منه اللهم إنا نعوذ بك من شر كل ذي شر ومن شر الإِنس والجن ، فأعذنا ربّنا فإِنه لا يعيذنا إلا أنت ربنا ولك الحمد والشكر .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- وجوب الاستعاذة بالله تعالى من شياطين الإِنس والجن .
2- تقرير ربوبية الله تعالى وألوهيته عز وجل .
3- بيان لفظ الاستعاذة وهو أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كما بيّنته السنة الصحيحة إذ تلاحى رجلان في الروضة النبوية فقال النبي صلى الله عليه وسلم « إني أعلم لو قالها هذا لذهب عنه أي الغضب : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم » .
(4/437)
________________________________________

Ebben a kötetben