إتحاف أهل الألباب بمعرفة التوحيد والعقيدة فى سؤال وجواب

كتاب قيم لفضيلة الشيخ وليد بن راشد السعيدان - أثابه الله -، يطرح فيه مسائل العقيدة عن طريق السؤال والجواب، وهي طريقة جديدة محببة للنفوس سهلة المأخذ عظيمة الفائدة جميلة العائدة.


إتحاف أهل الألباب
بمعرفة التوحيد والعقيدة
في سؤال وجواب

تأليف
الشيخ : وليد بن راشد بن سعيدان

 

 

وبه أستعين وعليه أتوكل
    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا .. ثم أما بعد :
    فلا زلنا - ولله الحمد والمنة - نبدئ في التوحيد ونعيد ، ونسهب فيه ونختصر ؛ وذلك لأنه الحكمة والغاية التي من أجلها خُلقنا وعليه مدار السعادة في الدارين ولا نجاة للعباد إلا به ، فهو موضوع حياتنا الذي لا ينتهي وموئل عزنا الذي لا ينقضي ، والتنويع في عرضه والتفنن في طرح مسائله من المطالب المهمة ، فإذا أحسست من نفسك الأمارة بالسوء كبرًا عن سماع مسائله أو استصغارًا لها فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم فإنها نزغة من نزغاته ونفخة من كيره العفن - أعاذنا الله وإياك من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن - .
    وإني والفضل لله أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا قد نوعت طرح مسائله ، فنظمته في القصيدة النونية ، وقعدته في القواعد المذاعة ، واستخرجت فوائده في القول الرشيد ، والله المسئول وحده لا شريك له أن ينزل في ذلك البركة تلو البركة ، وأن يجعله نافعًا لي ولعامة المسلمين النفع العاجل والآجل ، وأن يشرح لها الصدور ويفتح فيها الأفهام .
    وهاأنذا أشرع في طرح مسائله بطريقة جديدة محببة للنفوس سهلة المأخذ عظيمة الفائدة جميلة العائدة ، وهي طريقة السؤال والجواب ، ولست في هذه الطريقة حائز قصب السبق ، فإنه قد سبقني لها الأكابر الفضلاء الأجلاء أهل المنازل العالية والمراتب السامية ، وإنما قصدي بها التشبه بهم عسى أن أحشر معهم فإن (( من تشبه بقومٍ فهو منهم )) ، رفع الله نزلهم وأجزل لهم الأجر والمثوبة وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ، ورحم الله أمواتهم وغفر لهم وجمعنا بهم في الجنة ، وثبت أحياءهم على القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولا حرمنا الله بركة الانتفاع بعلمهم ، وعسى أن لا أفسد عليهم أو أكون بهذه الكتابة متطفلاً عليهم ، فأعوذ بالله عز وجل من زلل البنان واللسان ، وأسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يهديني سواء السبيل وأن يمن علي بالقول الأحسن .
   وأسميت هذه الوريقات ( إتحاف أهل الألباب بمعرفة التوحيد والعقيدة في سؤال وجواب ) ، فيا رب أسألك باسمك الأعظم الذي لا يرد من سألك به أن تعين عبيدك الضعيف على إتمامه على أكمل الوجوه وأتم الطرق وأن تنزل فيه البركة تلو البركة وأن تجعله عملاً خالصًا لوجهك الكريم لا أرجو به مدحًا ولا ثناءً من أحد من خلقك ، وأن ترزقه القبول العام وأن تجعله مرجعًا في هذه المسائل ، ويا رب أعوذ بوجهك ذي الجلال والإكرام أن تجعله وبالاً عليَّ ، وارحم ضعفي وعجزي وقلة علمي وفهمي واغفر لي تقصيري وزللي إنك أنت أرحم الراحمين.
    وإلى المقصود والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .


 
    س1: ما الأشياء التي يساق منها المعتقد مع بيان ذلك بالدليل ؟
    ج1: هذا سؤال عظيم النفع غزير الفائدة كثير البركة وعليه مدار الشريعة وهو الفيصل بين المسلمين وغيرهم وبين أهل السنة وأهل البدعة ، وجوابه أن يقال : إن أمور الاعتقاد ومسائله لا تساق إلا من كتاب الله جل وعلا وما صح من سنة نبيه  ، فإنهما المعين الصافي الذي لا شوب فيه ولا كدر ، فأهل السنة والجماعة ، بل المسلمون على وجه العموم لا يأخذون معتقدهم إلا من الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة  ، وليس لهم إلا هذان الأصلان العظيمان ، وفيهما الهداية والكفاية لمن أراد الله هدايته ، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله  : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) متفق عليه ، ولمسلم : (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) .
    وعن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله  : (( أما بعد : فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد  وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة )) رواه مسلم .
    وعن العرباض بن سارية  قال : صلى بنا رسول الله  ذات يومٍ ثم أقبل علينا بوجهه فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال رجل : يا رسول الله كأنها موعظة مودعٍ فأوصنا ، فقال : (( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبدًا حبشيًا فإنه من يعش منكم فسيري اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه بسندٍ صحيح .
    وعن ابن مسعودٍ  قال : خط لنا رسول الله  خطًا ثم قال : (( هذا سبيل الله )) ، ثم خط خطوطًا عن يمينه وشماله وقال : (( هذه سبل وعلى كل سبيل شيطان يدعو إليه )) وقرأ :  وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله  رواه أحمد والنسائي بسندٍ حسن وصححه الحاكم .
    وعن عبدالله بن عمرو  قال : قال رسول الله  : (( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به )) وفي سنده ضعف .
    وعن أبي موسى  قال : قال رسول الله  : (( إن مثل ما بعثني الله من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت العشب والكلأ الكثير ، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني به فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به )) متفق عليه .
    وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده كتاب الله وسنتي )) .
    وعلى ما دلت عليه هذه النقول انعقد إجماع أهل السنة والجماعة ، فقال عبدالله بن مسعود : ( اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم ) ، وقال  : ( إنا نقتدي ولا نبتدي ونتبع ولا نبتدع ولن نضل ما تمسكنا بالأثر ) .
    وقال محمد بن سيرين - رحمه الله تعالى - : ( كانوا - أي السلف - يرون أنهم على الطريق ما كنوا على الأثر ) .
    وقال شاذ بن يحيى - رحمه الله تعالى - : ( ليس طريق أقصد إلى الجنة من طريق من سلك الآثار ) .
    وقال جمع من الصحابة والسلف - رحمهم الله تعالى - : ( الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة ) .
    وقال ابن عمر  : ( كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة ) .
    وقال عبدالله بن الديلمي - رحمه الله تعالى - : ( إن أول ذهاب الدين ترك السنة يذهب الدين سنة سنة كما يذهب الحبل قوة قوة ) .
    والنقول وكلام السلف في ذلك كثير ، وإنما المقصود الإشارة ، فهذه النقول الصحيحة الصريحة تفيدك إفادة قطعية أنه يجب الاعتصام بالكتاب والسنة وأن لا يؤخذ المعتقد إلا منهما ، جعلنا الله وإياك من المتبعين لهما باطنًا وظاهرًا ، والله أعلم .
*  *  *
    س2: هل هناك طوائف أخذت معتقدها من غير الكتاب والسنة ؟
    ج2: نعم ، بل طوائف كثيرة خالفت منهج الكتاب والسنة، فأهل الكلام المذموم لا يأخذون معتقدهم إلا من عقولهم العفنة المنتنة ، فما وافق عقولهم من النقول أخذوه واعتمدوه وما خالفه ردوه واتهموه ، فتارة يردونه ؛ لأنه خبر آحاد ، وتارة يردون المعنى بالتحريف الذي يسمونه تأويلاً ، فالعقل عندهم مقدم على النقل ، فيثبتون ما أثبتته عقولهم وإن لم يكن عليه دليل ، ويردون ما ترده عقولهم وإن كانت عليه الأدلة المتواترة .
    ومثال آخر : الرافضة ، فإنهم اعتمدوا في أخذ معتقداتهم على المرويات والنقول المكذوبة على آل البيت  .
    ومثال آخر : الصوفية ، فإنهم اعتمدوا في أخذ معتقداتهم على الدجل والخرافة والأحاديث الموضوعة المختلقة والأحلام والمنامات التي لا خطام لها ولا زمام ، وما يدعونه من المكاشفات وخوارق العادات التي هي في حقيقتها أحوال شطانية وخرافات إبليسية ضلل بها جبلاً كثيرًا ؛ لأنهم لا يعقلون ولا من الكتاب والسنة يصدرون .
    والأمثلة كثيرة ، وإذا أردت أن تعرف حقيقة ذلك فاسمع إلى قوله  : (( وستفترق أمتي علا ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ... )) الحديث ، فهذا الكم الهائل من الفرق كلها ضلت في أمور العقيدة ؛ لأنها لم تعتمد في أخذها على كتاب ربها وسنة نبيها  ، والله أعلم .
*  *  *
    س3: مَنْ أهل السنة والجماعة ؟ وما أبرز صفاتهم ؟
    ج3: أهل السنة والجماعة : هم السلف والطائفة المنصورة وأهل الحديث والأثر والفرقة الناجية ، وهم الذين اجتمعوا على الأخذ بكتاب الله تعالى وسنة الحبيب  باطنًا وظاهرًا في الاعتقادات والأقوال والأعمال ، وعلى رأسهم صحابة النبي  والتابعون وتابعوهم بإحسان ، الذين هم خير القرون لقوله  : (( خير القرون القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم )) وهو في الصحيح .
    وأما صفاتهم فهي كثيرة ، لكن من أبرزها ما يلي :
    الأول : أنهم لا يأخذون معتقدهم إلا من الكتاب والسنة .
    الثاني : أن النقل عندهم مقدم على العقل ، والعقل عندهم وسيلة لفهمه .
    الثالث : أنهم يعتقدون الاعتقاد الجازم أنه لا يتعارض النص الصحيح مع العقل الصريح.
    الرابع : أنهم وسط بين فرق الأمة كوسطية الأمة بين الأمم .
    الخامس : أنهم يقفون حيث وقف النص فلا يقصرون عنه ولا يزيدون عليه .
    السادس : أنهم يأخذون بأخبار الآحاد الصحيحة في إثبات أمور الاعتقاد .
    السابع : أن اعتقادهم لا يتغير ولا يتبدل على مرِّ الأزمنة ؛ لأنه مبني على رواسخ ثابتة وأدلة يقينية من الكتاب والسنة فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
    الثامن : أنهم المشهود لهم بالنجاة والنصر في الدنيا والآخرة ، كما ورد في حديث الافتراق الذي يصح بطرقه .
    التاسع : أن مذهبهم هو الأعلم والأحكم والأسلم .
    العاشر : أن إثباتهم للصفات لا تمثيل فيه وتنزيههم لا تعطيل فيه .
    الحادي عشر : أنهم لا يقعون في خيار الأمة وسلفها بقدحٍ ولا غيره ، بل يستغفرون لهم ويترضون عنهم .
    الثاني عشر : أنهم لا يتسمون إلا باسم الإسلام والإيمان أو ما ورد به الدليل أو وقع عليهم إجماعهم .
    الثالث عشر : أنهم لا يوالون ولا يعادون على شعارات زائفة وأسماء تافهة وأصول ملفقة ، بل عمدتهم في ذلك الكتاب والسنة ، فيوالون من والاهما ويعادون من عاداهما .
    الرابع عشر : أن الحق يدور معهم حيث داروا ، فلا يمكن أبدًا أن يكون الحق مع طائفة دونهم ، بل هم ميزان الطوائف ، فمن وافقهم من الطوائف فإنه ينال من الحق بقدر هذه الموافقة ، ومن خالفهم فإنه زائغ عن الصراط المستقيم بقدر هذه المخالفة .
    الخامس عشر : أن أمور الغيب عندهم مبناها على التوقيف فلا يثبتون منها أو ينفون إلا ما أثبته الدليل أو نفاه ، ولا يقحمون عقولهم فيما ليس لها فيه مجال .
    السادس عشر : أن علمهم هو العلم النافع وعملهم هو العمل الصالح ، وذلك لأنه مبني على الكتاب والسنة وعلى الإخلاص والمتابعة .
    السابع عشر : أنهم لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ثابتين على الحق كما ورد في الحديث الذي رواه مسلم وغيره .
    الثامن عشر : أنهم أكمل الناس إيمانًا وأعمقهم علمًا وأقلهم تكلفًا وأشدهم متابعة للكتاب والسنة وأكملهم تحقيقًا لمراتب الدين من الإسلام والإيمان والإحسان .
    التاسع عشر : أن معهم الحق المطلق وأما غيرهم فليس معه إلا مطلق الحق أي بعض الحق .
    العشرون : أنهم الموفقون للشرب من حوضه  فلا يذادون عنه كما يذاد غيرهم ؛ لأنهم لم يحدثوا ولم يبدلوا ولم يغيروا .
    الحادي والعشرون : أنهم متفقون لا يفترقون ومؤتلفون لا يختلفون .
    جعلنا الله وإياك منهم وحشرنا في زمرتهم ، والله أعلم .
*  *  *
    س4: لماذا خلقنا الله تعالى ؟ مع بيان ذلك بالأدلة .
    ج4: خلقنا الله تعالى لعبادته ، قال تعالى :  وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون  ، وقال تعالى :  يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون  ، وقال تعالى :  ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألاَّ تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم  ، وقال تعالى :  ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألاَّ تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ...  الآية ، وقال تعالى :  وقضى ربك ألاَّ تعبدوا إلا إياه  ، وقال تعالى عن أنبيائه أنهم قالوا لأممهم :  اعبدوا الله ما لكم من إله غيره  قالها نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم وجميع الأنبياء عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم .
    وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ... )) الحديث ، متفق عليه .
    وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( حـق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا )) ، والأدلة على ذلك كثيرة ، والله أعلم .
    س5: ما العبادة ؟ وما أركان قبولها ؟ مع الأدلة .
    ج5: العبادة : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .
    وأركان قبولها ركنان :
    الأول : الإخلاص لله تعالى ، قال تعالى :  وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ألا لله الدين الخالص  ، وقال تعالى :  قل الله أعبد مخلصًا له ديني  .
    وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( إنما الأعمال بالنيات )) الحديث ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه )) ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي يقوم الرجل فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل )) حديث صحيح .
    وقال تعالى :  من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون  .
    والركن الثاني : المتابعة للنبي  ، لحديث عائشة المشهور : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) ، وحديث جابر المشهور: (( وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة )) ، وسيأتي مزيد بيان لذلك - إن شاء الله تعالى - ، والله أعلم .
*  *  *
    س6: كم أقسام التوحيد - باختصار - ؟
    ج6: التوحيد ثلاثة أقسام : توحيد الربوبية ، وتوحيد الألوهية ، وتوحيد الأسماء والصفات .
    وبعض السلف يجعله قسمين اختصارًا :
    الأول : التوحيد في المعرفة والإثبات ، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات .
    والثاني : توحيد في القصد والطلب ، وهو توحيد الألوهية .
    وهو خلاف تنوع لا تضاد ، أي هو اختلاف في العبارة فقط ، والله أعلم .
*  *  *
    س7: ما توحيد الربوبية ؟ وهل الإقرار به وحده كافٍ للحكم بالإسلام ؟ ومن الذي اشتهر عنه إنكاره ؟ مع بيان ذلك بالأدلة .
    ج7: توحيد الربوبية : هو توحيد الله بأفعاله ، من الخلق والملك والتدبير والإحياء والإماتة ونحو ذلك .
    قال تعالى :  الله خالق كل شيء  ، وقال تعالى :  هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض  ، وقال تعالى :  وخلق كل شيء فقدره تقديرًا  ، وقال تعالى :  تبارك الذي بيده الملك  ، وقال تعالى :  ذلكم الله ربكم له الملك  ، وقال تعالى :  يسبح لله ما في السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير  ، وقال تعالى :  مالك يوم الدين  ، وقال تعالى :  وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون  ، والآيات في ذلك كثيرة .
    والإقرار به وحده ليس بكافٍ للحكم بالإسلام ؛ وذلك لأن المشركين كانوا يقرون بهذا التوحيد كما قال تعالى :  ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون  ، وقال تعالى :  قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون . قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون . قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون  ، ومع ذلك قاتلهم النبي  وأمر بقتالهم واستباح دماءهم واسترق رجالهم ونساءهم .
    واعلم أن هذا التوحيد لا يعرف عن أحدٍ من بني آدم أنه أنكره باطنًا ولكن عرف إنكاره ظاهرًا عن فرعون وقومه لعنهم الله تعالى ، قال تعالى :  وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا  ، وقال تعالى عن موسى أنه قال لفرعون :  لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورًا  .
    وعرف إنكاره أيضًا عن الدهرية الذين ينسبون الموت إلى الدهر ، قال تعالى حاكيًا مقالتهم الكفرية :  وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر  .
    وعرف أيضًا إنكاره ظاهرًا عن الثنوية الذين يزعمون أن للعالم خالقين النور والظلمة .
    وكل هذه الطوائف لا تستطيع أن تنكر هذا التوحيد باطنًا وإن أنكروه مكابرة وظلمًا ظاهرًا ؛ لأنه متقرر في الفطرة فإنه  فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله  . وفي الحديث أيضًا : (( خلقت عبادي حنفاء فجاءت الشياطين فاجتالتهم عن دينهم )) . وقال تعالى :  وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين  ، والله أعلم .
*  *  *
    س8: ما التوحيد الذي نزلت به الكتب وأرسلت به الرسل ؟ مع توضيح ذلك بالأدلة .
    ج8: هو توحيد الألوهية وهو توحيد العبادة ، وهو توحيد القصد والطلب ، أي توحيد الله بأفعالنا .
    وعنـدنـا فـي ذلـك قـاعــدة يجـب حـفـظـها وهـي : أن أصل دين الأنبياء واحد وشرائعهم مختلفة .
    ونقصد بأصل الدين أي الدعوة إلى هذا التوحيد ، كما قال تعالى :  ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت  ، وقال تعالى :  وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون  ، فهذا نوح - عليه السلام - يقول لقومه :  اعبدوا الله ما لكم من إله غيره  ، وهذا صالح - عليه السلام - يقول لقومه :  اعبدوا الله ما لكم من إله غيره  ، وهذا شعيب يقول لقومه :  اعبدوا الله ما لكم من إله غيره  ، ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام - : (( نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات ديننا واحد وشرائعنا مختلفة )) ، وفي الحديث السابق : (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله )) متفق عليه من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - .
    فهذا التوحيد هو المطلوب من جميع الأمم على لسان أنبيائهم - عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم - ، وهو الذي وقعت فيه الخصومة بين الأنبياء وأممهم وهو الذي بسبب رفضه ومحاربة أهله أهلك الله تعالى الأمم السابقة ، فاحفظ هذا وتنبه فإن بعض الطوائف تقول : إن التوحيد المطلوب على لسان الرسل هو توحيد الربوبية . وهذا مجانب للصواب ، بل التوحيد المطلوب والذي به نزلت الكتب وأرسلت به الرسل هو توحيد الألوهية ، جعلنا الله وإياك ممن آمن به وحققه وكمل مراتبه ، والله أعلم .
*  *  *
    س9: ما كلمة التوحيد ؟ وما أركانها ؟ وما معناها ؟ مع الدليل .
    ج9: أما كلمة التوحيد فهي ( لا إله إلا الله ) وهي العروة الوثقى .
    وأما أركانها فاثنان : النفي في قولك : ( لا إله ) وهذا نفي لجنس الآلهة ، والإثبات في قولك : ( إلا الله ) وهو إثبات الألوهية لله تعالى .
    وأما معناها فهو : أنه لا معبود بحق في هذا الوجود إلا الله تعالى .
    هذا هو معناها الصحيح ، فاحفظه واشدد عليه يديك ؛ ذلك لأن بعض الطوائف تقول إن معناها لا خالق إلا الله ، أو لا رازق إلا الله أو لا قادر على الاختراع إلا الله ، وهذا صحيح كله ، ولكن ليس هو المعنى الصحيح لهذه الكلمة ، بل المعنى الصحيح لها هو ما ذكرْته لك من أنه لا معبود بحق إلا الله ، قال تعالى :  ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل  ، فلا تغتر بكلام أهل الأهواء ، فإنه لم يبن على علمٍ ولا هدى ، بل مبناه على العماية والضلالة ومخالفة المنقول ومصادمة المعقول ، عافانا الله وإياك من الضلالة والغواية ، والله أعلم .
*  *  *
    س10: لماذا قلت : ( بحق ) ؟ ألا يكفي أن تقول : ( لا معبود إلا الله ) ؟
    ج10: إن هذا القيد مهم جدًا ؛ لأن هناك أشياء عبدت مع الله ، فعُبدت الملائكة والشمس والقمر وعُبد الجن والشياطين وعُبد الشجر والحجر والنجوم ، لكن هذه كلها عبادات باطلة ؛ لأنها صرف للعبادة لمن لا يستحقها ، وإنما العبادة الحق هي لله تعالى ، ولذلك فلابد من قولك ( بحق ) حتى يخرج ما عبد بالباطل كما في الآية السابقة ، والله أعلم .
*  *  *
    س11: اذكر شيئًا مما يدل على فضل هذه الكلمة العظيمة ؟
    ج11: النصوص الواردة في فضلها كثيرة جدًا ، لكن أذكر لك طرفًا منها ، قال تعالى :  فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات  ، وقال تعالى :  شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وألوا العلم قائمًا بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم  .
    وقال - عليه الصلاة والسلام -: (( من مات وهو يعلم ألا إله إلا الله دخل الجنة )) رواه مسلم ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله )) ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( ما من عبدٍ قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة وإن زنى وإن سرق - ثلاثًا - )) متفق عليه ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( أسعـد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه )) ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( أشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبدٌ غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة )) متفق عليه ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( قال موسى : يا رب علمني شيئًا أذكرك وأدعوك به . قال : يا موسى قل : لا إله إلا الله . قال : يا رب كل عبادك يقولون هذا . قال : يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله )) رواه ابن حبان والحاكم بسندٍ صحيح ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير ، ويخرج من النار من قال لا إله الله وفي قلبه وزن برة من خير ، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير )) رواه البخاري ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة )) حديث حسن ، ومنها حديث البطاقة المشهور وفيه : (( فوضعت هذه البطاقة في كفة فمالت بهذه السجلات )) وهي بطاقة فيها لا إله إلا الله، وقال - عليه الصلاة والسلام -: (( من شهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، والجنة حق والنار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل )) متفق عليه ، وقد ورد أنها مفتاح الجنة .
    فهذه النقول وغيرها مما يدلك على عظم هذه الكلمة وفضلها ، بل ورد أنها أفضل الذكر كما في الحديث : (( أفضل الذكر لا إله إلا الله )) ، والله أعلم .
*  *  *
    س12: ما شروط هذه الكلمة ؟ مع توضيح ذلك بالأدلة .
    ج12: ذكر أهل العلم - رحمهم الله تعالى - أن هذه الكلمة لا يتم الانتفاع بها إلا لمن حقق مع قولها ثمانية شروط :
    الأول : العلم ، وضده الجهل ، والمقصود : العلم بمدلولها من نفي الإلهية عما سوى الله تعالى ، وإثباتها لله وحده جل وعلا وأنه لا يستحق أحد العبادة إلا هو سبحانه وتعالى ، قال تعالى :  فاعلم أنه لا إله إلا الله  فأمره بالعلم بذلك ، وقال تعالى :  إلا من شهد بالحق وهم يعلمون  .
    وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( من مات وهو يعلم ألا إله إلا الله دخل الجنة )) ، فاشترط العلم بذلك .
    الثاني : الإخلاص ، وضده الشرك ، وهو أن يقولها خالصًا من قلبه مجتنبًا ما يضادها مطلقًا وهو الشرك الأكبر أو ما ينقص كمالها الواجب وهو الشرك الأكبر ، قال تعالى :  فاعبد الله مخلصًا له الدين  ، وأعظم العبادة قولها والعمل بمدلولها ، وقال تعالى :  وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء  وعبادته هو تحقيق هذه الشهادة بمقتضياتها .
    وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله )) ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله )) وكلاهما في الصحيح .
    الثالث : اليقين ، وضده الريب ، ومعناه : أن يقولها وهو معتقد لمدلولها الاعتقاد الجازم بيقين راسخ كرسوخ الجبال بلاشك أو ريب ، قال تعالى :  إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا  ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة )) ، وفي الحديث الآخر : (( فيدخل النار أو تطعمه )) ، وقال - عليه الصلاة والسلام - لأبي هريرة وأعطاه نعليه : (( اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد ألا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه فبشره بالجنة )) رواه مسلم .
    الرابع : الصدق ، وضده الكذب ، أي لابد أن يتوافق قول الباطن مع القول الظاهر ، فيكون قلبه مصدقًا بمدلول هذه الكلمة ، لا كالمنافقين الذين قالوا :  نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون  ، ودليل ذلك قوله تعالى:  والذي جاء بالصدق وصدق به  أي جاء بلا إله إلا الله مصدقًا بها قلبه ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( من قال لا إله إلا الله صدقًا من قلبه حرمه الله على النار )) .
    الخامس : المحبة ، وضدها الكره والبغض ، ومعناه : أن يقولها محبًا لها ولمدلولها ومحبًا لله ورسولـه  ومحبًا لما يحبـه الله ورسولـه ، قـال تعالى :  والذين آمنوا أشد حبًا لله  ، وقال تعالى :  ذلك بأنهم كرهوا ما نزل الله فأحبط أعمالهم  .
    وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار )) متفق عليه ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين )) متفق عليه ، ولذلك فإن من النواقض لهذه الكلمة بغض شيء مما جاء به النبي  .
    السادس : القبول ، وضده الرد ، ومعناه : أن يقبل ما دلت عليه هذه الكلمة من النفي والإثبات ويقبل ما جاء به النبي  من الشريعة ، قال تعالى :  فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا  ، وقال تعالى :  إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعرٍ مجنون  .
    السابع : الانقياد ، وهو العمل بما تقتضيه هذه الكلمة ، قال تعالى :  ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى ولله عاقبة الأمور  ، وقال تعالى :  بلى من أسلم وجهه إلى الله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون  .
    وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت بـه )) ، وقال أبو بكرٍ  : ( والله لو منعوني عقالاً - وفي رواية : عناقًا - كانوا يؤدونها للنبي  لقاتلتهم على منعه ) متفق عليه .
    الثامن : الكفر بالطاغوت ، قال تعالى :  يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به  ، وقال تعالى :  فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم  ، وقال تعالى :  ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً أولئك لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرًا  .
    وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله )) رواه مسلم .
    ويجمعها لك قول الناظم :
وشـروطها سـرد إليـك بيـانهـا
        العلـم والإخـلاص للرحمـن

