ويحسبون أنهم مهتدون

يظن بعض أهل الكتاب بل الكثيرين منهم أنه بما أن قرآننا جاء بعدهم وهم أصحاب الكتاب الأول فهم أصدق مستشهدين ببعض الآيات التي يجدونها في قرآننا الكريم وهي تثني على كتبهم كقول الله تعالى " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور "وقوله تعالى " وآتيناه الإنجيل فيه هدى وتور "
بل وزرعوا في نفوس أبناءهم أنهم الأصدق والأقوم رغم ما قاموا به من تغيير وتحريف لعديد من نصوص كتبهم واستدلوا على ذلك بعدة أمور زينوها لأنفسهم رغم علمهم ببطلانها ومنها على سبيل المثال :
يزعمون أن التوراة أصدق لأن موسى عليه السلام تلقاها من الرب وجها لوجه ثم سلمها للكهنة من بني لاوي حاملي تابوت عهد الرب كما هي . بينما يزعمون أن القرآن الكريم تلقاه النبي محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام ثم انتقل إلى جوار ربه تعالى ؛ ولم يجمع القرآن الكريم في مصحف واحد بل قام من بعده الصحابة والتابعون بجمع المصحف مرة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وتم نسخ عدد منه في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه ثم تنقيط المصحف فيما بعد .
يزعمون أنه بما أن هناك آيات في القرآن توافق ما لديهم من نصوص إذن فما خالفهم من آيات إنما هي من عندنا لا من عند الله تعالى . والعديد من هذه المزاعم والتي نذكرها في حينها إن شاء الله تعالى :
كما ظن هؤلاء أنه مادام القرآن الكريم قد جاء يعد كتبهم ؛ فهم إذن أصدق ؛ كما أنه كان ينبغي على القرآن الكريم  أن يكون موافقا لما بين أيديهم ؛ هذا ما يعتقدونه ونسي هؤلاء أن القرآن الكريم كان في اللوح المحفوظ قبل التوراة والإنجيل بل قبل كل الكتب والخلق أيضا وادخره الله تعالى عنده كما ادخر له نبيه محمد صلى الله عليه وسلم  خير خلقه وأمة هي أيضا (خير أمة أخرجت للناس )
ثم أرسل الأنبياء في بني إسرائيل وأنزل عليهم التوراة والإنجيل والعجيب أنه ما من جيل من بني إسرائيل إلا وقد أرسل الله تعالى إليه أنبياء وهذا لأنهم إما يقتلون الأنبياء أو يعاندوهم أو يطاردوهم  ( فكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون ) ولذا سلط الله تعالى عليهم الأعداء فساموهم سوء العذاب حرقوا ديارهم بما فيها من علوم وكتب حتى التوراة .
ثم يمن الله تعالى عليهم فيرسل لهم من يأخذ بأيديهم إلى بر الأمان ولكنهم ما إن يستقروا حتى يعودوا إلى سالف عصرهم من قتل للأنبياء وطرد البعض الأخر حتى أصبحت أجيالهم جميعا كالكافرين من قوم نبي الله نوح عليه السلام الذين قال عنهم الحق تبارك وتعالى على لسان سيدنا نوح عليه السلام ( رب إنهم عصوني واتبعوا مالم يزده ماله وولده إلا خسارا .....ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا )
فعلم الحق سبحانه وتعالى أنه لم يعد فيهم خيرا فأرسل النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم  الذي كان مدخره لتلك اللحظة وأرسل معه صحابته الأخيار فكانوا نعم العون فساندوه وأيدوه وصبروا معه وتحملوا مالم يتحمله أحد هاجروا معه ؛ وقاموا بالمهمة بعد انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه على أكمل وجه.فلو كان في الأمم السابقة رجالا كأبي بكر الصديق وعمر وغيرهم من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين لما ضاعت كتبهم ولا تسببوا لأنفسهم في الإحتلال والسبي والتشريد  فالحمد لله رب العالمين .
ومع أن الله تعالى علم أن في أمتنا خيرا إلا أنه جل وعلا يعلم أن الإنسان بطبعه ضعيف -وإن كانت الأجيال الأولى من الأمة الإسلامية من القوة والعلم بمكان- إلا أن الحق جل وعلا تولى حفظ القرآن الكريم  وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ؛ثم جعل العلماء من امة محمد صلى الله عليه وسلم ورثة للنبي الكريم  لأن المنهج الذي بين أيديهم منهج سليم محفوظ بفضل الله وما يقوم به العلماء هو شرحه وتوضيحه للجيل الذي يعيشون بين ظهرانيهم مسترشدين بآراء السابقين .
وهذا يعني أن كل جيل مسلم يستقبل القرآن الكريم والسنة النبوية كما لو أنها أنزلت إليهم . ولا يعنى هذا أنا سلمنا التسليم المطلق دون فحص أو تمحيص بل لم يتعرض كتاب فى الأرض مثلما تعرض القرآن الكريم للفحص والنقد وشاء الله سبحانه وتعالى أن يبقى القرآن الكريم كما هو فلقد فعلت قريش الأفاعيل لتبطل القرآن فما استطاعوا ؛ حاول اليهود من بعدهم فعجزوا وبهتوا .
حاول النصارى بما أرسلوهم من مستشرقين ليدرسوا اللغة العربية ليفندوا القرآن الكريم فما زادهم إلا إيمانا وتسليما.رغم عناد بعضهم فلم يزد عنادهم القرآن إلا قوة ومكانة ولذا فالقرآن الكريم هو الكتاب الأول وإن كان نزل بعدهم ومن ثم فإن أردنا الإحنكام لابد أن نحتكم إلى الكتاب الأول الأصدق الذي حفظه الله تعالى على مر العصور والتاريخ يشهد بذلك فلم يتعرض القرآن لما تعرضت له التوراة أو لما نعرض له الإنجيل...
 فالآن لدى اليهود العديد من التوراة تحت مسمى العهد القديم ولدى النصارى العديد من الأناجيل تحث مسمى العهد الجديد أما نحن المسلمين فليس لدينا إلا قرآن واحد هو هو في مشارق الأرض ومغاربها فرغم ما تعرضت له البلاد الإسلامية للعديد من الإحتلال إلا أن القرآن الكريم لم تمتد إليه أي يد بسؤء . فالحمد لله رب العالمين .  وصدق الحق حين قال " وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد "
ونعرض قي هذا الكتاب عددا من الأمور التي حدثت في العصور السالفة والتي لم يذكرها اليهود ولا النصارى في كتبهم والتي تدل دلالة واضحة على أن القرآن الكريم إنما هو من عند الله تعالى لأنه لو كان نقلا مما جاء في كتبهم فكيف إذن استطاع القرآن أن يأتي بهذه القصص وتلك الشخصيات 
فنعرضها لك عزيزي القارئ لتعرف وتؤمن بأن القرآن الكريم إنما هو من عند الله تعالى لأن ماحكاه القرآن الكريم إما ليس لدى اليهود ولا النصارى به علم وإما مغاير تماما لما ذكر عندهم  فقد نجد بعض الشخصيات والأحداث ولكن الحديث عنهم يختلف تمام الاختلاف
والحق أنني بعد عون الله تعالى استعنت بالعديد من التفاسير في توضيح هذه الأحداث التي ذكرها القرآن الكريم ؛ وعلى رأسهم تفسير الإمام القرطبي رحمه الله تعالى حتى يكون للعرض قيمة ومتحليا بالصدق من أقوال العلماء الأجلاء
ولله الحمد رب العالمين

 

 

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

 

{ويحسبون أنهم مهتدون }

إعداد

/ أ / أحمد إسماعيل زيد

محاضر بالأكاديمية الإسلامية 

لدراسات الأديان والمذاهب

محاضر بقناة الأمة الفضائية

 

 

 

المقدمة

يظن بعض أهل الكتاب بل الكثيرين منهم أنه بما أن قرآننا جاء بعدهم وهم أصحاب الكتاب الأول فهم أصدق مستشهدين ببعض الآيات التي يجدونها في قرآننا الكريم وهي تثني على كتبهم كقول الله تعالى " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور "وقوله تعالى " وآتيناه الإنجيل فيه هدى وتور "

بل وزرعوا في نفوس أبناءهم أنهم الأصدق والأقوم رغم ما قاموا به من تغيير وتحريف لعديد من نصوص كتبهم واستدلوا على ذلك بعدة أمور زينوها لأنفسهم رغم علمهم ببطلانها ومنها على سبيل المثال :

يزعمون أن التوراة أصدق لأن موسى عليه السلام تلقاها من الرب وجها لوجه ثم سلمها للكهنة من بني لاوي حاملي تابوت عهد الرب كما هي . بينما يزعمون أن القرآن الكريم تلقاه النبي محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام ثم انتقل إلى جوار ربه تعالى ؛ ولم يجمع القرآن الكريم في مصحف واحد بل قام من بعده الصحابة والتابعون بجمع المصحف مرة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وتم نسخ عدد منه في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه ثم تنقيط المصحف فيما بعد .

يزعمون أنه بما أن هناك آيات في القرآن توافق ما لديهم من نصوص إذن فما خالفهم من آيات إنما هي من عندنا لا من عند الله تعالى . والعديد من هذه المزاعم والتي نذكرها في حينها إن شاء الله تعالى :

كما ظن هؤلاء أنه مادام القرآن الكريم قد جاء يعد كتبهم ؛ فهم إذن أصدق ؛ كما أنه كان ينبغي على القرآن الكريم  أن يكون موافقا لما بين أيديهم ؛ هذا ما يعتقدونه ونسي هؤلاء أن القرآن الكريم كان في اللوح المحفوظ قبل التوراة والإنجيل بل قبل كل الكتب والخلق أيضا وادخره الله تعالى عنده كما ادخر له نبيه محمد صلى الله عليه وسلم  خير خلقه وأمة هي أيضا (خير أمة أخرجت للناس )

ثم أرسل الأنبياء في بني إسرائيل وأنزل عليهم التوراة والإنجيل والعجيب أنه ما من جيل من بني إسرائيل إلا وقد أرسل الله تعالى إليه أنبياء وهذا لأنهم إما يقتلون الأنبياء أو يعاندوهم أو يطاردوهم  ( فكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون ) ولذا سلط الله تعالى عليهم الأعداء فساموهم سوء العذاب حرقوا ديارهم بما فيها من علوم وكتب حتى التوراة .

ثم يمن الله تعالى عليهم فيرسل لهم من يأخذ بأيديهم إلى بر الأمان ولكنهم ما إن يستقروا حتى يعودوا إلى سالف عصرهم من قتل للأنبياء وطرد البعض الأخر حتى أصبحت أجيالهم جميعا كالكافرين من قوم نبي الله نوح عليه السلام الذين قال عنهم الحق تبارك وتعالى على لسان سيدنا نوح عليه السلام ( رب إنهم عصوني واتبعوا مالم يزده ماله وولده إلا خسارا .....ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا )

فعلم الحق سبحانه وتعالى أنه لم يعد فيهم خيرا فأرسل النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم  الذي كان مدخره لتلك اللحظة وأرسل معه صحابته الأخيار فكانوا نعم العون فساندوه وأيدوه وصبروا معه وتحملوا مالم يتحمله أحد هاجروا معه ؛ وقاموا بالمهمة بعد انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه على أكمل وجه.فلو كان في الأمم السابقة رجالا كأبي بكر الصديق وعمر وغيرهم من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين لما ضاعت كتبهم ولا تسببوا لأنفسهم في الإحتلال والسبي والتشريد  فالحمد لله رب العالمين .

ومع أن الله تعالى علم أن في أمتنا خيرا إلا أنه جل وعلا يعلم أن الإنسان بطبعه ضعيف -وإن كانت الأجيال الأولى من الأمة الإسلامية من القوة والعلم بمكان- إلا أن الحق جل وعلا تولى حفظ القرآن الكريم  وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ؛ثم جعل العلماء من امة محمد صلى الله عليه وسلم ورثة للنبي الكريم  لأن المنهج الذي بين أيديهم منهج سليم محفوظ بفضل الله وما يقوم به العلماء هو شرحه وتوضيحه للجيل الذي يعيشون بين ظهرانيهم مسترشدين بآراء السابقين .

وهذا يعني أن كل جيل مسلم يستقبل القرآن الكريم والسنة النبوية كما لو أنها أنزلت إليهم . ولا يعنى هذا أنا سلمنا التسليم المطلق دون فحص أو تمحيص بل لم يتعرض كتاب فى الأرض مثلما تعرض القرآن الكريم للفحص والنقد وشاء الله سبحانه وتعالى أن يبقى القرآن الكريم كما هو فلقد فعلت قريش الأفاعيل لتبطل القرآن فما استطاعوا ؛ حاول اليهود من بعدهم فعجزوا وبهتوا .

حاول النصارى بما أرسلوهم من مستشرقين ليدرسوا اللغة العربية ليفندوا القرآن الكريم فما زادهم إلا إيمانا وتسليما.رغم عناد بعضهم فلم يزد عنادهم القرآن إلا قوة ومكانة ولذا فالقرآن الكريم هو الكتاب الأول وإن كان نزل بعدهم ومن ثم فإن أردنا الإحنكام لابد أن نحتكم إلى الكتاب الأول الأصدق الذي حفظه الله تعالى على مر العصور والتاريخ يشهد بذلك فلم يتعرض القرآن لما تعرضت له التوراة أو لما نعرض له الإنجيل...

 فالآن لدى اليهود العديد من التوراة تحت مسمى العهد القديم ولدى النصارى العديد من الأناجيل تحث مسمى العهد الجديد أما نحن المسلمين فليس لدينا إلا قرآن واحد هو هو في مشارق الأرض ومغاربها فرغم ما تعرضت له البلاد الإسلامية للعديد من الإحتلال إلا أن القرآن الكريم لم تمتد إليه أي يد بسؤء . فالحمد لله رب العالمين .  وصدق الحق حين قال " وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد "

ونعرض قي هذا الكتاب عددا من الأمور التي حدثت في العصور السالفة والتي لم يذكرها اليهود ولا النصارى في كتبهم والتي تدل دلالة واضحة على أن القرآن الكريم إنما هو من عند الله تعالى لأنه لو كان نقلا مما جاء في كتبهم فكيف إذن استطاع القرآن أن يأتي بهذه القصص وتلك الشخصيات 

فنعرضها لك عزيزي القارئ لتعرف وتؤمن بأن القرآن الكريم إنما هو من عند الله تعالى لأن ماحكاه القرآن الكريم إما ليس لدى اليهود ولا النصارى به علم وإما مغاير تماما لما ذكر عندهم  فقد نجد بعض الشخصيات والأحداث ولكن الحديث عنهم يختلف تمام الاختلاف

والحق أنني بعد عون الله تعالى استعنت بالعديد من التفاسير في توضيح هذه الأحداث التي ذكرها القرآن الكريم ؛ وعلى رأسهم تفسير الإمام القرطبي رحمه الله تعالى حتى يكون للعرض قيمة ومتحليا بالصدق من أقوال العلماء الأجلاء

ولله الحمد رب العالمين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

محتويات الكتاب

نقاط ذكرها القرآن الكريم ولم تذكر في العهد القديم أو الجديد

1-البقرة  ص//6

2-ابني آدم ص//15

3-أصحاب السبت ص//25

4-المائدة ص//30

5-ذو القرنين ص//35

6-أم موسى ص//47

7-امرأة فرعون ص//51

8-ابن نوح وامرأة نوح ولوط ص//52

9-قارون ص//66

10-أم السيدة مريم ص//73

11-العبد الصالح مع موسى ص//106

12-هاروت وماروت ص//125

13-إبراهيم مع النمروذ ص//130

14-إبراهيم والنار ص//132

15-عاد وثمود ص//138

المراجع ص//144

 

1-البقرة

الآية 67 {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}-          فيه أربع مسائل

 الأولى : قوله تعالى : {إن الله يأمركم} {أَنْ تَذْبَحُوا} {بَقَرَةً}

الثانية : قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} مقدم في التلاوة وقوله {قَتَلْتُمْ نَفْساً} مقدم في المعنى على جميع ما ابتدأ به من شأن البقرة. ويجوز أن يكون قوله : "قتلتم" في النزول مقدما ، والأمر بالذبح مؤخرا.

ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها ، فكأن الله أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها ثم وقع ما وقع في أمر القتل ، فأمروا أن يضربوه ببعضها ، ويكون "وإذ قتلتم" مقدما في المعنى على القول الأول حسب ما ذكرنا ، لأن الواو لا توجب الترتيب.

ونظيره في التنزيل في قصة نوج بعد ذكر الطوفان وانقضائه في قوله : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ إلى قوله- إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود : 40]. فذكر إهلاك من هلك منهم ثم عطف عليه بقوله : {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود : 41]. فذكر الركوب متأخرا في الخطاب ، ومعلوم أن ركوبهم كان قبل الهلاك. وكذلك قوله تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قِيَماً} [هود : 19]. وتقديره : أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا ، ومثله في القرآن كثير.
الثالثة : لا خلاف بين العلماء أن الذبح أولى في الغنم ، والنحر أولى في الإبل ، والتخير في البقر. وقيل : الذبح أولى ، لأنه الذي ذكره الله ، ولقرب المنحر من المذبح.

 قال الماوردي : وإنما أمروا - والله أعلم - بذبح بقرة دون غيرها ، لأنها من جنس ما عبدوه من العجل ليهون عندهم ما كان يرونه من تعظيمه ، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من عبادته. وهذا المعنى علة في ذبح البقرة ، وليس بعلة في جواب السائل ، ولكن المعنى فيه أن يحيا القتيل بقتل حي ، فيكون أظهر لقدرته في اختراع الأشياء من أضدادها.
الرابعة : قوله تعالى : {بَقَرَةً} البقرة اسم للأنثى ، والثور اسم للذكر مثل ناقه وجمل وامرأة ورجل. وقيل : البقرة واحد البقر ، الأنثى والذكر سواء. واصله من قولك :

بقر بطنه ، أي شقه ، فالبقرة تشق الأرض بالحرث وتثيره.

 ومنه الباقر لأبى جعفر محمد بن علي زين العابدين ، لأنه بقر العلم وعرف أصله ، أي شقه.
قوله تعالى : {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} هذا جواب منهم لموسى عليه السلام لما قال ، لهم : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة : 67] وذلك أنهم وجدوا قتيلا بين أظهرهم قيل : اسمه عاميل واشتبه أمر قاتله عليهم ، ووقع بينهم خلاف ، فقالوا : نقتتل ورسول الله بين أظهرنا ، فأتوه وسألوه البيان - وذلك قبل نزول القسامة في التوراة ، فسألوا موسى أن يدعو الله فسأل موسى عليه السلام ربه فأمرهم بذبح بقرة ، فلما سمعوا ذلك من موسى وليس في ظاهره جواب عما سألوه عنه واحتكموا فيه عنده ، قالوا : أتتخذنا هزؤا ؟ والهزء : اللعب والسخرية

فأجابهم موسى عليه السلام بقوله : {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة : 67] لأن الخروج عن جواب السائل المسترشد إلى الهزء جهل ، فاستعاذ منه عليه السلام ، لأنها صفة تنتفي عن الأنبياء.

والجهل نقيض العلم. فاستعاذ من الجهل ، كما جهلوا في قولهم : أتتخذنا هزؤا ، لمن يخبرهم عن الله تعالى ، وظاهر هذا القول يدل على فساد اعتقاد من قاله. ولا يصح إيمان من قال لنبي قد ظهرت معجزته ، وقال : إن الله يأمرك بكذا : أتتخذنا هزؤا ؟ ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبي صلى لوجب تكفيره. وذهب قوم إلى أن ذلك منهم على جهة غلظ الطبع والجفاء والمعصية ، على نحو ما قال القائل للنبي صلى الله عليه وسلم في قسمة غنائم حنين : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله. وكما قال له الآخر : اعدل يا محمد وفي هذا كله أدل دليل على قبح الجهل ، وأنه مفسد للدين.
قوله تعالى : {هُزُواً} مفعول ثان ، في الآية دليل على منع الاستهزاء بدين الله ودين المسلمين ومن يجب تعظيمه ، وأن ذلك جهل وصاحبه مستحق للوعيد.

الآية 68 {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ}
قوله تعالى : {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} هذا تعنيت منهم وقلة طواعية ، ولو امتثلوا الأمر وذبحوا أي بقرة كانت لحصل المقصود ، لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم
قوله تعالى : {يُبَيِّنْ} مجزوم على جواب الأمر ، {مَا هِيَ} ابتداء وخبر وماهية الشيء : حقيقته وذاته التي هو عليها.
قوله تعالى : {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} في هذا دليل على جواز النسخ قبل وقت الفعل ، لأنه لما أمر ببقرة اقتضى أي بقرة كانت ، فلما زاد في الصفة نسخ الحكم الأول بغيره ،

"لا فارض" رفع على الصفة لبقرة. "ولا بكر" عطف. وقيل : "لا فارض" خبر مبتدأ مضمر ، أي لا هي فارض وكذا "لا ذلول" ، وكذلك "لا تسق الحرث" وكذلك "مسلمة" فاعلمه. وقيل : الفارض التي قد ولدت بطونا كثيرة فيتسع جوفها لذلك ، لأن معنى الفارض في اللغة الواسع ، قال بعض المتأخرين. والبكر : الصغيرة التي لم تحمل. والبكر : الأول من الأولاد
والبكر أيضا في إناث البهائم وبني آدم : ما لم يفتحله الفحل. والعوان : النصف التي قد ولدت بطنا أو بطنين ، وهي أقوى ما تكون من البقر وأحسنه ،
قوله تعالى : {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} تجديد للأمر وتأكيد وتنبيه على ترك التعنت فما تركوه وهذا يدل على أن مقتضى الأمر الوجوب كما تقول الفقهاء ، وهو الصحيح على ما هو مذكور في أصول الفقه ، وعلى أن الأمر على الفور ، وهو مذهب أكثر الفقهاء أيضا ويدل على صحة ذلك أنه تعالى استقصرهم حين لم يبادروا إلى فعل ما أمروا به فقال :

{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة : 71]. وقيل : لا ، بل على التراخي ، لأنه لم يعنفهم على التأخير والمراجعة في الخطاب.
الآية 69 {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}
قوله تعالى : {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا}  قوله : {صَفْرَاءُ} جمهور المفسرين أنها صفراء اللون ، من الصفرة المعروفة. قال مكي عن بعضهم : حتى القرن والظلف. وقال الحسن وابن جبير : كانت صفراء القرن والظلف فقط.

يقال فقع لونها يفقع فقوعا إذا خلصت صفرته قوله تعالى : {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} يريد خالصا لونها لا لون فيها سوى لون جلدها.
قوله تعالى : {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} قال وهب : كأن شعاع الشمس يخرج من جلدها ، ولهذا قال ابن عباس : الصفرة تسر النفس.
الآية 70 {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ}
قوله تعالى : {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} سألوا سؤالا رابعا ، ولم يمتثلوا الأمر بعد البيان. وذكر البقر لأنه بمعنى الجمع ، ولذلك قال : "إن البقر تشابه علينا" فذكره للفظ تذكير البقر.

وقيل إنما قالوا : {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} لأن وجوه البقر تشابه ، ومنه حديث حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر "فتنا كقطع الليل تأتي كوجوه البقر". يريد أنها يشبه بعضها بعضا. ووجوه البقر تتشابه ، ولذلك قالت بنو إسرائيل : إن البقر تشابه علينا.
قوله تعالى : {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} استثناء منهم ، وفي استثنائهم في هذا السؤال الأخير إنابة وانقياد ، ودليل ندم على عدم موافقة الأمر. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لوما استثنوا ما اهتدوا إليها أبدا" . وتقدير الكلام وإنا لمهتدون إن شاء الله. فقدم على ذكر الاهتداء اهتماما به. و"شاء"
الآية 71 {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}
قوله تعالى : {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} قرأ الجمهور "لا ذلول" بالرفع على ، الصفة لبقرة. قال الأخفش : "لا ذلول" نعته ولا يجوز نصبه. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي "لا ذلول" بالنصب على النفي والخبر مضمر. ويجوز لا هي ذلول ، لا هي تسقى الحرث ، هي مسلمة. ومعنى "لا ذلول" لم يذللها العمل ، يقال : بقرة مذللة بينة الذل "بكسر الذال". ورجل ذليل بين الذل "بضم الذال". أي هي بقرة صعبة غير ريضة لم تذلل بالعمل.

قوله تعالى : {تُثِيرُ الأَرْضَ} "تثير" في موضع رفع على الصفة للبقرة أي هي بقرة لا ذلول مثيرة. قال الحسن : وكانت تلك البقرة وحشية ولهذا وصفها الله تعالى بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث أي لا يسنى بها لسقي الزرع ولا يسقى عليها. والوقف ههنا حسن. وقال قوم : "تثير" فعل مستأنف والمعنى إيجاب الحرث لها وأنها كانت تحرث ولا تسقي. والوقف على هذا التأويل "لا ذلول" والقول الأول أصح لوجهين : أحدهما : ما ذكره النحاس ، عن علي بن سليمان أنه قال : لا يجوز أن يكون "تثير" مستأنفا ، لأن بعده "ولا تسقي الحرث" ، فلو كان مستأنفا لما جمع بين الواو و"لا". الثاني أنها لو كانت تثير الأرض لكانت الإثارة قد ذللتها ، والله تعالى قد نفى عنها الذل بقوله : {لا ذَلُولٌ} قلت : ويحتمل أن تكون {تُثِيرُ الأَرْضَ} في غير العمل مرحا
فعلى هذا يكون "تثير" مستأنفا ، "ولا تسقي" معطوف عليه ، فتأمله. وإثارة الأرض : تحريكها وبحثها ، ومنه الحديث : "أثيروا القرآن فإنه علم الأولين والآخرين" وفي رواية أخرى : "من أراد العلم فليثور القرآن" وقد تقدم. وفي التنزيل : {وَأَثَارُوا الأَرْضَ} [الروم : 9] أي قلبوها للزراعة. والحرث : ما حرث وزرع.
مسألة : في هذه الآية أدل دليل على حصر الحيوان بصفاته ، وإذا ضبط بالصفة وحصر بها جاز السلم فيه. وبه قال مالك وأصحابه والأوزاعي والليث والشافعي. وكذلك كل ما يضبط بالصفة ، لوصف الله تعالى في كتابه وصفا يقوم مقام التعيين ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها" . أخرجه مسلم. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الصفة تقوم مقام الرؤية ، وجعل صلى الله عليه وسلم دية الخطأ في ذمة من أوجبها عليه دينا إلى أجل ولم يجعلها على الحلول.

قوله تعالى : {مُسَلَّمَةٌ} أي هي مسلمة. ويجوز أن يكون وصفا ، أي أنها بقرة مسلمة من العرج وسائر العيوب ، قاله قتادة وأبو العالية. ولا يقال : مسلمة من العمل لنفي الله العمل عنها. وقال الحسن : يعني سليمة القوائم لا أثر فيها للعمل.
قوله تعالى : {لا شِيَةَ فِيهَا} أي ليس فيها لون يخالف معظم لونها ، هي صفراء كلها لا بياض فيها ولا حمرة ولا سواد ، كما قال : {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} . وأصل "شية" وشي حذفت الواو كما حذفت من يشي ، والأصل يوشي ، ونظيره الزنة والعدة والصلة. والشية مأخوذة من وشي الثوب إذا نسج على لونين مختلفين
وهذه الأوصاف في البقرة سببها أنهم شددوا فشدد الله عليهم ، ودين الله يسر ، والتعمق في سؤال الأنبياء وغيرهم من العلماء مذموم ، نسأل الله العافية.

وروي في قصص هذه البقرة روايات تلخيصها : أن رجلا من بني إسرائيل ولد له ابن ، وكانت له عجلة فأرسلها في غيضة وقال : اللهم إني أستودعك هذه العجلة لهذا الصبي. ومات الرجل ، فلما كبر الصبي قالت له أمه وكان برا بها : إن أباك استودع الله عجلة لك فاذهب فخذها ، فذهب فلما رأته البقرة جاءت إليه حتى أخذ بقرنيها وكانت مستوحشة فجعل يقودها نحو أمه ، فلقيه بنو إسرائيل ووجدوا بقرة على الصفة التي أمروا بها ، فساموه فاشتط عليهم.

وكان قيمتها على ما روي عن عكرمة ثلاثة دنانير ، فأتوا به موسى عليه السلام وقالوا : إن هذا اشتط علينا ، فقال لهم : أرضوه في ملكه ، فاشتروها منه بوزنها مرة ، قاله عبيدة. السدي : بوزنها عشر مرات. وقيل : بملء مسكها دنانير.
قوله تعالى : {قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي بينت الحق قوله تعالى : {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} أجاز سيبويه : كاد أن يفعل ، تشبيها بعسى. وقد تقدم أول السورة. وهذا إخبار عن تثبيطهم في ذبحها وقلة مبادرتهم إلى أمر الله. وقال القرظي محمد بن كعب : لغلاء ثمنها. وقيل : خوفا من الفضيحة على أنفسهم في معرفة القاتل منهم ،
الآية 72 {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}
قوله تعالى : {قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} هذا الكلام مقدم على أول القصة ، التقدير : وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها. فقال موسى : إن الله يأمركم بكذا.

وفي سبب قتله قولان : أحدهما : لابنة له حسناء احب أن يتزوجها ابن عمها فمنعه عمه ، فقتله وحمله من قريته إلى قرية أخرى فألقاه هناك. وقيل : ألقاه بين قريتين. الثاني : قتله طلبا لميراثه ، فإنه كان فقيرا وادعى قتله على بعض الأسباط. قال عكرمة : كان لبني إسرائيل مسجد له اثنا عشر بابا لكل باب قوم يدخلون منه ، فوجدوا قتيلا في سبط من الأسباط ، فادعى هؤلاء على هؤلاء ، وادعى هؤلاء على هؤلاء ، ثم أتوا موسى يختصمون إليه فقال : {نَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة : 67] الآية. ومعنى "ادارأتم} [البقرة : 72] الآية. ومعنى "ادارأتم" : اختلفتم وتنازعتم ، قال مجاهد. وأصله تدارأتم ثم أدغمت التاء في الدال ، ولا يجوز الابتداء بالمدغم ، لأنه ساكن فزيد ألف الوصل.
قوله تعالى : {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ} ابتداء وخبر. {مَا كُنْتُمْ} في موضع نصب بـ "مخرج" ، ويجوز حذف التنوين على الإضافة. {
تكْتُمُونَ} جمله في موضع خبر كان والعائد محذوف التقدير تكتمونه.
وعلى القول بأنه قتله طلبا لميراثه لم يرث قاتل عمد من حينئذ ، قاله عبيدة السلماني. قال ابن عباس : قتل هذا الرجل عمه ليرثه. قال ابن عطية : وبمثله جاء شرعنا. وحكى مالك رحمه الله في "موطئه" أن قصة أحيحة بن الجلاح في عمه هي كانت سبب ألا يرث قاتل ،

الآية 73 {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
قوله تعالى : {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} قيل : باللسان لأنه آلة الكلام. وقيل : بعجب الذنب ، إذ فيه يركب خلق الإنسان. وقيل : بالفخذ. وقيل : بعظم من عظامها ، والمقطوع به عضو من أعضائها ، فلما ضرب به حيي وأخبر بقاتله ثم عاد ميتا كما كان.
مسألة : استدل مالك رحمه الله في رواية ابن وهب وابن القاسم على صحة القول بالقسامة بقول المقتول : دمي عند فلان ، أو فلان قتلني. ومنعه الشافعي وجمهور العلماء ، قالوا : وهو الصحيح ، لأن قول المقتول : دمي عند فلان ، أو فلان قتلني ، خبر يحتمل الصدق والكذب. ولا خلاف أن دم المدعى عليه معصوم إباحته إلا بيقين ، ولا يقين مع الاحتمال ، فبطل اعتبار قول المقتول دمي عند فلان. وأما قتيل بني إسرائيل فكانت معجزة وأخبر تعالى أنه يحييه ، وذلك يتضمن الإخبار بقاتله خبرا جزما لا يدخله احتمال ، فافترقا. قال ابن العربي : المعجزة كانت في إحيائه ، فلما صار حيا كان كلامه كسائر كلام الناس كلهم في القبول والرد. وهذا فن دقيق من العلم لم يتفطن له إلا مالك ، وليس في القرآن أنه إذا أخبر وجب صدقه ، فلعله أمرهم بالقسامة معه واستبعد ذلك البخاري والشافعي وجماعة من العلماء فقالوا : كيف يقبل قوله في الدم وهو لا يقبل قوله في درهم.
مسألة : اختلف العلماء في الحكم بالقسامة ، فروي عن سالم وأبي قلابة وعمر بن عبدالعزيز والحكم بن عيينة التوقف في الحكم بها. وإليه مال البخاري ، لأنه أتى بحديث القسامة في غير موضعه. وقال الجمهور : الحكم بالقسامة ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم اختلفوا في كيفية الحكم بها ، فقالت طائفة : يبدأ فيها المدعون بالأيمان فإن حلفوا] استحقوا ، وإن نكلوا حلف المدعى عليهم خمسين يمينا وبرئوا. هذا قول أهل المدينة والليث والشافعي وأحمد وأبي ثور. وهو مقتضى حديث حويصة ومحيصة ، خرجه الأئمة مالك وغيره. وذهبت

طائفة إلى أنه يبدأ بالأيمان المدعى عليهم فيحلفون ويبرؤون. روي هذا عن عمر بن الخطاب والشعبي والنخعي ، وبه قال الثوري والكوفيون ، واحتجوا بحديث شعبة بن عبيد عن بشير بن يسار ، وفيه : فبدأ بالأيمان المدعى عليهم وهم اليهود. وبما رواه أبو داود عن الزهري عن أبى سلمة بن عبدالرحمن عن رجال من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود وبدأ بهم : "أيحلف منكم خمسون رجلا" . فأبو ا ، فقال للأنصار : "استحقوا" فقالوا : نحلف على الغيب يا رسول الله فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم دية على يهود ، لأنه وجد بين أظهرهم. وبقوله عليه السلام : "ولكن اليمين على المدعى عليه" فعينوا.
قوله تعالى : {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} أي كما أحيا هذا بعد موته كذلك يحيي الله كل من مات فالكاف في موضع نصب ، لأنه نعت لمصدر محذوف {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} أي علاماته وقدرته. "لعلكم تعقلون" كي تعقلوا وقد تقدم أي تمتنعون من عصيانه وعقلت نفسي عن كذا أي منعتها منه والمعاقل : الحصون.
الآية 74 {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
قوله تعالى : {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} القسوة : الصلابة والشدة واليبس وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى. قال أبو العالية وقتادة وغيرهما :

المراد قلوب جميع بني إسرائيل. وقال ابن عباس : المراد قلوب ورثة القتيل ، لأنهم حين حيي وأخبر بقاتله وعاد إلى موته أنكروا قتله ، وقالوا : كذب ، بعد ما رأوا هذه الآية العظمى ، فلم يكونوا قط أعمى قلوبا ، ولا أشد تكذيبا لنبيهم منهم عند ذلك ، لكن نفذ حكم الله بقتله. روى الترمذي عن عبدالله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي" . وفي مسند البزار عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أربعة من الشقاء جمود العين وقساء القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا" .
قوله تعالى : {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} "أو" قيل هي بمعنى الواو كما قال : {آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان : 24]. {عُذْراً أَوْ نُذْراً}

وقال الشاعر :  نال الخلافة أو كانت له قدرا
أي وكانت. وقيل : هي بمعنى بل ، كقوله تعالى : {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات : 147] المعنى بل يزيدون. وقال الشاعر :
بدت مثل الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أو أنت في العين أملح
أي بل أنت وقيل : معناها الإبهام على المخاطب ، ومنه قول أبي الأسود الدؤلي :
أحب محمدا حبا شديدا ... وعباسا وحمزة أو عليا
فإن يك حبهم رشدا أصبه ... ولست بمخطئ إن كان غيا
ولم يشك أبو الأسود أن حبهم رشد ظاهر ، وإنما قصد الإبهام. وقد قيل لأبي الأسود حين قال ذلك : شككت قال : كلا ، ثم استشهد بقوله تعالى : {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ : 24] وقال : أو كان شاكا من أخبر بهذا! وقيل : معناها التخيير ، أي شبهوها بالحجارة تصيبوا ، أو بأشد من الحجارة تصيبوا ، وهذا كقول القائل : جالس الحسن أو ابن سيرين ، وتعلم الفقه أو الحديث أو النحو. قيل : بل هي على بابها من الشك ، ومعناها عندكم أيها المخاطبون وفي نظركم أن لو شاهدتم قسوتها لشككتم : أهي كالحجارة أو أشد من الحجارة ؟ وقد قيل هذا المعنى في قوله تعالى : {إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات : 147] وقالت فرقة : إنما أراد الله تعالى أن فيهم من قلبه كالحجر ، وفيهم من قلبه أشد من الحجر فالمعنى : هم فرقتان.
{أَوْ أَشَدُّ} أشد مرفوع بالعطف على موضع الكاف في قوله "كالحجارة" ، لأن المعنى فهي مثل الحجارة أو أشد. ويجوز أو "أشد" بالفتح عطف على الحجارة. و {قَسْوَةً} نصب على التمييز. وقرأ أبو حيوة "قساوة" والمعنى واحد.
قوله تعالى : {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} قد تقدم معنى الانفجار. ويشقق أصله بتشقق ، أدغمت التاء في الشين ، وهذه عبارة عن العيون التي لم تعظم حتى تكون أنهارا ، أو عن الحجارة التي تتشقق وإن لم يجر ماء منفسح. وقرأ ابن مصرف "ينشقق" بالنون ، وقرأ "لما يتفجر" "لما يتشقق" بتشديد "لما" في الموضعين. وهي قراءة غير متجهة. وقرأ مالك بن دينار "ينفجر" بالنون وكسر الجيم. قال قتادة : عذر الحجارة ولم يعذر شقي بني آدم. قال أبو حاتم : يجوز لما تتفجر بالتاء ، ولا يجوز لما تتشقق بالتاء ، لأنه إذا قال تتفجر أنثه بتأنيث الأنهار ، وهذا لا يكون في تشقق. قال النحاس : يجوز ما أنكره على المعنى ، لأن المعنى وأن منها لحجارة تتشقق ، وأما يشقق فمحمول على لفظ ما. والشق واحد الشقوق ، فهو في الأصل مصدر ، تقول : بيد فلان ورجليه شقوق ، ولا تقل : شقاق ، إنما الشقاق داء يكون بالدواب ، وهو تشقق يصيب أرساغها وربما ارتفع إلى وظيفها ، عن يعقوب. والشق : الصبح. و"ما" في قوله :

{لَمَا يَتَفَجَّرُ} في موضع نصب ، لأنها اسم إن واللام للتأكيد. "منه" على لفظ ما ، ويجوز منها على المعنى ، وكذلك {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} . وقرأ قتادة "وإن" في الموضعين ، مخففة من الثقيلة.
قوله تعالى : {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} يقول إن من الحجارة ما هو أنفع من قلوبكم ، لخروج الماء منها وترديها. قال مجاهد : ما تردى حجر من رأس جبل ، ولا تفجر نهر. من حجر ، ولا خرج منه ماء إلا من خشية الله ، نزل بذلك القرآن الكريم. ومثله عن ابن جريج. وقال بعض المتكلمين في قوله : "وإن منها لما يهبط من خشية الله" : البرد الهابط من السحاب. وقيل : لفظة الهبوط مجاز ، وذلك أن الحجارة لما كانت القلوب تعتبر بخلقها ، وتخشع بالنظر إليها ، أضيف تواضع الناظر إليها ، كما قالت العرب : ناقة تاجرة ، أي تبعث من يراها على شرائها. وحكى الطبري عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة ، كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله : {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} ، وكما قال زيد الخيل :
لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع
وذكر ابن بحر أن الضمير في قوله تعالى : {وَإِنَّ مِنْهَا} راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة أي من القلوب لما يخضع من خشيه الله.
قلت : كل ما قيل يحتمله اللفظ ، والأول صحيح ، فإنه لا يمتنع أن يعطى بعض الجمادات المعرفة فيعقل ، كالذي روي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب ، فلما تحول عنه حن ، وثبت عنه أنه قال : "إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية

إني لأعرفه الآن" . وكما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "قال لي ثبير اهبط فإني أخاف أن يقتلوك على ظهري فيعذبني الله" . فناداه حراء : إلي يا رسول الله. وفي التنزيل : {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب : 72] الآية. وقال : {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر : 21] يعني تذللا وخضوعا ، وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة "سبحان" إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى : {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} "بغافل" في موضع نصب على لغة أهل الحجاز ، وعلى لغة تميم في موضع رفع. والياء توكيد {عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي عن عملكم حتى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا يحصيها عليكم ، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة : 7 ، 8] ولا تحتاج "ما" إلى عائد إلا أن يجعلها بمعنى الذي فيحذف العائد لطول الاسم ، أي عن الذي تعملونه. وقرأ ابن كثير "يعلمون" بالياء ، والمخاطبة على هذا لمحمد عليه السلام.

2-ابني آدم

27- { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ }

يقول الإمام القرطبي : فيه مسألتان : -
الأولى- قوله تعالى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ } اتصال هذه الآية بما قبلها وهو  التنبيه من الله تعالى على أن ظلم اليهود ، ونقضهم المواثيق والعهود كظلم ابن آدم لأخيه. المعنى : إن هم هؤلاء اليهود بالفتك بك يا محمد فقد قتلوا قبلك الأنبياء ، وقتل قابيل هابيل ، والشر قديم. أي ذكرهم هذه القصة فهي قصة صدق ، لا كالأحاديث الموضوعة ؛ وفي ذلك تبكيت لمن خالف الإسلام ، وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.

ابني آدم : وهما قابيل وهابيل . وكان قربان قابيل حزمة من سنبل - لأنه كان صاحب زرع - واختارها من أردأ زرعه ، ثم إنه وجد فيها سنبلة طيبة ففركها وأكلها. وكان قربان هابيل كبشا - لأنه كان صاحب غنم - أخذه من أجود غنمه. { فَتُقُبَِّّل } فرفع إلى الجنة ، فلم يزل يرعى فيها إلى أن فدي به الذبيح إسماعيل عليه السلام ؛ قاله سعيد بن جبير وغيره.

 فلما تقبل قربان هابيل -لأنه كان مؤمنا- قال له قابيل حسدا : -لأنه كان كافرا - أتمشي على الأرض يراك الناس أفضل مني! { لأَقْتُلَنَّكَ } وقيل : سبب هذا القربان أن حواء عليها السلام كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى - إلا شيثا عليه السلام فإنها ولدته منفردا عوضا من هابيل ، واسمه هبة الله ؛ لأن جبريل عليه السلام قال لحواء لما ولدته : هذا هبة الله لك بدل هابيل. وكان آدم يوم ولد شيث ابن ثلاثين ومئة سنة - وكان يزوج الذكر من هذا البطن الأنثى من البطن الآخر ، ولا تحل له أخته توأمته ؛ فولدت مع قابيل أختا جميلة واسمها إقليمياء ، ومع هابيل أختا ليست كذلك واسمها ليوذا ؛ فلما أراد آدم تزويجهما قال قابيل : أنا أحق بأختي ، فأمره آدم فلم يأتمر ، وزجره فلم ينزجر ؛ فاتفقوا على التقريب ؛ قال جماعة من المفسرين منهم ابن مسعود. وروي أن آدم حضر ذلك. والله أعلم.

الثانية- وفي قول هابيل { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } كلام قبله محذوف ؛ لأنه لما قال له قابيل : { لأَقْتُلَنَّكَ } قال له : ولم تقتلني وأنا لم أجن شيئا ؟ ، ولا ذنب لي في قبول الله قرباني ، أما إني أتقيته وإنما يتقبل الله من المتقين.

وقال عدي بن ثابت وغيره : قربان متقي هذه الأمة الصلاة. قلت : وهذا خاص في نوع من العبادات. وقد روى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله تبارك وتعالى قال من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته" .

28- { لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ }
29- {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ }
وفيه مسألتان :
الأولى- قوله تعالى : { لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ } أي لئن قصدت قتلي فأنا لا أقصد قتلك ؛ فهذا استسلام منه. وفي الخبر : "إذا كانت الفتنة فكن خير ابني آدم" وروى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص قال قلت يا رسول : إن دخل عل بيتي وبسط يده إلي ليقتلني ؟ قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كن كخير ابني آدم" وتلا هذه الآية { لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي } .

قال مجاهد : كان الفرض عليهم حينئذ ألا يستل أحد سيفا ، وألا يمتنع ممن يريد قتله. قال علماؤنا : وذلك مما يجوز ورود التعبد به ، إلا أن في شرعنا يجوز دفعه إجماعا.

وقال عبدالله بن عمرو وجمهور الناس : كان هابيل أشد قوة من قابيل ولكنه تحرج. قال ابن عطية : وهذا هو الأظهر ، ومن ههنا يقوى أن قابيل إنما هو عاص لا كافر ؛ لأنه لو كان كافرا لم يكن للتحرج هنا وجه ، وإنما وجه التحرج في هذا أن المتحرج يأبى أن يقاتل موحدا ، ويرضى بأن يظلم ليجازى في الآخرة ؛

ونحو هذا فعل عثمان رضي الله عنه. وقيل : المعنى لا أقصد قتلك بل أقصد الدفع عن نفسي ، وعلى هذا قيل : كان نائما فجاء قابيل ورضخ رأسه بحجر على ما يأتي ومدافعة الإنسان عمن يريد ظلمه جائزة وإن أتى على نفس العادي. وقيل : لئن بدأت بقتلي فلا أبدأ بالقتل. وقيل : أراد لئن بسطت إليّ يدك ظلما فما أنا بظالم ؛ إني أخاف الله رب العالمين.

الثانية- قوله تعالى : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ } قيل : معناه معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" قيل : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : "إنه كان حريصا على قتل صاحبه" وكأن هابيل أراد أني لست بحريص على قتلك ؛ فالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصا على قتلك أريد أن تحمله أنت مع إثمك في قتلي. وقيل : المعنى "بإثمي" الذي يختص بي فيما فرطت ؛ أي يؤخذ في سيئاتي فتطرح عليك بسبب ظلمك لي ، وتبوء بإثمك في قتلك .

 وهذا يعضده قوله عليه الصلاة والسلام : "يؤتى يوم القيامة بالظالم والمظلوم فيؤخذ من حسنات الظالم فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه" وهذا بين لا إشكال فيه. وقيل : المعنى إني أريد ألا تبوء بإثمي وإثمك .
وقال عليه الصلاة و السلام : "لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل" ، فثبت بهذا أن إثم القتل حاصل ؛ ولهذا قال أكثر العلماء : إن المعنى ؛ ترجع بإثم قتلي وإثمك الذي عملته قبل قتلي.

قال الثعلبي : هذا قول عامة أكثر المفسرين. وقيل : هو استفهام ، أي أو إني أريد ؟ على جهة الإنكار ؛ كقوله تعالى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ } أي أو تلك نعمة ؟ وهذا لأن إرادة القتل معصية. حكاه القشيري وسئل أبو الحسن بن كيسان : كيف يريد المؤمن أن يأثم أخوه وأن يدخل النار ؟ فقال : إنما وقعت الإرادة بعد ما بسط يده إليه بالقتل ؛ والمعنى : لئن بسطت إلى يدك لتقتلني لأمتنع من ذلك مريدا للثواب ؛ فقيل له : فكيف قال : بإثمي وإثمك ؛ وأي إثم له إذا قتل ؟

 فقال : فيه ثلاثة أجوبة ؛ أحدها : أن تبوء بإثم قتلي وإثم ذنبك الذي من أجله لم يتقبل قربانك ، ويروى هذا القول عن مجاهد. والوجه الآخر : أن تبوء بإثم قتلي وإثم اعتدائك علي ؛ لأنه قد يأثم بالاعتداء وإن لم يقتل. والوجه الثالث : أنه لو بسط يده إليه أثم ؛ فرأى أنه إذا أمسك عن ذلك فإثمه يرجع على صاحبه. فصار هذا مثل قولك : المال به وبين زيد ؛ أي المال بينهما ، فالمعنى أن تبوء بإثمنا. وأصل باء رجع إلى المباءة ، وهي المنزل. { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } أي رجعوا وقال الشاعر :  ألا تنتهي عنا ملوك وتبقي ... محارمنا لا يبؤ الدم بالدم
أي لا يرجع الدم بالدم في القود. { فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } دليل على أنهم كانوا في ذلك الوقت مكلفين قد لحقهم الوعد والوعيد. وقد استدل بقول هابيل لأخيه قابيل : { فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } على أنه كان كافرا ؛ لأن لفظ أصحاب النار إنما ورد في الكفار حيث وقع في القرآن. وهذا مردود هنا بما ذكرناه عن أهل العلم في تأويل الآية. ومعنى { مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } مدة كونك فيها. والله أعلم.
30- { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
فيه أربع مسائل :
الأولى- قوله تعالى : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ } . أي سولت وسهلت نفسه عليه الأمر وشجعته وصورت له أن قتل أخيه طوع سهل له ؛  وروي أنه جهل كيف يقتله فجاء إبليس بطائر - أو حيوان غيره - فجعل يشدخ رأسه بين حجرين ليقتدي به قابيل ففعل ؛ قال ابن جريج ومجاهد وغيرهما. وقال ابن عباس وابن مسعود : وجده نائما فشد رأسه بحجر وكان ذلك في ثور - جبل بمكة –ويقال : إن قابيل كان يعرف القتل بطبعه ؛ لأن الإنسان وإن لم ير القتل فإنه يعلم بطبعه أن النفس فانية ؛ فأخذ حجرا فقتله بأرض الهند. والله أعلم.

ولما قتله ندم فقعد يبكي عند رأسه إذ أقبل غرابان فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر ثم حفر له حفرة فدفنه ؛ ففعل القاتل بأخيه كذا. والسوءة يراد بها العورة ، وقيل : يراد بها جيفة المقتول ؛ ثم إنه هرب إلى أرض عدن من اليمن ، فأتاه إبليس وقال : إنما أكلت النار قربان أخيك لأنه كان يعبد النار ، فانصب أنت أيضا نارا تكون لك ولعقبك ، فبنى بيت نار ، فهو أول من عبد النار فيما قيل. والله أعلم.

 وروي عن ابن عباس أنه لما قتله وآدم بمكة اشتاك الشجر ، وتغيرت الأطعمة ، وحمضت الفواكه ، وملحت المياه ، واغبرت الأرض ؛ فقال آدم عليه السلام : قد حدث في الأرض حدث ، فأتى الهند فإذا قابيل قد قتل هابيل. وقيل : إن قابيل هو الذي انصرف إلى آدم ، فلما وصل إليه قال له : أين هابيل ؟ فقال : لا أدري كأنك وكلتني بحفظه. فقال له آدم : أفعلتها ؟ ! والله إن دمه لينادي ، اللهم العن أرضا شربت دم هابيل. فروي أنه من حينئذ ما شربت أرض دما. ثم إن آدم بقي مائة سنة لم يضحك ، حتى جاءه ملك فقال له : حياك الله يا آدم وبياك. فقال : ما بياك ؟ قال : أضحكك ؛ قال مجاهد وسالم بن أبي الجعد. ولما مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة - وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت له شيثا ، وتفسيره هبة الله ، أي خلفا من هابيل.

وقال مقاتل : كان قبل قتل قابيل هابيل السباع والطيور تستأنس بآدم ، فلما قتل قابيل هابيل هربوا ، فلحقت الطيور بالهواء ، والوحوش بالبرية ، ولحقت السباع بالغياض. وروي أن آدم لما تغيرت الحال قال :

تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي طعم ولون ... وقل بشاشة الوجه المليح
في أبيات كثيرة ذكرها الثعلبي وغيره. قال ابن عطية : هكذا هو الشعر بنصب "بشاشة" وكف التنوين. قال القشيري وغيره قال ابن عباس : ما قال آدم الشعر ، وإن محمدا والأنبياء كلهم في النهي عن الشعر سواء ؛ لكن لما قتل هابيل رثاه آدم وهو سرياني ، فهي مرثية بلسان السريانية أوصى بها إلى ابنه شيث وقال : إنك وصيي فاحفظ مني هذا الكلام ليتوارث ؛ فحفظت منه إلى زمان يعرب بن قحطان ، فترجم عنه يعرب بالعربية وجعله شعرا.
الثانية- روي من حديث أنس قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن يوم الثلاثاء فقال : "يوم الدم فيه حاضت حواء وفيه قتل ابن آدم أخاه" . وثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل" .

 وهذا نص على التعليل ؛ وبهذا الاعتبار يكون على إبليس كفل من معصية كل من عصى بالسجود ؛ لأنه أول من عصى به ، وكذلك كل من أحدث في دين الله ما لا يجوز من البدع والأهواء ؛ قال صلى الله عليه وسلم : "من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" .

وهذا نص في الخبر والشر. وقال صلى الله عليه وسلم : "إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون" وهذا كله صريح ، ونص صحيح في معنى الآية ، وهذا ما لم يتب الفاعل من تلك المعصية ، لأن آدم عليه السلام كان أول من خالف في أكل ما نهي عنه ، ولا يكون عليه شيء من أوزار من عصى بأكل ما نهي عنه ولا شربه من بعده بالإجماع ؛ لأن آدم تاب من ذلك وتاب الله عليه ، فصار كمن لم يجن.

الثالثة- تضمنت هذه الآية البيان عن حال الحاسد ، حتى أنه قد يحمله حسده على إهلاك نفسه بقتل أقرب الناس إليه قرابة ، وأمسه به رحما ، وأولاهم بالحنو عليه ودفع الأذية عنه.
الرابعة- قوله تعالى : { فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } أي ممن خسر حسناته
31- { فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ}
فيه خمسة مسائل :
الآولى- قوله تعالى : { فبعث فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ } قال مجاهد : بعث الله غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما صاحبه ثم حفر فدفنه. وكان ابن آدم هذا أول من قتل. وقيل : إن الغراب بحث الأرض على طعمه ليخفيه إلى وقت الحاجة إليه ؛ لأنه من عادة الغراب فعل ذلك ؛ فتنبه قابيل ذلك على مواراة أخيه. وروي أن قابيل لما قتل هابيل جعله في جراب ، ومشى به يحمله في عنقه مائة سنة ؛ قال مجاهد.

 وروى ابن القاسم عن مالك أنه حمله سنة واحدة ؛ وقال ابن عباس. وقيل : حتى أروح ولا يدري ما يصنع به إلى أن اقتدى بالغراب كما تقدم. وفي الخبر عن أنس قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " امتن الله على ابن آدم بثلاث بعد ثلاث بالريح بعد الروح فلولا أن الريح يقع بعد الروح ما دفن حميم حميما وبالدود في الجثة فلولا أن الدود يقع في الجثة لاكتنزتها الملوك وكانت خيرا لهم من الدراهم والدنانير وبالموت بعد الكبر وإن الرجل ليكبر حتى يمل نفسه ويمله أهله وولده وأقرباؤه فكان الموت أستر له" .

 وقال قوم : كان قابيل يعلم الدفن ، ولكن ترك أخاه بالعراء استخفافا به ، فبعث الله غرابا يبحث التراب على هابيل ليدفنه ، فقال عند ذلك : { يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } ، حيث رأى إكرام الله لهابيل بأن قيض له الغراب حتى واراه ، ولم يكن ذلك ندم توبة ، وقيل : إنما ندمه كان على فقده لا على قتله ، وإن كان فلم يكن موفيا شروطه. أو ندم ولم يستمر ندمه .

فقال ابن عباس : ولو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة منه. ويقال : إن آدم وحواء أتيا قبره وبكيا أياما عليه. ثم إن قابيل كان على ذروة جبل فنطحه ثور فوقع إلى السفح وقد تفرقت عروقه. ويقال : دعا عليه آدم فانخسفت به الأرض. ويقال : إن قابيل استوحش بعد قتل هابيل ولزم البرية ، وكان لا يقدر على ما يأكله إلا من الوحش ، فكان إذا ظفر به وقذه حتى يموت ثم يأكله.

قال ابن عباس : فكانت الموقوذة حراما من لدن قابيل بن آدم ، وهو أول من يساق من الآدميين إلى النار ؛ وذلك قوله تعالى : { رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانََّا مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ } الآية ، فإبليس رأس الكافرين من الجن ، وقابيل رأس الخطيئة من الإنس ؛وقد قيل : إن الندم في ذلك الوقت لم يكن توبة ، والله بكل ذلك أعلم وأحكم.

وقوله :{يَبْحَثُ} معناه يفتش التراب بمنقاره ويثيره. ومن هذا سميت سورة {بَرَاءَةٌ} البحوث ؛ لأنها فتشت عن المنافقين
الثانية- بعث الله الغراب حكمة ؛ ليرى ابن آدم كيفية المواراة ، وهو معنى قوله تعالى : {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} ، فصار فعل الغراب في المواراة سنة باقية في الخلق ، فرضا على جميع الناس على الكفاية ، من فعله منهم سقط فرضه. عن الباقين. وأخص الناس به الأقربون الذين يلونه ، ثم الجيرة ، ثم سائر المسلمين.

وأما الكفار فقد روى أبو داود عن على قال : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم إن عمك الشيخ الضال قد مات ؛ قال : "أذهب فوار أباك التراب ثم لا تحدثن شيئا حتى تأتيني" فذهبت فواريته وجئته فأمرني فاغتسلت ودعا لي.
الثالثة- ويستحب في القبر سعته وإحسانه ؛ لما رواه ابن ماجة عن هشام بن عامر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "احفروا وأوسعوا وأحسنوا" وروي عن الأدرع السلمي قال : جئت ليلة أحرس النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإذا رجل قراءته عالية ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله : هذا مراء ؛ قال : فمات بالمدينة ففرغوا من جهازه فحملوا نعشه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ارفقوا به رفق الله به إنه كان يحب الله ورسوله" .

قال : وحضر حفرته فقال : "أوسعوا له وسع الله عليه" فقال بعض أصحابه : يا رسول الله لقد حزنت عليه ؟ فقال : "أجل إنه كان يحب الله ورسوله" ؛ أخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن زيد بن الحباب. عن موسى بن عبيدة عن سعيد بن أبي سعيد.

الرابعة- ثم قيل : اللحد أفضل من الشق ؛ فإنه الذي اختاره الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي كان بالمدينة رجلان أحدهما يلحد والآخر لا يلحد ؛ فقالوا : أيهما جاء أول عمل عمله ، فجاء الذي يلحد فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ذكره مالك في الموطأ عن هشام بن عروة عن أبيه ، وأخرجه ابن ماجة عن أنس بن مالك وعائشة رضي الله عنهما.

والرجلان هما أبو طلحة وأبو عبيدة ؛ وكان أبو طلحة يلحد وأبو عبيدة يشق. واللحد هو أن يحفر في جانب القبر إن كانت تربة صلبة ، يوضع فيه الميت ثم يوضع عليه اللبن ثم يهال التراب ؛ قال سعد بن أبي وقاص في مرضه الذي هلك فيه : ألحدوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه مسلم. وروى ابن ماجة وغيره عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اللحد لنا والشق لغيرنا" .
الخامسة- روى ابن ماجة عن سعيد بن المسيب قال : حضرت ابن عمر في جنازة فلما وضعها في اللحد قال : بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أخذ في تسوية اللبن على اللحد قال : اللهم أجرها من الشيطان ومن عذاب القبر ، اللهم جاف الأرض عن جنبيها ، وصعد روحها ولقها منك رضوانا.

قلت يا ابن عمر أشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أم قلته برأيك ؟ قال : إني إذا لقادر على القول! بل شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة ثم أتى قبر الميت فحثا عليه من قبل رأسه ثلاثا. فهذا ما تعلق في معنى الآية من الأحكام.

32- {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}
قوله تعالى : {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} أي من جراء ذلك القاتل وجريرته. أي من سبب هذه النازلة كتبنا. وخص بني إسرائيل بالذكر وقد تقدمته أمم قبلهم كان قتل النفس فيهم محظورا - لأنهم أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل الأنفس مكتوبا ، وكان قبل ذلك قولا مطلقا ؛ فغلظ الأمر على بني إسرائيل بالكتاب بحسب طغيانهم وسفكهم الدماء.

ومعنى {بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي بغير أن يقتل نفسا فيستحق القتل. وقد حرم الله القتل في جميع الشرائع إلا بثلاث خصال : كفر بعد إيمان ، أو زني بعد إحصان ، أو قتل نفس ظلما وتعديا. {أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ} أي شرك ، وقيل : قطع طريق.
وقرأ الحسن : {أَوْ فَسَاداً} بالنصب على تقدير حذف فعل يدل عليه أول الكلام تقديره ؛ أو أحدث فسادا ؛ والدليل عليه قوله : {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ} لأنه من أعظم الفساد.
 {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} اضطرب لفظ المفسرين في ترتيب هذا التشبيه لأجل أن عقاب من قتل الناس جميعا أكثر من عقاب من قتل واحدا ؛ فروي عن ابن عباس أنه قال : المعنى من قتل نبيا أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياه بأن شد عضده ونصره فكأنما أحيا الناس جميعا.

 وعنه أيضا أنه قال : المعنى من قتل نفسا واحدة وانتهك حرمتها فهو مثل من قتل الناس جميعا ، ومن ترك قتل نفس واحدة وصان حرمتها واستحياها خوفا من الله فهو كمن أحيا الناس جميعا. وعنه أيضا. المعنى فكأنما قتل الناس جميعا عند المقتول ، ومن أحياها واستنقذها من هلكة فكأنما أحيا الناس جميعا عند المستنقذ.

وقال مجاهد : المعنى أن الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدا جعل الله جزاءه جهنم وغضب عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ؛ يقول : لو قتل الناس جميعا لم يزد على ذلك ، ومن لم يقتل فقد حيي الناس منه. وقال ابن زيد : المعنى أن من قتل نفسا فيلزمه من القود والقصاص ما يلزم من قتل الناس جميعا ، قال : ومن أحياها أي من عفا عمن وجب له قتله ؛ وقاله الحسن أيضا ؛ أي هو العفو بعد المقدرة. وقيل : المعنى أن من قتل نفسا فالمؤمنون كلهم خصماؤه ؛ لأنه قد وتر الجميع ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ،
وفي قوله تعالى : {وَمَنْ أَحْيَاهَا} تجوز ؛ فإنه عبارة عن الترك والإنقاذ من هلكة ، وإلا فالإحياء حقيقة - الذي هو الاختراع - إنما هو لله تعالى. وإنما هذا الإحياء بمنزلة قول نمروذ اللعين : {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} فسمى الترك إحياء. ثم أخبر الله عن بني إسرائيل أنهم جاءتهم الرسل بالبينات ، وأن أكثرهم مجاوزون الحد ، وتاركون أمر الله.

وهذه القصة وإن كانت قد ذكرت في كتب اليهود والنصارى قإنها لم تذكر لنفس الغرض  وإنما ذكرت في سياق القصص فها هي كما ذكرت في كتبهم تاركا لك عزيزي القارئ الحكم في النهاية :

 1وَعَرَفَ آدَمُ حَوَّاءَ امْرَأَتَهُ فَحَبِلَتْ وَوَلَدَتْ قَايِينَ. وَقَالَتِ: «اقْتَنَيْتُ رَجُلاً مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ». 2ثُمَّ عَادَتْ فَوَلَدَتْ أَخَاهُ هَابِيلَ. وَكَانَ هَابِيلُ رَاعِيًا لِلْغَنَمِ، وَكَانَ قَايِينُ عَامِلاً فِي الأَرْضِ.

3وَحَدَثَ مِنْ بَعْدِ أَيَّامٍ أَنَّ قَايِينَ قَدَّمَ مِنْ أَثْمَارِ الأَرْضِ قُرْبَانًا لِلرَّبِّ،

 4وَقَدَّمَ هَابِيلُ أَيْضًا مِنْ أَبْكَارِ غَنَمِهِ وَمِنْ سِمَانِهَا. فَنَظَرَ الرَّبُّ إِلَى هَابِيلَ وَقُرْبَانِهِ،

 5وَلكِنْ إِلَى قَايِينَ وَقُرْبَانِهِ لَمْ يَنْظُرْ. فَاغْتَاظَ قَايِينُ جِدًّا وَسَقَطَ وَجْهُهُ.

6فَقَالَ الرَّبُّ لِقَايِينَ: «لِمَاذَا اغْتَظْتَ؟ وَلِمَاذَا سَقَطَ وَجْهُكَ؟ 7إِنْ أَحْسَنْتَ أَفَلاَ رَفْعٌ؟ وَإِنْ لَمْ تُحْسِنْ فَعِنْدَ الْبَابِ خَطِيَّةٌ رَابِضَةٌ، وَإِلَيْكَ اشْتِيَاقُهَا وَأَنْتَ تَسُودُ عَلَيْهَا».

8وَكَلَّمَ قَايِينُ هَابِيلَ أَخَاهُ. وَحَدَثَ إِذْ كَانَا فِي الْحَقْلِ أَنَّ قَايِينَ قَامَ عَلَى هَابِيلَ أَخِيهِ وَقَتَلَهُ.

 9فَقَالَ الرَّبُّ لِقَايِينَ: «أَيْنَ هَابِيلُ أَخُوكَ؟» فَقَالَ: «لاَ أَعْلَمُ! أَحَارِسٌ أَنَا لأَخِي؟» 10

فَقَالَ: «مَاذَا فَعَلْتَ؟ صَوْتُ دَمِ أَخِيكَ صَارِخٌ إِلَيَّ مِنَ الأَرْضِ. 11فَالآنَ مَلْعُونٌ أَنْتَ مِنَ الأَرْضِ الَّتِي فَتَحَتْ فَاهَا لِتَقْبَلَ دَمَ أَخِيكَ مِنْ يَدِكَ.

12مَتَى عَمِلْتَ الأَرْضَ لاَ تَعُودُ تُعْطِيكَ قُوَّتَهَا. تَائِهًا وَهَارِبًا تَكُونُ فِي الأَرْضِ». 13فَقَالَ قَايِينُ لِلرَّبِّ: «ذَنْبِي أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْتَمَلَ. 14إِنَّكَ قَدْ طَرَدْتَنِي الْيَوْمَ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ، وَمِنْ وَجْهِكَ أَخْتَفِي وَأَكُونُ تَائِهًا وَهَارِبًا فِي الأَرْضِ، فَيَكُونُ كُلُّ مَنْ وَجَدَنِي يَقْتُلُنِي».

 15فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: «لِذلِكَ كُلُّ مَنْ قَتَلَ قَايِينَ فَسَبْعَةَ أَضْعَافٍ يُنْتَقَمُ مِنْهُ». وَجَعَلَ الرَّبُّ لِقَايِينَ عَلاَمَةً لِكَيْ لاَ يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ وَجَدَهُ. 16فَخَرَجَ قَايِينُ مِنْ لَدُنِ الرَّبِّ، وَسَكَنَ فِي أَرْضِ نُودٍ شَرْقِيَّ عَدْنٍ.

17وَعَرَفَ قَايِينُ امْرَأَتَهُ فَحَبِلَتْ وَوَلَدَتْ حَنُوكَ. وَكَانَ يَبْنِي مَدِينَةً، فَدَعَا اسْمَ الْمَدِينَةِ كَاسْمِ ابْنِهِ حَنُوكَ. 18وَوُلِدَ لِحَنُوكَ عِيرَادُ. وَعِيرَادُ وَلَدَ مَحُويَائِيلَ. وَمَحُويَائِيلُ وَلَدَ مَتُوشَائِيلَ. وَمَتُوشَائِيلُ وَلَدَ لاَمَكَ.

 19وَاتَّخَذَ لاَمَكُ لِنَفْسِهِ امْرَأَتَيْنِ: اسْمُ الْوَاحِدَةِ عَادَةُ، وَاسْمُ الأُخْرَى صِلَّةُ. 20فَوَلَدَتْ عَادَةُ يَابَالَ الَّذِي كَانَ أَبًا لِسَاكِنِي الْخِيَامِ وَرُعَاةِ الْمَوَاشِي. 21وَاسْمُ أَخِيهِ يُوبَالُ الَّذِي كَانَ أَبًا لِكُلِّ ضَارِبٍ بِالْعُودِ وَالْمِزْمَارِ.

 22وَصِلَّةُ أَيْضًا وَلَدَتْ تُوبَالَ قَايِينَ الضَّارِبَ كُلَّ آلَةٍ مِنْ نُحَاسٍ وَحَدِيدٍ. وَأُخْتُ تُوبَالَ قَايِينَ نَعْمَةُ. 23وَقَالَ لاَمَكُ لامْرَأَتَيْهِ عَادَةَ وَصِلَّةَ: «اسْمَعَا قَوْلِي يَا امْرَأَتَيْ لاَمَكَ، وَأَصْغِيَا لِكَلاَمِي. فَإِنِّي قَتَلْتُ رَجُلاً لِجُرْحِي، وَفَتىً لِشَدْخِي. 24إِنَّهُ يُنْتَقَمُ لِقَايِينَ سَبْعَةَ أَضْعَافٍ، وَأَمَّا لِلاَمَكَ فَسَبْعَةً وَسَبْعِينَ

3-أصحاب السبت

الآيتان : 163 - 164 {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ، وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}
قوله تعالى : {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ} أي عن أهل القرية ؛ فعبر عنهم بها لما كانت مستقرا لهم أو سبب اجتماعهم. نظيره {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف : 82]. وقوله عليه السلام : "اهتز العرش لموت سعد بن معاذ" يعني أهل العرش من الملائكة ، فرحا واستبشارا بقدومه ، رضي الله عنه.

أي واسأل اليهود الذين هم جيرانك عن أخبار أسلافهم وما مسخ الله منهم قردة وخنازير. هذا سؤال تقرير وتوبيخ. وكان ذلك علامة لصدق النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ أطلعه الله على تلك الأمور من غير تعلم. وكانوا يقولون : نحن أبناء الله وأحباؤه ، لأنا من سبط خليله إبراهيم ، ومن سبط إسرائيل وهم بكر الله ، ومن سبط موسى كليم الله ؛ ومن سبط ولده عزير ، فنحن من أولادهم. فقال الله عز وجل لنبيه : سلهم يا محمد عن القرية ، أما عذبتهم بذنوبهم ؛ وذلك بتغيير فرع من فروع الشريعة. وكان اليهود يكتمون هذه القصة لما فيها من السبة عليهم.

{الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} أي كانت بقرب البحر ؛ تقول : كنت بحضرة الدار أي بقربها .{إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} أي يصيدون الحيتان ، وقد نهوا عنه ؛ يقال : سبت اليهود ؛ تركوا العمل في سبتهم.: وقراءة الجماعة {يَعْدُون}. وقرأ أبو نهيك {يُعِدّون} بضم الياء وكسر العين وشد الدال. الأولى من الاعتداء والثانية من الإعداد ؛ أي يهيئون الآلة لأخذها

 {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ} {شُرَّعاً} أي شوارع ظاهرة على الماء كثيرة. وقال الليث : حيتان شرع رافعة رؤوسها. وقيل : معناه أن حيتان البحر كانت ترد يوم السبت عنقا من البحر فتزاحم شاطئ القرية. ألهمها الله تعالى أنها لا تصاد يوم السبت ؛ لنهيه تعالى اليهود عن صيدها. وقيل : إنها كانت تشرع على أبوابهم ؛ كالكباش البيض رافعة رؤوسها. حكاه بعض المتأخرين ؛ فتعدوا فأخذوها في السبت ؛ قاله الحسن.

 {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ} {لا تَأْتِيهِمْ} أي حيتانهم.

{كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ} أي نشدد عليهم في العبادة ونختبرهم. {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} أي بفسقهم.

وروي في قصص هذه الآية أنها كانت في زمن داود عليه السلام ، وأن إبليس أوحى إليهم فقال : إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت ، فاتخذوا الحياض ؛ فكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم الجمعة فتبقى فيها ، فلا يمكنها الخروج منها لقلة الماء ، فيأخذونها يوم الأحد.

وروى أشهب عن مالك قال : زعم ابن رومان أنهم كانوا يأخذ الرجل خيطا ويضع فيه وهقة ، وألقاها في ذنب الحوت ، وفي الطرف الآخر من الخيط وتد وتركه كذلك إلى الأحد ، ثم تطرق الناس حين رأوا من صنع هذا لا يبتلى حتى كثر صيد الحوت ، ومشي به في الأسواق ، وأعلن الفسقة بصيده ؛ فقامت فرقة من بني إسرائيل ونهت ، وجاهرت بالنهي واعتزلت.

 وقيل : إن الناهين قالوا : لا نساكنكم ؛ فقسموا القرية بجدار. فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد ، فقالوا : إن للناس لشأنا ؛ فعلوا على الجدار فنظروا فإذا هم قردة ؛ ففتحوا الباب ودخلوا عليهم ، فعرفت القردة أنسابها من الإنس ، ولم تعرف الإنس أنسابهم من القردة ؛ فجعلت القردة تأتي نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي ؛ فيقول : ألم ننهكم! فتقول برأسها نعم.

 قال قتادة : صار الشبان قردة والشيوخ خنازير ، فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم. فعلى هذا القول إن بني إسرائيل لم تفترق إلا فرقتين. ويكون المعنى في قوله تعالى : {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} أي قال الفاعلون للواعظين حين وعظوهم : إذا علمتم أن الله مهلكنا فلم تعظوننا ؟ فمسخهم الله قردة.
قوله تعالى : {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي قال الواعظون : موعظتنا إياكم معذرة إلى ربكم ؛ أي إنما يجب علينا أن نعظكم لعلكم تتقون.

 أسند هذا القول الطبري عن ابن الكلبي. وقال جمهور المفسرين : إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق ، وهو الظاهر من الضمائر في الآية. فرقة عصمت وصادت ، وكانوا نحوا من سبعين ألفا. وفرقة اعتزلت ولم تنه ولم تعص ، وإن هذه الطائفة قالت للناهية : لم تعظون قوما - تريد العاصية - الله مهلكهم أو معذبهم على غلبة الظن ، وما عهد من فعل الله تعالى حينئذ بالأمم العاصية. فقالت الناهية : موعظتنا معذرة إلى الله لعلهم يتقون. ولو كانوا فرقتين لقالت الناهية للعاصية : ولعلكم تتقون ، بالكاف.

 ثم اختلف بعد هذا ؛ فقالت فرقة : إن الطائفة التي لم تنه ولم تعص هلكت مع العاصية عقوبة على ترك النهي ؛ قاله ابن عباس. وقال أيضا : ما أدري ما فعل بهم ؛ وهو الظاهر من الآية. وقال عكرمة : قلت لابن عباس لما قال ما أدري ما فعل بهم : ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم فقالوا : لم تعظون قوما الله مهلكهم ؟ فلم أزل به حتى عرفته أنهم قد نحوا ؛ فكساني حلة.

الآية : 165 {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}
النسيان يطلق على الساهي. والعامد : التارك ؛ لقوله تعالى : {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} أي تركوه عن قصد ؛ ومنه {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة : 67]. ومعنى {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} أي شديد.

. قال علي بن سليمان : العرب تقول جاء ببنات بيس أي بشيء رديء. فمعنى {بِعَذَابٍ بِيسٍ} بعذاب رديء. والتقدير: بعذاب بئس العذاب.
الآية : 166 {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}
قوله تعالى : {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا} أي فلما تجاوزوا في معصية الله. {قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} يقال : خسأته فخسأ ؛ أي باعدته وطردته. ودل على أن المعاصي سبب النقمة : وهذا لا خفاء به. فقيل : قال لهم ذلك بكلام يسمع ، فكانوا كذلك. وقيل : المعنى كوناهم قردة.
الآية : 167 {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أي أعلمهم أنهم إن غيروا ولم يؤمنوا بالنبي الأمي بعث الله عليهم من يعذبهم من {يَسُومُهُمْ} يذيقهم ؛ {سُوءَ الْعَذَابِ} هنا أخذ الجزية.

 فإن قيل : فقد مسخوا ، فكيف تؤخذ منهم الجزية ؟ فالجواب أنها تؤخذ من أبنائهم وأولادهم ، وهم أذل قوم ، وهم اليهود. وعن سعيد بن جبير {سُوءَ الْعَذَابِ} قال : الخراج ، ولم يجب نبي قط الخراج ، إلا موسى عليه السلام هو أول من وضع الخراج ، فجباه ثلاث عشرة سنة ، ثم أمسك ، ونبينا عليه السلام.
الآية : 168 {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}
قوله تعالى : {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً} أي فرقناهم في البلاد. أراد به تشتيت أمرهم ، فلم تجمع لهم كلمة. {مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ} رفع على الابتداء. والمراد من آمن بمحمد عليه السلام. ومن لم يبدل منهم ومات قبل نسخ شرع موسى. {وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ}. والمراد الكفار منهم. {وَبَلَوْنَاهُمْ} أي اختبرناهم. {بِالْحَسَنَاتِ} أي بالخصب والعافية. {وَالسَّيِّئاتِ} أ ي الجدب والشدائد. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ليرجعوا عن كفرهم.
الآية : 169 {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}
قوله تعالى : {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} يعني أولاد الذين فرقهم في الأرض. قال أبو حاتم : {الخَلْف} بسكون اللام : الأولاد ، الواحد والجميع فيه سواء. و{الخلَف} بفتح اللام البدل ، ولدا كان أو غريبا. وقال ابن الأعرابي : {الْخَلَفُ} بالفتح الصالح ، وبالجزم الطالح.

قال صلى الله عليه وسلم : "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله". وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر. قال حسان بن ثابت :
لنا القدم الأولى إليك وخلقنا ... لأولنا في طاعة الله تابع
وقال آخر: إنا وجدنا خلفا بئس الخلف ... أغلق عنا بابه ثم حلف
لا يدخل البواب إلا من عرف ... عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف
ويروى : خضف ؛ أي ردم. والمقصود من الآية الذم . {وَرِثُوا الْكِتَابَ} قال المفسرون : هم اليهود ، ورثوا كتاب الله فقرؤوه وعلموه ، وخالفوا حكمه وأتوا محارمه مع دراستهم له. فكان هذا توبيخا لهم وتقريعا. {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} ثم أخبر عنهم أنهم يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا لشدة حرصهم ونهمهم. {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} وهم لا يتوبون. ودل على أنهم لا يتوبون.
قوله تعالى : {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} والعرض : متاع الدنيا ؛ بفتح الراء. وبإسكانها ما كان من المال سوى الدراهم والدنانير. والإشارة في هذه الآية إلى الرشا والمكاسب الخبيثة. ثم ذمهم باغترارهم في قولهم {سَيُغْفَرُ لَنَا} وأنهم بحال إذا أمكنتهم ثانية ارتكبوها ، فقطعوا باغترارهم بالمغفرة وهم مصرون ، وإنما يقول سيغفر لنا من أقلع وندم.قال القرطبي : وهذا الوصف الذي ذم الله تعالى به هؤلاء موجود فينا.

 أسند الدارمي أبو محمد : حدثنا محمد بن المبارك حدثنا صدقة بن خالد عن ابن جابر عن شيخ يكنى أبا عمرو عن معاذ ابن جبل رضي الله عنه قال : سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت ، يقرؤونه لا يجدون له شهوة ولا لذة ، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب ، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف ، إن قصروا قالوا سنبلغ ، وإن أساؤوا قالوا سيغفر لنا ، إنا لا نشرك بالله شيئا.

وقيل : إن الضمير في {يَأْتِهِمْ} ليهود المدينة ؛ أي وإن يأت يهود يثرب الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عرض مثله يأخذوه كما أخذه أسلافهم. قوله تعالى {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}
الأولى : قوله تعالى : {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ} يريد التوراة. وهذا تشديد في لزوم قول الحق في الشرع والأحكام ، وألا يميل الحكام بالرشا إلى الباطل.
قال القرطبي  : وهذا الذي لزم هؤلاء وأخذ عليهم به الميثاق في قول الحق ، لازم لنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم وكتاب ربنا ، ولا خلاف فيه في جميع الشرائع ، والحمد لله.
الثانية : قوله تعالى : {وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} أي قرؤوه ، وهم قريبو عهد به: كان يأتيهم المحق برشوة فيخرجون له كتاب الله فيحكمون له به ، فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة وأخرجوا له كتابهم الذي كتبوه بأيديهم وحكموا له. وقال ابن عباس : {أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} وقد قالوا الباطل في غفران ذنوبهم الذي يوجبونه ويقطعون به. وقال ابن زيد : يعني في الأحكام التي يحكمون بها ؛ كما ذكرنا. وقال بعض العلماء : إن معنى {وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} أي محوه بترك العمل به والفهم له ؛ من قولك : درست الريح الآثار ، إذا محتها، إذا امحى وعفا أثره.

وهذا المعنى مواطئ - أي موافق – لقوله تعالى : {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [البقرة : 101] الآية. وقوله : {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران : 187]. الآية : 170 {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}
قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} أي بالتوراة ، أي بالعمل بها ؛ يقال : مسك به وتمسك به أي استمسك به. وقرأ أبو العالية وعاصم في رواية أبي بكر "يمسكون" بالتخفيف من أمسك يمسك. والقراءة الأولى أولى ؛ لأن فيها معنى التكرير والتكثير للتمسك بكتاب الله تعالى وبدينه فبذلك يمدحون. فالتمسك بكتاب الله والدين يحتاج إلى الملازمة والتكرير لفعل ذلك. وقال كعب بن زهير : فما تمسك بالعهد الذي زعمت ... إلا كما تمسك الماء الغرابيل
فجاء به على طبعه يذم بكثرة نقض العهد.

 

4-المائدة

112- {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
قوله تعالى : {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} . قراءة الكسائي وعلي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد {هَلْ تَسْتَطِيعُ} بالتاء {رَبُّكَ} بالنصب. وأدغم الكسائي اللام من {هَلْ} في التاء. وقرأ الباقون بالياء ، {رَبُّكَ} بالرفع .

 وهذه القراءة أشكل من الأولى ؛ فقال السدي : المعنى هل يطيعك ربك إن سألته {أَنْ يُنَزِّلَ} فيستطيع بمعنى يطيع ؛ كما قالوا : استجاب بمعنى أجاب ، وكذلك استطاع بمعنى أطاع. وقيل المعنى : هل يقدر ربك وكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل ؛ ولهذا قال عيسى في الجواب عند غلطهم وتجويزهم على الله ما لا يجوز : {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي لا تشكوا في قدرة الله تعالى.
قال القرطبي : وهذا فيه نظر ؛ لأن الحواريين خلصان الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم كما قال : {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} . وقال عليه السلام : "لكل نبي حواري وحواري الزبير" ومعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جاؤوا بمعرفة الله تعالى وما يجب له وما يجوز وما يستحيل عليه وأن يبلغوا ذلك أممهم ؛ فكيف يخفى ذلك على من باطنهم واختص بهم حتى يجهلوا قدرة الله تعالى ؟ إلا أنه يجوز أن يقال : إن ذلك صدر ممن كان معهم ، كما قال بعض جهال الأعراب للنبي صلى الله عليه وسلم : اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، وكما قال من قال من قوم موسى : {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}

وقيل : إن القوم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه لأنهم كانوا مؤمنين عارفين عالمين ، وإنما هو كقولك للرجل : هل يستطيع فلان أن يأتي وقد علمت أنه يستطيع ؛ فالمعنى : هل يفعل ذلك ؟ وهل يجيبني إلى ذلك أم لا ؟ وقد كانوا عالمين باستطاعة الله تعالى لذلك ولغيره علم دلالة وخبر ونظر فأرادوا علم معاينة كذلك ؛ كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم :{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} وقد كان إبراهيم علم لذلك علم خبر ونظر ، ولكن أراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شبهة ؛ لأن علم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات ، وعلم المعاينة لا يدخله شيء من ذلك ، ولذلك قال الحواريون :{وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا}كما قال إبراهيم {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}
قال القرطبي : وهذا تأويل حسن ؛ قال ابن الحصار : وقوله سبحانه مخبرا عن الحواريين لعيسى : {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} ليس بشك في الاستطاعة ، وإنما هو تلطف في السؤال ، وأدب مع الله تعالى ؛ إذ ليس كل ممكن سبق في علمه وقوعه ولا لكل أحد ، والحواريون هم كانوا خيرة من آمن بعيسى ، فكيف يظن بهم الجهل باقتدار الله تعالى على كله شيء ممكن ؟

 وأما قراءة {التاء} فقيل المعنى هل تستطيع أن تسأل ربك هذا قول عائشة ومجاهد رضي الله عنهما ؛ قالت عائشة رضي الله عنها : كان القوم أعلم بالله عز وجل من أن يقولوا {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} قالت : ولكن {هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبُّكَ}.

 وروي عنها أيضا أنها قالت : كان الحواريون لا يشكون أن الله يقدر على إنزال مائدة ولكن قالوا : {هل تستطيع ربك} وعن معاذ بن جبل قال : أقرأنا النبي صلى الله عليه وسلم {هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} قال معاذ : وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم مرارا يقرأ بالتاء {هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبُّكَ}

وقال الزجاج : المعنى هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله. وقيل : هل تستطيع أن تدعو ربك أو تسأله ؛ والمعنى متقارب ، ولا بد من محذوف كما قال : {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وعلى قراءة الياء لا يحتاج إلى حذف. {قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ} أي اتقوا معاصيه وكثرة السؤال ؛ فإنكم لا تدرون ما يحل بكم عند اقتراح الآيات ؛ إذ كان الله عز وجل إنما يفعل الأصلح لعباده. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إن كنتم مؤمنين به وبما جئت به فقد جاءكم من الآيات ما فيه غنى.
113- {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ}
قوله تعالى : {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا} {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ}.

وفى قولهم : {نَأْكُلَ مِنْهَا} وجهان : أحدهما : أنهم أرادوا الأكل منها لحاجة الداعية إليها ؛ وذلك أن عيسى عليه السلام كان إذا خرج اتبعه خمسة آلاف أو أكثر ، بعضهم كانوا أصحابه وبعضهم كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم لمرض كان بهم أو علة إذ كانوا زمنى أو عميانا وبعضهم كانوا ينظرون ويستهزئون فخرج يوما إلى موضع فوقعوا في مفازة ولم يكن معهم نفقة فجاعوا

وقالوا للحواريين : قولوا لعيسى حتى يدعو بأن تنزل علينا مائدة من السماء ؛ فجاءه شمعون رأس الحواريين وأخبره أن الناس يطلبون بأن تدعو بأن تنزل عليهم مائدة من السماء ، فقال عيسى لشمعون : {قُلْ لَهُمْ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فأخبر بذلك شمعون القوم فقالوا له : قل له : {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا} الآية.

الثاني : {نَأْكُلَ مِنْهَا} لننال بركتها لا لحاجة دعتهم إليها ، قال الماوردي : وهذا أشبه ؛ لأنهم لو احتاجوا لم ينهوا عن السؤال وقولهم : {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} يحتمل ثلاثة أوجه

أحدها : تطمئن إلى أن الله تعالى بعثك إلينا نبيا

 الثاني : تطمئن إلى أن الله تعالى قد اختارنا لدعوتنا

 الثالث : تطمئن إلى أن الله تعالى قد أجابنا إلى ما سألنا ؛ ذكرها الماوردي وقال المهدوي : أي تطمئن بأن الله قد قبل صومنا وعملنا قال الثعلبي : نستيقن قدرته فتسكن قلوبنا. {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} بأنك رسول الله {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} لله بالوحدانية ، ولك بالرسالة والنبوة. وقيل : {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} لك عند من لم يرها إذا رجعنا إليهم.
114- {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}
قوله تعالى : {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا} الأصل عند سيبويه يا الله. {أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً} المائدة الخوان الذي عليه الطعام قال قطرب : لا تكون المائدة مائدة حتى يكون عليها طعام فإن لم يكن قيل : خوان وهي فاعلة من ماد عبده إذا أطعمه وأعطاه ؛ فالمائدة تميد ما عليها أي تعطي ومنه قول رؤبة - أنشده الأخفش :
تهدي رؤوس المترفين الأنداد ... إلى أمير المؤمنين الممتاد
أي المستعطى المسؤول فالمائدة هي المطعمة والمعطية الآكلين الطعام ويسمى الطعام أيضا مائدة تجوزا لأنه يؤكل على المائدة ؛ كقولهم للمطر سماء. وقال أهل الكوفة : سميت مائدة لحركتها بما عليها من قولهم : ماد الشيء إذا مال وتحرك  .

 قال الشاعر :
لعلك باك إن تغنت حمامة ... يميد بها غصن من الأيك مائل
وقال آخر :
وأقلقني قتل الكناني بعده ... فكادت بي الأرض الفضاء تميد
ومنه قوله تعالى : {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ } . وقال أبو عبيدة : مائدة فاعلة بمعنى مفعولة ، مثله {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} بمعنى مرضية و {مَاءٍ دَافِقٍ} أي مدفوق. قوله تعالى : {تَكُونُ لَنَا عِيداً} والمعنى : يكون يوم نزولها {عِيداً لأَوَّلِنَا} أي لأول أمتنا وآخرها  

فقيل : إن المائدة نزلت عليهم يوم الأحد غدوة وعشية فلذلك جعلوا الأحد عيدا والعيد واحد الأعياد وإنما جمع بالياء وأصله الواو للزومها في الواحد ويقال : للفرق بينه وبين أعواد الخشب وقد عيدوا أي شهدوا العيد قال الجوهري وقيل : أصله من عاد يعود أي رجع فهو عود بالواو ، فقلبت ياء لانكسار ما قبلها مثل الميزان والميقات والميعاد فقيل ليوم الفطر والأضحى : عيدا لأنهما يعودان كل سنة.

 وقال الخليل : العيد كل يوم يجمع كأنهم عادوا إليه. وقال ابن الأنباري : سمي عيدا للعود في المرح والفرح فهو يوم سرور الخلق كلهم ؛ ألا ترى أن المسجونين في ذلك اليوم لا يطالبون ولا يعاقبون ولا يصاد الوحش ولا الطيور ولا تنفذ الصبيان إلى المكاتب

 وقيل : سمي عيدا لأن كل إنسان يعود إلى قدر منزلته ألا ترى إلى اختلاف ملابسهم وهيئاتهم ومآكلهم فمنهم من يضيف ومنهم من يضاف ومنهم من يرحم ومنهم من يرحم
قال ابن عباس : يأكل منها آخر الناس كما يأكل منها أولهم. {وَآيَةً مِنْكَ} يعني دلالة وحجة. {وَارْزُقْنَا} أي أعطنا. {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أي خير من أعطى خير من ورزق لأنك الغني الحميد.
115- {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ}

قوله تعالى {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} هذا وعد من الله تعالى أجاب به سؤال عيسى كما كان سؤاله عيسى إجابة للحواريين وهذا يوجب أنه قد أنزلها ووعده الحق فجحد القوم وكفروا بعد نزولها فمسخوا قردة وخنازير قال ابن عمر : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون قال الله تعالى {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ}

قال ابن عباس : إن عيسى ابن مريم قال لبني إسرائيل : "صوموا ثلاثين يوما ثم سلوا الله ما شئتم يعطكم" فصاموا ثلاثين يوما وقالوا : يا عيسى لو عملنا لأحد فقضينا عملنا لأطعمنا وإنا صمنا وجعنا فادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها ، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات فوضعوها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم

وذكر أبو عبدالله محمد بن علي الترمذي الحكيم في "نوادر الأصول" له : حدثنا عمر بن أبي عمر قال حدثنا عمار بن هارون الثقفي عن زكرياء بن حكيم الحنظلي عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال : لما سألت الحواريون عيسى ابن مريم صلوات الله وسلامه عليه المائدة قام فوضع ثياب الصوف ولبس ثياب المسوح وهو سربال من مسوح أسود ولِحاف أسود فقام فألزق القدم بالقدم وألصق العقب بالعقب والإبهام بالإبهام .

 ووضع يده اليمنى على يده اليسرى ثم طأطأ رأسه خاشعا لله ثم أرسل عينيه يبكى حتى جرى الدمع على لحيته وجعل يقطر على صدره ثم قال : {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} الآية. فنزلت سفرة حمراء مدورة بين غمامتين من فوقها وغمامة من تحتها والناس ينظرون إليها ؛ فقال عيسى : "اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها فتنة إلهي أسألك من العجائب فتعطى" فهبطت بين يدي عيسى عليه السلام وعليها منديل مغطى فخر عيسى ساجدا والحواريون معه وهم يجدون لها رائحة طيبة ولم يكونوا يجدون مثلها قبل ذلك فقال عيسى : "أيكم أعبد لله وأجرأ على الله وأوثق بالله فليكشف عن هذه السفرة حتى نأكل منها ونذكر اسم الله عليها ونحمد الله عليها"

فقال الحواريون : يا روح الله أنت أحق بذلك فقام عيسى صلوات الله عليه فتوضأ وضوءا حسنا وصلى صلاة جديدة ودعا دعاء كثيرا ثم جلس إلى السفرة فكشف عنها فإذا عليها سمكة مشوية ليس فيها شوك تسيل سيلان الدسم وقد نضد حولها من كل البقول ما عدا الكراث وعند رأسها ملح وخل وعند ذنبها خمسة أرغفة على واحد منها خمس رمانات وعلى الآخر تمرات وعلى الآخر زيتون

قال الثعلبي : على واحد منها زيتون ، وعلى الثاني عسل وعلى الثالث بيض وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فبلغ ذلك اليهود فجاؤوا غما ينظرون إليه فرأوا عجبا فقال شمعون وهو رأس الحواريين : يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الجنة ؟

فقال عيسى صلوات الله عليه : "أما افترقتم بعد عن هذه المسائل ما أخوفني أن تعذبوا" فقال شمعون : وإله بني إسرائيل ما أردت بذلك سوءا فقالوا : يا روح الله لو كان مع هذه الآية آية أخرى قال عيسى عليه السلام : "يا سمكة احيي بإذن الله" فاضطربت السمكة طرية تَبِصُّ عيناها ، ففزع الحواريون فقال عيسى : "ما لي أراكم تسألون عن الشيء فإذا أعطيتموه كرهتموه ما أخوفني أن تعذبوا" وقال : "لقد نزلت من السماء وما عليها طعام من الدنيا ولا من طعام الجنة ولكنه شيء ابتدعه الله بالقدرة البالغة فقال لها كوني فكانت

" فقال عيسى : "يا سمكة عودي كما كنت" فعادت مشوية كما كانت فقال الحواريون : يا روح الله كن أول من يأكل منها ، فقال عيسى : "معاذ الله إنما يأكل منها من طلبها وسألها" فأبت الحواريون أن يأكلوا منها خشية أن تكون مَثُلَة وفتنة فلما رأى عيسى ذلك دعا عليها الفقراء والمساكين والمرضى والزمنى والمجذمين والمقعدين والعميان وأهل الماء الأصفر ،

وقال : "كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم واحمدوا الله عليه" وقال : "يكون المهنأ لكم والعذاب على غيركم" فأكلوا حتى صدروا عن سبعة آلاف وثلاثمائة يتجشؤون فبرئ كل سقيم أكله منه واستغنى كله فقير أكل منه حتى الممات فلما رأى ذلك الناس ازدحموا عليه فما بقي صغير ولا كبير ولا شيخ ولا شاب ولا غني ولا فقير إلا جاؤوا يأكلون منه فضغط بعضهم بعضا

5-ذو القرنين

[83] {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً}
[84] {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً}
[85] {فَأَتْبَعَ سَبَباً}
[86] {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً}
[87] {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً}
[88] {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً}
[89] {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً}
[90] {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً}
[91] {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً}
قوله تعالى : {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً} قال ابن إسحاق : وكان من خبر ذي القرنين أنه أوتى ما لم يؤت غيره ، فمدت له الأسباب حتى انتهى من البلاد إلى مشارق الأرض ومغاربها ، لا يطأ أرضا إلا سلط على أهلها ، حتى انتهى من المشرق والمغرب إلى ما ليس وراءه شيء من الخلق. قال ابن إسحاق : حدثني من يسوق الأحاديث عن الأعاجم فيما توارثوا من علم ذي القرنين أن ذا القرنين كان من أهل مصر اسمه مرزبان بن مردبة اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح. قال ابن هشام : واسمه الإسكندر

وهو الذي بنى الإسكندرية فنسبت إليه. قال ابن إسحاق : وقد حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان الكلاعي - وكان خالد رجلا قد أدرك الناس - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذي القرنين فقال : "ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب" وقال خالد : وسمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجلا يقول يا ذا القرنين ، فقال : "اللهم غفرا أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة" قال ابن إسحاق : فالله أعلم أي ذلك كان ؟ أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أم لا ؟ والحق ما قال.