وكـذا المحبـة واليقـين قبـولهـا
        والصدق والتسليـم يا إخـواني

ويـزاد كفـرك بالطـواغيت التي
        عمت بها البلـواء في الأوطـان

    والله أعلم .
*  *  *
    س13: ما الفرق بين القبول والانقياد ؟
    ج13: الفرق بينهما هو أن القبول عمل القلب ، فهو واجب الباطن ، وأما الانقياد فهو عمل الجوارح ، أي هو واجب الظاهر ، والانقياد علامة القبول وكلما ازداد القبول في القلب تحقق كمال الانقياد في الظاهر ، والله أعلم .
    س14: عرف الطاغوت ، مع بيان ذلك بالأمثلة .
    ج14: الطاغوت هو كل ما تجاوز به العبد حده من معبودٍ أو متبوعٍ أو مطاع ، هكذا عرفه العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - ، فمثال المعبود : قوله  : (( لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة )) وهو طاغية دوس التي تعظمه في الجاهلية ، والحديث في الصحيح ، وكالشياطين التي تأمر بعض الطوائف من السحرة والكهنة وغيرهم بعبادتهم كما قال تعالى :  ويوم يحشرهم جميعًا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم به مؤمنون  .
    ومثال المتبوع : كالملوك الظلمة الكفرة الذين يأمرون أتباعهم بمخالفة الشريعة والتحاكم إلى الأعراف والسلوم وعادات القبائل ، والقوانين الوضعية ، ويحاربون تطبيق الشريعة ومن يدعو إلى تطبيقها .
    وأما المطاع : فكالأحبار والرهبان وعلماء السوء الذين يحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله فيطاعون في ذلك كما في حديث عدي مرفوعًا : (( أليس يحلون لكم ما حرم الله تحلونه ويحرمون عليكم ما أحل الله فتحرمونه )) ؟ قال: نعم . قال : (( فتلك عبادتهم )) وسنده صحيح .
    لكن لابد من التنبيه على أمرٍ وهو أن من عبد من دون الله وهو غير راضٍ بذلك فإنه لا يسمى طاغوتًا ، وسيأتي زيادة إيضاح لذلك - إن شاء الله تعالى - .
*  *  *
    س15: كيف يكون تحقيق التوحيد ؟ وما ثواب من حققه ؟ مع بيان ذلك بالدليل .
    ج15: يكون تحقيق التوحيد : بتصفيته من شوائب الشرك كله أكبره وأصغره ، ومن شوائب البدعة كلها الاعتقادية والعملية ، ومن شوائب المعصية ، أي أن يكون مجانبًا لهذه الأمور المجانبة التامة المطلقة ، وإذا وقع منه الخلل في شيء من ذلك فليبادر بالتوبة النصوح المستجمعة لشروطها .
    وثوابه إذا فعل ذلك : دخول الجنة ، بل قد يكون بذلك من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذابٍ ، قال تعالى :  والذين هم بربهم لا يشركون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون  . وقال - عليه الصلاة والسلام - في حديث السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بلا حسابٍ ولا عذاب : (( هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون )) والحديث في الصحيح ، وبناءً على ذلك فإن تحقيقه - أي التوحيد - يتفاوت بين الأفراد بتفاوت حرصهم على تجنيبه الشرك والبدع والمعاصي ، والله أعلم .
*  *  *
    س16: ما أنواع الشرك ؟ وما الفرق بينها ؟ وهل هو الكفر أم بينهما اختلاف ؟
    ج16: قسَّم أهل العلم - رحمهم الله تعالى - الشرك إلى قسمين : الشرك الأكبر ، والشرك الأصغر ، وفرقوا بينهما بعدة أمور :
    الأول : أن الشرك الأكبر مخرج من الملة ، وأما الشرك الأصغر فإنه لا يخرج عن الملة ، وبمعنى آخر نقول : الشرك الأكبر ينافي مطلق الإسلام ، وأما الأصغر فإنه ينافي كماله الواجب .
    الثاني : أن الشرك الأكبر محبط لجميع الأعمال إذا مات صاحبه عليه ، وأما الشرك الأصغر فإنه لا يحبط إلا العمل الذي خالطه على تفصيل سيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى - .
    الثالث : أن الشرك الأكبر موجب للعداوة المطلقة والبغضاء المطلقة ، وأما الأصغر فإنه يوجب من البغض والعداوة بمقداره فقط ، أي أنه يوجب مطلق العداوة لا العداوة المطلقة .
    الرابع : أن الشرك الأكبر لا يدخل في حيز المغفرة إذا مات صاحبه عليه كما قال تعالى :  إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء  ، وأما الأصغر ففيه خلاف والأقرب أنه داخل في حيز المغفرة - إن شاء الله تعالى - .
    الخامس : أن الشرك الأكبر موجب لصاحبه الخلود الأبدي المطلق في جهنم - والعياذ بالله - ، وأما الأصغر فإنه وإن عذب صاحبه فإنه لا يوجب له الخلود ، بل يعذب بقدره أو إلى ما شاء الله تعالى ثم يخرج إلى الجنة .
    السادس : أن تحريم الشرك الأكبر تحريم مقاصد ، وأما الأصغر فإن تحريمه تحريم وسائل ، ولذلك فالقاعدة عندنا تقول : كل وسيلة للشرك الأكبر فشرك أصغر .
    وأما آخر السؤال فجوابه أن يقال : إن الكفر والشرك كالإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا ، أي إذا ذكر الكفر وحده دخل معه الشرك كقوله تعالى :  إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا وأولئك هم وقود النار  أي والذين أشركوا كذلك ، وإذا ذكر الشرك وحده دخل معه الكفر كقوله تعالى :  إن الله لا يغفر أن يشرك به  أي ولا يغفر أيضًا أي يكفر به ، وأما إذا اجتمعا في نصٍ واحد فإن الشرك يكون معناه صرف شيء من أمور التعبد لغير الله تعالى والكفر جحد معلوم من الدين بالضرورة أو ترك العمل بما ورد الدليل الصحيح الصريح بتكفير تاركه . وبالجملة فيقال : كل شرك فهو كفر وليس كل كفرٍ شركًا ، والله أعلم .
*  *  *
    س17: هل هناك نواقض لكلمة التوحيد ؟ ما هي مع بيانها بالأدلة - على وجه الاختصار - .
    ج17: نعم لها نواقض وهي كثيرة ويجمعها عشرة نواقض :
    الأول : الشرك الأكبر ، قال تعالى :  ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين  ، وقال تعالى :  إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء  ، وقال تعالى :  ولا تدع مع الله إلهًا آخر لا إله إلا هو  .
    الثاني : اتخاذ الوسائط بينه وبين الله تعالى ، يدعوهم في كشف الملمات وتفريج الكربات وإجابة الدعوات ، قال تعالى :  والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى  ، وقال تعالى :  ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله  .
    الثالث : السحر وتعلمه وتعليمه والعمل به ومنه الصرف والعطف ، قال تعالى :  وما يعلمان من أحدٍ حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر  ، وقال تعالى :  ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق  ، وثبت قتله عن ثلاثة من الصحابة كما سيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى - .
    الرابع : الاستهزاء بشيء مما جاء به النبي  ، قال تعالى :  ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم  .
    الخامس : الإعراض عن الشريعة المطلق فلا يتعلمها ولا يعمل بها ، قال تعالى :  والذين كفروا عما أنذروا معرضون  ، وقال تعالى :  ومن أظلم ممن ذكِّر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون  .
    السادس : بغض شيء مما جاء به النبي  ، قال تعالى :  ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم  ، وقال تعالى :  ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم  .
    السابع : من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم ودليله الإجماع .
    الثامن : إعانة المشركين وموالاتهم ومناصرتهم ومظاهرتهم على المسلمين ، قال تعالى :  لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ...  الآية ، وقال تعالى :  ألم تر إلى الذين تولوا قومًا غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون  ، وقال تعالى :  ومن يتولهم منكم فإنه منهم ...  الآية .
    التاسع : مـن اعتقد أن هـدي غير النبي  أكمل من هديه فإنه يكفر إجماعًا ، قال تعالى :  ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً أولئك الذين لعنهم الله ...  الآية ، وقال تعالى :  ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا  ، وقال تعالى :  إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم  ، وفي الحديث : (( وخير الهدي هدي محمدٍ  )) .
    العاشر : من يعتقد أن في وسعه الخروج عن الشريعة التي جاء بها محمد  ، قال تعالى :  ومن يبتغِ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين  .
    فهذه جملة النواقض التي يدخل تحتها سائر النواقض المذكورة في باب حكم المرتد ، والله أعلم .
*  *  *
    س18: ما أنواع الدعاء ؟ وما العلاقة بينهما ؟
    ج18 : الدعاء نوعان : دعاء العبادة ، ودعاء المسألة .
    فدعاء العبادة هو أن يفعل العبد من صلاة أو صدقة أو صيام أو حج وعمرة أو ذكر من تسبيح وتهليل وتكبير ، ونحو ذلك ، فهذه الأشياء من دعاء العبادة ؛ لأن العبد يريد بفعل ذلك ثواب الله تعالى ويخاف عقابه ، فهو بهذه الأشياء قد دعاء الله ضمنًا .
    وأما دعاء المسألة فهو دعاء الطلب بمعنى أن يرفع العبد يديه ويدعو ربه بما شاء .
    وأما العلاقة بينهما فإنهما متلازمان لا ينفكان أبدًا وبيان ذلك أن دعاء العبادة متضمن لدعاء المسألة ، ودعاء المسألة مستلزم لدعاء العبادة .
    فالدعاء هو العبادة كما أخبر به النبي  ، فكل شيء شرعته لنا الشريعة شرع إيجاب أو استحباب فإنه لا يخرج عن أحد نوعي الدعاء ، إما أن يكون من دعاء العبادة وإما أن يكون من دعاء المسألة ، والله أعلم .
*  *  *
    س19: ما المراد بقولك في النونية ( وكلاهما في النص متفقان ) ؟
    ج19: المراد به أن يقال : قوله : ( وكلاهما ) أي دعاء العبادة ودعاء المسألة ، وقوله : ( في النص متفقان ) أي أن النص من الكتاب والسنة إذا ورد فيه لفظ ( دعا ) وما تصرف منها فإنه يصح أن يفسر بدعاء العبادة وبدعاء المسألة ، وقد يترجح أحدهما في بعض النصوص لبعض القرائن ، فإذا رأيت المفسرين قد اختلفوا على قولين في تفسير لفظ الدعاء الوارد في النصوص فقال بعضهم المراد دعاء المسألة وقال بعضهم بل المراد دعاء العبادة فاعلم أنه من قبيل خلاف التنوع لا التضاد ؛ لأنهما متلازمان لا ينفكان أبدًا ، والله أعلم .
*  *  *
    س20: هل هناك أمثلة توضح لنا هذا الكلام ؟
    ج20: نعم الأمثلة كثيرة ، وإنما أذكر لكم بعضها من باب التمثيل فقط فأقول :
    منها : قوله تعالى :  ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون  ، فهنا لفظان من ألفاظ الدعاء ، الأول : قوله: ( يدعو ) ، الثاني : قوله: ( دعائهم ) ، فقيل: أي ( يعبد ) و( عبادتهم ) ، وقيل: ( يسأل ) أو ( سؤالهم ) وكلا القولين صحيح ؛ لأنه صادق على جميع هذه المعاني .
    ومنها : قوله تعالى :  وقال ربكم ادعوني أستجب لكم  فقيل : اعبدوني ، وقيل : اسألوني ، وكلاهما صحيح ؛ لأنهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر .
    ومنها : قوله تعالى :  ادعوا ربكم تضرعًا وخفية  فقيل : اعبدوا ، وقيل : اسألوا ، وكلاهما صحيح ؛ لأن لفظ الدعاء صادق عليهما ، وعلى ذلك فقس ، والله أعلم .
*  *  *
    س21: ما حكم صرف الدعاء لغير الله سبحانه ؟ مع توضيح ذلك بالأدلة .
    ج21: أما دعاء العبادة فصرفه لغيره شرك ، وأما دعاء المسألة فلا يخلو من حالتين :
    إن كان قد صرفه لغير الله في أمرٍ لا يقدر عليه إلا الله تعالى فهذا شرك أكبر مخرج من الملة بالكلية - أعاذنا الله وإياك منه - ، وذلك كمن يدعو القبور والأموات والشياطين أو الأنبياء أو الملائكة في أمرٍ لا يقدر عليه إلا الله تعالى وهو المراد بقولنا سابقًا في النواقض : اتخاذ الوسائط بينه وبين الله تعالى ، فيدعوهم في كشف الملمات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات أو برزق الولد أو إنزال المطر أو مغفرة الذنوب أو أن يكونوا له شفعاء عند الله تعالى ، وهذا هو أكثر الشرك الذي وقع في ابن آدم ، قال تعالى :  وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين  ، وقال تعالى :  وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدًا  ، وقال تعالى :  إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين  ، وقال تعالى :  إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم  فسمى الله دعاءهم من دونه شركًا ، وقال تعالى :  ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين  فسمى الله تعالى دعاءهم لهم عبادة وقد تقرر أن العبادة حق صرف لله تعالى لا يصرف لملك مقرب ولا لنبي مرسل فضلاً عن غيرهم ، والآيات في هذا المعنى كثيرة .
    وأما إذا صرف دعاء المسألة لغير الله في أمر يقدر عليه البشر ، أو نقول : يقدر عليه المدعو فإنه لا يكون ذلك الصرف شركًا ، بل يكون سؤالاً ، وهذا لا بأس به ، إذ ليس هو من العبادة حينئذٍ في شيء ، والله أعلم .
*  *  *
    س22: كيف وقع الشرك في بني آدم ؟ مع الدليل .
    ج22: هذا سؤال مهم جدًا وبه نتعرف على السبب الذي حصل به ذلك الأمر الخطير لنحذره ونجانبه .
    فأقول : إن السبب هو الغلو في الصالحين والأولياء الذي وقع في عهد نوحٍ - عليه الصلاة والسلام - ، كما ورد ذلك في الصحيح من قول ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير قوله تعالى :  وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودًا ولا سواعًا ولا يغوث ويعوق ونسرًا  فقال : (( هذه أسماء رجالٍ صالحين فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم ففعلوا ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت )) . وقال ابن القيم : (( قال غير واحد من السلف : لما ماتوا عكفوا على قبورهم وصوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم )) ا.هـ .
    وهذا الأمر لا يزال يقع فيه الكثير من بني آدم من تعظيم قبور الأولياء والصالحين وشهرة الأمر تغني عن ضرب المثال له ، فالسبب إذًا هو الغلو في الصالحين ، ولذلك قال الإمام المجدد - رحمه الله تعالى - في كتاب التوحيد : (( باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين )) ، وقال أيضًا : (( باب ما جاء في أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانًا تعبد من دون الله تعالى )) ، وقال أيضًا : (( باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده )) .
    وهذه التراجم المهمة ينبغي تدبرها وفهمها حق فهمها فإنها برد اليقين وفيها بيان السبب الذي أوقع الشرك في ابن آدم ، والله أعلم .
*  *  *
    س23: عرف الغلو ؟ مع بيان بعض الأدلة التي حذرت منه .
    ج23: الغلو هو مجاوزة الحد والإفراط فيه ، فإذا قيل : الغلو في الصالحين أي مجاوزة الحد فيهم بحيث يضفى عليهم من الصفات التي هي من خصائص الله تعالى ويعتقد أنهم يجلبون خيرًا أو يدفعون شرًا ، وإذا قيل الغلو في القبور أي مجاوزة الحد فيها بحيث يفعل بها أو عندها ما هو خارج عن حد الشريعة وهكذا ، قال تعالى :  يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم  وهذا نهي لهم وإخبار لنا عن السبب الذي أوقعهم فيما وقعوا فيه ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو )) ، وقال - عليه الصلاة والسلام - محذرًا من الغلو فيه : (( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله )) ، وقال - عليه الصلاة والسلام - محذرًا أمته من السير على نهج الأمم قبلها : (( ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور الأنبياء مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك )) ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) متفق عليه وزاد مسلم : (( والنصارى )) ، قالت عائشة : ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا . وقال - عليه الصلاة والسلام - لأم حبيبة وأم سلمة لما ذكرتا له كنيسة بأرض الحبشة : (( أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجد وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله )) ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) ، وفي السنن من حديث ابن عباس : أن النبي  لعن زائرات القبور والمتخذين لها المساجد والسرج ، وروى مسلم من حديث أبي مرثد الغنوي قال: قال رسول الله  : (( لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها )) .
    وثبت في السنة النهي عن تجصيصها والكتابة عليها والأمر بتسوية ما علا منها ، كل ذلك تحذيرًا من الغلو فيها ؛ لأن الغلو فيها باب كل شر وشرك ، والله أعلم .
*  *  *
    س24: وضح منهج الوسطية في التعامل مع القبور وأصحابها ؟
    ج24: إن هذه الأمة الإسلامية زادها الله شرفًا ورفعة هي الأمة الوسط بين الأمم ، ولهذه الوسطية صور كثيرة .
    وجوابنا على هذا السؤال يحمل صورة من صور الوسطية وبيانه أن يقال : أن الشريعة توسطت في أمر القبور فلم تنزلها عن مكانتها ولم ترفعها عن مرتبتها ، فحرمت الجلوس عليها ، وقضاء الحاجة بينها ، والمشي بينها بالنعال ، وجعلت الحق لصاحب القبر في مكانه هذا ، فلا يجوز التعدي عليه بنبشٍ ونحوه ، وسنت السلام على أهلها ، ومنعت الاتكاء عليها ، وكل ذلك احترامًا لأهلها وتكريمًا لهم ، وبالمقابل حذرت أشد الحذر من اتخاذها مساجد يصلى عندها ، أو يدعى أصحابها من دون الله تعالى ، أو يشيد بناؤها ويرفع فوق الشبر ، أو يذبح عندها ، أو تتخذ زيارتها عيدًا ، أو يجعل لهم موالد ، أو يعتقد فيهم أنهم يجلبون خيرًا أو يدفعون شرًا ، أو أن يتبرك بترابها أو يطال الجلوس عندها على هيئة الاعتكاف أو يطاف عليها ، وأعظم من ذلك أن يركع لها أو يسجد أو تقبل ونحو ذلك .
    فانظر كيف مسلك الوسطية التي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ؛ لأنه وحي يوحى ، فالحمد لله على الهداية ، وأساله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يغيث بلاد الإسلام بالاعتقاد الصافي والمنهج السليم ، والله أعلم .
    س25: عرف السحر ؟ وما حكمه ؟ وما حد الساحر ؟ مع بيان الدليل .
    ج25: عرف العلماء السحر لغة : بأنه ما خفي ولطف سببه .
    وعرفوه اصطلاحًا بقولهم : عزائم ورقي وكلام يتكلم به وأدوية وتدخينات وعقد يؤثر في القلوب والأبدان فيحرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه .
    وأما حكمه : فقد تقدم لنا في النواقض أنه من جملة المكفرات ؛ ذلك لأن الساحر لا يمكن أبدًا أن تعينه الشياطين على مراده إلا بعد أن يتقرب لها بما تحب من ذبح دينه بالذبح لهم أو إهانة المصحف ورميه في البالوعة أو وضعه مع النفايات أو سب الله تعالى وسب رسوله  ونحو ذلك، ولا يستريب عاقل أنها لا تخدمه لسواد عينيه ، ولذلك قال تعالى:  وما يعلمان من أحدٍ حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر  ، فبان بذلك أن تعلمه وتعليمه والعمل به كفر ، وقال تعالى :  ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق  وهذا نكرة في سياق النفي والخلاف هو الحظ والنصيب وقد نفي النفي المطلق فدل ذلك على أنه لا يبقى معه مطلق الإيمان ومن خرج من مطلق الإسلام فإنه يكون كافرًا وهذا واضح .
    فالسحر من أنواع الشرك إذ لا يأتي السحر بدون الشرك ، وأما حده فضربة بالسيف ، فقد روى الترمذي والبيهقي والحاكم من حديث جندب مرفوعًا : (( حد الساحر ضربة بالسيف )) ، وقال الترمذي : الصحيح أنه موقوف . قلت : ومع ذلك فله حكم الرفع ؛ لأنه لا يضح أن يقال بالرأي ، وجندب هذا لا يعرف بالأخذ عن أهل الكتاب ، وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال : كتب عمر بن الخطاب : (( أن اقتلوا كل ساحرٍ وساحرة )) ، قال : فقتلنا ثلاث سواحر ، وصح عن حفصة - رضي الله عنها - أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت . ولذلك قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - : (( عن ثلاثة من أصحاب النبي  )) اهـ . أي صح قتله عن هؤلاء الثلاثة ولا يعرف لهم مخالف ، بل عليه عمل المسلمين إلى يومنا هذا ، فلا تزال الدولة السعودية زادها الله شرفًا ورفعة تفرح قلوبنا بقتلهم فإنهم الثلة المفسدة أشد الفساد ، وما تقرب لله تعالى بمثل قتل هؤلاء المفسدين ، أسأل الله بعزته وقوته أن يحفظنا منهم وأن يمكن يد السلطة منهم وأن يهلكم عن بكرة أبيهم ، والله أعلم .
    س26: ما الواجب علينا تجاه السحرة ؟
    ج25: الواجب علينا تجاههم بذل النصيحة لهم وتحذيرهم من هذا المنكر العظيم وتخويفهم من مغبة ذلك في الدنيا والآخرة ، ومن علم منهم ولم يرتدع بالنصح فالواجب الأخذ على يديه ؛ لأنه من أنصار الشيطان الرجيم ورفع أمره إلى ولاة الأمر ليقيموا عليه حكم الله فيه ، مع الحرص على إثبات ذلك عليه بالدلائل القطعية ، ولكن ننبه على أمرٍ مهم وهو أنه ينبغي لإخواننا القراء ألا يصدقوا أخبار الشياطين على أحدٍ بأنه ساحر أو أنه المتسبب في السحر ؛ لأن أخبارهم كذب ومن مقاصدهم بث البغضاء والتقاطع والتدابر وإفساد ذات البين ، فالمرجو من القراء ألا يفتحوا مجالاً لهم باتهام أحدٍ وأن يبادروا بتكذيب الشياطين الذي يتكلم على لسان الإنسي ، فكم من الأواصر التي بترت ومن القرابات التي تفرقت بسبب هذه الأخبار التي يقولها هؤلاء الدجالون الأفاكون ، والله أعلم .
*  *  *
    س27: هل للسحر حقيقة ؟ وضح ذلك بالأدلة .
    ج27: أقول : مذهب أهل السنة والجماعة أن السحر له حقيقة ، فمنه ما يفرق بين المرء وزوجه وهو أكثرها وقوعًا ، ومنه ما يسبب المرض ، ومنه ما يصيب العقل بالجنون ، ومنه ما يقتل ، ودليل قوله تعالى :  قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد  فقد أمر النبي  بأن يستعيذ من شر النفاثات في العقد وهن السواحر اللاتي ينفثن في العقد ، وكيف يستعيذ مما لا حقيقة له ، فلما أمر بالاستعاذة منه دل على أن له حقيقة يستعاذ من شرها ، وقال تعالى :  وما يعلمان من أحدٍ حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر  فأثبتت هذه الآية أنه ما يتعلم ويعلم وهذا يدل على أن له حقيقة ، وقال تعالى :  فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه  وهذا التفريق حقيقة فهو أثر حسي مشاهد وهو بسبب السحر ، فدل على أن له حقيقة ، فهذا التفريق الحاصل بين الزوجين بسبب السحر إنما هو عمل الشياطين التي تطيع السحرة .
    وفي الصحيح من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت : ( سحر النبي  يهودي من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم ... ) الحديث ، وفيه أن النبي  قال لما حل عنه : (( إن الله شفاني )) ، والشفاء إنما يكون برفع العلة وزوال المرض ، فدل على أن له حقيقة وأنه يوجب المرض - بإذن الله تعالى - ,
    ومما يدل على أن له حقيقة ما وقع من السحر لاثنتين من أمهات المؤمنين ، عائشة وحفصة - رضي الله عنهما - ، أما حديث عائشة ففيه : أنها اشتكت فطال شكواها فقدم إنسان المدينة يتطبب فذهبا بنوا أخيها يسألونه عن وجعها ، فقال : والله إنكم تنعتون امرأة مطبوبة ، قال : هذه امرأة مسحورة سحرتها جارية لها . قالت : نعم أردت أن تموتي فأعتق . قال : وكانت مديرة ، قالت عائشة : - رضي الله عنها - : ( بيعوها في أشد العرب ملكة واجعلوا ثمنها في مثلها ) رواه أحمد في المسند . وقال الهيثمي في المجمع : رجال أحمد رجال الصحيح .
    وأما حديث حفصة فقد رواه مالك في الموطأ أنه بلغه أن حفصة زوج النبي  قتلت جارية لها سحرتها وكانت مديرة فأمرت بها فقتلت .
    ومن الأدلة أيضًا الواقع ، فإننا لا زلنا نشاهد المسحور يمرض ويموت ويجن ويطلق زوجته وعند القراءة عليه يصرخ ويتصرف تصرف المجانين ويزبد ويتقيأ وغير ذلك من الأعراض التي سببها السحر فكيف يقال بعد ذلك لا حقيقة له .
    ومن الأدلة على ذلك أيضًا إجماع أهل السنة على ذلك ، ولا عبرة بخلاف غيرهم ، فلا يغرنك تمويه صاحب الكشاف فإنه كسرة من كسر المعتزلة أعطاه الله بلاغة ومنطقًا حسنًا فسخره في مخالفة المنهج الحق ، فاحذره واحذر تفسيره فهذا فإنه يريد به نصر منهجه الاعتزالي ؛ لأن المعتزلة يعتقدون أن السحر إنما هو خيالات وانفعالات لا حقيقة لها ، وهم بهذا قد سحرهم إبليس بشبهه ونفث في روعهم لمن كيره الخبيث وغرهم بغروره وتزيينه وتلبيسه عليهم ، فالزم جادة الحق واستعذ بالله من الشيطان الرجيم ، والله أعلم .
    س28: كيف العصمة من شر هذه الطائفة المفسدة ؟
    ج28 : الاعتصام من شرهم يكون بأمور :
    الأول : صدق اللجأ إلى الله تعالى بالاستعاذة منهم والإكثار من ذلك ، فإن هذه الطائفة الخبيثة يستعينون على تحقيق شرهم بمن يرانا ولا نراه وهم الشياطين فاستعذ منهم بمن يراهم ولا يرونه وحسبك به كفيلاً ونصيرًا ومعاذًا وسندًا وملجأً ، فلا تتعده وتقرب إليه ما استطعت بفعل أوامره واجتناب مناهيه .
    الثاني : الحرص التام على الأذكار المشروعة والأوراد النبوية في كل شئونك في صباحك ومسائك ، وعند نومك ، ولبسك لثوبك ، وعند دخول الخلاء ، وعند دخولك لبيتك والخروج منه ، وهي أذكار يسيرة جدًا ومتوفرة بكثرة وأثرها فعال جدًا ، وأوصيك بقراءة حصن المسلم فإنه كتاب نافع سهل خفيف المحمل .
    الثالث : قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة ، وعند النوم ، فإن من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح كما في الحديث .
    الرابع : الحرص على قيام الليل والوتر ، فإنه حصن للمسلم سائر يومه .
    الخامس : تعلم حكمه وبعض أنواعه لاتقائها وتعليم من حولك خطره وشيئًا من مسائله .
    السادس : تحصين البيت بالإكثار من قراءة القرآن فيه وخصوصًا سورة البقرة ، فإن الحديث أثبت أن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة ، وكذلك بالصلاة النافلة فيه حتى لا يكون كالمقابر كما في حديث : (( اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تجعلوها قبورًا )) مع إخراج الصور ذات الأرواح منه حتى تدخله الملائكة - عصمنا الله وإياك من شرها - وهو أعلى وأعلم .
*  *  *
    س29: ما الحكم لو طلق إنسان زوجته بسبب السحر ؟
    ج29: أقول : لقد ثبت بالأدلة أن الأحكام التكليفية لا تثبت إلا بعقل وفهم خطاب واختيار ، وضد الاختيار الإكراه ، فإذا ثبت بشهادة العدول من القراء أو غيرهم أن فلانًا قد سحر وأن مقصود السحر التفريق بينه وبين زوجته فإنه لا يقع الطلاق في هذه الحالة ؛ لأنه مكره عليه ، والمكره ليس بمكلف شرعًا ، واختاره شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - فإنه قال في الاختيارات : (( ومن سحر ليطلق فإكراه )) وعلى القاضي أن يتثبت من ذلك حتى لا يوقع طلاق من لا يقع طلاقه شرعًا فيكون محققًا مقصود الشيطان ، والله أعلم .
*  *  *
    س30: هل إذا تاب الساحر تقبل توبته ؟
    ج30: أقول : إن السحر لابد وأن يكون ذنبًا من الذنوب ، وقد وردت الأدلة المتواترة من الكتاب والسنة أن من وقع في ذنب وتاب منه أنه مغفور له إذا كانت التوبة نصوحًا ، قال تعالى :  إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحًا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات  ، وقال تعالى :  قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا  ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( ويتوب الله على من تاب )) . وقال تعالى فيمن قال :  إن الله هو المسيح ابن مريم  وقال :  إن الله ثالث ثلاثة  فقال لهؤلاء :  أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم  ، وفي الحديث : (( والتوبة تجب ما كان قبلها )) ، وقال تعالى :  قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف  ، فلا ينبغي أن ييأس الساحر من رحمة الله أو يقنط منها ، فإذا ظهرت مخايل التوبة النصوح منه فإنه يكف عنه وأمره إلى الله تعالى ، وإذا رأى الحاكم أو نائبه أنه يقتل لعدم ثبوت توبته عنده أو وجود القرينة التي تكذب دعواه للتوبة فله ذلك وأمره في الآخرة إلى الله تعالى .
*  *  *
    س31: ما الطرق التي يثبت بها جناية الساحر على النفس أو ما دونها ؟
    ج31: الطرق التي يحصل بها ذلك هي ما يلي :
    الأول : الإقرار ، أي أن يأتي الساحر ويقر أنه هو الذي قتل فلانًا أو أصاب فلانًا بهذه الجناية بالسحر ، فإذا توفرت شروط الإقرار فإنه يؤخذ به ويثبت شرعًا ما يثبت في مثل هذه الجناية .
    الثاني : الشهادة ، أي أن يشهد رجلان عدلان قد توفرت فيهما شروط الشهادة أن فلانًا ساحر ، وهذا قول الجمهور خلافًا لمذهب الشافعية ، ولكن الحق هو قول الجمهور وذلك للأدلة الواردة في إثبات أن الشهادة طريق من طرق إثبات الجناية ، فقواعد الشريعة تقتضي العمل بالشهادة في الإثبات فهي طريق صالح للإثبات ولاريب ، لكن لابد أن تكون شهادة مفسرة تصنف الحال بدقة ولا تدع مجالاً للريبة والشك وأن تكون ممن تعتد شهادتهم شرعًا ، وهذان الطريقان لا إشكال فيهما .
    وبقي طريق ثالث اشتد فيه الخلاف وهو إثباته عن طريق الاشتهار والاستفاضة ، أي إذا استفاض بين الناس أن فلانًا ساحر فهل يؤخذ بها أم لا ؟ أقول : التحقيق في هذا أنه لا يؤخذ بها فورًا ، بل تجعل هذه الاستفاضة كالقرينة التي تضع علامات استفهام على هذا الرجل لينظر في حاله ويراقب عن كثبٍ ويتحقق منها ، فإذا ثبت ذلك عليه أخذ وإلا فليس كل ما استفاض بين الناس يكون صحيحًا ، والله أعلم .
*  *  *
    س32: هل قوله  في حديث ابن عمر في الصحيحين : (( إن من البيان لسحرًا )) مدح أو ذم ؟
    ج32: أقول : كيف يكون مدحًا وقد جعله من السحر ، بل هو ذم لا مدح ، فإن البيان والفصاحة وحسن تصفيف الكلام إذا كان مفضٍ إلى جعل الحق باطلاً والباطل حقًا ، فإن صاحبه مذموم ؛ لأنه يعمل عمل الساحر الذي يخيل على الناس ، وهذا كمن أوتي بلاغة وفصاحة فسخرها في قلب الحقائق وتزيين الباطل وتشويه صورة الحق ، كمن يمتدح بالخمر بالأبيات المقفاة الموزونة ، أو يتغزل بنساء المسلمين بالعبارات الجذابة البراقة الخادعة ، أو يظهر نفي الصفات في صورة التنزيه ، أو يجعل التحريف والإلحاد تأويلاً ويسميه بغير اسمه لتقبله النفوس ، أو يسمى اختلاط الرجال بالنساء في دور التعليم تقدمًا وحضارة ، أو يعبر عن ترك النساء للحجاب وتمردهن على تعاليم الشريعة تحريرًا لها من رق العبودية وسلاطة الرجال ، وما أكثر أهل هذا البيان ، نعوذ باله من حالهم وكفانا شرورهم ، ولذلك جعل الشيخ محمد - رحمه الله تعالى - هذا البيان نوعًا من أنواع السحر ، وهذا دليل على أنه مذموم ، والله أعلم .
*  *  *
    س33: ما وجه إدخال النميمة في أنواع السحر ؟
    ج33: أقول : هذا من دقيق فهم السلف - رحمهم الله تعالى - فإن مقصود الساحر هو التفريق والإفساد ، والنمام يفعل هذا الفعل تمامًا ، بل وأعظم ، فكم من بيوت تفرق أفرادها بسبب نميمة ، وكم من محبة انقلبت عداوة بسبب نميمة ، وكم من نفس قتلت بغير حق بسبب نميمة ، وكم من قرب تحول بعدًا بسبب نميمة ، وكم من خلةٍ انقلبت حقدًا وكرهًا بسبب نميمة ، وهذا هو شأن الساحر لكنه لا يكفر بذلك ؛ لأنه لم يفعل كفرًا كالساحر ولكنه فعل كبيرة من الكبائر ، قال - عليه الصلاة والسلام - : (( لا يدخل الجنة قتات )) ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( ألا أنبئكم ما العضه ، هي النميمة القالة بين الناس )) ، فنعوذ بالله منها ونسأله جل وعلا أن يعصم ألسنتنا منها ، والله أعلم .
*  *  *
    س34: ما الطرق التي يحل بها السحر ؟ مع بيان المشروع والممنوع منها بدليله .
    ج34: أقول : حل السحر عن المسحور هي التي يسميها العلماء بالنشرة ، وهي قسمان كما ذكره الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - :
    الأول : حل السحر بالقراءة الشرعية والأدعية الصحيحة ، وهذا هو المشروع ، بل لا يجوز حله إلا بذلك ويدخل في ذلك ضمنًا أن يعرف مكان السحر فيحل أو يحرق ، كما فعل بسحر النبي  فإن جبريل - عليه الصلاة والسلام - قد رقاه بقوله : (( باسم الله أرقيك من كل داءٍ يؤذيك من كل شر أو عين حاسد الله يبريك باسم الله أرقيك )) ، فنعم القارئ ونعم المقروء عليه ، وقد رأى النبي  مكان سحره في منامه - ورؤيا الأنبياء حق - وأرسل من يأتي به فحلوه فقام كأنما نشط من عقال ، وحينئذٍ فنقول : إذا تكررت الرؤيا على المسحور أو غيره أن سحره في مكان ما فلا بأس بأن يستبرئه أو أخبره الشيطان الذي يخدم السحر بمكان وتكرر منه ذلك فلا بأس من استبرائه ما لم يكن في ذلك مفسدة خالصة أو راجحة .
    الثاني : حلة بسحر مثله ، وهو أن يذهب المطبوب إلى الساحر أو الكاهن فيتقربان للشيطان بما يحب من الذبح ونحوه ليبطل أثره عن المسحور ، وهذه هي النشرة الشركية المحرمة ، ويدل عليها حديث جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - أن النبي  سئل عن النشرة فقال : (( هي من عمل الشيطان )) رواه أحمد وأبو داود بسند جيد ، وقال أبو داود سئل أحمد عنها فقال : ( ابن مسعود يكره هذا كله ) أي يكره النشرة التي من عمل الشيطان ، ولاشك أنها كراهة تحريم ، وقوله : (( هي من عمل الشيطان )) أي لأنهم ينشرون عن المسحور بأنواع من السحر والاستخدامات الشيطانية ، فلازم هذه الطريقة الوقوع في عدة محاذير :
    منها : التقرب للشيطان بما يحب من الشرك ، وهذا في حد ذاته مفسدة خالصة .
    ومنها : إعانة الساحر على عمله هذا من الاتصال بالشياطين وعبادته لهم وهذا مخالف المخالفة التامة للإنكار عليه .
    ومنها : فتن الناس به للإقبال عليه واغترارهم بعمله .
    ومنها : سد باب العلاج بالقرآن أو التهوين من شأنه .
    ومنها : تعلق قلوب المرضى بهذه الطائفة الضالة الكافرة .
    ومنها : اعتماد القلب على الشيطان ليوصل له النفع وهذا منافٍ للمتقرر شرعًا من وجوب عداوته ومنافرته .
    ومنها : إحسان الظن بالساحر وشياطينه في إيصال الإحسان إلى المسحور وهذا كاف في منع هذه الطريقة .
    ومنها : أنه قد لا يتحقق غالبًا الشفاء والخلاص التام من أثر السحر ، فيكون قد وقعنا في المفسدة ولم نحصل مصلحة ، وإن سلمنا أنه حصل الشفاء فإن مصلحة الشفاء شيء لا يذكر مع هذه المفاسد ، والمتقرر شرعًا أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح .
    ومنها : فتح باب الشيطان على القلوب والعقول بإفسادها وتزيين الباطل لها .
    ومنها : لزوم مخالفة النهي الصحيح الصريح الوارد في السنة من عدم إتيان الكهان ولو لمجرد السؤال فضلاً عن تصديقهم فيما يخبرون به من أمور الغيب من الأسماء والأماكن .
    ومنها : تعريض الإنسان توحيده للإبطال والواجب المتقرر شرعًا صيانته وحماية جنابه وسد كل طريق يفضي إلى الشرك .
    ومنها : أنها فتح لعمل الشيطان - نعوذ بالله منه - .
    فهذه المفاسد وغيرها تجعل العاقل الذي يخاف على دينه أن يحذر كل الحذر من هذه الطريقة الشيطانية ويسد هذا المدخل الإبليسي ، والله أعلى وأعلم .
*  *  *
    س35: ما معنى قول ابن المسيب بما سئل عن رجل به طب أيحل عنه أو ينشر فقال : (( لا بأس به إنما يريدون به الإصلاح فأما ما ينفع فلم ينه عنه )) ، وما روي عن الحسن أنه قال : (( لا يحل السحر إلا ساحر )) ؛ لأن بعض الناس يجعل ذلك حجة في جواز حل السحر بالسحر فما القول في ذلك ؟
    ج35: القول في ذلك مجمل ومفصل :
    فأما المجمل ، فاعلم - يا رعاك الله - أن السلف - رحمهم الله تعالى - لا يمكن أن يخالفوا في مثل هذه القضية الواضحة التي تظافرت عليها الأدلة ولا يجوز أن يظن بهم ظنًا ينزلهم عن مرتبتهم ، ولا ينبغي تحريف أقوالهم ولا لي أعناقهم لتوافق الرغبات والهوى وهذا لا يجوز فيمن هو دون الحسن وابن المسيب - رحمهما الله تعالى - فكيف بهما وهما من سادات السلف وكبراء الدنيا علمًا وعملاً وزهدًا وورعًا واتباعًا وحذرًا من مخالفة الدليل ؟ فهذا الظن من كلامهما ظن فاسد لا يجوز حمل كلامهما عليه ، بل كلامهما هذا متفق مع الأدلة كل الاتفاق ومنسجم معها كل الانسجام لا يخالفها ولا يناقضها بوجه حاشاهما - رحمهما الله تعالى - من أن يظن بهما إلا خيرًا ، رفع الله نزلهما وأجزل مثوبتهما وجمعنا بهم في جنة الفردوس الأعلى .
    وأما المفصل ، فنقول : إن إجابة ابن المسيب - رحمه الله تعالى - إنما كان بتسويغ النشرة الجائزة ، وهي حل السحر بالقراءة الشرعية والتعويذات والأدعية الصحيحة الواردة والأدوية المباحة لا أنه تسويغ للنشرة المحرمة ، كيف وقد وردت الأدلة بمنعها وسد بابها ؟ وأما قول الحسن فإنه إن صح عنه فإن فيه سدًا لهذا الباب أي النشرة فإذا كان لا يحل السحر إلا ساحر وقد وردت الأدلة بتحريم السحر فإذًا لا يجوز حله فكأنه يقول : لا يقدر على حل السحر إلا من له خبرة ومعرفة بالسحر وطرقه من عقدٍ وحل ، ويحمل كلامه هذا على النشرة المحرمة التي هي حل السحر بالسحر ، ولذلك قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - : (( النشرة نوعان : حل بسحر مثله وهو الذي من عمل الشيطان وعليه يحمل قول الحسن )) اهـ . فبان بذلك أن ابن المسيب فتح باب النشرة الجائزة والحسن سد باب النشرة الممنوعة ، فانظر كيف اتفاق كلامهما مع الأدلة، ولا غرابة في ذلك فإنهما يعتمدان الدليل في مصادرهما ومواردهما، وأستغفر الله تعالى أن مثلي يوضح كلام هذين العالمين الجليلين لكنه إن شاء الله تعالى من باب الذب عن حياضهما ، أسأله جل وعلا باسمه الأعظم أن يحشرني وإياكم في زمرة محمدٍ  ، والله أعلم .
*  *  *
    س36: عرف النذر؟ وما وجه كونه عبادة؟ وما حكم صرفه لغير الله تعالى؟ مع الدليل.
    ج36: النذر لغة : هو الإلزام .
    وشرعًا : إلزام المكلف نفسه شيئًا ليس بلازم له بأصل الشرع .
    ووجه كونه عبادة : أنه الله امتدح الموفين بـه فقال في معرض مدحهـم :  يوفون بالنذر  ، وقال :  وما أنفقتم من نفقةٍ أو نذرتم من نذرٍ فإن الله يعلمه  . وفي الحديث : (( من نذر أن يطيع الله فليطعه )) ، فحيث امتدح الله الموفين به وأوجب إتمامه إن كان طاعة دل ذلك على أنه مما يحبه ويرضاه ولك شيء يحبه الله ويرضاه فهو عبادة .
    وبناءً عليه : فمن نذر لغير الله تعالى فإنه يكون بذلك قد صرف عبادة لغير الله جل وعلا ومن صرف عبادة لغير الله فإنه مشرك الشرك الأكبر ، كالذين ينذرون للقبور والأموات والصالحين وبعض المغارات والكهوف والأشجار والأحجار المعظمة عندهم ، فإنهم بذلك قد وقعوا في الشرك ، ودليل ذلك ما مضى من إثبات كون النذر عبادة ، وكل دليل يدل على أن من صرف العبادة لغير الله فهو مشرك ، فإنه دليل على هذه المسألة ، والله أعلم .
*  *  *
    س37: ما الفرق بين النذر الذي يكون شركًا والذي يكون حرامًا فقط ؟
    ج37: النذر الذي نقصده في جواب السؤال الماضي هو أن يعقد النذر أصلاً لغير الله تعالى ، كأن يقول : نذر علي للسيد البدوي ، أو لقبر الحسين ، أو للولي الفلاني ، أو القبر الفلاني ونحو ذلك ، فهو في أصل عقد النذر عقده لغير الله تعالى فهذا هو الشرك الأكبر .
    وأما النذر الذي يكون حرامًا فقط فهو النذر الذي يعقد لله تعالى لكن على شيء محرم كقول القائل : نذر لله على أن لا أصل أرحامي ، أو يقول : نذر علي أن أشرب خمرًا ونحو ذلك ، فهذا النذر لا يكون شركًا ؛ لأنه عقده لله ، لكنه يكون حرامًا لا يجوز الوفاء به بحال ؛ لأنه على شيء محرم .
    وثمة فرق آخر : وهو أن نذر الشرك لا ينعقد أصلاً ، فلا كفارة فيه وإنما فيه التوبة إلى الله تعالى والنطق بالشهادة ؛ لأنه به قد جرح توحيده فلابد من النطق بالشهادة ليجدد إيمانه ، وأما نذر الشيء المحرم فإنه منعقد لكن لا يجوز الوفاء به، واختلف العلماء هل فيه كفارة أم لا ؟ على قولين : والأرجح أن فيه كفارة يمين لحديث : (( لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين )) والله أعلم .
*  *  *
    س38: كيف يجتمع في النذر كونه منهيًا عنه وكونه عبادة ؟
    ج38: أقول : هذا سؤال جيد وبيانه أن يقال : إننا ننظر إلى النذر من ثلاث جهات :
    الأولى : من جهة أصل الإيقاع أي إنشاؤه وابتداؤه ، فهذا هو الذي ورد النهي عنه كما في الحديث : نهى النبي  عن النذر وقال : (( إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل )) وهو في الصحيح .
    وهذا النهي إما للتحريم أو للكراهة والمقصود أن هذا النهي عن ابتداء النذر فقط أي عن إيقاعه ، لكن المكلف يتعبد لله أنه إن عقده فلا يعقده إلا بالله جل وعلا ، فهو بهذا الاعتبار مأجور. وهو الثاني: أي باعتبار عقده لله تعالى، وهو متعبد أيضًا بالوفاء به، وهي الجهة الثالثة .
    فصارت ثلاث جهات ، وأعيدها مختصرة :
    الأولى : باعتبار ابتدائه منهي عنه ، وباعتبار عقده لله تعالى فهو مثاب على ذلك مأجور عليه ، وباعتبار الوفاء به مثاب أيضًا ومأجور ، فلا اختلاف ولا تناقض ؛ لأن جهة النهي منفكة ومتعلقها مختلف عن الجهتين الأخيرتين ، والله أعلم .
*  *  *
    س39: ما أقسام الذبح ؟ وما الذي يكون صرفه لغير الله شرك ؟ مع بيان ذلك بالدليل.
    ج39: الذبح قد قسمه أئمة الإسلام إلى أقسام :
    الأول : ذبح يقصد الاستمتاع باللحم ، وهذا جائز لعموم قوله تعالى :  الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوها ومنها تأكلون  وغير ذلك من الآيات ، وهذا القسم لا دخل له في العقيدة وإنما يتكلم عليه الأئمة الفقهاء في باب الزكاة ، والله أعلم .
    الثاني : ذبح يقصد به إكرام الضيف ، كالذي يذبح في الأعراس ونحوها ، فهذا مأمور به أمر إيجاب في بعضه وأمر استحبابٍ في بعضه ومنه حديث : (( أولم ولو بشاة )) ، وحديث : (( ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه )) ، وهذا أيضًا لا دخل له في الاعتقاد .
    الثالث : وهو الخطير والأمر الكبير ، وهو الذبح للغير بقصد التقرب والتعبد للمذبوح له ، وهذا هو الطامة الكبرى والشرك الأكبر ، وهذا هو الذي يتكلم عليه علماء الاعتقاد ، ودليل ذلك قوله تعالى :  فصل لربك وانحر  ، وقوله تعالى :  قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأن أول المسلمين  .
    والذابح لغير الله ملعون كما في صحيح مسلم من حديث علي  قال : (( لعن رسول الله من ذبح لغير الله )) ، وعند أحمد في الزهد من حديث طارق بن شهاب أن النبي  قال : (( دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب )) . قالوا : كيف ذلك يا رسول الله ؟ قال : (( مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئًا ، فقالوا لأحدهما : قرب . قال : ليس عندي شيء أقرب . قالوا : قرب ولو ذبابًا ، فقرب ذبابًا فخلو سبيله ، فدخل النار . وقالوا للآخر : قرب . فقال : ماكنت لأقرب لأحدٍ شيئًا دون الله عز جل فضربوا عنقه فدخل الجنة )) .
    وقد انعقد الإجماع على الذبح لغير الله بنية التقرب والتعبد للمذبح له شرك أكبر مخرج عن الملة بالكلية ، والله أعلم .
*  *  *
    س40: هل ضربت لنا أمثلة على الذبح لغير الله تعالى ؟
    ج40: نعم ، على الرحب والسعة .
    فمن أمثلة ذلك : ما يذبحه عباد القبور إلى من يزعمون أنه من الأولياء والصالحين ، فترى الواحد - عافاهم الله من هذا البلاء - يأتي بالذبيحة من بهيمة الأنعام أو من الدجاج ونحو ذلك فيريق دمها على القبر أو قريبًا منه في المكان المخصص لذلك متقربًا بذلك لصاحب القبر .
    ومن الأمثلة : ما يذبح عند السحرة أو بأمرهم لمن يخدمهم من الشياطين متقربين به إلى ذلك الشيطان ليحقق لهم بعض مقاصدهم .
    ومن ذلك : الدماء التي تراق عند بعض الأشجار والأحجار المعظمة عند أهلها كما كان يفعل عند العزى واللات ومناة الثالثة الأخرى ، وكما كان يفعل كثير من أهل هذه البلاد قبل انتشار هذه الدعوة المباركة المؤيدة من الله تعالى بالبرهان الساطع والسيف القاطع .
    ومن ذلك : ما يذبح عند قدوم بعض الملوك على بعض فإنهم يذبحون في طريقه بعض بهيمة الأنعام ، وهذه الذبيحة محرمة على كل حال ، لكن إذا كان قصد ذابحها تعظيم المذبوح له والتقرب له فإنها تكون من الشرك الأكبر - والعياذ بالله - .
    ومن ذلك : الذبيحة التي تسمى ذبيحة الصلح ، وهو أن بعض القبائل إذا أرادوا أن يصلحوا بين شخصين أو قبيلتين فإنهم يذبحون بعض بهيمة الأنعام أمام من يطلبون منه الصلح تعظيمًا له وتزلفًا إليه وتقربًا لديه ليرضى عنهم ، وهذه الذبيحة بهذا الاعتبار من الشرك الأكبر المخرج عن الملة - والعياذ بالله - ، وأما إن لم يكن قد صاحب ذلك قصد التعظيم والقربة فإنها محرمة فقط ، ولعل هذه الأمثلة كافية إن شاء الله تعالى ، والله أعلم .
*  *  *
    س41: ما حكم الذبح بمكانٍ يذبح فيه لغير الله ؟ مع بيان الدليل .
    ج41: الذبح بمكان يذبح فيه لغير الله لا يجوز ، ودليل ذلك حديث ثابت بن الضحاك قال : نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة ، فسأل النبي  فقال : (( هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد )) ؟ قالوا : لا . قال : (( هل كان فيها عيد من أعيادهم )) ؟ قالوا : لا . فقال للرجل : (( أوف بنذرك فإنه لا وفاء بنذرٍ في معصية ولا فيما لا يملكه ابن آدم )) رواه أبو داود بإسناد صحيح .
    ووجه الدلالة منه واضحة ، وهي أن الجواب لو كان بـ ( نعم ) كان فيها ذلك لما أجاز له النبي  أن يذبح في ذلك المكان ، وذلك دليل على أنه لا يذبح لله بمكانٍ يذبح فيه لغير الله ، والله أعلم .
*  *  *
    س42: ما الحكمة من هذا المنع ؟
    ج42: الحكمة الأساسية من ذلك هو نهي الله ورسوله  ، فالمسلم يكفيه ذلك لكن يتفرع عن هذه الحكمة عدة مصالح أذكرها لك مختصرة :
    فمنها : أن من مقاصد الشريعة سد ذريعة مشابهة المشركين فيما كان من عباداتهم وعاداتهم ، فمنعت الشريعة الذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله سدًا لهذه الذريعة .
    ومنها : أن من مقاصد الشريعة إخماد سنة الجاهلية وإبطال آثار الشرك والوثنية ، فسدًا لذريعة إحياء شيء من سنتهم نهت الشريعة عن ذلك .
    ومنها : أن الموافقة في الظاهر توجب توافقًا وتواددًا في الباطن ، ولذلك فنحن منهيون عن التشبه بهم حتى في طريقة ترجيل الشعر ولبس النعل والصلاة فيها وذلك حتى لا يحصل بيننا وبينهم أي توافق ظاهري فيؤدي ذلك إلى توافق باطني ، فسدًا لذريعة الموافقة في الباطن منعت الشريعة هذه الموافقة في الظاهر فنهت عن الذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله تعالى .
    ومنها : أن هذا أيضًا فيه سد الذريعة المفضية إلى الشرك .
    ومنها : أن فيه تجنيب العبد مواضع الشرك التي عصي فيها الله تعالى ؛ لأنها أماكن قد حق العذاب فيها على أهلها فيخشى أن يصيبه معهم ، فنهي العبد عن فعل شيء فيها تجنيبًا له لأسباب الهلاك .
    فهذه بعض الحكم والمصالح المترتبة على ذلك ، والله أعلم .
*  *  *
    س43: عرف الاستعاذة ؟ وما أنواعها ؟ مع بيان دليل كلٍ .
    ج43: الاستعاذة هي : طلب العوذ من الأمر المخوف . وهي أنواع :
    الأول : الاستعاذة بالله تعالى المتضمنة لكمال الافتقار إليه واعتقاد كفايته وتمام حمايته من كل شيء حاضر أو مستقبل ، صغير أو كبير ، بشر أو غير بشر ، ودليل ذلك قوله تعالى :  قل أعوذ برب الفلق. من شر ما خلق...  السورة بتمامها، وقوله تعالى:  قل أعوذ برب الناس. ملك الناس. إله الناس. من شر الوسواس الخناس. الذي يوسوس في صدور الناس. من الجنة والناس  ، وقوله تعالى عن موسى - عليه السلام -:  وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب . وفي الحديث أنه لما نزل قوله تعالى:  قل هـو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم  قال - عليه الصلاة والسلام - : (( أعوذ بوجهك )) ، ثم قال :  أو من تحت أرجلكم  قال - عليه الصلاة والسلام - : (( أعوذ بوجهك )) ، ثم قال :  أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض  فقال : (( هذه أهون أو أسهل )) ، وهذه لاشك أنها نوع من أنواع العبادة التي لا تصرف إلا لله تعالى .
    الثاني : الاستعاذة بالأموات وأصحاب القبور ، أو بالأحياء الغائبين ، أو الاستعاذة بالحي فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، فهذا لاشك أنه من الشرك الأكبر كاستعاذة الرافضة بعلي بن أبي طالب  أو الاستعاذة بالجن لكف شر بعضهم أو الاستعاذة بالبدوي أو الحسين ونحو ذلك ، قال تعالى :  وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقًا  ، ولأن الاستعاذة في الأمر الذي لا يقدر عليه إلا الله تعالى نوع من أنواع العبادة ، والمتقرر في العقيدة : أن من صرف عبادة لغير الله فإنه مشرك .
    الثالث : الاستعاذة بغير الله تعالى فيما يقدر عليه المستعاذ به ، فهذا لا بأس به وليس من العبادة في شيء ، لكن ينبغي أن يعلم أن المعيذ في الحقيقة هو الله تعالى وأن هذا إنما هو سبب فقط ، ودليل جواز ذلك قوله  في ذكر الفتن : (( من تشرف لها تستشرفه ومن وجد ملجأً أو معاذًا فليعذ به )) متفق عليه ، وقد بين  هذا الملجأ والمعاذ بقوله في رواية مسلم : (( فمن كان له إبل فليلحق بإبله )) ، وفي صحيح مسلم أيضًا أن امرأة من بني مخزوم سرقت فأتـي بهـا النبي  فعـاذت بأم سلمـة ... الحديـث ، وفـي صحيـح مسلـم أيضًا عن أم سلمة - رضي الله عنها - عن النبي  قال : (( يعوذ عائذ بالبيت فيبعث إليه بعث ... )) الحديث .
*  *  *
    س44: ما حكم الاستعاذة بالصفة ؟ مع الدليل .
    ج44: الاستعاذة بالصفة جائزة باتفاق أهل السنة والجماعة .
    ودليل ذلك الحديث السابق عند البخاري في قوله تعالى :  قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم ...  الآية ، ويقول - عليه الصلاة والسلام - بين ذلك : (( أعوذ بوجهك )) ، وفي الحديث فيمن آلمه شيء من بدنه فليضع إصبعه عليه وليقل : (( بسم الله ، بسم الله ، أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر (سبعًا) )) ، وروى مسلم في صحيحه عنه  أنه كان يقول : (( وأعوذ برضاك من سخطك )) ، وفي الحديث في دعاء الصباح والمساء : (( وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي )) ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق )) .
    فهذه النصوص فيها الاستعاذة بالوجه والعزة والقدرة والعظمة والكلام والرضا ، وهي من الصفات الثابتة بالكتاب والسنة ، فدل ذلك على جواز الاستعاذة بصفاته جل وعلا ، والله أعلم .
*  *  *
    س45: عرف الاستعانة والاستغاثة ؟ وما أقسامها ؟ وحكم كل قسم مع بيان دليل ذلك.
    ج45: الاستعانة طلب العون ، والاستغاثة طلب الغوث، وكل منهما ينقسم إلى أقسام:
    الأول : الاستعانة والاستغاثة بالله تعالى المتضمنة لكمال الذلة والخضوع والانكسار له جل وعلا ، فهذه من أفضل الأعمال وأكملها وهو دأب الرسل - عليهم السلام - وأتباعهم ، قال تعالى :  إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنني ممدكم بألفٍ من الملائكة مردفين  .
    الثاني : الاستعانة والاستغاثة بالأموات أو بالأحياء الغائبين أو بالأحياء الحاضرين في الأمر الذي لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، وهذه هي الاستعانة والاستغاثة الشركية ، أعني الشرك الأكبر المخرج من الملة بالكلية ؛ لأنه لا يفعله إلا من يعتقد أن لهؤلاء تصرفًا خفيًا في الكون فيجعل لهم حظًا من الربوبية وقد قال تعالى :  أمَّنْ يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإلهٌ مع الله قليلاً ما تذكرون  ، ولأن الاستعانة والاستغاثة نوع من الدعاء وقد تقدم أن من صرف دعاء المسألة لغير الله في الأمر الذي لا يقدر عليه إلا الله تعالى فقد وقع في الشرك الأكبر .
    الثالث : الاستعانة والاستغاثة بالأحياء في الأمر الذي يقدرون عليه ، فهذا لا بأس به وليس ذلك من العبادة في شيء ، وذلك كقوله تعالى :  فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه  ، وكاستغاثة الغريق أو من سقط في حفرةٍ بمن يستطيع إنقاذه من ذلك ، فهذا لا بأس به ، والله أعلم .
*  *  *
    س46: عرف التوكل ؟ وما أنواعه ؟ وحكم كل نوع ، مع الدليل .
    ج46: التوكل على الشيء الاعتماد عليه ، والتوكل على الله تعالى هو الاعتماد على الله تعالى كفاية وحسبًا في جلب المنافع ودفع المضار ، وهو أنواع :
    الأول : التوكل على الله تعالى في جلب الخيرات بأنواعها ودفع المضرات بأنواعها ، وهذا من تمام الإيمان الواجب أي أنه لا يتم الإيمان إلا به ، قال تعالى :  وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين  ، وقال تعالى :  ومن يتوكل على الله فهو حسبه  ، وقال تعالى :  وعلى الله فليتوكل المتوكلون  .
    الثاني : توكل السر ، ومعناه أن يتوكل على ميتٍ في جلب منفعة أو دفع مضرة ، فهذا شرك أكبر ؛ لأنه لا يقع إلا ممن يعتقد أن لهذا الميت تصرفًا خفيًا في الكون ولا فرق بين أن يكون ذلك الميت نبيًا أو وليًا أو غيرهما ، وذلك كاعتماد أصحاب القبور على الأموات .
    الثالث : التوكل على الغير فيما يقدر عليه مع اعتماد القلب على ذلك الغير في حصول المطلوب أو دفع المرهوب ، فهذا شعبة من الشرك ، لكنه الشرك الأصغر وذلك لقوة تعلق القلب به .
    الرابع : التوكل على الغير فيما يقدر عليه ذلك الغير مع اعتماد القلب بكليته على الله تعالى واعتقاد أن ذلك إنما هو سبب في تحصيل الأمر المطلوب فقط ، كمن ينيب غيره في أمرٍ تدخله النيابة ، فهذا لا بأس به ، وهو بهذا الاعتبار يأتي بمعنى الوكالة ، فقد وكل يعقوب - عليه الصلاة والسلام - أبناءه في البحث عن أخيهم يوسف - عليه السلام - فقال:  يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه  ، وقد وكل النبي  على الصدقة عمالاً وحفاظًا ، ووكل في إثبات الحدود وإقامتها ، ووكل علي بن أبي طالب في ذبح ما لم يذبح من هديه وأن يتصدق بجلودها وجلالها ، وهذا جائز بالإجماع في الجملة .
    فتبين بهذا أن النوع الأول : هو حقيقة الإيمان وتمامه الواجب ، وأن النوع الثاني : شرك أكبر ، والثالث : شرك أصغر ، والرابع : لا بأس به ، والله أعلم .
*  *  *
    س47: عرف الخوف ؟ وما أنواعه ؟ وحكم كل نوع ؟ مع الدليل .
    ج47: الخوف هو الذعر ، وهو نوع انفعال يحصل في النفس له أثر ظاهر بسبب توقع ما فيه هلاك أو ضرر أو أذى ، وقد ذكر أهل العلم أنه أنواع :
    الأول : الخوف الطبيعي الجبلي ، كخوف الإنسان من النار أن تحرقه ، أو من السبع أن يأكله ، أو من الماء الكثير أن يغرق فيه ، فهذا خوف لا يلام الإنسان عليه ، فقد خاف كليم الله موسى - عليه السلام - من فرعون وقومه كما قال تعالى :  فأصبح في المدينة خائفًا يترقب  ، وقد خاف نبي الله داود لما تسور عليه الخصمان كما قال تعالى :  إذ دخلوا على داود ففزع منهم  ، وقال تعالى عن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - :  فأوجس منهم خيفة  ، وهذا خوف طبيعي لا يلام العبد عليه .
    الثاني : الخوف الذي تسميه العلماء بخوف السر ، ومعناه أن يخاف العبد من قبرٍ أو ميتٍ أو غائب بعيد عنه أن يصيبه بأذى ، فهذا الخوف ليس به أسباب معلومة ، بل لم يصدر هذا الخوف من هذا الرجل إلا لاعتقاده أن لهذا المخوف منه تصرفًا خفيًا في الكون بكونه قادرًا على أن يصيبه بأذى ، وهذا الخوف شرك أكبر مخرج عن الملة ، كما قال تعالى عن قوم هود أنهم قالوا له :  إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوءٍ  فقد كانوا يظنون ويعتقدون فيها أنها تصيب من أنكر عبادتها بالأذى مع أنها حجارة لا تضر ولا تنفع .
    الثالث : الخوف الذي يوجب لصاحبه ترك واجب أو فعل محرم ، وهذا الخوف حرام في ذاته ؛ لأنه وسيلة إلى الحرام ووسائل الحرام حرام ، وذلك لقوله تعالى :  فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين  ، وقال تعالى :  أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين  ، وذلك كالخوف الذي يحمل صاحبه على ترك الدعوة المتعينة عليه ، والخوف الذي يوجب ترك الجهاد ، والخوف الذي يوجب طاعة المخلوق في معصية الخالق ونحو ذلك ، فهذا الخوف حرام ، والله أعلم .
*  *  *
    س48: ما مذهب أهل السنة في الجمع بين الخوف والرجاء ؟
    ج48: مذهبهم في ذلك أنه لابد أن يعبد العبد ربه بهما أي أن يعبد الله تعالى راغبًا راهبًا ، كما قال تعالى :  إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين  ، وقال تعالى :  ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفًا وطمعًا إن رحمة الله قريب من المحسنين  ؛ وذلك لأنه من عبد الله بالرجاء وحده أمن من مكر الله ، ومن عبده بالخوف وحده وقع في اليأس من رحمة الله وقنط من روح الله ، ومن عبده بالخوف والرجاء فهو الموحد المهدي إلى الصراط المستقيم ، ولابد من استوائهما فلا يغلب الخوف على الرجاء ، ولا يغلب الرجاء على الخوف فيهلك ، وهذه صورة من صور الوسطية إلا أنه إذا كان هناك مقتضى لتغليب أحدهما فإنه يغلبه وإلا فالأصل استوائهما ، وذلك كما إذا كان العبد يعالج سكرات الموت فلابد من تغليب جانب الرجاء حتى يحصل له إحسان الظن بربه كما في الحديث : (( أنا عند ظن عبدي بي )) ، وفي الحديث الآخر : (( لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه )) ، وطريق إحسان الظن تغليب الرجاء ، ومثال آخر : عند التوبة من الذنوب والمعاصي فإنه لابد أن يغلب جانب الرجاء ، ومثال آخر : عند تحديث النفس بفعل شيء من الذنوب فإنه لابد أن يغلب جانب الخوف لتنزجر النفس عن ذلك ، وعلى ذلك فقس ، وبه تعلم أن الخشية إنما هي اجتماع الخوف والرجاء ، والله أعلم .
*  *  *
    س49 : ما قاعدة أهل السنة والجماعة في الأيْمان ؟ مع بيان الدليل عليها .
    ج49: القاعدة عندهم في الأيمان تقول : (لا يجوز الحلف إلا بالله أو صفة من صفاته) ، وبعضهم يزيدها إيضاحًا ويقول : ( لله أن يحلف بما شاء من مخلوقاته وليس للعبد أن يحلف إلا بالله أو صفةٍ من صفاته ) ، ودليلها قوله  : (( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك )) ، وحديث : (( لا تحلفوا بآبائكم ، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت )) ، وعن قتيلة أن يهوديًا أتى النبي  فقال : إنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشئت وتقولون والكعبة ، فأمرهم النبي  إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا : (( ورب الكعبة )) ، وأن يقولوا : (( ما شاء الله وشئت )) رواه النسائي وصححه ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( لا تحلفوا بآبائكم ومن حلف بالله فليصدق ومن حلف له بالله فليرضى ومن لم يرضى فليس منا )) رواه ابن ماجه بإسنادٍ حسن ، وقال ابن مسعود  : (( لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقًا )) ؛ وذلك لأن الحلف بالله كاذبًا معصية والحلف بغير الله شرك وإن كان صادقًا ، ومن الأدلة أيضًا الإجماع المنعقد على المنع من الحلف بغير الله تعالى ولا عبرة بمن قال بغير ذلك لمخالفته لهذه النصوص الصريحة الصحيحة ، والله أعلم .
*  *  *
    س50: ما حكم الحلف بغير الله تعالى - بالتفصيل - ؟ وما كفارة ذلك ؟ مع الدليل .
    ج50: من حلف بغير الله تعالى فإنه قد وقع في الشرك الأصغر ، إلا أنه إن كان قد صاحب حلفه تعظيم كتعظيم الله تعالى فإنه في هذه الحالة يكون قد وقع في الشرك الأكبر ، كما يفعله عباد القبور والأولياء فإن أحدهم إذا أراد أن يحلف كاذبًا فإنه يحلف بالله تعالى ، وإذا أراد أن يغلظ الأيمان ويبر فيها ويظهر أنه صادق فإنه يحلف بوليه الذي يعظمه ، وهذا عين الشرك الأكبر ولاشك ، ومن حلف بغير الله تعالى فإن كفارة ذلك أن يقول : لا إله إلا الله ، لحديث : (( من حلف فقال واللات والعزى فليقل : لا إله إلا الله )) وهو في الصحيح ؛ وذلك لأنه بهذا الحلف قد جرح توحيده بالشرك فلابد من جبر ذلك الجرح إن كان الشرك أصغرًا ، أو يكون بذلك مجددًا إسلامه إن كان أكبرًا ، والله أعلم .
*  *  *
    س51: هل لك أن تمثل لنا على نماذج من الحلف بغير الله تعالى ؟
    ج51: نعم على الرحب والسعة ، فمن ذلك : الحلف بالنبي  فيقول : والنبي ، وليس بحجةٍ علينا أنه مما يجري على اللسان من غير قصد أو أنه نشأ في بلدة يحلف أهلها بذلك فإن الإنسان متعبد بما جاء به النص لا بما وجد عليه أهل بلده .
    ومن ذلك : الحلف بالأمانة فيقول : والأمانة . أو كالحلف بالشرف ، فيقول : وشرفي ، أو وشرف أبي أو أمي . أو كالحلف بالبدوي ، أو زينب ، أو الحسن ، أو برأس أحدٍ من المخلوقين ، أو بالعهد والميثاق ، أو بالكعبة ، أو بمقام إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ، أو بتربة القبر الفلاني ، أو بالعيش والملح ، أو يقول : وحياتك يا فلان أو وحياتي ، ونحو ذلك .
    كله محرم وشرك ؛ لأن الحلف عبادة فلا يعقد إلا بالله تعالى ولما مضى من الأدلة ، والله أعلم .
*  *  *
    س52: ما حكم الحلف بآيات الله ؟ مع الدليل .
    ج52: هذا السؤال مجمل ، وجوابه لابد فيه من التفصيل فأقول :
    إن كان يريد بالآيات أي الآيات الكونية كالشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والليل والنهار ، فهذه الأشياء مخلوقة ، وقد تقرر لنا أنه لا يجوز الحلف بشيء من المخلوقات ، وأما قوله تعالى :  والشمس وضحاها . والقمر إذا تلاها  ، وقوله :  والفجر . وليال عشر  ، وقوله :  والضحى  ، ونحو ذلك مما ورد في القرآن فإن هذا القسم صادر من الله تعالى ولله أن يحلف بما شاء من مخلوقاته ، وأما المخلوق فإنه لا يجوز له أن يحلف إلا بالله أو صفةٍ من صفاته ، وربنا جل وعلا لا يدخل تحت الأحكام الشرعية حتى نقول : هذا واجب عليه أو هذا محرم عليه - تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا - .
    وأما إذا كان يقصد بالآيات أي الآيات الشرعية أي القرآن فإنه آيات ، كما قال تعالى :  بل هو آيات في صدور الذين أوتوا العلم  ، وقال تعالى :  كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير  ، فحلفه بها حينئذٍ جائز باعتبار أن هذه الآيات من كلام الله تعالى وكلامه تعالى صفة من صفاته ، وقد تقرر أنه يجوز الحلف بالصفة ، وبهذا التفصيل يفهم الجواب - إن شاء الله تعالى - ، والله أعلم .
*  *  *
    س53: ما حكم قول بعض الناس : ( في ذمتي ) ؟
    ج53: إن كان يقصد بها عقد اليمين فهذا لا يجوز ؛ لأن الذمة مخلوقة ، وقد تقرر لنا أنه لا يجوز الحلف بالمخلوق ، وإن كان لا يقصد بها عقد اليمين وإنما يقصد أنه يتحمل حقيقة الخبر إن كان كذبًا فهذا لا بأس به ، ولكن الغالب يشكل عليهم هذا اللفظ ولا يفهمون منه إلا أنه حلف فالواجب الكف عن التلفظ به والعدول عنه إلى الأيمان التي لا إشكال فيها ؛ لأن ذلك من حماية جناب التوحيد ، والله أعلم .
*  *  *
    س54: ما حكم الإكثار من الحلف ؟ ولماذا ؟ مع بيان الدليل .
    ج54: الإكثار من الحلف منافٍ لكمال تعظيم الله تعالى واحترام أسمائه وصفاته ؛ وذلك لأن الحلف به أمر عظيم فلا ينبغي أن يقال إلا على تأكيد الأشياء العظيمة المهمة وأما سفاسف الأمور وترهات الأقوال فإنه ينبغي تنزيه أسماء الله وصفاته أن تذكر لتأكيد مثل ذلك ، والواجب على المسلم تعظيم الله تعالى واحترام أسمائه وصفاته ، ولذلك فإنه لم يرد في القرآن أن الله تعالى أمر نبيه أن يحلف به إلا على الأشياء العظيمة كأمر المبعث والمعاد وصدق القرآن ، قال تعالى :  واحفظوا أيمانكم  ، فإنه قيل في أحد تفاسيرها أي لا تكثروا منها ، وفي الصحيح عن أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب )) ، وعن سلمان  قال : قال رسول الله  : (( ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : أشيمط زان ، وعاقل مستكبر ، ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه )) رواه الطبراني بسند صحيح ، ومن عمق فهم السلف وتعظيمهم لله جل وعلا أنهم كانوا يضربون صغارهم على الشهادة والعهد كما قاله إبراهيم النخعي - رحمه الله تعالى - ، واليمين نوع من الشهادة ، فهذا فيه التربية على تعظيم الله واحترام أسمائه وصفاته ، والله أعلم .
*  *  *
    س55: عرف التمائم ؟ وما أقسامها ؟ وحكم كل قسم ؟ مع الدليل .
    ج55: التمائم لها تعريفان : تعريف بالحد الجامع المانع ، وتعريف بضرب المثال .
    فأما تعريفها بالاعتبار الأول : فهي كل ما يعلق أو يوضع ويعتقد فيه أن يجلب خيرًا أو يدفع شرًا .
    وأما تعريفها بالاعتبار الثاني: فقيل: هي مايعلق على الصبيان يتقون به العين. وقيل: هي ما يعلق في رقاب الدواب التي يخشون من إصابتها بالحسد لجمال صفاتها. وقيل: هي ما يوضع في الدار لاتقاء شر الحاسدين أو اتقاء الجن والشياطين وكل ذلك تعريف لها بضرب المثال .
    وأما أقسامها : فاعلم أنها قسمان : تمائم من القرآن ، وتمائم شركية .
    فأما التمائم الشركية ، فهي التي اشتملت على الاستعانة بالجن والاستغاثة بالشياطين والاستعاذة بهم من الشر أو احتوت على طلاسم وكتابات لا تعرف ولا يدرى عن المقصود بها ، فهذه لاشك أنها حرام وشرك ، والدليل على ذلك قوله تعالى :  قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته  ففي هذه الآية دليل على بطلان الشرك ولبس الحلقة والخيط من ذلك لا يكشف الضر ولا يمنع منه ولا يجلب الخير وليس بسببٍ فيه .
    وعن ابن مسعود  قال : قال رسول الله  : (( إن الرقى والتمائم والتولة شرك )) رواه أبو داود وأحمد وابن ماجه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي ، وهو نص صريح صحيح في هذه المسألة .
    وعن أبي بشير الأنصاري أنه كان مع النبي  في بعض أسفاره فأرسل رسولاً : (( ألا يبقين في رقبة بعير قلادة من وترٍ أو قلادة إلا قطعت )) رواه مسلم .
    وعن عمران بن حصين - رضي الله عنهما - أن رسول الله  رأى رجلاً في يده حلقة من صفرٍ فقال : (( ما هذه )) ؟ قال : من الواهنة . فقال : (( انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنًا فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدًا )) رواه أحمد وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه ووافقه الذهبي .
    ولأحمد بسنده عن عقبة بن عامرٍ مرفوعًا : (( من تعلق تميمة فلا أتم الله له ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له )) ، وفي رواية : (( من تعلق تميمة فقد أشرك )) .
    ولابن أبي حاتم عن حذيفة أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله تعالى :  وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون  .
    وعن عبدالله بن حكيم مرفوعًا : (( من تعلق شيئًا وكل إليه )) .
    وروى أحمد وأبو داود عن رويفع  قال : قال رسول الله  : (( يا رويفع لعل الحياة تطول بك فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وترًا أو استنجى برجيع دابةٍ أو عظم فإن محمدًا برئ منه )) .
    فهذه الأدلة الصحيحة الصريحة فيها الدلالة القاطعة على تحريم هذه المعلقات وأنها من الشرك ، وقد انعقد الإجماع على تحريم التمائم الشركية ولله الحمد والمنة .
    وأما التمائم من القرآن ، ففيها شيء من الخلاف ، فقيل بجوازها ، وقيل بالمنع ، ومن القائلين بالمنع ابن مسعود وغيره ، والقول بالمنع هو الصحيح وذلك لما يلي :
    الأول : عموم الأدلة الواردة في ذلك ، كما في قوله : (( إن الرقى والتمائم والتولة شرك )) ، فقوله : (( التمائم )) جمع دخلت عليه الألف واللام ، وقد تقرر في القواعد أن الألف واللام الداخلة على المفرد والجمع تفيده العموم أي الاستغراق ، فيدخل في كل ذلك كل التمائم ، وكقوله : (( من تعلق تميمة فقد أشرك )) ، فقوله : (( من تعلق )) هذا شرط ، وقوله : (( تميمة )) نكرة ، وقد تقرر في القواعد أن النكرة في سياق الشرط تفيد العموم ، فيصدق ذلك الوصف وهو الشرك على كل من تعلق تميمة من غير تفصيل بين تميمة وتميمة ، وكقوله : (( لا يبقين في رقبة بعير قلادة )) ، فقوله : (( لا يبقين )) نفي ، وقوله : (( قلادة )) نكرة ، وقد تقرر في القواعد أن النكرة في سياق النفي تعم ، وقد يكون بعض هذه القلائد قد عقد فيها قرآن ، وكقوله : (( من تعلق شيئًا )) وهذا نكرة في سياق الشرط وقد تقرر أنه يفيد العموم .
    وأيضًا يقال : هذه الأقوال خرجت عامة من غير استفصال بين تميمة وتميمة ، وقد تقرر في القواعد أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال منزل منزلة العموم في المقال .
    إذا علمت هذا فاعلم أن القاعدة تقول : الأصل هو البقاء على العموم حتى يرد المخصص ، ولم يرد ما يصلح أن يكون مخصصًا لهذه العمومات ، فالواجب هو البقاء على دلالة عمومها وعدم التعرض لها بتخصيص ، والله أعلم .
    الثاني : أن القول بمنع التمائم من القرآن فيه إعمال للقاعدة المتفق عليها وهي قاعدة سد الذرائع المفضية إلى الحرام ، والقول بجوازها فيه فتح لباب التمائم الشركية ، فإن معلقها قد يأتيه الشيطان ويقول : إن هذه لا تنفع وعليك بالتميمة الفلانية إن كنت تريد النفع ، فسدًا لهذا الباب منعت التمائم كلها من القرآن وغير القرآن .
    الثالث : أن معلق التمائم من القرآن لابد أن يتعلق قلبه بها ولو مطلق التعلق ، وهذا منافٍ لمقصود من مقاصد الشريعة ، وهو وجوب انصراف تعلق القلب بكليته بالله تعالى فسدًا لذريعة تعلق القلب بهذه الخيوط والخرزات والودع والأوراق منعت التمائم بجميع أنواعها .
    الرابع : أن القول بجواز التميمة من القرآن فيه فتح لباب إهانة كلام الله تعالى ؛ لأن معلقها قد يدخل بها الخلاء وهو ناس أو يشق عليه نزعها دائمًا أو يحر بها مجالس الغفلة واللهو واللغو والحرام ، أو تكون على صغير أو دابة فتتلوث بشيء من النجاسات من بولٍ أو غائط ، فسدًا لذريعة إهانة كلام الله تمنع التمائم من القرآن .
    فلهذه الأوجه ترجح المنع في هذا النوع من التمائم ، لكن يكفيك الوجه الأول وما بعده كالمؤيد له فقط ، والله أعلم .
*  *  *
    س56: هل قوله  في الأحاديث السابقة : (( فقد أشرك )) ، وقوله : (( إن الرقى والتمائم والتولة شرك )) ، يريد به الشرك الأكبر فيمن علق التمائم أم الشرك الأصغر ؟
    ج56: قد يكون هذا وقد يكون هذا ، وذلك باختلاف اعتقاد معلقها ، فإن كان يعتقد أنها تجلب الخير أو تدفع الشر بذاتها فهذا هو الشرك الأكبر وهو شرك في الربوبية ، وإن كان يعتقد أن الله هو الذي يجلب الخير ويدفع الشر وأن هذه التمائم سبب من أسباب دفع البلاء أو جلب النعماء فهذا شرك أصغر ، وذلك لسببين :
    أحدهما : أنه اعتقد سببًا ما ليس بسبب لا شرعًا ولا قدرًا .
    الثاني : أنه وسيلة للشرك الأكبر ، وقد تقرر أن كل وسائل الشرك الأكبر فشرك أصغر ، والله تعالى أعلى وأعلم .
    س57: ما الرقى ؟ وما أنواعها ؟ مع بيان شروط الرقية الشرعية ؟ وتوضيح ذلك بالأدلة ؟
    ج57: الرقى : هي التي تسمى العزائم ، وهي قراءة القرآن والأدعية المباحة على المصاب بمرضٍ ونحوه .
    وهي نوعان : رقى شركية ، ورقى شرعية .
    فأما الرقى الشركية ، فهي ما كانت مشتملة على تمتمات غير معلومة المعنى أو اشتملت على الاستعانة والاستعاذة والاستغاثة بالشياطين ليرفعوا أثرهم عن المصاب ونحو ذلك ، وهذا النوع لاشك في تحريمه وأنه من الشرك كما في الحديث السابق : (( إن الرقى والتمائم والتولة شرك )) ، والمراد هنا الرقى الشركية التي ضربت لك بعض الأمثلة عليها ، وفي الحديث : (( اعرضوا علي رقاكم لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا )) .
    وأما الرقى الشرعية ، فهي ما خلت عن الشرك ، كالرقية بالقرآن والأدعية الصحيحة المباحة ، وقد ثبت النص بالترخيص فيها كما في قوله : (( لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا )) ، وحديث : (( لا رقية إلا من عين أو حمة )) ، وقد رقى جبريل النبي  بالحديث المعروف : (( باسم الله أرقيك ... )) إلخ ، وقال - عليه الصلاة والسلام - لجارية بها صفرة : (( استرقوا لها فإن بها النضرة )) ، وغير ذلك من الأدلة .
    وقد اشترط جمع كبير جدًا من العلماء حتى ذكرها بعضهم إجماعًا لندرة المخالف في ذلك للرقية الشرعية ثلاثة شروط :
    الأول : أن تكون بكلام الله تعالى وما صح وأبيح من الأدعية الواردة في ذلك أو غيرها إذا كان معناه صحيحًا .
    الثاني : أن تكون باللسان العربي .
    الثالث : أن يعتقد القارئ والمقروء عليه أن هذه الرقية لا تشفي بذاتها وإنما هي سبب من أسباب الشفاء والشافي في الحقيقة هو الله تعالى ، والله تعالى أعلم .
    س58: عرف التبرك ؟ وما الأصل فيه ؟ مع بيان الدليل .
    ج58: التبرك : هو طلب البركة ورجاؤها واعتقادها .
    والأصل فيه التوقيف على ورود الدليل ، بمعنى أنه لا يجوز اعتقاد البركة أو تسويغ طلبها من شيء إلا وعلى ذلك دليل صحيح صريح ، والدليل على ذلك هو أن وجود البركة في مكانٍ أو زمانٍ أو شخصٍ من الأمور الغيبية التي لا تدرك بالعقل ، وقد تقرر في القواعد أن أمور الغيب مبناها على التوقيف ، مع ما سيأتي من الأدلة في قيد الأسئلة عن التبرك - إن شاء الله تعالى - ، والله أعلم .
*  *  *
    س59: ما القاعدة عند أهل السنة في اعتقاد البركة في الذوات والأماكن والأزمنة ؟ مع بيان معانيها .
    ج59: القاعدة عندهم تقول :
    (( الأصل في بركة الذوات التوقيف على الدليل )) .
    (( الأصل في بركة الأماكن التوقيف على الدليل )) .
    (( الأصل في بركة الأزمنة التوقيف على الدليل )) .
    ومعناها أن يقال : إنه لا يجوز اعتقاد أن هذه الذات أو هذا المكان أو هذا الزمان مبارك إلا وعلى ذلك الاعتقاد دليل من كتاب الله تعالى أو صحيح سنة النبي  ، فأمر التبرك كله مبناه على التوقيف كما مضى ، والله أعلم .
*  *  *
    س60: هل ورد الدليل الصحيح في ذات أحدٍ من الناس أنها مباركة ؟ نرجو توضيح ذلك بالأدلة .
    ج60: نعم قد ورد الدليل بذلك : وهو ذاته  ، فذاته  ذات مباركة ، فيجوز طلب البركة من ذاته وآثاره ، وذلك قد صحت به النصوص الكثيرة :
    فمن ذلك : تبرك الصحابة بفضل وضوئه وبنخامته كما في الصحيح في حديث صلح الحديبية : ( ما تنخم رسول الله  نخامة إلا وقعت في كف رجلٍ منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ) .
    ومن ذلك : تبركهم بالماء الذي غمس فيه يده ، فقد روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك  أنه قال : (( كان رسول الله  إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء فما يؤتى بإناءٍ إلا غمس يده فيه فربما جاءوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيه )) .
    ومن ذلك : التبرك بشعره  ، ففي صحيح مسلم عن أنس أن النبي  أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى فنحر ثم قال للحلاق : (( خذ )) وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس .
    ومن ذلك : التبرك بعرقه  ، ففي صحيح مسلم عن أنسٍ  قال : كان النبي  يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها وليست فيه ، قال : فجاء ذات يوم فنام على فراشها فأتت فقيل لها : هذا النبي  نام في بيتك على فراشك ، قال : فجاءت وقد عرق واستنقع عرقه على قطعة أديم على الفراش ففتحت عتيدتها فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قواريرها ففزع النبي  فقال : (( ما تصنعين يا أم سليم )) فقالت : يا رسول الله نرجوا بركته لصبياننا . قال : (( أصبت )) .
    وقد ورد الدليل الصحيح بإثبات جواز التبرك بفضل طيبه وبثيابه وبفضل شربه ، فهذه الأدلة تفيد إفادة قطعية أن ذاته  مباركة ، وهذا الذي نعرفه من الأدلة ، ويبقى ذات غيره من الإنس على حالها لا يجوز ادعاء البركة فيها ، ولذلك فالضابط عندنا يقول : لا يجوز التبرك بذات أحدٍ إلا بذاته  ، والله أعلم .
*  *  *
    س61: ما حكم طلب البركة من بعض الأشجار أو الأحجار ؟ مع الدليل .
    ج61: طلب البركة من بعض الأشجار أو الأحجار محرم وشرك ، قال تعالى :  أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى  ، وهذا إنكار من الله تعالى على عباد هذه الأوثان ، وهم عبدوها لينالوا شفاعتها وأن تقربهم إلى الله زلفى ويتبركون بها فأنكر الله تعالى عليهم ذلك وهو إنكار يتضمن النهي عن الاعتقاد في هذه الأوثان ، ويدخل في ذلك ضمنًا النهي عن التبرك بالأشجار والأحجار وأنه شرك ، فاللات يقاس عليه التبرك بالقبور ، والعزى ومناة يقاس عليه التبرك بالأشجار والأحجار ، وعن أبي واقد الليثي  قال : خرجنا مع رسول الله  إلى حنين ونحن حدثاء عهدٍ بكفرٍ وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم فقلنا : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط . فقال - عليه الصلاة والسلام - : (( الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى :  اجعل لنا آلهة كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون  لتركبن سنن من كان قبلكم )) رواه الترمذي بسندٍ صحيح ، وهذا دليل واضح في النهي الأكيد عن طلب البركة من الأشجار والأحجار وأنه شرك ، لكن إن قلت : هل هو شرك أصغر أم شرك أكبر ؟ أقول : هذا على حسب اعتقاد طالب البركة منها ، فإن كان يعتقد أنها تعطيه البركة بذاتها وأن لها تصرفًا خفيًا بذلك فهذا شرك أكبر منافٍ لأصل الإسلام ، ولو مات صاحبه عليه فإنه من الخالدين أبدًا في النار - والعياذ بالله - ، وأما إن كان يجعلها سببًا فقط في تحصيل البركة فهذا شرك أصغر لأنه اعتقد سببًا ما ليس بسبب شرعًا ولا قدرًا ولأنه وسيلة إلى الشرك الأكبر ، والله أعلم .
*  *  *
    س62: ما معنى بركة المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى ؟
    ج62: هذا سؤال مهم جدًا وبسبب الجهل بجوابه حصل كثير من الشرك ، وبيان الجواب أن يقال : إن بركة هذه الأماكن معناه مضاعفة الأجر للمتعبد فيها وما يحصل له من الأمن كما قال تعالى عن المسجد الحرام :  ومن دخله كان آمنًا  فبركتها بركة معنوية أو نقول بركة لازمة ليست بمنتقلة ولا بمتعدية ، أي أنها ليست بركة ذاتية كبركة ذات النبي  ، بل هي بركة لازمة معنوية ، وبناءً عليه فإن من يتمسح بأستار الكعبة ظنًا منه أن البركة ستنتقل إلى بدنه فإنه أتي من قبل جهله وقلة فهمه ، وفعله هذا بدعة ، وكذلك من يقبل أعمدة المسجد الحرام أو مسجد المدينة ، ويتمسح بمقام إبراهيم أو يقبله أو يمسح عليه بيديه ثم يضعهما على وجهه وصدره ظنًا منه أنه بذلك قد انتقلت البركة إليه فإنه ضال مبتدع مخطئ ، وكذلك من يستلم الحجر الأسود أو الركن اليماني بيديه ثم يمرها على صدره ووجهه أو على وجه صغير معه وصدره ، كل ذلك من البدع المنكرة ، لا إنكارًا لبركة البقعة ولكن لأن بركة هذه البقعة بركة لازمة معنوية لا ذاتية منتقلة ، وكذلك من يتمسح بالأعمدة أو الفرش الموضوعة في الروضة الشريفة ظنًا أن بركة هذه الروضة ستنتقل إليه إذا فعل ذلك ، فإنه ليس على الصراط المستقيم في هذا الفهم ، وكذلك ما يفعله بعض الحجاج أو المعتمرين من أنهم يغسلون متاعهم ونقودهم وثيابهم التي عليهم بماء زمزم ظنًا منهم أنها بذلك ستحلها البركة ، فهذا ليس بصحيح ؛ لأن بركة ماء زمزم في شربه فقط ، والمقصود أن بركة هذه الأماكن المذكورة في السؤال إنما هي بركة لازمة معنوية لا أنها بركة ذاتية منتقلة ، والله أعلم .
*  *  *
    س63: هل يجوز إطلاق لفظ ( تبارك ) على غير الله تعالى ؟
    ج63: لا يجوز ذلك ؛ لأن واضع البركة هو الله تعالى ، فلا يقال : تباركت علينا يا فلان ، ولا يقال : فلان بارك بحضوره هذا المشروع ، أو بارك هذا الحفل ، كل ذلك من الإطلاقات المحرمة ، والله أعلم .
*  *  *
    س64: ما معنى قوله  : (( إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم )) ؟
    ج64: أقول : معنى ذلك أن كل مسلم فيه بركة ، لكن ليست هي البركة الذاتية المنتقلة ؛ لأن هذه البركة من خصائص بنينا محمد  ، وإنما المقصود أنها بركة عمل واعتقاد ؛ وذلك لأنه يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله ، ولما يحمله في قلبه من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ، وما يفعله بجوارحه من العبادات من صلاة وزكاة وصيام وحج ونحوها ، فالمراد ببركة المسلم أي بركة اعتقاد وعمل ، ومن ذلك قول أسيد بن الحضير : ( ما هي بأول بركاتكم يا آل أبي بكر ) ، وتزاد هذه البركة كلما قوي الإيمان واجتهد العبد في العبادة من تحصيل العلم النافع والعمل الصالح ، والله أعلم .
*  *  *
    س65: هل يجوز التبرك بآثار النبي  من لباسٍ وشعرٍ بعد وفاته ؟ أم أن ذلك مخصوص بحياته فقط ؟
    ج65: بل يجوز ذلك حتى بعد وفاته  ؛ وذلك لأن الصحابة والتابعين كانوا يتبركون بهذه الأشياء بعد وفاته - عليه الصلاة والسلام - فقد ثبت في الصحيح أن أسماء كانت عندها جبة النبي  تغمس في الماء ويسقى لمن به عين أو وجع فيبرأ - بإذن الله تعالى - ، وقد كانت هذه الجبة عند عائشة - رضي الله عنها - وقد كانت أم سلمة عندها شيء من شعرات النبي  في جلجلٍ من فضة ، فإذا أصاب أحدهم وجع يأتيها بإناءٍ فيه ماء فتخضض له الشعر فيه فيشربه فيشفى - بإذن الله تعالى - ، والحديث في البخاري وغيره .
    ويقول محمد بن سيرين - رحمه الله تعالى - : (( عندنا شعرة من شعر النبي  أصبناها من أنس ، أو من قبل أهل أنس )) .
    وعلى ذلك جرى عملهم من غير نكير ، وهذا دليل على جواز التبرك بآثاره  بعد وفاته إلا أنه ينبغي أن تعلم أن هذه الآثار قد فقدت كلها في أزمنة متقدمة فما بالك بزمننا هذا، فكل من يدعي أن عنده شيء من شعره أو ثيابه أو نعليه أو خاتمه فإنه كاذب في هذه الدعوى ، وإنما مراده إفساد الاعتقاد ونشر البدعة وانتهاب الأموال ، فانتبه لهذا الأمر ولا يغرنك الذين لا يستحون على وجوههم من مثل هذه الدعاوى البينة البطلان الظاهرة الزيف ، والله أعلم .
*  *  *
    س66: هل يجوز قول القائل لمن زاره من الصالحين : ( زارتنا البركة ) ؟
    ج66: هذا فيه تفصيل فإن كان يقصد بركة الذات فهذا لا يجوز ؛ لأن بركة الذات من خصائصه  فليس أحد بوركت ذاته إلا هو  ، وإن كان يقصد بذلك بركة العمل والاعتقاد أي أن هذا الزائر عنده أعمال صالحة واعتقادات موافقة للكتاب والسنة ، فتقول ذلك وتقصد بركة هذه الأعمال والاعتقادات فهذا لا بأس به ، لكن أقول : إذا كان اللفظ فيه شيء من الالتباس على بعض السامعين فالأسلم العدول عنه إلى غيره من الألفاظ سدًا لذريعة التخبط في الفهم وحماية لجناب التوحيد ، والله أعلم .
*  *  *
    س67: ما رأيك فيما يفعله بعض الصوفية مع مشايخهم ؟
    ج67: أقول : هذا باب واسع ، قد اتسع فيه الخرق على الراقع وقد عمت البلوى في كثير من بلاد الإسلام والعرب وغيرها بهؤلاء المشايخ الذين هم في الحقيقة مشايخ الضلال والبدعة ، فإنهم يأمرون أتباعهم بتعظيمهم التعظيم الزائد على الحد المشروع حتى يعتقد المريد أن شيخه هو البركة بعينها ، فتراه يتمسح به أو بآثاره ويضفي عليه العصمة ويقبل الصادر والوارد منه بلا تفكير ولا مناقشة وهذا كله ضلال وبدعة ، بل قد يصل بصاحبه في كثير الأحيان إلى الشرك المخرج من الملة ، فالواجب نصح هذه الطائفة وكشف الشبه عندهم ودعوتهم إلى الاعتقاد الصحيح ، وهذا واجب عيني على أهل العلم ، أعانهم الله على القيام به خير القيام ، والله أعلم .
*  *  *
    س68: من الكاهن ؟ وما حكمه ؟ وما حقيقة الكهانة ؟
    ج68: الكاهن : هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل اعتمادًا على الاستعانة بالشياطين .
    وأما حكمه : فهو مشرك بالله جل وعلا الشرك الأكبر ؛ وذلك لأنه يستخدم الجن ولا يمكن أن تخبره الجن بالمغيبات إلا إذا تقرب إليها بأنواع العبادات ، وهذا من استمتاع الجن بالإنس الداخل في قوله تعالى :  ربنا استمتع بعضنا ببعض  ، فالكاهن يستمتع بما تخبره به الشياطين من الأمور الغيبية والشياطين تستمتع بما يتقرب لها من أنواع العبادات ، وكانت الكهانة منتشرة في بلاد العرب في الجزيرة وغيرها .
    وحقيقة الكهانة : أنها صنعة مضادة لأصل التوحيد لما فيها من تصديق الجن فيما تخبره به من الغيب ، فهي مضادة كل المضادة لقوله تعالى :  قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله  ، ولقوله تعالى :  عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا إلا من ارتضى من رسول ...  الآية ، فالكاهن لابد لكي يخدموا بذكر الأمور المغيبة لهم أن يتقربوا إلى الجني ببعض العبادات إما بالذبح أو الاستغاثة أو بالكفر بالله بسب المصحف أو إهانته ونحو ذلك ، حتى ترضى عليهم الشياطين ، فتخبرهم ببعض الأمور الغائبة ، فهم دجالون كذابون أفاكون يعتمدون في مثل هذه الأخبار على نقل الدجالين الكذابين الأفاكين ، والله أعلم .
*  *  *
    س69: ما حكم الإتيان إليهم بالتفصيل والتدليل ؟
    ج69: الإتيان إليهم لا يخلو : إما أن يكون لفضح حالهم والإنكار عليهم وبيان تناقضهم وللأخذ على أيديهم أو للتحقق من حالهم ومعرفة حقيقة أمرهم ، فهذا مأمور به لأنه من جملة الإنكار ، بل هو من الواجبات على من أعطاه الله نفوذًا وسلطانًا على الإنكار باليد أو اللسان ، وهو من أعظم القربات - جزى الله فاعله خير الجزاء أن يريح الأمة من هذه الطائفة العفنة - ، فهذا هو حالة الأولى .
    وأما الحالة الثانية : أن يأتيهم يسألهم لمجرد الاطلاع على صنعتهم ولا ينوي شيئًا مما ذكرناه في الحالة الأولى ولا يصاحب ذلك الاطلاع والسؤال تصديق فيما يخبرون به من الغيب ، فهذا الإتيان محرم وكبيرة من كبائر الذنوب وموجب للعقوبة لما فيه من تعريض التوحيد للخطر ، ولأنه وسيلة من وسائل الوقوع في حبائلهم والاغترار بحالهم ، ولما فيه من فتح الذهاب إليهم واغترار الجهال بما هم عليه من الكفر والشرك ، ولأنه إذا لم ينكر هذا المنكر بما يقدر عليه من مراتب الإنكار فإنه يكون بذلك قد ترك واجبًا ومن ترك واجبًا فإنه لزامًا يقع في الحرام ؛ لأن ترك الواجب وقوع في المحرم .
    وأما الحالة الثالثة : فهي أن يأتيهم فيسألهم عن شيء فيصدقهم فيما يقولون ، فهذا قد ارتكب جرمًا أشد من الذي قبله في الحالة الثانية وقد ورد الدليل الصحيح الصريح بأنه بذلك السؤال والتصديق لا تقبل له صلاة أربعين يومًا ، وبأنه كفر بما أنزل على محمد  ، فقد روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي  أنه قال : (( من أتى عرافًا فسأله عن شيءٍ فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يومًا )) ، فهذا الحديث عقوبته مشروطة بالتصديق .
    وعن أبي هريرة عن النبي  قال : (( من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد  )) رواه أبو داود وللأربعة والحاكم وقال : صحيح على شرطهما عن النبي  أنه قال : (( من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد  )) .
    وعن عمران بن حصين  مرفوعًا : (( ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له أو سحر أو سحر له ومن أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد  )) .
    وهاهنا تنبيهان :
    الأول : قوله : (( فقد كفر بما أنزل على محمد  )) اختلف العلماء في ذلك الكفر ، هل هو الأكبر أم الأصغر ؟ والأقرب - إن شاء الله تعالى - أنه الكفر الأصغر أي ليس هو الكفر الناقل عن الملة ، بل هو الكفر المنافي لكمال التوحيد الواجب ؛ وذلك لأنه في الحديث الذي رواه مسلم قال : (( لم تقبل له صلاة أربعين يومًا )) ، فهذا التقييد فهم أن الكفر هنا هو الكفر الأصغر ؛ لأنه لو كان يريد الأكبر لما حده بأربعين يومًا ؛ لأن الكفر الأكبر لا يقبل معه صلاة مطلقًا ؛ لأن من شرط القبول الإسلام ، ولأنه يجب الجمع بين الأحاديث ما أمكن وهذا القول الذي ترجح هو الذي يجمعها ؛ ولأن تصديق الكاهن فيه نوع شبهة تمنع من تكفير مصدقه الكفر الأكبر ، فإن قلت : لماذا لا يحمل الحديث الذي في صحيح مسلم على الحالة الثانية وهو السؤال المجرد عن التصديق ؟ فأقول : المانع من ذلك هو قوله في هذا الحديث : (( فسأله عن شيء فصدقه )) ، وهذا قيد فيه هذه العقوبة ، وقد تقرر في القواعد أن إعمال الكلام أولى من إهماله ، فلا يجوز إلغاء ذلك القيد ؛ لأنه لا يجوز إلغاء شيء من كلام الشارع ، ولا غرابة أن يأتي هذا اللفظ أعني قوله : (( فقد كفر بما أنزل على محمدٍ  )) مرادًا به الكفر الأصغر ، وذلك كما في حديث أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( من أتى حائضًا أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد  )) وسنده حسن صحيح .
    فالأظهر أن كفره كفرًا أصغر وليس بأكبر ، والله أعلم .
    الثاني : قوله : (( لم تقبل له الصلاة أربعين يومًا )) لا يراد به أنه يتركها بالكلية ، وإنما المقصود من ذلك ذهاب الأجر لكنه يجب عليه أداؤها ويسقط عنه الغرض بذلك ، لكن لا أجر له فيها عقوبة ونكالاً له على جريمته وتعديه لحدود الله تعالى ، وفيه دليل أيضًا على أن مصدقهم لا يكفر الكفر الأكبر لإلزامه بفعل الصلاة وإنما الذاهب عليه أجرها ، ولو كان كافرًا الكفر الأكبر لما قبلت منه مطلق القبول ، وقوله : (( أربعين يومًا )) فيه دليل على أن هذه العقوبة مؤقتة بوقت ثم يزول أثرها بانتهاء وقتها ، مما يدل أيضًا على أن المراد الكفر الأصغر لا الأكبر كما قدمنا ، والله أعلم .
    فهذا هو تفصيل الحكم في الإتيان إليهم مقرونًا بالدليل والتعليل ، والله أعلم .
*  *  *
    س70: ما أصناف الكهانة ؟ وما الجامع فيها ؟
    ج70: أقول : أصناف الكهانة كثيرة ، فمنها : ما يكون بالنظر في النجوم ، ومنها : ما يكون بالخط أو عن طريق الفنجان أو عن طريق الطرق أو عن طريق الودع أو عن طريق قراءة الكف أو عن طريق ضرب الرمل أو عن طريق قراءة ما في الضمير أو عن طريق الحصى أو عن طريق النظر في الزجاج أو الماء أو عن طريق صب الرصاص المذاب أو عن طريق النظر في البروج كبرج الأسد والثور والعقرب والجدي ونحوها مما هو مشهور في كثير من المجلات أو عن طريق حروف ( أباجاد ) كما قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوم يكتبون ( أباجاد ) وينظرون في النجوم فقال : (( ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق )) .
    وكل هذه الطرق مبنية على الدجل والخرافة والتغرير ، فإن هذه الأشياء إنما يتخذها الكهان للتدجيل وتغرير من يأتيهم بأنهم أصحاب على وإلا فالأخبار التي يخبرون بها ليست عن طريق هذه الأشياء في الحقيقة وإنما هي عن طريق شيطاينهم ، ولذلك فالجامع في الكهانة أنها التدخل في ادعاء علم الغيب عن طريق ما يتلقفه الكاهن من أفواه الشياطين مع اتخاذه بعض الوسائل الظاهرة للخداع والتغرير ، والله أعلم .
*  *  *
    س71: كيف يعرف الكاهن ؟
    ج71: أقول : يعرف الكاهن بأمور كثيرة :
    منها : أنه غالبًا يسأل عن اسم الأم أو أحد الأقرباء .
    ومنها : أنه غالبًا ما يطلب بعض آثار المريض من ثياب أو ملابس داخلية كسراويل ونحوها .
    ومنها: أنه يعرف أيضًا باستخدام بعض الطرق الذي مر ذكرها في إجابة السؤال الماضي.
    ومنها : يعرض أيضًا بادعائه التطبب بالقرآن وهو لا يصلي ولا يرى في المساجد .
    ومنها : أنه غالبًا ما يأمر المريض بذبح شيء من الأنعام أو غيرها مما يؤكل من الحيوانات بشروط يمليها على المريض .
    ومنها : أنه يخبر المريض عن أشياء لم يخبره بها المريض ولا يعرف شيئًا عن حاله سابقًا أو يخبر المريض عن أشياء خاصة جدًا لا يطلع عليها إلا خواص الإنسان .
    ومنها : أن يُسمَع منه تمتمات وعبارات لا يفقه معناها .
    ومنها : أن بعضهم لا يعالج إلا في غرفة مظلمة .
    ومنها : إعطاء المريض بعض الأوراق التي فيها كتابات لا تقرأ وعبارات هي كالألغاز التي لا تفهم أو فيها بعض الأسماء الغريبة ، وغالبًا ما يكون اسم الشيطان الذي يستعين به .
    ومنها : أمر المريض بعدم قراءة القرآن عند المجيء إليه وذلك حتى لا يفر الشيطان الذي يستعين به ، بل وبعضهم ينهى المريض عن الصلاة في يوم العلاج وبعضهم ينهاه عن التسمية عند إرادة الدخول عليه في مكان علاجه .
    ومنها : تردده الكثير على الخرب والأماكن المهجورة ؛ وذلك لأنها غالبًا ما تكون محتضرة تكثر فيها الشياطين أو ليضع فيها عقده وأوراقه لأنها مكان لا يأتيه أحد .
    ومنها : صرف بعض الأعشاب والتدخينات العجيبة لتدخين البيت والغرف بها في أوقاتٍ معينة بطريقة خاصة يخبره الكاهن بها .
    ومنها : عدم حرصه على شعائر الإسلام الظاهرة مع تلبسه ببعض المنكرات والمعاصي وهو يدعي أنه يعالج بالقرآن وغير ذلك من العلامات : وبالجملة فمعرفة أولياء الشيطان له علامات كثيرة يعرفون بها لا تخفى على من له أدنى علم ومعرفة ، والله المستعان وعليه التكلان وهو أعلى وأعلم .
*  *  *
    س72: ما أقسام نسبة السقيا إلى الأنواء وحكم كل قسم ؟ مع الدليل .
    ج72: أقول : المراد بالأنواء النجوم ، يقال للنجم : نوء .
    وقد ذكر أهل العلم - رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى - أن نسبة السقيا إلى النوء الفلاني لا تخلو من ثلاثة أقسام :
    الأول : أن ينسبها إليها نسبة إيجادٍ وإحداث ، أي أن النوء الفلاني هو الذي أحدث وأوجد هذه السقيا وأعني بالسقيا : المطر الذي ينزل ، وهذه النسبة شرك أكبر مخرج عن الملة بالكلية ، وهو شرك في الربوبية لأنه بذلك قد زعم أن ثمة مصرفًا لشيء في الكون استقلالاً وهذا في الحقيقة شرك الصابئة فإنهم يعبدون هذه النجوم وينسبون الحوادث إليها ويبنون لها الهياكل في الأرض ويسمونها بأسمائها ، كما هو شرك قوم إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - .
    الثاني : أن ينسبها إليها نسبة سبب فقط ، بمعنى أنه يقول : إن الله هو الخالق للسقيا ، ولكن من أسباب السقيا طلوع هذا النوء ، فيقول : مطرنا بنوء كذا وكذا أي بسببه ، وهذا شرك لكنه الشرك الأصغر المنافي لكمال التوحيد الواجب ؛ وذلك لأنه اعتقد سببًا ما ليس بسبب شرعًا ولا قدرًا ، ولأنه وسيلة للشرك الأكبر المذكور في الحالة الأولى ، وقد جعل الله تعالى هذه النسبة كذبًا وزورًا من القول ، فقال :  وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون  ، وذلك لأنهم ينسبون هذه النعمة إلى النوء الفلاني والنجم الفلاني وفي الصحيح عن زيد بن خالد الجهني  قال : صلى بنا رسول الله  صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماءٍ كانت من الليل فلما سلم أقبل علينا بوجهه فقال : (( هل تدرون ماذا قال ربكم )) ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : (( قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب )) .
    وفي الصحيح أيضًا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - معناه وفيه : قال بعضهم : لقد صدق نوء كذا وكذا فأنزل الله تعالى :  ويجعلون رزقكم أنكم تكذبون  وقوله في حديث زيد  : (( كافر بي )) يراد به الكفر الأكبر إذا كانت النسبة نسبة إحداث وإيجاد ويراد به الكفر الأصغر إذا كانت النسبة نسبة سبب فقط ، وقد جعلها النبي  من أمر الجاهلية وهذا ذم لها وتنفير عن فعلها فقال : (( أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن - وذكر منها - والاستسقاء بالأنواء )) ، ولأنها منافية للأدب مع الله إذ الواجب نسبة النعم كلها إلى الله تعالى إيجادًا وخلقًا .
    الثالثة : نسبة المطر إلى النجم والمواسم نسبة توقيت فقط لا نسبة إيجاد ولا سبب ، وإنما يقول : إذا حل الوسمي أو ظهر النجم الفلاني فهذا زمان المطر أو وقته ، لكن من غير ربط زائد على مجرد التوقيت ، فهذا لا بأس به وهو المشهور عند العامة في بلادنا وغيرها ، وهو مجانب كل المجانبة لنسبة أهل الشرك والضلال .
    فهذا هو التفصيل في هذه المسألة ، والله أعلم .
*  *  *
    س73: عرف التطير ؟ مع توضيح التعريف ببعض الأمثلة .
    ج73: التطير مصدر تطير يتطير تطيرًا ، مأخوذ من الطير ، وأصله معرفة الخير والشر بدلالة الطير وهو التشاؤم بالطير .
    والتطير شرعًا : التشاؤم بالمكروه من مسموع أو مرئي أو معلوم أو زمان أو مكان .
    فمثال التطير بالمسموع : أن يقصد الإنسان سفرًا فيسمع أحدًا يقول : يا خاسر أو يا خائب فيثنيه ذلك القول عن سفره اعتقادًا منه أنه علامة على أن سفره هذا سيكون خاسرًا أو خائبًا أو فيه شيء من العقبات والصعاب .
    ومثال التطير بالمرئي : أن يريد الإنسان الزواج من بيت ما فيرى البومة على هذا البيت فيتشاءم من أهله ويعتقد أنهم أهل شؤم ويصده ذلك المرئي عن قصده الذي أراده ، أو يرى البومة مثلاً على بيت من البيوت فينعقد في قلبه أنه سيصيب أهل ذلك البيت شيء من المكروه من موتٍ أو مصيبة .
    ومثال التطير بالزمان : أن يصيبه مثلاً في يومٍ أو شهر معين من السنة مصيبة من حادث أو خسارة تجارة فيصير كلما جاء ذلك اليوم أو الشهر يعطل معاشه ولا يذهب إلى حانوته اعتقادًا منه أنه لو فعل لأصابه كما أصابه فيما مضى ، ومن ذلك تطير أهل الجاهلية بشهر صفر - كما سيأتي إن شاء الله تعالى - ، ومنها تشاؤم بعض الدول بيوم احتلالهم فترى أحوالهم الاجتماعية تتغير في ذلك اليوم ونحو ذلك .
    ومثال التطير بالمكان : أن يصيب الإنسان حادث في شارع مثلاً وتراه كلما جاء قريبًا منه أبعد عنه تشاؤمًا من هذا المكان ، والله يحفظنا وإياك من هذه الاعتقادات الباطلة والمداخل الإبليسية ، والله أعلم .
*  *  *
    س74: ما حكم التطير ؟ مع بيان ذلك بالأدلة .
    ج74: التطير حرام وشرك ، بدلالة الكتاب والسنة : قال تعالى :  فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون  ، وقال تعالى :  قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم ينتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم . قالوا طائركم معكم أإن ذكرتم بل أنتم قول مسرفون  .
    وعن أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر )) متفق عليه وزاد مسلم : (( ولا نوء ولا غول )) . ولهما عن أنس  قال : قال رسول الله  : (( لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل )) . قالوا : وما الفأل ؟ قال : (( الكلمة الطيبة )) . وعن ابن مسعود مرفوعًا : (( الطيرة شرك الطيرة شرك )) . قال ابن مسعود : ( وما منا إلا ... ولكن الله يذهبه بالتوكل ) .
    فهذه الأدلة تفيد إفادة قوية نفي تأثير التطير النفي المطلق ؛ لأن قوله : (( ولا طيرة )) نكرة في سياق النفي فيعم جميع أنواع التطير ، وثبت أيضًا أن التطير كله شرك ؛ وذلك لأن قوله : (( الطيرة شرك )) مفرد دخلت الألف واللام المفيدة للاستغراق فيدخل فيها كل ما يسمى تطيرًا على أي شكل كان وبأي شيء كان .
    فبان بذلك أن حكم التطير في شريعتنا حرام وشرك ، والله أعلم .
*  *  *
    س75: هل التطير من قبيل الشرك الأصغر أم الأكبر ؟ ولماذا ؟
    ج75: هذا فيه تفصيل ، فإن التطير قد يكون شركًا أكبر ، وقد يكون شركًا أصغر .
    وبيان ذلك أن يقال : أن التطير قسمان :
    الأول : أن يعتقد المتطير أن ما تطير به هو الذي يجلب الخير أو يدفع الشر بذاته استقلالاً ، أي أن هذه الأشياء التي تطير بها من المسموع أو المرئي أو الزمان أو المكان هو الذي يفعل ذلك بذاته ، فهذا لاشك أنه تطير يوصل صاحبه إلى الشرك الأكبر المنافي لأصل التوحيد ، وهو شرك في الربوبية لكنه اعتقد خالقًا ومقدرًا مع الله تعالى ، ولأنه اعتقد أن لهذه الأشياء تصرفًا خفيًا ذاتيًا ، وهو أيضًا شرك في الألوهية لأنه تعلق قلبه خوفًا ورجاءً بغير الله تعالى في أمر لا يقدر عليه إلا الله تعالى .
    الثاني : أن يعتقد المتطير أن الله تعالى هو الذي يجلب الخير ويدفع الشر وأن هذه الأشياء التي تطير بها إنما هي أسباب للخير والشر فقط ، فهذا هو الشرك الأصغر ؛ وذلك لأنه اعتقد سببًا ما ليس بسبب شرعًا ولا قدرًا ، بل قد ورد الشرع بنفي كونه سببًا ، ولأنه وسيلة للشرك الأكبر ، ولكن هذا فيما إذا استرسل معه وصده ذلك أو أمضاه ، أما إذا وقع في شيء من ذلك ودافعه وجاهده بالطرق الشرعية وأزاله من قلبه واستعان بالله تعالى وتوكل عليه ولم يفكر فيه فهذا لا شيء عليه ، بل هو مأجور بهذه المجاهدة ، وهذه الواردات من إلقاء الشيطان ووسوسته ، ومن فضل الله علينا أنها من جلة حديث النفس المعفو عنه كما في قوله  : (( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ وما وسوست به صدورها ما لم تعمل به أو تتكلم )) ، والله أعلم .
*  *  *
    س76: ما الطرق الشرعية لمدافعة مثل هذه الواردات ومحو أثرها من القلب ؟
    ج76: أقول : الطرق كثيرة ومتنوعة ولله الحمد والمنة ، وأذكر لك أهمها فأقول :
    الأول : طلب العلم الشرعي المؤصل على الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة في أمور الاعتقاد ، وهذا أعظم سلاح وأقوى ما يدافع به مثل هذه الواردات ، ولذلك فإنه لا يقع في مثل ذلك ويسترسل معه إلا من غلب عليه الجهل ، فالله الله بالعلم الشرعي ، فعليك بطلبه من فطانه في حلقات أهل العلم الموثوق بعلمهم وأمانتهم وفي قراءة كتب السلف الصالح وخصوصًا كتب شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وأئمة الدعوة عليهم الرحمة والرضوان وأسكنهم الله فسيح وعالي الجنان وجمعنا بهم في الفردوس الأعلى وجزاهم الله خير ما جزى عالمًا عن أمته .
    الثاني : الاعتقاد الجازم الذي لا يخالطه ريب بوجه من الوجوه أنه لا يجلب الخير ولا يدفع الشر إلا الله تعالى ، وأن هذه الأشياء مخلوقات ضعيفة لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًا، فكيف تملكه لغيرها ؟ فإن فاقد الشيء لا يعطيه ، فالله هو مالك الملك وبيده الخير كله أوله وآخره والكون كله علويه وسفليه تحت سلطانه وقهره وتصرفه لا يملك أحد معه ضرًا ولا نفعًا، فلابد أن نربي أنفسنا على ذلك وندربها على تذكره دائمًا حتى يكون من طبيعتها ، والله المستعان .
    الثالث : أن تؤمن بقدر الله تعالى وأن ما أصابك من الضر أو فاتك من الخير إنما هو بقدر الله الذي كتب وفرغ منه وجفت منه الأقلام وطويت صحفه ، فما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك وأن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتب لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتب عليك فلا تحمل المسؤولية طيرًا ولا زمانًا ولا مكانًا لأنه أمر قد فرغ منه .
    الرابع : حث النفس وحملها على إحسان الظن بالله تعالى وأطرها على ذلك أطرًا ، فإن التطير نوع من إساءة الظن بالله تعالى ، ومما يذهبه إحسان الظن به جل وعلا وأن ما أصابك من الضر أو فاتك من الخير إنما هو شيء قد اختاره الله لك ، وخيرة الله لك خير من خيرتك لنفسك فاحمد الله واشكره على ما قضاه وقدره وارض وسلم فإن أمر المؤمن كله خير ولله الحمد والمنة .
    الخامس : مدافعة ذلك بالتوكل على الله تعالى وحسن الاعتماد عليه ، فإنه وحده جل وعلا معاذ الخائفين وملاذ الراغبين الراجين ، لا ملجأ لهم غيره ولا رب لهم سواه ، فتوكل عليه وعلق قلبك به التعلق المطلق وإياك أن ينصرف شيء من تعلقه عليه إلى التعلق بالطيور أو البوم فهذا والله هو الخيبة والخسارة ، فالقلب لا يزال في فرح وسعادة وأمان لا يوصف ما كان متعلقًا بكليته على ربه وعلا ومتى انصرف عنه إلى غيره فناهيك عن الضيق والضنك والهم والغم الذي يصيبه ويحل فيه ، فيا رب نعوذ بك من أن تتعلق قلوبنا بغيرك ونسألك أن تعيننا على تحقيق ذلك .
    السادس : قرن ما مضى من الأمور بالأذكار الشرعية والأوراد المرعية التي وردت في ذلك ، فمن ذلك ما رواه أبو داود بسندٍ صحيح عن عقبة بن عامر قال : (( ذكرت الطيرة عند رسول الله  فقال : (( أحسنها الفأل ولا ترد مسلمًا فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل : اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك )) ، ولأحمد من حديث ابن عمرو : (( من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك )) . قالوا : وما كفارة ذلك ؟ قال : (( أن يقول : اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك )) .
    ومن ذلك الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم ؛ لأن هذه الواردات من الشيطان والاستعاذة تضعف عمله وتسد أبوابه .
    السابع : عقد العزم والمضي قدمًا والالتهاء عن هذا الوارد وقطع التفكير فيه والاشتغال عنه بما هو أنفع .
    أسأله باسمه الأعظم أن يعينني وإياك على تحقيق التوكل عليه جل وعلا ، والله أعلم .
*  *  *
    س77: كيف الجمع بين قوله  : (( لا عدوى )) وبين قوله : (( فر من المجذوم فرارك من الأسد )) ، وقوله في الطاعون : (( إذا سمعتم به في أرضٍ فلا تقدموا عليه )) ؟
    ج77: الجمع بينهما يسير ولله الحمد والمنة وبيانه أن يقال : إن العدوى لنا فيها نظران :
    نظر من ناحية انتقالها ابتداءً أي انتقالها بنفسها وهو الاعتقاد الذي كان عليه أهل الجاهلية ، فجاء قوله : (( لا عدوى )) لنفي هذا الاعتقاد الفاسد ، فأثبت أن العدوى لا تصرف لها بذاتها أي لا تنتقل بنفسها .
    ونظر من ناحية سرايتها من المعلول إلى الصحيح بقدر الله تعالى ، وهذا هو الذي أثبته حديث : (( فر من المجذوم فرارك من الأسد )) ، وحديث : (( لا يورد مرض على مصح )) ، وحديث : (( إذا سمعتم به في بلدٍ فلا تقدموا )) .
    فالعدوى ابتداءً منفية ، والعدوى انتقالاً بقدر الله تعالى مثبتة ، فالعدوى التي نفاها الدليل ليست هي العدوى التي أثبتها الدليل حتى يكون هناك تناقض ، ولذلك فإن بعض الصحابة لما سمع ذلك الكلام أعني قوله : (( لا عدوى )) قال : فإن النقبة تقع بمشفر البعير فتجرب لذلك الإبل . فقال - عليه الصلاة والسلام - : (( فمن أعدى الأول )) ، فالصحابي هنا ظن أن العدوى المنفية هي العدوى الانتقالية بقدر الله تعالى ، فبين له النبي  أنه لا يريد ذلك وإنما يريد العدوى ابتداءً .
    وبناءً عليه : فوقوع المرض ابتداءً إنما هو بقدر الله تعالى وسراية العدوى من المعلول إلى الصحيح أيضًا هي بقدر الله تعالى ، فالكل حاصل بقضائه وقدره ولا يخرج شيء عن كونه مقدرًا ، والعبد مأمور باتقاء أسباب الشر ، ومن ذلك اتقاء أسباب العدوى فإذا أصيب بشيء من ذلك فليعلم أنه إنما انتقلت إليه بقدر الله تعالى لا أنها انتقلت بذاتها ، وبذلك فلا إشكال ولله الحمد والمنة ، والله أعلم .
*  *  *
    س78: ما الفأل ؟ وما معنى قوله  : (( أحسنها الفأل )) ؟
    ج78: الفـأل قد فسره النبي  بأنه الكلمة الطيبة كما في الحديث السابق ، وقد كان - عليه الصلاة والسلام - يعجبه الفأل ، كما في حديث : (( ويعجبني الفأل )) ؛ وذلك لأن الكلمة الطيبة إذا سمعها فتفاءل بها وأنه سيحصل له كذا وكذا من الخيرات يكون ذلك من باب حسن الظن بالله تعالى ، فحقيقة الفأل أنه حسن ظن بالله تعالى كأن يريد الإنسان سفرًا أو تجارة مثلاً فيسمع من يقول : يا غانم أو يا رابح ، فتقع هذه الكلمة في قلبه فيزداد بها سروره ويتفاءل بها ، وهذه الكلمة التي سمعها ليست هي التي دفعته للمضي فيما أراد من الأصل ، بل هو عازم أولاً على الفعل لكن لما سمع هذه الكلمة ازداد تفاؤله وحسن ظنه بربه جل وعلا ، فالتفاؤل يشرح الصدر ويؤنس العبد ويذهب الضيق الذي يوجبه الشيطان ويسببه في قلب العبد ، فكان التفاؤل بذلك حسنًا ، والنفوس مفطورة على حب سماع الكلمة الطيبة عند عزيمتها على الفعل ليزداد بذلك فرحها وسرورها وحسن ظنها بربها جل وعلا ، ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام - : (( وأحسنها الفأل )) ، والله أعلم .
*  *  *
    س79: عرف التنجيم ، وما أقسامه ؟ وحكم كل قسم ، مع الدليل .
    ج79: التنجيم : هو الاستدلال بالنجوم والأحوال الفلكية ، وقد ذكر أهل العلم - رحمهم الله تعالى - أنه ثلاثة أنواع :
    الأول : التنجيم الذي هو اعتقاد أن النجوم فاعلة مؤثرة بنفسها وأن الحوادث الأرضية منفعلة ناتجة عن النجوم وعن إرادات النجوم ، وهذا تأليه للنجوم وهو الذي كان يصنعه الصابئة ، فقد كانوا يجعلون لكل نجم وكوكب صورة وتمثالاً ويسمونها بأسمائها فتحل فيها الشياطين وتأمرهم بعبادة هذه الأصنام ، وهذا بالإجماع كفر أكبر وشرك أكبر ، ومن ذلك شرك قوم إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - .
    الثاني : الاستدلال بحركة النجوم على معرفة المغيبات في المستقبل فيدعون أنهم يعرفون ما سيأتي في المستقبل بحركة النجوم من التقائها والتفافها وطلوعها وغروبها ، وهؤلاء هم المنجمون وهو نوع من الكهانة ، وهو الذي يسميه العلماء : بعلم التأثير ، وهذا محرم بالإجماع وكبيرة من كبائر الذنوب ويوصل صاحبه إلى الكفر الأكبر والشرك الأكبر ؛ وذلك لما فيه من ادعاء مشاركة الله تعالى في علم الغيب ، ولأن فيه استعانة بالشياطين ؛ لأن الذي يأتيهم بالأخبار إنما هي الشياطين فإنها توحي بهذه الأخبار إليهم ومن ذلك ما يمليه الكهان في بعض المجلات في الأبراج المعروفة فيقولون : صاحب برج العقرب سيأتيه كذا وكذا ، وصاحب برج الأسد سيأتيه كذا وكذا ونحو ذلك ، وكل ذلك شرك وكفر - والعياذ بالله تعالى - .
    الثالث : تعلم منازل النجوم وحركاتها لمعرفة القبلة والأوقات وللاستدلال بها على الجهات في ظلمات البر والبحر ولمعرفة أوقات الزراعة مثلاً والاستدلال بذلك على وقت هبوب الرياح وعلى الوقت الذي جرت سنة الله تعالى أن ينزل فيه المطر ونحو ذلك ، فهذا هو الذي يسميه العلماء : بعلم التسيير .
    وقد رخص فيه بعض العلماء ، وبعضهم لم يرخص فيه ، أي في جوازه خلاف ، والصحيح جوازه ؛ لأن مبنى ذلك العلم هو جعل حركة النجوم علامة على الوقت فقط لا أنها مؤثرة بذاتها أو أنها سبب للتأثير ، ولعموم قوله تعالى :  وبالنجم هم يهتدون  ، وقوله تعالى :  وقدره منازل لتعلموا عدد السنين  ، وقوله تعالى :  وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر  ، والاهتداء بها من لوازمه معرفة منازلها وحركاتها ، لكن كما ذكرت لك أن ذلك يؤخذ على أنه لمعرفة الأوقات فقط ، لكن لا على أن حركاتها مؤثرة بذاتها أو أنها سبب للتأثير ، والله أعلم .
*  *  *
    س80: لماذا خلق الله هذه النجوم ؟ مع الدليل .
    ج80: خلق الله هذه النجوم لثلاث :
    الأول : زينة للسماء ، قال تعالى :  إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب  .
    الثاني : رجومًا للشياطين ، قال تعالى :  وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين  .
    الثالث : علامات يُهتدى بها ، قال تعالى :  وعلامات وبالنجم هم يهتدون  .
    وقال البخاري في صحيحه : قال قتادة : خلق الله هذه النجوم لثلاث : زينة للسماء ، ورجومًا للشياطين ، وعلامات يهتدى بها ، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به ، والله أعلم .
*  *  *
    س81: ما حكم سب الدهر ؟ مع الدليل والتعليل والتمثيل .
    ج81: سب الدهر محرم وجريمة وفاعله مستحق للعقوبة البليغة التي تردعه عن مثل هذه الأقوال ، ففي الصحيح عن أبي هريرة  عن النبي  قال : (( قال الله تعالى : يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار )) ، وفي رواية : (( لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر )) ، فدل ذلك على أن سب الدهر من الألفاظ التي لا تجوز فالتخلص منه واجب واستعمالها منافٍ لكمال التوحيد ، ولأن سابه يعود على الله بالإيذاء لأنه هو مصرف الدهر ومجري الليالي والأيام ومقدر ما فيها من الحوادث ، وسب المخلوق سب لخالقه ، ولأن سب الدهر سب لما لا يستحق السب لأن الدهر خلق مسخر لا يملك نفعًا ولا ضرًا ، ومن سب من لا يستحق السب عاد سبه إليه ، ولأن سبه متضمن للشرك فإنه إنما سبه لظنه أنه يضر وينفع أو أنه المحدث لهذا الضر والنفع ، ولأنه مناف للاعتقاد الصحيح وهو أن الزمن يُفْعَلُ فيه لا أنه هو الفاعل بذاته ولا أنه سب لما يقع فيه من الحوادث فسبه محض اعتداءٍ وتسلط وقلة أدبٍ وجرأة على مقام الربوبية .
    ومثال ذلك قول شاعر الجاهلية :
يا دهر ويحك مـا أبقيت لـي أحدًا
        وأنـت والـد سوءٍ تأكل الولد