 قلت : وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه مثل قول عمر ؛ سمع رجل يدعو آخر يا ذا القرنين ، فقال علي : "أما كفاكم أن تسميتم بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة" وعنه أنه عبد ملك "بكسر اللام" صالح نصح الله فأيده. وقيل : هو نبي مبعوث فتح الله تعالى على يديه الأرض. وذكر الدار قطني في كتاب الأخبار أن ملكا يقال له رباقيل كان ينزل على ذي القرنين ، وذلك الملك هو الذي يطوي الأرض يوم القيامة ، وينقضها فتقع أقدام الخلائق كلهم بالساهرة ؛ فيما ذكر بعض أهل العلم.

وقال السهيلي : وهذا مشاكل بتوكيله بذي القرنين الذي قطع الأرض مشارقها ومغاربها ؛ كما أن قصة خالد بن سنان في تسخير النار له مشاكلة بحال الملك الموكل بها ، وهو مالك عليه السلام وعلى جميع الملائكة أجمعين. ذكر ابن أبي خيثمة في كتاب البدء له خالد بن سنان العبسي وذكر نبوته ، وذكر أنه وكل به من الملائكة مالك خازن النار ، وكان من أعلام نبوته أن نارا يقال لها نار الحدثان ، كانت تخرج على الناس من مغارة فتأكل الناس ولا يستطيعون ردها ، فردها خالد بن سنان فلم تخرج بعد. واختلف في اسم ذي القرنين وفي السبب الذي سمي به بذلك اختلافا كثيرا ؛ فأما اسمه فقيل : هو الإسكندر الملك اليوناني المقدوني ، وقد تشدد قافه فيقال : المقدوني. وقيل : اسمه هرمس. ويقال : اسمه هرديس.

وقال ابن هشام : هو الصعب ابن ذي يزين الحميري من ولد وائل بن حمير ؛ وقد تقدم قول ابن إسحاق. وقال وهب بن منبه : هو رومي. وذكر الطبري حديثا عن النبي عليه الصلاة والسلام "أن ذا القرنين شاب من الروم" وهو حديث واهي السند ؛ قال ابن عطية.

 قال السهيلي : والظاهر من علم الأخبار أنهما اثنان : أحدهما : كان على عهد إبراهيم عليه السلام ، ويقال : إنه الذي قضى لإبراهيم عليه السلام حين تحاكموا إليه في بئر السبع بالشام. والآخر : أنه كان قريبا من عهد عيسى عليه السلام. وقيل : إنه أفريدون الذي قتل بيوراسب بن أرونداسب الملك الطاغي على عهد إبراهيم عليه السلام ، أو قبله بزمان. وأما الاختلاف في السبب الذي سمي به
وقيل : إنه رأى في أول ملكه كأنه قابض على قرني الشمس ، فقص ذلك ، ففسر أنه سيغلب ما ذرت عليه الشمس ، فسمي بذلك ذا القرنين. وقيل : إنما سمي بذلك ، لأنه بلغ المغرب والمشرق فكأنه حاز قرني الدنيا. وقالت طائفة : إنه لما بلغ مطلع الشمس كشف بالرؤية قرونها فسمي بذلك ذا القرنين

وبالجملة فإن الله تعالى مكنه وملكه ودانت له الملوك
قوله تعالى : {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ} قال علي رضي الله عنه : "سخر له السحاب ، ومدت له الأسباب ، وبسط له في النور ، فكان الليل والنهار عليه سواء"
قوله تعالى : {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} قال ابن عباس : "من كل شيء علما يتسبب به إلى ما يريد" وقال الحسن : بلاغا إلى حيث أراد. وقيل : من كل شيء يحتاج إليه الخلق. وقيل : من كل شيء يستعين به الملوك من فتح المدائن وقهر الأعداء.
قوله تعالى : {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} قرأ ابن عاصم وعامر وحمزة والكسائي {حامية} أي حارة. الباقون {حَمِئَةٍ} أي كثيرة الحمأة وهي الطينة السوداء ،

وقال عبد الله بن عمرو : نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غربت ؛ فقال : "نار الله الحامية لولا ما يزعها من أمر الله لأحرقت ما على الأرض" . وقال ابن عباس : "أقرأنيها أبي كما أقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} ؛ وقال معاوية : هي "حامية" فقال عبد الله بن عمرو بن العاص : فأنا مع أمير المؤمنين ؛ فجعلوا كعبا بينهم حكما وقالوا : يا كعب كيف تجد هذا في التوراة ؟ فقال : أجدها تغرب في عين سوداء ، فوافق ابن عباس" وقال الشاعر وهو تبع اليماني :
قد كان ذو القرنين قبلي مسلما    ملكا تدين له الملوك وتسجد
بلغ المغارب والمشارق يبتغي        أسباب أمر من حكيم مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها     في عين ذي خلب وثأط حرمد
الخلب : الطين : والثأط : الحماة. والحرمد. والأسود. وقال القفال قال بعض العلماء : ليس المراد أنه انتهى إلى الشمس مغربا ومشرقا وصل إلى جرمها ومسها ؛ لأنها تدور مع السماء حول الأرض من غير أن تلتصق بالأرض ، وهي أعظم من أن تدخل في عين من عيون الأرض ، بل هي أكبر من الأرض أضعافا مضاعفة ، بل المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة من جهة المغرب ومن جهة المشرق ، فوجدها في رأي العين تغرب في عين حمئة ، كما أنا نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض .

 ولهذا قال : {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً} ولم يرد أنها تطلع عليهم بأن تماسهم وتلاصقهم ، بل أراد أنهم أول من تطلع عليهم. وقال القتبي : ويجوز أن تكون هذه العين من البحر ، ويجوز أن تكون الشمس تغيب وراءها أو معها أو عندها ، فيقام حرف الصفة مقام صاحبه والله أعلم.
قوله تعالى : {وَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً} أي عند العين ، أو عند نهاية العين ، وهم أهل جابرس ، ويقال لها بالسريانية : جرجيسا ؛ يسكنها قوم من نسل ثمود بقيتهم الذين آمنوا بصالح ؛ ذكره السهيلي.

 وقال وهب بن منبه : "كان ذو القرنين رجلا من الروم ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره وكان اسمه الإسكندر ،يبدوا أنه خلاف الإسكندر المقدوني  فلما بلغ وكان عبد ا صالحا قال الله تعالى : يا ذا القرنين إني باعثك إلى أمم الأرض وهم أمم مختلفة ألسنتهم ، وهم أمم جميع الأرض .

 وهم أصناف : أمتان بينهما طول الأرض كله ، وأمتان بينهما عرض الأرض كله ، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج ؛ فأما اللتان بينهما طول الأرض فأمة عند مغرب الشمس يقال لها ناسك ، وأما الأخرى فعند مطلعها ويقال لها منسك. وأما اللتان بينهما عرض الأرض فأمة في قطر الأرض الأيمن يقال لها هاويل ؛ وأما الأخرى التي في قطر الأرض الأيسر يقال لها تاويل.

فقال ذو القرنين : إلهي قد ندبتني لأمر عظيم لا يقدر قدره إلا أنت ؛ فأخبرني عن هذه الأمم بأي قوة أكاثرهم ؟ وبأي صبر أقاسيهم ؟ وبأي لسان أناطقهم ؟ فكيف لي بأن أفقه لغتهم وليس عندي قوة ؟ فقال الله تعالى : سأظفرك بما حملتك ؛ أشرح لك صدرك فتسمع كل شيء ، وأثبت لك فهمك فتفقه كل شيء ، وألبسك الهيبة فلا يروعك شيء ، وأسخر لك النور والظلمة فيكونان جندا من جنودك ، يهديك النور من أمامك ، وتحفظك الظلمة من ورائك.

 فلما قيل له ذلك سار بمن اتبعه ، فانطلق إلى الأمة التي عند مغرب الشمس ؛ لأنها كانت أقرب الأمم منه وهي ناسك ، فوجد جموعا لا يحصيها إلا الله تعالى وقوة وبأسا لا يطيقه إلا الله. وألسنة مختلقة ، وأهواء متشتتة فكاثرهم بالظلمة ؛ فضرب حولهم ثلاث عساكر من جند الظلمة قدر ما أحاط بهم من كل مكان .

حتى جمعتهم في مكان واحد ، ثم دخل عليهم بالنور فدعاهم إلى الله تعالى وإلى عبادته ، فمنهم من آمن به ومنهم من كفر وصد عنه ، فأدخل على الذين تولوا الظلمة فغشيتهم من كل مكان ، فدخلت إلى أفواههم وأنوفهم وأعينهم وبيوتهم وغشيتهم من كل مكان ، فتحيروا وماجوا وأشفقوا أن يهلكوا .

 فعجوا إلى الله تعالى بصوت واحد : إنا آمنا ؛ فكشفها عنهم ، وأخذهم عنوة ، ودخلوا في دعوته ، فجند من أهل المغرب أمما عظيمة فجعلهم جندا واحدا ، ثم انطلق بهم يقودهم ، والظلمة تسوقهم وتحرسه من خلفه ، والنور أمامهم يقوده ويدله ، وهو يسير في ناحية الأرض اليمنى يريد الأمة التي في قطر الأرض الأيمن وهى هاويل.

 وسخر الله تعالى يده وقلبه وعقله ونظره فلا يخطئ إذا عمل عملا ، فإذا أتوا مخاضة أو بحرا بنى سفنا من ألواح صغار مثل النعال فنظمها في ساعة ، ثم جعل فيها جميع من معه من تلك الأمم ، فإذا قطع البحار والأنهار فتقها ودفع إلى كل رجل لوحا فلا يكترث بحمله.

 فانتهى إلى هاويل وفعل بهم كفعله بناسك فآمنوا ، ففرغ منهم ، وأخذ جيوشهم وانطلق إلى ناحية الأرض الأخرى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس ، فعمل فيها وجند منها جنودا كفعله في الأولى .

 ثم كر مقبلا حتى أخذ ناحية الأرض اليسرى يريد تاويل ، وهي الأمة التي تقابل هاويل بينهما عرض الأرض ، ففعل فيها كفعله فيما قبلها ، ثم عطف إلى الأمم التي في وسط الأرض من الجن الإنس ويأجوج ومأجوج ، فلما كان في بعض الطريق مما يلي منقطع الترك من المشرق قالت أمة صالحة من الإنس : يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقا من خلق الله تعالى كثيرا لهم عدد ، وليس فيهم مشابهة من الإنس ، وهم أشباه البهائم ؛ يأكلون العشب ، ويفترسون الدواب والوحش كما تفترسها السباع

 ويأكلون حشرات الأرض كلها من الحيات والعقارب والوزغ وكل ذي روح مما خلق الله تعالى في الأرض ، وليس لله تعالى خلق ينمو نماءهم في العام الواحد ، فإن طالت المدة فسيملؤون الأرض ، ويجلون أهلها فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ؟
قوله تعالى : {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ} قال القشيري أبو نصر : إن كان نبيا فهو وحي ، وإن لم يكن نبيا فهو إلهام من الله تعالى. {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} قال إبراهيم بن السري : خيره بين هذين كما خير محمدا صلى الله عليه وسلم فقال : {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} ونحوه. وقال أبو إسحاق الزجاج : المعنى أن الله تعالى خيره بين هذين الحكمين .

قال النحاس : وردّ علي بن سليمان عليه قوله ؛ لأنه لم يصح أن ذا القرنين نبي فيخاطب بهذا ، فكيف يقول لربه عز وجل : "ثم يرد إلى ربه" ؟ وكيف يقول : {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} فيخاطب بالنون ؟ قال : التقدير ؛ قلنا يا محمد قالوا يا ذا القرنين. قال أبو جعفر النحاس : هذا الذي قاله أبو الحسن لا يلزم منه شيء. أما قوله : {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ} فيجوز أن يكون الله عز وجل خاطبه على لسان نبي في وقته ، ويجوز أن يكون قال له هذا كما قال لنبيه : {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} وأما إشكال {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ}

فإن تقديره أن الله تعالى خيره بين القتل في قوله تعالى : {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ} وبين الاستبقاء في قوله جل وعز : {وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} . قال أحمد بن يحيى : "أن" في موضع نصب في {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} قال : ولو رفعت كان صوابا بمعنى فإما هو ،

 كما قال :فسيرا فإما حاجة تقضيانها       وإما مقيل صالح وصديق
قوله تعالى : {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ} أي من أقام على الكفر منكم ، {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} أي بالقتل {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ} أي يوم القيامة : {فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً} أي شديدا في جهنم. {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} أي تاب من الكفر {فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم {فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} بالرفع على الابتداء أو بالاستقرار و {الْحُسْنَى} موضع خفض بالإضافة ويحذف التنوين للإضافة ؛ أي له جزاء الحسنى عند الله تعالى في الآخرة وهي الجنة ، فأضاف الجزاء إلى الجنة .

 كقوله :{حَقُّ الْيَقِينِ} {وَلَدَارُ الآخِرَةِ} قاله الفراء. ويحتمل أن يريد بـ {الْحُسْنَى} الأعمال الصالحة ويمكن أن يكون الجزاء من ذي القرنين ؛ أي أعطيه وأتفضل عليه
قوله تعالى : {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} تقدم معناه أن أتبع واتبع بمعنى أي سلك طريقا ومنازل.
قوله تعالى : {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ} وقرأ مجاهد وابن محيصن بفتح الميم واللام ؛ يقال : طلعت الشمس والكواكب طلوعا ومطلعا. والمطلَع والمطلِع أيضا موضع طلوعها قاله الجوهري. {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ} المعنى أنه انتهى إلى موضع قوم لم يكن بينهم وبين مطلع الشمس أحد من الناس. والشمس تطلع وراء ذلك بمسافة بعيدة
قوله تعالى : {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً} أي حجابا يستترون منها عند طلوعها. قال قتادة : لم يكن بينهم وبين الشمس سترا ؛ كانوا في مكان لا يستقر عليه بناء ، وهم يكونون في أسراب لهم ، حتى إذا زالت الشمس عنهم رجعوا إلى معايشهم وحروثهم ؛ يعني لا يستترون منها بكهف جبل ولا بيت يكنهم منها.

 [92] {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً}
تقدم معناه أن أتبع واتبع بمعنى أي سلك طريقا ومنازل.
[93] {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً}
[94] {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً}
[95] {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً}
[96] {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً}
[97] {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً}
[98] {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً}
قوله تعالى : {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} وهما جبلان من قبل أرمينية وأذربيجان. روى عطاء الخراساني عن ابن عباس : {بَيْنَ السَّدَّيْنِ} الجبلين أرمينية وأذربيجان {وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا} أي من ورائهما. {قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} وقرأ حمزة والكسائي {يَفْقَهُونَ} بضم الياء وكسر القاف من أفقه إذا أبان أي لا يفقهون غيرهم كلاما. الباقون بفتح الياء والقاف ، أي يعلمون. والقراءتان صحيحتان ، فلا هم يفقهون من غيرهم ولا يفقهون غيرهم.
قوله تعالى : {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ} أي قالت له أمة من الإنس صالحة. {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} قال الأخفش : من همز "يأجوج" فجعل الألفين من الأصل يقول : يأجوج يفعول ومأجوج مفعول كأنه من أجيج النار.

واختلف في إفسادهم ؛ سعيد بن عبد العزيز : إفسادهم أكل بني آدم. وقالت فرقة : إفسادهم إنما كان متوقعا ، أي سيفسدون ، فطلبوا وجه التحرز منهم. وقالت فرقة : إفسادهم هو الظلم والغشم والقتل وسائر وجوه الإفساد المعلوم من البشر ، والله أعلم.

وقد وردت أخبار بصفتهم وخروجهم وأنهم ولد يافث. روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ولد لنوح سام وحام ويافث فولد سام العرب وفارس والروم والخير فيهم وولد يافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة ولا خير فيهم وولد حام القبط والبربر والسودان".

قال مقاتل وغيره. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا يموت رجل منهم حتى يولد لصلبه ألف رجل" . يعني يأجوج ومأجوج. وقال أبو سعيد : "هم خمس وعشرون قبيلة من وراء يأجوج ومأجوج لا يموت الرجل من هؤلاء ومن يأجوج ومأجوج حتى يخرج من صلبه ألف رجل" ذكره القشيري. وقال عبد الله بن مسعود : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج ، فقال ، عليه الصلاة والسلام : "يأجوج ومأجوج أمتان كل أمة أربعمائة ألف أمة كل أمة لا يعلم عددها إلا الله لا يموت الرجل منهم حتى يولد له ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح"

قيل : يا رسول الله صفهم لنا. قال : "هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز - شجر بالشام طول الشجرة عشرون ومائة ذراع - وصنف عرضه وطوله سواء نحوا من الذراع وصنف يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ويأكلون من مات منهم مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار الشرق وبحيرة طبرية فيمنعهم الله من مكة والمدينة وبيت المقدس" .

 وقال علي رضي الله تعالى عنه : "وصنف منهم في طول شبر ، لهم مخالب وأنياب السباع ، وتداعي الحمام ، وتسافد البهائم ، وعواء الذئاب ، وشعور تقيهم الحر والبرد ، وآذان عظام إحداها وبرة يشتون فيها ، والأخرى جلدة يصيفون فيها ، ويحفرون السد حتى كادوا ينقبونه فيعيده الله كما كان ، فيقولون : ننقبه غدا إن شاء الله تعالى فينقبونه ويخرجون ، ويتحصن الناس بالحصون ، فيرمون إلى السماء فيرد السهم عليهم ملطخا بالدم ، ثم يهلكم الله تعالى بالنغف في رقابهم". ذكره الغزنوي. وقال علي عن النبي صلى الله عليه وسلم : "يأجوج أمة لها أربعمائة أمير وكذا مأجوج لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف فارس من ولده" .
قلت : وقد جاء مرفوعا من حديث أبي هريرة ، خرجه ابن ماجه في السنن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن يأجوج ومأجوج يحفران كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا فيعيده الله أشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله تعالى أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله تعالى فاستثنوا فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحقرونه ويخرجون على الناس فينشفون الماء ويتحصن الناس منهم في حصونهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فيرجع عليها الدم - الذي أحفظ - فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله تعالى عليهم نغفا في أقفائهم فيقتلهم بها" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكرا من لحومهم"
 فجاء ذو القرنين فضرب السد فبقيت في هذا الجانب. قال السدي : بني السد على إحدى وعشرين قبيلة ، وبقيت منهم قبيلة واحدة دون السد فهم الترك قاله قتادة.
قلت : وإذا كان هذا فقد نعت النبي صلى الله عليه وسلم الترك كما نعت يأجوج ومأجوج ، فقال عليه الصلاة والسلام : "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك قوما وجوههم كالمجان المطرقة يلبسون الشعر ويمشون في الشعر" في رواية "ينتعلون الشعر" خرجه مسلم وأبو داود وغيرهما. ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم عددهم وكثرتهم وحدة شوكتهم قال عليه الصلاة والسلام : "اتركوا الترك ما تركوكم" .

وقد خرج منهم في هذا الوقت أمم لا يحصيهم إلا الله تعالى ، ولا يردهم عن المسلمين إلا الله تعالى ، حتى كأنهم يأجوج ومأجوج أو مقدمتهم. وروى أبو داود عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ينزل ناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة عند نهر يقال له دجلة يكون عليه جسر يكثر أهلها وتكون من أمصار المهاجرين –

 قال ابن يحيى قال أبو معمر وتكون من أمصار المسلمين فإذا كان في آخر الزمان جاء بنو قنطوراء عراض الوجوه صغار الأعين حتى ينزلوا على شاطئ النهر فيتفرق أهلها ثلاث فرق فرقة يأخذون أذناب البقر والبرية وهلكوا وفرقة يأخذون لأنفسهم وكفروا وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهورهم ويقاتلونهم وهم الشهداء" الغائط المطمئن من الأرض والبصرة الحجارة الرخوة وبها سميت البصرة وبنو قنطوراء هم الترك يقال : إن قنطوراء اسم جارية كانت لإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ، ولدت له أولادا جاء من نسلهم الترك.

قوله تعالى : {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} فيه مسألتان :
الأولى ـ قوله تعالى : {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً} استفهام على جهة حسن الأدب "خرجا" أي جعلا وقرئ "خراجا" والخرج أخص من الخراج يقال : أد خرج رأسك وخراج مدينتك وقال الأزهري : الخراج يقع على الضريبة ، ويقع على مال الفيء ، ويقع على الجزية وعلى الغلة والخراج اسم لما يخرج من الفرائض في الأموال.

والخرج : المصدر. {عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} أي ردما ؛ والردم ما جعل بعضه على بعض حتى يتصل وثوب مردم أي مرقع قال الهروي يقال : ردمت الثلمة أردمها بالكسر ردما أي سددتها والردم أيضا الاسم وهو السد وقيل : الردم أبلغ من السد إذ السد كل ما يسد به والردم وضع الشيء على الشيء من حجارة أو تراب أو نحوه حتى يقوم من ذلك حجاب منيع ومنه ردم ثوبه إذا رقعه برقاع متكاثفة بعضها فوق بعض
في هذه الآية دليل على اتخاذ السجون ، وحبس أهل الفساد فيها ، ومنعهم من التصرف لما يريدونه ، ولا يتركون وما هم عليه ، بل يوجعون ضربا ويحبسون أو يكلفون ويطلقون كما فعل عمر رضي الله عنه.

قوله تعالى : {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} فيه مسألتان
[الأولى] قوله تعالى : {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} المعنى قال لهم ذو القرنين ما بسطه الله تعالى لي من القدرة والملك خير من خرجكم وأموالكم ولكن أعينوني بقوة الأبدان ، أي برجال وعمل منكم بالأبدان ، والآلة التي أبني بها الردم وهو السد وهذا تأييد من الله تعالى لذي القرنين في هذه المحاورة فإن القوم لو جمعوا له خرجا لم يعنه أحد ولو كلوه إلى البنيان ومعونته بأنفسهم أجمل به وأسرع في انقضاء هذا العمل وربما أربى ما ذكروه له على الخرج. وقرأ ابن كثير وحده {ما مكنني} بنونين. وقرأ الباقون {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي}
[الثانية] في هذه الآية دليل على أن الملك فرض عليه أن يقوم بحماية الخلق في حفظ بيضتهم ، وسد فرجتهم ، وإصلاح ثغورهم ، من أموالهم التي تفيء عليهم ، وحقوقهم التي تجمعها خزانتهم تحت يده ونظره ، حتى لو أكلتها الحقوق ، وأنفذتها المؤن ، لكان عليهم جبر ذلك من أموالهم ، وعليه حسن النظر لهم .

 وذلك بثلاثة شروط : الأول : ألا يستأثر عليهم بشيء. الثاني : أن يبدأ بأهل الحاجة فيعينهم الثالث أن يسوي في العطاء بينهم على قدر منازلهم ، فإذا فنيت بعد هذا وبقيت صفرا فأطلعت الحوادث أمرا بذلوا أنفسهم قبل أموالهم ، فإن لم يغن ذلك فأموالهم تؤخذ منهم على تقدير ، وتصريف بتدبير ؛ فهذا ذو القرنين لما عرضوا عليه المال في أن يكف عنهم ما يحذرونه من عادية يأجوج ومأجوج.

 قال : لست احتاج إليه وإنما احتاج إليكم {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} أي اخدموا بأنفسكم معي ، فان الأموال عندي والرجال عندكم ، ورأى أن الأموال لا تغني عنهم ، فإنه إن أخذها أجرة نقص ذلك مما يحتاج إليه ، فيعود بالأجر عليهم ، فكان التطوع بخدمة الأبدان أولى. وضابط الأمر أنه لا يحل مال أحد إلا لضرورة تعرض ، فيؤخذ ذلك ، المال جهرا لا سرا ، وينفق بالعدل لا بالاستئثار ، وبرأي الجماعة لا بالاستبداد بالأمر. والله تعالى الموفق للصواب.
قوله تعالى : {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} أي أعطوني زبر الحديد وناولونيها أمرهم بنقل الآلة ، وهذا كله إنما هو استدعاء العطية التي بغير معنى الهبة ، وإنما هو استدعاء للمناولة ،

لأنه قد ارتبط من قوله : إنه لا يأخذ منهم الخرج فلم يبق إلا استدعاء المناولة ، وأعمال الأبدان و {زُبَرَ الْحَدِيدِ} قطع الحديد.
قوله تعالى : {حَتَّى إِذَا سَاوَى} يعني البناء فحذف لقوة الكلام عليه. {بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} قال أبو عبيدة : هما جانبا الجبل ، وسميا بذلك لتصادفهما أي لتلاقيهما. وقاله الزهري وابن عباس ؛ "كأنه يعرض عن الآخر" من الصدوف .
ويقال للبناء المرتفع صدف تشبيه بجانب الجبل. وفي الحديث : كان إذا مر بصدف مائل أسرع المشي. قال أبو عبيد : الصدف والهدف كل بناء عظيم مرتفع.

قوله تعالى : {قَالَ انْفُخُوا} إلى آخر الآية أي على زبر الحديد بالأكيار ، وذلك أنه كان يأمر بوضع طاقة من الزبر والحجارة ، ثم يوقد عليها الحطب والفحم بالمنافخ حتى تحمى ، والحديد إذا أوقد عليه صار كالنار ، فذلك قوله تعالى : {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً}

ثم يؤتى بالنحاس المذاب أو بالرصاص أو بالحديد بحسب الخلاف في القطر ، فيفرغه على ذلك الطاقة المنضدة ، فإذا التأم واشتد ولصق البعض بالبعض استأنف وضع طاقة أخرى ، إلى أن استوى العمل فصار جبلا صلدا قال قتادة : هو كالبرد المحبر ، طريقة سوداء ، وطريقة حمراء. ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : جاءه رجل فقال : يا رسول الله إني رأيت سد يأجوج ومأجوج ، قال : "كيف رأيته" قال : رأيته كالبرد المحبر ، طريقة صفراء ، وطريقة حمراء ، وطريقة سوداء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قد رأيته" . ومعنى {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً} أي كالنار.
قوله تعالى : {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} أي أعطوني قطرا أفرغ عليه ، على التقديم والتأخير. ومن قرأ {ائتوني} فالمعنى عنده تعالوا أفرغ عليه نحاسا. والقطر عند أكثر المفسرين النحاس المذاب ، وأصله من القطر ؛ لأنه إذا أذيب قطر كما يقطر الماء وقالت فرقة : القطر الحديد المذاب. وقالت فرقة منهم ابن الأنباري : الرصاص المذاب. وهو مشتق من قطر يقطر قطرا. ومنه {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} .
قوله تعالى : {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} أي ما استطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوه ويصعدوا فيه ؛ لأنه أملس مستو مع الجبل والجبل عال لا يرام. وارتفاع السد مائتا ذراع وخمسون ذراعا. وروي : في طوله ما بين طرفي الجبلين مائة فرسخ ، وفي عرضه خمسون فرسخ ؛ قاله وهب بن منبه.
قوله تعالى : {مَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً} لبعد عرضه وقوته. وروي في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه" وعقد وهب بن منبه بيده تسعين وفي رواية - وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها..." وذكر الحديث.

وذكر يحيى بن سلام عن سعد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن يأجوج ومأجوج يخرقون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم أرجعوا فستخرقونه غدا فيعيده الله كأشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم أرجعوا فستحفرونه إن شاء الله فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيخرقونه ويخرجون على الناس..."

قوله تعالى : {فَمَا اسْطَاعُوا} بتخفيف الطاء بمعنى استطاعوا.
قوله تعالى : {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} القائل ذو القرنين ، وأشار بهذا إلى الردم ، والقوة عليه ، والانتفاع به في دفع ضرر يأجوج ومأجوج.
قوله تعالى : {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} أي يوم القيامة. وقيل : وقت خروجهم. {جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} أي مستويا بالأرض .

وقال الأزهري : يقال دككته أي دققته. ومن قرأ {دكاء} أراد جعل الجبل أرضا دكاء ، وهي الرابية التي لا تبلغ أن تكون جبلا وجمعها دكاوات. قرأ حمزة وعاصم والكسائي {دكاء} بالمد على التشبيه بالناقة الدكاء ، وهي التي لا سنام لها ، وفي الكلام حذف تقديره : جعله مثل دكاء ؛ ولا بد من تقدير هذا الحذف. لأن السد مذكر فلا يوصف بدكاء. ومن قرأ {دكا} فهو مصدر دك يدك إذا هدم ورض ؛ ويحتمل أن يكون "جعل" بمعنى خلق. وينصب "دكا" على الحال. وكذلك النصب أيضا في قراءة من مد يحتمل الوجهين.
6- أُمِّ مُوسَى

قوله تعالى : {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} اختلف في هذا الوحي إلى أم موسى ؛ فقالت فرقة : كان قولا في منامها وقال قتادة : كان إلهاما وقالت فرقة : كان بملك يمثل لها ، قال مقاتل ـ أتاها جبريل بذلك فعلي هذا هو وحي إعلام لا إلهام وأجمع الكل على أنها لم تكن نبية ، وإنما إرسال الملك إليها على نحو تكليم الملك للأقرع والأبرص والأعمى في الحديث المشهور ؛ خرجه البخاري ومسلم ، وقد روي الكثير من الأحاديث عن  تكليم الملائكة للناس من غير نبوة ، وقد سلمت على عمران بن حصين فلم يكن بذلك نبيا .

{أَنْ أَرْضِعِيهِ} وقرأ عمر بن عبد العزيز : {أَنِ أَرْضِعِيهِ} بكسر النون وألف وصل ؛ حذف همزة أرضع تخفيفا ثم كسر النون لالتقاء الساكنين قال مجاهد : وكان الوحي بالرضاع قبل الولادة. وقال غيره بعدها. قال السدي : لما ولدت أم موسى أمرت أن ترضعه عقيب الولادة وتصنع به بما في الآية ؛ لأن الخوف كان عقيب الولادة

قوله تعالى : {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} و {إِذا} لما يستقبل من الزمان ؛ فيروي أنها أتخذت له تابوتا من بردي وقيرته بالقار من داخله ، ووضعت فيه موسى وألقته في نيل مصر قال ابن عباس : إن بني إسرائيل لما كثروا بمصر استطالوا على الناس ، وعملوا بالمعاصي ، فسلط الله عليهم القبط ، وساموهم سوء العذاب ، إلى أن نجاهم الله على يد موسى

 قال وهب : بلغني أن فرعون ذبح في طلب موسى سبعين ألف وليد ويقال : تسعون ألفا ويروي أنها حين اقتربت وضربها الطلق ، وكانت بعض القوابل الموكلات بحبالى بني إسرائيل مصافية لها ، فقالت : لينفعني حبك اليوم ، فعالجتها فلما وقع إلى الأرض هالها نور بين عينيه ، وأرتعش كل مفصل منها ، ودخل حبه قلبها ،

 ثم قالت : ما جئتك إلا لأقتل مولودك وأخبر فرعون ، ولكني وجدت لابنك حبا ما وجدت مثله قط ، فاحفظيه ؛ فلما خرجت جاء عيون فرعون فلفته في خرقة ووضعته في تنور مسجور نارا لم تعلم ما تصنع لما طاش عقلها ، فطلبوا فلم يلفوا شيئا ، فخرجوا وهي لا تدري مكانه ، فسمعت بكاءه من التنور ، وقد جعل الله عليه النار بردا وسلاما.
قوله تعالى : {وَلا تَخَافِي} فيه وجهان : أحدهما : لا تخافي عليه الغرق ؛ قاله ابن زيد الثاني : لا تخافي عليه الضيعة ؛ قاله يحيى بن سلام {وَلا تَحْزَنِي} فيه أيضا وجهان : أحدهما : لا تحزني لفراقه ؛ قاله ابن زيد الثاني : لا تحزني أن يقتل ؛ قاله يحيى بن سلام فقيل : إنها جعلته في تابوت طوله خمسة أشبار وعرضه خمسة أشبار ، وجعلت المفتاح مع التابوت وطرحته في اليم بعد أن أرضعته أربعة أشهر

 وقال آخرون : ثلاثة أشهر وقال آخرون ثمانية أشهر ؛ و أنه لما فرغ النجار من صنعة التابوت نم إلى فرعون بخبره ، فبعث معه من يأخذه ، فطمس الله عينيه وقلبه فلم يعرف الطريق ، فأيقن أنه المولود الذي يخاف منه فرعون ، فآمن من ذلك الوقت ؛ وهو مؤمن آل فرعون ؛ ذكره الماوردي. وقال ابن عباس : فلما توارى عنها ندمها الشيطان وقالت في نفسها : لو ذبح عندي فكفنته وواريته لكان أحب إلي من إلقائه في البحر

فقال الله تعالى : { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي إلى أهل مصر.
قوله تعالى : {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} لما كان التقاطهم إياه يؤدي إلى كونه لهم عدوا وحزنا ؛ فاللام في {لِيَكُونَ} لام العاقبة ولام الصيرورة ؛ لأنهم إنما أخذوه ليكون لهم قرة عين ، فكان عاقبة ذلك أن كان لهم عدوا وحزنا ، فذكر الحال بالمآل ؛ كما قال الشاعر :
وللمنايا تربي كل مرضعة ... ودورنا لخراب الدهر نبنيها
أي فعاقبة البناء الخراب وإن كان في الحال مفروحا به والالتقاط وجود الشيء من غير طلب ولا إرادة ، والعرب تقول لما وجدته من غير طلب ولا إرادة : التقطه التقاطا
 {وَحَزَناً} بضم الحاء وسكون الزاي والباقون بفتحهما وهما لغتان مثل العدم والعدم ، والسقم والسقم ، والرشد والرشد {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} وكان وزيره من القبط {وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} أي عاصين مشركين آثمين.

قوله تعالى : {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً} قال ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك وأبو عمران الجوني وأبو عبيدة : {فَارِغاً} أي خاليا من ذكر كل شيء في الدنيا إلا من ذكر موسى وقال الحسن أيضا وابن إسحاق وابن زيد : {فَارِغاً} من الوحي إذ أوحى إليها حين أمرت أن تلقيه في البحر {وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} والعهد الذي عهده إليها أن يرده ويجعله من المرسلين.

 فقال لها الشيطان : يا أم موسى كرهت أن يقتل فرعون موسى فغرقتيه أنت ! ثم بلغها أن ولدها وقع في يد فرعون فأنساها عظم البلاء ما كان من عهد الله إليها وقال أبو عبيدة : {فَارِغاً} من الغم والحزن لعلمها أنه لم يغرق ؛ وقاله الأخفش أيضا وقال العلاء بن زياد : {فَارِغاً} نافرا الكسائي : ناسيا ذاهلا .

وقيل : والها ؛ رواه سعيد بن جبير ابن القاسم عن مالك : هو ذهاب العقل ؛ والمعنى أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع والدهش ، ونحوه قوله تعالى : {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ٌ} أي جوف لا عقول وذلك أن القلوب مراكز العقول ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا}

فإذا كان فارغا من كل شيء إلا من ذكر موسى فهو فارغ من الوحي وقول أبي عبيدة فارغا من الغم غلط قبيح ؛ لأن بعده {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كادت تقول وا إبناه . وفي قوله تعالى : {وَأَصْبَحَ} وجهان : أحدهما : أنها ألقته ليلا فأصبح فؤادها في النهار فارغا الثاني : ألقته نهارا ومعنى : {وأصبح} أي صار ؛ كما قال الشاعر :
مضى الخلفاء بالأمر الرشيد ... وأصبحت المدينة للوليد
قوله تعالى : {إِنْ كَادَتْ} أي إنها كادت ؛ فلما حذفت الكناية سكنت النون فهي {إِنْ} المخففة ولذلك دخلت اللام في {لَتُبْدِي بِهِ} أي لتظهر أمره ؛ من بدا يبدو إذا ظهر قال ابن عباس : أي تصيح عند إلقائه : وا إبناه: كادت تقول لما حملت لإرضاعه وحضانته هو ابني وقيل : إنه لما شب سمعت الناس يقولون موسى بن فرعون ؛ فشق عليها وضاق صدرها ، وكادت تقول هو ابني وقيل : الهاء في {بِهِ} عائدة إلى الوحي تقديره : إن كانت لتبدي بالوحي الذي أوحيناه إليها أن نرده عليها والأول أظهر.

 قال ابن مسعود : كادت تقول أنا أمه وقال الفراء : إن كانت لتبدي باسمه لضيق صدرها. {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} قال قتادة : بالإيمان  : بالعصمة وقيل : بالصبر والربط على القلب : إلهام الصبر. {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي من المصدقين بوعد الله حين قال لها : {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} وقال : {لَتُبْدِي بِهِ} ولم يقل : لتبديه ؛ لأن حروف الصفات قد تزاد في الكلام ؛ تقول : أخذت الحبل وبالحبل وقيل : أي لتبدي القول به.
قوله تعالى : {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أي قالت أم موسى لأخت موسى : اتبعي أثره حتى تعلمي خبره واسمها مريم بنت عمران ؛ وافق اسمها اسم مريم أم عيسى عليه السلام ؛ ذكره السهيلي والثعلبي وذكر الماوردي عن الضحاك : أن اسمها كلثمة وقال السهيلي : كلثوم ؛ جاء ذلك في حديث رواه الزبير بن بكار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة : "أشعرت أن الله زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران وكلثوم أخت موسى وآسية امرأة فرعون" فقالت : الله أخبرك بهذا ؟ فقال : "نعم" فقالت : بالرفاء والبنين. {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} أي بعد ؛ قال مجاهد ومنه الأجنبي

قال الشاعر :
فلا تحرمني نائلا عن جنابة ... فإني امرؤ وسط القباب غريب
وأصله عن مكان جنب وقال ابن عباس : {عَنْ جُنُبٍ} أي عن جانب وقرأ النعمان بن سالم : {عَنْ جانِبٍ} أي عن ناحية وقيل : عن شوق ؛ وحكى أبو عمرو بن العلاء أنها لغة لجذام ؛ يقولون : جنبت إليك أي أشتقت وقيل : {عَنْ جُنُبٍ} أي عن مجانبة لها منه فلم يعرفوا أنها أمه بسبيل وقال قتادة : جعلت تنظر إليه بناحية كأنها لا تريده ، وكان يقرأ : {عن جنب} بفتح الجيم وإسكان النون. {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أنها أخته لأنها كانت تمشي على ساحل البحر حتى رأتهم قد أخذوه.
قوله تعالى : {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} أي منعناه من الارتضاع من قبل ؛ أي من قبل مجيء أمه وأخته و {الْمَرَاضِعَ} جمع مرضع ؛ فلما رأت أخته ذلك قالت {أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} الآية. فقالوا لها عند قولها : {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} وما يدريك ؟ لعلك تعرفين أهله ؟ فقالت : لا ، ولكنهم يحرصون على مسرة الملك ، ويرغبون في ظئره وقال السدي وابن جريج : قيل لها لما قالت : {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} قد عرفت أهل هذا الصبي فدلينا عليهم ، فقالت : أردت وهم للملك ناصحون فدلتهم على أم موسى ، فانطلقت إليها بأمرهم فجاءت بها ، والصبي علي يد فرعون يعلله شفقة عليه ، وهو يبكي يطلب الرضاع ، فدفعه إليها .

 فلما وجد الصبي ريح أمة قبل ثديها وقال ابن زيد استرابوها حين قالت ذلك فقالت : وهم للملك ناصحون وقيل : إنها لما قالت : {أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} وكانوا يبالغون في طلب مرضعة يقبل ثديها فقالوا : من هي ؟ فقالت : أمي ، فقيل : لها لبن ؟ قالت : نعم ! لبن هارون ـ وكان ولد في سنة لا يقتل فيها الصبيان ـ فقالوا صدقت والله. {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} أي فيهم شفقة ونصح ، فروي أنه قيل لأم موسى حين ارتضع منها : كيف ارتضع منك ولم يرتضع من غيرك ؟ فقالت : إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن ، لا أكاد أوتى بصبي إلا ارتضع مني قال أبو عمران الجوني : وكان فرعون يعطي أم موسي كل يوم دينارا قال الزمخشري : فإن قلت كيف حل لها أن تأخذ الأجر علي إرضاع ولدها ؟ قلت : ما كانت تأخذه على أنه أجر على الرضاع ، ولكنه مال حربي تأخذه علي وجه الاستباحة.
قوله تعالى : {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ} أي رددناه وقد عطف الله قلب العدو عليه ، ووفينا لها بالوعد {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} أي بولدها {وَلا تَحْزَنَ} أي بفراق ولدها {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي لتعلم وقوعه فإنها كانت عالمة بأن رده إليها سيكون. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} يعني أكثر آل فرعون لا يعلمون ؛ أي كانوا في غفلة عن التقرير وسر القضاء وقيل : أي أكثر الناس لا يعلمون أن وعد الله في كل ما وعد حق.

7- امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ

قوله تعالى : {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} يروى أن آسية امرأة فرعون رأت التابوت يعوم في البحر ، فأمرت بسوقه إليها وفتحه فرأت فيه صبيا صغيرا فرحمته وأحبته ؛ فقالت لفرعون : {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} أي هو قرة عين لي ولك فـ {قُرَّةُ} خبر ابتداء مضمر ؛ والخبر {لا تَقْتُلُوهُ} وإنما بعد لأنه يصير المعنى أنه معروف بأنه قرة عين وجوازه أن يكون المعنى : إذا كان قرة عين لي ولك فلا تقتلوه.

وقالت : {لا تَقْتُلُوهُ} ولم تقل لا تقتله فهي تخاطب فرعون كما يخاطب الجبارون ؛ وكما يخبرون عن أنفسهم وقيل : قالت : {لا تَقْتُلُوهُ} فإن الله أتى به من أرض أخرى وليس من بني إسرائيل {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} فنصيب منه خيرا {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} وكانت لا تلد ، فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها ، وكان فرعون لما رأى الرؤيا وقصها على كهنته وعلمائه ؛ قالوا له إن غلاما من بني إسرائيل يفسد ملكك ؛ فأخذ بني إسرائيل بذبح الأطفال ، فرأى أنه يقطع نسلهم فعاد يذبح عاما ويستحيي عاما ، فولد هارون في عام الاستحياء ، وولد موسى في عام الذبح.
قوله تعالى : {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} هذا ابتداء كلام من الله تعالى ؛ أي وهم لا يشعرون أن هلاكهم بسببه وقيل : هو من كلام المرأة ؛ أي وبنو إسرائيل لا يدرون أنا التقطناه ، ولا يشعرون إلا أنه ولدنا واختلف المتأولون في الوقت الذي قالت فيه امرأة فرعون {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ}

فقالت فرقة : كان ذلك عند التقاطه التابوت لما أشعرت فرعون به ولما أعلمته سبق إلى فهمه أنه من بني إسرائيل ، وأن ذلك قصد به ليتخلص من الذبح فقال : علي بالذباحين ؛ فقالت امرأته ما ذكر فقال فرعون : أما لي فلا. قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لو قال فرعون نعم لآمن بموسى ولكان قرة عين له" وقال السدي : بل ربته حتى درج فرأى فرعون فيه شهامة وظنه من بني إسرائيل وأخذه في يده ، فمد موسى يده ونتف لحية فرعون فهم حينئذ يذبحه ، وحينئذ خاطبته بهذا ، وجربته له في الياقوتة والجمرة ، فاحترق لسانه وعلق العقدة

 

8-ابن نوح وامراة نوح وامراة لوط ........

الآية : 25 {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}
الآية : 26 {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}

مسألة : نذكر فيها من قصة نوح مع قومه وبعض ذكر السفينة. ذكر الحافظ ابن عساكر في التاريخ له عن الحسن : أن نوحا أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض ؛ فذلك قوله تعالى : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت : 14] وكان قد كثرت فيهم المعاصي ، وكثرت الجبابرة وعتوا عتوا كبيرا ، وكان نوح يدعوهم ليلا ونهارا ، سرا وعلانية ، وكان صبورا حليما ، ولم يلق أحد من الأنبياء أشد مما لقي نوح ، فكانوا يدخلون عليه فيخنقونه حتى يترك وقيذا ، ويضربونه في المجالس ويطرد ، وكان لا يدعو على من يصنع به بل يدعوهم ويقول : "رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" فكان لا يزيدهم ذلك إلا فرارا منه ، حتى أنه ليكلم الرجل منهم فيلف رأسه بثوبه ، ويجعل أصبعيه في أذنيه لكيلا يسمع شيئا من كلامه ، فذلك قوله تعالى : {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} [نوح : 7].

وقال مجاهد وعبيد بن عمير : كانوا يضربونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال : "رب اغفر لقومي فأنهم لا يعلمون". وقال ابن عباس : "إن نوحا كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته يرون أنه قد مات ، ثم يخرج فيدعوهم ؛ حتى إذا يئس من إيمان قومه جاءه رجل معه ابنه وهو يتوكأ على عصا ؛ فقال : يا بني أنظر هذا الشيخ لا يغرنك ، قال : يا أبت أمكني من العصا ، فأمكنه فأخذ العصا ثم قال : ضعني في الأرض فوضعه ، فمشى إليه بالعصا فضربه فشجه شجة موضحة في رأسه ، وسالت الدماء .