    ومنه أيضًا قول بعضهم :
قبـحًا لوجهـك يـا زمـان فإنـه
        وجهٌ لـه في كـل قبـح برقع

    ومنه قول بعضهم : هذا زمان كالح ، أو زمان أسود . وقول بعضهم إذا أصابه مكروه : ليه يا زمن .
    ومنـه قول الدهرية :  وقالوا مـا هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر  .
    ونحو ذلك من العبارات ، وكل ذلك حرام وقادح في التوحيد ، وقد يكون سبه شركًا أكبر وذلك إذا قام في قلبه اعتقاد أن الدهر هو الفاعل لهذا الشيء بذاته استقلالاً ، وقد يكون شركًا أصغر إذا اعتقد أن الدهر سبب في هذه الحوادث ، وإذا لم يعتقد ذلك فهو محرم فقط وكبيرة من كبائر الذنوب ، وعلى كل حالٍ فالواجب على المسلم كف لسانه وحفظه عن مثل هذه الأقوال التي لا خير فيها ، بل هي مما يفتح عمل الشيطان ، والله أعلم .
*  *  *
    س82: ما حكم قرن الدعاء بالمشيئة ؟ مع الدليل والتعليل ، وكيف الجواب عن قوله  : (( طهور إن شاء الله )) ؟
    ج82: لا يجوز أن يقرن الدعاء بالمشيئة ، فلا يجوز أن تقول : اللهم اغفر لي إن شئت ، اللهم ارحمني إن شئت ونحو ذلك ، وذلك لدليل الأثر والنظر :
    فأما الأثر ففي الصحيح عن أبي هريرة  أن رسول الله  قال : (( لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ، ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له )) ، وقد تقرر في الأصول أن النهي المجرد عن القرينة الصارفة يفيد التحريم ، فهو نص صحيح صريح في المنع من تعليق الدعاء بالمشيئة .
    وأما النظر فلأن تعليقه بالمشيئة منافٍ لإعظام الرغبة والجد والعزم في المسألة ؛ لأن فيه نوع استغناء عن المدعو والمدعو به ، ولأنه موهم بعجز الله وفقره فكأنه يقول : ولا ألح عليك بذلك ، بل إذا شئت فافعل وهذا فيه سوء أدب مع الله تعالى ؛ ولأن الله تعالى لا يكرهه أحد على إجابة سؤالك ما لم يكن هناك شدة إلحاح وإعظام رغبة ، ولذلك ففي رواية البخاري : (( فإن الله لا مكره له )) ولمسلم : (( ليعزم في الدعاء فإن الله صانع ما شاء لا مكره له )) فكان من حسن الأدب مع الله تعالى ألا يعلق الدعاء بالمشيئة لسعة فضله جل وعلا وكبير إحسانه وجوده وكرمه ، ولأنه تعالى لا يتعاظمه شيء أعطاه فلا تنقص خزائنه جل وعلا بالعطاء ولو اجتمع الأولون والآخرون على مختلف أصنافهم وجاء بكل أدعيتهم فإنه لا ينقص ذلك من خزائنه شيئًا فلم التعليق حينئذٍ ، والله أعلم .
    وأما قوله  : (( طهور إن شاء الله )) ، فهذا ليس من باب الدعاء وإنما من باب الخبر ، أي هو يخبر أن هذا المرض سيكون لك كفارة وطهور ، والأخبار المستقبلية أو الغيبية لابد من تعليقها بالمشيئة والمنهي عنه هو تعليق الدعاء بالمشيئة ، والله أعلم .
*  *  *
    س83: ما حكم قول : ( ما شاء الله وشئت ) ؟ مع الدليل ، وما المشروع في ذلك ؟
    ج83: هذا القول لا يجوز وهو نوع من أنواع شرك الألفاظ وهو شرك أصغر .
    ودليل ذلك حديث قتيلة : ( أن يهوديًا أتى النبي  فقال : إنكم تشركون تقولون : ما شاء الله وشئت وتقولون : والكعبة . فأمرهم النبي  إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا : ورب الكعبة وأن يقولوا : ما شاء الله ثم شئت ) رواه النسائي وصححه .
    وله أيضًا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رجلاً قال للنبي  : ما شاء الله وشئت . فقال : (( أجعلتني لله ندًا قل ما شاء الله وحده )) .
    ولابن ماجه عن أبي الطفيل قال : رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود فقلت : إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزير ابن الله ، قالوا : وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد ، ثم مررت على نفرٍ من النصارى فقلت : إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله ، قالوا : وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد ، فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ثم أتيت النبي  فقال : (( هل أخبرت بها أحدًا )) ؟ قلت : نعم ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : (( أما بعد فإن طفيلاً رأى رؤيا فأخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها ، فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا : ما شاء الله وحده )) .
    فهذه الأدلة فيها النهي عن قرن مشيئة الله تعالى بمشيئة أحد من الخلق ، وعلة النهي عن هذا القول لأن فيه عطف مشيئة المخلوق على مشيئة الخالق جل وعلا بحرف الواو المقتضي للتشريك والمساواة بين المعطوف والمعطوف عليه ، والمشروع في ذلك أن يقول العبد : ما شاء الله وحده ، وإن قال : ما شاء الله ثم شئت فلا بأس ، فهذان اللفظان لا محظور فيهما ، والله أعلم .
*  *  *
    س84: ما المراد بظن السـوء في قوله تعـالى :  الظـانين بالله ظـن السوء  ، وقـوله :  يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية  ؟ وما حكم ذلك الظن ؟
    ج84: ذكر أهـل العلـم - رحمهـم الله تعـالى - أن ظـن السـوء المراد في الآية عدة أمور :
    الأول : ظن أن الله تعالى مسلم رسوله وعباده المؤمنين إلى عدوهم وأن إدالة يد الكفر عليهم ستكون مستمرة دائمة ، وأن الدين سيضمحل وأنهم إذا بذلوا في إطفاء ذلك الأمر وحاربوه بكل ما أتوه من وسيلة وقاوموه فإنه سينتهي ، وأن الله تعالى لا ينصر رسوله ولا ينصر كتابه ولا ينصر عباده المؤمنين ، وهذا هو المراد بقوله تعالى :  بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدًا وظننتم ظن السوء وكنتم قومًا بورًا  .
    الثاني : ظن أن أفعال الله تعالى وأقداره خالية عن الحكمة والمصلحة وأنه يفعل لا لحكمة ولا لغاية محمودة كما ظنه طوائف من أهل الكلام ، وهذا من سوء الظن به جل وعلا وهو ظن منافٍ لكمال حكمته وعلمه وخبرته جل وعلا .
    الثالث : ظن أن ما يقع في الكون من الحوادث أنه خارج عن قدر الله تعالى ، أي إنكار القدر كما هو قول القدرية الذين ينكرون تقدير الله تعالى لما كان وسيكون أو ينكرون خلقه لأفعال العباد ، وعلى ذلك فالسلف فسروا الظن السيئ بثلاث تفاسير كلها صحيحة لأنه من قبيل خلاف التنوع ففسر بإنكار بالقدر وفسر بإنكار الحكمة وفسر بأن الله تعالى لن ينصر رسوله وأن أمره سيضمحل ويبيد ، وكل ذلك محرم ولاشك في تحريمه ، وكله منافٍ لكمال التوحيد الواجب وبعضه منافٍ لأصل التوحيد ، فنعوذ به جل وعلا من أن نظن به غير الحق .
    والضابط في ظن السوء أنه كل ظن لا يليق بالله جل وعلا ، والله أعلم .
*  *  *
    س85: لماذا حرم هذا الظن ؟
    ج85: حرم هذا الظن لعدة أمور :
    منها : لأنه منافٍ لما يجب اعتقاده في الله تعالى ، فإنه يجب أن نعتقد أن الله تعالى كامل في ذاته وكامل في صفاته وكامل في أفعاله الكمال المطلق الذي لا يعتريه نقص بوجه ، وهذا الظن منافٍ لهذا الكمال .
    ومنها : أن المتقرر عند أهل السنة والجماعة أن الله له الحكمة البالغة في أفعاله وأقداره جل وعلا والحكمة وضع الأمور في مواضعها التي توافق الغايات المحمودة منها ، وظن أن الله تعالى يفعل لا لحكمة فيه وصف له بفعل ما لا يليق وهذا منافٍ لاتصافه بالحكمة البالغة ويلزم منه وصف الله بالنقص جل وعلا وتقدس عن كل نقص .
    ومنها : أنه معارض للوعيد الذي أخذه على نفسه جل وعلا تفضلاً وإحسانًا كما في قوله :  إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد  ، وقوله تعالى :  ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون  ، والله تعالى لا يخلف الميعاد ، وظن السوء منافٍ ومناقض لدلالة هذه الآيات وما في معناها .
    ومنها : أنه يناقض قوله تعالى :  وخلق كل شيء فقدره تقديرًا  ، وقوله :  إنا كل شيء خلقناه بقدر  ونحو هذه الآيات التي فيها إثبات أن كل شيء بقضاء الله وقدره وأنه لا يخرج شيء عن كونه مقدورًا لله جل وعلا وما ناقض دلالة القرآن وعارضها فهو باطل مردود واعتقاد محرم .
    ومنها : أن الواجب هو إحسان الظن به جل وعلا وظن السوء ترك لهذا الواجب وترك الواجب محرم ، فدل ذلك على أن ظن السوء محرم .
    ومنها : أنه - أي ظن السوء - قادح في كمال التوحيد الواجب أو قادح في أصله في بعض الأحوال ، وما يقدح في التوحيد أصلاً أو كمالاً فهو ممنوع أشد المنع .
*  *  *
    س86: ما حكم تصوير ذوات الأرواح ؟ مع بيان ذلك الحكم بالأدلة .
    ج86: تصوير ذوات الأرواح محرم بجميع أنواعه سواءً منها ما كان من باب النحت أو الرسم باليد أو كان من قبيل التصوير الفوتوغرافي باستثناء ما تدعو له الضرورة الملحة .
    والدليل على ذلك حديث أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( قال الله تعالى : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة )) متفق عليه ، وهذا الحديث يدخل فيه تصوير النحت والرسم باليد دخولاً أوليًا .
    ومن ذلك حديث عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله  قال : (( أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله تعالى )) ، وقال  : (( كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم )) متفق عليهما .
    ولهما أيضًا عن ابن عباس مرفوعًا : (( من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ )) .
    وروى مسلم من حديث أبي الهياج الأسدي قال : قال لي علي بن أبي طالب  : ألا أبعثك على ما بعثني به رسول الله  : (( ألا أدع قبرًا مشرفًا إلا سويته ولا صورة إلا طمستها )) ، ومثله ما رواه الإمام أحمد في المسند من حديث علي  قال : كان رسول الله  في جنازة فقال : (( أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنًا إلا كسره ولا قبرًا إلا سواه ولا صورة إلا لطخها ... )) الحديث ، وفيه : ثم قال : (( من عاد إلى صنعة شيء من ذلك فقد كفر بما أنزل على محمد  )) قال المنذري : إسناده جيد .
    وقال  لعائشة - رضي الله عنها - : (( ما هذه النمرقة )) ؟ قلت : لتجلس عليها وتوسدها . قال : (( إن أصحاب هذه الصور يقال لهم أحيوا ما خلقتم وإن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة )) .
    وفي الصحيح من حديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعًا : (( أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق يوم القيامة )) ، وغير ذلك .
    ولنا في حكم التصوير الفوتوغرافي رسالة مستقلة بهذا الاسم مما يغني عن إعادة الكلام عليه هنا ، ومن أرادها أو أراد غيرها مما كُتب فليرجع إلى الشبكة العنكبوتية في موقع ( صيد الفوائد ) فإن لنا فيه صفحة خاصة ، والله أعلم .
*  *  *
    س87: ما حكم تحنيط الحيوانات ؟
    ج87: تحنيط الحيوانات لا ينبغي ، وإن قيل بحرمته فهو قول قوي ، وذلك لوجوه :
    الأول : أنه وسيلة إلى تعظيم هذه الحيوانات وإكرامها بالتعليق ، وقد يكون مفضٍ في بعض صوره إلى الشرك .
    الثاني : أن هذه الحيوانات ميتة وحق الميتة الإتلاف وعدم جواز الانتفاع بها بأي وجهٍ من الوجوه إلا فيما أباحته الشريعة من الاستفادة من أصوافها وأوبارها وأشعارها وجلودها بعد الدبغ ، وأما اقتناؤها في البيوت وهي ميتة فإنه خروج عن الحد المشروع وتجاوز وتعدٍ .
    الثالث : أنه ينفق على هذا التحنيط الأموال الطائلة وينفق في شرائها الأموال الكثيرة ، وهذا داخل في حد الإسراف والتبذير ؛ لأنه إنفاق للمال فيما لا نفع فيه أصلاً والإنسان مسئول عن ماله : فيم أنفقه ، وفقراء المسلمين واليتامى والمساكين وأبناء السبيل والمساجد بناءً وترميمًا وغير ذلك من وجوه الخير أحق بهذا المال .
    الرابع : أن تعليق هذه المحنطات وسلة إلى أن يعتقد فيها بعض الاعتقادات الفاسدة من أنها تدفع شر الشياطين أو تدفع أذى الجن عن البيوت فتكون حينئذٍ من جملة التمائم ، فحسمًا لهذه المادة وسدًا للذريعة يمنع تحنيطها وتعليقها ، والله أعلم .
*  *  *
    س88: ما حكم قول : ( عبدي وأمتي ) ؟ مع بيان الحكم بالدليل والتعليل .
    ج88: هذا القول محرم، لما في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله  قال : (( لا يقل أحدكم أطعم ربك وضِّئ ربك وليقل : سيدي ومولاي ، ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل : فتاي وفتاتي وغلامي )) ، وحقيقة النهي التحريم ، وتعليل المنع يتضح بوجوه :
    الأول : أن فيه إيهام المشاركة لله تعالى في الربوبية ، فقطعًا لدابر ورود ذلك الإيهام يمنع هذا القول .
    الثاني : أن فــي تـركــه سلـوك الأدب مـع الله تعالى وتحقـيق توحيده جل وعلا بالـربوبية المطلقة .
    الثالث : أن في هذا القول نوع إهانة للرقيق ، فمراعاة لهم مُنِعَ السيد من هذا القول .
    الرابع : سد الذريعة ، أي حتى لا يقع في قلب السيد عند قوله : عبدي وأمتي شيء من التعاظم ورؤية النفس والغرور والعجب الذي يوجب له مقت الله وسخطه ، فنهى عن ذلك تعظيمًا لله تعالى وحماية لجناب التوحيد .
    الخامس : أن تحقيق التوحيد الذي تحصل به النجاة التامة يوم القيامة لا يكون إلا بالاحتراس من هذه الألفاظ التي فيها سوء أدب مع ربوبية الله جل وعلا أو مع أسمائه وصفاته ، والله أعلم .
*  *  *
    س89: ما حكم قول : ( لو ) ؟ مع بيان الحكم بالأدلة والتعليل .
    ج89: قولها يختلف حكمه باختلاف نوعية استعمالها :
    فإن استعملها متسخطًا بها على ما نزل من قدر الله تعالى فهو محرم ، ومن ذلك قوله تعالى عن بعض المنافقين أنهم قالوا :  لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا  ، وقوله تعالى عن بعضهم :  الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا  ونحو ذلك ، فهذا استعمال محرم ، وذلك لما في الصحيح عن أبي هريرة  أن رسول الله  قال : (( احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان )) ، وحقيقة النهي التحريم ، ولأن هذا القول فيه إشعار بعدم الصبر على ما نزل من القدر ومن المعلوم أن الصبر على الأقدار المؤلمة واجب وضد الواجب المحرم وقولها مشعر بذلك فصار حرامًا ، ولأنها سبب لفتح باب التحسر وزيادة الألم وندب الحظ وسبب لضعف القلب والتفاته إلى الأسباب وتعلقه بها ، وهذا مضعف للتوحيد وهو من عمل الشيطان ، ولأن قولها لن يدفع القدر النازل وإنما يزيده ضيقًا وألمًا ، ولأن قولها فاتح لباب سوء الظن بالله جل وعلا وبحكمته البالغة ، فهذا الدليل والتعليل يفيدان حرمة قولها بهذا الاعتبار وهو الحالة الأولى من أحوال استعمالها .
    الحالة الثانية : أن يقولها متطلعًا لها إلى المعصية ، فيحرم أيضًا قولها ، بل دل الدليل أنه مشارك لصاحب المعصية في الوزر كما في حديث : (( ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علمًا فهو ينفقه في معصية الله ، ورجل لم يؤته علمًا ولا مالاً فقال : لو أن عندي مثل مال فلان لفعلت فيه مثل الذي فعل فهما في الوزر سواء )) فهذا الأحمق الغبي الأخرق أثم بقوله هذا ، مع أنه لم ينفق مالاً إذ لا مال عنده ، لكن بتمنيه الآثم وتطلعه لفعل المعصية صار مشاركًا لصاحب المعصية .
    الحالة الثالثة : أن يقولها عند فوات الأمر المحبوب ، كفوات العمل الفاضل ، وكفوات علم نافع أو مالٍ ينفقه فيما يحبه الله ويرضاه ، فمن الأول حديث : (( لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة )) ، ومن الثاني حديث : (( وددت لو أن أخي موسى صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما )) ، ومن الثالث حديث : (( ورجل آتاه الله مالاً وعلمًا فهو ينفقه في الخير ورجل آتاه الله علمًا ولم يؤته مالاً فقال لو أن عندي مثل مال فلان لفعلت فيه مثل الذل فعل ، فهما في الأجر سواء )) ، وهذه الحالة الثالثة لا جزع فيها ولا تسخط ولا ترك لما يجب من الصبر ولا حزن ولا تطلع لمعصية ، بل ليس فيها إلا محبة الخبر وإرادته وهذا أمر محبوب شرعًا .
    الحالة الرابعة : استعمالها لبيان مثال يحصل به الإفهام وفتح المغلق وتقريب الصورة المراد شرحها ، فهذا لا بأس به ولا تعلق له بالتوحيد ، وذلك كما في قوله تعالى في سياق إثباته وحدانيته بالألوهية :  لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا  ، وكقول المعلم : ما رأيكم لو حصل كذا وكذا فماذا تفعلون ؟ وهكذا والله أعلم وأعلى .
*  *  *
    س90: ما حالات الحكم بغير ما أنزل الله بالتفصيل والدليل والتعليل ؟
    ج90: هذه من المسائل الكبار التي لا تسعها هذه الإجابة ، لكن ألخص لك الجواب في الحالات الآتية :
    الأولى : حال واضع النظام أولاً الذي فيه مناقض لشريعة الله تعالى كالذي وضع القانون الوضعي الذي عورضت به شريعة رب الأرض والسماء ، فهذا لاشك أنه كافر الكفر الأكبر ، وهو من جملة الطواغيت الذين يدعون الناس إلى عبادتهم عبادة الطاعة فيحلون للناس الحرام ويحرمون عليهم الحلال ، وهذا لا أظن أحدًا يتوقف في كفره ، ولا ننظر هل هو مستحل أو غير مستحل ؛ لأن فعله هذا دليل استحلاله .
    الثانية : حال الحاكم بهذا القانون أي المنصرف عن الحكم بالشريعة الانصراف المطلق ، ويحكم بهذا القانون الحكم المطلق فلا يلتفت إلى الشريعة أبدًا ، بل ويأمر الناس الذين يعملون عنده في حكومته من القضاة ونحوهم أن لا يحكموا إلا بهذا القانون ، ويحارب المحاربة الشديدة بالسجن تارة والتعذيب أخرى والقتل في كثير الأحيان من يدعو إلى تطبيق الشريعة ولا يسمح أن يحكم في بقعة نفوذه إلا هذا القانون ، وهذا أيضًا كافر الكفر الأكبر من غير نظر هل هو مستحل أو ليس بمستحل ، فإن قرائن الأحوال المصاحبة تغني أحيانًا عن التصريح بالقول ، قال تعالى :  ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون  ، و الظالمون  ، و الفاسقون  ، والمراد هنا في هاتين الحالتين الكفر الأكبر والظلم الأكبر والفسق الأكبر ، ولكن أنبهك لأمر هام جدًا وهو أن كلامي هذا من باب التفكير بالوصف ولا ينطبق على الأعيان إلا بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع ، فإن تكفير الأعيان بلية لا أطيق تحملها ، ومسئولية عظيمة يعجز كاهلي عنها ولساني عن قولها وقلمي عن كتابتها ، وأنا ولله الحمد من أبعد الناس عنها ، وإنما المقصود الحكم العام ، وقد تقرر لنا في كتابات كثيرة أن الحكم العام لا ينطبق على الأعيان إلا بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع .
    الحالة الثالثة : من يحكم بغير الشرع في بعض الأحيان كمرة أو مرتين أو ثلاث أو أقل أو أكثر بحيث لا يصدق عليه وصف الديمومة والكثرة ، والأصل فيه أنه لا يحكم إلا بالشريعة لكن عارض حكمها لا تكذيبًا ولا جحودًا ولا لاعتقاد الأفضلية ، وإنما لغلبة شهوة وهوى مع علمه بأنه عاصٍ في ذلك ، فالقول الصحيح في هذا أنه يعطى حكم أصحاب الكبائر ، وهو وإن وصفه بعض أهل العلم بالكفر فإنهم لا يعنون به الكفر الأكبر ، بل يقصدون به كفرًا دون كفر ، أي الكفر الأصغر ، ففعله هذا جريمة ولاشك ، لكنها لا توصله إلى الكفر المخرج عن الملة ، وذلك كالقاضي الذي يحكم أحيانًا بغير الشرع أو حاكم البلد الذي يحكم أحيانًا بغير الشرع ، فهؤلاء لا يخرجون بهذه الأحكام المخالفة للشريعة عن الملة ، ولكنهم من أصحاب الكبائر ، أي هم داخلون تحت المشيئة ، ومن أخرجهم من الملة بمثل ذلك ففيه نوع غلو وإفراط ، وفيه شعبة من شعب الخوارج ، والله أعلم .
    الحالة الرابعة : حال من يتحاكم إلى غير الشريعة ، فهذا إن كان يتحاكم إليها وهو راضٍ بذلك مريدًا له أو معتقدًا جوازه أو مفضلاً له على التحاكم إلى الشريعة الإسلامية ، فهذا كافر الكفر الأكبر الخرج عن الملة ؛ لأن الإسلام مشروط بالكفر بالطاغوت وهو بهذا التحاكم إلى هذا القانون وإرادته له واعتقاد أنه سائغ وأنه لا يكرهه هو بذلك مؤمن بالطاغوت وقد قال تعالى :  يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به  ، وقال تعالى :  أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكمًا لقومٍ يوقنون  ، وأما من تحاكم إليه مجبرًا على ذلك وهو كاره له ومعتقدًا عدم جوازه وليس براضٍ به لكنه أكره وألزم بالتحاكم إليه أو أن حقه لا يمكن استخراجه من خصمه إلا بذلك كما هو حال الدول التي تحكم بغير شريعة الله ، بل لا تحكم إلا بالقوانين الوضعية ، فهذا لا يدخل في إرادة التحاكم إلى الطاغوت ؛ وذلك لأنه مكره على ذلك إما لأن خصمه ألزمه بالحضور إلى هذا القاضي القانوني وإما لأن حقه الذي ثبت له لا سبيل إلى تحصيله إلا برفع الأمر إلى هذه المحكمة القانونية ، فهذا لا بأس به في أظهر أقوال أهل العلم ، وإذا لم نقل بذلك فإن ستضيع حقوق كثيرة قد ثبتت لأصحابها في هذه الدول ، والله أسأل أن يصلح أحوال المسلمين وأن يهدي حكمائهم إلى تحكيم الشريعة ، فهذا هو محصل المسألة ، والله أعلم .
*  *  *
    س91: ما عقيدة أهل السنة والجماعة في التعامل مع ولاة الأمر ؟
    ج91: عقيدتهم في ذلك تتضح بالأمور الآتية :
    الأول : وجوب طاعتهم في غير معصية الله تعالى ، قال تعالى :  يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم  ، فعطف طاعتهم على طاعة الله ورسوله من غير إعادة فعل ( أطيعوا ) دليل على أنه ليس لهم الطاعة المطلقة ، بل حقهم الطاعة المقيدة ، فيطاعون في حدود الله ورسوله فإذا أمروا بمعصية فلا سمع ولا طاعة .
    وعن عبادة بن الصامت  قال : ( دعانا النبي  فبايعناه فقال فيما أخذ علينا : أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وألا ننازع الأمر أهله ، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان ) متفق عليه ، وعن أنس  قال : قال رسول الله  : (( اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة )) رواه البخاري ، وغير ذلك من الأدلة .
    الثاني : تحريم الخروج عليهم بقولٍ أو فعلٍ ، وإن ظلموا أو جاروا أو استأثروا ببعض المال ، وإن ضربوا ظهرك وأخذوا حقك ، وقد أطبق على ذلك أهل السنة والجماعة لكنهم قيدوا ذلك بأمرين : أن نرى كفرًا بواحًا عندنا فيه من الله برهان ، وأن تكون عندنا القدرة الكافية على إبعاده وتنحيته عن هذا المنصب وتولية الأصلح ، وذلك مرده إلى العالمين بالمصالح والمفاسد لا إلى الأهواء والأحداث الذين لا يقدرون مصلحة ولا يراعون درء مفسدة ، بل همُّ الواحد منهم أن يطفئ حقد قلبه وغل نفسه ، فهذه الأمور الكبار مردها إلى أهل العلم الراسخين في علم الكتاب والسنة ، فإذا دخلت فيها الأهواء والأفكار المضللة وشهوات النفوس فناهيك عن الفساد والخراب والدمار على الأنفس والأموال ، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، وفي الحديث الصحيح : أفلا ننابذهم بالسيف ؟ فقال - عليه الصلاة والسلام - : (( لا ما صلوا )) ، ويستدل على ذلك بالأدلة التي وردت في ذم الخوارج ، وسيأتي طرف منها - إن شاء الله تعالى - .
    الثالث : إقامة الجمع والجماعات وراءهم أبرارًا كانوا أو فجارًا ، ويدخل في ذلك الجهاد تحت لوائهم والحج معهم ، وقد وصف أهل السنة والجماعة - رحمهم الله تعالى - المتخلف عن إقامة ذلك بأنه من أهل البدعة ، وقد صلى ابن عمر وأنس خلف الحجاج ، وصلى ابن مسعود  خلف الوليد بن عقبة ، وصلى جملة من علماء السنة خلف الأمراء الظلمة من بني أمية وبني العباس ، وذلك جمعًا للكلمة وحقنًا للدماء وتوحيدًا للصف ولدفع أعلى المفسدتين بتحمل أدناهما ، وفي الحديث : (( أرأيت إذا كان عليك أمراء يميتون الصلاة عن وقتها )) ؟ قال - أي أبو ذر - : فما تأمرني يا رسول الله ؟ فقال : (( صل الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصل خلفهم فإنها لك نافلة )) .
    الرابع: أنهم يعقدون قلوبهم على مناصحتهم بالحكمة والطرق الشرعية التي لا توجب المفاسد العامة ، بلا قدح ولا تشهير أمام العامة ، بل سرًا إذا سنحت الفرصة ، ولا ينزعون يد الطاعة عنه بمجرد فعلهم لشيء من الذنوب والمعاصي ، ويدعون لهم بالصلاح والهداية والتوفيق لعلمهم أن بصلاحهم صلاح أمور كثيرة في المجتمع وبفسادهم فساد أمور كثيرة في المجتمع ، ويحفظون فيهم قوله  : (( ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئٍ مسلم )) ، وفي الحديث الآخر : (( إن الله يرضى لكم ثلاثًا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأن تعتصموا بحبل الله جميـعًا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه أمركم )) ، وقوله  : (( الدين النصيحة )) - ثلاثًا - ثم قال : (( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم )) رواه مسلم ، والله أعلم .
*  *  *
    س92: عرف الرياء ، وما حكمه ؟ مع الدليل ، وما الفرق بينه وبين التسميع ؟
    ج92: الرياء : هو تحسين العمل مما يبتغى به وجه الله تعالى ابتغاء مدح الثناء وثنائهم والمنزلة في صدروهم أو تحصيل حظٍ من دنياهم .
    وهو حرام بكل صوره وأشكاله ، وهو من قبيل الشرك الأصغر الخفي ، قال تعالى :  قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إلهٌ واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا  .
    والمراءاة شرك أصغر ، فهي داخلة في هذا العموم ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر )) ، فسئل عنه فقال : (( الرياء )) .
    وقال الله تعالى :  من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون  .
    وعن أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه )) رواه مسلم .
    وعن أبي سعيد الخدري  مرفوعًا : (( ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال )) ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : (( الشرك الخفي يقوم الرجل فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل )) رواه أحمد .
    والرياء شرك السرائر لما روى ابن خزيمة في صحيحه عن محمود بن لبيد قال : خرج علينا رسول الله  فقال : (( أيها الناس إياكم وشرك السرائر... )) الحديث بلفظ الحديث السابق ، وحديث : (( أول من تسعر بهم النار ثلاثة ... )) الحديث المشهور ، والخلل إنما حصل لأنهم ما أرادوا بهذه الأعمال العظيمة وجه الله تعالى ، وحديث : (( من تعلم العلم مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا لعرض من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة )) أو كما قال  ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .
    وأما قوله: وما الفرق بينه وبين التسميع المذكور في قوله: (( ومن سَمَّعَ سَمَّعَ الله به ))، فأقول : السمعة من الرياء إلا أنها تختص بما من شأنه أن يسمع من الأقوال والرياء بما يرى من الأفعال ، فالرياء غالبًا يكون في الأفعال والسمعة تكون في الأقوال كقراءة القرآن وتعليم العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أجل مدح الناس وثنائهم فقط أو لنيل منصب دنيوي ، والله أعلم .
*  *  *
    س93: هل الرياء يبطل العمل ؟
    ج93: هذا فيه تفصيل ذكره ابن رجب وغيره من المحققين من أهل العلم وخلاصته أن يقال : إذا كان الرياء من أصل العمل أي هو الباعث على العمل فهذا العمل باطل من أساسه ، وأما إذا كان الرياء ليس من أصل العمل ولكنه طرأ على العمل فهذا لا يخلو إما أن يجاهده ويبعده عن نفسه ولا يرضى به ولا يأنس أو يسترسل معه فهذا الطروء لا يؤثر على العمل ، بل صاحبه يؤجر على هذه المدافعة كما قال تعالى :  والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسين  ، وإما أن يرضى به وتقبله نفسه ويعمل من أجله ويسترسل معه فهذا لا يخلو : إن كان العمل لا يصح أوله إلا بصحة آخره كالصلاة فإنه يبطلها كلها ، أي في أي جزء وقع فيه الرياء الذي استرسل به ورضيته نفسه فإنه يكون مبطلاً لها جميعها ، وإن كان لا يتعلق صحة آخره بصحة ما بعده فهذا لا يبطل الرياء منه إلا ما قابله فقط وذلك كرجل تصدق بصدقتين إحداهما لم يداخله الرياء فيها والثانية داخله الرياء فيها فلا يبطل إلا ما داخله الرياء ، وكرجل صام يومًا تطوعًا بإخلاص ، ولكنه داخله الرياء في اليوم الثاني ، فلا يبطل إلا ما داخله الرياء ، فهذا هو خلاصة الجواب ، ومن باب التوضيح أرسمه لك رسمًا بيانيًا :
حالات دخول الرياء على العبادة

 

 


    والله ربنا أعلى وأعلم .
*  *  *
    س94: هل الرياء يدخل في حيز المغفرة إن مات صاحبه عليه ؟ وما كفارة الوقوع في ذلك ؟
    ج94: اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين : فقيل : إنه يدخل في حيز المغفرة وصاحبه قد يغفر الله له ولا يؤاخذه على هذا الرياء ، وهذا رواية في المذهب واختارها كثير من أهل العلم . وقيل : لا يدخل في حيز المغفرة ، بل لابد أن يعذب صاحبه بقدره في النار يوم القيامة لكنه لا يخلد فيها أبدًا ؛ لأن معه أصل التوحيد ، وهذا القول اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ومجدد الدعوة الشيخ محمد - رحمه الله تعالى - ، والله أعلم بالحال .
    والمقصود وجوب الخوف من الرياء فإنه آفة عظيمة وبلية عواقبها وخيمة ، وكفارة ذلك أن يقول : اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئًا وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم ، كما ورد به الحديث ، والله أعلم .
*  *  *
    س95: كيف يخاف النبي  علينا الشرك الخفي أشد من خوفه علينا من الدجال من عظم فتنته وكبير خطره ؟
    ج95: أقول : العلة في ذلك والله أعلم هي ما يلي :
    الأول : أن فتنة الدجال فتنة ظاهرة تعرف بعلامات ظاهرة ، وأما الشرك الخفي فإنه شيء خفي في القلوب لا يطلع عليه إلا علام الغيوب .
    الثاني : أن فتنة الشرك الخفي خطرها على الأمة أجمع من لدن النبي  أي من عهده إلى آخر الدنيا ، فخطره عام على الأمة كلها ، وأما الدجال فإن فتنته تكون في آخر الزمان ، وقد فني أكثر الأمة ولم يبق منها إلا القليل ، فالرياء فتنة تبتلى بها عامة الأمة ، وأما الدجال ففتنته يبتلى بها بعض الأمة .
    الثالث : أن الدجال عدو منفصل يمكن التحرز منه فإن المدينة ومكة حرام عليه ، وقراءة أوائل سورة الكهف عصمة منه ، أما الشرك الخفي فإن مصدره النفس التي بين جنبيك وهي عدو ملازم لا ينفك عنك إلا ما شاء الله تعالى ، ولاشك أن خطر العدو الباطني الملازم الذي يعسر التحرز منه أعظم من خطر العدو المنفصل الذي لا يشق التحرز منه ، والله أعلم .
*  *  *
    س96: ما حكم إعطاء من سألنا بالله ؟ مع الدليل والتعليل .
    ج96: من سألنا بالله تعالى فلا يخلو :
    إما أن يكون السؤال بالله من معين لمعين في أمر يسوغ بذله ، كأن يسأل زيد عمرًا بالله أن يعطيه كذا وكذا ، فهذا تجب إجابته ويحرم رده ، لكن هذا الواجب مشروط بالقدرة والاستطاعة ، وذلك لقوله  : (( من سأل بالله فأعطوه )) الحديث ، ولأنه لما سألك بالله فإنه يكون بذلك قد سألك بالعظيم الكبير الذي لا أعظم ولا أكبر منه ، فإجابة سؤاله تعظيم لله تعالى وتعظيم ذلك من إكمال التوحيد ومن تحقيق التوحيد .
    وأما إذا كان السؤال من معين لغير معين ، كالذين يقفون في المساجد ويسألون المصلين بالله ، فهؤلاء تستحب إجابتهم ويكره ردهم ، هذا إذا لم يغلب على الظن كذبهم .
    وأما إذا سألنا أحد بالله في أمرٍ محرم كإسقاط حدٍ بعد ثبوته عند ولاة الأمر أو سألنا بالله أن نؤويه بعد أن أحدث حدثاً في البلد يوجب عقوبته والأخذ على يديه ونحو ذلك ، فهذا تحرم إجابته ويجب رده ولا كرامة ، بل وتجب عقوبته لأنه مستخف بالله تعالى حيث جعل السؤال به وسيلة للتوصل لأمور محرمة ، فهو مستخف بمقام الألوهية والربوبية ورده حينئذٍ من تعظيم الله جل وعلا ، والله أعلم .
*  *  *
    س97: ما معنى شهادة ( أن محمدًا رسول الله ) ؟
    ج97: معنى هذه الشهادة : طاعته فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر وتصديقه فيما أخبر وألا يعبد الله إلا بما شرع .
    قال تعالى في آيات كثيرة :  وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول  ، وقال :  وإن تطيعوه تهتدوا  ، وقال تعالى:  وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا  ، وقال تعالى :  لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة  ، وقال تعالى :  من يطع الرسول فقد أطاع الله  ، وقال تعالى :  وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون  .
    وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) متفق عليه ، ولمسلم : (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) ، والله أعلم .
*  *  *
    س98: ما جملة حقوقه  مع الدليل ؟
    ج98: جملة حقوقه  ما يلي :
    الأربعة الماضية في إجابة السؤال الماضي .
    والخامس : تقديم قوله  على قول كل قول ، فلا يجوز أن يعارض قوله بقولٍ كائنًا من كان ، قال تعالى :  يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم  ، وقال تعالى :  يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ...  الآية .
    والسادس : تقديم محبته  على محبة الولد والوالد والخلق أجمعين ، قال - عليه الصلاة والسلام - : (( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين )) متفق عليه ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما )) الحديث، متفق عليه .
    وقد توعد الله بالعذاب من قدم محبة الأشياء الثمانية التي هي غالبًا محاب الناس على محبته ومحبة رسوله  فقال :  قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين  .
    والسابع : الصلاة والسلام عليه كلما ذكر اسمه ، قال تعالى :  إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا  ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا )) ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( البخيل من ذكرت عنده ولم يصل علي )) ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( أتاني جبريل - عليه السلام - فقال : رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك قل آمين فقلت آمين )) ، وتفاصيل هذا الحق قد استوفاها العلامة الإمام ابن القيم في كتابه ( جلاء الأفهام ) ، فليراجعه من شاء الاستزادة ، والله أعلم .
    والثامن : سؤال الله تعالى أن يؤتيه الوسيلة ، كما قال : (( ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة )) ، وفي الحديث : (( آت محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته )) الحديث .
    والتاسع : الاعتقاد الجازم أنه خاتم النبيين وأن كل دعوى نبوة بعده فكذب وزيف وكفر ، قال تعالى :  ولكن رسول الله وخاتم النبيين  ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي )) ، وفي الحديث الآخر : (( وختم بي النبيون )) .
    والعاشر : موالاته المولاة التامة ونصرته النصرة التامة وإنزاله منزلته التي أنزله الله تعالى والذب عن حياض سنته ونشر شريعته والدعوة إلها وجهاد أعدائها بالمستطاع والمقدور عليه من أنواع الجهاد بالسيف واللسان والقلم والمال .
    والحادي عشر : الاعتقاد الجازم أنه أفضل الرسل وأكملهم وأن شريعته أكمل الشرائع وأخفها وآخر الشرائع وأنه صاحب المقام المحمود والحوض المورود ، والله أعلم .
*  *  *

    س99: ما أركان الإيمان - إجمالاً - مع الأدلة ؟
    ج99: أركان الإيمان ستة : الإيمان بالله تعالى ، وبملائكته ، وبكتبه ، وبرسله ، وباليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره .
    قال تعالى :  آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ...  الآية ، وقال تعالى :  ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين ...  الآية ، وقال تعالى :  يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً مبينًا  .
    وفي حديث جبريل المشهور : (( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره )) . قال : صدقت . رواه مسلم ونحوه في المتفق عليه من حديث أبي هريرة ، وغير ذلك ، والله أعلم .
*  *  *
    س100: كيف يتحقق الإيمان بالله تعالى ؟ مع تفصيل ذلك بالأدلة والإسهاب في ذلك .
    ج100: لا يتحقق الإيمان بالله تعالى إلا إذا آمنا بأربعة أمور :
    الأمر الأول : أن نؤمن بوجوده ، وقد دل على جوده الفطرة والعقل والحس والنقل ، ولم أؤخر النقل إلا لأن المنكِر لوجوده جل وعلا لا يؤمن بالنقل فلابد من مخاطبته أولاً بالمتقرر فطرة وعقلاً وحسًا من باب التمهيد لدلالة النقل ، فانتبه لهذا .
    فأما الدليل الفطري : فإن الله تعالى قد فطر النفوس على الإقرار بوجوده وربوبيته ولا ينكر ذلك إلا من تلوثت فطرته بالمؤثرات الخارجية ، قال تعالى :  وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين  ، والإقرار بربوبيته جل وعلا متضمن للإقرار بوجوده ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه )) ولم يقل يسلمانه ؛ لأنه مسلم بالأصالة وفطرته على الإسلام متضمن لفطره على الإقرار بالوجود ، وفي الحديث القدسي قال الله تعالى : (( خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم )) ، فلو تركت الفطرة وشأنها لنشأ صاحبها مقرًا كل الإقرار بوجود الله تعالى وربوبيته ، فكل مخلوق قد فطر على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكير أو تعليم .
    وأما الدليل العقلي : فلأن هذا العالم علويه وسفليه كائن بعد أن لم يكن وحادث بعد عدم ، وقد تقرر في المعقولات أن كل حادث فلابد له من محدث ، وكل مفعولٍ فلابد له من فاعل ، وحينئذٍ فلا يخلو إما أن يكون هذا العالم قد أحدث نفسه بنفسه ، وإما أن يكون قد وجد هكذا صدفة ، وإما أن يكون له خالق قدير القدرة التامة ، ولا احتمال رابع ، فأما الأول فلا يمكن ولا يعقل لأنه من قبل أن يوجد نفسه كان عدمًا وهل المعدوم يوجد نفسه ؟ بالطبع لا ؛ لأنه لا شيء وما ليس بشيء فكيف يكون خالقًا لهذا العالم ، وأما الثاني فلا يمكن أبدًا ولا يعقل أيضًا ؛ لأن هذا العالم خلق على نظام بديع ودقيق جدًا للغاية ولم يتبدل هذا النظام ولم يتغير ، وما وجد صدفة يمتنع في بدائه العقول أن يستمر على هذا النظام الرفيع والتناسق العجيب ، ونضرب لك مثلاً : لو قيل لك إن هناك أخشابًا على شط نهر قطعت نفسها بنفسها ورمت بنفسها في النهر وتراكب بعضها على بعض فصارت سفينة عظيمة تحمل المتاع من هذا الساحل وتنزله في هذا الساحل وتجوب الأمواج كل ذلك بلا ربان يقودها ولا أحد يسيرها ، فهل بالله عليك تقبل هذا ؟ بالطبع لا ، بل لا أظنك تتوقف عن اتهام عقل المخبر بذلك بآفةٍ من جنون أو تخريف ، فكيف بذلك العالم الكبير بأفلاكه ونجومه وكواكبه ومجراته العظيمة وسماواته وأرضه وجباله وسحابه ومطره وزرعه وعامريه من الإنس والجن والحيوانات يوجد هكذا صدفة أو يوجد نفسه بنفسه ، لا والله ليس الأمر كذلك ، فهذان الاحتمالان باطلان كل البطلان ، فإذا بطلا فلم يبق عندنا إلا الثالث وهو الحق الذي لا مرية فيه وهو أن الذي خلق هذا العالم هو الخالق القادر على كل شيء الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء الذي أمره بين الكاف والنون ، فإذا أراد شيئًا إنما يقول له كن فيكون ، جل وعلا وتقدس عن وصف أهل السوء ، وقد ذكر القرآن ذلك الدليل العقلي البديع في آية واحدة بأوضح ثم أوضح ثم أوضح من كلامي هذا ، وهي قوله تعالى :  أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون  ، والله أعلم .
    وأما الدليل الحسي : فمن وجهين :
    أحدهما : إجابة الدعاء ، فيرفع العبد يديه سائلاً فتأتيه الإجابة ، فمن الذي سمع دعاءه وأناله رجاءه ؟ إنه الله الذي لا إله إلا هو ، مجيب الدعوات وقاضي الحاجات ومفرج الكربات، قال تعالى :  ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون  ، وقال تعالى :  وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر...  الآية ، وقال تعالى:  وذا النون إذ ذهب مغاضبًا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات ألا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننج المؤمنين  ، وقال تعالى :  وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردًا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه  ، فمن الذي سمع دعاء ذا النون وهو في هذه الظلمات فنجاه من هذه الكربات إلا رب الأرض والسموات ، ومن الذي سمع دعاء زكريا وهو مستخفٍ مُسِرٌ به في الخلوات فوهب له يحيى سيدًا وحصورًا ونبيًا من الصالحين ، ومن الذي أجرى للمدينة السحابة العظيمة لتغيث العباد ببركة دعوته  على المنبر ولم يكن في السماء قبل الدعاء سحاب ولا قزعة ؟ إنه الله تعالى ، ولا يزال ولن يزال ربنا جل وعلا هو كاشف السوء ومجيب المضطر إذا دعاه ، فهو ملاذ الراجين ومعاذ الخائفين ، فإجابة الدعاء من البراهين الحسية القاطعة الدالة على وجوده جل وعلا .
    والثاني : معجزات الأنبياء ، التي بهرت العقول وأعلنت للعقول السليمة والفطرة المستقيمة صدق دعوى الأنبياء بأنهم رسل من عند الله تعالى ، فمن الذي أجراها على أيديهم ؟ إنه الله الحق القادر على كل شيء ، فبالله عليك من الذي فلق القمر وشقه نصفين ، ومن فلق البحر لموسى - عليه السلام - حتى صار كل فرق كالطود العظيم ، ومن الذي قلب له العصا حيـة تسعى فصـارت تلقف مـا يأفك السحرة ، ومن الذي أجرى على يد عيسى - عليه السلام - إبراء الأكمه والأبرص وإخراج الموتى من قبورهم ؟ أوليس هو الله ؟ بلى إنه الله جل في علاه ، ومن الذي أنزل هذا القرآن المعجز بلفظه ومعناه فلم يقدر أحد من أفصح فصحاء العرب على معارضته أو قول شيء من مثله آيات عظيمة تدل الدلالة القاطعة على وجوده جل وعلا ، فسبحان من طمس أعين الجاحدين عن رؤية شمس الحق وحجب قلوبهم عن التروي من برد اليقين والله أعلم .
    وأما الدليل النقلي : فلأن الكتب السماوية كلها تنطق بذلك وما جاءت به من الأحكام المتضمنة لمصالح الخلق دليل على أنها من رب حكيم عليم بمصالح خلقه ، وما جاءت به من الأخبار الكونية التي شهد الواقع بصدقها دليل على أنها من رب قادر على إيجاد ما أخبر به ، والله أعلم .
    فهذا هو الأمر الأول من مقتضيات الإيمان بالله تعالى .
    الأمر الثاني : الإيمان بربوبيته جل وعلا ، ومعناه الإيمان بأنه وحده المالك الخالق المتصرف وأن الأمر كله بيده ، قال تعالى :  ألا له الخلق والأمر  ، وقال تعالى :  الله خالق كل شيء  ، وقال تعالى :  هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض  ، وقال تعالى :  وخلق كل شيء فقدره تقديرًا  ، وقال تعالى :  ذلكم الله ربكم له الملك والذين يدعون من دونه ما يملكون من قطمير  ، وقال تعالى:  تبارك الذي بيده الملك  ، وقال تعالى :  إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدًا لقد أحصاهم وعدهم عدًا وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا  .
    الأمر الثالث : الإيمان بألوهيته ، أي بأنه لا معبود بحق في هذا الكون إلا هو جل وعلا ، فالعبادة حقه لا شريك له فيها ، فلا يستحقها ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا ولي صالح فضلاً عن القبور والأحجار والأشجار والنجوم والشمس والقمر والجن ، قال تعالى :  الله لا إله إلا هو الحي القيوم  ، وقال تعالى :  وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم  ، وقال تعالى :  شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وألوا العلم قائمًا بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم  ، وقال تعالى:  ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير  ، وقال تعالى :  أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون  ، وقال تعالى :  ما اتخذ الله من ولدٍ وما كان معه من إله إذًا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعضٍ سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون  ، وقد سبقت أسئلة كثيرة عن هذا النوع من التوحيد ، والله أعلم .
    الأمر الرابع : الإيمان بأسمائه وصفاته الواردة في الكتاب والسنة ، وسيأتي أسئلة خاصة بتفاصيل هذا النوع - إن شاء الله تعالى - .
    فهذه جملة الأشياء التي يحصل بها تحقيق الإيمان بالله تعالى ، والله أعلم .
*  *  *
    س101: ما ثمرات الإيمان بالله تعالى ؟
    ج101: الثمرات كثيرة ونجملها لك فيما يلي :
    منها : تحقيق توحيد الله تعالى ، بحيث لا ينصرف القلب ولا يتعلق بغيره رجاءً وحبًا وخوفًا وتوكلاً ولا يعبد غيره .
    ومنها : كمال محبة الله تعالى وتعظيمه بمقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العليا .
    ومنها : هدوء النفس وطمأنينة القلب وراحة البال وصفاء العيش وانشراح الصدر بمعرفته جل وعلا والإيمان به فإن السعادة مشروطة بذلك ، قال تعالى :  من عمل صالحًا من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة  .
    ومنها : دوام شكره جل وعلا على نعمة الإيمان به والتوفيق لذلك بينما أكثر الخلق في ضلال وتيه عن هذه النعمة العظيمة التي لا توازيها نعمة .
    ومنها : تحقيق عبادته جل وعلا بفعل ما أمر واجتناب ما نهى عنه ، رضى وتسليمًا رجاء ثوابه وخوفًا من عقابه .
    ومنها : دعوة الخلق إلى الإيمان به جل وعلا والتواصي بذلك والصبر على ما يحصل للداعي إلى ذلك من الأذى في سبيل الله جل وعلا واحتساب الأجر في ذلك ، والله أعلم .
*  *  *
    س102: اذكر بعض الأوجه مقرونة بأدلتها على بطلان عبادة ما سوى الله تعالى لتكون سلاحًا نتسلح به عند مجادلة من يصرف شيئًا من العبادة لغير الله جل وعلا .
    ج102: هذا سؤال عظيم النفع جليل القدر ، وجوابه أن يقال : الأوجه كثيرة ، ولكن أذكر لك أهمها :
    فمنها : التصريح ببطلان عبادتها كقوله تعالى :  ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل والله هو العلي الكبير  .
    ومنها : النهي الصريح عن عبادة ما سواه جل وعلا ، قال تعالى :  ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذًا من الظالمين  ، وقال تعالى :  ولا تجعل مع الله إلهًا آخر فتلقى في جهنم ملومًا مدحورًا  .
    ومنها : سلب خصائص الإلهية عنها ووصفها بالأوصاف التي لا تصلح أن تكون معها آلهة وهذا كثير في القرآن كقوله تعالى :  واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا ولا يملكون موتًا ولا حياة ولا نشورًا  ، وكقوله تعالى :  يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئًا  ، وكقوله تعالى :  أيشركون ما لا يخلق وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرًا ولا أنفسهم ينصرون  ، ونحو هذه الآيات .
    ومنها : الإخبار الصريح القاطع بأن هذه المعبودات لا تملك شيئًا وأنها لا تسمع داعيها ولا تستجيب له ، قال تعالى :  ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير  ، وقال تعالى :  ومن أضل ممن يدعو من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون  ، وقال تعالى :  قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير  ، وقال تعالى :  إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين  .
    ومنها : الإخبار بأن هذه المعبودات من الأشجار والأحجار مفتقرة في وجودها وحفظها إليهم ، قال تعالى :  أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون  ، وقال تعالى :  واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون ، أي أن عابدها اتخذها آلهة لتنصره وهي في حقيقتها لا تستطيع ذلك لعجزها العجز المطلق ، بل عابدها جندي لها يحفظها ممن أرادها بمكروه فكيف يرجو أن تنصره وهي أصلاً مفتقرة لحفظه ونصره فإن فاقد الشيء لا يعطيه .
    ومنها : نفي هذه الآلهة بـ ( لا ) النافية للجنس ، والمراد نفي أحقية عبادتها وذلك في آيات كثيرة يقول الله فيها :  لا إله إلا هو  فإن قوله :  لا إله  نكرة في سياق النفي وهي مفيدة للعموم ، فكل ما عبد من دون الله جل وعلا فهو باطل وإنما المعبود بحق هو الله وحده جل وعلا .
    ومنها : الإخبار بأن هذه المعبودات ستتبرأ من عبادها يوم القيامة وتكون له عدوًا وخصمًا ، وهذا يفيد بطلان زعمهم أنها تنفعهم في الآخرة ، قال تعالى :  وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداءً وكانوا بعبادتهم كافرين  ، وقال تعالى عن خليله إبراهيم - عليه السلام - أنه قال لقومه :  وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانًا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضًا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين  .
    ومنها : الاستدلال عليهم بضرب الأمثال بما هو متقرر عندهم عقلاً وحسًا ، كما في قوله تعالى :  ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم  ، أي أيرضى أحدكم أن يكون عبده شريكًا له في ماله فهو وعبده فيه سواء ينفق العبد من ماله كما ينفق ويتصرف فيه كما يتصرف فإن أحدكم يأنف من ذلك ولا يرضاه ، أي أنه لا يرضى أن يكون عبده شريكًا في حقه فكيف تجعلون لله أندادًا من عبيده وخلقه وتصرفون لهم ما هو من خالص حقه ؟ كيف ترضون لله ما لا ترضونه لأنفسكم ؟ فأنتم لا ترضون أن يشارككم عبيدكم في حقكم وما تملكونه وأنتم تجعلون لله شركاء في عبادته التي هي حقه الصرف ، فإن هذا أمر لا يرضاه الله أيضًا ، ويذكرني هذا بأمرين :
    أحدهما : أن المشركين كانوا يقتلون بناتهم خوف العار  وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًا وهو كظيم . يتوارى من القوم من سوء ما بشر به . أيمسكه على هون  - أي ذلة وصغار -  أم يدسه في التراب  ، وهم مع ذلك ينسبون البنات إلى الله سبحانه وتعالى فيقولون : الملائكة بنات الله ، فقال تعالى :  وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ضل وجهه مسودًا وهو كظيم  .
    الثاني : قرأت في مناظرة الباقلاني مع النصارى أنه لما دخل على أسقفهم وكبيرهم قال له - عمدًا - : كيف الأهل والأولاد ؟ فأنف الأسقف من ذلك وتمعر وجهه لأنه نسبه إلى النقص ، إذ الأسقف عندهم لا يصلح أن تكون له زوجة ولا ولد ، فقال الباقلاني : أيستحي أحدكم أن ينسب له الزوجة والولد وأنتم تقولون : إن الله اتخذ صاحبة وولدًا ، فكيف ترضون لله ما لا ترضونه على أنفسكم . قلت : فهذا مثل هذا ، والله أعلم .
    ومنها : الإخبار بضعف هذه المعبودات ، كما قال تعالى :  يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب  فكيف تترك عبادة القوي القادر من كل وجه ويعبد الضعيف العاجز من كل وجه ؟
    ومنها : الاستدلال على ذلك ، أي على أحقيته جل وعلا بالعبادة وتفرده بها بتوحيد الربوبية ، وهذا كثير جدًا في القرآن يصعب حصره .
    ومنها : الإخبار بأن هذه المعبودات من الأشجار والأحجار والجن ومن رضي بعبادته من الطواغيت معهم في النار ، فقال تعالى :  إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون  .
    ومنها : الإخبار في آيات كثيرة بأن هذه المعبودات لا تضر ولا تنفع كما قال تعالى :  ويعبدون من دون الله ملا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله  ، فكيف تترك عبادة من بيده النفع والضر ويعبد من لا يملك نفعًا ولا ضرًا ؟ وقال تعالى :  فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب  .
    ومنها : مناظرة إبراهيم - عليه السلام - مع قومه ، فإنها من البراهين الواضحة والحجج القاطعة على بطلان عبادة ما سوى الله تعالى ، فعليك بها قراءة وحفظًا وتدبرًا .
    ومنها : الإخبار الصريح بأن هذه المعبودات ليست بشركاء لله تعالى في ملكه وإلهيته وتصرفه وإنما هو ظن من أصحابها وتخرص كما قال تعالى :  وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون  ، وقال تعالى :  ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان  ، فعبادة هذه الأشياء إنما مبناه على الظن والكذب والهوى والتخرص .
    ومنها : إبطال عبادتها بقياس الأولى ، فالله تعالى أبطل عبادة الملائكة ، فقال تعالى :  بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعلمون  ، وقال تعالى :  ويوم يحشرهم جميعًا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون  ، وقال تعالى:  وكم من ملك في السموات والأرض لا تغني شفاعتهم شيئًا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى  ، وفي الحديث : (( إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله ... )) الحديث ، فإذا كانت عبادة الملائكة على عظيم خلقهم وقوة أجسامهم باطلة فكيف بعادة الحجرة والشجر والصنم والقبر ونحوها ؟
    والأوجه كما ذكرت كثيرة لكن هذا ما حضرني وقت تسطير هذه الأحرف اليسيرة التي أسأل الله جل وعلا باسمه الأعظم أن يبارك فيها وينفع بها مقيدها وعامة المسلمين ، والله أعلم .
*  *  *
    س103: مَنْ الملائكة ؟
    ج103: الملائكة : عالم غيبي مخلوقون من نور للقيام بأعمال مخصوصة .
    فقوله : (( عالم غيبي )) قيد أخرج عالم الإنس ؛ لأنه عالم مشاهد ظاهر .
    وقوله : (( مخلوقون من نور )) قيد أخرج عالم الجن والشياطين ؛ لأنهم مخلوقون من مارج من نار .
    وقوله : (( للقيام بأعمال مخصوصة )) يدخل فيه جميع ما ورد من الأعمال التي يقوم بها الملائكة مما علمناه ومما لم نعلمه ، والله أعلم .
*  *  *
    س104: كيف يتم تحقيق الإيمان بالملائكة ؟ مع التدليل والتفصيل .
    ج104: لا يتم الإيمان بالملائكة إلا إذا استوفيت الإيمان بعدة أمور :
    الأول : أن تؤمن بوجودهم ، وقد دل على وجودهم النقل ، وذلك في آيات كثيرة سيأتي بعضها - إن شاء الله تعالى - ، ويتضمن الإيمان بوجودهم الإيمان بأنهم أجسام لا أنهم مجرد أعراض أو أنهم قوى الخير كما يقوله بعض طوائف الفلاسفة الحمقى .
    الثاني : الإيمان بمن علمنا اسمه منهم ومن لم نعلم اسمه منهم ، فنؤمن بهم إجمالاً ، فمن علمنا اسمه جبريل وميكائيل وإسرافيل ومالك ومنكر ونكير ورضوان ، وكل من صح الدليل باسمه فنؤمن به وباسمه .
    الثالث : الإيمان بما علمنا من صفاتهم الواردة في الكتاب والسنة ، ودونك بعضها :
    فمنها : أنهم أولوا أجنحة ، قال تعالى :  الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء  ، وفي حديث أبي هريرة في تفسير قوله تعالى :  حتى إذا فزع عن قلوبهم  ، قال : (( إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله كأنه سلسلة على صفوان )) .
    ومنها : وصف الله تعالى لعبده ورسوله جبريل - عليه السلام - كما قال جل وعلا :  علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى  ، وقال جل وعلا :  إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين  ، وفي الحديث عند مسلم عن عائشة مرفوعًا : (( رأيته منهبطًا من السماء له ستمائة جناح سادًا عظم خلقه ما بين السماء والأرض )) .
    ومنها : وصف الله تعالى لملائكة العذاب ، في قوله :  عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون  .
    ومنها : أنهم لا يفترون ولا يملون في القيام بما أوكل إليهم من الأعمال ولا في عبادة الله تعالى ، قال تعالى :  يسبحون الليل والنهار لا يفترون  ، وقال تعالى :  فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون  .
    ومنها : أنهم منزهون عن مخالفة الأمر وفعل المعصية ، قال تعالى :  لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون  ، وقال تعالى :  بل عباد مكرمون لا يسبقون بالأمر وهم بأمره يعملون  ، وقد ذكر الله تعالى في آيات كثيرة أنه لما قال لهم :  اسجدوا لآدم  امتثلوا الأمر فبادروا بالسجود.
    ومنها : أنهم لا يأكلون ولا يشربون ، ويستدل عليه بقصة أضياف إبراهيم ، قال تعالى:  فقربه إليهم قال ألا تأكلون  .
    ومنها : أنهم أعداد كثيرة لا يحصيهم الرقم ولا يحيط بهم العد ، قال تعالى :  وما يعلم جنود ربك إلا هو  ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( أطت السماء وحق لها أن تئط ما من موضع أربع أصابع إلا ملك ساجد أو راكع )) ، وفي الحديث في صفة البيت المعمور : (( فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم )) ، وأضرب لك مثالاً واحدًا على كثرتهم وذلك في قوله  : (( يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها )) ، فعدد هؤلاء فقط (490000000000) أربعة مليار وتسعمائة مليون ملك ، فسبحان من أحصاهم وخلقهم وتعالى وتبارك وتقدس .
    الرابع : الإيمان بما علمنا من أعمالهم الواردة في الكتاب والسنة ، فمن ذلك أن جبريل - عليه السلام - هو الموكل بالوحي ، وميكائيل هو الموكل بالقطر والزرع مما به حياة الأرض ، وإسرافيل هو الموكل بالنفخ في الصور ، ومنكر ونكير موكلان بسؤال أصحاب القبور ، وملك الموت هو الموكل بقبض أرواح العباد ، ومنهم ملائكة موكلون بالنطفة في الرحم من نفخ الروح فيها وكتابة ما سيكون عليه من ذكورة وأنوثة أو شقاوة وسعادة ، ومنهم الملائكة الموكلة بالجبال ، ومنهم الملائكة الحفظة الذين يحفظون العبد ، قال تعالى :  له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله  ، والملائكة الذين يحفظون أعمال العبادة بكتابتها ، قال تعالى :  وإن عليكم لحافظين كرامًا كاتبين يعلمون ما تفعلون  ، ومن ذلك الملائكة الذين يتعاقبون علينا بالليل والنهار ، ويجتمعون في صلاة الفجر والعصر كما في الحديث المعروف : (( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار )) ، ومنهم الملائكة السيارة الذين يسيحون في الأرض بحثًا عن حلق الذكر كما في حديث : (( إن لله ملائكة سيارة ... )) الحديث ، ومنهم الملائكة الموكلون بالنار ومقدمهم مالك - عليه السلام - ، وغير ذلك من الأعمال مما ثبت في الكتاب والسنة .
    فإذا أتممت الإيمان بهذه الأمور الأربعة فإنك تكون قد حققت الإيمان بالركن الثاني من أركان الإيمان وهو الإيمان بالملائكة ، والله يعيننا وإياك على تحقيق ذلك التحقيق الكامل ، والله أعلم .
*  *  *
    س105: هل هناك من اعتقد في الملائكة اعتقادًا فاسدًا ؟
    ج105: نعم هناك من اعتقد بعض الاعتقادات الفاسدة في الملائكة .
    فمن ذلك : أن بعض الطوائف تعتقد أنهم يتصفون بشيء من صفات الألوهية فعبدوهم من دون الله تعالى ، قال تعالى :  ويوم يحشرهم جميعًا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون  ، وقال تعالى عنهم :  بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين  ، وبه يتقرر أن الملائكة لا تحمل شيئًا من صفات الألوهية ولا يجوز صرف شيء من العبادة لها ؛ لأن العبادة حق الله الخالق لا يشركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا ولي صالح .
    ومن ذلك : أن المشركين كانوا يعتقدون أن الملائكة إناث ، وهذا اعتقاد فاسد باطل كل البطلان ، قال تعالى :  وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون  ، وقال تعالى :  فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثًا وهم شاهدون إلا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون  .
    ويتضمن ذلك الاعتقاد اعتقاد آخر فاسد وهو اعتقاد أن بين الملائكة وبين الله نسبًا ، قال تعالى :  وجعلوا بينه وبين الجنة نسبًا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون  ، والجنة هنا يراد بهم الملائكة على قول كثير من المفسرين .
    ومن ذلك : ما يعتقده الفلاسفة الحمقى المجانين السفهاء السقطاء الذين خالفوا المنقول وناقضوا المعقول من أنه لا حقيقة للملائكة وليسوا بأجسام ، ولكن المراد بهم قوى الخير كما أن المراد بالشياطين قوى الشر ، وهذا المذهب كفر مخالف للقرآن والسنة ، فإن ما ورد من صفاتهم في الكتاب والسنة تدل على أن لهم حقيقة وأنهم أجسام .
*  *  *
    س106: ما القاعدة المتقررة عند أهل السنة والجماعة في عالم الملائكة ؟
    ج106: القاعدة في ذلك : أن هذا العالم غيبي ومبنى أموره نفيًا وإثباتًا على الدليل الشرعي الصحيح ، أي أنه لا مدخل للعقل في إثبات شيء له أو نفيه عنه ، بل الواجب هو الوقوف على ما وقف عليه النص ولا نتعدى القرآن والحديث ، فمن أثبت لهذا العالم شيئًا فإن قبولنا لهذا الإثبات موقوف على الدليل ومن نفى عنه شيئًا فإن قبولنا لنفيه موقوف على الدليل ، فمن جعل العمدة في هذا الباب على عقله فقد ضل وأضل ولن يرجع إلا بالحيرة والتيه والشكوك والإشكالات التي لا مخرج منها إلا اعتماد هذه القاعدة المباركة ، فعظ عليها بالنواجذ واجعلها أساسًا لك في هذا الباب فما أثبته الدليل أثبتناه وما نفاه نفيناه وما لم يرد فيه إثبات ولا نفي فالواجب السكوت عنه ، والله أعلم .
*  *  *
    س107: هل الملائكة تموت ؟
    ج107: نعم قد كتب عليها الموت ، كما قال تعالى :  ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون  ، ولعموم قوله تعالى:  كل نفسٍ ذائقة الموت  ، ولعموم قوله تعالى:  كل من عليها فان  ، وآخر من يموت ملك الموت وينفرد الحي القيوم الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء ، ولعموم قوله تعالى :  كل شيء هالك إلا وجهه  ، ولكن اعلم أن الدليل إنما أثبت موتهم يوم النفخ في الصور ، وأما قبل ذلك فلا علم لنا به ، وما لا علم لنا به فالواجب حتمًا فيه أن نقول : لا نعلم ، وكما مضى في إجابة السؤال السابق فليكن منك على ذكرٍ ، والله أعلم .
*  *  *