 فقال نوح : "رب قد ترى ما يفعل بي عبادك فإن يك لك في عبادك خيرية فاهدهم وإن يك غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين" فأوحى الله إليه وآيسه من إيمان قومه ، وأخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن"
قال : {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ؛ أي لا تحزن عليهم.
قوله تعالى : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} ذكر سبحانه قصص الأنبياء عليهم السلام للنبي صلى الله عليه وسلم تنبيها له على ملازمة الصبر على أذى الكفار إلى أن يكفيه الله أمرهم. ؛ أي أرسلناه بأني لكم نذير مبين. ولم يقل "إنه" لأنه رجع من الغيبة إلى خطاب نوح لقومه ؛ كما قال : {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف : 145] ثم قال : {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [الأعراف 145].
قوله تعالى : {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} أي اتركوا الأصنام فلا تعبدوها ، وأطيعوا الله وحده. ومن قرأ "إني" بالكسر جعله معترضا في الكلام ، والمعنى أرسلناه بألا تعبدوا إلا الله. {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} .
الآية : 27 {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}
فيه مسألتان : -
الأولى : - قوله تعالى : {فَقَالَ الْمَلأُ} قال أبو إسحاق الزجاج : الملأ الرؤساء ؛ {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً}أي آدميا. {مِثْلَنَا}
الثانية : - قوله تعالى : {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} أراذل جمع أرذل وأرذل جمع رذل أرادوا اتبعك أخساؤنا وسقطنا وسفلتنا. قال الزجاج : نسبوهم إلى الحياكة ؛ ولم يعلموا أن الصناعات لا أثر لها في الديانة. قال النحاس : الأراذل هم الفقراء ، والذين لا حسب لهم ، والخسيسو الصناعات. وفي الحديث "أنهم كانوا حاكة وحجامين". وكان هذا جهلا منهم ؛ لأنهم عابوا نبي الله صلى الله عليه وسلم بما لا عيب فيه ؛ لأن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، إنما عليهم أن يأتوا بالبراهين والآيات ، وليس عليهم تغيير الصور والهيئات ، وهم يرسلون إلى الناس جميعا ، فإذا أسلم منهم الدنيء لم يلحقهم من ذلك نقصان ؛ لأن عليهم أن يقبلوا إسلام كل من أسلم منهم.
قلت : الأراذل هنا هم الفقراء والضعفاء ؛ كما قال هرقل لأبي سفيان : أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟ فقال : بل ضعفاؤهم ؛ فقال : هم أتباع الرسل. قال علماؤنا : إنما كان ذلك لاستيلاء الرياسة على الأشراف ، وصعوبة الانفكاك عنها ، والأنفة من الانقياد للغير ؛ والفقير خلي عن تلك الموانع ، فهو سريع إلى الإجابة والانقياد. وهذا غالب أحوال أهل الدنيا.
قوله تعالى : {بَادِيَ الرَّأْيِ} أي ظاهر الرأي ، وباطنهم على خلاف ذلك. يقال : بدا يبدو. إذا ظهر ؛ ويقال للبرية بادية لظهورها. وبدا لي أن أفعل كذا ، أي ظهر لي رأي غير الأول.

وقال الأزهري : معناه فيما يبدو لنا من الرأي. ويجوز أن يكون {بَادِيَ الرَّأْيِ} من بدأ يبدأ وحذف الهمزة. وحقق أبو عمرو الهمزة فقرأ : {بَادِيَ الرَّأْيِ} أي أول الرأي ؛ أي اتبعوك حين ابتدؤوا ينظرون ، ولو أمعنوا النظر والفكر لم يتبعوك ؛ ولا يختلف المعنى ههنا بالهمز وترك الهمز. وانتصب على حذف "في" كما قال عز وجل : {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف : 155]. {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} أي في اتباعه ؛ وهذا جحد منهم لنبوته صلى الله عليه وسلم {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} الخطاب لنوح ومن آمن معه.

الآية : 28 {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ}
الآية : 29 {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ}
الآية : 30 {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}
الآية : 31 {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ}
قوله تعالى : {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أي على يقين ؛ قاله أبو عمران الجوني. وقيل : على معجزة {وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} أي نبوة ورسالة ؛ عن ابن عباس ؛ "وهي رحمة على الخلق".

وقيل : الهداية إلى الله بالبراهين. وقيل : بالإيمان والإسلام. {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } أي عميت عليكم الرسالة والهداية فلم تفهموها. يقال : عميت عن كذا ، وعمي علي كذا أي لم أفهمه. والمعنى : فعميت الرحمة ؛ فقيل : هو مقلوب ؛ لأن الرحمة لا تعمى إنما يعمى عنها ؛ فهو كقولك : أدخلت في القلنسوة رأسي ، ودخل الخف في رجلي.

وقرأها الأعمش وحمزة والكسائي "فعميت" بضم العين وتشديد الميم على ما لم يسم فاعله ، أي فعماها الله عليكم ؛ وكذا في قراءة أبي "فعماها" ذكرها الماوردي. { أَنُلْزِمُكُمُوهَا} قيل : شهادة أن لا إله إلا الله.

وقيل : الهاء ترجع إلى الرحمة. وقيل : إلى البينة ؛ أي أنلزمكم قبولها ، وأوجبها عليكم ؟ ! وهو استفهام بمعنى الإنكار ؛ أي لا يمكنني أن أضطركم إلى المعرفة بها ؛ وإنما قصد نوح عليه السلام بهذا القول أن يرد عليهم. وحكى الكسائي والفراء " أَنُلْزِمْكُمُوهَا" بإسكان الميم الأولى تخفيفا ؛
{وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} أي لا يصح قبولكم لها مع الكراهة عليها. قال قتادة : والله لو استطاع نبي الله نوح عليه السلام لألزمها قومه ولكنه لم يملك ذلك.
قوله تعالى : {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً} أي على التبليغ ، والدعاء إلى الله ، والإيمان به أجرا أي "مالا" فيثقل عليكم. {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ} أي ثوابي في تبليغ الرسالة. {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} سألوه أن يطرد الأراذل الذين آمنوا به ، كما سألت قريش النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرد الموالي والفقراء ؛ فأجابهم بقوله : {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} يحتمل أن يكون قال هذا على وجه الإعظام لهم بلقاء الله عز وجل ، ويحتمل أن يكون قاله على وجه الاختصام ؛ أي لو فعلت ذلك لخاصموني عند الله ، فيجازيهم على إيمانهم ، ويجازي من طردهم. {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} في استرذالكم لهم ، وسؤالكم طردهم.
قوله تعالى : {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ} قال الفراء : أي يمنعني من عذابه. {إِنْ طَرَدْتُهُمْ} أي لأجل إيمانهم. {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أدغمت التاء في الذال. ويجوز حذفها فتقول : تَذَكرون. قوله تعالى : {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} أخبر بتواضعه لله عز وجل ، وأنه لا يدعي ما ليس له من خزائن الله ؛ وهي إنعامه على من يشاء من عباده ؛ وأنه لا يعلم الغيب .

 لأن الغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل. {وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} أي لا أقول إن منزلتي عند الناس منزلة الملائكة. وقد قالت العلماء : الفائدة في الكلام الدلالة على أن الملائكة أفضل من الأنبياء ؛ لدوامهم على الطاعة ، واتصال عباداتهم إلى يوم القيامة ، صلوات الله عليهم أجمعين.

 {وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} أي تستثقل وتحتقر أعينكم ؛ والأصل تزدريهم حذفت الهاء والميم لطول الاسم. والدال مبدلة من تاء ؛ لأن الأصل في تزدري تزتري ، ولكن التاء تبدل بعد الزاي دالا ؛ لأن الزاي مجهورة والتاء مهموسة ، فأبدل من التاء حرف مجهور من مخرجها.
قوله تعالى : {لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً} أي ليس لاحتقاركم لهم تبطل أجورهم ، أو ينقص ثوابهم.
قوله تعالى : {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} فيجازيهم عليه ويؤاخذهم به. {إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ}
الآية : 32 {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
الآية : 33 {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}
الآية : 34 {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
الآية : 35 {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ}
قوله تعالى : {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} أي خاصمتنا فأكثرت خصومتنا وبالغت فيها. والجدل في كلام العرب المبالغة في الخصومة ؛ مشتق من الجدل وهو شدة الفتل ؛ والجدل في الدين محمود ؛ ولهذا جادل نوج والأنبياء قومهم حتى يظهر الحق ، فمن قبله أنجح وأفلح ، ومن رده خاب وخسر. وأما الجدال لغير الحق حتى يظهر الباطل في صورة الحق فمذموم ، وصاحبه في الدارين ملوم. {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} أي من العذاب. {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في قولك.
قوله تعالى : {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ} أي إن أراد إهلاككم عذبكم. {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي بفائتين. وقيل : بغالبين بكثرتكم ، لأنهم أعجبوا بذلك ؛ كانوا ملؤوا الأرض سهلا وجبلا .
قوله تعالى : {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي} أي إبلاغي واجتهادي في إيمانكم. {إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} أي لأنكم لا تقبلون نصحا ؛ قوله تعالى : {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} أي يضلكم. وهذا مما يدل على بطلان مذهب المعتزلة والقدرية ومن وافقهما ؛ إذ زعموا أن الله تعالى لا يريد أن يعصي العاصي ، ولا يكفر الكافر ، ولا يغوي الغاوي ؛ وأن يفعل ذلك ، والله لا يريد ذلك ؛ فرد الله عليهم بقوله : {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} .

ولا محيص لهم عن قول نوح عليه السلام : {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} فأضاف إغواءهم إلى الله سبحانه وتعالى ؛ إذ هو الهادي والمضل ؛ سبحانه عما يقول الجاحدون والظالمون علوا كبيرا. وقيل : {أَنْ يُغْوِيَكُمْ} يهلككم ؛ لأن الإضلال يفضي إلى الهلاك

: {يُغْوِيَكُمْ} يهلككم بعذابه ؛ حكي عن طيء أصبح فلان غاويا أي مريضا ، وأغويته أهلكته ؛ ومنه {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} . [مريم : 59]. { هُوَ رَبُّكُمْ} فإليه الإغواء ، وإليه الهداية. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تهديد ووعيد.

قوله تعالى : {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} يعنون النبي صلى الله عليه وسلم. افترى أفتعل ؛ أي اختلق القرآن من قبل نفسه ، وما أخبر به عن نوح وقومه ؛ قال مقاتل. وقال ابن عباس : "هو من محاورة نوح لقومه" وهو أظهر ؛ لأنه ليس قبله ولا بعده إلا ذكر نوح وقومه ؛ فالخطاب منهم ولهم. {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ} أي اختلقته وافتعلته ، يعني الوحي والرسالة. {فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} أي عقاب إجرامي ، وإن كنت محقا فيما أقوله فعليكم عقاب تكذيبي. والإجرام مصدر أجرم ؛ وهو اقتراف السيئة. وقيل المعنى : أي جزاء جرمي وكسبي. وجرم وأجرم بمعنى ؛ عن النحاس وغيره

قال :   طريد عشيرة ورهين جرم ... بما جرمت يدي وجنى لساني
ومن قرأ "أجرامي" بفتح الهمزة ذهب إلى أنه جمع جرم ؛ وذكره النحاس أيضا. {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} أي من الكفر والتكذيب.
الآية : 36 {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}
الآية : 37 {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}
قوله تعالى : {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} "أنه" في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسم فاعله. ويجوز أن يكون في موضع نصب ، ويكون التقدير : بـ "أنه". و"آمن" في موضع نصب بـ "يؤمن" ومعنى الكلام الإياس من إيمانهم ، واستدامة كفرهم ، تحقيقا لنزول الوعيد بهم.

 قال الضحاك : فدعا عليهم لما أخبر بهذا فقال : {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح : 26] الآيتين. وقيل : إن رجلا من قوم نوح حمل ابنه على كتفه ، فلما رأى الصبي نوحا قال لأبيه : اعطني حجرا ؛ فأعطاه حجرا ، ورمى به نوحا عليه السلام فأدماه ؛ فأوحى الله تعالى إليه {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ}. {فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} أي فلا تغتم بهلاكهم حتى تكون بائسا ؛ أي حزينا. والبؤس الحزن
قوله تعالى : {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} أي اعمل السفينة لتركبها أنت ومن آمن معك. "بأعيننا" أي بمرأى منا وحيث نراك. عبارة عن الإدراك والإحاطة ، وهو سبحانه منزه عن الحواس والتشبيه والتكييف ؛ لا رب غيره. وقيل : المعنى "بأعيننا" أي بأعين ملائكتنا الذين جعلناهم عيونا على حفظك ومعونتك ؛ فيكون الجمع على هذا التكثير على بابه. وقيل : "بأعيننا" أي بعلمنا ؛ قاله مقاتل : وقال الضحاك وسفيان : "بأعيننا" بأمرنا. وقيل : بوحينا. وقيل : بمعونتنا لك على صنعها. "ووحينا" أي على ما أوحينا إليك ، من صنعتها. {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} أي لا تطلب إمهالهم فإني مغرقهم.
الآية : 38 {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}
الآية : 39 {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ}
الآية : 40 {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ}

قوله تعالى : {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} أي وطفق يصنع. قال زيد بن أسلم : مكث نوح صلى الله عليه وسلم مائة سنة يغرس الشجر ويقطعها وييبسها ، ومائة سنة يعملها. وروى ابن القاسم عن ابن أشرس عن مالك قال : بلغني أن قوم نوح ملؤوا الأرض ، حتى ملؤوا السهل والجبل ، فما يستطيع هؤلاء أن ينزلوا إلى هؤلاء ، ولا هؤلاء أن يصعدوا إلى هؤلاء فمكث نوح يغرس الشجر مائة عام لعمل السفينة ، ثم جمعها ييبسها مائة عام ، وقومه يسخرون ؛ وذلك لما رأوه يصنع من ذلك ، حتى كان من قضاء الله فيهم ما كان.

لما استنقذ الله سبحانه وتعالى من في الأصلاب والأرحام من المؤمنين أوحى الله إليه. {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ} قال : يا رب ما أنا بنجار ، قال : "بلى فإن ذلك بعيني" فأخذ القدوم فجعله بيده ، وجعلت يده لا تخطئ ، فجعلوا يمرون به ويقولون : هذا الذي يزعم أنه نبي صار نجارا ؛ فعملها في أربعين سنة.
 وجاء في الخبر أن الملائكة كانت تعلمه كيف يصنعها. واختلفوا في طولها وعرضها ؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما "كان طولها ثلاثمائة ذراع ، وعرضها خمسون ، وسمكها ثلاثون ذراعا ؛ وروى علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال : "قال الحواريون لعيسى عليه السلام : لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة يحدثنا عنها ، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفا من ذلك التراب ، قال أتدرون ما هذا ؟

قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : هذا كعب حام بن نوح قال فضرب الكثيب بعصاه وقال : قم بإذن الله فإذا هو قائم ينفض التراب من رأسه ، وقد شاب ؛ فقال له عيسى : أهكذا هلكت ؟ قال : لا بل مت وأنا شاب ، ولكنني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت. قال : أخبرنا عن سفينة نوح ؟ قال : كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع ، وعرضها ستمائة ذراع ، وكانت ثلاث طبقات ، طبقة فيها الدواب والوحش ، وطبقة فيها الإنس ، وطبقة فيها الطير.

 وقال الكلبي فيما حكاه النقاش : ودخل الماء فيها أربعة أذرع ، وكان لها ثلاثة أبواب ؛ باب فيه السباع والطير ، وباب فيه الوحش ، وباب فيه الرجال والنساء.

 قوله تعالى : {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} قال الأخفش والكسائي يقال : سخرت به ومنه. وفي سخريتهم منه قولان : أحدهما : أنهم كانوا يرونه يبني سفينته في البر ، فيسخرون به ويستهزئون ويقولون : يا نوح صرت بعد النبوة نجارا. الثاني : لما رأوه يبني السفينة ولم يشاهدوا قبلها سفينة بنيت قالوا : يا نوح ما تصنع ؟ قال : أبني بيتا يمشي على الماء ؛ فعجبوا من قوله وسخروا منه.

قال ابن عباس : "ولم يكن في الأرض قبل الطوفان نهر ولا بحر" ؛ فلذلك سخروا منه . {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا} أي من فعلنا اليوم عند بناء السفينة. {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} غدا عند الغرق. والمراد بالسخرية هنا الاستجهال ؛ ومعناه إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلونا.
قوله تعالى : {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} تهديد

و"من" متصلة بـ {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} و"تعلمون" هنا من باب التعدية إلى مفعول ؛ أي فسوف تعلمون الذي يأتيه العذاب. {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ} أي يجب عليه وينزل به. {عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي دائم ، يريد عذاب الآخرة.
قوله تعالى : {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} اختلف في التنور على أقوال منها :
الأول : أنه وجه الأرض ، والعرب تسمي وجه الأرض تنورا ؛ قاله ابن عباس وعكرمة والزهري وابن عيينة ؛ وذلك أنه قيل له : إذا رأيت الماء على وجه الأرض فاركب أنت ومن معك.
الثاني : أنه تنور الخبز الذي يخبز فيه ؛ وكان تنورا من حجارة ؛ وكان لحواء حتى صار لنوح ؛ فقيل له : إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك. وأنبع الله الماء من التنور ، فعلمت به امرأته فقالت : يا نوح فار الماء من التنور ؛ فقال : جاء وعد ربي حقا.
فهذه الأقوال تجتمع في أن ذلك كان علامة. والفوران الغليان. والتنور اسم أعجمي عربته العرب. وقيل : معنى "فار التنور" التمثيل لحضور العذاب ؛ كقولهم : حمي الوطيس إذا اشتدت الحرب.
قوله تعالى : {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} يعني ذكرا وأنثى ؛ لبقاء أصل النسل بعد الطوفان. كل" أي من كل شيء زوجين. والقراءتان ترجعان إلى معنى واحد : شيء معه آخر لا يستغني عنه. ويقال للاثنين : هما زوجان ، في كل اثنين لا يستغني أحدهما عن صاحبه ؛ فإن العرب تسمي كل واحد منهما زوجا  

{مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ} في موضع نصب بـ {احْمِلْ} . {اثْنَيْنِ} تأكيد. {وَأَهْلَكَ} أي وأحمل أهلك. {إِلاَّ مَنْ} "من" في موضع نصب بالاستثناء. {عَلَيْهِ الْقَوْلُ} منهم أي بالهلاك ؛ وهو ابنه كنعان وامرأته واعلة كانا كافرين. {وَمَنْ آمَنَ} قال الضحاك وابن جريج : أي احمل من آمن بي ، أي من صدقك ؛ فـ "من" في موضع نصب بـ {احْمِلْ} .

 {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} قال ابن عباس رضي الله عنهما : "آمن من قومه ثمانون إنسانا ، منهم ثلاثة من بنيه ؛ سام وحام ويافث ، وثلاث كنائن له. ولما خرجوا من السفينة بنوا قرية وهي اليوم تدعى قرية الثمانين بناحية الموصل". وورد في الخبر أنه كان في السفينة ثمانية أنفس ؛ نوح وزوجته غير التي عوقبت ، وبنوه الثلاثة وزوجاتهم ؛ وهو قول قتادة والحكم بن عتيبة وابن جريج ومحمد بن كعب ؛ فأصاب حام امرأته في السفينة ، فدعا نوح الله أن يغير نطفته فجاء بالسودان.

الآية : 41 {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}
الآية : 42 {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ}
الآية : 43 {قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}
الآية : 44 {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
قوله تعالى : {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا} أمر بالركوب ؛ ويحتمل أن يكون من الله تعالى ، ويحتمل أن يكون من نوح لقومه. والركوب العلو على ظهر الشيء ؛ و"في" للتأكيد وفائدة "في" أنهم أمروا أن يكونوا في جوفها لا على ظهرها.

قوله تعالى : {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} والمعنى بسم الله إجراؤها وإرساؤها ؛ فمجراها ومرساها في موضع رفع بالابتداء ؛ ويجوز أن تكون في موضع نصب ، ويكون التقدير : بسم الله وقت إجرائها ثم حذف وقت ، وأقيم "مجراها" مقامه. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي : "بسم الله مَجريها" بفتح الميم و"مُرساها" بضم الميم. وروى يحيى بن عيسى عن الأعمش عن يحيى بن وثاب "بسم الله مَجراها ومَرساها" بفتح الميم فيهما ؛ على المصدر من جرت تجري جريا ومجرى ، ورست رسوا ومرسى إذا ثبتت. وقرأ مجاهد وسليمان بن جندب وعاصم الجحدري وأبو رجاء العطاردي : "بسم الله مُجريها ومُرسيها" نعت لله عز وجل في موضع جر. ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ ؛ أي هو مجريها ومرسيها. ويجوز النصب على الحال. وقال الضحاك. كان نوح عليه السلام إذا قال بسم الله مجراها جرت ، وإذا قال بسم الله مرساها رست.

وروى مروان بن سالم عن طلحة بن عبدالله بن كريز عن الحسين بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا في الفلك بسم الله الرحمن الرحيم {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر : 67] {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} . وفي هذه الآية دليل ، على ذكر البسملة عند ابتداء كل فعل
قوله تعالى : {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أي لأهل السفينة
قوله تعالى : {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} الموج جمع موجة ؛ وهي ما ارتفع من جملة الماء الكثير عند اشتداد الريح. والكاف للتشبيه ، وهي في موضع خفض نعت للموج. وجاء في التفسير أن الماء جاوز كل شيء بخمسة عشر ذراعا. {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} قيل : كان كافرا واسمه كنعان. وقيل : يام. ويجوز على قول سيبويه : "ونادى نوح ابنهُ" {وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} أي من دين أبيه. وقيل : عن السفينة.

 وقيل : إن نوحا لم يعلم أن ابنه كان كافرا ، وأنه ظن أنه مؤمن ؛ ولذلك قال له : {وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} وكان هذا النداء من قبل أن يستيقن القوم الغرق ؛ وقبل رؤية اليأس ، بل كان في أول ما فار التنور ، وظهرت العلامة لنوح.
قوله تعالى : {قَالَ سَآوي} أي ارجع وانضم. {إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي} أي يمنعني {مِنَ الْمَاءِ} فلا أغرق. {قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي لا مانع ؛ فإنه يوم حق فيه العذاب على الكفار. وانتصب {عَاصِمَ} على التبرئة. ويجوز {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ} تكون لا بمعني ليس. {إِلاَّ مَنْ رَحِمَ} في موضع نصب استثناء ليس من الأول ؛ أي لكن من رحمه الله فهو يعصمه
{وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ } يعني بين نوح وابنه. {فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} قيل : إنه كان راكبا على فرس قد بطر بنفسه ، وأعجب بها ؛ فلما رأى الماء جاء قال : يا أبت فار التنور ، فقال له أبوه : "يا بني اركب معنا" فما استتم المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة فالتقمته هو وفرسه ، وحيل بينه وبين نوح فغرق. قوله تعالى : {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} فجرت بهم السفينة إلى أن تناهى الأمر فأمر الله الماء المنهمر من السماء بالإمساك ، وأمر الله الأرض بالابتلاع. ويقال : بلع الماء يبلعه الموضع الذي يشرب الماء .

قال ابن العربي : التقى الماءان على أمر قد قدر ، ما كان في الأرض وما نزل من السماء ؛ فأمر الله ما نزل من السماء بالإقلاع ، فلم تمتص الأرض منه قطرة ، وأمر الأرض بابتلاع ما خرج منها فقط. وذلك قوله تعالى : {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ} وقيل : ميز الله بين الماءين ، فما كان من ماء الأرض أمرها فبلعته ، وصار ماء السماء بحارا.
قوله تعالى : {وَغِيضَ الْمَاءُ} أي نقص . {وَقُضِيَ الأَمْرُ} أي أحكم وفرغ منه ؛ يعني أهلك قوم نوح على تمام وإحكام. ويقال : إن الله تعالى أعقم أرحامهم أي أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة ، فلم يكن فيمن هلك صغير.

قوله تعالى : {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي هلاكا لهم. الجودي جبل بقرب الموصل ؛ استوت عليه في العاشر من المحرم يوم عاشوراء ؛ فصامه نوح وأمر جميع من معه من الناس والوحش والطير والدواب وغيرها فصاموه ، شكرا لله تعالى. وقيل : كان ذلك يوم الجمعة. وروي أن الله تعالى أوحى إلى الجبال أن السفينة ترسي على واحد منها فتطاولت ، وبقي الجودي لم يتطاول تواضعا لله ، فاستوت السفينة عليه : وبقيت عليه أعوادها. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لقد بقي منها شيء أدركه أوائل هذه الأمة". وقال مجاهد : تشامخت الجبال وتطاولت لئلا ينالها الغرق ؛ فعلا الماء فوقها خمسة عشر ذراعا ، وتطامن الجودي ، وتواضع لأمر الله تعالى فلم يغرق ، ورست السفينة عليه. وقد قيل : إن الجودي اسم لكل جبل ، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل :
سبحانه ثم سبحانا يعود له ... وقبلنا سبح الجودي والجمد
ويقال : إن الجودي من جبال الجنة ؛ فلهذا استوت عليه. ويقال : أكرم الله ثلاثة جبال بثلاثة نفر : الجودي بنوح ، وطور سيناء بموسى ، وحراء بمحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
مسألة : لما تواضع الجودي وخضع عز ، ولما ارتفع غيره واستعلى ذل ، وهذه سنة الله في خلقه ، يرفع من تخشع ، ويضع من ترفع ؛ ولقد أحسن القائل :
وإذا تذللت الرقاب تخشعا ... منا إليك فعزها في ذلها
وفي صحيح البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال : كانت ناقة للنبي صلى الله عليه وسلم تسمى العضباء ؛ وكانت لا تسبق ؛ فجاء أعرابي على قعود فسبقها ، فاشتد ذلك على المسلمين ؛ وقالوا : سبقت العضباء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن حقا على الله ألا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه" .

وخرج مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله" . وقال صلى الله عليه وسلم : "إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد" . خرجه البخاري.
الآية : 45 {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}
الآية : 46 {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}
الآية : 47 {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
فيه أربعة مسائل : -
الأولى : -قوله تعالى : {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ} أي دعاه. {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} أي من أهلي الذين وعدتهم أن تنجيهم من الغرق ؛ ففي الكلام حذف. {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} يعني الصدق. وقال علماؤنا : وإنما سأل نوح ربه ابنه لقوله : {وَأَهْلَكَ} وترك قوله : {إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود : 40] فلما كان عنده من أهله

قال : {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} يدل على ذلك قوله : {وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} أي لا تكن ممن لست منهم ؛ لأنه كان عنده مؤمنا في ظنه ، ولم يك نوح يقول لربه : {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} إلا وذلك عنده كذلك ؛ إذ محال أن يسأل هلاك الكفار ، ثم يسأل في إنجاء بعضهم ؛ وكان ابنه يسر الكفر ويظهر الإيمان ؛ فأخبر الله تعالى نوحا بما هو منفرد به من علم الغيوب ؛ أي علمت من حال ابنك ما لم تعلمه أنت.

وقال الحسن : كان منافقا ؛ ولذلك استحل نوح أن يناديه. وعنه أيضا : كان ابن امرأته ؛ دليله {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} ابتداء وخبر. أي حكمت على قوم بالنجاة ، وعلى قوم بالغرق.

الثانية : - قوله تعالى : { قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أي ليس ، من أهلك الذين وعدتهم أن أنجيهم ؛ قاله سعيد بن جبير. وقال الجمهور : ليس من أهل دينك ولا ولايتك ؛ فهو على حذف مضاف ؛ وهذا يدل على أن حكم الاتفاق في الدين أقوى من حكم النسب. {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} قرأ ابن عباس وعروة وعكرمة ويعقوب والكسائي "إنه عمل غير صالح" أي من الكفر والتكذيب.

 ويجوز أن تكون الهاء للسؤال ؛ أي إن سؤالك إياي أن أنجيه. عمل غير صالح. قال قتادة. وقال الحسن : معنى عمل غير صالح أنه ولد على فراشه ولم يكن ابنه. وكان لغير رشدة ، وقال أيضا مجاهد. قال قتادة سألت الحسن عنه فقال : والله ما كان ابنه ؛ قلت إن الله أخبر عن نوح أنه قال : {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} فقال : لم يقل مني ، وهذه إشارة إلى أنه كان ابن امرأته من زوج آخر ؛ فقلت له : إن الله حكى عنه أنه قال : {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} ولا يختلف أهل الكتابين أنه ابنه ؛ فقال الحسن : ومن يأخذ دينه عن أهل الكتاب! إنهم يكذبون. وقرأ : {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم : 10].

 وقال ابن جريج : ناداه وهو يحسب أنه ابنة ، وكان ولد على فراشه ، وكانت امرأته خانته فيه ، ولهذا قال : {فَخَانَتَاهُمَا} وقال ابن عباس : "ما بغت امرأة نبي قط" ، وأنه كان ابنه لصلبه. وكذلك قال الضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وغيرهم ، وأنه كان ابنه لصلبه.

وقيل لسعيد بن جبير يقول نوح : {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} أكان من أهله ؟ أكان ابنه ؟ فسبح الله طويلا ثم قال : "لا اله إلا الله! يحدث الله محمدا صلى الله عليه وسلم أنه ابنه ، وتقول إنه ليس ابنه! نعم كان ابنه ؛ ولكن كان مخالفا في النية والعمل والدين ، ولهذا قال الله تعالى : {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} وهذا

 وإن قوله : {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} ليس مما ينفي عنه أنه ابنه. وقوله : {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم : 10] يعني في الدين لا في الفراش ، وذلك أن هذه كانت تخبر الناس أنه مجنون ، وذلك أنها قالت له : أما ينصرك ربك ؟ فقال لها : نعم. قالت : فمتى ؟ قال : إذا فار التنور ؛ فخرجت تقول لقومها : يا قوم والله إنه لمجنون ، يزعم أنه لا ينصره ربه إلا أن يفور هذا التنور ، فهذه خيانتها. وخيانة الأخرى أنها كانت تدل على الأضياف. وقيل : الولد قد يسمى عملا كما يسمى كسبا ، كما في الخبر "أولادكم من كسبكم". ذكره القشيري.
الثالثة : -في هذه الآية تسلية للخلق في فساد ابنائهم وإن كانوا صالحين. وروي أن ابن مالك بن أنس نزل من فوق ومعه حمام قد غطاه ، قال : فعلم مالك أنه قد فهمه الناس ؛ فقال مالك : الأدب أدب الله لا أدب الآباء والأمهات ، والخير خير الله لا خير الآباء والأمهات. وفيها أيضا دليل على أن الابن من الأهل لغة وشرعا ، ومن أهل البيت ؛ فمن وصى لأهله دخل في ذلك ابنه ، ومن تضمنه منزله ، وهو في عياله. وقال تعالى في آية أخرى : {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ. وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات : 75] فسمى جميع من ضمه منزله من أهله.
الرابعة : -قوله تعالى : {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أي أنهاك عن هذا السؤال ، وأحذرك لئلا تكون ، أو كراهية أن تكون من الجاهلين ؛ أي الآثمين. ومنه قوله تعالى : {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً} [النور : 17] أي يحذركم الله وينهاكم. وقيل : المعنى أرفعك أن تكون من الجاهلين.

 قال ابن العربي : وهذه زيادة من الله وموعظة يرفع بها نوحا عن مقام الجاهلين ، ويعليه بها إلى مقام العلماء والعارفين ؛ فـ "قال" نوح : { رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} الآية وهذه ذنوب الأنبياء عليهم السلام ، فشكر الله تواضعه. {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي} ما فرط من السؤال. {وَتَرْحَمْنِي} أي بالتوبة. {أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي أعمالا. فقال : {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} .
الآية : 48 {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}
قوله تعالى : {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} أي قالت له الملائكة ، أو قال الله تعالى له : اهبط من السفينة إلى الأرض ، أو من الجبل إلى الأرض ؛ فقد ابتلعت الماء وجفت. {بِسَلامٍ مِنَّا} أي بسلامة وأمن. وقيل : بتحية. {وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ} أي نعم ثابتة ؛ مشتق من بروك الجمل وهو ثبوته وإقامته. ومنه البركة لثبوت الماء فيها.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : "نوح آدم الأصغر" ، فجميع الخلائق الآن من نسله ، ولم يكن معه في السفينة من الرجال والنساء إلا من كان من ذريته ؛ وفي التنزيل {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات : 77]. {وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} قيل : دخل في هذا كل مؤمن إلى يوم القيامة. ودخل في قوله {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} كل كافر إلى يوم القيامة ؛ روي ذلك عن محمد بن كعب. والتقدير على هذا : وعلى ذرية أمم ممن معك ، وذرية أمم سنمتعهم. وقيل : "من" للتبعيض ، وتكون لبيان الجنس. {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ} ارتفع و {وَأُمَمٌ} على معنى وتكون أمم.

الآية : 49 {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}
قوله تعالى : {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} أي تلك الأنباء ، وفي موضع آخر "ذلك" أي ذلك النبأ والقصص من أنباء ما غاب عنك. {نُوحِيهَا إِلَيْكَ} أي لتقف عليها. {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ} أي كانوا غير عارفين بأمر الطوفان ، والمجوس الآن ينكرونه. {مِنْ قَبْلِ هَذَا} خبر أي مجهولة عندك وعند قومك. {فَاصْبِرْ} على مشاق الرسالة وإذاية القوم كما صبر نوح. وقيل : أراد جهلهم بقصة ابن نوح وإن سمعوا أمر الطوفان [فإنه] على الجملة. {فَاصْبِرْ} أي اصبر يا محمد على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته ، وما تلقى من أذى العرب الكفار ، كما صبر نوح على أذى قومه. {إِنَّ الْعَاقِبَةَ} في الدنيا بالظفر ، وفي الآخرة بالفوز. {لِلْمُتَّقِينَ} عن الشرك والمعاصي.

9-قارون

الآية : [76] {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ }
الآية : [77] {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}

قوله تعالى : {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} لما قال تعالى : {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا} بين أن قارون أوتيها واغتر بها ولم تعصمه من عذاب الله كما لم تعصم فرعون ، ولستم أيها المشركون بأكثر عددا ومالا من قارون وفرعون ، فلم ينفع فرعون جنوده وأمواله ولم ينفع قارون قرابته من موسى ولا كنوزه .

قال النخعي وقتادة وغيرهما : كان ابن عم موسى ؛ وهو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب ؛ وموسى بن عمران بن قاهث
قوله تعالى : {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} بغيه استخفافه بهم بكثرة مال وولده ؛ قاله قتادة وقيل : بغيه نسبته ما آتاه الله من الكنوز إلى نفسه بعلمه وحيلته ؛ قاله ابن بحر وقيل : بغيه قوله إذا كانت النبوة لموسى والمذبح والقربان في هارون فمالي ! فروى أنه لما جاوز بهم موسى البحر وصارت الرسالة لموسى والحبورة لهارون ؛ يقرب القربان ويكون رأسا فيهم ، وكان القربان لموسى فجعله موسى إلى أخيه ، وجد قاوون في نفسه وحسدهما
قوله تعالى : {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ } {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} أحسن ما قيل فيه أن المعنى لتنيء العصبة أي تميلهم بثقلها ؛ وأناءني إذا أثقلني ؛ واختلف في العصبة وهي الجماعة التي يتعصب بعضهم لبعض على أقوال منها :

ثلاثة رجال ؛ قاله ابن عباس وعنه أيضا من الثلاثة إلى العشرة وقال مجاهد : العصبة هنا ما بين العشرين إلى خمسة عشر وعنه أيضا : ما بين العشرة إلى الخمسة عشر وقال الكلبي : عشرة لقول إخوة يوسف {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ}

{إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ} أي المؤمنون من بني إسرائيل ، قاله السدي وقال يحيى بن سلام : القوم هنا موسى {لا تَفْرَحْ} أي لا تأشر ولا تبطر {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} أي البطرين ؛ قاله مجاهد والسدي قال الشاعر :
ولست بمفراح إذا الدهر سرني ... ولا ضارع في صرفه المتقلب
وقال الزجاج : المعنى لا تفرح بالمال فإن الفرح بالمال لا يؤدي حقه وقال مبشر بن عبدالله : لا تفرح لا تفسد قال الشاعر :
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة ... وتحمل أخرى أفرحتك الودائع

أي أفسدتك وقال أبو عمرو : أفرحه الدين أثقله وأنشده : إذا أنت..... البيت وأفرحه سره فهو مشترك قال الزجاج : والفرحين والفارحين سواء وفرق بينهما الفراء فقال : معنى الفرحين الذين هم في حال فرح ، والفارحين الذين يفرحون في المستقبل  وقال مجاهد أيضا : معنى { لا تَفْرَحْ} لا تبغ. {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} أي الباغين وقال ابن بحر : لا تبخل إن الله لا يحب الباخلين
قوله تعالى : {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ}

أي أطلب فيما أعطاك الله من الدنيا الدار الآخرة وهي الجنة ؛ فإن من حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة لا في التجبر والبغي
قوله تعالي : {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} اختلف فيه ؛ فقال ابن عباس والجمهور : لا تضيع عمرك في ألا تعمل عملا صالحا في دنياك ؛ إذ الآخرة إنما يعمل لها ، فنصيب الإنسان عمره وعمله الصالح فيها فالكلام على هذا التأويل شدة في الموعظة وقال الحسن وقتادة : معناه لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه ، ونظرك لعاقبة دنياك فالكلام على هذا التأويل فيه بعض الرفق به وإصلاح الأمر الذي يشتهيه وهذا مما يجب استعماله مع الموعوظ خشية النبوة من الشدة ؛ قاله ابن عطية
قلت : وهذان التأويلان قد جمعهما ابن عمر في قوله : احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا. وعن الحسن : قدم الفضل ، وأمسك ما يبلغ وقال مالك : هو الأكل والشرب بلا سرف وقيل : أراد بنصيبه الكفن فهذا وعظ متصل ؛ كأنهم قالوا : لا تنس أنك تترك جميع مالك إلا نصيبك هذا الذي هو الكفن ونحو هذا قول الشاعر :
نصيبك مما تجمع الدهر كله ... رداءان تلوى فيهما وحنوط
وقال آخر :
وهي القناعة لا تبغي بها بدلا ... فيها النعيم وفيها راحة البدن
انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها ... هل راح منها بغير القطن والكفن
قال ابن العربي : وأبدع ما فيه عندي قول قتادة : ولا تنس نصيبك الحلال ، فهو نصيبك من الدنيا ويا ما أحسن هذا. "وأحسن كما أحسن الله إليك" أي أطع الله وأعبده كما أنعم عليك

ومنه الحديث : ما الإحسان ؟ قال : "أن تعبد الله كأنك تراه" وقيل : هو أمر بصلة المساكين قال ابن العربي : فيه أقوال كثيرة جماعها استعمال نعم الله في طاعة الله وقال مالك : الأكل والشرب من غير سرف قال ابن العربي : أرى مالكا أراد الرد على الغالين في العبادة والتقشف ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلواء ، ويشرب العسل ، ويستعمل الشواء ، ويشرب الماء البارد وقد مضى هذا المعنى في غير موضع. {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} أي لا تعمل بالمعاصي {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} .
الآية : [78 ]{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}
قوله تعالى : {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} يعني علم التوراة وكان فيما روي من أقرأ الناس لها ، ومن أعلمهم بها وكان أحد العلماء السبعين الذي اختارهم موسى للميقات وقال ابن زيد : أي إنما أوتيته لعلمه بفضلي ورضاه عني فقوله : {عِنْدِي} معناه إن عندي أن الله تعالى آتاني هذه الكنوز على علم منه باستحقاقي إياها لفضل في.

 وقيل : أوتيته على علم من عندي بوجوه التجارة والمكاسب ؛ قاله علي بن عيسى ولم يعلم أن الله لو لم يسهل له اكتسابها لما اجتمعت عنده وقال ابن عباس : على علم عندي بصنعة الذهب

قوله تعالى : {أولم أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ} أي بالعذاب {مِنَ الْقُرُونِ} أي الأمم الخالية الكافرة {مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} أي للمال ، ولو كان المال يدل على فضل لما أهلكهم وقيل : القوة الآلات ، والجمع الأعوان والأنصار ، والكلام خرج مخرج التقريع من الله تعال لقارون ؛ أي {أَوَلَمْ يَعْلَمْ} قارون {أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ} . {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} أي لا يسألون سؤال استعتاب كما قال : ولا هم يستعتبون} {فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ لقوله : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} قاله الحسن وقال مجاهد : لا تسأل الملائكة غدا عن المجرمين ، فإنهم يعرفون بسيماهم ، فإنهم يحشرون سود الوجوه زرق العيون وقال قتادة : لا يسأل المجرمون عن ذنوبهم لظهورها وكثرتها ، بل يدخلون النار بلا حساب وقيل : لا يسأل مجرمو هذه الأمة عن ذنوب الأمم الخالية الذين عذبوا في الدنيا وقيل : أهلك من أهلك من القرون عن علم منه بذنوبهم فلم يحتج إلى مسألتهم عن ذنوبهم.
الآية : [79] {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}
الآية : [80] {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ}
قوله تعالى : {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ} أي على بني إسرائيل فيما رآه زينة من متاع الحياة الدنيا ؛ من الثياب والدواب والتجمل في يوم عيد قال الغزنوي : في يوم السبت {فِي زِينَتِهِ} أي مع زينته قال الشاعر :
إذا ما قلوب القوم طارت مخافة ... من الموت أرسوا بالنفوس المواجد
أي مع النفوس كان خرج في سبعين ألفا من تبعه ، عليهم المعصفرات ، وكان أول من صبغ له الثياب المعصفرة قال السدي : مع ألف جوار بيض على بغال بيض بسروج من ذهب على قطف الأرجوان قال ابن عباس : خرج على البغال الشهب مجاهد : على براذين بيض عليها سروج الأرجوان ، وعليهم المعصفرات ، وكان ذلك أول يوم رئي فيه المعصفر

قال قتادة : خرج على أربعة آلاف دابة عليهم ثياب حمر ، منها ألف بغل أبيض عليها قطف حمر قال ابن جريج : خرج على بغلة شهباء عليها الأرجوان ، ومعه ثلاثمائة جارية على البغال الشهب عليهن الثياب الحمر وقال ابن زيد : خرج في سبعين ألفا عليهم المعصفرات الكلبي : خرج في ثوب أخضر كان الله أنزله على موسى من الجنة فسرقه منه قارون وقال جابر بن عبدالله رضي الله عنه : كانت زينته القرمز
قلت : القرمز صبغ أحمر مثل الأرجوان ، والأرجوان في اللغة صبغ أحمر ؛ ذكره القشيري. {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أي نصيب وافر من الدنيا ثم قيل : هذا من قول مؤمني ذلك الوقت ، تمنوا مثل ماله رغبة في الدنيا وقيل : هو من قول أقوام لم يؤمنوا بالآخرة ولا رغبوا فيها ، وهم الكفار.
قوله تعالي : {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} وهم أحبار بني إسرائيل قالوا للذين تمنوا مكانه {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} يعني الجنة. {لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ} أي لا يؤتى الأعمال الصالحة أو لا يؤتى الجنة في الآخرة إلا الصابرون على طاعة الله وجاز ضميرها لأنها المعنية بقوله : {ثَوَابُ اللَّهِ} .
الآية : [81] {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ}
الآية : [82] {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}
قوله تعالى : {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} قال مقاتل : لما أمر موسى الأرض فابتلعته قالت بنو إسرائيل : إنما أهلكه ليرث ماله ؛ لأنه كان ابن عمه ؛ أخي أبيه ، فخسف الله تعالى به وبداره الأرض وبجميع أموال بعد ثلاثة أيام ، فأوحى الله إلى موسى إني لا أعيد طاعة الأرض إلى أحد بعدك أبدا يقال : خسف المكان يخسف خسوفا ذهب في الأرض وخسف الله به الأرض خسفا أي غاب به فيها

 ومنه قوله تعالى : {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} وخسف هو في الأرض وخسف به وخسوف القمر كسوفه قال ثعلب : كسفت الشمس وخسف القمر ؛ هذا أجود الكلام والخسف النقصان ؛ يقال : رضي فلان بالخسف أي بالنقيصة. {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي جماعة وعصابة {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} لنفسه أي الممتنعين فيما نزل به من الخسف فيروى أن قارون يسفل كل يوم بقدر قامة ، حتى إذا بلغ قعر الأرض السفلى نفخ إسرافيل في الصور
قوله تعالى : {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ} أي صاروا يتندمون على ذلك التمني

 و {يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} وي حرف تندم قال النحاس : أحسن ما قيل في هذا قول الخليل وسيبويه ويونس والكسائي إن القوم تنبهوا أو نبهوا ؛ فقالوا وي ، والمتندم من العرب يقول في خلال تندمه وي قال الجوهري : وي كلمة تعجب ، ويقال : ويك ووي لعبدالله وقد تدخل وي على كأن المخففة والمشددة تقول : ويكأن الله قال الخليل : هي مفصولة ؛ تقول : {وي} ثم تبتدئ فتقول : {كَأَنَّ} قال الثعلبي : وقال الفراء هي كلمة تقرير ؛ كقولك : أما ترى إلى صنع الله وإحسانه ؛ وذكر أن أعرابية قالت لزوجها : أين ابنك ويك ؟ فقال : وي كأنه وراء البيت ؛ أي أما ترينه وقال ابن عباس والحسن : ويك كلمة ابتداء وتحقيق تقديره : إن الله يبسط الرزق وقيل : هو تنبيه بمنزلة ألا في قولك ألا تفعل وأما في قولك أما بعد قال الشاعر :
سألتاني الطلاق إذ رأتاني ... قل مالي قد جئتماني بنكر
وي كأن من يكن له نشب يحبـ ... ـب ومن يفتقر يعش ضر

وقال قطرب : إنما هو ويلك وأسقطت لامه وضمت الكاف التي هي للخطاب إلى وي قال عنترة :
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها ... قول الفوارس ويك عنتر أقدم
وأنكوه النحاس وغيره ، وقالوا : إن المعنى لا يصح عليه ؛ لأن القوم لم يخاطبوا أحدا فيقولوا له ويك ، ولو كان كذلك لكان إنه بالكسر وأيضا فإن حذف اللام من ويلك لا يجوز وقال بعضهم : التقدير ويلك اعلم أنه ؛ فأضمر اعلم ابن الأعرابي : {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} أي اعلم وقيل : معناه ألم تر أن الله وقال القتبي : معناه رحمة لك بلغة حمير

 وقال الكسائي : وي فيه معنى التعجب ويروى عنه أيضا الوقف على وي وقال كلمة تفجع ومن قال : ويك فوقف على الكاف فمعناه أعجب لأن الله يبسط الرزق وأعجب لأنه لا يفلح الكافرون وينبغي أن تكون الكاف حرف خطاب لا اسما ؛ لأن وي ليست مما يضاف وإنما كتبت متصلة ؛ لأنها لما كثر استعمالها جعلت مع ما بعدها كشيء واحد {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} بالإيمان والرحمة وعصمنا من مثل ما كان عليه قارون من البغي والبطر {عَلَيْنَا لَخَسَفَ} وقرأ الأعمش : {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا}

وقرأ حفص : {لَخَسَفَ بِنَا} مسمى الفاعل الباقون : على ما لم يسم فاعله وهو اختيار أبي عبيد وفي حرف عبدالله {لاخَسَفَ بِنَا} كما تقول انطلق بنا وكذلك قرأ الأعمش وطلحة بن مصرف واختار قراءه الجماعة أبو حاتم لوجهين : أحدهما قوله : {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} والثاني قوله : {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} فهو بأن يضاف إلى الله تعالى لقرب اسمه منه أولى {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} عند الله.
الآية : [83] {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}
الآية : [84] {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

قوله تعالى : {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ} يعني الجنة وقال ذلك على جهة التعظيم لها والتفخيم لشأنها يعني تلك التي سمعت بذكرها ، وبلغك وصفها {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ} أي رفعة وتكبرا على الإيمان والمؤمنين {وَلا فَسَاداً} عملا بالمعاصي قاله ابن جريج ومقاتل وقال عكرمة ومسلم البطين : الفساد أخذ المال بغير حق

 وقال الكلبي الدعاء إلي غير عبادة الله وقال يحيى بن سلام : هو قتل الأنبياء والمؤمنين. {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} قال الضحاك : الجنة. وقال أبو معاوية : الذي لا يريد علوا هو من لم يجزع من ذلها ، ولم ينافس في عزها ، وأرفعهم عند الله أشدهم تواضعا ، وأعزهم غدا ألزمهم لذل اليوم وروى سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد

قال : مر علي بن الحسين وهو راكب على مساكين يأكلون كسرا لهم ، فسلم عليهم فدعوه إلى طعامهم ، فتلا هذه الآية : {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً} ثم نزل وأكل معهم ثم قال : قد أجبتكم فأجيبوني فحملهم إلي منزلة فأطعمهم وكساهم وصرفهم خرجه أبو القاسم الطبراني سليمان بن أحمد قال : حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي ،

 قال حدثنا سفيان بن عيينة فذكره وقيل : لفظ الدار الآخرة يشمل الثواب والعقاب والمراد إنما ينتفع بتلك الدار من اتقى ، ومن لم يتق فتلك الدار عليه لا له ، لأنها تضره ولا تنفعه.
قوله تعالى : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا } تقدم في {النمل} وقال عكرمة : ليس شيء خيرا من لا إله إلا الله وإنما المعنى من جاء بلا إله إلا الله فله منها خير. {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} أي بالشرك {فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي يعاقب بما يليق بعلمه.
10-ام السيدة مريم

الآية : 33 {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}
قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً} اصطفى اختار ؛ والتقدير إن الله اصطفى دينهم وهو دين الإسلام ؛ فحذف المضاف. وقال الزجاج : اختارهم للنبوة على عالمي زمانهم. "ونوحا" قيل إنه مشتق من ناح ينوح ، وهو اسم أعجمي إلا أنه انصرف لأنه على ثلاثة أحرف ، وهو شيخ المرسلين ، وأول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد آدم عليه السلام بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات وسائر القرابات
قوله تعالى : {وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} في البخاري عن ابن عباس قال : آل إبراهيم وآل عمران المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد ؛ يقول الله تعالى : {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران : 68] وقيل : آل إبراهيم إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وإن محمدا صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم. وقيل : آل إبراهيم نفسه ، وكذا آل عمران ؛ ومنه قوله تعالى : {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} [البقرة : 248]. وفي الحديث : "لقد أعطي مزمارا من مزامير آل داود" ؛

 وقيل : آل عمران آل إبراهيم ؛ كما قال : {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران : 34]. وقيل : المراد عيسى ، لأن أمه ابنة عمران. وقال الكلبي : هو عمران أبو مريم ، وهو من ولد سليمان عليه السلام. وحكى السهيلي : عمران بن ماتان ، وامرأته حنة "بالنون". وخص هؤلاء بالذكر من بين الأنبياء لأن الأنبياء والرسل بقضهم وقضيضهم من نسلهم. ولم ينصرف عمران لأن في آخره ألفا ونونا زائدتين. ومعنى قوله : "على العالمين" أي على عالمي زمانهم ، في قول أهل التفسير.