    س108: هل الملائكة تتمثل في صور البشر ؟ مع ذكر الدليل .
    ج108: نعم ، كما وردت بذلك الأدلة من الكتاب والسنة ، قال تعالى :  فأرسلنا إليها فتمثل لها بشرًا سويًا  ، وقال تعالى :  هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين  ، فإنهم جاءوه على صورة البشر ، ولذلك ظنهم إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - من عابري السبيل فقرب الطعام إليهم .
    وقال تعالى :  ولما جاءت رسلنا لوطًا سيء بهم وضاق بهم ذرعًا  ، قال العلماء : ( إنهم جاءوه في صورة شباب حسان الوجوه ) .
    وكذلك ثبت ذلك في حديث جبريل المشهور عند مسلم وفيه : (( إذ طلع رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد )) ، وفيه : (( فإنه جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم )) ، وقد كان جبريل يأتي النبي  كثيرًا في صورة دحية بن خلف الكلبي وهو من أجمل الصحابة صورة .
    وكذلك ثبت في الصحيح في قصة الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا وفيه : (( فأرسل الله لهم ملكًا في صورة رجل )) .
    ومنها أيضًا حديث الرجل الذي زار أخًا له في قرية فأرصد الله على مدرجته ملكًا في صورة بشر يسأله .
    ومنها أيضًا ما ثبت في الصحيح في قصة الثلاثة من بنبي إسرايل : الأعمى والأقرع والأبرص ، وأن الذي ابتلاهم ملك أرسله الله تعالى على صورة بشر .
    فهذه الأدلة تفيد أن الملائكة يتمثلون في صورة البشر بل في أحسن صور البشر ، والله أعلم .
*  *  *
    س109: هل الملائكة أفضل أم صالحي البشر ؟
    ج109: فيه خلاف قديم بين العلماء والأقرب في ذلك ما اختاره الشيخ تقي الدين وتابعه عليه ابن القيم - رحمهما الله تعالى - : أن الملائكة أفضل باعتبار البداية ؛ لأنهم الآن في الرفيق الأعلى منزهون عن ما يلابسه بنوا آدم مستغرقون في عبادته جل وعلا ، ولاريب أن هذه الأحوال أكمل من أحوال البشر ، وصالحي البشر أكمل باعتبار النهاية أي بعد دخول الجنة وينل الزلفى وتحية الرحمن والإكرام برؤيته في دار السلام وتخصيصهم بمزيد القرب وقيام الملائكة لخدمتهم بإذن ربهم يدخلون مسلمين عليهم من كل باب ، قال ابن القيم : ( وبهذا التفصيل يتبين سر التفضيل وتتفق أدلة الفريقين ويصالح كل منهم على حقه ) اهـ .
*  *  *
    س110: هل الملائكة تلعن أحدًا ؟
    ج110: نعم ، والضابط في ذلك أنها تلعن من لعنه الله تعالى ، وقد ثبت بذلك الأدلة الكثيرة ، أذكر لك بعضها :
    فمنها : لعنتهم للكافرين ، قال تعالى :  إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين  ، وقال تعالى :  كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاءهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين  .
    ومنها : لعنهم للمرأة التي لا تستجيب لزوجها في فراشه ، ولا مانع شرعي يمنعها من حيض أو نفاس ، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى تصبح )) ، وفي رواية : (( حتى ترجع )) .
    ومنها : لعنهم للذي يشير إلى أخيه بحديدة ، كما رواه مسلم  من حديث أبي هريرة  قال : قال أبو القاسم  : (( من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى وإن كان أخاه لأبيه وأمه )) .
    ومنها : لعنهم من سب أصحاب النبي  ، فقد روى الطبراني في الكبير بإسناد حسن عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي  قال : (( من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين )) .
    ومنها : لعنهم من حال دون تنفيذ شرع الله تعالى ، ففي سنن النسائي وابن ماجه بسندٍ صحيح عن ابن عباس أيضًا أن النبي  قال : (( من قتل عمدًا فقود يديه ، فمن حال بينه وبينه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين )) ، فالذي يحول دون تنفيذ القصاص في القاتل عمدًا عليه هذه اللعنة فكيف بالله عليك بالذي يحول بين تطبيق الشريعة من أساسها ويحكم القوانين الوضعية ويحمل عليها الناس بالحديد والنار ؟ اللهم غفرًا ، والله أعلم .
    ومنها : لعنهم لمن آوى محدثاً ، ففي الحديث الصحيح : (( من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين )) ، والحدث في المدينة النبوية أشد جرمًا وأعظم جرمًا ، ففي الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله  : (( المدينة حرم ما بين عير إلى ثور فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلاً )) .
    فهذه بعض الأمثلة على إجابة هذا السؤال ، والله تعالى أعلى وأعلم .
*  *  *
    س111: ما ثمرات الإيمان بالملائكة ؟
    ج111: ثمرات الإيمان بالملائكة كثيرة وألخصها فيما يلي :
    الأولى : العلم بعظيم قدرة الله تعالى وعظمته وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء فإن عظمة المخلوق من عظمة الخالق جل وعلا .
    الثاني : الإيمان بقدرته التامة جل وعلا على إحياء الموتى وبعث الأجساد من القبور لفصل القضاء ، فإن الله الذي خلق هؤلاء الملائكة على هذه الصفات العظيمة وهم أكبر من خلق الناس بكثير قادر من باب أولى على إعادة هذا الخلق الصغير الذي مبدؤه نطفة ثم علقة .
    الثالث : تحقيق محبة الملائكة ، فإنهم يحبون المؤمنين ويدعون لهم بالمغفرة والجنة هم وآباؤهم وأزواجهم وذرياتهم وعلى ما قاموا به من عبادة الله تعالى ، وغير ذلك من أسباب وجوب المحبة .
    الرابع : ألا نؤذيهم بقول أو فعل ، ومن ذلك ألا نفعل ذنبًا أو معصية ، فإن الملائكة تتأذى من ذلك لعلمها أن ذلك هو طريق النار وهي تريد لنا الجنة ، وإذا أردنا أن نحضر للمساجد فلا نأكل ثومًا ولا بصلاً ولا شيئًا له رائحة كريهة ، ولا نؤذي عباد الله المؤمنين فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنوا آدم .
    الخامس : التشبه بهم فيما هو داخل تحت قدرتنا من صفاتهم ، كالدأب والاستمرار على عبادة الله تعالى ، وأن لا نعصي الله ما أمرنا ونفعل ما نؤمر به ، ومن ذلك تحسين صفوف الصلاة ، من تقاربها وتراصها وسد الفرج وإتمام الصفوف الأول فالأول ، ومن ذلك تعظيم كلام الله المنزل أي القرآن ، وتعظيم السنة ، والبحث عن حلق تعليم العلم النافع ، والتواضع لأهل العلم فإن الملائكة تضح أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب ، ومن ذلك الاستغفار للمؤمنين ومحبتهم وإرادة إيصال الخير والنفع لهم والدعاء لهم بالجنة ، ومن ذلك الاتصاف بالأمانة قولاً وفعلاً والقيام بها وأدائها إلى أهلها ونحو ذلك ، والله أعلم .
    السادس : شكر الله تعالى على عنايته ببني آدم ، حيث وكل من هؤلاء الملائكة من يقوم بحفظهم وكتابة أعمالهم وإعانتهم على القيام بمصالحهم وغير ذلك ، والله أعلم .
*  *  *