وقال الترمذي الحكيم أبو عبدالله محمد بن علي : جميع الخلق كلهم. وقيل "على العالمين" : على جميع الخلق كلهم إلى يوم الصور ، وذلك أن هؤلاء رسل وأنبياء فهم صفوة الخلق ؛ فأما محمد صلى الله عليه وسلم فقد جازت مرتبته الاصطفاء لأنه حبيب ورحمة. قال الله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء : 107] فالرسل خلقوا للرحمة ، ومحمد صلى الله عليه وسلم خلق بنفسه رحمة ، فلذلك صار أمانا للخلق ، لما بعثه الله أمن الخلق العذاب إلى نفخة الصور.

وسائر الأنبياء لم يحلوا هذا المحل ؛ ولذلك قال عليه السلام : "أنا رحمة مهداة" يخبر أنه بنفسه رحمة للخلق من الله. وقوله "مهداة" أي هدية من الله للخلق. ويقال : اختار آدم بخمسة أشياء : أولها أنه خلقه بيده في أحسن صورة بقدرته ، والثاني أنه علمه الأسماء كلها ، والثالث أمر الملائكة بأن يسجدوا له ، والرابع أسكنه الجنة ، والخامس جعله أبا البشر.

واختار نوحا بخمسة أشياء : أولها أنه جعله أبا البشر ؛ لأن الناس كلهم غرقوا وصار ذريته هم الباقين ، والثاني أنه أطال عمره ؛ ويقال : طوبى لمن طال عمره وحسن عمله ، والثالث أنه استجاب دعاءه على الكافرين والمؤمنين ، والرابع أنه حمله على السفينة ، والخامس أنه كان أول من نسخ الشرائع ؛ وكان قبل ذلك لم يحرم تزويج الخالات والعمات.

 واختار إبراهيم بخمسة أشياء : أولها أنه جعله أبا الأنبياء ؛ لأنه روى أنه خرج من صلبه ألف نبي من زمانه إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، والثاني أنه اتخذه خليلا ، والثالث أنه أنجاه من النار ، والرابع أنه جعله إماما للناس ، والخامس أنه ابتلاه بالكلمات فوفقه حتى أتمهن.

ثم قال : "وآل عمران" فإن كان عمران أبا موسى وهارون فإنما اختارهما على العالمين حيث بعث على قومه المن والسلوى وذلك لم يكن لأحد من الأنبياء في العالم. وإن كان أبا مريم فإنه اصطفى له مريم بولادة عيسى بغير أب ولم يكن ذلك لأحد في العالم. والله أعلم.
الآية : 34 {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
أي في حال كون بعضهم من بعض ، أي ذرية بعضها من ولد بعض. الكوفيون : على القطع. الزجاج : بدل ، أي اصطفى ذرية بعضها من بعض ، ومعنى بعضها من بعض ، يعني في التناصر في الدين ؛ كما قال : {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة : 67] يعني في الضلالة ؛ قاله الحسن وقتادة. وقيل : في الاجتباء والاصطفاء والنبوة. وقيل : المراد به التناسل ، وهذا أضعفها.
الآية : 35 {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
الآية : 36 {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}

فيه ثمان مسأئل :
الأولى : -قوله تعالى : {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ} " قال أبو عبيدة : التقدير : اذكر إذ. وقال الزجاج : المعنى واصطفى آل عمران إذ قالت امرأة عمران. وهي حنة "بالحاء المهملة والنون" بنت فاقود بن قنبل أم مريم جدة عيسى عليه السلام ، وليس باسم عربي ولا يعرف في العربية حنة اسم امرأة.
الثانية : -قوله تعالى : {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً}، وأنه لا يلزم العبد إلا بأن يلزمه نفسه. ويقال : إنها لما حملت قالت : لئن نجاني الله ووضعت ما في بطني لجعلته محررا. ومعنى "لك" أي لعبادتك. "محررا"  أي إني نذرت لك ما في بطني غلاما محررا ، وقيل أن سبب قول امرأة عمران هذا أنها كانت كبيرة لا تلد ، وكانوا أهل بيت من الله بمكان ، وإنها كانت تحت شجرة فبصرت بطائر يزق فرخا فتحركت نفسها لذلك ، ودعت ربها أن يهب لها ولدا ، ونذرت إن ولدت أن تجعل ولدها محررا : أي عتيقا خالصا لله تعالى ، خادما للعبادة حبيسا عليها ، ومفرغا لعبادة الله تعالى.

وكان ذلك جائزا في شريعتهم ، وكان على أولادهم أن يطيعوهم. فلما وضعت مريم قالت : {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} يعني أن الأنثى لا تصلح لخدمة المعبد. قيل لما يصيبها من الحيض والأذى. وقيل : لا تصلح لمخالطة الرجال. وكانت ترجو أن يكون ذكرا فلذلك حررت.
الثالثة : -قال ابن العربي : "لا خلاف أن امرأة عمران لا يتطرق إلى حملها نذر لكونها حرة ، فلو كانت امرأته أمة فلا خلاف أن المرء لا يصح له نذر في ولده وكيفما تصرفت حاله ؛ فإنه إن كان الناذر عبدا فلم يتقرر له قول في ذلك ؛ وإن كان حرا فلا يصح أن يكون مملوكا له ، وكذلك المرأة مثله ؛ فأي وجه للنذر فيه ؟

وإنما معناه - والله أعلم - أن المرء إنما يريد ولده للأنس به والاستنصار والتسلي ، فطلبت هذه المرأة الولد أنسا به وسكونا إليه ؛ فلما من الله تعالى عليها به نذرت أن حظها من الأنس به متروك فيه ، وهو على خدمة الله تعالى موقوف ، وهذا نذر الأحرار من الأبرار. وأرادت به محررا من جهتي ، محررا من رق الدنيا وأشغالها ؛ وقد قال رجل من الصوفية لأمه : يا أمه : ذريني لله أتعبد له وأتعلم العلم ، فقالت نعم. فسار حتى تبصر ثم عاد إليها فدق الباب ، فقالت من ؟ فقال لها : ابنك فلان ، قالت : قد تركناك لله ولا نعود فيك.
الرابعة : -قوله تعالى : {مُحَرَّراً} مأخوذ من الحرية التي هي ضد العبودية ؛ من هذا تحرير الكتاب ، وهو تخليصه من الاضطراب والفساد. وروى خصيف عن عكرمة ومجاهد : أن المحرر الخالص لله عز وجل لا يشوبه شيء من أمر الدنيا. وهذا معروف في اللغة أن يقال لكل ما خلص : حر ، ومحرر بمعناه ؛
الخامسة : -قوله تعالى : {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} قال ابن عباس : إنما قالت هذا لأنه لم يكن يقبل في النذر إلا الذكور ، فقبل الله مريم. "وأنثى" حال ، وإن شئت بدل. فقيل : إنها ربتها حتى ترعرعت وحينئذ أرسلتها ؛ رواه أشهب عن مالك : وقيل : لفتها في خرقتها وأرسلت بها إلى المسجد ، فوفت بنذرها وتبرأت منها. ولعل الحجاب لم يكن عندهم كما كان في صدر الإسلام .
السادسة : -قوله تعالى : {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} هو على قراءة من قرأ "وضعت" بضم التاء من جملة كلامها ؛ فالكلام متصل. وهي قراءة أبي بكر وابن عامر ، وفيها معنى التسليم لله والخضوع والتنزيه له أن يخفى عليه شيء ، ولم تقله على طريق الإخبار لأن علم الله في كل شيء قد تقرر في نفس المؤمن ، وإنما قالته على طريق التعظيم والتنزيه لله تعالى.

 وعلى قراءة الجمهور هو من كلام الله عز وجل قدم ، وتقديره أن يكون مؤخرا بعد {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران : 36] والله أعلم بما وضعت ؛ قاله المهدوي. وقال مكي : هو إعلام من الله تعالى لنا على طريق التثبيت فقال : والله أعلم بما وضعت أم مريم قالته أو لم تقله. ويقوي ذلك أنه لو كان من كلام أم مريم لكان وجه الكلام : وأنت أعلم بما وضعت ؛ لأنها نادته في أول الكلام في قولها : رب إني وضعتها أنثى.

السابعة : -قوله تعالى : {لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} استدل به بعض الشافعية على أن المطاوعة في نهار رمضان لزوجها على الوطء لا تساويه في وجوب الكفارة عليها ، ابن العربي ، وهذه منه غفلة ، فإن هذا خبر عن شرع من قبلنا وهم لا يقولون به ، وهذه الصالحة إنما قصدت بكلامها ما تشهد له به بينة حالها ومقطع كلامها ، فإنها نذرت خدمة المسجد في ولدها ، فلما رأته أنثى لا تصلح وأنها عورة اعتذرت إلى ربها من وجودها لها على خلاف ما قصدته فيها.
الثامنة - قوله تعالى : {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} يعني خادم الرب في لغتهم. {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ} يعني مريم. {وَذُرِّيَّتَهَا} يعني عيسى. وهذا يدل على أن الذرية قد تقع على الولد خاصة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه" ثم قال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} .

قال علماؤنا : فأفاد هذا الحديث أن الله تعالى استجاب دعاء أم مريم ، فإن الشيطان ينخس جميع ولد آدم حتى الأنبياء والأولياء إلا مريم وابنها. قال قتادة : كل مولود يطعن الشيطان في جنبه حين يولد غير عيسى وأمه جعل بينهما حجاب فأصابت الطعنة الحجاب ولم ينفذ لها منه شيء ، قال علماؤنا : وإن لم يكن كذلك بطلت الخصوصية بهما ، ولا يلزم من هذا أن نخس الشيطان يلزم منه إضلال الممسوس وإغواؤه فإن ذلك ظن فاسد ؛ فكم تعرض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإفساد والإغواء ومع ذلك فعصمهم الله مما يرومه الشيطان ، كما قال تعالى : {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر : 42].

هذا مع أن كل واحد من بني آدم قد وكل به قرينه من الشياطين ؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمريم وابنها وإن عصما من نخسه فلم يعصما من ملازمته لها ومقارنته. والله أعلم.

الآية : 37 {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
الآية : 38 {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}
قوله تعالى : {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} المعنى : سلك بها طريق السعداء ؛ عن ابن عباس. وقال قوم : معنى التقبل التكفل في التربية والقيام بشأنها. وقال الحسن : معنى التقبل أنه ما عذبها ساعة قط من ليل ولا نهار. {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} يعني سوى خلقها من غير زيادة ولا نقصان ، فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام واحد.
قوله تعالى : {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} أي ضمها إليه. والتقدير وكفلها ربها زكريا ، أي ألزمه كفالتها وقدر ذلك عليه ويسره له.

قوله تعالى : {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} الى قوله : {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}
فيه أربع مسائل :
الأولى - قوله تعالى : {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} " المحراب في اللغة أكرم موضع في المجلس. وجاء في الخبر : إنها كانت في غرفة كان زكريا يصعد إليها بسلم. روى أبو صالح عن ابن عباس قال : حملت امرأة عمران بعد ما أسنت فنذرت ما في بطنها محررا فقال لها عمران : ويحك ما صنعت ؟ أرأيت إن كانت أنثى ؟ فاغتما لذلك جميعا. فهلك عمران وحنة حامل فولدت أنثى فتقبلها الله بقبول حسن ، وكان لا يحرر إلا الغلمان فتساهم عليها الأحبار بالأقلام التي يكتبون بها الوحي.

 فكفلها زكريا وأخذ لها موضعا فلما أسنت جعل لها محرابا لا يرتقي إليه إلا بسلم ، واستأجر لها ظئرا وكان يغلق عليها بابا ، وكان لا يدخل عليها إلا زكريا حتى كبرت ، فكانت إذا حاضت أخرجها إلى منزله فتكون عند خالتها وكانت خالتها امرأة زكريا في قول الكلبي. قال مقاتل : كانت أختها امرأة زكريا. وكانت إذا طهرت من حيضتها واغتسلت ردها إلى المحراب. وقال بعضهم : كانت لا تحيض وكانت مطهرة من الحيض.

وكان زكريا إذا دخل عليها يجد عندها فاكهة الشتاء في القيظ وفاكهة القيظ في الشتاء فقال : يا مريم أنى لك هذا ؟ فقالت : هو من عند الله. فعند ذلك طمع زكريا في الولد وقال : إن الذي يأتيها بهذا قادر أن يرزقني ولدا. ومعنى "أنى" من أين ؛ قاله أبو عبيدة. قال النحاس : وهذا فيه تساهل ؛ لأن "أين" سؤال عن المواضع و"أنى" سؤال عن المذاهب والجهات. والمعنى من أي المذاهب ومن أي الجهات لك هذا. وقد فرق الكميت بينهما فقال :
أنى ومن أين آبك الطرب ... من حيث لا صبوة ولا ريب
و "كلما" منصوب بـ "وجد" ، أي كل دخلة.

 "إن الله يرزق من يشاء بغير حساب" قيل : هو من قول مريم ، ويجوز أن يكون مستأنفا ؛ فكان ذلك سبب دعاء زكريا وسؤاله الولد.
الثانية : -قوله تعالى : {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} هنالك في موضع نصب ؛ لأنه ظرف يستعمل للزمان والمكان وأصله للمكان. وقال المفضل بن سلمة : "هنالك" في الزمان و"هناك" في المكان ، وقد يجعل هذا مكان هذا. و {هَبْ لِي} أعطني. {مِنْ لَدُنْكَ} من عندك. { ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} أي نسلا صالحا. والذرية تكون واحدة وتكون جمعا ذكرا وأنثى ، وهو هنا واحد. يدل عليه قوله. {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} [مريم : 5] ولم يقل أولياء ، وإنما أنث "طَيِّبة" لتأنيث لفظ الذرية ؛ كقوله :
أبوك خليفة ولدته أخرى ... وأنت خليفة ذاك الكمال
فأنث ولدته لتأنيث لفظ الخليفة. وروي من حديث أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أي رجل مات وترك ذرية طيبة أجرى الله له مثل أجر عملهم ولم ينقص من أجورهم شيئا" و {طَيِّبَةً } أي صالحة مباركة. {إنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء} أي قابله ؛ ومنه : سمع الله لمن حمده.
الثالثة : -دلت هذه الآية على طلب الولد ، وهي سنة المرسلين والصديقين ، قال الله تعالى : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد : 38]. وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال : أراد عثمان أن يتبتل فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو أجاز له ذلك لاختصينا.

وخرج ابن ماجة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم ومن كان ذا طول فلينكح ومن لم يجد فعليه بالصوم فإنه له وجاء".

 وفي هذا رد على بعض جهال المتصوفة حيث قال : الذي يطلب الولد أحمق ، وما عرف أنه هو الغبي الأخرق ؛ قال الله تعالى مخبرا عن إبراهيم الخليل : {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء : 84] وقال : {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان : 74]. وقد ترجم البخاري على هذا "باب طلب الولد". وقال صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة حين مات ابنه : "أعرستم الليلة" ؟ قال : نعم. قال : "بارك الله لكما في غابر ليلتكما" . قال فحملت.

في البخاري : قال سفيان فقال رجل من الأنصار : فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرؤوا القرآن. وترجم أيضا "باب الدعاء بكثرة الولد مع البركة" وساق حديث أنس بن مالك قال : قالت أم سُليم : يا رسول الله ، خادمك أنس أدع الله له. فقال : "اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته" .

وقال صلى الله عليه وسلم : "اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين". خرجه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم : "تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم" . أخرجه أبو داود. والأخبار في هذا المعنى كثيرة تحث على طلب الولد وتندب إليه ؛ لما يرجوه الإنسان من نفعة في حياته وبعد موته. قال صلى الله عليه وسلم : " إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث" فذكر "أو ولد صالح يدعو له" . ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكان فيه كفاية.
الرابعة : -فإذا ثبت هذا فالواجب على الإنسان أن يتضرع إلى خالقه في هداية ولده وزوجه بالتوفيق لهما والهداية والصلاح والعفاف والرعاية ، وأن يكونا معينين له على دينه ودنياه حتى تعظم منفعته بهما في أولاه وأخراه ؛ ألا ترى قول زكريا : {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} [مريم : 6] وقال : {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} . وقال : { هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان : 74]. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنس فقال : " اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه" . خرجه البخاري ومسلم ، وحسبك.

الآية : 39 {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ}
قوله تعالى : {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ} قرأ حمزة والكسائي "فناداه" بالألف على التذكير ويميلانها لأن أصلها الياء ، ولأنها رابعة. وبالألف قراءة ابن عباس وابن مسعود ، وهو اختيار أبي عبيد. وروي عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال : كان عبدالله يذكر الملائكة في كل القرآن. قال أبو عبيد : نراه اختار ذلك خلافا على المشركين لأنهم قالوا : الملائكة بنات الله. قال النحاس : هذا احتجاج لا يحصل منه شيء ؛ لأن العرب تقول : قالت الرجال ، وقال الرجال ، وكذا النساء ، وكيف يحتج عليهم بالقرآن ، ولو جاز أن يحتج عليهم بالقرآن بهذا لجاز أن يحتجوا بقوله تعالى : {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ} ولكن الحجة عليهم في قوله عز وجل : {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} [الزخرف : 19] أي فلم يشاهدوا ، فكيف يقولون إنهم إناث فقد علم أن هذا ظن وهوى.

وأما "فناداه" فهو جائز على تذكير الجمع ، "ونادته" على تأنيث الجماعة. قال مكي : والملائكة ممن يعقل في التكسير فجرى في التأنيث مجرى ما لا يعقل ، تقول : هي الرجال ، وهي الجذوع ، وهي الجِمال ، وقالت الأعراب. ويقوي ذلك قوله : {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ} وقد ذكر في موضع آخر فقال : {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} [الأنعام : 93] وهذا إجماع. وقال تعالى : {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد : 23] فتأنيث هذا الجمع وتذكيره حسنان. وقال السدي : ناداه جبريل وحده ؛ وكذا في قراءة ابن مسعود.

وفي التنزيل {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} يعني جبريل ، والروح الوحي. وجائز في العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع. وجاء في التنزيل {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران : 173] يعني نعيم بن مسعود ، وقيل : ناداه جميع الملائكة ، وهو الأظهر. أي جاء النداء من قبلهم.

قوله تعالى : {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ} "وهو قائم" ابتداء وخبر "يصلي" في موضع رفع ، وإن شئت كان نصبا على الحال من المضمر. "أن الله" أي بأن الله. وقرأ حمزة والكسائي "إن" أي قالت إن الله ؛ فالنداء بمعنى القول. "يبشرك" بالتشديد قراءة أهل المدينة. وقرأ حمزة "يَبْشُرُك" مخففا ؛ وكذلك حميد بن القيس المكي إلا أنه كسر الشين وضم الياء وخفف الباء. قال الأخفش : هي ثلاث لغات بمعنى واحد.
دليل الأولى هي قراءة الجماعة أن ما في القرآن من هذا من فعل ماض أو أمر فهو بالتثقيل ؛ كقوله تعالى : {فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر : 17] {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} [يس : 11] {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} [هود : 71] {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} [الحجر : 55]. وأما الثانية وهي قراءة عبدالله بن مسعود فهي من بَشَر يَبْشُر وهي لغة تهامة ؛ ومنه قول الشاعر :
بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة ... أتتك من الحجاج يتلى كتابها
وقال آخر :
وإذا رأيت الباهشين إلى الندى ... غبرا أكفهم بقاع ممحل
فأعِنْهُم وابشَرْ بما بَشِروا به ... وإذا هم نزلوا بضنك فانزل
وأما الثالثة فهي من أبشر يُبشر إبشارا قال :
يا أم عمرو أبشري بالبشرى ... موت ذريع وجراد عَظْلَى
قوله تعالى : {بِيَحْيَى} كان اسمه في الكتاب الأول حيا ، وكان اسم سارة زوجة إبراهيم عليه السلام بسارة ، وتفسيره بالعربية لا تلد ، فلما بشرت بإسحاق قيل لها : سارة ، سماها بذلك جبريل عليه السلام. فقالت : يا إبراهيم لم نقص من اسمي حرف ؟ فقال إبراهيم ذلك لجبريل عليهما السلام. فقال : "إن ذلك الحرف زيد في اسم ابن لها من أفضل الأنبياء اسمه حيي وسمي بيحيى". ذكره النقاش. وقال قتادة : سمي بيحيى لأن الله تعالى أحياه بالإيمان والنبوة. وقال بعضهم : سمي بذلك لأن الله تعالى أحيا به الناس بالهدى. وقال مقاتل : اشتق اسمه من اسم الله تعالى حي فسمي يحيى. وقيل : لأنه أحيا به رحم أمه.
قوله تعالى : {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} يعني عيسى في قول أكثر المفسرين. وسمي عيسى كلمة لأنه كان بكلمة الله تعالى التي هي "كن" فكان من غير أب. وقرأ أبو السمال العدوي "بكِلْمة" مكسورة الكاف ساكنة اللام في جميع القرآن ، وهي لغة فصيحة مثل كِتْف وفِخْذ. وقيل : سمي كلمة لأن الناس يهتدون به كما يهتدون بكلام الله تعالى.

 وقال أبو عبيد : معنى "بكلمة من الله" بكتاب من الله. قال : والعرب تقول أنشدني كلمة أي قصيدة ؛ كما روي أن الحويدرة ذكر لحسان فقال : لعن الله كلمته ، يعني قصيدته. وقيل غير هذا من الأقوال. والقول الأول أشهر وعليه من العلماء الأكثر. و"يحيى" أول من آمن بعيسى عليهما السلام وصدقه ، وكان يحيى أكبر من عيسى بثلاث سنين ويقال بستة أشهر. وكانا ابني خالة ، فلما سمع زكريا شهادته قام إلى عيسى فضمه إليه وهو في خرقه.

وذكر الطبري أن مريم لما حملت بعيسى حملت أيضا أختها بيحيى ؛ فجاءت أختها زائرة فقالت : يا مريم أشعرت أني حملت ؟ فقالت لها مريم : أشعرت أنت أني حملت ؟ فقالت لها : وإني لأجد ما في بطني يسجد لما في بطنك. وذلك أنه روي أنها أحست جنينها يخر برأسه إلى ناحية بطن مريم.

 قال السدي : فذلك قوله {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} . "ومصدقا" نصب على الحال. {وَسَيِّداً} السيد : الذي يسود قومه وينتهى إلى قوله ، وأصله سَيْوِد يقال : فلان أسود من فلان ، أفعل من السيادة ؛ ففيه دلالة على جواز تسمية الإنسان سيدا كما يجوز أن يسمى عزيزا أو كريما. وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لبني قريظة : "قوموا إلى سيدكم" .

وفي البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحسن : "إن ابني هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" وكذلك كان ، فإنه لما قتل علي رضي الله عنه بايعه أكثر من أربعين ألفا وكثير ممن تخلف عن أبيه وممن نكث بيعته ، فبقي نحو سبعة أشهر خليفة بالعراق وما وراءها من خراسان ، ثم سار إلى معاوية في أهل الحجاز والعراق وسار إليه معاوية في أهل الشام .

 فلما تراءى الجمعان بموضع يقال له "مَسْكِن" من أرض السواد بناحية الأنبار كره الحسن القتال لعلمه أن إحدى الطائفتين لا تغلب حتى تهلك أكثر الأخرى فيهلك المسلمون ؛ فسلم الأمر إلى معاوية على شروط شرطها عليه ، منها أن يكون الأمر له من بعد معاوية ، فالتزم كل ذلك معاوية فصدق قوله عليه الصلاة والسلام : "إن ابني هذا سيد" ولا أسود ممن سوده الله تعالى ورسوله. قال قتادة في قوله تعالى "وسيدا" قال : في العلم والعبادة. ابن جبير والضحاك : في العلم والتقى. مجاهد : السيد الكريم. ابن زيد : الذي لا يغلبه الغضب. وقال الزجاج : السيد الذي يفوق أقرانه في كل شيء من الخير.

{وحَصُوراً} أصله من الحصر وهو الحبس. حصرني الشيء وأحصرني إذا حبسني. قال ابن ميادة :
وما هجر ليلى أن تكون تباعدت ... عليك ولا أن أحصرتك شغول
وناقة حصور : ضيقة الإحليل. والحصور الذي لا يأتي النساء كأنه محجم عنهن ؛ كما يقال : رجل حصور وحصير إذا حبس رفده ولم يخرج ما يخرجه الندامى. يقال : شرب القوم فحصر عليهم فلان ، أي بخل ؛ عن أبي عمرو. قال الأخطل :

وشارب مربح بالكأس نادمني ... لا بالحصور ولا فيها بسوار
وفي التنزيل {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} [الإسراء : 8] أي محبسا. والحصير الملك لأنه محجوب. وقال لبيد :
وقماقم غُلْب الرقاب كأنهم ... جن لدى باب الحصير قيام
فيحيى عليه السلام حصور ، فعول بمعنى مفعول لا يأتي النساء ؛ كأنه ممنوع مما يكون في الرجال ؛ عن ابن مسعود وغيره. وفعول بمعنى مفعول كثير في اللغة ، من ذلك حلوب بمعنى محلوبة ؛ قال الشاعر :
فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سودا كخافية الغراب الأسحم
وقال ابن مسعود أيضا وابن عباس وابن جبير وقتادة وعطاء وأبو الشعثاء والحسن والسدي وابن زيد : هو الذي يكف عن النساء ولا يقربهن مع القدرة. وهذا أصح الأقوال لوجهين : أحدهما أنه مدح وثناء عليه ، والثناء إنما يكون عن الفعل المكتسب دون الجبلة في الغالب. الثاني أن فعولا في اللغة من صيغ الفاعلين ؛ كما قال :
ضَروب بنصل السيف سوق سمانها ... إذا عدموا زادا فإنك عاقر
فالمعنى أنه يحصر نفسه عن الشهوات. ولعل هذا كان شرعه ؛ فأما شرعنا فالنكاح ، كما تقدم. وقيل : الحصور العِنِّين الذي لا ذكر له يتأتى له به النكاح ولا ينزل ؛ عن ابن عباس أيضا وسعيد بن المسيب والضحاك. وروى أبو صالح عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلا يحيى بن زكريا فإنه كان سيدا وحصورا ونبيا من الصالحين" - ثم أهوى النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى قَذاة من الأرض فأخذها وقال : "كان ذَكَره هكذا مثل هذه القذاة". وقيل : معناه الحابس نفسه عن معاصي الله عز وجل. و"نبيا من الصالحين" قال الزجاج : الصالح الذي يؤدي لله ما افترض عليه ، وإلى الناس حقوقهم.
الآية : 40 {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}
قيل : الرب هنا جبريل ، أي قال لجبريل : رب - أي يا سيدي - أنى يكون لي غلام ؟ يعني ولدا ؛ وهذا قول الكلبي. وقال بعضهم : قوله "رب" يعني الله تعالى. "أنى" بمعنى كيف ، وهو في موضع نصب على الظرف. وفي معنى هذا الاستفهام وجهان : أحدهما أنه سأل هل يكون له الولد وهو وامرأته على حاليهما أو يردان إلى حال من يلد ؟

 الثاني سأل هل يرزق الولد من امرأته العاقر أو من غيرها. وقيل : المعنى بأي منزلة استوجب هذا وأنا وامرأتي على هذه الحال ؛ على وجه التواضع. ويروى أنه كان بين دعائه والوقت الذي بشر فيه أربعون سنة ، وكان يوم بشر ابن تسعين سنة وامرأته قريبة السن منه.

وقال ابن عباس والضحاك : كان يوم بشر ابن عشرين ومائة سنة وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة ؛ فذلك قوله {وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} أي عقيم لا تلد. يقال : رجل عاقر وامرأة عاقر بينة العقر. وقد عَقُرت وعَقُر "بضم القاف فيهما" تعقُر عُقْرا صارت عاقرا ، مثل حسنت تحسن حسنا ؛ عن أبي زيد. وعقارة أيضا. وأسماء الفاعلين من فُعل فعيلة ، يقال : عظمت فهي عظيمة ، وظرفت فهي ظريفة. وإنما قيل عاقر لأنه يراد به ذات عُقْر على النسب ، ولو كان على الفعل لقال : عقرت فهي عقيرة كأن بها عقرا ، أي كبرا من السن يمنعها من الولد.

والعاقر : العظيم من الرمل لا ينبت شيئا. والعُقْر أيضا مهر المرأة إذا وُطئت على شبهة. وبيضة العُقْر : زعموا هي بيضة الديك ؛ لأنه يبيض في عمره بيضة واحدة إلى الطول. وعُقْر النار أيضا.

وسطها ومعظمها. وعَقْر الحوض : مؤخره حيث تقف الإبل إذا وردت ؛ يقال : عُقْر وعُقُر مثل عُسْر وعُسُر ، والجمع الأعقار فهو لفظ مشترك. والكاف في قوله "كذلك" في موضع نصب ، أي يفعل الله ما يشاء مثل ذلك. والغلام مشتق من الغُلْمة وهو شدة طلب النكاح. واغتلم الفحل غلمة هاج من شهوة الضراب. وقالت ليلى الأخيلية :
شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها
والغلام الطار الشارب. وهو بين الغلومة والغلومية ، والجمع الغِلْمة والغِلمان. ويقال : إن الغَيْلم الشاب والجارية أيضا. والغيلم : ذكر السلحفاة. والغيلم : موضع. واغتلم البحر : هاج وتلاطمت أمواجه.
الآية : 41 {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ}
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} "اجعل" هنا بمعنى صير لتعديه إلى مفعولين. و"لي" في موضع المفعول الثاني. ولما بشر بالولد ولم يبعد عنده هذا في قدرة الله تعالى طلب آية - أي علامة - يعرف بها صحة هذا الأمر وكونه من عند الله تعالى ؛ فعاقبه الله تعالى بأن أصابه السكوت عن كلام الناس لسؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه ؛ قاله أكثر المفسرين. قالوا : وكذلك إن لم يكن من مرض خرس أو نحوه ففيه على كل حال عقاب ما. قال ابن زيد : إن زكريا عليه السلام لما حملت زوجه منه بيحيى أصبح لا يستطيع أن يكلم أحدا ، وهو مع ذلك يقرأ التوراة ويذكر الله تعالى ؛ فإذا أراد مقاولة أحد لم يطقه.
الثانية : -قوله تعالى : {إِلاَّ رَمْزاً} الرمز في اللغة الإيماء بالشفتين ، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين واليدين ؛ وأصله الحركة. وقيل : طلب تلك الآية زيادة طمأنينة. المعنى : تمم النعمة بأن تجعل لي آية ، وتكون تلك الآية زيادة نعمة وكرامة .

 فقيل له : {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} أي تمنع من الكلام ثلاث ليال ؛ دليل هذا القول قوله تعالى بعد بشري الملائكة له. "وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا" [مريم : 9] أي أوجدتك بقدرتي فكذلك أوجد لك الولد. واختار هذا القول النحاس وقال : قول قتادة إن زكريا عوقب بترك الكلام قول مرغوب عنه ؛ لأن الله عز وجل لم يخبرنا أنه أذنب ولا أنه نهاه عن هذا ؛ والقول فيه أن المعنى اجعل لي علامة تدل على كون الولد ، إذ كان ذلك مغيبا عني. و"رمزا" نصب على الاستثناء المنقطع ؛ قاله الأخفش. وقال الكسائي : رمز يرمز ويرمِز. وقرئ "إلا رمزا" بفتح الميم و"رمزا" بضمها وضم الراء ، الواحدة رمزة.
الثالثة : -في هذه الآية دليل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام وذلك موجود في كثير من السنة ، وآكد الإشارات ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم من أمر السوداء حين قال لها : "أين الله" ؟ فأشارت برأسها إلى السماء فقال : "أعتقها فإنها مؤمنة" . فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أصل الديانة الذي يحرز الدم والمال وتستحق به الجنة وينجى به من النار ، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك ؛ فيجب أن تكون الإشارة عاملة في سائر الديانة ، وهو قول عامة الفقهاء.

وروى ابن القاسم عن مالك أن الأخرس إذا أشار بالطلاق إنه يلزمه. وقال الشافعي في الرجل يمرض فيختل لسانه فهو كالأخرس في الرجعة والطلاق. وقال أبو حنيفة : ذلك جائز إذا كانت إشارته تعرف ، وإن شك فيها فهي باطل ، وليس ذلك بقياس وإنما هو استحسان. والقياس في هذا كله أنه باطل ؛ لأنه لا يتكلم ولا تعقل إشارته. قال أبو الحسن بن بطال : وإنما حمل أبا حنيفة على قوله هذا أنه لم يعلم السنن التي جاءت بجواز الإشارات في أحكام مختلفة في الديانة. ولعل البخاري حاول بترجمته "باب الإشارة في الطلاق والأمور" الرد عليه. وقال عطاء : أراد بقوله {أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ} صوم ثلاثة أيام. وكانوا إذا صاموا لا يتكلمون إلا رمزا. وهذا فيه بعد. والله أعلم.
الرابعة : -قال بعض من يجيز نسخ القرآن بالسنة : إن زكريا عليه السلام منع الكلام وهو قادر عليه ، وإنه منسوخ بقوله عليه السلام : "لا صمت يوما إلى الليل" . وأكثر العلماء على أنه ليس بمنسوخ ، وأن زكريا إنما منع الكلام بآفة دخلت عليه منعته إياه ، وتلك الآفة عدم القدرة على الكلام مع الصحة ؛ كذلك قال المفسرون.

وذهب كثير من العلماء إلى أنه "لا صمت يوما إلى الليل" إنما معناه عن ذكر الله ، وأما عن الهَذَر وما لا فائدة فيه ، فالصمت عن ذلك حسن.
قوله تعالى : {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} أمره بألا يترك الذكر في نفسه مع اعتقال لسانه ؛ على القول الأول. وقال محمد بن كعب القرظي : لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا بقول الله عز وجل : {أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً} ولرخص للرجل يكون في الحرب بقول الله عز وجل : {إذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً} [الأنفال : 45]. وذكره الطبري. "وسبح" أي صل ؛ سميت الصلاة سُبْحَة لما فيها من تنزيه الله تعالى عن السوء. و"العشي" جمع عشية. وقيل : هو واحد. وذلك من حين تزول الشمس إلى أن تغيب ؛ عن مجاهد. وفي الموطأ عن القاسم بن محمد قال : ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشي. "والإبكار" من طلوع الفجر إلى وقت الضحى.
الآية : 42 {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}
قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} أي اختارك ، وقد تقدم. {وَطَهَّرَكِ} أي من الكفر ؛ عن مجاهد والحسن. الزجاج : من سائر الأدناس من الحيض والنفاس وغيرهما ، واصطفاك لولادة عيسى. {عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} يعني عالمي زمانها ؛ عن الحسن وابن جريج وغيرهما. وقيل : {عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} أجمع إلى يوم الصور ، وهو الصحيح على ما نبينه ، وهو قول الزجاج وغيره. وكرر الاصطفاء لأن معنى الأول الاصطفاء لعبادته ، ومعنى الثاني لولادة عيسى.

 وروى مسلم عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" . قال علماؤنا رحمة الله عليهم : الكمال هو التناهي والتمام ؛ ويقال في ماضيه "كمل" بفتح الميم وضمها ، ويكمل في مضارعه بالضم ، وكمال كل شيء بحسبه.

والكمال المطلق إنما هو لله تعالى خاصة. ولا شك أن أكمل نوع الإنسان الأنبياء ثم يليهم الأولياء من الصديقين والشهداء والصالحين. وإذا تقرر هذا فقد قيل : إن الكمال المذكور في الحديث يعني به النبوة فيلزم عليه أن تكون مريم عليها السلام وآسية نبيتين ، وقد قيل بذلك. والصحيح أن مريم نبية ؛ لأن الله تعالى أوحى إليها بواسطة الملك كما أوحى إلى سائر النبيين .

وأما آسية فلم يرد ما يدل على نبوتها دلالة واضحة بل على صديقيتها وفضلها ،وروي من طرق صحيحة أنه عليه السلام قال فيما رواه عنه أبو هريرة : "خير نساء العالمين أربع مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد" . ومن حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : "أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون" . وفي طريق آخر عنه : "سيدة نساء أهل الجنة بعد مريم فاطمة وخديجة" . فظاهر القرآن والأحاديث يقتضي أن مريم أفضل من جميع نساء العالم من حواء إلى آخر امرأة تقوم عليها الساعة ؛ فإن الملائكة قد بلغتها الوحي عن الله عز وجل بالتكليف والإخبار والبشارة كما بلغت سائر الأنبياء ؛ فهي إذا نبية والنبي أفضل من الولي فهي أفضل من كل النساء : الأولين والآخرين مطلقا. ثم بعدها في الفضيلة فاطمة ثم خديجة ثم آسية.

وكذلك رواه موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سيدة نساء العالمين مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية" . وهذا حديث حسن يرفع الإشكال. وقد خص الله مريم بما لم يؤته أحدا من النساء ؛ وذلك أن روح القدس كلمها وظهر لها ونفخ في درعها ودنا منها للنفخة ؛ فليس هذا لأحد من النساء. وصدقت بكلمات ربها ولم تسأل آية عندما بشرت كما سأل زكريا صلى الله عليه وسلم من الآية ؛ ولذلك سماها الله في تنزيله صديقة فقال : {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة : 75].

وقال :{وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم : 12] فشهد لها بالصديقية وشهد لها بالتصديق لكلمات البشرى وشهد لها بالقنوت. وإنما بشر زكريا بغلام فلحظ إلى كبر سنه وعقامة رحم امرأته فقال : أنى يكون لي غلام وامرأتي عاقر ؛ فسأل آية ؛ وبشرت مريم بالغلام فلحظت أنها بكر ولم يمسسها بشر فقيل لها : {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} [مريم : 21] فاقتصرت على ذلك ، وصدقت بكلمات ربها ولم تسأل آية ممن يعلم كنه هذا الأمر ، ومن لامرأة في جميع نساء العالمين من بنات آدم ما لها من هذه المناقب.

ولذلك روي أنها سبقت السابقين مع الرسل إلى الجنة ؛ جاء في الخبر عنه صلى الله عليه وسلم : "لو أقسمتُ لبرَرْت لا يدخل الجنة قبل سابقي أمتي إلا بضعة عشر رجلا منهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى ومريم ابنة عمران" . وقد كان يحق على من انتحل علم الظاهر واستدل بالأشياء الظاهرة على الأشياء الباطنة أن يعرف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"

 وقوله حيث يقول : "لواء الحمد يوم القيامة بيدي ومفاتيح الكرم بيدي وأنا أول خطيب وأول شفيع وأول مبشر وأول وأول" . فلم ينل هذا السؤدد في الدنيا على الرسل إلا لأمر عظيم في الباطن. وكذلك شأن مريم لم تنل شهادة الله في التنزيل بالصديقية والتصديق بالكلمات إلا لمرتبة قريبة دانية. ومن قال لم تكن نبية قال : إن رؤيتها للملك كما رؤى جبريل عليه السلام في صفة دحية الكلبي حين سؤاله عن الإسلام والإيمان ولم تكن الصحابة بذلك أنبياء والأول أظهر وعليه الأكثر. والله أعلم.
الآية : 43 {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}
أي أطيلي القيام في الصلاة ؛ عن مجاهد. قتادة : أديمي الطاعة. وقد تقدم القول في القنوت. قال الأوزاعي : لما قالت لها الملائكة ذلك قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها وسالت دما وقيحا عليها السلام. {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} قدم السجود ها هنا على الركوع لأن الواو لا توجب الترتيب ؛ فإذا قلت : قام زيد وعمرو جاز أن يكون عمرو قام قبل زيد ، فعلى هذا يكون المعنى واركعي واسجدي. وقيل : كان شرعهم السجود قبل الركوع. {مَعَ الرَّاكِعِينَ} قيل : معناه افعلي كفعلهم وإن لم تصلي معهم. وقيل : المراد به صلاة الجماعة.
الآية : 44 {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}
فيه ابرع مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} أي الذي ذكرنا من حديث زكريا ويحيى ومريم عليهم السلام من أخبار الغيب. {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} فيه دلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر عن قصة زكريا ومريم ولم يكن قرأ الكتب ؛ وأخبر عن ذلك وصدقه أهل الكتاب بذلك ؛ فذلك قوله تعالى : {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} فرد الكناية إلى "ذلك" فلذلك ذكر.

والإيحاء هنا الإرسال إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والوحي يكون إلهاما وإيماء وغير ذلك. وأصله في اللغة إعلام في خفاء ؛ ولذلك صار الإلهام يسمى وحيا ؛ ومنه {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} [المائدة : 111] وقوله : {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل : 68] وقيل : معنى {أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} أمرتهم ؛ يقال : وحى وأوحى ، ورمى وأرمى ، بمعناه. قال العجاج :
أوحى لها القرار فاستقرت أي أمر الأرض بالقرار. وفي الحديث : "الوحي الوحي" وهو السرعة ؛ والفعل منه توحيت توحيا. قال ابن فارس : الوحي الإشارة والكتابة والرسالة ، وكل ما ألقيته إلى غيرك حتى يعلمه وحي كيف كان. والوحي : السريع. والوَحَى : الصَّوْت ؛ ويقال : استوحيناهم أي استصرخناهم.

الثانية : -قوله تعالى : {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ} أي وما كنت يا محمد لديهم ، أي بحضرتهم وعندهم. {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ} جمع قلم ؛ من قلمه إذا قطعه. قيل : قداحهم وسهامهم. وقيل : أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة ، وهو أجود ؛ لأن الأزلام قد نهى الله عنها فقال {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة : 3]. إلا أنه يجوز أن يكونوا فعلوا ذلك على غير الجهة التي كانت عليها الجاهلية تفعلها. {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} أي يحضنها ، فقال زكريا : أنا أحق بها ، خالتها عندي. وكانت عنده أشيع بنت فاقود أخت حنة بنت فاقود أم مريم. وقال بنو إسرائيل : نحن أحق بها ، بنت عالمنا. فاقترعوا عليها وجاء كل واحد بقلمه ، واتفقوا أن يجعلوا الأقلام في الماء الجاري فمن وقف قلمه ولم يجره الماء فهو حاضنها. قال النبي صلى الله عليه وسلم : "فجرت الأقلام وعال قلم زكريا" . وكانت آية له ؛ لأنه نبي تجري الآيات على يديه. وقيل غير هذا. و {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} ابتداء وخبر في موضع نصب بالفعل المضمر الذي دل عليه الكلام ؛ التقدير : ينظرون أيهم يكفل مريم. ولا يعمل الفعل في لفظ "أي" لأنها استفهام.
الثالثة : -استدل بعض علمائنا بهذه الآية على إثبات القرعة ، وهي أصل في شرعنا لكل من أراد العدل في القسمة ، وهي سنة عند جمهور الفقهاء في المستويين في الحجة ليعدل بينهم وتطمئن قلوبهم وترتفع الظنة عمن يتولى قسمتهم ، ولا يفضل أحد منهم على صاحبه إذا كان المقسوم من جنس واحد اتباعا للكتاب والسنة. ورد العمل بالقرعة أبو حنيفة وأصحابه ، وردوا الأحاديث الواردة فيها ، وزعموا أنها لا معنى لها وأنها تشبه الأزلام التي نهى الله عنها. وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة أنه جوزها وقال : القرعة في القياس لا تستقيم ، ولكنا تركنا القياس في ذلك وأخذنا بالآثار والسنة. قال أبو عبيد : وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء : يونس وزكريا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

قال ابن المنذر. واستعمال القرعة كالإجماع من أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء ، فلا معنى لقول من ردها. وقد ترجم البخاري في آخر كتاب الشهادات "باب القرعة في المشكلات وقول الله عز وجل {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ} وساق حديث النعمان بن بشير : "مثل القائم على حدود الله والمُدْهِن فيها مثل قوم استهموا على سفينة..." الحديث. وحديث أم العلاء ، وأن عثمان بن مظعون طار لهم سهمه في السكنى حين اقترعت الأنصار سكنى المهاجرين ، الحديث ، وحديث عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها ؛ وذكر الحديث.
وقد اختلفت الرواية عن مالك في ذلك ؛ فقال مرة : يقرع للحديث. وقال مرة : يسافر بأوفقهن له في السفر. وحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا" . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وكيفية القرعة مذكورة في كتب الفقه والخلاف. واحتج أبو حنيفة بأن قال : إن القرعة في شأن زكريا وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم كانت مما لو تراضوا عليه دون قرعة لجاز. قال ابن العربي : "وهذا ضعيف ، لأن القرعة إنما فائدتها استخراج الحكم الخفي عند التشاح ؛ فأما ما يخرجه التراضي فيه فباب آخر ، ولا يصح لأحد أن يقول : إن القرعة تجري مع موضع التراضي ، فإنها لا تكون أبدا مع التراضي" وإنما تكون فيما يَتَشَاحّ الناس فيه ويُضَن به. وصفة القرعة عند الشافعي ومن قال بها : أن تقطع رقاع صغار مستوية فيكتب في كل رقعة اسم ذي السهم ثم تجعل في بنادق طين مستوية لا تفاوت فيها ثم تجفف قليلا ثم تلقى في ثوب رجل لم يحضر ذلك ويغطي عليها ثوبه ثم يدخل ويخرج ، فإذا أخرج اسم رجل أعطي الجزء الذي أقرع عليه.

الرابعة : -ودلت الآية أيضا على أن الخالة أحق بالحضانة من سائر القرابات ما عدا الجدة ، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم في ابنة حمزة - واسمها أمة الله - لجعفر وكانت عنده خالتها ، وقال : "إنما الخالة بمنزلة الأم". وخرج أبو داود عن علي قال : خرج زيد بن حارثة إلى مكة فقدم بابنة حمزة فقال جعفر : أنا آخذها أنا أحق بها ابنة عمي وخالتها عندي ، وإنما الخالة أم. فقال علي : أنا أحق بها ابنة عمي وعندي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي أحق بها. وقال زيد : أنا أحق بها ، أنا خرجت إليها وسافرت وقدمت بها ؛ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فذكر حديثا قال : "وأما الجارية فأقضي بها لجعفر تكون مع خالتها وإنما الخالة أم" . وذكر ابن أبي خيثمة أن زيد بن حارثة كان وصي حمزة ، فتكون الخالة على هذا أحق من الوصي ويكون ابن العم إذا كان زوجا غير قاطع بالخالة في الحضانة وإن لم يكن محرما لها.
الآيتان : 45 - {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} ،
46 : - {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ}
دليل على نبوتها كما تقدم. "وإذ" متعلقة بـ "يختصمون". ويجوز أن تكون متعلقة بقوله : "وما كنت لديهم". {بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} وقرأ أبو السمان "بكلمة منه" ، وقد تقدم. {اسْمُهُ الْمَسِيحُ} ولم يقل اسمها لأن معنى كلمة معنى ولد. والمسيح لقب لعيسى ومعناه الصديق ؛ قاله إبراهيم النخعي. وهو فيما يقال معرب وأصله الشين وهو مشترك. وقال ابن فارس : والمسيح العرق ، والمسيح الصديق ، والمسيح الدرهم الأطلس لا نقش فيه والمَسْح الجماع ؛ يقال مسحها. والأمسح : المكان الأملس. والمسحاء المرأة الرسحاء التي لا أست لها. وبفلان مسحة من جمال. والمسائح قسي جياد ، واحدتها مسيحة.

قال : لها مسائح زور في مراكضها ... لين وليس بها وهن ولا رقق
واختلف في المسيح ابن مريم مماذا أخذ ؛ فقيل : لأنه مسح الأرض ، أي ذهب فيها فلم يستكن بكن. وروي عن ابن عباس أنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا بريء ؛ فكأنه سمي مسيحا لذلك ، فهو على هذا فعيل بمعنى فاعل. وقيل : لأنه ممسوح بدهن البركة ، كانت الأنبياء تمسح به ، طيب الرائحة ؛ فإذا مسح به علم أنه نبي. وقيل : لأنه كان ممسوح الأخمصين. وقيل : لأن الجمال مسحه ، أي أصابه وظهر عليه. وقيل : إنما سمي بذلك لأنه مسح بالطهر من الذنوب. وقال أبو الهيثم : المسيح ضد المسيخ ؛ يقال : مسحه الله أي خلقه خلقا حسنا مباركا ، ومسخه أي خلقه خلقا ملعونا قبيحا.

وقال ابن الأعرابي : المسيح الصِّدِّيق ، والمسيخ الأعور ، وبه سمي الدجال. وقال أبو عبيد : المسيح أصله بالعبرانية مشيحا بالشين فعرب كما عرب موشى بموسى. وأما الدجال فسمي مسيحا لأنه ممسوح إحدى العينين. وقد قيل في الدجال مسيح بكسر الميم وشد السين. وبعضهم يقول كذلك بالخاء المنقوطة. وبعضهم يقول مسيخ بفتح الميم وبالخاء والتخفيف ؛ والأول أشهر وعليه الأكثر. سمي به لأنه يسيح في الأرض أي يطوفها ويدخل جميع بلدانها إلا مكة والمدينة وبيت المقدس ؛ فهو فعيل بمعنى فاعل ، فالدجال يمسح الأرض محنة ، وابن مريم يمسحها منحة. وعلى أنه ممسوح العين فعيل بمعنى مفعول. وقال الشاعر :
إن المسيح يقتل المسيخا
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة" الحديث. ووقع في حديث عبدالله بن عمرو "إلا الكعبة وبيت المقدس" ذكره أبو جعفر الطبري. وزاد أبو جعفر الطحاوي "ومسجد الطور" ؛ رواه من حديث جنادة بن أبي أمية عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي حديث أبي بكر بن أبي شيبة عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم : "وأنه سيظهر على الأرض كلها إلا الحرم وبيت المقدس وأنه يحصر المؤمنين في بيت المقدس" .

. وفي صحيح مسلم : "فبينا هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نَفَسه إلا مات ، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طَرْفه فيطلبه حتى يدركه بباب لُد فيقتله" الحديث بطوله. وقد قيل : إن المسيح اسم لعيسى غير مشتق سماه الله به. فعلى هذا يكون عيسى بدلا من المسيح من البدل الذي هو هو. وعيسى اسم أعجمي فلذلك لم ينصرف وإن جعلته عربيا لم ينصرف في معرفة ولا نكرة ؛ لأن فيه ألف تأنيث. ويكون مشتقا من عاسه يُعوسه إذا ساسه وقام عليه.

{وَجِيهاً} أي شريفا ذا جاه وقدر وانتصب على الحال ؛ قاله الأخفش. {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} عند الله تعالى وهو معطوف على "وجيها" أي ومقربا ؛ قاله الأخفش. وجمع وجيه وجهاء ووجهاء. {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ} عطف على "وجيها" قاله الأخفش أيضا. و {الْمَهْدِ} مضجع الصبي في رضاعه. ومهدت الأمر هيأته ووطأته. وفي التنزيل {فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم : 44]. وامتهد الشيء ارتفع كما يمتهد سنام البعير. {وَكَهْلاً} الكهل بين حال الغلومة وحال الشيخوخة. وامرأة كهلة. واكتهلت الروضة إذا عمها النور.

 يقول : يكلم الناس في المهد آية ، ويكلمهم كهلا بالوحي والرسالة. وقال أبو العباس : كلمهم في المهد حين برأ أمه فقال : {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم : 30] الآية. وأما كلامه وهو كهل فإذا أنزله الله تعالى من السماء أنزله على صورة ابن ثلاث وثلاثين سنة وهو الكهل فيقول لهم : {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} كما قال في المهد. فهاتان آيتان وحجتان. قال المهدوي : وفائدة الآية أنه أعلمهم أن عيسى عليه السلام يكلمهم في المهد ويعيش إلى أن يكلمهم كهلا ، إذ كانت العادة أن من تكلم في المهد لم يعش.

قال الزجاج : "وكهلا" بمعنى ويكلم الناس كهلا. وقال الفراء والأخفش : هو معطوف على "وجيها". وقيل : المعنى ويكلم الناس صغيرا وكهلا. وروى ابن جريح عن مجاهد قال : الكهل الحليم. قال النحاس : هذا لا يعرف في اللغة ، وإنما الكهل عند أهل اللغة من ناهز الأربعين. وقال بعضهم : يقال له حدث إلى ست عشرة سنة. ثم شاب إلى اثنتين وثلاثين. ثم يكتهل في ثلاث وثلاثين ؛ قاله الأخفش. {وَمِنَ الصَّالِحِينَ} عطف على "وجيها" أي وهو من العباد الصالحين.

ذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبدالله بن إدريس عن حصين عن هلال بن يساف. قال : لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة : عيسى وصاحب يوسف وصاحب جريج ، كذا قال : "وصاحب يوسف". وهو في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لم يتكلم في المد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم وصاحب جريج وصاحب الجبار وبيْنا صبي يرضع من أمه" وذكر الحديث بطوله. وقد جاء من حديث صهيب في قصة الأخدود "أن امرأة جيء بها لتلقى في النار على إيمانها ومعها صبي" . في غير كتاب مسلم "يرضع فتقاعست أن تقع فيها فقال الغلام يا أمه اصبري فإنك على الحق" .

وقال الضحاك : تكلم في المهد ستة : شاهد يوسف وصبي ماشطة امرأة فرعون وعيسى ويحيى وصاحب جريج وصاحب الجبار. ولم يذكر الأخدود ، فأسقط صاحب الأخدود وبه يكون المتكلمون سبعة. ولا معارضة بين هذا وبين قوله عليه السلام : "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة" بالحصر فإنه أخبر بما كان في علمه مما أوحى إليه في تلك الحال ، ثم بعد هذا أعلمه الله تعالى بما شاء من ذلك فأخبر به.
قلت : أما صاحب يوسف فيأتي الكلام فيه ، وأما صاحب جريج وصاحب الجبار وصاحب الأخدود ففي صحيح مسلم. وستأتي قصة الأخدود في سورة "البروج" إن شاء الله تعالى. وأما صبي ماشطة

امرأة فرعون ، فذكر البيهقي عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لما أسري بي سرت في رائحة طيبة فقلت ما هذه الرائحة قالوا ماشطة ابنة فرعون وأولادها سقط مشطها من يديها فقالت : بسم الله فقالت ابنة فرعون : أبي ؟ قالت : ربي وربك ورب أبيك. قالت : أوَلكِ رب غير أبي ؟ قالت : نعم ربي وربك ورب أبيك الله - قال - فدعاها فرعون فقال : ألك رب غيري ؟ قالت : نعم ربي وربك الله - قال - فأمر بنقرة من نحاس فأحميت ثم أمر بها لتلقى فيها قالت : إن لي إليك حاجة قال : ما هي ؟ قالت : تجمع عظامي وعظام ولدي في موضع واحد قال : ذاك لك لما لك علينا من الحق. فأمر بهم فألقوا واحدا بعد واحد حتى بلغ رضيعا فيهم فقال قعي يا أمه ولا تقاعسي فإنا على الحق" - قال - وتكلم أربعة وهم صغار : هذا وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى بن مريم.
الآية : 47 {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
قوله تعالى : {قَالَتْ رَبِّ} أي يا سيدي. تخاطب جبريل عليه السلام ؛ لأنه لما تمثل لها قال لها : إنما أنا رسول ربك ليهب لك غلاما زكيا. فلما سمعت ذلك من قوله استفهمت عن طريق الولد فقالت : أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ؟ أي بنكاح. في سورتها {وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} [مريم : 20] ذكرت هذا تأكيدا ؛ لأن قولها {لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} يشمل الحرام والحلال. تقول : العادة الجارية التي أجراها الله في خلقه أن الولد لا يكون إلا عن نكاح أو سفاح. وقيل : ما استبعدت من قدرة الله تعالى شيئا ، ولكن أرادت كيف يكون هذا الولد : أمِن قِبل زوج في المستقبل أم يخلقه الله ابتداء ؟ فروي أن جبريل عليه السلام حين قال لها : {قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم : 9]. نفخ في جيب درعها وكمها ؛ قاله ابن جريج. قال ابن عباس : أخذ جبريل رُدْن قميصها بأصبعه فنفخ فيه فحملت من ساعتها بعيسى. وقيل غير ذلك على ما يأتي بيانه في سورتها إن شاء الله تعالى. وقال بعضهم : وقع نفخ جبريل في رحمها فعلقت

بذلك. وقال بعضهم : لا يجوز أن يكون الخلق من نفخ جبريل لأنه يصير الولد بعضه من الملائكة وبعضه من الإنس ، ولكن سبب ذلك أن الله تعالى لما خلق آدم وأخذ الميثاق من ذريته فجعل بعض الماء في أصلاب الآباء وبعضه في أرحام الأمهات فإذا اجتمع الماءان صارا ولدا ، وأن الله تعالى جعل الماءين جميعا في مريم بعضه في رحمها وبعضه في صلبها ، فنفخ فيه جبريل لتهيج شهوتها ؛ لأن المرأة ما لم تهج شهوتها لا تحبل ، فلما هاجت شهوتها بنفخ جبريل وقع الماء الذي كان في صلبها في رحمها فاختلط الماءان فعلقت بذلك ؛ فذلك قوله تعالى : {إِذَا قَضَى أَمْراً} يعني إذا أراد أن يخلق خلقا {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وقد تقدم في" البقرة "القول فيه مستوفى.
الآيتان : 48 - {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ} ،
49 : - قال تعالى : {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
قوله تعالى : {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ} قال ابن جريج : الكتاب الكتابة والخط. والإنجيل علمه الله عيسى عليه السلام. {وَرَسُولاً} أي ونجعله رسولا. وفي حديث أبي ذر الطويل "وأول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى عليه السلام" .

{أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ} أي أصور وأقدر لكم. {مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} والطير يذكر ويؤنث. {فَأَنْفُخُ فِيهِ} أي في الواحد منه أو منها أو في الطين فيكون طائرا. وطائر وطير مثل تاجر وتجر. قال وهب : كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز فعل الخلق من فعل الله تعالى. وكان تسوية الطين والنفخ من عيسى والخلق من الله ، كما أن النفخ من جبريل والخلق من الله.
قوله تعالى : {وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} الأكمه : الذي يولد أعمى ؛ وقال ابن فارس : الكمه العمى يولد به الإنسان ؛ والبرص معروف وهو بياض يعتري الجلد ، وكان الغالب على زمن عيسى عليه السلام الطب فأراهم الله المعجزة من جنس ذلك.

{وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} قيل : أحيا أربعة أنفس : العاذر : وكان صديقا له ، وابن العجوز

وابنة العاشر وسام بن نوح ؛ فالله أعلم. فأما العاذر فإنه كان قد توفى قبل ذلك بأيام فدعا الله فقام بإذن الله وودكه يقطر فعاش وولد له ، وأما ابن العجوز فإنه مر به يُحمل على سريره فدعا الله فقام ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله. وأما بنت العاشر فكان أتى عليها ليلة فدعا الله فعاشت بعد ذلك وولد لها .

 فلما رأوا ذلك قالوا : إنك تحيي من كان موته قريبا فلعلهم لم يموتوا فأصابتهم سكتة فأحيي لنا سام بن نوح. فقال لهم : دلوني على قبره ، فخرج وخرج القوم معه ، حتى انتهى إلى قبره فدعا الله فخرج من قبره وقد شاب رأسه. فقال له عيسى : كيف شاب رأسك ولم يكن في زمانكم شيب ؟ فقال : يا روح الله ، إنك دعوتني فسمعت صوتا يقول : أجب روح الله ، فظننت أن القيامة قد قامت ، فمن هول ذلك شاب رأسي.

فسأله عن النزع فقال : يا روح الله إن مرارة النزع لم تذهب عن حنجرتي ؛ وقد كان من وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنة ، فقال للقوم : صدقوه فإنه نبي ؛ فآمن به بعضهم وكذبه بعضهم وقالوا : هذا سحر.

قوله تعالى : {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي بالذي تأكلونه وما تدخرون. وذلك أنهم لما أحيا لهم الموتى طلبوا منه آية أخرى وقالوا : أخبرنا بما نأكل في بيوتنا وما ندخر للغد ؛ فأخبرهم فقال : يا فلان أنت أكلت كذا وكذا ، وأنت أكلت كذا وكذا وادخرت كذا وكذا ؛ فذلك قوله "وأنبئكم"

الآيتان : 50 –{وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} ،
51 : - قال تعالى : -{إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}
قوله تعالى : {وَمُصَدِّقاً} عطف على قوله : "ورسولا". وقيل : المعنى وجئتكم مصدقا. {لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ} لما قبلي. {وَلأُحِلَّ لَكُمْ} فيه حذف ، أي ولأحل لكم جئتكم. {بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} يعني من الأطعمة. قيل : إنما أحل لهم عيسى عليه السلام ما حرم عليهم بذنوبهم ولم يكن في التوراة ، نحو أكل الشحوم وكل ذي ظفر. وقيل : إنما أحل لهم أشياء حرمتها عليهم الأحبار ولم تكن في التوراة محرمة عليهم.

قال أبو عبيدة : يجوز أن يكون "بعض" بمعنى كل ؛ وأنشد لبيد :
تَرّاكُ أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حِمامُها
وهذا القول غلط عند أهل النظر من أهل اللغة ؛ لأن البعض والجزء لا يكونان بمعنى الكل في هذا الموضع ، لأن عيسى صلى الله عليه وسلم إنما أحل لهم أشياء مما حرمها عليهم موسى من أكل الشحوم وغيرها ولم يحل لهم القتل ولا السرقة ولا فاحشة. والدليل على هذا أنه روي عن قتادة أنه قال : جاءهم عيسى بألين مما جاء به موسى صلى الله عليهما وعلى نبينا ؛ لأن موسى جاءهم بتحريم الإبل وأشياء من الشحوم فجاءهم عيسى بتحليل بعضها. وقرأ النخعي" بعض الذي حرم عليكم" مثل كرم ، أي صار حراما. وقد يوضع البعض بمعنى الكل إذا انضمت إليه قرينة تدل عليه ؛ كما قال الشاعر :
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حَنَانَيْكَ بعض الشر أهْوَنُ من بعض
يريد بعض الشر أهون من كله. "{وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} " إنما وحد وهي آيات لأنها جنس واحد في الدلالة على رسالته.

الآية : 52 {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}
قوله تعالى : {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} أي من بني إسرائيل. وأحس معناه علم ووجد قاله الزجاج. وقال أبو عبيدة : معنى "أحس" عرف ، وأصل ذلك وجود الشيء بالحاسة. والإحساس : العلم بالشيء ؛ قال الله تعالى : {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} [مريم : 98]

والحس القتل ؛ قال الله تعالى : {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران : 152]. "منهم الكفر" أي الكفر بالله. وقيل : سمع منهم كلمة الكفر. وقال الفراء : أرادوا قتله. {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} استنصر عليهم. قال السدي والثوري وغيرهما : المعنى مع الله ، فإلى بمعنى مع ؛ كقوله تعالى : {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء : 2] أي مع. والله أعلم. وقال الحسن : المعنى من أنصاري في السبيل إلى الله ؛ لأنه دعاهم إلى الله عز وجل. وقيل : المعنى من يضم نصرته إلى نصرة الله عز وجل. فإلى على هذين القولين على بابها ، وهو الجيد. وطلب النصرة ليحتمي بها من قومه ويظهر الدعوة ؛ عن الحسن ومجاهد. وهذه سنة الله في أنبيائه وأوليائه.

 وقد قال لوط : {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود : 80] أي عشيرة وأصحاب ينصرونني. {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} أي أنصار نبيه ودينه. والحواريون أصحاب عيسى عليه السلام ، وكانوا اثني عشر رجلا ؛ قاله الكلبي وأبو رَوْق.
واختلف في تسميتهم بذلك ؛ فقال ابن عباس : سموا بذلك لبياض ثيابهم ، وكانوا صيادين. ابن أبي نجيح وابن أرطاة : كانوا قصارين فسموا بذلك لتبييضهم الثياب. قال عطاء : أسلمت مريم عيسى إلى أعمال شتى ، وآخر ما دفعته إلى الحواريين وكانوا قصارين وصباغين ، فأراد معلم عيسى السفر ، فقال لعيسى : عندي ثياب كثيرة مختلفة الألوان وقد علمتك الصبغة فاصبغها. فطبخ عيسى حُبّا واحدا وأدخله جميع الثياب وقال : كوني بإذن الله على ما أريد منك. فقدم الحواري والثياب كلها في الحُبِّ فلما رآها قال : قد أفسدتها ؛

فأخرج عيسى ثوبا أحمر وأصفر وأخضر إلى غير ذلك مما كان على كل ثوب مكتوب عليه صبغه ؛ فعجب الحواري ، وعلم أن ذلك من الله ودعا الناس إليه فآمنوا به ؛ فهم الحواريون. قتادة والضحاك : سموا بذلك لأنهم كانوا خاصة الأنبياء. يريدان لنقاء قلوبهم. وقيل. كانوا ملوكا ، وذلك أن الملك صنع طعاما فدعا الناس إليه فكان عيسى على قصعة فكانت لا تنقص ، فقال الملك له : من أنت ؟ قال : عيسى ابن مريم. قال : إني أترك ملكي هذا وأتبعك. فانطلق بمن اتبعه معه ، فهم الحواريون ؛ قاله ابن عون. وأصل الحَوَر في اللغة البياض ، وحورت الثياب بيضتها ، والحُوَّارَى من الطعام ما حُوّر ، أي بيض ، واحْوَرّ ابيضَّ ، والجَفْنَة المحوّرة : المبيضة بالسنام ، والحواري أيضا الناصر ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لكل نبي حواري وحواريي الزبير" . والحواريات : النساء لبياضهن ؛ وقال :
فقل للحواريات يبكين غيرنا ... ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح
الآية : 53 {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}
قوله تعالى : {رَبَّنَا آمَنَّا} أي يقولون ربنا آمنا. {بِمَا أَنْزَلْتَ} يعني في كتابك وما أظهرته من حكمك. {وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ} يعني عيسى. {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ عن ابن عباس. والمعنى أثبت أسماءنا مع أسمائهم واجعلنا من جملتهم. وقيل : المعنى فاكتبنا مع الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق.
الآية : 54 {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}
قوله تعالى : {وَمَكَرُوا} يعني كفار بني إسرائيل الذين أحس منهم الكفر ، أي قتله. وذلك أن عيسى عليه السلام لما أخرجه قومه وأمه من بين أظهرهم عاد إليهم مع الحواريين وصاح فيهم بالدعوة فهموا بقتله وتواطؤوا على الفتك به ، فذلك مكرهم. ومكر الله : استدراجه لعباده من حيث لا يعلمون ؛ عن الفراء وغيره. قال ابن عباس : كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة. وقال الزجاج : مكر الله مجازاتهم على مكرهم ؛ فسمى الجزاء باسم الابتداء ؛ كقوله : {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة : 15] ، "{وَهُوَ خَادِعُهُمْ} " [النساء : 142].

. وأصل المكر في اللغة الاحتيال والخداع. والمكر : خدالة الساق. وامرأة ممكورة الساقين. والمكر : ضرب من الثياب. ويقال : بل هو المَغَرَة ؛ حكاه ابن فارس. وقيل : "مكر الله" إلقاء شَبَه عيسى على غيره ورفع عيسى إليه ، وذلك أن اليهود لما اجتمعوا على قتل عيسى دخل البيت هاربا منهم فرفعه جبريل من الكوة إلى السماء ، فقال ملكهم لرجل منهم خبيث يقال له يهوذا : ادخل عليه فاقتله ، فدخل الخوخة فلم يجد هناك عيسى وألقى الله عليه شبه عيسى ، فلما خرج رأوه على شبه عيسى فأخذوه وقتلوه وصلبوه.

ثم قالوا : وجهه يشبه وجه عيسى ، وبدنه يشبه بدن صاحبنا ؛ فإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى وإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا فوقع بينهم قتال فقتل بعضهم بعضا ؛ فذلك قوله تعالى : {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} وقيل غير هذا. {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} اسم فاعل من مكر يمكر مكرا. وقد عده بعض العلماء في أسماء الله تعالى فيقول إذا دعا به : يا خير الماكرين أمكر لي. وكان عليه السلام يقول في دعائه : "اللهم امكر لي ولا تمكر علي"

الآية : 55 {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}
قوله تعالى : {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} العامل في "إذ" مكروا ، أو فعل مضمر. وقال جماعة من أهل المعاني منهم الضحاك والفراء في قوله تعالى : {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} على التقديم والتأخير ؛ لأن الواو لا توجب الرتبة. والمعنى : إني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد أن تنزل من السماء ؛ كقوله : {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً} [طه : 129] ؛ والتقدير ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما. قال الشاعر : ألا يا نخلة من ذات عرق ... عليك ورحمة الله السلام
أي عليك السلام ورحمة الله. وقال الحسن وابن جريح : معنى متوفيك قابضك ورافعك إلى السماء من غير موت ؛ مثل توفيت مالي من فلان أي قبضته. وفي الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم نزوله وقتله الدجال ؛ وقال ابن زيد : متوفيك قابضك ، ومتوفيك ورافعك واحد ولم يمت بعد. وروى ابن طلحة عن ابن عباس معنى متوفيك مميتك. الربيع بن أنس : وهي وفاة نوم ؛ قال الله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام : 60] أي ينيمكم لأن النوم أخو الموت ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم لما سئل : أفي الجنة نوم ؟ قال : "لا ، النوم أخو الموت ، والجنة لا موت فيها" . أخرجه الدارقطني. والصحيح أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة ولا نوم كما قال الحسن وابن زيد ، وهو اختيار الطبري ، وهو الصحيح عن ابن عباس .

وقاله الضحاك. قال الضحاك : كانت القصة لما أرادوا قتل عيسى اجتمع الحواريون في غرفة وهم اثنا عشر رجلا فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة ، فأخبر إبليس جمع اليهود فركب منهم أربعة آلاف رجل فأخذوا باب الغرفة. فقال المسيح للحواريين : أيكم يخرج ويقتل ويكون معي في الجنة ؟ فقال رجل : أنا يا نبي الله ؛ فألقى إليه مدرعة من صوف وعمامة من صوف وناوله عكازه وألقى عليه شبه عيسى ، فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه. وأما المسيح فكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فطار مع الملائكة.

وذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما أراد الله تبارك وتعالى أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه وهم اثنا عشر رجلا من عين في البيت ورأسه يقطر ماء فقال لهم : أما إن منكم من سيكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي ، ثم قال : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي ؟ فقام شاب من أحدثهم فقال أنا. فقال عيسى : اجلس ، ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال أنا. فقال عيسى : اجلس. ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال أنا. فقال نعم أنت ذاك. فألقى الله عليه شبه عيسى عليه السلام. قال : ورفع الله تعالى عيسى من رَوْزَنة كانت في البيت إلى السماء.

 قال: وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبيه فقتلوه ثم صلبوه ، وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به ؛ فتفرقوا ثلاث فرق :قالت فرقة :كان فينا الله ما شاء ثم صعد إلى السماء، وهؤلاء اليعقوبية.وقالت فرقة : كان فينا ابن الله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء النسطورية. وقالت فرقة : كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه إليه ، وهؤلاء المسلمون.

فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها ، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فقتلوا ؛ فأنزل الله تعالى : { فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الصف : 14] أي آمن آباؤهم في زمن عيسى {عَلَى عَدُوِّهِمْ} بإظهار دينهم على دين الكفار {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القِلاص فلا يسعى عليها ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد" . وعنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم بفج الروحاء حاجا أو معتمرا أو ليثنينهما" ولا ينزل بشرع مبتدأ فينسخ به شريعتنا بل ينزل مجددا لما درس منها متبعها.

 كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم" . وفي رواية : "فأمّكم منكم" . قال ابن أبي ذئب : تدري ما أمكم منكم ؟ . قلت : تخبرني. قال : فأَمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم. وقد زدنا هذا الباب بيانا في كتاب "التذكرة" والحمد لله. و {مُتَوَفِّيكَ} أصله متوفِّيُك حذفت الضمة استثقالا، وهو خبر إن. {وَرَافِعُكَ} عطف عليه ، وكذا {وَمُطَهِّرُكَ} وكذا {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} .

ويجوز "وجاعل الذين" وهو الأصل. وقيل : إن الوقف التام عند قوله : "ومطهرك من الذين كفروا". قال النحاس : وهو قول حسن. {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} يا محمد {فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي بالحجة وإقامة البرهان. وقيل بالعز والغلبة. وقال الضحاك ومحمد بن أبان : المراد الحواريون. والله تعالى أعلم.
الآيات : 56 - {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}  
57- {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}  
58- {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ}
قوله تعالى : {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} يعني بالقتل والصلب والسبي والجزية ، وفي الآخرة بالنار. "ذلك نتلوه عليك" "ذلك" في موضع رفع بالابتداء وخبره "نتلوه". ويجوز : الأمر ذلك ، على إضمار المبتدأ.
الآيتان : 59 - 60 {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}
قوله تعالى : {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} دليل على صحة القياس. والتشبيه واقع على أن عيسى خلق من غير أب كآدم ، لا على أنه خلق من تراب. والشيء قد يشبه بالشيء وإن كان بينهما فرق كبير بعد أن يجتمعا في وصف واحد ؛ فان آدم خلق من تراب ولم يخلق عيسى من تراب فكان بينهما فرق من هذه الجهة ، ولكن شبه ما بينهما أنهما خلقهما من غير أب ؛ ولأن أصل خلقتهما كان من تراب لأن آدم لم يخلق من نفس التراب ، ولكنه جعل التراب طينا ثم جعله صلصالا ثم خلقه منه ، فكذلك عيسى حوله من حال إلى حال ، ثم جعله بشرا من غير أب.

ونزلت هذه الآية بسبب وفد نجران حين أنكروا على النبي صلى الله عليه وسلم قوله : " إن عيسى عبد الله وكلمته" فقالوا : أرنا عبدا خلق من غير أب ؛ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : "آدم من كان أبوه أعجبتم من عيسى ليس له أب ؟ فآدم عليه السلام ليس له أب ولا أم" . فذلك قوله تعالى : {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} أي في عيسى {إلاّ جِئْنِاكَ بِالحَقَّ} في آدم {وَأحْسنَ تَفْسِيراً} [الفرقان : 33].

وروي أنه عليه السلام لما دعاهم إلى الإسلام قالوا : قد كنا مسلمين قبلك. فقال : "كذبتم يمنعكم من الإسلام ثلاث : قولكم اتخذ الله ولدا ، وأكلكم الخنزير ، وسجودكم للصليب" . فقالوا : من أبو عيسى ؟ فأنزل الله تعالى : {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} إلى قوله : {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران : 61].

فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم لبعض : إن فعلتم اضطرم الوادي عليكم نارا. فقالوا : أما تعرض علينا سوى هذا ؟ فقال : "الإسلام أو الجزية أو الحرب" فأقروا بالجزية ثم قال : {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي فكان. والمستقبل يكون في موضع الماضي إذا عرف المعنى. قال الفراء : {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}. أبو عبيدة : هو استئناف كلام وخبره في قوله {مِنْ رَبِّكَ} ، أي جاءك الحق. {فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن شاكا في أمر عيسى عليه السلام.
الآية : 61 {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}

فيه ثلاث مسائل :
الأولى : -قوله تعالى : {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ} أي جادلك وخاصمك يا محمد "فيه" ، أي في عيسى {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} بأنه عبد الله ورسوله. {فَقُلْ تَعَالَوْا} أي أقبلوا. . {نَدْعُ} في موضع جزم. {أَبْنَاءَنَا} دليل على أن أبناء البنات يسمون أبناء ؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بالحسن والحسين وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفها وهو يقول لهم : "إن أنا دعوت فأمّنوا" . وهو معنى قوله : {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} أي نتضرع في الدعاء .

قال ابن عباس : هم أهل نجران : السيد والعاقب وابن الحارث رؤساؤهم. {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}.
الثانية : -هذه الآية من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه دعاهم إلى المباهلة فأبوا منها ورضوا بالجزية بعد أن أعلمهم كبيرهم العاقب أنهم إن باهلوه اضطرم عليهم الوادي نارا فإن محمدا نبي مرسل ، ولقد تعلمون أنه جاءكم بالفصل في أمر عيسى ؛ فتركوا المباهلة وانصرفوا إلى بلادهم على أن يؤدوا في كل عام ألف حُلَّة في صَفَر وألف حلة في رجب فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك بدلا من الإسلام.
الثالثة : -قال كثير من العلماء : إن قوله عليه السلام في الحسن والحسين لما باهل {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} وقوله في الحسن : "إن ابني هذا سيد" مخصوص بالحسن والحسين أن يسميا ابنيْ النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرهما ؛ لقوله عليه السلام : "كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي" ولهذا قال بعض أصحاب الشافعي فيمن أوصى لولد فلان ولم يكن له ولد لصلبه وله ولد ابن وولد ابنة : إن الوصية لولد الابن دون ولد الابنة ؛ وهو قول الشافعي.
الآيتان : 62 - {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ،
63 : - {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ}
قوله تعالى : {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} الإشارة في قوله {إِنَّ هَذَا} إلى القرآن وما فيه من الأقاصيص ، سميت قصصا لأن المعاني تتابع فيها ؛ فهو من قولهم : فلان يقص أثر فلان ، أي يتبعه. {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ} "من" ، والمعنى وما إله إلا الله "العزيز" أي الذي لا يغلب. {الْحَكِيمُ} ذو الحكمة..
الآية : 64 {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}
فيه ثلاث مسائل :
الأولى - قوله تعالى : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} الخطاب في قول الحسن وابن زيد والسدي لأهل نجران. وفي قول قتادة وابن جريج وغيرهما ليهود المدينة ، خوطبوا بذلك لأنهم جعلوا أحبارهم في الطاعة لهم كالأرباب. وقيل : هو لليهود والنصارى جميعا. وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل "بسم الله الرحمن الرحيم - من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم

وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله - إلى قوله : "فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون" . لفظ مسلم. والسواء العدل والنصفة ؛
الفراء : ويقال في معنى العدل سِوًى وسُوًى ، فإذا فتحت السين مددت وإذا كسرت أو ضممت قصرت ؛ كقوله تعالى : {مَكَاناً سُوَىً} [طه : 58]. قال : وفي قراءة عبدالله "إلى كلمة عدل بيننا وبينكم" التي ليس فيها ميل عن الحق. وقد فسرها بقوله تعالى : {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ} [آل عمران : 64] فموضع "أن" خفض على البدل من "كلمة" ، أو رفع على إضمار مبتدأ ، التقدير هي أن لا نعبد إلا الله. أو تكون مفسرة لا موضع لها ، ويجوز مع ذلك في "نعبد" وما عطف عليه الرفع والجزم : فالجزم على أن تكون "أن" مفسرة بمعنى أي ؛ كما قال عز وجل : "أن امشوا" [ص : 6] وتكون "لا" جازمة. هذا مذهب سيبويه.

ويجوز على هذا أن ترفع "نعبد" وما بعده يكون خبرا. ويجوز الرفع بمعنى أنه لا نعبد ؛ ومثله " أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً " [طه : 89]. وقال الكسائي والفراء : {وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ} بالجزم على التوهم أنه ليس في أول الكلام أن.
الثانية : -قوله تعالى : {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي لا نتبعه في تحليل شيء أو تحريمه إلا فيما حلله الله تعالى. وهو نظير قوله تعالى : {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة : 31] معناه أنهم أنزلوهم منزلة ربهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرمه الله ولم يحله الله. وهذا يدل على بطلان القول بالاستحسان المجرد الذي لا يستند إلى دليل شرعي ؛ قال الكيا الطبري : مثل استحسانات أبي حنيفة في التقديرات التي قدرها دون مستندات بينة. وفيه رد على الروافض الذين يقولون : يجب قبول قول الإمام دون إبانة مستند شرعي ، وإنه يحل ما حرمه الله من غير أن يبين مستندا من الشريعة. وأرباب جمع رب. و"دون" هنا بمعنى غير.
الثالثة : -قوله تعالى : {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي أعرضوا عما دعوا إليه. {فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي متصفون بدين الإسلام منقادون لأحكامه معترفون بما لله علينا في ذلك من المنن والإنعام ، غير متخذين أحدا ربا لا عيسى ولا عزيزا ولا الملائكة ؛ لأنهم بشر مثلنا محدث كحدوثنا ، ولا نقبل من الرهبان شيئا بتحريمهم علينا ما لم يحرمه الله علينا ، فنكون قد اتخذناهم أربابا.

 وقال عكرمة : معنى "يتخذ" يسجد. والسجود كان إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم معاذا لما أراد أن يسجد ؛ وروى أنس بن مالك قال : قلنا يا رسول الله  أينحني بعضنا لبعض ؟ قال "لا" قلنا : أيعانق بعضنا بعضا ؟ قال "لا ولكن تصافحوا" أخرجه ابن ماجة في سننه.

الآية : 65 {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالأِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}
قوله تعالى : {{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} " الأصل "لِما" فحذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر. وهذه الآية نزلت بسبب دعوى كل فريق من اليهود والنصارى أن إبراهيم كان على دينه ، فأكذبهم الله تعالى بأن اليهودية والنصرانية إنما كانتا من بعده.
قوله تعالى : {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالأِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ} قال الزجاج : هذه الآية أبين حجة على اليهود والنصارى ؛ إذ التوراة والإنجيل أنزلا من بعده وليس فيهما اسم لواحد من الأديان ، واسم الإسلام في كل كتاب. ويقال : كان بين إبراهيم وموسى ألف سنة ، وبين موسى وعيسى أيضا ألف سنة. {أَفَلا تَعْقِلُونَ} دحوض حجتكم وبطلان قولكم. والله أعلم.

الآية : 66 {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}
فيه مسألتان :
الأولى- قوله تعالى : {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ} يعني في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم كانوا يعلمونه فيما يجدون من نعته في كتابهم فحاجوا فيه بالباطل. {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} يعني دعواهم في إبراهيم أنه كان يهوديا أو نصرانيا.
الثانية : -في الآية دليل على المنع من الجدال لمن لا علم له ، والحظر على من لا تحقيق عنده فقال عز وجل : {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} . وقد ورد الأمر بالجدال لمن علم وأيقن فقال تعالى : {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل : 125]. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتاه رجل أنكر ولده فقال : يا رسول الله ، إن امرأتي ولدت غلاما أسود. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هل لك من إبل" ؟ قال نعم. قال : "ما ألوانها" ؟ قال : حمر : قال : "هل فيها من أورق" ؟ قال نعم. قال : "فمن أين ذلك" ؟ قال : لعل عرقا نزعه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وهذا الغلام لعل عرقا نزعه" . وهذا حقيقة الجدال ونهاية في تبيين الاستدلال من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الآية : 67 {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} نزهه تعالى من دعاويهم الكاذبة ، وبين أنه كان على الحنيفية الإسلامية ولم يكن مشركا. والحنيف : الذي يوحد ويحج ويضحي ويختتن ويستقبل القبلة. والمسلم في اللغة : المتذلل لأمر الله تعالى المنطاع له.
الآية : 68 {نَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}
وقال ابن عباس : قال رؤساء اليهود : والله يا محمد لقد علمت أنا أولى الناس بدين إبراهيم منك ومن غيرك ، فإنه كان يهوديا وما بك إلا الحسد ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية. "أولى" معناه أحق ، قيل : بالمعونة والنصرة. وقيل بالحجة. {لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} على ملته وسنته. {وَهَذَا النَّبِيُّ} أفرد ذكره تعظيما له ؛ كما قال {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن : 68]

 و"النبي" نعت لهذا أو عطف بيان ، ولو نصب لكان جائزا في الكلام عطفا على الهاء في "اتبعوه". {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} أي ناصرهم. وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل ربي - ثم قرأ – {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} ".
الآية : 69 {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}
نزلت في معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمن وعمار بن ياسر حين دعاهم اليهود من بني النضير وقريظة وبني قينقاع إلى دينهم. وهذه الآية نظير قوله تعالى : {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً} [البقرة : 109]. و"من" على هذا القول للتبعيض. وقيل : جميع أهل الكتاب ، فتكون "من" لبيان الجنس. {لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} أي يكسبونكم المعصية بالرجوع عن دين الإسلام والمخالفة له. وقال ابن جريج : {يُضِلُّونَكُمْ} أي يهلكونكم أي هلك هلاكا.

{وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} نفي وإيجاب. {وَمَا يَشْعُرُونَ} أي يفطنون أنهم لا يصلون إلى إضلال المؤمنين. وقيل : {وَمَا يَشْعُرُونَ} أي لا يعلمون بصحة الإسلام وواجب عليهم أن يعلموا ؛ لأن البراهين ظاهرة والحجج باهرة ، والله أعلم.
الآية : 70 {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}
أي بصحة الآيات التي عندكم في كتبكم ؛ عن قتادة والسدي. وقيل : المعنى وأنتم تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء التي أنتم مقرون بها.
11-العبد الصالح مع موسى عليه السلام

[60] {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً}

فيه أربع مسائل :
الأولى ـ قوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} الجمهور من العلماء وأهل التاريخ أنه موسى بن عمران المذكور في القرآن ليس فيه موسى غيره. وفتاه : هو يوشع بن نون. {لا أَبْرَحُ} أي لا أزال أسير ؛
وقيل : {لا أَبْرَحُ} لا أفارقك. {حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} أي ملتقاهما.. وسبب هذه القصة ما خرجه الصحيحان عن أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن موسى عليه السلام قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم فقال أنا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه إن لي عبد ا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى يا رب فكيف لي به قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم..." وذكر الحديث ، واللفظ للبخاري.

 وقال ابن عباس : "لما ظهر موسى وقومه على أرض مصر أنزل قومه مصر ، فلما استقرت بهم الدار أمره الله أن ذكّرهم بأيام الله ، فخطب قومه فذكرهم ما آتاهم الله من الخير والنعمة إذ نجاهم من آل فرعون ، وأهلك عدوهم ، واستخلفهم في الأرض ، ثم قال : وكلم الله نبيكم تكليما ، واصطفاه لنفسه ، وألقى علي محبة منه ، وآتاكم من كل ما سألتموه ، فجعلكم أفضل أهل الأرض ، ورزقكم العز بعد الذل ، والغنى بعد الفقر ، والتوراة بعد أن كنتم جهالا ؛ فقال له رجل من بني إسرائيل : عرفنا الذي تقول ، فهل على وجه الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله ؟ قال : لا ؛ فعتب عليه حين لم يرد العلم إليه ، فبعث الله جبريل : أن يا موسى وما يدريك أين أضع علمي ؟ بلى إن لي عبد ا بمجمع البحرين أعلم منك..." وذكر الحديث.

 قال علماؤنا : قوله في الحديث : "هو أعلم منك" أي بأحكام وقائع مفصلة ، وحكم نوازل معينة ، لا مطلقا بدليل قول الخضر لموسى : "إنك على علم علمكه الله لا أعلمه أنا ، وأنا على علم علمنيه لا تعلميه أنت" وعلى هذا فيصدق على كل واحد منهما أنه أعلم من الآخر بالنسبة إلى ما يعلمه كل واحد منهما ولا يعلمه الآخر ، فلما سمع موسى هذا تشوقت نفسه الفاضلة ، وهمته العالية ، لتحصيل علم ما لم يعلم ، وللقاء من قيل فيه : إنه أعلم منك ؛ فعزم فسأل سؤال الذليل بكيف السبيل ، فأمر بالارتحال على كل حال وقيل له احمل معك حوتا مالحا في مكتل فحيث يحيا وتفقده فثم السبيل ، فانطلق مع فتاه لما واتاه ، مجتهدا طلبا قائلا : {لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} . {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} بضم الحاء والقاف وهو الدهر ، والجمع أحقاب. وقد تسكن قافه فيقال حقب. وهو ثمانون سنة. ويقال : أكثر من ذلك. والجمع حقاب والحقبة بكسر الحاء واحدة الحقب وهي السنون.

الثانية ـ في هذا من الفقه رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم ، والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب ، واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء وإن بعدت أقطارهم ، وذلك كان في دأب السلف الصالح ، وبسبب ذلك وصل المرتحلون إلى الحظ الراجح ، وحصلوا على السعي الناجح ، فرسخت لهم في العلوم أقدام ، وصح لهم من الذكر والأجر والفضل أفضل الأقسام قال. البخاري : ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث.
الثالثة ـ قوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} للعلماء فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه كان معه يخدمه ، والفتى في كلام العرب الشاب ، ولما كان الخدمة أكثر ما يكونون فتيانا قيل للخادم فتى على جهة حسن الأدب ، وندبت الشريعة إلى ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يقل أحدكم عبد ي ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي" فهذا ندب إلى التواضع ؛

والفتى في الآية هو الخادم وهو يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف عليه السلام. ويقال : هو ابن أخت موسى عليه السلام. وقيل : إنما سمي فتى موسى لأنه لزمه ليتعلم منه وإن كان حرا ؛ وهذا معنى الأول. وقيل : إنما سماه فتى لأنه قام مقام الفتى وهو العبد ، قال الله تعالى : {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ...} وقال : {تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ...} قال ابن العربي : فظاهر القرآن يقتضي أنه عبد ، وفي الحديث : "أنه كان يوشع بن نون" وفي التفسير : أنه ابن أخته ، وهذا كله مما لا يقطع به ، والتوقف فيه أسلم.
الرابعة ـ {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} قال عبد الله بن عمر : "والحقب ثمانون سنة" مجاهد : سبعون خريفا. قتادة : زمان ، النحاس : الذي يعرفه أهل اللغة أن الحقب والحقبة زمان من الدهر مبهم غير محدود ؛ كما أن رهطا وقوما مبهم غير محدود : وجمعه أحقاب.

[61] {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً}
[62] {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً}
[63] {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً}
[64] {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً}
[65] {فَوَجَدَا عبد اً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً}
قوله تعالى : {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً}
الضمير في قوله : {بَيْنِهِمَا} للبحرين ؛ قال مجاهد. والسرب المسلك ؛ قال مجاهد. وقال قتادة : جمد الماء فصار كالسراب. وجمهور المفسرين أن الحوت بقي موضع سلوكه فارغا ، وأن موسى مشى عليه متبعا للحوت ، حتى أفضى به الطريق إلى جزيرة في البحر ، وفيها وجد الخضر. وظاهر الروايات والكتاب أنه إنما وجد الخضر في ضفة البحر

وقوله : {نَسِيَا حُوتَهُمَا} وإنما كان النسيان من الفتى وحده فقيل : المعنى ؛ نسي أن يعلم موسى بما رأى من حال فنسب النسيان إليهما للصحبة ، كقوله تعالى : {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} وإنما يخرج من الملح ، وقوله : {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ...} وإنما الرسل من الإنس لا من الجن وفي البخاري ؛ "فقال لفتاه : لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت ، قال : ما كلفت كثيرا ؛ فذلك قوله عز وجل : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ...} يوشع بن نون .

قال فبينا هو في ظل صخرة في مكان ثريان إذ تضرب الحوت وموسى نائم فقال فتاه : لا أوقظه ؛ حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره ، وتضرب الحوت حتى دخل البحر ، فأمسك الله عنه جرية البحر حتى كأن أثره في حجر ؛ قال لي عمرو : هكذا كأن أثره في حجر وحلق بين إبهاميه واللتين تليانهما" وفي رواية "وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار مثل الطاق ، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما ، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به

 فقال له فتاه : {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} وقيل : إن النسيان كان منهما لقوله تعالى : {نَسِيَا} فنسب النسيان إليهما ؛ وذلك أن بدو حمل الحوت كان من موسى لأنه الذي أمر به ، فلما مضيا كان فتاه الحامل له حتى أويا إلى الصخرة نزلا. { فَلَمَّا جَاوَزَا} يعني الحوت هناك منسياً - أي متروكاً - فلما سأل موسى الغداء نسب الفتى النسيان إلى نفسه عند المخاطبة ، وإنما ذكر الله نسيانهما عند بلوغ مجمع البحرين. وهو الصخرة ، فقد كان موسى شريكا في النسيان لأن النسيان التأخير ؛ من ذلك قولهم في الدعاء : أنسأ الله في أجلك. فلما مضيا من الصخرة أخرا حوتهما عن حمله فلم يحمله واحد منهما فجاز أن ينسب إليهما لأنهما مضيا وتركا الحوت.
قوله تعالى : {آتِنَا غَدَاءَنَا} فيه مسألة واحدة ، وهو اتخاذ الزاد في الأسفار ، وهو رد على الصوفية الجهلة الأغمار ، الذين يقتحمون المهامه والقفار ، زعما منهم أن ذلك هو التوكل على الله الواحد القهار ؛ هذا موسى نبي الله وكليمه من أهل الأرض قد اتخذ الزاد مع معرفته بربه ، وتوكله على رب العباد. وفي صحيح البخاري "إن ناسا من أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون ، ويقولون : نحن المتوكلون ، فإذا قدموا سألوا الناس ، فأنزل الله تعالى {وَتَزَوَّدُوا} واختلف في زاد موسى .