    س112: كيف الرد على الزائغين الذين ينكرون حقيقة الملائكة ويقولون إنهم عبارة عن قوى الخير الكامنة في المخلوقات ؟
    ج112: الرد عليهم أن نقول : هذا تكذيب لكتاب الله وسنة رسوله  وخرق لإجماع المسلمين :
    قال تعالى :  الحمد لله فاطر السموات والأرض . جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع  ، وقال تعالى :  ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم  ، وقال تعالى :  وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم  ، وقال تعالى :  والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار  .
    وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( وخلقت الملائكة من نور )) ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( رأيته منهبطًا من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض )) ، وقال تعالى :  ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى  ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلانًا فأحبه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلانًا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض )) رواه البخاري من حديث أبي هريرة  ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول ، فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر )) رواه البخاري ، وفي حديث عمر المشهور : (( إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد )) .
    وغير ذلك من نصوص الكتاب والسنة الدالة الدلالة القاطعة أن الملائكة لهم حقيقة خارجية ، وأنهم أجسام تصعد ، وتهبط ، وتقبض ، وتكتب ، وتضرب الكفار عند الوفاة ، وأنهم يُرون إذا تشكلوا على صورة البشر ، وأنهم يصيبهم الخوف والفزع والرعدة والصعق إذا سمعوا كلام الله بالوحي ، وأنهم يركعون ويسجدون ويسبحون ، ويستغفرون للذين آمنوا .كل ذلك وغيره مما ثبت به الدليل رد على هذه الطائفة الزائغة وهم الفلاسفة ومن نهج سبيلهم من هذه الأمة ، وهذا الاعتقاد الذي يعتقده هؤلاء في ملائكة الرحمن جل وعلا كفر وردة ، والعياذ بالله تعالى ، والله أعلم .
*  *  *
    س113: كيف يتم تحقيق الإيمان بكتب الله جل وعلا ؟
    ج113: لا يتم تحقيق الإيمان بالكتب إلا إذا آمنا بخمسة أمور :
    الأول : الإيمان بأنها نزلت من عند الله حقًا وأنها كلام الله تعالى منزلة غير مخلوقة .
    الثاني : الإيمان بما علمنا اسمه منها باسمه كالقرآن الذي نزل على نبينا محمد  ، والتوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى - عليه الصلاة والسلام - ، والإنجيل الذي أنزله الله تعالى على عيسى - عليه الصلاة والسلام - ، والزبور الذي أنزله الله تعالى على داود - عليه الصلاة والسلام - ، وصحف إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ، وما لم نعلم اسمه منها فنؤمن به إيمانًا مجملاً .
    الثالث : تصديق ما صح من أخبارها كأخبار القرآن وأخبار ما لم يبدل أو يحرف من الكتب السابقة .
    الرابع : العمل بأحكام ما لم ينسخ منها والرضا والتسليم به سواء فهمنا حكمته أم لم نفهمها ، وجميع الكتب السابقة نسخت شرائعها بالقرآن الكريم ، وبناءً عليه فلا يجوز العمل بأي حكمٍ من أحكام الكتب السابقة إلا ما صح منها وأقره القرآن الكريم .
    الخامس : الإيمان بأن القرآن الكريم أفضلها وأجمعها وآخرها وهو المهيمن عليها وأنه المحفوظ من الزيادة والنقصان ، قال تعالى :  إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون  ، والله أعلم .
    س114: ما ثمرات الإيمان بالكتب ؟
    ج114: ثمرات الإيمان بالكتب كثيرة نذكر منها ما يلي :
    الأولى : العلم بكبير عناية الله تعالى ورحمته بعباده حيث لم يتركهم همجًا رعاعًا في جهل وعماية ، بل أنزل لهم كتبًا وجعلها نورًا وهدى للناس لتعرفهم كيف يعبدون الله تعالى وتهديهم إلى الصراط المستقيم والمنهج القويم .
    الثانية : السعي الحثيث في طلب الهداية من القرآن قراءة وحفظًا وتعلمًا وتدبرًا وعملاً وتحكيمًا ومردًا عند التنازع واستشفاءً به وغير ذلك من سبل الاهتداء به .
    الثالثة : وجوب الذب عن هذا الكتاب العزيز الذي هو مصدر عز هذه الأمة ، وذلك بنشر الاعتقاد الصحيح فيه وكشف الدعاوى المغرضة التي تريد الحط من قدره وزعزعة الثقة فيه وأنه لا يصلح للقرن العشرين وغيرها من الدعاوى التي يراد منها إبعاد الأمة عن القرآن والإقبال على غيره .
    الرابعة : العلم بحكمة الله تعالى في شرعه حيث جعل لكل قوم ما يناسبهم من التشريع ، قال تعالى :  لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا  .
    الخامسة : تحقيق كمال الإيمان بالقرآن بإكمال تعظيمه فلا يمسه إلا على طهارة تامة من الحدث والخبث وأن يستاك عند قراءته وأن لا يقرأه في أماكن اللغو والرفث والفسوق وألا يمتهنه بقولٍ أو فعلٍ أو يجعله تميمة أو يعلق آياته على الجدران ، وألا يكتب عليه شيئًا كما يفعله كثير من طلبة المدارس - هداهم الله تعالى - ، والله تعالى أعلى وأعلم .
*  *  *
    س115: كيف نحقق الإيمان بالرسل ؟
    ج115: نحقق الإيمان بالرسل إذا استوفينا الإيمان بعدة أمور :
    الأول : الإيمان بأن الله قد بعث في كل أمةٍ من الأمم رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ، قال تعالى :  ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت  ، وهذا يتضمن أن دينهم واحد وشرائعهم مختلفة ، قال تعالى :  لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا  ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات ديننا واحد وشرائعنا مختلفة )) .
    الثاني : الإيمان بأن رسالتهم حق من الله تعالى فمن كفر برسالة واحد منهم فقد كفر بالجميع ، كما قال تعالى :  كذبت قوم نوحٍ المرسلين  ، فجعلهم الله مكذبين لجميع الرسل مع أنه لم يكن رسول غير نوح حين كذبوه ، وقال تعالى :  لا نفرق بين أحد من رسله  ، أي في الإيمان بأن رسالتهم حق من عند ربهم جل وعلا ، وقال تعالى :  إن الذين كفروا بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقًا وأعتدنا للكافرين عذابًا مهينًا . والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحدٍ منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورًا رحيمًا  ، وبناءً عليه فالنصارى الذين كفروا برسالة محمد  هم في الحقيقة كفار بكل الرسالات من رسالة عيسى وموسى وإبراهيم ونوح - عليه الصلاة والسلام - .
    الثالث : الإيمان بمن علمنا اسمه باسمه وقد سمى الله في القرآن عددًا من الأنبياء والرسل ، كآدم وإبراهيم وإسماعيل ومحمد وموسى وعيسى ونوح وهود وصالح وشعيب وداود وسلميان وأيوب ويونس وهو ذو النون وذا الكفل واليسع ولوط وهارون وإسحاق ويعقوب وزكريا ويحيى وإدريس وإلياس والأسباط وهم أنباء بني إسرائيل وكذلك الخضر على الصحيح من أقوال أهل العلم ، قال تعالى :  وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم . ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا ونوحًا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين  ، وقال تعالى :  إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوحٍ والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورًا ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليمًا  ، ومن لم نعلم اسمه منهم فإننا نؤمن بهم إيمانًا مجملاً كما قال تعالى :  ورسلاً لم نقصصهم عليك  .
    الرابع : تصديق ما صح من أخبارهم مع أممهم ، وهذا داخل في الإيمان بأخبار القرآن ، فأخبارهم صدق وحق لا يتطرق إليها الكذب بوجهٍ من الوجوه .
    الخامس : العمل بشريعة من أرسل إلينا منهم وهو خاتمهم وأفضلهم محمد رسول الله  ، قال تعالى :  فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا  .
    السادس : الإيمان الجازم بأن رسالته  رسالة عامة للثقلين الإنس والجن ، قال تعالى:  وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا  ، وقال تعالى عن من آمن منهم بعد سماع القرآن أنهم قالوا لقومهم :  يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم . ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض ...  الآية ، وقال  : (( وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة )) ، والله أعلم .
*  *  *
    س116: هل النبوة مكتسبة أم مبناها على الاصطفاء والاختيار ؟ وضح ذلك بالدليل .
    ج116: أقول : قول المسلمين هو أن النبوة مبناها على الاصطفاء والاختيار وهو عائد إلى الله تعالى ، قال تعالى :  الله أعلم حيث يجعل رسالته  ، وقال تعالى :  الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس  ، وهي داخلة في عموم قوله تعالى :  وربك يخلق ما يشاء ويختار  .
    وأما القول بأنها مكتسبة فإنه كفر وخروج عن الملة ؛ لأنه مكذب للنص الصريح القاطع ، ولأنه يفضي إلى ادعاء النبوة بعده  ، وقد قال تعالى :  ما كان محمد أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين  ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( وختم بي النبيون )) ، وقال : (( سيكون بعدي ثلاثون دجالون كذابون كلهم يزعم أنه رسول الله وأنا خاتم الأنبياء لا نبي بعدي )) ، فالقول بأنها مكتسبة من هذيان الفلاسفة وتخريفاتهم وأباطيلهم ، وما هي بأول كفرياتهم ، والله المستعان وهو أعلى وأعلم .
*  *  *
    س117: ما الفرق بين النبي والرسول ؟ مع تفصيل الإجابة بالدليل والتعليل .
    ج117: الفرق المشهور هو أن النبي من بعث بشرع ولم يؤمر بإبلاغه ، والرسول من أوحي إليه شرع وأمر بإبلاغه ، ولكن هذا الفرق فيه نظر من عدة وجوه :
    أحدها : قال تعالى :  وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ...  الآية ، فأثبت هنا أن النبي داخل ضمن من أرسل ومن لوازم ذلك أن يرسل إلى قوم ويبلغهم ما أرسل به ، فكيف يقال : ولم يؤمر بإبلاغه ؟
    الثاني : ثبت في الصحيح أن النبي  قال : (( عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد )) ، وهذا دليل على أنهم مبعوثون للبلاغ وأن من أطاعهم وصدقهم فهو معهم ومن عصاهم وكذبهم فقد خاب وخسر فكيف يقال : ولم يؤم بإبلاغه ؟
    الثالث : أن المقصود الأعظم من الوحي هداية الناس وإرشادهم ودلالتهم إلى الصراط المستقيم ، وما الفائدة من وحي لم يؤمر بإبلاغه من أوحي إليه ، مع أن الناس في زمنه محتاجون لما معه أشد من حاجتهم للطعام والشراب ، فيكف لا يلزم بإبلاغه مع شدة الحاجة وكثرة المخالفة .
    الرابع : أن الواجب على أهل العلم إبلاغ الشريعة وتعليم الجاهل وإرشاد الضال وإفتاء السائل ، وقد توعدوا بالوعيد العظيم على كتم شيء من ذلك ، فإذا كان هذا هو الواجب في حق أهل العلم فكيف لا يكون واجبًا في حق الأنبياء وهم أفضل وأكمل من أهل العلم ، بل هم سادات أهل العلم ، وأهل العلم إنما يصدرون عن قولهم ويبلغون شريعتهم ، وهذا من باب الاستدلال بقياس الأولى وهو حجة بالاتفاق ، قال تعالى :  وإذ أخذ الله ميثاق الذين أتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه  .
    فأنت ترى أن هذا القول ترد عليه هذه الواردات التي هي في ذاتها صحيحة ، ومجرد شهرته ليست بدليل على صحته .
    وبناءً عليه فالفرق الصحيح بين النبي والرسول : أن الرسول من جاء بشرع جديد ، والنبي من جاء مجددًا لشريعة من قبله ، والله أعلم .
*  *  *
    س118: كيف نجمع بين قوله تعالى :  لا نفرق بين أحدٍ من رسله  وبين قوله تعالى :  تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض  ؟
    ج118: لا اختلاف في ذلك البتة وبيانه أن يقال :
    لا نفرق بين الرسل في أصل الإيمان برسالتهم وأنها حق وصدق من عند الله تعالى ، فهم بهذا الاعتبار لا نفرق بين أحد منهم ، فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، كما ورد ذلك مفسرًا في قوله تعالى :  ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً  ، فهذا هو التفريق المنهي عنه .
    وأما باعتبار الشرائع التي بعثوا بها والمعجزات والبراهين التي أيدوا بها والفضائل التي ثبتت لآحادهم فإن بعضهم أفضل من بعض بهذا الاعتبار ويفسر ذلك قوله تعالى :  منهم ن كلم الله ورفع بعضهم درجات  ، وعلى هذا فلا إشكال بين الآيتين ، والله أعلم .
*  *  *
    س119: أيهما أفضل الأنبياء أم الرسل ؟ ومن أفضل الرسل ؟ مع ذكر الدليل .
    ج119: المتقرر عند أهل السنة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى وغفر لأمواتهم وثبت أحياءهم أن الرسل أفضل من الأنبياء ، وأفضل الرسل أولوا العزم المذكورون في قوله تعالى :  فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم  ، وهم : محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح ، وعلى جميع أنبياء الله ورسله أفضل الصلاة وأتم التسليم ، قال تعالى :  وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوحٍ وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقًا غليظًا  ، وقال تعالى :  شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه  .
*  *  *
    س120: ما وظيفة الرسل - عليهم السلام - ؟ مع بيان ذلك بالأدلة .
    ج120: للرسل عدة وظائف :
    فمن ذلك : البلاغ المبين ، قال تعالى :  فهل على الرسل إلا البلاغ المبين  .
    ومن ذلك : الدعوة إلى الله تعالى ، قال تعالى :  قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين  .
    ومن ذلك : التبشير والإنذار ، قال تعالى:  رسلاً مبشرين ومنذرين  ، وقال تعالى:  وما أرسلناك إلا مبشرًا ونذيرًا  .
    ومن ذلك : إصلاح النفوس وتزكيتها ، قال تعالى :  هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين  ، وقال تعالى :  الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور  أي بإرسال الرسل وإنزال الكتب .
    ومن ذلك : تقويم الأفكار المنحرفة والعقائد الزائغة ، ويدل عليها كل آية فيها الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك ومتابعة الآباء على الباطل وتفنيد عبادة الأصنام وهي كثيرة جدًا .
    ومن ذلك : إقامة الحجة ، قال تعالى :  لئلا يكون على الله حجة بعد الرسل  .
    ومن ذلك : سياسة الأمم وفصل الحكومات بين أفرادها بالحق والعدل ، قال تعالى :  يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله  ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( كانت بنوا إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي بعث نبي )) .
*  *  *
    س121: ما الأحكام التي اختص بها الأنبياء ؟ مع تأييد ذلك بالدليل .
    ج121: الأحكام التي اختص بها الأنبياء مجملة فيما يلي :
    الأول : الوحي الذي يحصل به النبوة والرسالة ، قال تعالى :  وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ  ، وقال تعالى :  إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوحٍ والنبيين من بعده  .
    الثاني : العصمة ، فإن العلماء اتفقوا على أن الأنبياء معصومون فيما يبلغونه من وحي الله جل وعلا ، ومعصومون من الكبائر ، وهذا بالاتفاق ولم يخالف فيه إلا أهل البدع ، وأما الصغائر فإن الواحد منهم إذا وقع فيه بادر بالتوبة منها ولا يمكن أبدًا أن يقر عليها .
    ومنها : أنه تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ، فقد صح عنه  أنه قال : (( إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا )) ، وفي الصحيح أن النبي  قال : (( يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي )) .
    ومنها : أنهم يخيرون عند الموت ، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله  : (( ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة )) متفق عليه ، وفي الصحيح أيضًا أنه سمع منه  أنه قال قبل قبضه : (( في الرفيق الأعلى )) ثلاثاً ، ثم قضى .
    ومنها : أن الأنبياء يقبرون حيث يموتون ، قال - عليه الصلاة والسلام - : (( لم يقبر نبي إلا حيث يموت )) رواه أحمد بسند صحيح ، ولذلك دفن النبي  في حجرة عائشة - رضي الله عنها - ؛ لأنه قبض فيها .
    ومنها : أن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ، قال - عليه الصلاة والسلام - : (( إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء )) صححه ابن خزيمة .
    ومنها : أنهم أحياء في قبورهم يصلون ، فقد صح عنه  أنه قال : (( الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون )) ، وروى مسلم في صحيحه عنه أنه قال : (( مررت على أخي موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره )) ، والله تعالى أعلى وأعلم .
*  *  *
    س122: ما ثمرات الإيمان بالرسل ؟
    ج122: هي كما يلي :
    الأولى : العلم بكبير رحمة الله تعالى بعباده وعنايته بهم ، حيث أرسل لهم الرسل ليهديهم إلى الصراط المستقيم، ويبينوا لهم كيف يعبدون الله تعالى ؛ لأن العقل البشري لا يستقل بمعرفة ذلك .
    الثانية : شكره جل وعلا على هذه النعمة العظيمة .
    الثالثة : محبة الرسل وتعظيمهم والثناء عليهم بما يليق بهم ؛ لأنهم رسل الله ولأنهم قاموا بما أوجب الله عليهم من إبلاغ الشريعة على أتم الوجوه ، والله أعلم .
*  *  *
    س123: ما أقسام الإيمان باليوم الآخر ؟
    ج123: أقسام الإيمان باليوم الآخر قسمان : إيمان مجمل ، وإيمان مفصل .
    فالإيمان المجمل : هو الإيمان بكل ما سيكون بعد الموت مما أخبرت به الأدلة الصحيحة الصريحة على وجه الإجمال .
    وأما المفصل : فهو أن ينصب الإيمان على كل قضية من قضايا اليوم الآخر على حدة بمعنى أن تؤمن بسؤال القبر على حدة ، وبعذابه ونعيمه على حدة ، وبالبعث والمعاد على حدة وهكذا إلى آخر ما أخبرت به الأدلة ، والله أعلم .
*  *  *
    س124: ما القضية الأولى التي يقتضيها الإيمان باليوم الآخر ؟
    ج124: هي أشراط الساعة الكبرى ، وسيأتي لها - إن شاء الله تعالى - أسئلة خاصة ، فنؤخر الكلام عليها إلى حينه ، والله أعلم .
*  *  *
    س125: ما القضية الثانية ؟ مع تأييد ذلك بالأدلة .
    ج125: القضية الثانية الإيمان بأن كل أحدٍ سيموت ، فالموت حتم على كل أحدٍ ، قال تعالى :  كل نفس ذائقة الموت  ، وقال تعالى :  كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام  ، وقال تعالى :  كل شيء هالك إلا وجهه  ، وقال تعالى :  قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون  ، فالله جل وعلا حكم وقضى على كل أحدٍ بالموت من الملائكة والبشر والجن والشياطين وسائر الحيوانات ، فالموت حتم لازم لا مفر منه ولا محيد لأحدٍ عنه بحال من الأحوال ولا يمنعه مانع ، قال تعالى :  قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم  ، وقال تعالى :  أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة  ، فأينما كان المخلوق فإنه سيذوق الموت سواءً كان في أرضٍ فلاة أو قصر مشيد واحتجب بالحجاب والحرس أو في المراكب الفضائية أو على كوكبٍ آخر أو نزل في أعماق البحار ، فالموت لا يسلم منه أحد ، فإذا كان ذلك كذلك فلابد من الاستعداد له واستفراغ الأوقات في التعبد ، ولنحذر من نسيانه فإن ذلك يوجب الغفلة والاشتغال عن الاستعداد له ، نسأل الله تعالى أن يعيننا جميعًا على الاستعداد له وأن يتغمدنا بواسع رحمته وفضله ، والله أعلم .
*  *  *
    س126: ما القضية الثالثة ؟ مع بيانها بالأدلة .
    ج126: القضية الثالثة من مقتضيات الإيمان باليوم الآخر : الإيمان بسؤال القبر ونعيمه وعذابه ، كما ثبتت بذلك الأدلة وصحت به الأخبار التي صارت في الأمة أوضح من شمس النهار ولا ينكرها أو يعارضها بعقله إلا مفتر فجار .
    فمنها : قوله تعالى في آل فرعون :  النار يعرضون عليها غدوًا وعشيًا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب  ، وقال تعالى :  ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق  ، وقال تعالى :  ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون  ، وقال تعالى :  سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب الحريق  ، فقد قال ابن مسعود وأبو مالك وابن جريج والحسن البصري وسعيد وقتادة وابن إسحاق : أن المراد بذلك عذاب الدنيا وعذاب القبر ، والعذاب العظيم هو عذاب جهنم - نعوذ بالله من عذاب القبر وعذاب النار - . وقال تعالى :  يثبِّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة  ، فقد ثبت في الصحيحين من حديث البراء عنه  : أنها نزلت في عذاب القبر .
    وأما السنة فهي طافحة بإثبات ذلك ، ففي الصحيحين من حديث أنس  قال : قال رسول الله  : (( إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيجلسانه فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل - لمحمد  - فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبدالله ورسوله ، فيقولان : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله مقعدًا من الجنة ، فيراهما جميعًا ، وأما المنافق أو الكافر فيقولان له : ما تقول في هذا الرجل ، فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس ، فيقال له : لا دريت ولا تليت ، ويُضرب بمطارق من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان )) .
    وفيهما أيضًا عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله  : (( إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي فإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، يقال له : هذا مقعدك حتى يبعثك الله عز وجل )) .
    وروى البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - أن يهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر فقالت : تعوذي بالله من عذاب القبر ، فسألت عائشة النبي  عن عذاب القبر فقال : (( نعم عذاب القبر حق )) . قالت عائشة : فما صلى النبي  صلاة بعد قط إلا تعوذ بالله من عذاب القبر .
    وفي صحيح مسلم أن النبي  كان في حائط لبني النجار على بغلة له والصحابة معه ، إذ حادت به وكادت تلقيه فإذا أقبرٌ ستة أو خمسة ، فقال : (( من يعرف هذه الأقبر )) ؟ فقال رجل : أنا . قال : (( فمتى ماتوا )) ؟ قال : في الشرك . فقال : (( قد أوحي إلي أن هذه الأمة تفتن في قبورها ولولا أن لا تدافعوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع )) ثم قال : (( تعوذوا بالله من عذاب القبر )) . فقالوا : نعوذ بالله من عذاب القبر . قال : (( تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن ... )) الحديث .
    وفي الصحيحن عن ابن عباس قال : مر النبي  بقبرين فقال : (( أما إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبر ، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله ، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة )) ، فدعا بجريدة رطبة فشقها باثنتين فغرز على كل قبر واحدة ، فقالوا : لم فعلت ذلك يا رسول الله ؟ قال : (( لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا )) .
    وفي الصحيحين أيضًا من حديث أبي هريرة مرفوعًا : (( إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول : أعوذ بالله من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن فتنة المسيح الدجال )) .
    ومن ذلك الحديث الطويل حديث البراء بن عازب : (( إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة كأن على وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مَدَّ البصر ثم يجيء ملك الموت - عليه السلام - حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان )) ، قال : (( فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيِّ السقاء فيأخذها ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط ، ويخرج منها كأطيب نفحة مسكٍ وجدت على وجه الأرض )) ، قال : (( فيصعدون بها فلا يمرون - يعني بها على ملأٍ من الملائكة - إلا قالوا : ما هذه الروح الطيبة ؟ فيقولون : فلان بن فلان ، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء ، فيستفتحون له فيفتح له فيشيعه من كل سماءٍ مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل : اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى )) ، قال : (( فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله . فيقولان : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هو رسول الله ؟ فيقولان له : وما عملك ؟ فيقول : قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت ، فينادي منادٍ من السماء : أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وافتحوا له بابًا إلى الجنة )) ، قال: (( فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مُدَّ بصره )) ، قال : (( ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح ، فيقول له : من أنت ؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير ، فيقول : أبشر بالذي يسرك أنا عملك الصالح ، فيقول : رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي )) ، قال : (( وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مَدَّ البصر ثم يجيء ملك الموت - عليه السلام - حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب )) ، قال : (( فتتفرق روحه في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض ، فيصعدون بها فلا يمرون بها - يعني على ملأٍ من الملائكة - إلا قالوا : ما هذا الروح الخبيث ؟ فيقولون : فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا ، فيستفتح له فلا يفتح له )) ، - ثم قرأ رسول الله  :  لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط  - ، (( فيقول الله عز وجل : اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فتطرح روحه طرحًا )) ، - ثم قرأ :  ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به في مكان سحيق  - ، (( فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : هاه هاه لا أدري . فيقولان : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هاه هاه لا أدري ، فينادي منادٍ من السماء أن كذب عبدي فأفرشوه من النار ، وافتحوا له بابًا إلى النار ، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول : أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول : ومن أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر ؟ فيقول : أنا عملك الخبيث ، فيقول : رب لا تقم الساعة )) حديث صحيح رواه أحمد وأبو داود وغيرهم .
    وقد ذهب إلى موجب هذه الأحاديث جميع أهل السنة والحديث ، فهذه بعض الأدلة على إثبات هذه القضية العظيمة ، والله أعلم .
*  *  *
    س127: هل الروح تموت أو لا ؟ مع الدليل .
    ج127: التحقيق في ذلك أنه إذا كان المقصود بموتها مفارقتها للجسد فإنها تموت بهذا الاعتبار ، وإن كان المقصود بموتها فناؤها وعدمها كأن لم تكن فهي لا تموت بهذا الاعتبار ؛ لأن الدليل السابق دل على أنها تبقى بعد مفارقة الجسد منعمة إن كان صاحبها من أهل النعيم ، ومعذبة إن كان صاحبها من أهل العذاب ، فمن قال من أهل العلم أنها تموت فإنما يريد مفارقتها للجسد ، ومن قال منهم إنها لا تموت فإنما يريد أنها لا تفنى ؛ لأنها خلقت للبقاء ، والله أعلم .
*  *  *
    س128: هل عذاب القبر دائم على صاحبه أو منقطع ؟
    ج128: التحقيق في ذلك أنه يختلف باختلاف الميت ، فإن كان من أهل الكفر والشرك والنفاق الاعتقادي فإن عذابه في القبر دائم لا ينقطع ، وأما إن كان من الذين معهم أصل الإسلام والإيمان فإن عذابه منقطع ، وهو بمثابة المكفر عنه ذنوبه وخطاياه ، نعوذ بالله من عذاب القبر وعذاب النار مطلقًا ، والله ربنا أعلى وأعلم .
*  *  *
    س129: هل عذاب القبر يقع على الروح أو الجسد ؟
    ج129: مذهب أهل السنة والجماعة أن عذاب القبر على الروح والجسد إلا أنه على الروح أصلاً ويدخل معها الجسد تبعًا ، والله أعلم .
*  *  *
    س130: هل سؤال القبر خاص لهذه الأمة أو عام لسائر الأمم ؟
    ج130: فيه خلاف ، ومقتضى الأدلة أنه عام لكل الأمم وما ورد في بعض الأحاديث من قوله : (( إن هذه الأمة تفتن في قبورها )) و(( أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم )) فلا يعد الاختصاص ؛ لأن هذا ذكر للعام ببعض أفراده وقد تقرر في الأصول أن ذكر العام ببعض أفراده ليس بتخصيص ، والله أعلم .
*  *  *
    س131: هل سؤال القبر وعذابه ونعيمه يخص بمن قبر فقط أم ماذا ؟
    ج131: لا ، بل هو عام لكل من مات سواءً دفن أو لم يدفن ، وسواء احترق وتفرقت أجزاؤه ، أو أكلته السباع ، أو سفته الريح ، أو غرق في البحر وأكلته الأسماك ، أو صلب وبقي على الجذع حتى تحللت أعضاؤه أو غير ذلك ، كل هؤلاء يسألون وينعمون إن كانوا من أهل النعيم ، ويعذبون إن كانوا من أهل العذاب ؛ لأن الأمر غيب وقد أثبته الدليل والله قادر على كل شيء وأمور البرزخ من أمور الآخرة فلا يجوز إعمال العقل فيها ، بل الواجب التسليم للنصوص والوقوف حيث وقفت ، وفي الصحيح : في الرجل الذي أسرف على نفسه بالمعاصي فأوصى أبناءه إذا أنا مت فاحرقوني ثم ذروني في يوم ريح حتى لا يقدر علي ربي فيعذبني ، فأمر الله به فاجتمع ... الحديث ، فالله تعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، آمنا بما صح به النقل ، فلا ندخل في هذا الباب متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا ، والله أعلم .
*  *  *
    س132: هل سؤال القبر يكون لمن مات صغيرًا من أهل الإسلام أو مجنونًا ؟
    ج132: فيه قولان لأهل السنة ، والأقرب والله أعلم أنهم لا يسألون ؛ لأنهم ليسوا من أهل التكليف ، لفقدهم أهلية التكليف ، ولأن القلم مرفوع عنهم ، ولأنهم ليسوا من أهل الابتلاء والاختبار ، وإذا سلمنا أنهم لا يسألون في قبورهم فإنهم يوفقون للإجابة ؛ لأن الله تعالى لا يعذب من ليس من أهل العذاب سبحانه وتعالى ، وبه تعلم أن الخلاف يشبه أن يكون لا ثمرة له ، والله أعلم .
*  *  *
    س133: كيف نجيب على من ينكر عذاب القبر ونعيمه لأنه لا يحس فلو فتح قبر المؤمن لم نر نعيمًا ولو فتح قبر الكافر لم نر عذابًا ، فكيف نجيب عنه ؟
    ج133: أقول : هنا مفترق الطرق بين الموفقين الذين يؤمنون بالغيب وبين الخاسرين المخذولين الذين لا يؤمنون إلا بالمحسوسات ، والجواب عن هذا من جوه :
    الأول : أن عذاب القبر ونعيمه من الأمور الغيبية التي يجب فيها التسليم فقط ، ولا تعرض على العقول العفنة والأفهام النتنة ؛ لأنها ستنكرها إذ هي خارجة عن مدركات هذه العقول ، وقد قال تعالى :  ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ...  الآية .
    الثاني : أن طرق الإثبات كثيرة وليست مقصورة على الحس والمشاهدة فقط ، فهب أن دليل الحس انعدم ، فهل انعدامه دليل على العدم ؟ بالطبع لا ، فقد ثبت ذلك من طريق آخر وهو الخبر الصادق الذي لا يتطرق إليه الشك بوجه من الوجوه ، وهو خبر الله ورسوله  ، فإن الأدلة في إثبات نعيم القبر وعذابه قد بلغت مبلغ التواتر وطريق النقل طريق ثابت بنفسه سواءً أيده دليل الحس والمشاهدة أو لا ، فيجب إثبات ما أثبته النص ، ومن جعل طريق إثبات الاعتقادات الحس والمشاهدة فقط فإنه سينكر معتقدات كثيرة أولها وجود الله تعالى ، وكثير من أمور الغيب ، وهذا نهايته التعطيل والإلحاد والزندقة والكفر البواح وجهنم وبئس القرار .
    الثالث : أن عذاب القبر ونعيمه ليس من جنس عذاب الدنيا ونعيمها وإن كان الله تعالى يحمي على الكافر التراب والحجارة التي فوقه وتحته حتى تكون أعظم حرًا من جمر الدنيا ولو مسها أهل الدنيا لم يحسوا بها ، بل وأعجب من هذا أن الرجلين يدفنان أحدهما إلى جنب صاحبه وهذا في حفرة من النار وهذا في روضة من رياض الجنة لا يصل من هذا إلى جاره شيء من حر ناره ولا من هذا إلى جاره شيء من نعيمه ، وقدرة الله تعالى أعظم وأوسع من ذلك وأعجب ، فالأمر مختلف عن المعهود في الدنيا فلا ينظر إليه بعين ضيقة ، لكن النفوس مولعة بالتكذيب بما لم تحط به علمًا .
    الرابع : أن الله تعالى أخفى عنا عذاب القبر حتى لا يتنكد عيشنا ، ولذلك فإنه قد ورد أن الثقلين لو سمعوا صراخ من يعذب في قبره لصعقوا عن آخرهم ، فرحمة منه وإحسانًا بنا أخفاه عنا ، فكيف بجعل ما هو رحمة وإحسانًا سببًا لتكذيب الشارع في خبره ؟ هذا والله عين قلة الأدب .
    الخامس : أن الله تعالى تعبدنا بأشياء كثيرة ومما تعبدنا به الإيمان بالغيب ، فلو أن الله أطلع العباد على نعيم القبر وعذابه لزالت حكمة هذا التكليف أعنى الإيمان بالغيب .
    السادس : أن الله تعالى لو أطلع العباد على عذاب القبر لما تدافن الناس ولبقي الأموات جثثًا هامدة على وجه الأرض لا يجدون من يدفنهم خوفًا من سماع عذاب من أراد الله تعذيبه في قبره ولانتشرت الأمراض وعم الفساد في البلاد والعباد ، ولذلك قال : (( ولولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع )) ، ولذلك لما كانت هذه الحكمة منتفية في حق البهائم سمعت ذلك وأدركته ، فالحمد لله على هذه النعمة العظيمة .
    السابع : أن عذاب القبر قد يكشف لمن شاء الله تعالى من عباده كما كان النبي  يسمع أحيانًا عذاب بعض أصحاب القبور ، كما في حديث صاحبي القبرين ، وكما في الحديث السابق : (( لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع )) ، وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه ( الروح ) قصصًا عجيبة في ذلك ، فراجعه إن شئت الاستزادة من ذلك ، والله أعلم .
    الثامن : أننا مأمورون ومتعبدون بمتابعة النص من إثبات ما أثبته ونفي ما نفاه وتصديق ما أخبر به ، هذه هي الحكمة من خلقنا ، فالنص هو المقدم في كل شيء ، فالنص مقدم على العقل والعقل تابع له ، والنص مقدم على الهوى والهوى تابع له ، والنص مقدم على الحس والحس تابع له ، والنص مقدم على قول كل أحدٍ وقول كل أحدٍ تابع له ، هذا طريق من أراد السلامة في دينه ، وأما من عكس الأمر فلن يجني إلا الضلال والتردد واضطراب النفس والتكذيب وكثرة الشك والحيرة - عافانا الله وإياك - .
    وهذه القضية من هذه القضايا التي يجب فيها تقديم النص على الحس ، فحيث أثبت النص عذاب القبر ونعيمه وجب متابعته في الإثبات من غير مراجعة الحس هل وافقه أم لا ؟ والله أعلم .
*  *  *
    س134: ما القضية الرابعة من قضايا اليوم الآخر ؟ مع بيان وجه دلالة النقل على إثباتها .
    ج134: القضية الرابعة من مقتضيات الإيمان باليوم الآخر : الإيمان الجازم الذي لا يعتريه شك بالبعث ومعاد الأجساد وقيام الناس من قبورهم لرب العالمين حفاةً عراة غرلاً، وهي من الأمور الكبار التي اشتد إنكار الكفار لها ، ولذلك فإن القرآن نوع الاستدلال لهذه القضية بما لا يدع مجالاً للشك في إثباتها ودونك هذه الأوجه مقرونة بأدلة ، فأقول وبالله التوفيق :
    الأول : التصريح به بلفظه والإقسام على ذلك ، كما في قوله تعالى :  زعم الذين كفروا ألَّنْ يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبئن بما عملتم وذلك على الله يسير  ، وذلك في آيات كثيرة .
    الثاني : الاستدلال على المعاد بالمبدأ ، قال تعالى :  وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه  ، وقال تعالى :  كما بدأنا أول خلقٍ نعيده  ، وقال تعالى :  وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم  .
    الثالث : الاستدلال على المعاد وبعث الأجساد بالقدرة على خلق الأشياء الكبيرة ، وهذا قياس أولوي وهو حجة بالاتفاق إلا من شذ ، كما قال تعالى :  أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادرٍ على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير  ، وقال تعالى :  لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون  ، وقال تعالى :  أأنتم أشد خلقًا أم السماء بناها . رفع سمكها فسواها . وأغطش ليلها وأخرج ضحاها  ، ونحو ذلك من الآيات .
    الرابع : الاستدلال على ذلك بالوقوع ، كما في قصة الغلام الذي قال الله فيه :  فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون  ، وكما في قصة عزير وحماره المذكورة في قوله تعالى :  أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها  الآية بتمامها، وكما في قوله تعالى بعدها:  وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ثم ادعهن يأتينك سعيًا واعلم أن الله عزيز حكيم  ، وكما في معجزة نبي الله عيسى - عليه الصلاة والسلام - فإنه كان يحيي الموتى ويخرجهم من قبورهم بإذن الله تعالى ، قال تعالى :  وإذ تخرج الموتى بإذني  ، ومنه قوله تعالى :  ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم ...  الآية ، والله أعلم .
    الخامس : الاستدلال على ذلك بالإخبار بتمام القدرة الكاملة ، كما قال تعالى :  وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليمًا قديرًا  ، وقال تعالى في آيات كثيرة :  إن الله على كل شيء قدير  ، وقال تعالى :  إنما قولنا إذا أردناه أن نقول له كن فيكون  .
    فهذه بعض الأوجه التي تعرض من خلالها قضية البعث والإعادة ، والله أعلم .
*  *  *
    س135: هل المعاد الجسماني عبارة عن إعادة أم إنشاء جديد ؟
    ج135: أقول : مذهب أهل السنة والجماعة أن المعاد إنما يكون لهذه الأجساد التي معنا في الدنيا ، فالمعاد حقيقته أنه إعادة للأجساد التي تحللت وأكلها الدود والأرض ، وهذا هو الذي يفيده قوله تعالى في آيات كثيرة :  ثم يعيده  ، وهو حقيقة القدرة الكاملة من كل وجه ، والمشركون لم يكونوا ينكرون إلا هذا ولو كان المعاد إنشاءً جديدًا لما أوجب لهم ذلك الإنكار لإيمانهم أن الله هو الخالق القادر ، لكن عقولهم لم تقبل المعاد بمعنى إعادة الأجساد التي بليت والعظام التي تفتتت وتفرقت في أجزاء الأرض ، فالحق أن المعاد إعادة لا إنشاء لخلق جديد ، والله أعلم .
*  *  *
    س136: ما قولك فيمن يدعي علم قيام الساعة ويستدل على ذلك بأرقامٍ وعدد حروف بعض الآيات ونحو ذلك ؟
    ج136: قولي في هذا المدعى أنه أحمق فاجر شقي مخرف متكلف ما لا علم له به ، داسٌ أنفه فيما هو من خصائص علم الله تعالى ، قائل على الله بلا رهان ، متكهن متنطع متفيهق يلوك لسانه كالبقرة، مناقض لقوله تعالى:  إن الله عنده علم الساعة  ، ولقوله تعالى:  يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون  ، ولقوله تعالى :  يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبًا  . ولما سئل أحبُ الملائكة إلى الله تعالى أحبَ البشر فقال : متى الساعة ؟ قال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل .
    وكل ما يأتي به هؤلاء من الاستدلالات والبراهين على وقت قيامها فهو دجل وتخرص وظن ؛ لأن علم قيامها مما اختص الله تعالى به لا يعلمه أحد ، ولو اشتغل هؤلاء بالاستعداد لها لكان خيرًا لهم ، والله أعلم .
*  *  *
    س137: ما القضية الخامسة من قضايا اليوم الآخر ؟ مع بيان الأدلة الدالة عليها .
    ج137: القضية الخامسة من مقتضيات الإيمان باليوم الآخر : الإيمان بحوضه  ، وقد تواترت أدلة السنة على إثباته :
    فمن ذلك : ما رواه البخاري وغيره من حديث أنس  أن رسول الله  قال : (( إن قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن وإن فيه من الأباريق بعدد نجوم السماء )) .
    ومن ذلك : حديث أنس أيضًا في الصحيح عن النبي  قال : (( ليردن علي ناس من أصحابي الحوض إذا عرفتهم اختلجوا دوني ، فأقول أصحابي . فيقول : لا تدري ما أحدثوا بعدك )) .
    ومن ذلك : حديث ابن عمر في الصحيح أن النبي  قال : (( أمامكم حوض كما بين جرباء وأذرح )) ، وفي لفظٍ لمسلم : (( فيه أباريق كنجوم السماء من ورده فشرب منه لا يظمأ بعدها أبدًا )) .
    ومن ذلك : حديث جندب في الصحيح أيضًا أن النبي  قال : (( وأنا فرطكم على الحوض )) .
    ومن ذلك : حديث عقبة  في الصحيح أيضًا أن النبي  خرج يومًا فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر فقال : (( إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم ، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن ... )) الحديث .
    ومن ذلك : حديث أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( لأذودن عن حوضي رجالاً كما تذاد الغريبة من الإبل )) رواه مسلم .
    ومن ذلك : حديث أبي هريرة  أن رسول الله  قال : (( إن حوضي أبعد من أيلة من عدن لهو أشد بياضًا من الثلج وأحلى من العسل واللبن ولآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وإني لأصد الناس كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه )) . قالوا : يا رسول الله أتعرفنا يومئـذٍ ؟ قال : (( نعم لكم سيما ليست لأحد من الأمم تردون علي غرًا محجلين من أثر الوضوء )) .
    ولعل هذه الأدلة كافية في إثبات هذه القضية الهامة من قضايا اليوم الآخر ، نسأله جل وعلا أن يكرمنا بالشرب من هذا الحوض المبارك ، والله أعلم .
*  *  *
    س138: اذكر لنا شيئًا من صفاته ؟
    ج138: لقد مر في الأدلة شيء منها : فمن صفاته : أنه طويل وعريض ، عرضه كطوله ، فطوله مسيرة شهر وعرضه كذلك ، وما ورد في الأحاديث من اختلاف تحديد طوله بالأمكنة فإنما لاختلاف حال المخاطبين وما يعرفون مسافته من الأمكنة المعلومة لديهم ، فخوطب كل قوم بما عرفوه من الأمكنة . ومن صفاته : أن من شرب منه شربة فإنه لا يظمأ بعدها أبدًا - نسأل الله الكريم من فضله العظيم - . ومن صفاته : أن ماءه أشد بياضًا من الثلج واللبن . ومن صفاته : أن عليه آنية وأباريق كثيرة جدًا لا يحصيها العد فهي في كثرتها كعد نجوم السماء وأن هذه الأباريق والآنية من الذهب والفضة كما ثبت ذلك في صحيح مسلم . ومن صفاته : أن الشرب منه وقف على من لم يغير ولم يبدل ولم يحدث في الدين شيئًا ، ولذلك فإن هناك رجالاً يذادون عنه كما يذاد البعير الضال ويقال : (( إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ما زالوا يرجعون على أعقابهم )) رواه مسلم . ومن صفاته : أن رائحته أطيب من ريح المسك كما في صحيح مسلم . ومن صفاته أيضًا : أنه يصب فيه ميزابان يمدانه من الجنة أحدهما من ذهب والآخر من فضة ، كما في صحيح مسلم أيضًا من حديث ثوبان  ، والله تعالى أعلى وأعلم .
*  *  *
    س139: هل الحوض هو الكوثر أم غيره ؟ مع بيان ذلك بالدليل .
    ج139: فيه خلاف بين أهل العلم ، والصحيح أن الحوض ليس هو الكوثر ، بل هما متغايران ، والدليل على ذلك أن الأدلة السابقة المثبتة للحوض تدل على أنه في عرصات يوم القيامة ، والكوثر نهر في الجنة ولا يذاد عنه أحد ، فقد روى البخاري في صحيحه من حديث أنس مرفوعًا : (( بينما أنا أسير في الجنة إذ أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف قلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الكوثر الذي أعطاك ربك )) ، ومثله أيضًا حديث ابن عمر قال : قال رسول الله  : (( الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب يجري على الدر والياقوت )) وصححه الترمذي ، وأيضًا فالمتقرر عند العرب في لسانها ومعلومها أن الحوض هو مجتمع الماء وغالب الأحيان لا يكون جاريًا ، وأما النهر فإن ماءه جار ، فاختلفا ، وأيضًا فإن الكوثر في الجنة كما ثبت به النص ، فهو من جملة نعيمها ونعيمها لا يمنع منه أحد ، والحوض قد ثبت الدليل أن رجالاً يطردون عنه ولا يمكنون من الشرب منه ، والله أعلم .
*  *  *
    س140: هل هو حوض واحد أم أن لكل نبي حوضًا ؟
    ج140: فيه خلاف ، والأمر سهل ، أما حوض نبينا محمد  فأدلته متواترة ، ومن كذب به فهو كافر لتكذيبه للنصوص المتواترة ، وأما حوض غيره فقد ورد فيه بعض الأحاديث وبعض الموقوفات ويحتاج للنظر في صحتها ، فنظرنا فإذا هي صحيحة بشواهدها ، فنقول : نعم إن لكل نبي حوضًا ترده أمته إلا أن أكبر هذه الأحواض وأكثرها واردًا هو حوض نبينا  ، ففي جامع الترمذي من حديث الحسن عن سمرة قال : قال رسول الله  : (( إن لكل نبي حوضًا وإنهم يتباهون أيهم أكثر وارده وإني أرجو أن أكون أكثرهم وراده )) ، وهذا الحديث صحيح بشواهده ، وكذلك صح ذلك عن علي  ، والله أعلى وأعلم .
*  *  *
    س141: ما القضية السادسة من قضايا اليوم الآخر ؟ مع بيانها بالأدلة .
    ج141: القضية السادسة من مقتضيات الإيمان باليوم الآخر : الإيمان بتطاير صحف الأعمال ، فآخذ صحيفته باليمين وآخذ لها بالشمال أو من وراء ظهره ، قال تعالى :  وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا  ، وقال تعالى :  فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه إني ظننت أني ملاقٍ حسابيه فهو في عيشة راضية في جنة عالية قطوفها دانية كلوا واشربوا في هنيئًا بما أسلفتم في الأيام الخالية وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عني مالية هلك عني سلطانية  ، وقال تعالى في سورة الانشقاق :  وأما من أتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورًا ويصلى سعيرًا  ، وقال تعالى :  يوم ندعو كل أناسٍ بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلاً  ، وقال تعالى :  هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون  ، وقال تعالى :  ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرًا ولا يظلم ربك أحدًا  ، وفي هذا اليوم كل سيقرأ صحيفة عمله القارئ وغير القارئ ، قال قتادة وجمع من السلف : (( سيقرأ يومئذٍ من لم يكـن قارئًا )) ، وقد أجمع على ذلك أهل السنة والجماعة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى .
*  *  *
    س142: ما القضية السابعة من قضايا اليوم الآخر مع ذكر الدليل ؟
    ج142: القضية السابعة من مقتضيات الإيمان باليوم الآخر : الإيمان بالميزان ، ومذهب أهل السنة أنه ميزان حقيقي يرى ويوزن فيه ، له كفتان لا أنه مجرد العدل كما يقوله بعض المبتدعة ، قال تعالى :  ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئًا وإن كان مثال حبةٍ من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين  ، وقال تعالى :  والوزن يومئذٍ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون  ، وقال تعالى :  فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ما هيه نار حامية  .
    وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله  : (( كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم )) متفق عليه . وروى الإمام أحمد عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله  : (( إن الله عز وجل يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجلٍ مد البصر ثم يقول : أتنكر من هذا شيئًا ؟ أظلمك كتبتي الحافظون ؟ قال : لا يا رب . ثم يقول : أفلك عذر أو حسنة ؟ قال : فبهت الرجل فيقول : لا يا رب . فيقول : بلى إن لك عندنا حسنة واحدة لا ظلم عليك اليوم ، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله ، فيقول أحضروه ، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات . فيقول : إنك لا تظلم ، قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة ، قال : فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ، قال : ولا يثقل شيء مع بسم الله الرحمن الرحيم )) ورواه الترمذي وابن ماجه وهو حديث حسن صحيح ، فهذا فيه إثبات لميزان الآخرة . ولأحمد أيضًا من حديث علي  أن ابن مسعود  صعد شجرة فهبت ريح فانكشف ساقه فجعل الناس يعجبون من دقة ساقيه فقال رسول الله  : (( أتعجبون من دقة ساقيه فوالذي نفسي بيده هما في الميزان أثقل من أحد )) وسنده حسن . وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة  عن رسول الله  قال : (( إنه ليأتي الرجل لعظيم السمن يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة ، وقال : اقرءوا إن شئتم :  فلا نقيم له يوم القيامة وزنًا  )) ، وقد أجمع أهل السنة - رحمهم الله تعالى - على إثبات الميزان الذي سينصب يوم القيامة ، والله أعلى وأعلم .
*  *  *
    س143: هل هو ميزان واحد أم موازين كثيرة ؟
    ج143: الأرجح - إن شاء الله تعالى - أنه ميزان واحد وليس بمتعدد ، وأما جمعه في بعض الآيات فالظاهر والله أعلم أنه باعتبار ما يوزن به ، فالموزونات التي ستوزن فيه كثيرة ، فجمع باعتبار تعدد ما سيوزن فيه ، وأما هو في ذاته فهو واحد لا يتعدد ، والله أعلم .
*  *  *
    س144: ما الذي سيوزن في هذا الميزان ؟
    ج144: لقد دلت الأدلة السابقة أن الموزونات التي ستوزن في الميزان ثلاثة أشياء : العمل نفسه ، والعامل ذاته ، وصحيفة العمل .
    فأما العمل : فلحديث : (( كلمتان خفيفتان على اللسان ... )) الحديث .
    وأما العامل : فلحديث علي  في قوله : (( والذي نفسي بيده هما في الميزان أثقل من جبل أحد )) ، وحديث الرجل العظيم السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة .
    وأما صحيفة العمل : فلحديث السجلات والبطاقة وقد تقدمت .
    وقد تقرر في الأصول أن الجمع بين الأدلة الشرعية هو الواجب ما أمكن ، فالأدلة الواردة في ذلك لا اختلاف فيها ولله الحمد ؛ لأن الواحد منها يثبت ما لا ينفيه الآخر ، فمنها ما أثبت الوزن للعمل ، ومنها ما أثبت الوزن للعامل ، ومنها ما أثبت الوزن للصحيفة ، والله أعلم .
*  *  *
    س145: كيف يوزن العمل وهو ليس بجسم يخف ويثقل ؟
    ج145: الجواب من وجهين :
    الأول : أن هذا مما أخبرت به الأدلة وصحت به الآثار ، فالواجب الإيمان والتسليم به والوقوف حيث وقف النص لا نتعدى القرآن والحديث وهو من أمور الآخرة وأمور الآخرة تختلف عن المعهود عندنا في الدنيا وهو داخل في الإيمان بالغيب .
    الثاني : أن الله تعالى قادر على كل شيء ولا يعجزه شيء فهو قادر أن يجعل العرض جسمًا ، ألا ترى أن الدليل الصحيح أثبت أن الله تعالى يجعل الموت على صورة كبش ويذبح بين الجنة والنار مع أن الموت ليس بجسم ، بل هو معنى ، وليس المراد بذلك ملك الموت ، ولكن المراد نفس الموت ، حيث يجعله الله تعالى جسمًا يشاهده أهل الجنة وأهل النار ، فكذلك الأعمال يجعلها الله تعالى أجسامًا فتوزن في هذا الميزان الحسي .
*  *  *
    س146: ما القضية الثامنة من قضايا اليوم الآخر ؟ مع بيانها بالأدلة ؟
    ج146: القضية الثامنة من مقتضيات الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالحساب والعرض وأنه حق وصدق واقع لا دافع له ولا مانع منه ، قال تعالى :  إنا إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم  ، وقال تعالى :  أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب  ، وقال تعالى في المكذبين للرسل :  أولئك الذين لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد  ، وقال تعالى :  فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون  ، وقال تعالى :  وقفوهم إنهم مسئولون ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون  ، وقال تعالى :  ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية . يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية  ، وقال تعالى :  وعرضوا على ربك صفًا لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة  ، وقال تعالى :  فمن يعلم مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره  ، وقال تعالى :  فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا  ، ونحو ذلك من الآيات .
    س147: كم أنواع الحساب بالأدلة ؟
    ج147: الحساب نوعان : حساب عرض ، وحساب نقاش .
    في الصحيح عن عائشة أن النبي  قال : (( من حوسب عذب )) . قالت عائشة : كيف ذلك والله تعالى يقول :  فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا  . فقال : (( إنما ذلك العرض ولكن من نوقش الحساب يهلك )) .
    فبين النبي  بذلك أن المراد بقوله تعالى :  فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا  أنه حساب عرض العمل فقط لا نقاش فيه ، ففي الصحيح عن صفوان بن محرز قال : بينما ابن عمر يطوف إذ عرض رجل فقال : يا أبا عبدالرحمن ، أو قال : يا ابن عمر ، هل سمعت النبي  في النجوى ؟ فقال : سمعت النبي  يقول : (( يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه تعرف ذنب كذا ؟ فيقول : أعرف . فيقول : أنا سترتها في الدنيا وأغفرها لك اليوم ثم تطوى صحيفة حسناته ، وأما الآخرون أو الكفار فينادى على رؤوس الخلائق : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين )) .
    فحساب العرض ليس فيه مطالبة بنتائج النعم ، ولذلك فصاحبه يسلم في آخر الأمر ، وأما حساب النقاش فإن فيه مطالبة بنتائج النعم ، ولذلك فصاحبه هالك لا محالة ، قال تعالى :  ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون  .
    وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة  مرفوعًا في الحديث الطويل ، وفيه قال : (( فيلقى العبد - يعني الكافر - فيقول : يا فل ، أي يا فلان ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع . فيقول العبد : بلى . فيقول : أظننت أنك ملاقيَّ ؟ فيقول : لا . فيقول : فإني أنساك كما نسيتني . ثم يلقى الثاني فيسأله فيجيب كما أجاب الأول ، فيقول الله : (( فإني أنساك كما نسيتني . ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك . فيقول : يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع فيقول : ههنا إذن ، قال : ثم يقال له : الآن نبعث شاهدنا عليك ، ويفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي ؟ فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي ، فتنطق بعمله ، وذلك ليعذر من نفسه )) ، أو كما في الحديث عن رسول الله  ، فهذا من حساب النقاش .
    نسأله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من الآمنين يوم القيامة وممن يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب ، والله أعلم .
*  *  *
    س148: ما أول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة ؟ وما أول ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة ؟ مع الدليل ؟
    ج148: أول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة : الصلاة ، وأول ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة : الدماء .
    فعن أبي هريرة  عن النبي  أنه قال : (( أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة ، يقول الله تعالى لملائكته : انظروا صلاة عبدي أتمها أم نقصها ؟ فإن كانت تامة كتبت له تامة ، وإن كان نقص منها شيئًا قال : انظروا هل لعبدي من تطوع ، قال : فإن كان له تطوع قال : أتموا لعبدي فريضته من تطوعه ثم يؤخذ الأعمال على ذلك )) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه الحاكم .
    وروى النسائي عن ابن مسعود  أن النبي  قال : (( أول ما يحاسب عليه صلاته وأول ما يقضى بين الناس في الدماء )) .
    ويعجبني ما قاله بعض أهل العلم أن الحقوق قسمان : حقوق لله تعالى وحقوق لعباده ، فأول شيء يحاسب عليه العبد من حقوق الله تعالى الصلاة ، وأول شيء يحاسب عليه العبد من حقوق الآدميين الدماء ، وقال بعضهم : إن الحساب هو عرض العمل ويبدأ فيه بالصلاة ، وأما القضاء فهو البدء بتنفيذ ما تقررت المحاسبة عليه ويبدأ فيه بالدماء وكل ذلك صحيح لا إشكال فيه ، والله أعلم .
*  *  *
    س149: كيف نجمع بين قوله تعالى:  فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون  ، وقوله تعالى :  فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان  ، وقوله :  ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون  ؟ فكيف مرة يثبت السؤال ومرة ينفيه ؟
    ج149: لا إشكال في ذلك ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة وبيان ذلك من وجوه :
    الأول : إنه من المعلوم المتقرر بالدليل أن يوم القيامة يوم طويل جدًا مقدراه خمسون ألف سنة فلطوله تختلف فيه الأحوال ، فيسأل الكفار في بعضه ويكف عن سؤالهم في بعضه ، فالآيات المثبتة للسؤال يقصد بها السؤال في بعض أوقات هذا اليوم ، والآيات التي فيها ترك السؤال إنما تخص بعض أوقات هذا اليوم ، فليس وقت السؤال هو بعينه وقت عدم السؤال حتى يلزم من ذلك الاختلاف ، فلا يلزم من الإخبار بترك سؤالهم في بعض أجزاء ذلك اليوم تركه في كل أجزائه ، وهذا الوجه مرده إلى التفريق في الأحوال ، والله أعلم .
    الثاني : أن يقال : إن المتروك سؤالهم هم المجرمون الذين بلغوا في الإجرام حده كإبليس ومرده الشياطين ، وكفرعون وهامان وقارون وأبي جهل ونحو هؤلاء الذين بلغوا الغاية في الإجرام ، ولذلك قال تعالى في سياق قصة قارون :  ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون  ، وقال تعالى :  فيومئذٍ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام  ، وهذا فيه بيان أن الذين لا يسألون هم عتاة الكفرة من الإنس والجن ، والآيات التي أخبرت بالسؤال تكون في بقية الكفار وعصاة الموحدين ، فالإخبار بترك سؤال البعض لا يلزم منه ترك سؤال الجميع ، وهذا الوجه مرده إلى التفريق بين أصناف الكفرة ، فمن عظم كفره واشتد جرمه لا يُسأل ، ومن كان دون ذلك فإنه يُسأل ، والله أعلم .
    الثالث : أن يقال : إن السؤال المنفي في الآيات إنما هو سؤال الاستخبار والاستعلام والاستعتاب والسؤال المثبت إنما هو سؤال التقريع والتوبيخ ، فالكفار لا يسألون سؤال استعتاب كما قال تعالى :  وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين  ، وقال تعالى :  فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون  ، ولكنهم يسألون سؤال تقريع وتوبيخ زيادة في التنكيل بهم كما قال تعالى :  وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يومًا من العذاب قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال  ، وقال تعالى :  ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون  ، ونحو ذلك من الآيات .
    فإذًا السؤال المنفي هو سؤال الاستعتاب الذي يعقبه العفو والسؤال المثبت هو سؤال التقريع والتوبيخ الذي هو زيادة في عذابهم والنكال بهم ، فبالتفريق بين الأحوال والأشخاص ونوعية السؤال لا يبقى بين النصوص أي إشكال كعادتهم المطردة أعلى الله منارها وجعلنا من أتباعها ، والله أعلم .
*  *  *
    س150: ما القضية التاسعة من قضايا اليوم الآخر ؟
    ج150: القضية التاسعة من مقتضيات الإيمان باليوم الآخر هي الإيمان بالشفاعات التي ستكون يوم القيامة ، وسيأتي الكلام عليها مفصلاً بالأدلة - إن شاء الله تعالى - في آخر الكتاب بحول الله وقوته ، والله أعلم .
*  *  *
    س151: ما القضية العاشرة من قضايا اليوم الآخر ؟ مع بيانها بالدليل ؟
    ج151: القضية العاشرة من مقتضيات الإيمان باليوم الآخر هي الإيمان بالصراط ، وهو الجسر الذي سينصب على متن جهنم ، قال تعالى :  وإن منكم إلا واردها  ، فقد فسره طائفة كبيرة من السلف بأنه الورود على الصراط ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة  مرفوعًا في حديث الشفاعة الطويل وفيه : (( ويضرب الصراط بين ظهري جنهم فأكون أنا وأمتي أول من يجيز ولا يتكلم يومئذ إلا الرسول ودعوى الرسل يومئذ : اللهم سلم سلم ، وفي جنهم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان )) ؟ قالوا: نعم . قال: (( فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تعالى ، تخطف الناس بأعمالهم فمنهم الموبق بعمله ، والموثق بعمله ، ومنهم المخردل أو المجازى أو نحوه ... )) الحديث .
    وفيهما من حديث أبي سعيد الخدري  من حديثه الطويل في ذلك مرفوعًا وفيه : (( ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهم )) . قلنا : يا رسول الله ، وما الجسر ؟ قال : (( مدحضة مزلة ، عليه خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيفاء تكون بنجد يقال لها السعدان يمر المؤمن عليها كالطرف وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب فناجٍ مسلم وناجٍ مخدوش ومكدوسٍ في نار جهنم حتى يمر آخرهم يسحب سحبًا )) .
    ولمسلم من حديث أنس وابن مسعود - رضي الله عنهما - أن رسول الله  قال : (( آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشى مرة ويكبو مرة وتسفعه النار مرة ، فإذا جاوزها التفت إليها فقال : تبارك الذي نجاني منك لقد أعطاني الله شيئًا ما أعطاه أحدًا من الأولين والآخرين )) .