 فقال ابن عباس : كان حوتا مملوحا في زنبيل ، وكانا يصيبان منه غداء وعشاء ، فلما انتهيا إلى الصخرة على ساحل البحر ، وضع فتاه المكتل ، فأصاب الحوت جري البحر فتحرك الحوت في المكتل ، فقلب المكتل وانسرب الحوت ، ونسي الفتى أن يذكر قصة الحوت لموسى. وقيل : إنما كان الحوت دليلا على موضع الخضر لقوله في الحديث : "أحمل معك حوتا في مكتل فحيث فقدت الحوت فهو ثم" على هذا فيكون تزودا شيئا آخر غير الحوت ، وهذا ذكره شيخنا الإمام أبو العباس واختاره.

وقال ابن عطية : قال أبي رضي الله عنه ، سمعت أبا الفضل الجوهري يقول في وعظه : مشى موسى إلى المناجاة فبقي أربعين يوما لم يحتج إلى طعام ، ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع في بعض يوم. وقوله : {نَصَباً} أي تعبا ، والنصب التعب والمشقة. وقيل : عنى به هنا الجوع ، وفي هذا دليل على جواز الإخبار بما يجده الإنسان من الألم والأمراض ، وأن ذلك لا يقدح في الرضا ، ولا في التسليم للقضاء لكن إذا لم يصدر ذلك عن ضجر ولا سخط.
قوله تعالى : {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} أن مع الفعل بتأويل المصدر ، وهو منصوب بدل اشتمال من الضمير في {أَنْسَانِيهُ} وهو بدل الظاهر من المضمر ، أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان . وهذا إنما ذكره يوشع في معرض الاعتذار لقول موسى : لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت ؛ فقال : ما كلفت كثيرا ، فاعتذر بذلك القول.
قوله تعالى : {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً} يحتمل أن يكون من قول يوشع لموسى ؛ أي اتخذ الحوت سبيله عجبا للناس ويحتمل أن يكون قوله : {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ} تمام الخبر ، ثم استأنف التعجيب فقال من نفسه : {عَجَباً} لهذا الأمر. وموضع العجب أن يكون حوت قد مات فأكل شقه الأيسر ثم حي بعد ذلك. قال أبو شجاع في كتاب الطبري : رأيته - أتيت به - فإذا هو شق حوت وعين واحدة ، وشق آخر ليس فيه شيء قال ابن عطية : وأنا رأيته والشق الذي ليس فيه شيء عليه قشرة رقيقة ليست تحتها شوكه. ويحتمل أن يكون قوله : {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ} إخبارا من الله تعالى ، وذلك على وجهين : إما أن يخبر عن موسى أنه اتخذ سبيل الحوت من البحر عجبا ، أي تعجب منه وإما أن يخبر عن الحوت أنه اتخذ سبيله عجبا للناس.

قوله تعالى : {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} أي قال موسى لفتاه أمر الحوت وفقده هو الذي كنا نطلب ، فإن الرجل الذي جئنا له ثمَّ ؛ فرجعا يقصان أثارهما لئلا يخطئا طريقهما. وفي البخاري : "فوجدا خضرا على طنفسة خضراء على كبد البحر مسجى بثوبه ، قد جعل طرفه تحت رجليه ، وطرفه تحت رأسه ، فسلم عليه موسى ، فكشف عن وجهه وقال : هل بأرضك من سلام ؟ من أنت ؟ قال : أنا موسى. قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم. قال : فما شأنك ؟ قال جئت لتعلمني مما علمت رشدا..." الحديث.

 وقال الثعلبي في كتاب العرائس : "إن موسى وفتاه وجدا الخضر وهو نائم على طنفسة خضراء على وجه الماء وهو متشح بثوب أخضر فسلم عليه موسى ، فكشف عن وجهه فقال : وأنى بأرضنا السلام ؟ ثم رفع رأسه واستوى جالسا وقال : وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل ، فقال له موسى : وما أدراك بي ؟ ومن أخبرك أني نبي بني إسرائيل ؟ قال : الذي أدراك بي ودلك علي ؛ ثم قال : يا موسى لقد كان لك في بني إسرائيل شغل ، قال موسى : إن ربي أرسلني إليك لأتبعك وأتعلم من علمك ، ثم جلسا يتحدثان ، فجاءت خطافة وحملت بمنقارها من الماء.

قوله تعالى : {فَوَجَدَا عبد اً مِنْ عِبَادِنَا} العبد هو الخضر عليه السلام في قول الجمهور ، والآية تشهد بنبوته لأن بواطن أفعاله لا تكون إلا بوحي.وأيضا فان الإنسان لا يتعلم ولا يتبع إلا من فوقه ، وليس يجوز أن يكون فوق النبي من ليس نبي وقيل : كان ملكا أمر الله موسى أن يأخذ عنه مما حمله من علم الباطن. والأول الصحيح ؛ والله أعلم.
قوله تعالى : {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} الرحمة في هذه الآية النبوة وقيل : النعمة. {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} أي علم الغيب ، ابن عطية : كان علم الخضر علم معرفة بواطن قد أوحيت إليه ، لا تعطي ظواهر الأحكام أفعاله بحسبها ؛ وكان علم موسى علم الأحكام والفتيا بظاهر أقوال الناس وأفعالهم.
[66] {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً}
[67] {قال إنك لن تستطيع معي صبرا}
[68] {وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا}
[69] {قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا}
[70] {قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا}

قوله تعالى : {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} فيه مسألتان :
الأولى ـ قوله تعالى : { قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ} هذا سؤال الملاطف ، والمخاطب المستنزل المبالغ في حسن الأدب ، المعنى : هل يتفق لك ويخف عليك ؟ وهذا كما في الحديث : "هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ؟ ..." وعلى بعض التأويلات يجيء كذلك قوله تعالى : {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً...} [المائدة : 112]

في هذه الآية دليل أن المتعلم تبع للعالم وإن تفاوتت المراتب ، ولا يظن أن في تعلم موسى من الخضر يدل على أن الخضر كان أفضل منه ، فقد يشذ عن الفاضل ما يعلمه المفضول ، والفضل لمن فضله الله ؛ فالخضر إن كان وليا فموسى أفضل منه ، لأنه نبي والنبي أفضل من الولي ، وإن كان نبيا فموسى فضله بالرسالة. والله أعلم.

{رُشْداً} مفعول ثان بـ {تعلمني } . {قَالَ} الخضر. {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} أي إنك يا موسى لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي ؛ لأن الظواهر التي هي علمك لا تعطيه ، وكيف تصبر على ما تراه خطأ ولم تخبر بوجه الحكمة فيه ، ولا طريق الصواب ، وهو معنى قوله : {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} والأنبياء لا يقرون على منكر ، لا يجوز لهم التقرير أي لا يسعك السكوت جريا على عادتك وحكمك. وانتصب {خُبْراً} على التمييز المنقول عن الفاعل.

 وقيل : على المصدر الملاقى في المعنى ، لأن قوله : {لَمْ تُحِطْ } . معناه لم تخبره ، فكأنه قال : لم تخبره خبرا ؛ وإليه أشار مجاهد والخبير بالأمور هو العالم بخفاياها وبما يختبر منها.
قوله تعالى : {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً} أي سأصبر بمشيئة الله. {وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} أي قد ألزمت نفسي طاعتك وقد اختلف في الاستثناء ، هل هو يشمل قوله : {وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} أم لا ؟ فقيل : يشمله كقوله : {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ}

وقيل : استثنى في الصبر فصبر ، وما استثنى في قوله : {وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} فاعترض وسأل ، قال علماؤنا : إنما كان ذلك منه ؛ لأن الصبر أمر مستقبل ولا يدرى كيف ، يكون حاله فيه ، ونفي المعصية معزوم عليه حاصل في الحال ، فالاستثناء فيه ينافي العزم عليه ، ويمكن أن يفرق بينهما بأن الصبر ليس مكتسبا لنا بخلاف فعل المعصية وتركه ، فإن ذلك كله مكتسب لنا ؛ والله أعلم.
قوله تعالى : {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} أي حتى أكون أنا الذي أفسره لك ، وهذا من الخضر تأديب وإرشاد لما يقتضي دوام الصحبة ، فلو صبر ودأب لرأى العجب ، لكنه أكثر من الاعتراض فتعين الفراق والإعراض.
[71] {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً}
[72] {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً}
[73] {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً}
قوله تعالى : {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا} فيه مسألتان :
الأولى ـ في صحيح مسلم والبخاري : "فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول ، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ موسى إلا والخضر قد قلع منها لوحا من ألواح السفينة بالقدوم ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً. قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وكانت الأولى من موسى نسيانا" قال : "وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر ، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر". قال علماؤنا : حرف السفينة طرفها وحرف كل شيء طرفه ، ومنه حرف الجبل وهو أعلاه المحدد. والعلم هنا بمعنى المعلوم .

{ولا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} أي من معلوماته ، وهذا من الخضر تمثيل ؛ أي معلوماتي ومعلوماتك لا أثر لها في علم الله ؛ كما أن ما أخذ هذا العصفور من هذا البحر لا أثر له بالنسبة إلى ماء البحر ، وإنما مثل له ذلك بالبحر لأنه أكثر. ما يشاهده مما بين أيدينا ، وإطلاق لفظ النقص هنا تجوز قصد به التمثيل والتفهيم ، إذ لا نقص في علم الله ، ولا نهاية لمعلوماته.

وقد أوضح هذا المعنى البخاري فقال : "والله ما علمي وما علمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطير بمنقاره من البحر" وفي التفسير عن أبي العالية : لم ير الخضر حين خرق السفينة غير موسى وكان عبد ا لا تراه إلا عين من أراد الله له أن يريه ، ولو رآه القوم لمنعوه من خرق السفينة. وقيل : خرج أهل السفينة إلى جزيرة ، وتخلف الخضر فخرق السفينة ، وقال ابن عباس : "لما خرق الخضر السفينة تنحى موسى ناحية ، وقال في نفسه : ما كنت أصنع بمصاحبة هذا الرجل كنت في بني إسرائيل أتلو كتاب الله عليهم غدوة وعشية فيطيعوني قال له الخضر : يا موسى أتريد أن أخبرك بما حدثت به نفسك ؟ قال : نعم. قال : كذا وكذا قال : صدقت ؛ ذكره الثعلبي في كتاب العرائس.
الثانية ـ في خرق السفينة دليل أن للولي أن ينقص مال اليتيم إذا رآه صلاحا ، مثل أن يخاف على ريعه ظالما فيخرّب بعضه وقال أبو يوسف : يجوز للولي أن يصانع السلطان ببعض مال اليتيم عن البعض وقرأ حمزة والكسائي {ليغرق} بالياء {أهلها} بالرفع فاعل يغرق ، فاللام على قراءة الجماعة في {لِتُغْرِقَ} لام المآل مثل {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} وعلى قراءة حمزة لام كي ، ولم يقل لتغرقني ؛ لأن الذي غلب الحال فرط الشفقة عليهم ، ومراعاة حقهم. و {إِمْراً} معناه عجبا ؛ قاله القتبي ، وقيل : منكرا ؛ قاله مجاهد ، وقال أبو عبيدة : الإمر الداهية العظيمة

قوله تعالى : {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} في معناه قولان : أحدهما : يروى ابن عباس ، قال : "هذا من معاريض الكلام". والآخر : أنه نسي فاعتذر ؛ ففيه ما يدل على أن النسيان لا يقتضي المؤاخذة ، وأنه لا يدخل تحت التكليف ، ولا يتعلق به حكم طلاق ولا غيره ؛ وقد تقدم ، ولو نسي في الثانية لاعتذر.
[74] {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً}
[75] {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً}
[76] {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً}
قوله تعالى : { فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ} في البخاري قال يعلى قال سعيد : "وجد غلمانا يلعبون فأخذ غلاما كافرا فأضجعه ثم ذبحه بالسكين" {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً} لم تعمل بالحنث ، وفي الصحيحين وصحيح الترمذي : "ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان ، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله ، قال له موسى : {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} قال : وهذه أشد من الأولى. {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} لفظ البخاري. وفي التفسير : إن الخضر مر بغلمان يلعبون فأخذ بيده غلاما ليس فيهم أضوأ منه ، وأخذ حجرا فضرب به رأسه حتى دمغه ، فقتله. قال أبو العالية : لم يره إلا موسى ، ولو رأوه لحالوا بينه وبين الغلام.

قلت : ولا اختلاف بين هذه الأحوال الثلاثة ، فإنه أن يكون دمغه أولا بالحجر ، ثم أضجعه فذبحه ، ثم اقتلع رأسه ؛ والله أعلم بما كان من ذلك
قوله تعالى : {غُلاماً} اختلف العلماء في الغلام هل كان بالغا أم لا ؟ فقال الكلبي : كان بالغا يقطع الطريق بين قريتين ، وأبوه من عظماء أهل إحدى القريتين ، وأمه من عظماء القرية الأخرى ، فأخذه الخضر فصرعه ، ونزع رأسه عن جسده. قال الكلبي : واسم الغلام شمعون وقال الضحاك : حيسون وقال وهب : اسم أبيه سلاس واسم أمه رحمى وحكى السهيلي أن اسم أبيه كازير واسم أمه سهوى

وقال الجمهور : لم يكن بالغا ؛ ولذلك قال موسى زاكية لم تذنب ، وهو الذي يقتضيه لفظ الغلام ؛ فان الغلام في الرجال يقال على من لم يبلغ ، وتقابله الجارية في النساء وكان الخضر قتله لما علم من سيره ، وأنه طبع كافرا كما في ، صحيح الحديث ، وأنه لو أدرك لأرهق أبويه كفرا ، وقتل الصغير غير مستحيل إذا أذن الله في ذلك ؛ فان الله تعالى الفعال لما يريد ، القادر على ما يشاء ، وفي كتاب العرائس : إن موسى لما قال للخضر {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً...} الآية - غضب الخضر واقتلع كتف الصبي الأيسر ، وقشر اللحم عنه ، وإذا في عظم كتفه مكتوب : كافر لا يؤمن بالله أبدا. وقد احتج أهل القول الأول بأن العرب تبقي على الشاب اسم الغلام ،

وفي الخبر : إن هذا الغلام كان يفسد في الأرض ، ويقسم لأبويه أنه ما فعل ، فيقسمان على قسمه ، ويحميانه ممن يطلبه ، قالوا وقوله : {بِغَيْرِ نَفْسٍ} يقتضي أنه لو كان عن قتل نفس لم يكن به بأس ، وهذا يدل على كبر الغلام ، وإلا فلو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس ، وإنما جاز قتله لأنه كان بالغا عاصيا. قال ابن عباس : كان شابا يقطع الطريق ، وذهب ابن جبير إلى أنه بلغ سن التكليف لقراءة أبي وابن عباس "وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين" والكفر والإيمان من صفات المكلفين ، ولا يطلق على غير مكلف إلا بحكم التبعية لأبويه ، وأبوا الغلام كانا مؤمنين بالنص فلا يصدق عليه اسم الكافر إلا بالبلوغ ، فتعين أن يصار إليه والغلام من الاغتلام وهو شدة الشبق.
قوله تعالى : {نُكْراً} اختلف الناس أيهما أبلغ {إِمْراً} أو قوله { نُكْراً} فقالت فرقة : هذا قتل بين ، وهناك مترقب ؛ فـ {نُكْراً} أبلغ ، وقالت فرقة : هذا قتل واحد وذاك قتل جماعة فـ {إِمْراً} أبلغ. قال ابن عطية : وعندي أنهما لمعنيين وقوله : {إِمْراً} أفظع وأهول من حيث هو متوقع عظيم ، و {نُكْراً} بين في الفساد لأن مكروهه قد وقع ؛ وهذا بين.
قوله تعالى : {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي} شرط وهو لازم ، والمسلمون عند شروطهم ، وأحق الشروط أن يوفى به ما التزمه الأنبياء ، والتزم للأنبياء. قوله تعالى : {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} يدل على قيام الاعتذار بالمرة الواحدة مطلقا ، وقيام الحجة من المرة الثانية بالقطع ؛
قوله تعالى : {فَلا تُصَاحِبْنِي} كذا قرأ الجمهور ؛ أي تتابعني. وقرأ الأعرج {تصحبني} بفتح التاء والباء وتشديد النون وقرئ {تصحبني} أي تتبعني وقرأ يعقوب {تصحبني} بضم التاء وكسر الحاء ؛ ورواها سهل عن أبي عمرو ؛ قال الكسائي : معناه فلا تتركني أصحبك.
{قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} أي بلغت مبلغا تعذر به في ترك مصاحبتي ، وقرأ الجمهور : { مِنْ لَدُنِّي} بضم الدال ، إلا أن نافعا وعاصما خففا النون "لدن" اتصلت بها ياء المتكلم التي في غلامي وفرسي ، وكسر ما قبل الياء كما كسر في هذه. وقرأ أبو بكر عن عاصم {لَدْني} بفتح اللام وسكون الدال وتخفيف النون وروي عن عاصم {لدني} بضم اللام وسكون الدال ؛ قال ابن مجاهد : وهي غلط ؛ قال أبو علي : هذا التغليط يشبه أن يكون من جهة الرواية ، فأما على قياس العربية فهي صحيحة وقرأ الجمهور {عذر} وقرأ عيسى {عذرا} بضم الذال وحكى الداني أن أبيا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم {عذري} بكسر الراء وياء بعدها.
مسألة : أسند الطبري قال : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا لأحد بدأ بنفسه ، فقال يوما : "رحمة الله علينا وعلى موسى لو صبر على صاحبه لرأى العجب ولكنه قال {فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} " والذي في صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "رحمة الله علينا وعلى موسى لولا أنه عجل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة ولو صبر لرأى العجب" قال : وكان إذا ذكر أحدا من الأنبياء بدأ بنفسه : "رحمة الله علينا وعلى أخي كذا" وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يرحم الله موسى لوددنا أنه صبر حتى يقص علينا أمرهما"
[77] {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً}
[78] {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً}

فيه ثلاث عشرة مسألة :
الأولى ـ قوله تعالى : {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} في صحيح مسلم عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم :أنهم كانوا "لئاما" فطافا في المجالس فـ {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} يقول : مائل قال : {فَأَقَامَهُ} الخضر بيده قال له موسى : قوم أتيناهم فلم يضيفونا ، ولم يطعمونا {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ، قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يرحم الله موسى لوددت أنه كان صبر حتى يقص علينا من أخبارهما " .
الثانية ـ واختلف العلماء في القرية
الثالثة ـ كان موسى عليه السلام حين سقى لبنتي شعيب أحوج منه حين أتى القرية مع الخضر ؛ ولم يسأل قوتا بل سقى ابتداء ، وفي القرية سألا القوات ؛ وفي ذلك للعلماء انفصالات كثيرة ؛ منها أن موسى كان في حديث مدين منفردا وفي قصة الخضر تبعا لغيره.
قلت : وعلى هذا المعنى يتمشى قوله في أول الآية لفتاه {آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا} فأصابه الجوع مراعاة لصاحبه يوشع ؛ والله أعلم.
وقيل : لما كان هذا سفر تأديب وكل إلى تكلف المشقة ، وكان ذلك سفر هجرة فوكل إلى العون والنصرة بالقوت.
الرابعة ـ في هذه الآية دليل على سؤال القوت ، وأن من جاع وجب عليه أن يطلب ما يرد جوعه خلافا لجهال المتصوفة والاستطعام سؤال الطعام ، والمراد به هنا سؤال الضيافة.

بدليل قوله : {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} فاستحق أهل القرية لذلك أن يذموا ، وينسبوا إلى اللؤم والبخل ، كما وصفهم بذلك نبينا عليه الصلاة والسلام قال قتادة في هذه الآية : شر القرى التي لا تضيف الضيف ولا تعرف لابن السبيل حقه. ويظهر من ذلك أن الضيافة كانت عليهم واجبة ، وأن الخضر وموسى إنما سألا ما وجب لهما من الضيافة ، وهذا هو الأليق بحال الأنبياء ، ومنصب الفضلاء والأولياء
الخامسة ـ قوله تعالى : {جِدَاراً} الجدار والجدر بمعنى ؛ وفي الخبر : "حتى يبلغ الماء الجدر". ومكان جدير بُني حواليه جدار ، وأصله الرفع وأجدرت الشجرة طلعت ؛ ومنه الجدري.
السادسة ـ قوله تعالى : {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} أي قرب أن يسقط ، وهذا مجاز وتوسع وقد فسره في الحديث بقوله : "مائل" فكان فيه دليل على وجود المجاز في القرآن ، وهو مذهب الجمهور. وجميع الأفعال التي حقها أن تكون للحي الناطق متى أسندت إلى جماد أو بهيمة فإنما هي استعارة ، أي لو كان مكانهما إنسان لكان متمثلا لذلك الفعل .

 

 

وهذا في هذا المعنى كثير جدا ومنه قول الناس : إن داري تنظر إلى دار فلان وفي الحديث : "اشتكت النار إلى ربها" وذهب قوم إلى منع المجاز في القرآن ، منهم أبو إسحاق الإسفرايني وأبو بكر محمد بن داود الأصبهاني وغيرهما ، فإن كلام الله عز وجل وكلام رسوله حمله على الحقيقة أولى بذي الفضل والدين ؛ لأنه الحق كما أخبر الله تعالى في كتابه ، ومما احتجوا به أن قالوا : لو خاطبنا الله تعالى بالمجاز لزم وصفه بأنه متجوز أيضا ، فإن العدول عن الحقيقة إلى المجاز يقتضي العجز عن الحقيقة ، وهو على الله تعالى محال ؛ قال الله تعالى : {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

وقال تعالى : {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} وقال تعالى : {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} وقال تعالى : {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} و "اشتكت النار إلى ربها" "واحتجت النار والجنة" وما كان مثلها حقيقة ، وأن خالقها الذي أنطق كل شيء أنطقها. وفي صحيح مسلم من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم "فيختم على فيه ويقال لفخذه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه" .

السابعة ـ قوله تعالى : {فَأَقَامَهُ} قيل : هدمه ثم قعد يبنيه.فقال موسى للخضر : {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} لأنه فعل يستحق أجرا ، وذكر أبو بكر الأنباري عن ابن عباس عن أبي بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ {فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فهدمه ثم قعد يبنيه} قال أبو بكر : وهذا الحديث إن صح سنده فهو جار من الرسول عليه الصلاة والسلام مجرى التفسير للقرآن .

 وأن بعض الناقلين أدخل تفسير قرآن في موضع فسرى أن ذلك قرآن نقص من مصحف عثمان ؛ على ما قاله بعض الطاعنين ، وقال سعيد بن جبير : مسحه بيده وأقامه فقام ، وهذا القول هو الصحيح ، وهو الأشبه بأفعال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، بل والأولياء ، وفي بعض الأخبار : إن سمك ذلك الحائط كان ثلاثين ذراعا بذراع ذلك القرن ، وطوله على وجه الأرض خمسمائة ذراع ، وعرضه خمسون ذراعا ، فأقامه الخضرعليه السلام أي سواه بيده فاستقام ؛ قال الثعلبي في كتاب العرايس : فقال موسى للخضر {لوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} أي طعاما تأكله ؛ ففي هذا دليل على كرامات الأولياء ، وكذلك ما وصف من أحوال الخضر عليه السلام في هذا الباب كلها أمور خارقة للعادة ؛ هذا إذا تنزلنا على أنه ولي لا نبي.
وقوله تعالى : {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف : 82] يدل علي نبوته وأنه يوحى إليه بالتكليف والأحكام ، كما أوحى للأنبياء عليهم الصلاة والسلام غير أنه ليس برسول ؛ والله أعلم.
الثامنة ـ واجب على الإنسان ألا يتعرض للجلوس تحث جدار مائل يخاف سقوطه ، بل يسرع في المشي إذا كان مارا عليه ؛ لأن في حديث النبي عليه الصلاة والسلام "إذا مر أحدكم بطربال مائل فليسرع المشي". وهو  البناء المرتفع ؛
التاسعة ـ كرامات الأولياء ثابتة ، على ما دلت عليه الأخبار الثابتة ، والآيات المتواترة ، ولا ينكرها إلا المبتدع الجاحد ، أو الفاسق الحائد ؛ فالآيات ما أخبر الله تعالى في حق مريم من ظهور الفواكه الشتوية في الصيف ، والصيفية في الشتاء ؛ وما ظهر على يدها حيث أمرت النخلة وكانت يابسة فأثمرت ، وهي ليست بنبية ؛ على الخلاف ويدل عليها ما ظهر على يد الخضر عليه السلام من خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وإقامة الجدار. قال بعض العلماء : ولا يجوز أن يقال كان نبيا ؛ لأن إثبات النبوة لا يجوز بأخبار الآحاد ، لا سيما وقد روي من طريق التواتر - من غير أن يحتمل تأويلا - بإجماع الأمة قوله عليه الصلاة والسلام : "لا نبي بعدي" وقال تعالى : {وخاتم النبيين} والخضر وإلياس جميعا باقيان مع هذه الكرامة ، فوجب أن يكونا غير نبيين ، لأنهما لو كانا نبيين لوجب أن يكون بعد نبينا عليه الصلاة والسلام نبي ، إلا ما قامت الدلالة في حديث عيسى أنه ينزل بعده.
قلت : الخضر كان نبيا على ما تقدم وليس بعد نبينا عليه الصلاة والسلام نبي ، أي يدعي النبوة بعده أبدا الله أعلم0
العاشرة ـ اختلف الناس هل يجوز أن يعلم الولي أنه ولي أم لا ؟ على قولين : [أحدهما] أنه لا يجوز ؛ وأن ما يظهر على يديه يجب أ ن يلاحظه بعين خوف المكر ، لأنه لا يأمن أن يكون مكرا واستدراجا له ؛ وقد حكي عن السري أنه كان يقول : لو أن رجلا دخل بستانا فكلمه من رأس كل شجرة طير بلسان فصيح : السلام عليك يا ولي الله فلو لم يخف أن يكون ذلك مكرا لكان ممكورا به ؛ ولأنه لو علم أنه ولي لزال عنه الخوف ، وحصل له الأمن. ومن شرط الولي أن يستديم الخوف إلى أن تتنزل عليه الملائكة.

 كما قال عز وجل : {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} ولأن الولي من كان مختوما له بالسعادة ، والعواقب مستورة ولا يدري أحد ما يختم له به ؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام "إنما الأعمال بالخواتيم" [القول الثاني] أنه يجوز للولي أن يعلم أنه ولي ؛ ألا ترى أن النبي عليه الصلاة والسلام يجوز أن يعلم أنه ولي ، ولا خلاف أنه يجوز لغيره أن يعلم أنه ولي الله تعالى ، فجاز أن يعلم ذلك. وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام من حال العشرة من أصحابه أنهم من أهل الجنة ، ثم لم يكن في ذلك زوال خوفهم ، بل كانوا أكثر تعظيما لله سبحانه وتعالى ، وأشد خوفا وهيبة ؛ فإذا جاز للعشرة ذلك ولم يخرجهم عن الخوف فكذلك غيرهم. وكان الشبلي يقول : أنا أمان هذا الجانب ؛ فلما مات ودفن عبر الديلم دجلة ذلك اليوم ، واستولوا على بغداد ، ويقول الناس : مصيبتان موت الشبلي وعبور الديلم. ولا يقال : إنه يحتمل أن يكون ذلك استدراجا لأنه لو جاز ذلك لجاز ألا يعرف النبي أنه نبي وولي الله ، لجواز أن يكون ذلك استدراجا ، فلما لم يجز ذلك لأن فيه إبطال المعجزات لم يجز هذا ، لأن فيه إبطال الكرامات.

وما روي من ظهور الكرامات على يدي بلعام وانسلاخه عن الدين بعدها لقوله : {فَانْسَلَخَ مِنْهَا...} فليس في الآية أنه كان وليا ثم انسلخت عنه الولاية. وما نقل أنه ظهر على يديه ما يجري مجرى الكرامات هو أخبار آحاد لا توجب العلم ؛ والله أعلم.والفرق بين المعجزة والكرامة أن الكرامة من شرطها الاستتار ، والمعجزة من شرطها الإظهار.

وقيل : الكرامة ما تظهر من غير دعوى والمعجزة ما تظهر عند دعوى الأنبياء فيطالبون بالبرهان فيظهر أثر ذلك. وقد تقدم في مقدمة الكتاب شرائط المعجزة ، والحمد لله تعالى وحده لا شريك له. وأما الأحاديث الواردة في الدلالة على ثبوت الكرامات .

 فمن ذلك ما خرجه البخاري من حديث أبي هريرة قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط سرية وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة وهي بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فنفروا إليهم قريبا من مائتي راجل كلهم رام ، فاقتصوا أثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمرا تزودوه من المدينة ، فقالوا هذا تمر يثرب ؛ فاقتصوا آثارهم ، فلما رآهم عاصم وأصحابه لجؤوا إلى فدفد وأحاط بهم القوم .

 فقالوا لهم : انزلوا فأعطونا أيديكم ولكم العهد والميثاق ألا نقتل منكم أحدا ؛ فقال عاصم بن ثابت أمير السرية : أما فوالله لا أنزل اليوم في ذمة الكافر ، اللهم أخبر عنا نبيك ، فرموا بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة ، فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد والميثاق ، وهم خبيب الأنصاري وابن الدثنة ورجل آخرا ، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فأوثقوهم ، فقال الرجل الثالث : هذا أول الغدر والله لا أصحبكم ؛ إن لي في هؤلاء لأسوة - يريد القتلى - فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه ؛ فانطلقوا بخيب وابن الدثنة حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر ، فابتاع خبيبا بنو الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ، وكان خبيب هو الذي قتل الحرث بن

عامر يوم بدر ، فلبث خبيب عندهم أسيرا ؛ فأخبر عبيدالله بن عياض أن بنت الحرث أخبرته أنهم حين اجتمعوا استعار منها موسى يستحد بها فأعارته ، فأخذ ابن لي وأنا غافلة حتى أتاه ، قالت : فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده ، ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهي ؛ فقال : أتخشين أن أقتله ؟ ما كنت لأفعل ذلك. قالت : والله ما رأيت أسيرا قط خيرا من خيب ؛ والله لقد وجدته يوما يأكل قطف عنب في يده ، وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمر ؛ وكانت تقول : إنه لرزق رزقه الله تعالى خبيبا ؛ فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيث : دعوني أركع ركعتين ؛ فتركوه فركع ركعتين ثم قال : لولا أن تظنوا أن ما بي جزع من الموت لزدت ؛ ثم قال : اللهم أحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تبق منهم أحدا ؛ ثم قال :
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي شق كان لله مصرعي
وذلك في ذات إلاله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
فقتله بنو الحرث ، وكان خبيب هو الذي سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبرا ؛ فاستجاب الله تعالى لعاصم يوم أصيب ؛ فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه خبرهم وما أصيبوا. وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم حين حدثوا أنه قتل ليؤتوا بشيء منه يعرفونه ، وكان قد قتل رجلا من عظمائهم يوم بدر ؛ فبعث الله على عاصم مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم ، فلم يقدروا على أن يقطعوا من لحمه شيئا.

وقال ابن إسحاق في هذه القصة : وقد كانت هذيل حين قتل عاصم بن ثابت أرادوا رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد ، وقد كانت نذرت حين أصاب ابنيها بأحد لئن قدرت على رأسه لتشربن في قحفه الخمر فمنعهم الدبر ، فلما حالت بينه وبينهم قالوا : دعوه حتى يمسي فتذهب عنه فنأخذه ، فبعث الله تعالى الوادي فاحتمل عاصما فذهب ، وقد كان عاصم أعطى الله تعالى عهدا ألا يمس مشركا ولا يمسه مشرك أبدا في حياته ، فمنعه الله تعالى بعد وفاته مما امتنع منه في حياته.

وعن عمرو بن أمية الضمري :وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه عينا وحده فقال : جئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها وأنا أتخوف العيون فأطلقته ، فوقع في الأرض ، ثم اقتحمت فانتبذت قليلا ، ثم ألتفت فكأنما ابتلعته الأرض. وفي رواية أخرى زيادة : فلم نذكر لخبيب رمة حتى الساعة ؛ ذكره البيهقي.
الحادية عشرة ـ ولا ينكر أن يكون للولي مال وضيعة يصون بها ماله وعياله ، وحسبك بالصحابة وأموالهم مع ولايتهم وفضلهم ، وهم الحجة على غيرهم. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "بينما رجل بفلاة من أرض فسمع صوتا في سحابة اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فافرغ ماءه في حرة فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته فقال يا عبد الله ما أسمك قال فلان الاسم الذي سمعه في السحابة فقال له يا عبد الله لم سألتني عن اسمي قال إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول اسق حديقة فلان لاسمك فما فيها قال أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي وأرد فيها ثلثه" وفي رواية "وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل" .
قلت : وهذا الحديث لا يناقضه قوله عليه الصلاة والسلام : "لا تتخذوا الضيعة فتركنوا إلى الدنيا" خرجه الترمذي من حديث ابن مسعود وقال فيه حديث حسن ؛ فإنه محمول على من اتخذها مستكثرا أو متنعما ومتمتعا بزهرتها ، وأما من اتخذها معاشا يصون بها دينه وعياله فاتخاذها بهذه النية من أفضل الأعمال ، وهي من أفضل الأموال ؛ قال عليه الصلاة والسلام : "نعم المال الصالح للرجل الصالح" ، قد أكثر الناس في كرامات الأولياء وما ذكرناه فيه كفاية ؛ والله الموفق للهداية.
الثانية عشرة ـ قوله تعالى : {لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} فيه دليل على صحة جواز الإجارة ، وهى سنة الأنبياء والأولياء. وهذه صدرت من موسى سؤالا على جهة العرض لا الاعتراض ، .فعند ذلك قال له الخضر {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} بحكم ما شرطت على نفسك. وتكريره {بَيْنِي وَبَيْنِكَ} ولم يقل بيننا للتأكيد.

 قال سيبويه : كما يقال أخزى الله الكاذب مني ومنك ؛ أي منا. وقال ابن عباس : وكان قول موسى في السفينة والغلام لله ، وكان قوله في الجدار لنفسه لطلب شيء من الدنيا ، فكان سبب الفراق. وقال وهب بن منبه : كان ذلك الجدار جدارا طوله في السماء مائة ذراع.
الثالثة عشرة ـ قوله تعالى : {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} تأويل الشيء مآله أي قال له : إني أخبرك لم فعلت ما فعلت. وقيل في تفسير هذه الآيات التي وقعت لموسى مع الخضر : إنها حجة على موسى وعجبا له وذلك أنه لما أنكر أمر خرق السفينة نودي : يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحا في اليم فلما أنكر أمر الغلام قيل له : أين إنكارك هذا من وكزك القبطي وقضائك عليه فلما أنكر إقامة الجدار نودي : أين هذا من رفعك حجر البئر لبنات شعيب دون أجر.
[79] {أمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً}
[80] {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً}
[81] {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً}
[82] {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً}

قوله تعالى : {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} استدل بهذا من قال : إن المسكين أحسن حالا من الفقير ، وقد وقيل : إنهم كانوا تجارا ولكن من حيث هم مسافرون عن قلة في لجة بحر ، وبحال ضعف عن مدافعة خطب عبر عنهم بمساكين ؛ إذ هم في حالة يشفق عليهم بسببها ، وهذا كما تقول لرجل غني وقع في وهلة أو خطب : مسكين.

وقال كعب وغيره : كانت لعشرة إخوة من المساكين ورثوها من أبيهم خمسة زمنى ، وخمسة يعملون في البحر. وقيل : كانوا سبعة لكل واحد منهم زمانة ليست بالآخر. ، و معناها : إن السفينة لقوم ضعفاء ينبغي أن يشفق عليهم والله أعلم.
قوله تعالى : {فأردت أن أعيبها} أي أجعلها ذات عيب ، {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا} قرأ ابن عباس وابن جبير "صحيحه" وقرأ أيضا ابن عباس وعثمان بن عفان "صالحة" و"وراء" أصلها بمعنى خلف ؛ فقال بعض المفسرين : إنه كان خلفه وكان رجوعهم عليه. الأكثر على أن معنى "وراء" هنا أمام ؛ يعضده قراءة ابن عباس وابن جبير "وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا".

هذا من الفقه العمل بالمصالح إذا تحقق وجهها ، وجواز إصلاح كل المال بإفساد بعضه ، وفي صحيح مسلم وجه الحكمة بخرق السفينة وذلك قوله : "فإذا جاء الذي يسخرها وجدها منخرقة فتجاوزها ، فأصلحوها بخشبة..." الحديث. وتحصل من هذا الحض على الصبر في الشدائد ، فكم في ضمن ذلك المكروه من الفوائد ، وهذا معنى قوله : {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} قوله تعالى : {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} جاء في صحيح الحديث : "أنه طبع يوم طبع كافر" وهذا يؤيد ظاهره أنه غير بالغ ، ويحتمل أن يكون خبرا عنه مع كونه بالغا ؛ قوله تعالى : {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} قيل : هو من كلام الخضر عليه السلام ، وهو الذي يشهد له سياق الكلام ، وهو قول كثير من المفسرين ؛ أي خفنا أن يرهقهما طغيانا وكفرا ، وكان الله قد أباح له الاجتهاد في قتل النفوس على هذه الجهة. وقيل : هو من كلام الله تعالى وعنه عبر الخضر ؛ قال الطبري : معناه فعلمنا ؛ وكذا قال ابن عباس أي فعلمنا ، وهذا كما كني عن العلم بالخوف في قوله {إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} وحكي أن أبيا قرأ "فعلم ربك" وقيل : الخشية بمعنى الكراهة ؛ يقال : فرقت بينهما خشية أن يقتتلا ؛ أي كراهة ذلك. قال ابن عطية : والأظهر عندي في توجيه هذا التأويل وإن كان اللفظ يدافعه أنها استعارة ، أي على ظن المخلوقين والمخاطبين لو علموا حاله لوقعت منهم خشية الرهق للأبوين.

وقرأ ابن مسعود {فخاف ربك} وهذا بين في الاستعارة ، وهذا نظير ما وقع القرآن في جهة الله تعالى من لعل وعسى وأن جميع ما في هذا كله من ترج وتوقع وخوف وخشية إنما هو بحسبكم أيها المخاطبون. و {يُرْهِقَهُمَا} يجشمهما ويكلفهما ؛ والمعنى أن يلقيهما حبه في اتباعه فيضلا ويتدينا بدينه.
قوله تعالى : {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا} أي أن يرزقهما الله ولدا. قوله تعالى : {خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً} أي دينا وصلاحا. {وَأَقْرَبَ رُحْماً}
ويستفاد من هذه الآية تهوين المصائب بفقد الأولاد وإن كانوا قطعا من الأكباد ، ومن سلم للقضاء أسفرت عاقبته عن اليد البيضاء. قال قتادة : لقد فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل ، ولو بقي كان فيه هلاكهما. فالواجب على كل امرئ الرضا بقضاء الله تعالى ، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه له فيما يحب.
قوله تعالى : {أَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ} هذان الغلامان صغيران بقرينة وصفهما باليتم ، واسمهما أصرم وصريم. وقد قال عليه الصلاة والسلام : "لا يتم بعد بلوغ" هذا هو الظاهر. وقد يحتمل أن يبقى عليهما اسم اليتم بعد البلوغ إن كانا يتيمين ، على معنى الشفقة عليهما. وقد تقدم أن اليتم في الناس من قبل فقد الأب ، وفي غيرهم من الحيوان من قبل فقد الأم.
ودل قوله : "في المدينة" على أن القرية تسمى مدينة ؛ ومنه الحديث "أمرت بقرية تأكل القرى..." وفي حديث الهجرة "لمن أنت" فقال الرجل : من أهل المدينة ؛ يعني مكة.
قوله تعالى : {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} اختلف الناس في الكنز ؛ فقال عكرمة وقتادة : كان مالا جسيما وهو الظاهر من اسم الكنز إذ هو في اللغة المال المجموع ؛  قوله تعالى : {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} ظاهر اللفظ والسابق منه أنه والدهما دِنْيَةً. وقيل : هو الأب السابع ؛ ففيه ما يدل على أن الله تعالى يحفظ الصالح في نفسه وفي ولده وإن بعدوا عنه وقد روي أن الله تعالى يحفظ الصالح في سبعة من ذريته ؛ وعلى هذا يدل قوله تعالى : {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} قوله تعالى : {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}. {ذَلِكَ تَأْوِيلُ} أي تفسير. {مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً}
الأولى : إن قال قائل لم يسمع لفتى موسى ذكر في أول الآية ولا في آخرها ، قيل له : اختلف في ذلك ؛ فقال عكرمة لابن عباس : - لم يسمع لفتى موسى بذكر وقد كان معه ؟ فقال"شرب الفتى من الماء فخلد ، وأخذه العالم فطبق عليه سفينة ثم أرسله في البحر ، وإنها لتموج به فيه إلى يوم القيامة وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب منه" قال القشيري : وهذا إن ثبت فليس الفتى يوشع بن نون ؛ فإن يوشع بن نون قد عمر بعد موسى وكان خليفته ؛ والأظهر أن موسى صرف فتاه لما لقي الخضر. وقال شيخنا الإمام أبو العباس : يحتمل أن يكون اكتفي بذكر المتبوع عن التابع والله أعلم.
الثانية : إن قال قائل : كيف أضاف الخضر قصة استخراج كنز الغلامين لله تعالى ، وقال في خرق السفينة : {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} فأضاف العيب إلى نفسه ؟ قيل له : إنما أسند الإرادة في الجدار إلى الله تعالى لأنها في أمر مستأنف في زمن طويل غيب من الغيوب ، فحسن إفراد هذا الموضع بذكر الله تعالى ، وإن كان الخضر قد أراد ذلك فالذي أعلمه الله تعالى أن يريده وقيل : لما كان ذلك خيرا كله أضافه إلى الله تعالى وأضاف عيب السفينة إلى نفسه رعاية للأدب لأنها لفظة عيب فتأدب بأن لم يسند الإرادة فيها إلا إلى نفسه ، كما تأدب إبراهيم عليه السلام في قوله : {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} فأسند الفعل قبل وبعد إلى الله تعالى ، وأسند إلى نفسه المرض ، إذ هو معنى نقصى ومصيبة .

 فلا يضاف إليه سبحانه وتعالى من الألفاظ إلا ما يستحسن منها دون ما يستقبح ، وهذا كما قال تعالى : {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} واقتصر عليه فلم ينسب الشر إليه ، وإن كان بيده الخير والشر والضر والنفع ، إذ هو على كل شيء قدير ، وهو بكل شيء خبير ولا اعتراض بما حكاه عليه السلام عن ربه عز وجل أنه يقول يوم القيامة : "يا ابن آدم مرضت فلم تعدني واستطعمك فلم تطعمني واستسقيتك فلم تسقني" فإن ذلك تنزُّلُ في الخطاب وتلطف في العتاب مقتضاه التعريف بفضل ذي الجلال وبمقادير ثواب هذه الأعمال . ولله تعالى أن يطلق على نفسه ما يشاء ، ولا نطلق نحن إلا ما أذن لنا فيه من الأوصاف الجميلة والأفعال الشريفة جل وتعالى عن النقائص والآفات علوا كبيرا. وقال في الغلام : {فأردنا} فكأنه أضاف القتل إلى نفسه ، والتبديل إلى الله تعالى والأشد كمال الخلق والعقل.
12- هَارُوتَ وَمَارُوتَ

الآية : 101 {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} .

قوله تعالى : {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} نعت لرسول ، ويجوز نصبه على الحال. {نَبَذَ فَرِيقٌ} جواب "لما" {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ} نصب بـ "نبذ" ، والمراد التوراة ، لأن كفرهم بالنبي عليه السلام وتكذيبهم له نبذ لها. قال السدي : نبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف ، وسحر هاروت وماروت. وقيل : يجوز أن يعني به القرآن. قال الشعبي : هو بين أيديهم يقرؤونه ، ولكن نبذوا العمل به. وقال سفيان بن عيينة : أدرجوه في الحرير والديباج ، وحلوه بالذهب والفضة ، ولم يحلوا حلاله ولم يحرموا حرامه ، فذلك النبذ. {كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} تشبيه بمن لا يعلم إذ فعلوا فعل الجاهل فيجيء من اللفظ أنهم كفروا على علم.
الآية : 102 {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
فيه أربع وعشرون مسألة :
 قوله تعالى : {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} هذا إخبار من الله تعالى عن الطائفة الذين نبذوا الكتاب بأنهم اتبعوا السحر أيضا ، وهم اليهود. وقال السدي : عارضت اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم بالتوراة فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وبسحر هاروت وماروت.

وقال محمد بن إسحاق : لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم سليمان في المرسلين قال بعض أحبارهم : يزعم محمد أن ابن داود ان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا ، فأنزل الله عز وجل : {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} أي ألقت إلى بني آدم أن ما فعله سليمان من ركوب البحر واستسخار الطير والشياطين كان سحرا. وقال الكلبي : كتبت الشياطين السحر والنيرنجيات على لسان آصف كاتب سليمان ، ودفنوه تحت مصلاه حين انتزع الله ملكه ولم يشعر بذلك سليمان ، فلما مات سليمان استخرجوه وقالوا للناس : إنما ملككم بهذا فتعلموه ، فأما علماء بني إسرائيل فقالوا : معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان! وأما السفلة فقالوا : هذا علم سليمان ، وأقبلوا على تعليمه ورفضوا كتب أنبيائهم حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل على نبيه عذر سليمان وأظهر براءته مما رمي به فقال : {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ}قال الطبري : "اتبعوا" بمعنى فضلوا.
قلت : لأن كل من اتبع شيئا وجعله أمامه فقد فضله على غيره ، ومعنى "تتلو" يعني تلت ، قال ابن العربي. {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أي على شرعه ونبوته. والشياطين هنا قيل : هم شياطين الجن ، وهو المفهوم من هذا الاسم.
الثانية : قوله تعالى : {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} تبرئة من الله لسليمان ولم يتقدم في الآية أن أحدا نسبه إلى الكفر ، ولكن اليهود نسبته إلى السحر ، ولكن لما كان السحر كفرا صار بمنزلة من نسبه إلى الكفر. {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} فأثبت كفرهم بتعليم السحر.

 السحر ، قيل : السحر أصله التمويه والتخاييل ، وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعاني ، فيخيل للمسحور أنها بخلاف ما هي به ، كالذي يرى السراب من بعيد فيخيل إليه أنه ماء ، وكراكب السفينة السائرة سيرا حثيثا يخيل إليه أن ما يرى من الأشجار والجبال سائرة معه. وقيل : هو مشتق من سحرت الصبي إذا خدعته ، وكذلك إذا عللته ، والتسحير مثله ،
سمى سول الله صلى الله عليه وسلم الفصاحة في الكلام واللسانة فيه سحرا ، فقال : " إن من البيان لسحرا" أخرجه مالك وغيره. وذلك لأن فيه تصويب الباطل حتى يتوهم السامع أنه حق ، فعلى هذا يكون قوله عليه السلام : "إن من البيان لسحرا" خرج مخرج الذم للبلاغة والفصاحة ، إذ شبهها بالسحر. والدليل عليه قوله عليه السلام : "فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض"
قلت : وبهذا المعنى الذي ذكرناه فسره عامر الشعبي راوي الحديث وصعصعة بن صوحان فقالا : أما قوله صلى الله عليه وسلم : "إن من البيان لسحرا" فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق وهو عليه ، وإنما يحمد العلماء البلاغة واللسانة ما لم تخرج إلى حد الإسهاب والإطناب ، وتصوير الباطل في صورة الحق.

الخامسة: من السحر ما يكون كفرا من فاعله ، مثل ما يدعون من تغيير صور الناس ، وإخراجهم في هيئة بهيمة ، وقطع مسافة شهر في ليلة ، والطيران في الهواء ، فكل من فعل هذا ليوهم الناس أنه محق فذلك كفر منه .

ذهب أهل السنة إلى أن السحر ثابت وله حقيقة.  فمن ذلك ما جاء في هذه الآية من ذكر السحر وتعليمه ، ولو لم يكن له حقيقة لم يمكن تعليمه ، ولا أخبر تعالى أنهم يعلمونه الناس ، فدل على أن له حقيقة. وقوله تعالى في قصة سحرة فرعون : {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} وسورة "الفلق" ، مع اتفاق المفسرين على أن سبب نزولها ما كان من سحر لبيد بن الأعصم ، وهو مما خرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت : سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم ، الحديث. وفيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما حل السحر : "إن الله شفاني" . والشفاء إنما يكون برفع العلة وزوال المرض ، فدل على أن له حقا وحقيقة ، فهو مقطوع به بإخبار الله تعالى ورسوله على وجوده ووقوعه. وعلى هذا أهل الحل والعقد الذين ينعقد بهم الإجماع ، ولا عبرة مع اتفاقهم بحثالة المعتزلة ومخالفتهم أهل الحق. ولقد شاع السحر وذاع في سابق الزمان وتكلم الناس فيه ، ولم يبد من الصحابة ولا من التابعين إنكار لأصله.

قوله تعالى : {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} "ما" نفي ، والواو للعطف على قوله : {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} وذلك أن اليهود قالوا : إن الله أنزل جبريل وميكائيل بالسحر ، فنفى الله ذلك. وفي الكلام تقديم وتأخير ، التقدير وما كفر سليمان ، وما أنزل على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت ، فهاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله : {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} . هذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل ، وأصح ما قيل فيها ولا يلتفت إلى سواه ، فالسحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم ، ودقة أفهامهم .
إن قال قائل : كيف يكون اثنان بدلا من جمع والبدل إنما يكون على حد المبدل ، فالجواب من وجوه ثلاثة : الأول : أن الاثنين قد يطلق عليهما اسم الجمع ، كما قال تعالى : {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء : 11] ولا يحجبها عن الثلث إلى السدس إلا اثنان من الإخوة فصاعدا ، الثاني : أنهما لما كانا الرأس في التعليم نص عليهما دون اتباعهما ، كما قال تعالى : {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر : 30].

الثالث : إنما خصا بالذكر من بينهم لتمردهما ، كما قال تعالى : {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن : 68] وقوله : {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب ، فقد ينص بالذكر على بعض أشخاص العموم إما لشرفه وإما لفضله ، كقوله تعالى : {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} [آل عمران : 68] وقوله : {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة : 98] ، وإما لطيبه كقوله : {فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن : 68] ، وإما لأكثريته ، كقوله صلى الله عليه وسلم : "جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا" ، وإما لتمرده وعتوه كما في هذه الآية ، والله تعالى اعلم. وقد قيل : إن "ما" عطف على السحر وهي مفعولة ، فعلى هذا يكون "ما" بمعنى الذي ، ويكون السحر منزلا على الملكين فتنة للناس وامتحانا ، ولله أن يمتحن عباده بما شاء ، كما امتحن بنهر طالوت ، ولهذا يقول الملكان : إنما نحن فتنة ، أي محنة من الله ، نخبرك أن عمل الساحر كفر فإن أطعتنا نجوت ، وإن عصيتنا هلكت.

 قوله تعالى : {بِبَابِلَ} بابل لا ينصرف للتأنيث والتعريف والعجمة ، وهي قطر من الأرض ، قيل : العراق وما والاه.
واختلف في تسميته ببابل ، قال معناه الخليل. وقال أبو عمر بن عبدالبر : من أخصر ما قيل في البلبلة وأحسنه ما رواه داود بن أبي هند عن علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس أن نوحا عليه السلام لما هبط إلى أسفل الجودي ابتنى قرية وسماها ثمانين ، فأصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة ، إحداها اللسان العربي ، وكان لا يفهم بعضهم عن بعض.

 روى عبدالله بن بشر المازني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اتقوا الدنيا فوالذي نفسي بيده إنها لأسحر من هاروت وماروت" . قال علماؤنا : إنما كانت الدنيا أسحر منهما لأنها تسحرك بخدعها ، وتكتمك فتنتها ، فتدعوك إلى التحارص عليها والتنافس فيها ، والجمع لها والمنع ، حتى تفرق بينك وبين طاعة الله تعالى ، وتفرق بينك وبين رؤية الحق ورعايته ، فالدنيا أسحر منهما ، تأخذ بقلبك عن الله ، وعن القيام بحقوقه ، وعن وعده ووعيده. وسحر الدنيا محبتها وتلذذك بشهواتها ، وتمنيك بأمانيها الكاذبة حتى تأخذ بقلبك ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "حبك الشيء يعمي ويصم".
قوله تعالى : {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} لا ينصرف "هاروت" ، لأنه أعجمي معرفة ، وكذا "ماروت" ، قال الزجاج : وروي عن علي رضى الله عنه أنه قال : أي والذي أنزل على الملكين ، وأن الملكين يعلمان الناس تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه. قال الزجاج : وهذا القول الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر ، ومعناه أنهما يعلمان الناس على النهي فيقولان لهم : لا تفعلوا كذا ، ولا تحتالوا بكذا لتفرقوا بين المرء وزوجه. والذي أنزل عليهما هو النهي ، كأنه قولا للناس : لا تعملوا كذا ، فـ "يعلمان" بمعنى يعلمان ، كما قال : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} أي أكرمنا.

 قوله تعالى : {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} "من" زائدة للتوكيد ، والتقدير : وما يعلمان أحدا. {حَتَّى يَقُولا} نصب بحتى فلذلك حذفت منه النون ؛ والضمير في "يعلمان" لهاروت وماروت. وفي "يعلمان" قولان ، أحدهما : أنه على بابه من التعليم. الثاني : أنه من الإعلام لا من التعليم ، فـ "يعلمان" بمعنى يعلِمْان
{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} لما أنبأ بفتنتهما كانت الدنيا أسحر منهما حين كتمت فتنتها. {فَلا تَكْفُرْ}  بتعليم السحر

 قوله تعالى : {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا} قال سيبويه : التقدير فهم يتعلمون ، قال ومثله {كُنْ فَيَكُونُ} . وقيل : هو معطوف على موضع {مَا يُعَلِّمَانِ} ، لأن قوله : {وَمَا يُعَلِّمَانِ} وإن دخلت عليه ما النافية فمضمنه الإيجاب في التعليم. وقال الفراء : هي مردودة على قوله : {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} فيتعلمون ، ويكون "فيتعلمون" متصلة بقول {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} فيأتون فيتعلمون.

 قوله تعالى : {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} "ما هم" ، إشارة إلى السحرة. وقيل إلى اليهود ، وقيل إلى الشياطين. "بضارين به" أي بالسحر. "من أحد" أي أحدا ، ومن زائدة. "إلا بإذن الله" بإرادته وقضائه لا بأمره ،
 قوله تعالى : {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ} يريد في الآخرة وإن أخذوا بها نفعا قليلا في الدنيا. وقيل : يضرهم في الدنيا ، لأن ضرر السحر والتفريق يعود على الساحر في الدنيا إذا عثر عليه ، لأنه يؤدب ويزجر ، ويلحقه شؤم السحر.

 "ولقد علموا" لام توكيد. {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} لام يمين ، وهي للتوكيد أيضا. وموضع "من" رفع بالابتداء ، لأنه لا يعمل ما قبل اللام فيعمل بعدها. و"من" بمعنى الذي. {مِنْ خَلاقٍ] والخلاق : النصيب ، قاله مجاهد. قال الزجاج : وكذلك هو عند أهل اللغة ، إلا أنه لا يكاد يستعمل إلا للنصيب من الخير. وسئل عن قوله تعالى : {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} فأخبر أنهم قد علموا ؛ ثم قال : {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
الآية : 103 {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
قوله تعالى : {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} أي اتقوا السحر. {لَمَثُوبَةٌ} المثوبة الثواب ،

13-ابراهيم عليه السلام مع النمروذ

الآية : 258 { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}
فيه مسألتان :
قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ} هذه ألف التوقيف ، وفي الكلام معنى التعجب ، أي اعجبوا له. وقال الفراء : "ألم تر" بمعنى هل رأيت ، أي هل رأيت الذي حاج إبراهيم ، وهل رأيت الذي مر على قرية ، وهو النمروذ بن كوش بن كنعان بن سام بن نوح ملك زمانه وصاحب النار والبعوضة هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع والسدي وابن إسحاق وزيد بن أسلم وغيرهم.

وكان إهلاكه لما قصد المحاربة مع الله تعالى بأن فتح الله تعالى عليه باباً من البعوض فستروا عين الشمس وأكلوا عسكره ولم يتركوا إلا العظام ، ودخلت واحدة منها في دماغه فأكلته حتى صارت مثل الفأرة ؛ فكان أعز الناس عنده بعد ذلك من يضرب دماغه بمطرقة عتيدة لذلك ، فبقي في البلاء أربعين يوما.

أنهم خرجوا إلى عيد لهم فدخل إبراهيم على أصنامهم فكسرها ؛ فلما رجعوا قال لهم : أتعبدون ما تنحتون ؟ فقالوا : فمن تعبد ؟ قال : أعبد ربي الذي يحيي ويميت. وقال بعضهم : إن نمروذ كان يحتكر الطعام فكانوا إذا احتاجوا إلى الطعام يشترونه منه ، فإذا دخلوا عليه سجدوا له ؛ فدخل إبراهيم فلم يسجد له ، فقال : مالك لا تسجد لي قال : أنا لا أسجد إلا لربي.

 فقال له نمروذ : من ربك ؟ قال إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت. وذكر زيد بن أسلم أن النمروذ هذا قعد يأمر الناس بالميرة ، فكلما جاء قوم يقول : من ربكم وإلهكم ؟ فيقولون أنت ؛ فيقول : ميروهم. وجاء إبراهيم عليه السلام يمتار فقال له : من ربك وإلهك ؟ قال إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت ؛ فلما سمعها نمروذ قال : أنا أحيي وأميت ؛ فعارضه إبراهيم بأمر الشمس فبهت الذي كفر ، وقال لا تميروه ؛
وقال الربيع وغيره في هذا القصص : إن النمروذ لما قال أنا أحيي وأميت أحضر رجلين فقتل أحدهما وأرسل الآخر فقال : قد أحييت هذا وأمت هذا ؛ فلما رد عليه بأمر الشمس بهت. وروي في الخبر : أن الله تعالى قال وعزتي وجلالي لا تقوم الساعة حتى آتي بالشمس من المغرب ليعلم أني أنا القادر على ذلك.

 ثم أمر نمروذ بإبراهيم فألقي في النار ، وهكذا عادة الجبابرة فإنهم إذا عورضوا بشيء وعجزوا عن الحجة اشتغلوا بالعقوبة ، فأنجاه الله من النار ، وقال السدي : إنه لما خرج إبراهيم من النار أدخلوه على الملك - ولم يكن قبل ذلك دخل عليه - فكلمه وقال له : من ربك ؟ فقال : ربي الذي يحيي ويميت. قال النمروذ : أنا أحيي وأميت ، وأنا آخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتا ولا يطعمون شيئا ولا يسقون حتى إذا جاعوا أخرجتهم فأطعمت اثنين فحييا وتركت اثنين فماتا. فعارضه إبراهيم بالشمس فبهت.

وذكر الأصوليون في هذه الآية أن إبراهيم عليه السلام لما وصف ربه تعالى بما هو صفة له من الإحياء والإماتة لكنه أمر له حقيقة ومجاز ، قصد إبراهيم عليه السلام إلى الحقيقة ، وفزع نمروذ إلى المجاز وموه على قومه ؛ فسلم له إبراهيم تسليم الجدل وانتقل معه من المثال وجاءه بأمر لا مجاز فيه {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} أي انقطعت حجته ولم يمكنه أن يقول أنا الآتي بها من المشرق ؛ لأن ذوي الألباب يكذبونه.
الثانية : - هذه الآية تدل على جواز تسمية الكافر ملكا إذا آتاه الملك والعز والرفعة في الدنيا ، وتدل على إثبات المناظرة والمجادلة وإقامة الحجة. وفي القرآن والسنة من هذا كثير لمن تأمله ، قال الله تعالى : {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة : 111]. "إن عندكم من سلطان} [يونس : 68] أي من حجة. وقد وصف خصومة إبراهيم عليه السلام قومه ورده عليهم في عبادة الأوثان كما في سورة [الأنبياء] وغيرها.

وقال في قصة نوح عليه السلام : {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود : 32] الآيات إلى قوله : {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} [هود : 35]. وكذلك مجادلة موسى مع فرعون إلى غير ذلك من الآي. فهو كله تعليم من الله عز وجل السؤال والجواب والمجادلة في الدين ؛ لأنه لا يظهر الفرق بين الحق والباطل إلا بظهور حجة الحق ودحض حجة الباطل. وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وباهلهم بعد الحجة ،

 وتناظروا بعد مبايعة أبي بكر في أهل الردة ، إلى غير ذلك مما يكثر إيراده. وفي قول الله عز وجل : {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران : 66] دليل على أن الاحتجاج بالعلم مباح شائع لمن تدبر. قال المزني صاحب الشافعي : ومن حق المناظرة أن يراد بها الله عز وجل وأن يقبل منها ما تبين. وقالوا : لا تصح المناظرة ويظهر الحق بين المتناظرين حتى يكونوا متقاربين أو مستويين في مرتبة واحدة من الدين والعقل والفهم والإنصاف ، وإلا فهو مراء ومكابرة.

 {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} في موضع نصب ، أي لأن آتاه الله ، أو من أجل أن آتاه الله.
وبَهُت الرجل وبَهِت وبُهت إذا انقطع وسكت متحيراً .
14
-ابراهيم عليه السلام والنار

0 الآية : 51 {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}
الآية : 52 {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}
الآية : 53 {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ}

الآية : 54 {قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
الآية : 55 {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ}
الآية : 56 {قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} قال الفراء : أي أعطياه هداه. {مِنْ قَبْلُ} أي من قبل النبوة ؛ أي وفقناه للنظر والاستدلال ، لما جن عليه الليل فرأى النجم والشمس والقمر. وقيل : {مِنْ قَبْلُ} أي من قبل موسى وهارون. والرشد على هذا النبوة. وعلى الأول أكثر أهل التفسير ؛ كما قال ليحيى : {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} [مريم : 12 ]. وقال القرظي : رشده صلاحه. {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} أي إنه أهل لإيتاء الرشد وصالح للنبوة.
قوله تعالى : {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} قيل : المعنى أي اذكر حين قال لأبيه ؛ فيكون الكلام قد تم عند قوله : {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} . وقيل : المعنى ؛ {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ، إِذْ قَالَ} فيكون الكلام متصلا ولا يوقف على قوله : {عَالِمِينَ}.

{لِأَبِيهِ} وهو آزر {وَقَوْمِهِ} نمرود ومن اتبعه. {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ} أي الأصنام. والتمثال اسم موضوع للشيء المصنوع مشبها بخلق من بخلق الله تعالى. {الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} أي مقيمون على عبادتها. {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} أي نعبد ها تقليدا لأسلافنا. {قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي في خسران بعبادتها ؛ إذ هي جمادات لا تنفع ولا تضر ولا تعلم. {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ} أي أجاء أنت بحق فيما تقول ؟ {أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} أي لاعب مازح. {قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي لست بلاعب ، بل ربكم والقائم بتدبيركم خالق السموات والأرض. {الَّذِي فَطَرَهُنَّ} أي خلقهن وأبدعهن. {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} أي على أنه رب السموات والأرض. والشاهد يبين الحكم ، ومنه {شَهِدَ اللَّهُ} [آل عمران : 18] بين الله ؛ فالمعنى : وأنا أبين بالدليل ما أقول.
الآيتان : 57 - 58 {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ، فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}

قوله تعالى : {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} أخبر أنه لم يكتف بالمحاجة باللسان بل كسر أصنامهم فعل واثق بالله تعالى ، موطن نفسه على مقاساة المكروه في الذب عن الدين. والتاء في {تَاللَّهِ} تختص في القسم باسم الله وحده ، والواو تختص بكل مظهر ، والباء بكل مضمر ومظهروقال ابن عباس : أي وحرمة الله لأكيدن أصنامكم ، أي لأمكرن بها. والكيد المكر. كاده يكيده كيدا ومكيدة ، وكذلك المكايدة ؛ وربما سمي الحرب كيدا ؛ يقال : غزا فلان فلم يلق كيدا ، وكل شيء تعالجه فأنت تكيده.

{بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} أي منطلقين ذاهبين. وكان لهم في كل سنة عيد يجتمعون فيه ، فقالوا لإبراهيم : لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا  فقال إبراهيم في نفسه : {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}. قال مجاهد وقتادة : إنما قال ذلك إبراهيم في سر من قومه ، ولم يسمعه إلا رجل. واحد وهو الذي أفشاه عليه والواحد يخبر عنه بخبر الجمع إذا كان ما أخبر به مما يرضى به غيره ومثله {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون : 8]. وقيل : إنما قاله بعد خروج القوم ، ولم يبق منهم إلا الضعفاء فهم الدين سمعوه. وكان إبراهيم احتال في التخلف عنهم بقوله : {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات : 89] أي ضعيف عن الحركة.
قوله تعالى : {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} أي فتاتا. والجذ الكسر والقطع ؛ جذذت الشيء كسرته وقطعته. والجذاذ والجذاذ ما كسر منه ، والضم أفصح من كسره. قاله الجوهري. الكسائي : ويقال لحجارة الذهب جذاذ ؛ لأنها تكسر. وقرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن {جِذَاذًا} بكسر الجيم ؛ أي كسرا وقطعا جمع جذيذ وهو الهشيم وهذا هو الكيد الذي أقسم به ليفعلنه بها. وقال : {فَجَعَلَهُمْ} ؛ لأن القوم اعتقدوا في أصنامهم الإلهية.

 {إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ} أي عظيم الآلهة في الخلق فإنه لم يكسره. وقال السدي ومجاهد : ترك الصنم الأكبر وعلق الفأس الذي كسر به الأصنام في عنقه ؛ ليحتج به عليهم. {لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} أي إلى إبراهيم دينه {يَرْجِعُونَ} إذا قامت الحجة عليهم. وقيل : {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ} أي إلى الصنم الأكبر {يَرْجِعُونَ} في تكسيرها.
الآيات : 59 - 60 {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ، قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ، قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}
الآية : {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}
قوله تعالى : {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} المعنى لما رجعوا من عيدهم ورأوا ما أحدث بآلهتهم ، قالوا على جهة البحث والإنكار : {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ}. وقيل : "من" ليس استفهاما ، بل هو ابتداء وخبره {لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أي فاعل هذا ظالم. والأول أصح لقوله : {سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ} وهذا هو جواب {مَنْ فَعَلَ هَذَا}. والضمير في {قَالُوا} للقوم الضعفاء الذين سمعوا إبراهيم

. ومعنى {يَذْكُرُهُمْ} يعيبهم ويسبهم فلعله الذي صنع هذا. قوله تعالى : {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} فيه مسألة واحدة ، وهي أنه لما بلغ الخبر نمرود وأشراف قومه ، كرهوا أن يأخذوه بغير بينة ، فقالوا : ائتوا به ظاهرا بمرأى من الناس حتى يروه {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} عليه بما قال ؛ ليكون ذلك حجة عليه. وقيل : {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} عقابه فلا يقدم أحد على مثل ما أقدم عليه. أو لعل قوما {يَشْهَدُونَ} بأنهم رأوه يكسر الأصنام ، أو {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} طعنه على آلهتهم ؛ ليعلموا أنه يستحق العقاب.
قلت : وفي هذا دليل على أنه كان لا يؤاخذ أحد بدعوى أحد فيما تقدم ؛ لقوله تعالى : {فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} وهكذا الأمر في شرعنا ولا خلاف فيه.
الآيتان : 62 - 63 {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ}
قوله تعالى : {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} فيه أربع مسائل : -
الأولى : لما لم يكن السماع عاما ولا ثبتت الشهادة استفهموه هل فعل أم لا ؟ وفي الكلام حذف فجاء إبراهيم حين أتى به فقالوا أأنت فعلت هذا بالآلهة ؟ فقال لهم إبراهيم على جهة الاحتجاج عليهم : {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}. فقال لهم إبراهيم على جهة الاحتجاج عليهم : {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}. أي إنه غار وغضب من أن يعبد هو ويعبد الصغار معه ففعل هذا بها لذلك ، إن كانوا ينطقون فاسألوهم. فعلق فعل الكبير بنطق الآخرين ؛ تنبيها لهم على فساد اعتقادهم. كأنه قال : بل هو الفاعل إن نطق هؤلاء.

وفي الكلام تقديم على هذا التأويل في قوله : {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ}. وقيل : أراد بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون. بين أن من لا يتكلم ولا يعلم لا يستحق أن يعبد. وكان قول من المعاريض ، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب. أي سلوهم إن نطقوا فإنهم يصدقون ، وإن لم يكونوا ينطقون فليس هو الفاعل. وفي ضمن هذا الكلام اعتراف بأنه هو الفاعل وهذا هو الصحيح لأنه عدده على نفسه ، فدل أنه خرج مخرج التعريض. وذلك أنهم كانوا يعبدونهم ويتخذونهم آلهة من دون الله ، كما قال إبراهيم لأبيه : {يَا أَبَتِ لِمَ تَعبد مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم : 42]

فقال إبراهيم : {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ليقولوا إنهم لا ينطقون ولا ينفعون ولا يضرون ؛ فيقول لهم فلم تعبدونهم ؟ فتقوم عليهم الحجة منهم ، ولهذا يجوز عند الأمة فرض الباطل مع الخصم حتى يرجع إلى الحق من ذات نفسه ؛ فإنه أقرب في الحجة وأقطع للشبهة ، كما قال لقومه : {هَذَا رَبِّي} وهذه أختي و {إِنِّي سَقِيمٌ} وبل فعله كبيرهم هذا


الآيات : 64 - 69 {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ ، قَالَ أَفَتَعبد ونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ ، أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعبد ونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}
قوله تعالى : {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ} أي رجع بعضهم إلى بعض رجوع المنقطع عن حجته ، المتفطن لصحة حجه خصمه {فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} أي بعبادة من لا ينطق بلفظة ، ولا يملك لنفسه لحظة ، وكيف ينفع عابديه ويدفع عنهم البأس ، من لا يرد عن رأسه الفأس. {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} أي عادوا إلى جهلهم وعبادتهم فقالوا {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} فـ {قَالَ} قاطعا لما به يهذون ، ومفحما لهم فيما يتقولون {قَالَ أَفَتَعبد ونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ. أُفٍّ لَكُمْ} أي النتن لكم {وَلِمَا تَعبد ونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} . وقيل : {نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} أي طأطأوا رؤوسهم خجلا من إبراهيم ، وفيه نظر ؛ لأنه لم يقل نكسوا رؤوسهم ، بفتح الكاف بل قال : {نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} أي ردوا على ما كانوا عليه في أول الأمر وكذا قال ابن عباس ، قال : أدركهم الشقاء فعادوا إلى كفرهم.

الآيتان : 68 - 69 {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ}
قوله تعالى : {قَالُوا حَرِّقُوهُ} لما انقطعوا بالحجة أخذتهم عزة بإثم وانصرفوا إلى طريق الغشم والغلبة وقالوا حرقوه. {وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} بتحريق إبراهيم لأنه يسبها ويعيبها. وجاء في الخبر : أن نمرود بنى صرحا طوله ثمانون ذراعا وعرضه أربعون ذراعا. قال ابن إسحاق : وجمعوا الحطب شهرا ثم أوقدوها ، واشتعلت واشتدت ، حتى أن كان الطائر ليمر بجنباتها فيحترق من شدة وهجها. ثم قيدوا إبراهيم ووضعوه في المنجنيق مغلولا. ويقال : إن إبليس صنع لهم المنجنيق يومئذ. فضجت السموات والأرض ومن فيهن من الملائكة وجميع الخلق ، إلا الثقلين ضجة واحدة : ربنا! إبراهيم ليس في الأرض أحد يعبدك غيره يحرق فيك فأذن لنا في نصرته.

 فقال الله تعالى : "إن استغاث بشيء منكم أو دعاه فلينصره فقد أذنت له في ذلك وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه" فلما أرادوا إلقاءه في النار ، أتاه خزان الماء - وهو في الهواء - فقالوا : يا إبراهيم إن أردت أخمدنا النار بالماء. فقال : لا حاجة لي إليكم. وأتاه ملك الريح فقال : لو شئت طيرت النار. فقال : لا. ثم رفع رأسه إلى السماء فقال : “اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض ليس أحد يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل”. وروى أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن إبراهيم حين قيدوه ليلقوه في النار قال لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك" قال : ثم رموا به في المنجنيق من مضرب شاسع ، فاستقبله جبريل ؛ فقال : يا إبراهيم ألك حاجة ؟ قال : “أما إليك فلا”. فقال جبريل : فاسأل ربك. فقال : “حسبي من سؤالي علمه بحالي”.

 فقال الله تعالى وهو أصدق القائلين : {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} قال بعض العلماء : جعل الله فيها بردا يرفع حرها ، وحرا يرفع بردها ، فصارت سلاما عليه. قال أبو العالية : ولو لم يقل {بَرْداً وَسَلاماً} لكان بردها أشد عليه من حرها ، ولو لم يقل {عَلَى إِبْرَاهِيمَ} لكان بردها باقيا على الأبد.

الآيات : 70 - 73 {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ، وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ، وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ ، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}

قوله تعالى : {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً} أي أراد نمرود وأصحابه أن يمكروا به {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} في أعمالهم ، ورددنا مكرهم عليهم بتسليط أضعف خلقنا. قال ابن عباس : سلط الله عليهم أضعف خلقه البعوض ، فما برح نمرود حتى رأى عظام أصحابه وخيله تلوح ، أكلت لحومهم وشربت دماءهم ، ووقعت واحدة في منخره فلم تزل تأكل إلى أن وصلت دماغه ، وكان أكرم الناس عليه الذي يضرب رأسه بمرزبة من حديد.
قوله تعالى : {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} يريد نجينا إبراهيم ولوطا إلى أرض الشام وكانا بالعراق. وكان “إبراهيم” عليه السلام عمه ؛ قال ابن عباس. وقيل : لها مباركة لكثرة خصبها وثمارها وأنهارها ؛ ولأنها معادن الأنبياء. والبركة ثبوت الخير ، ومنه برك البعير إذا لزم مكانه فلم يبرح. وقال ابن عباس : الأرض المباركة مكة. وقيل : بيت المقدس ؛ لأن منها بعث الله أكثر الأنبياء ، وهي أيضا كثيرة الخصب والنمو ، عذبة الماء ، ومنها يتفرق في الأرض. قال أبو العالية : ليس ماء عذب إلا يهبط من السماء إلى الصخرة التي ببيت المقدس ، ثم يتفرق في الأرض. ونحوه عن كعب الأحبار. وقيل : الأرض المباركة مصر.
قوله تعالى : {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} أي زيادة ؛ لأنه دعا في إسحاق وزيد في يعقوب من غير دعاء فكان ذلك نافلة ؛ أي زيادة على ما سأل ؛ إذ قال : {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات : 100]. ويقال لولد الولد نافلة ؛ لأنه زيادة على الولد. {وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ} أي وكلا من إبراهيم وإسحاق ويعقوب جعلناه صالحا عاملا بطاعة الله. وجعلهم صالحين إنما يتحقق بخلق الصلاح والطاعة لهم ، وبخلق القدرة على الطاعة ، ثم ما يكتسبه العبد فهو مخلوق لله تعالى.
قوله تعالى : {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} أي رؤساء يقتدى بهم في الخيرات وأعمال الطاعات. ومعنى {بِأَمْرِنَا} أي بما أنزلنا عليهم من الوحي والأمر والنهي ؛ فكأنه قال يهدون بكتابنا وقيل : المعنى يهدون الناس إلى ديننا بأمرنا إياهم بإرشاد الخلق ، ودعائهم إلى التوحيد. {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} أي أن يفعلوا الطاعات. {وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} أي مطيعين.

15-عاد وثمود

50 {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} 51 {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ} 52 {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ}
53 {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} 54 {إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} 55 {مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} 56 {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 57 {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}
58 {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} 59 {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} 60 {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ}
قوله تعالى : {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} أي وأرسلنا ، فهو معطوف على "أرسلنا نوحا". وقيل له أخوهم لأنه منهم ، وكانت القبيلة تجمعهم ؛ كما تقول : يا أخا تميم. وقيل : إنما قيل له أخوهم لأنه من بني آدم كما أنهم من بني آدم " وكانوا عبدة الأوثان ؛ وعاد اسم رجل ثم استمر على قوم انتسبوا إليه. {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} أي ما أنتم في اتخاذكم إلها غيره إلا كاذبون عليه جل وعز.
قوله تعالى : {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} والفطرة ابتداء الخلق.
{أَفَلا تَعْقِلُونَ} ما جرى على قوم نوح لما كذبوا الرسل.
قوله تعالى : {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}. {يُرْسِلِ السَّمَاءَ} وفيه معنى المجازاة. {عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً}  وفيه معنى التكثير ؛ أي يرسل السماء بالمطر متتابعا يتلو بعضه بعضا ؛ وكان قوم هود - أعني عادا - أهل بساتين وزروع وعمارة ، وكانت مساكنهم الرمال التي بين الشام واليمن

{وَيَزِدْكُمْ} عطف على يرسل. {قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} قال مجاهد : شدة على شدتكم. وقال الزجاج : المعنى يزدكم قوة في النعم. {وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} أي لا تعرضوا عما أدعوكم إليه ، وتقيموا على الكفر
قوله تعالى : {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} أي حجة واضحة. {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} إصرارا منهم على الكفر.
قوله تعالى : {إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ} أي أصابك. {بَعْضُ آلِهَتِنَا} أي أصنامنا. {بِسُوءٍ} أي بجنون لسبك إياها ، عن ابن عباس وغيره. يقال : عراه الأمر واعتراه إذا ألم به. ومنه {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج : 36]. { قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ} أي على نفسي. {وَاشْهَدُوا} أي وأشهدكم ؛ لا أنهم كانوا أهل شهادة ، ولكنه نهاية للتقرير ؛ أي لتعرفوا {أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} أي من عبادة الأصنام التي تعبدونها.

{فَكِيدُونِي جَمِيعاً} أي أنتم وأوثانكم في عداوتي وضري. {ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} أي لا تؤخرون. وهذا القول مع كثرة الأعداء يدل على كمال الثقة بنصر الله تعالى. وهو من أعلام النبوة ، أن يكون الرسول وحده يقول لقومه : {فَكِيدُونِي جَمِيعاً} . وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لقريش. وقال نوح صلى الله عليه وسلم {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس : 71] الآية.
قوله تعالى : {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} أي رضيت بحكمه ، ووثقت بنصره. {مَا مِنْ دَابَّةٍ} أي نفس تدب على الأرض .

 {إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} أي يصرفها كيف يشاء ، ويمنعها مما يشاء . قال ابن جريج : إنما خص الناصية ؛ لأن العرب تستعمل ذلك إذا وصفت إنسانا بالذلة والخضوع ؛ فيقولون. ما ناصية فلان إلا بيد فلان ؛ أي إنه مطيع له يصرفه كيف يشاء. وكانوا إذا أسروا أسيرا وأرادوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته ليعرفوا بذلك فخرا عليه ؛ فخاطبهم بما يعرفونه في كلامهم.

وقال ، الترمذي الحكيم في "نوادر الأصول"قوله تعالى : {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} وجهه عندنا أن الله تعالى قدر مقادير أعمال العباد ، ثم نظر إليها ، ثم خلق خلقه ، وقد نفذ بصره في جميع ما هم فيه عاملون من قبل أن يخلقهم ، فلما خلقهم وضع نور تلك النظرة في نواصيهم فذلك النور آخذ بنواصيهم ، يجريهم إلى أعمالهم المقدرة عليهم يوم المقادير. وخلق الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ؛ رواه عبدالله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة" .

ولهذا قويت الرسل وصاروا من أولي العزم لأنهم لاحظوا نور النواصي ، وأيقنوا أن جميع خلقه منقادون بتلك الأنوار إلى ما نفذ بصره فيهم من الأعمال ، فأوفرهم حظا من الملاحظة أقواهم في العزم ، ولذلك ما قوي هود النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال : {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}

 وإنما سميت ناصية لأن الأعمال قد نصت وبرزت من غيب الغيب فصارت منصوصة في المقادير ، قد نفذ بصر الخالق في جميع حركات الخلق بقدرة ، ثم وضعت حركات كل من دب على الأرض حيا في جبهته بين عينيه ، فسمي ذلك الموضع منه ناصية ؛ لأنها تنص حركات العباد بما قدر ؛ فالناصية مأخوذة بمنصوص الحركات التي نظر الله تعالى إليها قبل أن يخلقها .

ووصف ناصية أبي جهل فقال : {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق : 16] يخبر أن النواصي فيها كاذبة خاطئة {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قال النحاس : الصراط في اللغة المنهاج الواضح ؛ والمعنى أن الله جل ثناؤه وإن كان يقدر على كل شيء فإنه لا يأخذهم إلا بالحق. وقيل : معناه لا خلل في تدبيره ، ولا تفاوت في خلقه سبحانه.
قوله تعالى : {فَإِنْ تَوَلَّوْا} {فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} بمعنى قد بينت لكم. {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ} أي يهلككم ويخلق من هو أطوع له منكم يوحدونه ويعبدونه. {وَيَسْتَخْلِفُ} مقطوع مما قبله فلذلك ارتفع ؛ أو معطوف على ما يجب فيما بعد الفاء من قوله : {فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ} . وروي عن حفص عن عاصم وَيَسْتَخْلِفُ} بالجزم حملا على موضع الفاء وما بعدها ؛ مثل : {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف : 186].
قوله تعالى : {وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً} أي بتوليكم وإعراضكم. {إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} أي لكل شيء حافظ. "على" بمعنى اللام ؛ فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء.

قوله تعالى : {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} أي عذابنا بهلاك عاد. {نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} لأن أحدا لا ينجو إلا برحمة الله تعالى ، وإن كانت له أعمال صالحة. وفي صحيح مسلم والبخاري وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم "لن ينجي أحدا منكم عمله. قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ ! قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه" .

وقيل : معنى "برحمة منا" بأن بينا لهم الهدى الذي هو رحمة. وكانوا أربعة آلاف. وقيل : ثلاثة آلاف. {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} أي عذاب يوم القيامة. وقيل : هو الريح العقيم قال القشيري أبو نصر والعذاب الذي يتوعد به النبي أمته إذا حضر ينجي الله منه النبي والمؤمنين معه ؛ نعم! لا يبعد أن يبتلي الله نبيا وقومه فيعمهم ببلاء فيكون ذلك عقوبة للكافرين ، وتمحيصا للمؤمنين إذا لم يكن مما توعدهم النبي به.
قوله تعالى : {وَتِلْكَ عَادٌ} ابتداء وخبر. وحكى الكسائي أن من العرب من لا يصرف {عَادٌ} فيجعله اسما للقبيلة. {جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ} أي كذبوا بالمعجزات وأنكروها. {وَعَصَوْا رُسُلَهُ} يعني هودا وحده ؛ لأنه لم يرسل إليهم من الرسل سواه. ونظيره قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون : 51] يعني النبي صلى الله عليه وسلم وحده ؛ لأنه لم يكن في عصره رسول سواه .

وإنما جمع ههنا لأن من كذب رسولا واحدا فقد كفر بجميع الرسل. وقيل : عصوا هودا والرسل قبله ، وكانوا بحيث لو أرسل إليهم ألف رسول لجحدوا الكل. {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} أي اتبع سقاطهم رؤساءهم. والجبار المتكبر. والعنيد الطاغي الذي لا يقبل الحق ولا يذعن له
قوله تعالى : {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} أي ألحقوها. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي واتبعوا يوم القيامة مثل ذلك ؛ فالتمام على قوله : {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ}. {أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ} قال الفراء : أي كفروا نعمة ربهم ؛ قال : ويقال كفرته وكفرت به ، مثل شكرته وشكرت له. {أَلا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} أي لا زالوا مبعدين عن رحمة الله. والبعد الهلاك والبعد التباعد من الخير.

61 {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}
فيه خمس مسائل : -
الأولى - قوله تعالى : {وَإِلَى ثَمُودَ} أي أرسلنا إلى ثمود {أَخَاهُمْ} أي في النسب. {صَالِحاً}
الثانية : - قوله تعالى : {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}. {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} أي ابتدأ خلقكم من الأرض ، وذلك أن آدم خلق من الأرض وهم منه ، {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} أي جعلكم عمارها وسكانها. قال مجاهد : ومعنى "استعمركم" أعمركم من قوله : أعمر فلان فلانا داره ؛ فهي له عمرى. وقال قتادة : أسكنكم فيها ؛ وعلى هذين القولين تكون استفعل بمعنى أفعل ؛ مثل استجاب بمعنى أجاب.

 وقال الضحاك : أطال أعماركم ، وكانت أعمارهم من ثلاثمائة إلى ألف. ابن عباس  "أعاشكم فيها". زيد بن أسلم : أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن ، وغرس أشجار. وقيل : المعنى ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار وغيرها.
الثالثة :  قال ابن العربي قال بعض علماء الشافعية : الاستعمار طلب العمارة  ؛ فقوله تعالى : {اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} خلقكم لعمارتها الرابعة :  ويكون فيها دليل على الإسكان والعمرى

قوله تعالى : {فَاسْتَغْفِرُوهُ} أي سلوه المغفرة من عبادة الأصنام. {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أي ارجعوا إلى عبادته. {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} أي قريب الإجابة لمن دعاه.
الآية : 62 {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}الآية : 63 {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ}الآية : 64 {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ}
الآية : 65 {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ}
الآية : 66 {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ}الآية : 67 {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}
الآية : 68 {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ}
قوله تعالى : {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا} أي كنا نرجو أن تكون فينا سيدا قبل هذا ؛ أي قبل دعوتك النبوة. وقيل : كان صالح يعيب آلهتهم ويشنؤها ، وكانوا يرجون رجوعه إلى دينهم ، فلما دعاهم إلى الله قالوا : انقطع رجاؤنا منك. {أَتَنْهَانَا} استفهام معناه الإنكار. {أَنْ نَعْبُدَ} أي عن أن نعبد. {مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}. {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ} . {مِمَّا تَدْعُونَا} الخطاب لصالح ،
قوله تعالى : {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} استفهام معناه النفي ؛ أي لا ينصرني منه إن عصيته أحد. {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} أي تضليل وإبعاد من الخير ؛ قال الفراء. والتخسير لهم لا له صلى الله عليه وسلم ؛ كأنه قال : غير تخسير لكم لا لي. وقيل : المعنى ما تزيدونني باحتجاجكم بدين آبائكم غير بصيرة بخسارتكم ؛
قوله تعالى : {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} ابتداء وخبر. {لَكُمْ آيَةً} نصب على الحال ، والعامل معنى الإشارة أو التنبيه في {هَذِهِ} . وإنما قيل : ناقة الله ؛ لأنه أخرجها لهم من جبل - على ما طلبوا - على أنهم يؤمنون. وقيل : أخرجها من صخرة صماء منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاثبة ، فلما خرجت الناقة - على ما طلبوا - قال لهم نبي الله صالح : {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ} أمر وجوابه ؛ وحذفت النون من {فَذَرُوهَا} لأنه أمر. {تَأْكُلْ} على الحال والاستئناف. {وَلا تَمَسُّوهَا} جزم بالنهي. {بِسُوءٍ} قال الفراء : بعقر. {فَيَأْخُذَكُمْ} جواب النهي. {عَذَابٌ قَرِيبٌ} أي قريب من عقرها.قوله تعالى : {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} فيه مسألتان : الأولى - قوله تعالى : {فَعَقَرُوهَا} إنما عقرها بعضهم ؛ وأضيف إلى الكل لأنه كان برضا الباقين. {فَقَالَ تَمَتَّعُوا} أي قال لهم صالح تمتعوا ؛ أي بنعم الله عز وجل قبل العذاب. {فِي دَارِكُمْ} أي في بلدكم ، ولو أراد المنزل لقال في دوركم. وقيل : أي يتمتع كل واحد منكم في داره ومسكنه ؛ وعبر عن التمتع بالحياة لأن الميت لا يتلذذ ولا يتمتع بشيء ؛ فعقرت يوم الأربعاء ، فأقاموا يوم الخميس والجمعة والسبت وأتاهم العذاب يوم الأحد. وإنما أقاموا ثلاثة أيام ؛ لأن الفصيل رغا ثلاثا " فاصفرت ألوانهم في اليوم الأول ، ثم احمرت في الثاني ، ثم اسودت في الثالث ، وهلكوا في الرابع ؛

قوله تعالى : {ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} أي غير كذب. وقيل : غير مكذوب فيه.
قوله تعالى : {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} أي عذابنا. {نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} أي ونجيناهم من خزي يومئذ ؛ أي من فضيحته وذلته.
قوله تعالى : {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} أي في اليوم الرابع صيح بهم فماتوا ؛ وذكر لأن الصيحة والصياح واحد. قيل : صيحة جبريل. وقيل : صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة ؛ وصوت كل شيء في الأرض ، فتقطعت قلوبهم وماتوا. وقال هنا : {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ}

وفي التفسير : أنهم لما أيقنوا بالعذاب قال بعضهم لبعض ما مقامكم أن يأتيكم الأمر بغتة ؟ ! قالوا : فما نصنع ؟ فأخذوا سيوفهم ورماحهم وعددهم ، وكانوا فيما يقال اثني عشر ألف قبيلة ، في كل قبيلة اثنا عشر ألف مقاتل ، فوقفوا على الطرق والفجاج ، زعموا يلاقون العذاب ؛ فأوحى الله تعالى إلى الملك الموكل بالشمس أن يعذبهم بحرها ؛ فأدناها من رؤوسهم فاشتوت أيديهم ، وتدلت ألسنتهم على صدورهم من العطش ، ومات كل ما كان معهم من البهائم. وجعل الماء يتفور من تلك العيون من غليانه حتى يبلغ السماء ، لا يسقط على شيء إلا أهلكه من شدة حره ، فما زالوا كذلك ، وأوحى الله إلى ملك الموت ألا يقبض أرواحهم تعذيبا لهم إلى أن غربت الشمس ؛ فصيح بهم فأهلكوا. {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} أي ساقطين على وجوههم ، قد لصقوا بالتراب كالطير إذا جثمت.-------

 

 

 

المراجع

القرآن الكريم

1-              الجامع لاحكام القرآن – أبو عبد الله محمد بن أحمد الانصاري القرطبي – دار الفكر للطباعة والنشر 1991

2-              مختصر الطبري للامام محمد بن جرير الطبري

3-              الميزان فى تفسير القرآن

4-              فتح الرحمن فى تفسير القران

5-              علوم الحديث للامام ابن كثير

6-              سير أعلام النبلاء

7-              فتح الباري-- للبخاري

8-              تهذيب التهذيب--  للحافظ ابن حجر العسقلاني

9-              رياض الصالحين للامام شرف الدين النووي الدمشقي – دار المنار للطباعة والنشر

10-         لسان العرب-- ابن منظور 

11-         معجم الادباء – ياقوت الحموي

12-         اظهار الحق – رحمت الله الهندي

13-         هداية الحيارى – ابن قيم الجوزية

14-         الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح-- ابن تيمية

15-         الصفة على المذاهب الاربعة -عبد الرحمن الحريرى

16-         محمد فى التوراة والانجل والقران - إبراهيم خليل أحمد

17-         محمد فى الكتاب المقدس- عبد الأحد داود

18- صدق الإخبارات عن الحوادث المستقبلية                            

19-قصة الحضارة . ويل ديورانت – ترجمة محمد بدران

20- أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها. ط1. دار القلم. بيروت. دمشق، 1395هـ.

21- الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي. هنري كلود و اندريه برينان و ايف لاكوست. ترجمة : محمد عيتاني مكتبة المعارف. بيروت.

22- الاستعمار. أحقاد وأطماع. محمد الغزالي. ط2. الدار السعودية للنشر. جدة، 1389هـ.

23- الإسلام والتحدي التنصيري. عمر بابكور. معهد البحث العلمي. جامعة أم القرى، 1407هـ.

24-التبشير والاستشراق، محمد عزت الطهطاوي، ط1، الزهراء للإعلام العربي، 1411هـ.

25- التبشير والاستعمار في البلاد العربية، مصطفى خالدي وعمر فروخ، منشورات المكتبة العصرية، صيدا، 1983م.

26- حقيقة التبشير بين الماضي والحاضر. أحمد عبد الوهاب. ط1. مكتبة وهبة، 1401هـ.

27- التبشير والاستعمار في البلاد العربية، مصطفى خالدي وعمر فروخ، منشورات المكتبة العصرية، صيدا، 1983م.

28- حقيقة التبشير بين الماضي والحاضر. أحمد عبد الوهاب. ط1. مكتبة وهبة، 1401هـ.

29- رسالة الطريق إلى ثقافتنا، محمود شاكر، دار المدني، جدة، مكتبة الخانجي، مصر، 1407هـ.

30- العالم الإسلامي والاستعمار السياسي والإجتماعي والثقافي، أنور الجندي ط1، دار المعرفة، 1970م..

31-الاسلام وتحديات  الانحطاط المعاصر /منير شفيق 

32-لماذا تاخر الاسلام  /المير شكيب ارسلان

33-وثائق الحروب الصليبية والغزو المغولى للعالم الاسلامى  /د/محمد ماهر حمادة 

34-قادة الغرب يقولون / جلال العالم

35-الغارة على العالم الاسلامى /محب الدين الخطيب

36-تاريخ افريقيا الحديث والمعاصر

37-حاضر العالم الاسلامى وقضاياه المعاصرة د/ جميل عبد الله محمد المصرى

38-بروتوكولات حكماء صهيون ترجمة د / أحمد السقا

39-تاريخ الأقباط  -- زكى شنودة

40-سفر  التكوين

41-سفر الخروج

42-سفر التثنية

43-سفر اللاوين

 

 

 

ويحسبون أنهم مهتدون

Download

About the book

Author :

أحمد إسماعيل زيد

Publisher :

www.islamland.com

Category :

Biographies & Scholars