    ولمسلم أيضًا عن أبي هريرة وحذيفة - رضي الله عنهما - في حديث استفتاح الجنة عن النبي  مطولاً وفيه : (( وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبي الصراط يمينًا وشمالاً فيمر أولكم كالبرق )) . قال : قلت : بأبي أنت وأمي أي شيء كمر البرق ؟ قال : (( ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين ، ثم كمر الطير وكأشد الرجال ، تجري بهم أعمالهم )) ، قال : (( ونبيكم قائم على الصراط يقول : رب سلم سلم ... )) الحديث . وفيه أيضًا من حديث أبي سعيد أنه قال : (( بلغني أن الجسر أدق من السيف وأدق من الشعرة )) .
    والأحاديث في إثبات الصراط كثيرة ، وقد أجمع أهل السنة على أنه جسر حقيقي محسوس يمشي الناس عليه لا كما يقوله أهل البدع ، والله أعلم .
*  *  *
    س152: ما السبب في تفاوت الناس في المسير عليه ؟
    ج152: السبب في ذلك تفاوتهم في أعمالهم كما ورد في الحديث السابق : (( تجري بهم أعمالهم )) .
    وأقول أيضًا : إن المشي على الصراط الحسي يوم القيامة إنما هو نتيجة للمشي على الصراط المعنوي في الدنيا ، ونعني بالصراط الحسي أي الجسر المنصوب على متن جهنم ، ونعني بالصراط المعنوي أي متابعة النبي  ، فكلما كان الإنسان أتبع وأسرع متابعة له في الدنيا كلما كان أسرع على ذلكم الصراط الحسي ، فمن ثبتت قدمه هنا ثبتت قدمه هناك ، ومن زلت به القدم هنا زلت به القدم هناك ، ومن أبطأ هنا أبطأ هناك ، ومن أسرع هنا أسرع هناك ، فما أيسر هذا الأمر تنظيرًا وشرحًا ، ولكن ما أعسره تطبيقًا وامتثالاً إلا أنه يسير على من يسره الله عليه ، والله أعلم .
*  *  *
    س153: اذكر لنا شيئًا من صفة هذا الصراط ؟ مع الدليل ؟
    ج153: لقد ورد في الأدلة بعض صفاته وهي كما يلي :
    فمنها : أنه مظلم حالك الظلمة والمار عليه يحتاج إلى نور ليرى طريقه ، قال تعالى :  يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم . يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا ...  الآية .
    وفي صحيح مسلم عن أبي الزبير عن جابر في الحديث الطويل وفيه : (( ويعطى كل إنسان منافق أو مؤمن نورًا ثم يتبعونه وعلى جسر جنهم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله تعالى ثم يطفأ نور المنافين ثم ينجو المؤمنون ... )) الحديث .
    وروى الحاكم وصححه وابن جرير عن ابن مسعود  في قوله تعالى :  يسعى نورهم بين أيديهم  ، قال : (( على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل ، ومنهم من نوره مثل النخلة ، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم ، وأدناهم نورًا من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ مرة )) ، وما احتاجوا إلى هذا النور للمرور عليه إلا لأنه مظلم .
    ومنها : أنه دحض مزلة لا تثبت عليه القدم إلا إذا ثبتها الله تعالى ، ودليلها ما تقدم من حديث أبي سعيد وفيه : قالوا : وما الجسر ؟ قال : (( مدحضة مزلة )) ، والله المستعان .
    ومنها : أنه أحَدُّ من السيف وأدق من الشعرة ، ودليلها الحديث السابق عن أبي سعيد قال : (( بلغني أن الجسر أدق من الشعرة وأحد من السيف )) .
    ومنها : أن عليه خطاطيف وكلاليب مثل شوك السعدان ، وهو الشوك الملتف بعضه على بعض كما في الأحاديث السابقة وفيها : (( عليه خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيفاء تكون بنجدٍ يقال لها السعدان )) .
    ومنها: أن الأنبياء قائمين عليه يقولون: (( اللهم سلم سلم )) ، وفي الحديث: (( ولا يتكلم يومئذٍ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ : اللهم سلم سلم )) ، نسأل الله جل وعلا أن يثبتنا على هذا الصراط ، والله أعلم .
*  *  *
    س154: أيهما يكون قبل الآخر : الصراط أم الميزان أم الحوض ؟
    ج154: هذا فيه خلاف بين أهل العلم لكن الأرجح - والله تعالى أعلم - أن الحوض أولاً ثم الميزان ثم الصراط ، هكذا وردت الأدلة ، وقد رتبها بعض أهل العلم تسهيلاً لحفظها بكلمة ( حمص ) فالحاء يراد بها الحوض ، والميم يراد بها الميزان ، والصاد يراد بها الصراط ، والله أعلم .
*  *  *
    س155: وماذا يكون بعد الصراط مع الدليل ؟
    ج155: أقول : إذا مر الناس على الصراط فإنهم يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض ، فإذا هذبوا ونُقَّوا أُذِنَ لهم في دخول الجنة ، ودليلها حديث أبي سعيد الخدري  في صحيح البخاري بنفس اللفظ السابق في الجواب ، فلا داعي إلى إعادته ، والله أعلم .
*  *  *
    س156: ما القضية الحادية عشرة من قضايا اليوم الآخر ؟
    ج156: القضية الحادية عشرة من مقتضيات الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالجنة والنار ، الله أعلم .
*  *  *
    س157: كيف يتم تحقيق الإيمان بهما ؟ مع بيان ذلك بالأدلة .
    ج157: يتم تحقيق الإيمان بهما إذا آمنت بعدة أمور :
    الأول : أن تؤمن إيمانًا جازمًا يقينيًا أنهما موجودتان الآن ، أي أنهما قد خلقتا وفرغ من أصل خلقهما ، وقد تواترت الأدلة على ذلك :
    فمن ذلك : قوله تعالى في آيات كثيرة بعد ذكر نعيم الجنة :  أعدت للمتقين  ، وقوله تعالى :  أعدت للذين آمنوا بالله ورسوله  ، فهذا إخبار عن أمرٍ وقع في الماضي كما هو مقتضى اللغة التي نزل القرآن بها ، وقال تعالى :  فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون  ، وهذا أيضًا إخبار عن أمرٍ مضى مما يدل على أنه أعد ولكنه أخفي عنا ، وقوله تعالى في شأن النار في آيات كثيرة :  أعدت للكافرين  ، وقوله تعالى :  وأعتدنا للكافرين سعيرًا  ، ونحو هذه الآيات .
    ومن ذلك : قوله تعالى :  ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى  ، وهذا صريح في أنها موجودة الآن وقبل الآن ، وخبر الشارح لا خلف فيه .
    ومن ذلك : ما في الصحيحين من حديث ابن عمر مرفوعًا : (( إن أحدكم عرض مقعده بالغداة والعشي فإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، يقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله عز وجل يوم القيامة )) .
    وهذا العرض على الجنة والنار دليل على أنهما موجودتان الآن .
    ومن ذلك : قوله تعالى :  النار يعرضون عليها غدوًا وعشيًا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب  ، وكيف يعرضون على أمرٍ لا حقيقة له ، بل هو في حيز العدم ؟
    ومن ذلك : ما في الصحيحين من حديث عمران قال : قال رسول الله  : (( اطلعت في الجنة فإذا أكثر أهلها الفقراء ، واطلعت في النار فإذا أكثر أهلها النساء )) ، والاطلاع فيهما دليل صريح على وجودهما وأنهما مخلوقتان الآن .
    ومن ذلك : ما في الصحيحين أيضًا من حديث أنس في سؤال الميت في قبره وفيه : (( فيقال : هذا مقعدك في النار أبدلك الله به مقعدًا من الجنة فيراهما جميعًا )) ، ورؤيته لهما رؤية حقيقية لا أنها خيال وضرب أمثال كما يقوله من يقوله من أهل الأهواء والبدع ، ومثله في الدلالة حديث البراء بن عازب المتقدم مطولاً وفيه : (( فينادي منادٍ من السماء : أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وافتحوا له بابًا إلى الجنة )) ، وفيه أيضًا : أنه يقال للكافر : (( فينادي منادٍ من السماء : أن كذب فأفرشوه من النار وافتحوا له بابًا إلى النار )) ، وهذا دليل على أنهما موجودتان .
    ومن ذلك : ما في الصحيحين في حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله  : (( بينا أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت : لمن هذا القصر ؟ فقالوا : لعمر بن الخطـاب ، فذكرت غيرتك فوليـت مدبرًا ، فبكى عمر وقال : على مثلك أغار يا رسول الله )) ورؤيا الأنبياء حق وصدق .
    ومن ذلك : ما في الصحيحين أيضًا مـن حديث أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( قال الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر )) ، وهو صريح في الدلالة على المطلوب .
    ومن ذلك : ما في الصحيحين أيضًا من حديث أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم )) ، وكيف يجد الناس فيحها وهي لا زالت معدومة ؟ لكن سبحان من أعمى بعض القلوب ونعوذ بالله من الخذلان .
    ومن ذلك : ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعًا : (( اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب أكل بعضي بعضًا فإذن لها بنفسين ، نفسٍ في الشتاء ونفس في الصيف ، فأشد ما تجدون من الحر من فيح جهنم ، وأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جنهم )) .
    ومن ذلك : ما رواه البخاري أيضًا من حديث أبي هريرة  أن رسول الله  قال : (( إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار الآخرة )) . قيل : يا رسول الله إن كانت لكافية . قال : (( فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا )) .
    ومن ذلك : ما في الصحيح قال النبي  : (( اختصمت الجنة والنار عند ربهما ، فقالت الجنة : يا رب ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس ومساكينهم ، وقالت النار : يا رب ما لي لا يدخلني إلا الجبارون والمتكبرون ، فقضى الله بينهما : أنت الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء ، وأنت النار عذابي أعذب بك من أشاء ولكليكما ملؤها )) .
    ومن ذلك : ما في الصحيحين أن النبي  قال : (( دخلت النار امرأة في هرة حبستها لاهي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض )) .
    ومن ذلك : ما في الصحيح من حديث صلاته  صلاة الكسوف وأنه عرضت عليه الجنة والنار ، وأنه قال : (( ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار )) ، وأنه تقدم ليناول من الجنة عنقود عنب وقال : (( لو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا )) ، وأنه رأى النار يحطم بعضها بعضًا وقال : (( فلم أر اليوم منظرًا قط أفظع )) وكل ذلك دليل على وجودهما .
    ومن ذلك : ما رواه مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة مطولاً وفيه : (( لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل فقال : اذهب فانظر إليهما ... )) الحديث بطوله .
    والأحاديث في إثبات ذلك كثيرة جدًا ولعل فيما مضى كفاية ، والخلاصة من ذلك أن نؤمن إيمانًا قطعيًا على أن الجنة والنار موجودتان الآن ، والله أعلم .
    الأمر الثاني : الإيمان الجازم بأنهما باقيتان أبدًا لا تفنيان أبدًا ولا تبيدان ، وهذا قول أهل السنة ، ومن نسب القول بفنائهما إلى شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم فقد أخطأ عليهما وقوَّلهما ما لم يقولا ، بل كتب شيخ الإسلام رسالة بعنوان : (( الرد على من قال بفناء الدار )) ، وفي الحقيقة أن هذا القول مستمد من أقوال أهل البدع ، والدليل على ذلك أي على أنهما باقيتان لا تفنيان أبدًا ولا تبيدان قوله تعالى في نعيم الجنة :  إن هذا لرزقنا ما له من نفاد  ، وقوله تعالى :  وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة  ، وقوله تعالى في آيات كثيرة عن أهل الجنة :  خالدين فيها أبدًا  ، وقال تعالى عنهم أيضًا :  لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى  ، وهذا نفي للموت عنهم وكما أفاده أيضًا حديث ذبح الموت بين الجنة والنار ، وقوله : (( يا أهل الجنة خلود ولا موت ويا أهل النار خلود ولا موت )) وهو في الصحيح .
    وقال تعالى :  لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين  ، وقال تعالى في أبدية النار ودوامها :  والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور  ، وقال تعالى في ثلاث آيات من القرآن :  خالدين فيها أبدًا  ، فقال في سورة النساء :  إلا طريق جنهم خالدين فيها أبدًا  ، وقال تعالى في سورة الأحزاب :  إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرًا خالدين فيها أبدًا  ، وقال تعالى في سورة الجن :  ومن يعصِ الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدًا  ، وقال تعالى :  وما هم بخارجين من النار  ، وقال تعالى :  ولهم فيها عذاب مقيم  ، وقال تعالى :  إنها ساءت مستقرًا ومقامًا  ، وقال تعالى :  إن المجرمين في عذاب جنهم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون  ، وقال تعالى :  خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد  ، وقال تعالى :  وسيجنبها الأتقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيى  ، وقال تعالى :  فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابًا  ، وقال تعالى :  ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون  ، وقال تعالى :  كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب  .
    وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون )) .
    فهذه النصوص الكثيرة دليل قاطع على أن الجنة والنار باقيتان دائمتان لا تفنيان أبدًا ولا تبيدان ، والله الموفق والهادي .
    الأمر الثالث : أن تؤمن بما صح به الخبر من نعيم الجنة وعذاب النار مع الإيمان الجازم أن المعلوم منه إنما هو الاسم فقط وأما الكيفيات فإنه لا يعلمها على ما هي عليه إلا الله تعالى ، قال تعالى :  فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين  ، وقال في الحديث القدسي : (( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر )) . وقال ابن عباس : (( ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء )) .
    ومن القواعد المتقررة عند أهل السنة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى أن الاتفاق في الاسم لا يستلزم الاتفاق في المسمى ، والله أعلم .
    الأمر الرابع : أن تؤمن أن الله تعالى خلق لهما أهلاً ، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً ، ومن شاء منهم فإلى النار عدلاً وأنه يبقى فيهما فضل بعد دخول أهلهما فيهما ، فأما الجنة فينشئ الله لها خلقًا جديدًا ويدخلهم الجنة ؛ لأنه يتفضل وينعم ابتداءً لكمال فضله وواسع كرمه ، وأما النار فيضع رب العزة عليها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول : قط قط ، أي حسبي حسبي ، كما في الحديث الصحيح ؛ وذلك لأنه لا يعذب أحدًا بلا سابق جرم لكمال عدله جل وعلا فإذا آمنت بهذه الأمور الأربعة تكون بذلك قد حققت الإيمان بالجنة والنار .
    جعلنا الله وإياك من أهل الجنة وأعاذنا من عذاب القبر وعذاب النار ، والله أعلم .
*  *  *
    س158: ما ثمرات الإيمان باليوم الآخر ؟
    ج158: الثمرات كثيرة ونلخصها فيما يلي :
    الأولى : الرغبة في فعل الطاعة والحرص عليها رجاء الثواب في ذلك اليوم .
    الثانية : الرهبة عند فعل المعصية والرضى بها خوفًا من عقاب ذلك اليوم .
    الثالثة : تسلية المؤمن عما يفوته من الدنيا بما يرجوه من نعيم الآخرة وثوابها ، والله أعلم .
*  *  *
    س159: عرف القضاء والقدر ؟ موضحًا العلاقة بينهما ؟
    ج159: القدر بفتحتين بمعنى التقدير .
    واصطلاحًا : تقدير الله للكائنات حسبما سبق به علمه واقتضته حكمته .
    والقضاء لغة له معان ، ومنها : الحكم ، وهما مصطلحان إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا ، أي إذا ذكر القدر وحده دخل معه القضاء وإذا ذكر القضاء وحده دخل معه القدر ، وإذا ذكرا جميعًا في سياق واحد تغايرا ، فيكون القدر بمعنى العلم السابق والكتابة والمشيئة ، والقضاء بمعنى وقوع ذلك المقدور وخلقه فهما في ذلك كالإسلام والإيمان ، والله أعلم .
*  *  *
    س160: ما معنى الإيمان بالقدر مع بيانه بالدليل ؟
    ج160: معنى الإيمان بالقدر أن تؤمن الإيمان الجازم بعلم الله تعالى الشامل لكل شيء ، فالله يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن أن لو كان كيف يكون ، وأن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وأن الله كتب الأشياء قبل خلقها وشاءها ، فلا يخرج شيء عن كونه مقدورًا له جل وعلا ، قال تعالى :  إنا كل شيء خلقناه بقدر  ، وقال تعالى :  وكان أمر الله قدرًا مقدورًا  ، وقال تعالى :  وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم  ، وقال تعالى :  وخلق كل شيء فقدره تقديرًا  ، وقال تعالى :  والذي قدر فهدى  ، وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر عن أبيه في حديث جبريل الطويل وفيه : (( أدركت ناسًا من أصحاب النبي  يقولون : كل شيء بقدر الله حتى العجز والكيس )) ، وقال  : (( وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل )) رواه مسلم أيضًا ، وقد أجمع أهل العلم على الإيمان بالقدر وأنه الركن السادس من أركان الإيمان ، والله أعلم .
*  *  *
    س161: ما مراتب الإيمان بالقدر ؟ مع بيانها بالأدلة ؟
    ج161: مراتب الإيمان بالقدر أربع مراتب :
    المرتبة الأولى : مرتبة العلم ، معناها : الإيمان بعلم الله تعالى المحيط بكل شيء من الموجودات والمعدومات والممكنات والمستحيلات ، لا يخفى عنه شيء في الأرض ولا في السماء ، فقد علم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم وعلم أرزاقهم وآجالهم وأحوالهم وأعمالهم في جميع حركاتهم وسكناتهم وشقاوتهم وسعادتهم ومن هو من أهل الجنة ومن هو من أهل النار من قبل أن يخلقهم ، وأنه يعلم كبير الأشياء ودقيقها على السواء ، قال تعالى :  إن الله بكل شيء عليم  ، وقال تعالى :  ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن  ، وقال تعالى :  وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبةٍ في ظلمات الأرض ولا رطبٍ ولا يابس إلا في كتاب مبين  ، وقال تعالى :  إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدرس نفس ماذا تكسب غدًا وما تدرس نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير  ، وقال تعالى :  وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا  ، وقال تعالى :  هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى  .
    وقال - عليه الصلاة والسلام - لما سئل عن أولاد المشركين : (( الله أعلم بما كانوا عاملين )) متفق عليه ، والله أعلم .
    المرتبة الثانية : مرتبة الكتابة ، ومعناها : الإيمان الجازم بأن الله تعالى قد كتب في اللوح المحفوظ كل ما هو كائن إلى يوم القيامة وقد أجمع الصحابة والتابعون ومن بعدهم من أهل السنة على أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب ، قال تعالى :  ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتابٍ إن ذلك على الله يسير  ، وقال تعالى :  ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين  ، وقال تعالى :  ما فرطنا في الكتاب من شيء  ، وقال تعالى :  وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتابٍ إن ذلك على الله يسير  ، وقال تعالى :  قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا  .
    وروى مسلم في صحيحه من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال : سمعت رسول الله  يقول : (( كتب الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة )) ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النار إلا وقد كتبت شقية أو سعيدة )) ، والله أعلم .
    المرتبة الثالثة : المشيئة ، ومعناها : الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا يكون من حركةٍ ولا سكون ولا هداية ولا إضلال إلا بمشيئته وهذه المرتبة قد دل عليها إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم وجميع الكتب المنزلة من عند الله تعالى والفطرة التي فطر الله الناس عليها ، قال تعالى :  وربك يخلق ما يشاء  ، وقال تعالى :  من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم . وقال -عليه الصلاة والسلام- : (( إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلبٍ واحد يصرفه حيث يشاء )) .
    المرتبة الرابعة : الخلق ، وهذه المرتبة تقتضي الإيمان بالله تعالى وهو خالق كل شيء ، فهو وحده جل وعلا خالف الكائنات بذواتها وصفاتها وحركاتها ، فهو الخالق وما سواه مخلوق ، قال تعالى :  الله خالق كل شيء  ، وقال تعالى :  وخلق كل شيء فقدره تقديرًا  ، وقال تعالى :  هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون  ، وقال تعالى :  يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساءً  ، وقال تعالى :  يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى  ، وقال تعالى :  والله خلقكم وما تعملون  . وروى الإمام البخاري في خلق أفعال العباد عن حذيفة  قال : قال رسول الله  : (( إن الله يصنع كل صانع وصنعته )) .
    فهذه المراتب الأربع هي مراتب القدر ولا يتم الإيمان بالقدر إلا بالإيمان بها ، والله أعلم.
*  *  *
    س162: ما مذهب أهل السنة في أفعال العباد ؟ مع الدليل ؟
    ج162: مذهب أهل السنة في ذلك هو أنها داخلة في عموم قوله تعالى :  الله خالق كل شيء  ، وأفعال العباد من جملة الأشياء ، فهي داخلة في هذا العموم ، ومن أخرجها منه فعليه الدليل ؛ لأن الأصل هو البقاء على العموم حتى يرد الناقل ، فأفعال العباد كلها من الطاعات والمعاصي داخلة في خلق الله تعالى وقضائه وقدره ، فقد علم الله تعالى ما سيخلقه في عباده وعلم ما هو فاعلون وكتب ذلك في اللوح المحفوظ وخلقهم الله كما شاء ، ومضى فيهم قدره ، فهم يعملون على وفق ما سبق به العلم والقدر والكتابة ، فأفعال العباد خلقًا وإيجادًا وتقديرًا من الله تعالى ، وهي من العباد كسبًا وفعلاً ، فالله تعالى هو الخالق لأفعالهم وهم الفاعلون لها حقيقة ، وعلى ذلك اتفق أهل السنة والجماعة ، وكل ما مضى من الأدلة في المرتبة الرابعة - أعني مرتبة الخلق - دليل على هذا الأمر ، وخصوصًا قوله تعالى :  والله خلقكم وما تعملون  سواءً قلنا إن ( ما ) بمعنى المصدر أي ( والله خلقكم وعملكم ) أو كانت بمعنى ( الذي ) ، فيكون المعنى ( والله خلقكم والذي تعملون ) ، والله أعلم .
*  *  *
    س163: من الذي خالف في ذلك ؟ وما الجواب عليهم ؟
    ج163: خالف في ذلك القدرية الذين يخرجون أفعال العباد عن أن تكون مخلوقة لله تعالى ، ويقولون إن العبد هو الذي يخلق فعله بنفسه ، ويجاب عنهم بعدة وجوه :
    الأول : أنه مخالف لما أجمع عليه السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل السنة وما خالف إجماع السلف فهو باطل ؛ لأن إجماعهم من سبيلهم وقد قال تعالى :  ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا  .
    الثاني : أنه مخالف لدلالة الكتاب والسنة ؛ لأن نصوص الوحيين قضت قضاءً جازمًا أن الله تعالى هو خالق الأشياء كلها وأنه لا خالق إلا هو ، وهم يقولون : العبد هو الذي يخلق فعله ، وهذا معارضة ومناقضة للكتاب والسنة ، ومفضٍ إلى تعطيل عموم نصوص خلق الله تعالى لكل شيء وما أفضى إلى تعطيل عموم نصوص خلق الله تعالى لكل شيء وما أفضى إلى ذلك فهو باطل ، فدل ذلك على أنه مذهب باطل كل البطلان .
    الثالث : إن فيه نوع إشراك في الربوبية ؛ لأن من مقتضيات الإيمان بتوحيد الربوبية الإيمان بعموم خلق الله تعالى لكل شيء ، لا يخرج عن ذلك أي شيء من المخلوقات ، فإذا قالوا : إن العبد هو الذي يخلق فعله فقد أثبتوا مع الله تعالى خالقًا آخر ، وهذا شرك في الربوبية ، وهو تشبه بقول المجوس الذين يقولون : إن للعالم صانعين النور والظلمة ، فالنور خلق الخير ، والظلمة خلقت الشر ، ولذلك فقد ورد في بعض الأحاديث والآثار أن هؤلاء القدرية مجوس هذه الأمة لأنهم يضيفون خلق فعل العبد إليه ويزعمون أنه هو الذي خلقه ، ومذهب يفضي إلى هذه النتيجة الباطلة بالاتفاق فإنه باطل بالاتفاق .
    الرابع : أن القدرية متناقضون ، فإنهم يزعمون أن القرآن مخلوق استدلالاً بقوله تعالى :  الله خالق كل شيء  ، ويقررون أن هذا العموم لا يمكن أن يخرج عنه شيء ثم هم يخرجون مع عقولهم العفنة ، وأفهامهم المنكوسة ، فأدخلوا في النص ما لم يدخل فيه بإجماع أهل السنة ، وهذا دليل على أن مبنى قولهم هذا إنما هو التخرص والظنون الكاذبة والشهوات والهوى ، ومذهب بني على هذا فإن حقه الاطراح وعدم الالتفات إليه ، والله أعلم .
*  *  *
    س164: ما أنواع التقدير ؟ مع بيان دليل كل نوع .
    ج164: أقول : ذكر أهل العلم أن كتابة المقادير لها عدة أنواع وهي كما يلي :
    الأول : التقدير العام الشامل لكل شيء ، وهو تقدير الرب لجميع الكائنات بمعنى علمه بها وكتابته لها ومشيئة وخلقه لها ، ودليل ذلك قوله تعالى :  ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتابٍ إن ذلك على الله يسير  ، وهذا النوع يسميه بعض أهل العلم بالتقدير الأزلي ، ويدل عليه أيضًا قوله تعالى :  وكل شيء أحصيناه في إمام مبين  .
    وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي  قال : (( كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة )) ، قال : (( وعرشه على الماء )) . وحديث محاجة موسى لآدم - عليهما الصلاة والسلام - وفيه أن آدم - عليه السلام - قال : فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن يخلقني . قال موسى : بأربعين عامًا . قال آدم : أتلومني على أن عملت عملاً كتب الله أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين عامًا ، قال : (( فحج آدم موسى )) . وكذلك يدل عليه حديث : (( إن أول ما خلق الله القلم قال له اكتب . قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة )) . وحديث أبي هريرة عند البخاري مرفوعًا : (( جف القلم بما أنت لاقٍ فاختص على ذلك أو ذر )) .
    الثاني : التقدير العمري ، وهو تقدير كل ما يجري على العبد في حياته إلى نهاية أجله من كتابة رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ، ويدل عليها حديث ابن مسعود  قال : حدثنا الصادق المصدوق  قال : (( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه ، وأجله ، وشقي أو سعيد )) متفق عليه ، وعن أنس  قال : قال رسول الله  : (( وَكَّلَ الله تعالى بالرحم ملكًا فيقول : أي رب نطفة ، أي رب علقة ، أي رب مضغة ، فإذا أراد الله تعالى أن يقضي خلقها قال : أي ربي أذكر أم أنثى ؟ شقي أم سعيد ؟ فما الرزق ؟ فما الأجل ؟ فيكتب في بطن أمه )) متفق عليه .
    الثالث : التقدير الحولي ، ومعناه كتابة ما سيكون في هذه السنة من الإيجاد والإعدام والإعزاز والإذلال والرفع والخفض والرزق والعمل ونحو ذلك ، وهذا التقدير يكون في ليلة القدر من العشر الأواخر من رمضان ، قال تعالى :  إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين . فيها يفرق كل أمر حكيم  ، وقال تعالى فيها :  تنـزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمرٍ سلام هي حتى مطلع الفجر  .
    وقد روي عن ابن عمر وابن عباس والحسن وسعيد بن جبير أنهم قالوا : (( يكتب فيها أي في هذه الليلة ما يحدث في السنة من موت وحياة وعز وذل ورزق ومطر حتى الحجاج يقال : يحج فلان ويحج فلان )) .
    الرابع : التقدير اليومي ، وهو تقدير ما سيحصل في كل يوم بيومه ، ويدل عليه قوله تعالى :  كل يوم هو في شأن  ، فقد قيل في تفسيرها : شأنه أن يعز ويذل ، ويخفض ويرفع ، ويعطي ويمنع ، ويغني ويفقر ، ويضحك ويبكي ، ويميت ويحيي ، إلى غير ذلك ، فهذه هي أنواع التقديرات والله تعالى أعلى وأعلم .
*  *  *
    س165: وضح وسطية أهل السنة - رحمهم الله تعالى - في هذا الباب ذاكرًا من خالفهم فيه ؟
    ج165: وسطية أهل السنة في هذا الباب المهم تعرف إذا عرف تطرق من خالف في هذا الباب من الفرق ، فأقول : لقد خالف في باب القدر فرقتان ضالتان كل الضلال ، قد تاهتا فيه أعظم التيه ، إحداهما غلت في إثباته ، والثانية فرطت .
    فالفرقة الأولى : يقال لها الجبرية ، وهم الجهمية نفاة الصفات ، لكن في باب القدر نطلق عليهم الجبرية ، وهؤلاء يقولون إن كل شيء لا يقع إلا بقضاء الله وقدره ، وهذا قول صحيح لا غبار عليه ، ولكن يا ليتهم وقفوا عند هذا ، بل غلوا في إثبات القدر حتى قالوا : وليس للعبد قدرة ولا اختيار على فعله ، بل هو كالريشة في مهب الريح ، وكالميت بين يدي غاسله ولا يملك مطلق القدرة ولا مطلق الاختيار ، فأنت ترى أن قولهم في باب القدر فيه حق وباطل ، فالحق هو إثباتهم للقدر السابق ، والباطل سلبهم العبد قدرته واختياره .
    والفرقة الثانية : القدرية وهم المعتزلة ، وهؤلاء يقولون : إن العبد له مشيئة وقدرة واختيار على فعله فليس هو مجبور عليه ، بل يفعل فعله ، بقدرته واختياره ، وهذا القدر من قولهم حق لا غبار عليه ، ولكن يا ليتهم وقفوا عند ذلك ، بل زادوا عليه قولهم ، والعبد هو الذي يخلق فعله ولا رابطة بين مشيئته ومشيئة الله جل وعلا ، فجعلوه هو الذي يختار ويشاء فعله الاختيار المطلق والمشيئة المطلقة ، فعندهم : قد يشاء العبد ما لا يشاؤه الله جل وعلا ، فليس هناك مطلق الرابطة بين مشيئة العبد ومشيئة الله عز وجل ، وقد انقسموا فرقتين :
    القدرية الغلاة ، وهم الذين ينكرون سبق العلم والكتابة ، ويقولون : إن الأمر أنف لا يعمله الله تعالى إلا بعد وقوعه من العبد ، وهي الفرقة التي كفرها من عاصرها من الصحابة كابن عمر وغيره .
    والفرقة الثانية : القدرية المتأخرون ، وهؤلاء هم أكثر القدرية في هذه الأزمنة ، ويقولون : قد علم الله ما سيفعله العبد لكن العبد هو الذي يوجد فعله استقلالاً ، فلا ينسب الفعل إلى الله خلقًا ولا إيجادًا ، هذه هي خلاصة أقوال الفرق في هذه المسألة .
    فجاء أهل السنة والجماعة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى وأعلى منارهم في الدنيا والآخرة وثبت أحياءهم ورحم أمواتهم وجمعنا بهم في الجنة وحشرنا في زمرتهم فأخذوا الحق الذي مع كلا الفرقتين وتركوا الباطل ؛ لأنهم أحق بالحق وهذه الفرق أحق بالباطل ، فقال أهل السنة : كل شيء بقضاء الله وقدره فالله تعالى قدر المقادير قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكتب كل ذلك في اللوح المحفوظ وشاءه بمشيئته النافذة وقدرته الشاملة وخلق كل شيء فقدره تقديرًا ، وجعل للعبادة قدرة على أفعالهم ومشيئة ، وهو الخالق لقدرتهم وإرادتهم ومشيئتهم ، فلا يشاءون إلا ما يشاء الله ، وأن العباد فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم وأن العبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والمزكي والصائم .
    وبالجملة فأفعال العباد تنسب إلى الله تعالى خلقًا وإيجادًا ، وتنسب إلى العبد فعلاً واكتسابًا ، فأهل السنة - رحمهم الله تعالى - بهذا القول حققوا مذهب الوسطية كعادتهم وأخذوا بالأدلة كلها ولم يدعوا منها شيئًا ولم يخالفوا بهذا القول نصًا صحيحًا صريحًا ، بل جاء قولهم متوافقًا مع الأدلة في هذا الباب كل الموافقة ، وهذا من هداية الله تعالى لهم وتوفيقه وحسن امتنانه ، فلا هم غلوا في إثبات القدر حتى سلبوا العبد قدرته واختياره كما تقوله الجبرية ، ولا هم غلوا في إثبات قدرة العبد واختياره حتى جعلوه هو الخالق لفعله استقلالاً كما يقوله القدرية .
    فهذا هو التوسط بين هاتين الفرقتين ، فالجبرية أخذوا بنصوص إثبات المقادير السابقة فقط ، ولم ينظروا في النصوص المثبتة لمشيئة العبد وتركوا الأدلة التي فيها إثبات عموم القدر والخلق ، أهل السنة أخذوا بكل الأدلة ، فصار قولهم هو القول الوسط ، قال تعالى :  وكذلك جعلناكم أمة وسطًا  ، والله أعلم .
*  *  *
    س166: هل العبد مسير أم مخير ؟
    ج166: أقول : اعلم - يا رعاك الله تعالى - أن الإجابة على هذا السؤال تختلف باختلاف الأقوال في باب القدر ، فالجبرية الذين يسلبون العبد قدرته واختياره يقولون : إن العبد مسير مطلقًا ، لا حيلة له في فعله ولا ينسب فعله إليه إلا مجازًا ، وهذا القول خطأ ؛ لأنه بني أصلاً على خطأ ، وما بني على الضلال فهو ضلال .
    وأما القدرية الذين يثبتون للعبد القدرة الكاملة والمشيئة المستقلة فإنهم يقولون : العبد مخير مطلقًا ، وهذا القول خطأ أيضًا ؛ لأنه مبني على خطأ ، وأما أهل السنة - رحمهم الله تعالى - فلأنهم يقولون بإثبات القدر السابق وبإثبات قدرة العبد ومشيئته فقد قالوا هنا : إن العبد مسير ومخير ، لكن باعتبارين ، فهو مسير باعتبار ما كتب وقدر له وسبق به العلم في الأزل ، ومسير باعتبار دخول الفعل تحت قدرته واختياره ، أي أننا إذا نظرنا إلى ما سبق وقدر وفرغ من كتابته قلنا : هو مسير ، وإذا نظرنا إلى دخول الفعل تحت قدرته واختياره قلنا : هو مخير ، فاجتمع فيه التسيير والتخيير .
    ونضرب لك مثلاً : لو أن إنسانًا سلك طريقًا من الطرق ثم جاءه مساران إما يمين وإما شمال فهو مخير باعتبار أنه إن أرد أن يذهب يمينًا فله ذلك ، وإن أراد أن يذهب شمالاً فله ذلك ، فهذا الفعل داخل تحت اختياره ، فهو بهذا الاعتبار مخير ، لكن اعلم أنه لن يذهب إلا إلى الجهة التي قدرها الله له وسبق بها علمه وكتابته فهو بهذا الاعتبار مسير .
    ومثال آخر : لو أن إنسانًا خير بين سيارتين لشراء واحدة منهما ، فهو مخير إن شاء اشترى هذه السيارة وإن شاء اشترى الأخرى ، فهذا الفعل أي شراء إحدى السيارتين فعل داخل تحت قدرته واختياره ، فهو بهذا الاعتبار مخير ، ولكن اعلم أنه لن يشتري إلا السيارة التي كتبت له وقدرت له ، وسبق بها علم الله تعالى وشاءها له ، وهو بهذا الاعتبار مسير .
    وعلى ذلك فقس ، فأيضًا أهل السنة - رحمهم الله تعالى - بهذا القول قد سلكوا مسلك الوسطية كعادتهم رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى ، والله أعلم وأعلى .
*  *  *
    س167: هل الإيمان بالقدر يتنافى مع فعل الأسباب والحرص عليها ؟ فصل في ذلك مع ذكر الدليل .
    ج167: مذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان بالقدر لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب ، بل يقولون : إن الأخذ بالأسباب من الإيمان بالقدر ، فمباشرة الأسباب من تمام الإيمان بالقدر ، ولهذا فيجب على العبد مع الإيمان بالقدر الاجتهاد في العمل والأخذ بأسباب النجاة والالتجاء إلى الله تعالى بأن ييسر له أسباب السعادة ، وأن يعينه عليها ، ونصوص الكتاب والسنة حافلة بالأمر باتخاذ الأسباب المشروعة في مختلف شؤون الحياة ، فقد أمرت بالعمل وطلب الرزق واتخاذ العدة لمواجهة العدو والتزود للأسفار وغير ذلك ، كما قال تعالى :  فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون  ، وقال تعالى :  هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور  ، وقال تعالى :  وأعدوا لهم ما استطعتم من قوةٍ ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم  ، وقال تعالى :  وتزودوا فإن خير الزاد التقوى  ، وقال تعالى :  وقال ربكم ادعوني أستجب لكم  .
    وقال - عليه الصلاة والسلام - لما قيل له : أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل , فقال : (( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، فأهل السعادة يسيرون لعمل السعادة وأهل الشقاوة يسيرون لعمل الشقاوة )) ثم قرأ : ((  فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى  )) والحديث في الصحيح. وقال - عليه الصلاة والسلام -: (( احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز )) ، بل إن ترك تعاطي الأسباب اتكالاً على الكتابة السابقة في حقيقته أنه للقدر أصلاً ؛ لأن الله تعالى ربط هذا الكون بعضه ببعض ونظم بعضه ببعض وربط الأشياء بأسبابها ، ودلنا على السبب إن كنا نريد حصول أثره ، فعلمنا دفع قدر الجوع بالأكل ، وقدر الظمأ بالشرب ، وقدر منازلة العدو ، وبحسن الإعداد الباطني والظاهري ، وقدر إحكام الشهوة بالزوج للقادر وبالصوم لمن لم يجد ، وقدر الفقر بالسعي في طلب الرزق الحلال ، وقدر دخول النار بالاجتهاد في العمل الصالح مع ترك الذنوب والمعاصي ، وهكذا .
    فهل بالله عليك يقول أحد مع ذلك أنا أبقى مع القدر ولا أدافعه أو أحصله بالأسباب المشروعة ، فهذا القول في الحقيقة إنكار للقدر وتكذيب به وإلا فمن مقتضيات الإيمان بالقدر تعاطي الأسباب المشروعة في دفع المكروه وجلب المحبوب ، والله أعلم ,
    وأضرب لك مثالين على أهمية تحصيل الأسباب وعدم الاتكال على ما كتب وقدر وهما :
    الأولى : قوله تعالى عن مريم:  وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبًا جنيًا ، فانظروا - رحمكم الله تعالى - ، امرأة نفاس خائفة مما سيواجهها تؤمر بهز جذع نخلة حتى يتساقط الرطب ، وإنه لو اجتمع عدد من الرجال الأقوياء فإنهم قد يعجزون عن هزها ، أَوَلا يقدر الله تعالى على إسقاط الرطب بلا هذا الهز ؟ بلى هو قادر على كل شيء لكن من باب ربط الأشياء بأسبابها والأخذ بزمام الجد والمبادرة وترك التواكل والعجز والكسل ، فهل يأتي بعد ذلك أحد يقول : سأدع العمل الصالح وأتكل على ما كتب لي ؟ هذا والله عين الغباء والخبل .
    الثانية : قوله تعالى عن موسى :  وأوحينا إليه أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم  فهذه الضربة بالعصى أمر بالأخذ بالأسباب وإلا فالله قادر القدرة التامة على فلق البحر بلا ضرب ، ولكن أمر موسى أن يضرب في هذا الوقت العصيب مع أن هذا الضرب سيؤخرهم قليلاً والعدو قد اقترب منهم ، ومع ذلك يؤمر بالضرب بالعصى ، والله إنها لتربية على تعاطي الأسباب والأخذ بالأسباب المشروعة ، والله تعالى أعلى وأعلم .
*  *  *
    س168: ما حكم الاحتجاج بالقدر ؟ مع بيان الدليل ؟
    ج168: أقول : مذهب أهل السنة والجماعة - رحمهم الله تعالى - هو أن الاحتجاج بالقدر منه ما هو سائغ مشروع ومنه ما هو زائغ ممنوع ، فأما السائغ المشروع فأمران :
    الأول : الاحتجاج بالقدر عند نزول المصائب ، فإذا نزلت المصائب فعلى العبد أن يتسلى بنسبتها للقدر فيقول : قدر الله تعالى ذلك ولا دافع لقضائه ولا معقب لحكمه ، قال تعالى :  ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها  ، وقال تعالى :  ما أصاب من مصيبةٍ إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه  ، قال علقمة : (( هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من الله فيرضى ويسلم )) .
    وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان )) .
    الثانية : الاحتجاج بالقدر على المعصية التي قد تاب منها التوبة النصوح الصادقة ، فهذا أيضًا جائز لا بأس به ؛ لأنه لا يريد بهذا الاحتجاج أن يسوغ لنفسه الاستمرار عليها ؛ لأنه قد تاب منها، فإذا وقع الإنسان في شيء من المحرمات ثم تاب التوبة النصوح فعوتب في ذلك فله أن يقول : هذا أمر قدره الله علي ، ويستدل على ذلك بحديث أبي هريرة  في الصحيحين في محاجة موسى وآدم - عليهما الصلاة والسلام - وفيه: (( فقال آدم : يا موسى أتلومني على أن عملت عملاً كتب الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين عامًا )) ، فآدم - عليه الصلاة والسلام - احتج على أكله من الشجرة بأنه أمر مكتوب ومقدر عليه ، لكن هذا الاحتجاج إنما وقع بعد التوبة النصوح المقبولة ، قال تعالى :  ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى  ، فهذا الحديث فيه دلالة على جواز الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية التي تاب منها التوبة النصوح ، والله أعلم .
    الثالثة : الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية التي لا يزال يقارفها مسوغًا لنفسه بهذا الاحتجاج الدوام عليها والاستمرار في تعاطيها ، وهذه هي الحالة الزائغة الممنوعة وتفصيل الجواب عنها سيأتي في السؤال الآتي - إن شاء الله تعالى - ، والله أعلم .
*  *  *
    س169: ما حكم الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي أو ترك الواجبات ؟ مع بيان ذلك بالأدلة وضرب الأمثلة .
    ج169: أقول : قبل الإجابة على هذا السؤال المهم أحب أن أنبهك على أمرين مهمين غاية الأهمية ، وهما :
    الأول : اعلم أن القاعدة عند أهل السنة تقول : يجوز الاحتجاج بالقدر في المصائب لا المعائب ، ونعني بالمعائب أي المعاصي التي لا يزال يقارفها ، وقد شرحنا هذه القاعدة في القواعد المذاعة .
    الثاني : اعلم أن أهل السنة - رحمهم الله تعالى - يقولون : إن الاحتجاج بالقدر حجة إبليسية التأصيل والتخطيط وآدمية التنفيذ ، فأساسها من كيد الشيطان الرجيم ، والمنفذ لها تطبيقًا عمليًا هم كثير من بني آدم ، والله أعلم .
    ثم نقول : الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية وترك الواجب حجة داحضة باطلة كل البطلان نقلاً ، وعقلاً ، وحسًا ، وفطرة ، وبيان ذلك من وجوه عشرة :
    الأول : أن القرآن أبطل هذه الحجة غاية الإبطال ولم يعتبرها شيئًا وسماها جهلاً وتخرصًا وظنًا كاذبًا ونفى أن تكون من العلم في شيء ، ووصفها بالزور والبهتان ، قال تعالى :  وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون  ، وقال تعالى :  وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين  ، وقال تعالى :  أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين  ، وقال تعالى عن الذين عبدوا الملائكة أنهم قالوا :  وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون  ، وأي إبطال بعد هذا الإبطال وما كان باطلاً فإنه لا يسوغ للعاقل أن يتمسك به .
    الثاني : اتفاق السلف الصالح من الصحابة وتابعيهم ومن بعدهم من أهل السنة والجماعة على عدم اعتبار ذلك حجة مقبولة ، فإنهم - رضي الله عنهم - لم يؤثر عن أحد منهم شيء من ذلك ، بل كانوا ينكرون على المخالف ويعاقبون من وقع فيما يقتضي العقاب من فعل محظور أو ترك مأمور بلا نظر في أن ذلك مقدرًا عليه ، ولاشك أن الإجماع ثابت ثبوتًا قطعيًا في هذه المسألة ، فعلى من نصح لنفسه وأرد لها النجاة باتباع هذا الإجماع فإنه من سبيل المؤمنين التي من اتبع غيرها ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا .
    الثالث : أن الأدلة من الكتاب والسنة قد دلت الدلالة القاطعة الصريحة على أن حجة الله على عباده قد قامت بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، قال تعالى :  رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون على الله حجة بعد الرسل  ، فلا حجة للعباد في ترك المأمور أو فعل المحظور ، فإن الله تعالى قد بين لنا طريق الخير من الشر فالحجة قد قامت والمحجة قد بانت فلم يبق لأحدٍ بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب حجة لمحتج .
    الرابع : أن الاحتجاج بالقدر لو كان حجة مقبولة لأدى ذلك إلى إبطال الشرائع ؛ وذلك لأنه يسوغ لكل أحد ترك امتثال الأمر المشروع وارتكاب الشيء الممنوع أن يقول : الله قدره علي ، وكل الأشياء بقدر الله ، فلا داعي إذًا إلى الشرائع ولا إرسال الرسل ولا إلى خلق النار ولا إلى حساب وعذاب ، إذ كل أحدٍ سيحتج بالقدر ، فبان بذلك أنه حجة داحضة باطلة لأنها موصلة إلى هذه النتيجة الباطلة ، وما أدى إلى الباطل فهو باطل .
    الخامس : أن الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي مع مخالفته للمنقول فهو أيضًا مناقض للمعقول ، وبيان ذلك أن الإنسان قبل فعل هذه المعصية هل كان يعلم أن الله قدرها عليه ؟ بالطبع لا ، فيكون هو الذي أقدم على فعلها اختيارًا منه لا اضطرارًا ، ولماذا لا يتركها ويقول : لم يقدرها الله علي ، بل لماذا لا يقبل على فعل الطاعة ويقول : الله قدر علي في هذا الوقت أن أفعل هذه الطاعة ، فإن هذا قليل فاعله ، أما أن يتقحم في المعاصي ويخالف أمر ربه ويتنكب عن الصراط المستقيم ويرتكب المحرمات وموبقات الآثام ، ويقول : الله قدرها علي ، فهذا خائب خاسر تائه ضائع لا حظ له في الآخرة ولا ينفعه ذلك يوم القيامة ؛ لأنه لم يكن يعلم ما قدر له حتى يقول : الله قدرها علي ، والله أعلم .
    السادس : أن الاحتجاج بالقدر فيه تعطيل للأسباب التي جاءت الشريعة بإثباتها والأمر بها ، فإن الشريعة قد ربطت الآثار بأسبابها فمن أراد هذا الشيء فعليه بتحصيل سببه أما أن يريد آثار الأسباب من غير تحصيل للأسباب فإن هذا قدح في الشرع وعجز وكسل وخور فإن من أراد الولد فلا بد أن يحصل الزواج ؛ لأنه طريق الولد ، لكن من ترك الزواج وقال : إن كان الله قدر لي الولد فسيأتيني ولو لم أتزوج ، فهذا هو الحمق بعينه والجنون بعروقه .
    ولو قال قائل : أنا لن أذهب للعمل وإذا كان الله قد قدر لي حصول الراتب آخر كل شهر فسيأتي الراتب ولو لم أسع لتحصيله ، فبالله عليك هل هذا الكلام يمكن أن يصدر من عاقل يعرف ما يقول ؟
    ولو قال قائل : أنا لن أذاكر ولن أجتهد في حفظ الدرس وفهمه ولو قدر الله لي النجاح فسأنجح ولو لم أبذل سببًا ، فقل لي بالله عليك ما رأيك بهذا الكلام فإني أدع الجواب لعقلك وقلبك ، وهذا يبين أن الأشياء قد ربطت بأسبابها والتفريق بين الآثار وأسبابها قدح في الشرع وخبل في العقل فنقول : وكذلك أيضًا الهداية ودخول الجنة فإنها قد ربطت بأسبابها ، ففي الحديث : (( فاستهدوني أهدكم )) ، وفي الحديث الآخر : (( اعقلها وتوكل )) ، فمن أراد الهداية فعليه بسلوك سبب تحصيلها ومن أراد الجنة فعليه بسلوك سبب تحصيلها من فعل المأمورات وترك المحظورات مع الإخلاص والمتابعة ، ويوضح ذلك أكثر أن نقول : اعلم يا من تحتج بالقدر أنك لا تحتج به إلا في ترك أمور الطاعة وفعل الحرام فقط ، أما في أمور الدنيا فلا نراك تحتج بالقدر على ترك أسبابها ، بل تفني نفسك ووقتك في تحصيل أسبابها ، ونقول : لابد من الأخذ بالأسباب ، وأما أمور الطاعة والأخذ بأسباب دخول الجنة من تحصيل الهداية والاستقامة فإنك تقول : إذا شاء الله أن يهديني فستحصل الهداية ، وإذا أراد الله أن يدخلني الجنة فسيحصل ذلك ، وهذا عين التناقض ، فبالله عليك كيف تأخذ بتحصيل أسباب الرزق وقد تكفل الله به وتترك تحصيل أسباب الجنة التي ما خلقت أصلاً إلا للعمل لتحصيلها ، فهذا والله لا يسوغ عند العقلاء ، وهذا دليل من الحس ، والله أعلم .
    السابع : أن العبد مأمور بالإيمان بالقدر واتباع الشريعة بفعل المأمور واجتناب المحظور ، فلا تناقض بين القدر والشرع ، فالمحتج بالقدر على ترك المأمور أو فعل المحظور هو في حقيقته مؤمن بوجود التناقض بين قدر الله وشرعه وهذا فيه قد كبير في علم الله وحكمته ، بل يجب عليك أن تعلم أن من لم يؤمن بالشرع فإنه مكذب بالقدر لأن شرع الله من جملة قدره ، ومن لم يؤمن بالقدر فإنه مكذب للشرع ، ولذلك قال ابن عباس : القدر نظام التوحيد ، فمن اعتقد أن هناك تعارضًا بين القدر والشرع فهو زنديق ، ولا يصل العبد إلى ذلك إلا بالاحتجاج بالقدر على ترك الشرع ، فاحذر من ذلك يا رعاك الله .
    الثامن : أن العباد مطالبون بالنظر فيما أمروا به فيفعلونه وفيما نهوا عنه فيتركونه ، هذا هو الذي تعبدنا الله تعالى به وهو الذي سنسأل عنه يوم القيامة ولسنا مأمورين بالنظر فيما قدر لنا ؛ لأن هذا أصلاً في علم الغيب ولا يستطاع العلم به ، بل قد نهينا عن الخوض في القدر بلا علم أو برهان ، فنحن مطالبون بالاجتهاد في العمل لا في مطالعة الأقدار ، فالمحتج بالقدر ترك ما هو مأمور به من العمل ونظر فيما لم يؤمر به من مطالعة القدر ، فأشغل نفسه في مطالعة ما لا يعود عليه بالنفع لا العاجل ولا الآجل ، بل أشغل نفسه فيما يعود عليه بالضرر ؛ لأن الهدى والصلاح والبر والتقوى إنما هي في متابعة الرسول  لا في مجرد النظر فيما قدر لنا ، والله المستعان .
    التاسع : أن العبد مأمور بالتوبة إذا وقع منه الزلل أمر إيجاب ، قال تعالى :  وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم ترحمون  ، وقال تعالى :  يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحًا  ، والاحتجاج بالقدر على فعل المعصية قاتل لانبعاث التوبة في القلب ، وبيان ذلك أنه قد سوغ لنفسه الاستمرار على هذه المعصية بأن الله قدرها عليه فلا يفكر أن يتوب منها لأنه وإن رآها خطأ إلا أنه يرى أنه معذور في فعلها لأنها مما قدر وكتب عليه ، فتراه مستمرًا عليها لا ينزجر عن فعلها ولا يرعوي عن مقارفتها ، والتوبة أمر مقصود شرعًا والاحتجاج بالقدر يدفع هذا المقصود الشرعي ، وما دافع المقصود الشرعي فإنه باطل .
    العاشر : أن الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية لو كان حجة مقبولة لبادر بها إبليس لـمَّا تخلف عن السجود ولقال يا رب أنت قدرتها علي ، لكن علم في قرارة نفسه أنها لا تنفعه لأنها في الحقيقة ليست عذرًا مقبولاً ، فإبليس بهذا مثله كمثل من يروج المخدرات وهو لا يستعملها فهو يروج لهذه البضاعة - أعني الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية - وهو عالم كل العلم أنها ليست مما ينفع ، ولذلك عدل عنها .
    فهذه بعض الأوجه في كشف زيف هذه الحجة ولعلها تكون كافية إن شاء الله تعالى ، والله أعلى وأعلم .
*  *  *
    س170: ما المشروع عند نزول المصائب ؟ مع بيان الدليل .
    ج170: المشروع عند نزول المصائب من الموت والأمراض والعاهات والحوادث والكوارث ، ونحو ذلك عدة أمور :
    الأول : أن يعلم أنها مما سبق به القلم وطويت عليه الصحف ، قال تعالى :  ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير  ، وأنه لا دافع لقضائه ولا معقب لحكمه جل وعلا .
    الثاني : أن يؤمن إيمانًا جازمًا أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه .
    الثالث : وجوب الصبر وعدم فعل أو قول شيء فيه جزع وتسخط على ما نزل من القدر ، قال - عليه الصلاة والسلام - : (( ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية )) . وقال أبو موسى : (( إن رسول الله  بريء من الصالقة والحالقة والشاقة )) . الصالقة : هي ترفع صوتها عند المصيبة ، والحالقة : التي تحلق شعرها أو تنتفه عند المصيبة ، والشاقة : هي التي تشق جيبها عند المصائب . وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( النائحة إذا لم تتب قبل موتها فإنها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب )) ، وكل هذه الأحاديث في الصحيح .
    ومن ذلك قول ( لو ) كما قال - عليه الصلاة والسلام - : (( وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل )) ، فالصبر عند المصائب معناه حبس اللسان والجوارح عن قول وفعل ما لا يليق مما فيه منافاة لما يجب منه ، نسأل الله تعالى أن يعيننا وإياك على الصبر عند حلول المصائب .
    الرابع : أن يعلم العبد أن هذه الحوادث والكوارث إنما سببها ما كسبت يداه من الذنوب والآثام ، قال تعالى :  ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون  ، وقال تعالى :  وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير  ، لأن العبد إذا استشعر ذلك أحدث له توبة واعترافًا وانكسارًا وخضوعًا لربه جل وعلا واستغفارًا على سابق هذا الذنب وهذا أمر مقصود شرعًا ، وقد يكون طريق تحصيله في بعض الأحيان نزول هذه المصائب .
    الخامس : الرضى والتسليم لقضاء الله وقدره ، قال تعالى :  ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه  ، قال علقمة : (( هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من الله فيرضى ويسلم )) .
    وقد اختلف العلماء في حكم الرضى على قولين ، والأرجح أنه مستحب ، وهو اختيار الشيخ تقي الدين وتلميذه ، وكثير من المحققين .
    السادس : شكر الله وحمده على ما قضاه وقدره ، وأن يحدث العبد عند ذلك عبودية الشكر والحمد وهذا مقام العارفين وهو سنة لكنه حالة كاملة عالية فاضلة صعبة المنال إلا على من يسرها الله عليه ، فإن العبد قد يشكر ويحمد بلسانه فقط وفي قلبه ما فيه ، أما أن يكون الشكر والحمد مصدره القلب واللسان معبرٌ عنه فهذا لا يستطيعه إلا أهل العبادات وصفاء النفوس ، جعلنا الله وإياك منهم .
    السابع : التسلي بقول الأوراد الشرعية الثابتة في ذلك ، كقول : ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) ، قال تعالى :  الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون  .
    وكقول : ( قدر الله وما شاء فعل ) ، كما ورد معنا في الحديث قبل قليل .
    وكقول : ( اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها ) ، كما في حديث أم سلمة لما مات أبو سلمة أمرها النبي  أن تقول ذلك ، فأبدلها الله برسول الله  .
    وكقول الإنسان لأخيه عند نزول مصيبة الموت بأحد أهله : ( اصبر واحتسب فإن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى ) ، كما في الحديث الصحيح : (( مرها فلتصبر ولتحتسب ... )) إلخ . وكقول الإنسان عند زيارة المريض : (( لا بأس عليك كفارة وطهور إن شاء الله تعالى )) كما في الحديث ، ونحو ذلك ، والله أعلم .
    س171: ما سبب ضلال الجبرية والقدرية في باب القدر ؟
    ج171: هذا سؤال مهم جدًا ؛ لأننا إذا عرفنا سبب الضلال حذرناه وابتعدنا عنه فأقول : اعلم أن القدرية والجبرية كانوا أخوين يمشيان في طريق واحد ، وعندهم قاعدة قد أصلوها واعتمدوها ، وهي أن كل شيء يشاؤه الله فهو يحبه ، فالمشيئة عندهم مرادفة للمحبة ، إلى هنا وهم متفقون ، لكن لما نظروا إلى الأشياء الموجودة في الكون وجدوا فيها الكفر والشرك والبدعة والزنا وشرب الخمور وعقوق الوالدين والسرقة ونحو ذلك من الآثام .
    فقالت الجبرية : بما أن هذه الأشياء قد شاءها الله وأوجدها فهو يحبها ونحن مجبورون على فعلها ، فترى الواحد منهم يقارف الذنب ويرى أنه يفعل عين ما يحبه الله تعالى ؛ لأن الله شاءه وكل شيء يشاؤه فهو يحبه .
    وأما القدرية فإنهم لما نظروا إلى نتيجة هذه القاعدة وقفوا متحيرين وتعاظموا أن يقولوا إن الله يحب الكفر والزنا واللواط والخمر ونحو ذلك ؛ لأن وجودها في الكون دليل المشيئة لها والمشيئة عندهم مرادفة للمحبة فقالوا : لا حل عندنا إلا أن نقول إن العبد هو الذي يخلق هذه الأفعال وأن الله تعالى لم يشأها منه ولا أرادها أن تقع في الكون ، لكن العبد هو الذي أوجدها بنفسه استقلالاً ، وهم بذلك قد وقعوا في شر مما فروا منه ، فأنت ترى أن سبب ضلال هاتين الفرقتين هو أنهم جعلوا مشيئة الله وإرادته شيئًا واحدًا لا ينقسم وأنها مرادفة للمحبة ولهذا لزم عليهم هذه اللوازم الباطلة .
    فالجبرية والقدرية اتفقوا في الأصل والقاعدة ، واختلفوا لما ظهرت نتائجها ، فالجبرية رضيت بها ، وأما القدرية فرفضت هذه النتيجة لكن القدرية لم يتجرءوا على تغيير هذه القاعدة واستطاعوا تحريف كلام الله وكلام رسوله  ليتوافق مع أهوائهم ومذاهبهم ، فنعوذ بالله من أسباب الضلال ونسأله جل وعلا أن يهدينا رشدنا ، والله أعلم .
*  *  *
    س172: ما مذهب أهل السنة في إرادة الله جل وعلا ؟ مع بيان ذلك بالتقسيم والتدليل وبيان وجه الفرق .
    ج172: هذا السؤال متمم لما قبله وهو يبين لك كيف هداية الله تعالى لأهل السنة في هذا الباب ، كما هداهم في سائر أمور الاعتقاد ، وبيان ذلك أن يقال :
    مذهب أهل السنة والجماعة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى هو أن إرادة الله تعالى تنقسم إلى قسمين :
    الأول : الإرادة الكونية القدرية ، وهي مرادفة للمشيئة وهذه الإرادة لا يخرج عن مرادها شيء ، فالكافر والمسلم تحت هذه الإرادة الكونية سواءً ، فالطاعات والمعاصي كلها داخلة تحت هذه الإرادة ، قال تعالى :  وإذا أراد الله بقومٍ سوءًا فلا مرد له  ، وقال تعالى :  ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون  ، وقال تعالى :  فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا كأنما يصعد في السماء  ، وقال تعالى :  ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد  ، وغير ذلك .
    الثاني : الإرادة الشرعية الأمرية الدينية ، وهي مرادفة للمحبة ، وتتضمن ما يحبه الله ويرضاه ، قال تعالى :  يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر  ، وقال تعالى :  والله يريد أن يتوب عليكم  ، وقال تعالى :  ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم  ، وغير ذلك .
    فهذا من ناحية التقسيم والتدليل ، وأما من ناحية التفريق بين الإرادتين فاعلم أن أهل العلم قد فرقوا بينهما بثلاثة فروق :
    الفرق الأول : أن الإرادة الكونية لا تستلزم المحبة ، وأما الإرادة الشرعية فإنها تستلزم المحبة ، أي أنها ليس كل شيء يخلقه الله كونًا يلزم أن يكون محبوبًا له ، وهذا فيه رد لقاعدة الجبرية والقدرية ، وهي قولهم : كل شيء يشاؤه فهو يحبه ، وهذا الكلام ليس له مطلق الصحة ، وأما الإرادة الشرعية فإن كل شيء أمر الله به شرعًا فإنه يحبه ويرضاه ، فالكونية لا تستلزم المحبة ، والشرعية تستلزم المحبة .
    الفرق الثاني : الإرادة الكونية لابد أن تقع ، أي أن كل شيء أراده الله كونًا فإنه لابد أن يقع لا يدفعه شيء أبدًا فالإرادة الكونية لازمة الوقوع ، وأما الإرادة الشرعية فإنها قد تقع وقد لا تقع ، أي قد يريد الله أشياء شرعًا لكنها لا تقع كونًا ، فالله يريد شرعًا من الناس الإسلام والهداية ، لكن هذا لم يقع لأن أكثر الناس في كفرٍ وضلال .
    الفرق الثالث : أن الإرادة الكونية مرادة لغيرها لا لذاتها ، وأما الإرادة الشرعية فإنها مرادة لذاتها ، فالكفر الواقع مراد لغيره لا لذاته ، والمعاصي الواقعة مرادة لغيرها لا لذاتها ، وأما الإيمان فإنه مراد لذاته وكذلك الصلاة والزكاة والصوم والحج وسائر الطاعات ، فإنها مرادة لذاتها .
    فمن فهم هذه الفروق فإنه قد هدي في هذا الباب فيما قد ضل به كثير من الناس ، والله أعلم .
*  *  *
    س173: متى تجتمع الإرادتان ومتى تنفرد إحداهما عن الأخرى ؟ مع بيان ذلك بالأمثلة .
    ج173: تجتمع الإرادتان في إيمان أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وهكذا أي في إيمان من قد آمن من الثقلين ، فهو كوني لأنه وقع في الكون ، وشرعي لأن الله يحبه ويرضاه ، وإذا صليت فإن صلاتك هذه قد اجتمعت فيها الإرادتان فيه إرادة كونية لأنها وقعت في الكون وشرعية لأن الله يحبها ويرضاها ، وبالجملة فكل شيء وقع في الكون وهو مما يحبه الله ويرضاه فإنه مما اجتمع فيه الإرادتان .
    وتنفرد الإرادة الكونية في الأشياء التي وقعت في الكون وهي ما لا يحبه الله ويرضاه ، ككفر أبي جهل وأبي لهب ، بل وكفر من كفر من الثقلين ويدخل في ذلك سائر الذنوب والمعاصي التي وقعت في الكون ، فإنها من قبيل الإرادة الكونية فقط ؛ لأنها مما لا يحبه الله ويرضاه .
    وتنفرد الإرادة الشرعية في الأشياء التي يحبها الله ويرضاها لكنها لم تقع في الكون ، فهي شرعية فقط ، لكن ليست بكونية لأنها ما وقعت ، والإرادة الكونية لازمة الوقوع وذلك كإيمان أبي لهب ، وسجود إبليس لأبينا آدم ونحو ذلك ، فكل ذلك مما يحبه الله فهو إرادة شرعية لكنه لم يقع فأبو لهب لم يؤمن وأبوه إبليس لم يسجد فتحققت الإرادة الشرعية وانفردت عن الإرادة الكونية ، والله تعالى أعلم وأعلى .
*  *  *
    س174: هل ينسب الشر إلى الله تعالى ؟ وهل يقع في أفعاله شر ؟
    ج174: أقول : لقد فصل النبي  هذه المسألة بالبيان الواضح والشافي ، وذلك فيما رواه مسلم في صحيحه في دعاء الاستفتاح أنه  كان يقول : (( لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك أنا بك وإليك تباركت وتعاليت )) ، وهذا القول من الصادق المصدوق  يثبت أن الشر لا ينسب إلى الله تعالى ، فالله تعالى لا يفعل إلا الخير والقدر من حيث نسبته إلى الله تعالى لا شر فيه بوجهٍ من الوجوه ، فإنه علم الله وكتابته ومشيئته وخلقه وذلك خير محض وكمال من كل وجه ، فالشر ليس إلا الرب بوجه من الوجوه لا في ذاته ولا في أسمائه وصفاته ولا في أفعاله ، وإنما الشر يدخل في المقضي لا في القضاء وفي المقدور لا في القدر ، ونعني بالمقضي والمقدور الفعل الصادر من المخلوق ، فالمخلوق هو الذي يفعل الشر ، فالقدر فعل الله تعالى وكله خير لا ينقسم إلى خير وإلى شر ، وأما المقدور فهو فعل العبد وهو ينقسم إلى خير وإلى شر ، فالكفر شر باعتبار نسبته إلى العبد ، والظلم شر باعتبار نسبته إلى العبد ، فلابد من التفريق بين الفعل والمفعول ، والخلق والمخلوق ، ففعل الله وخلقه كله خير لا شر فيه ، وإنما الشر في بعض مخلوقاته لا في خلقه وفعله ، فإن أسماءه الحسنى وصفاته العليا تمنع نسبة الشر والسوء والظلم إليه ، وذلك لأن الشر إن أريد به وضع الشيء في غير موضعه فهو الظلم ، ومقابله العدل والله منزه عن الظلم جل وعلا  وما ربك بظلام للعبيد  ، وقال : (( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي )) رواه مسلم من حديث أبي ذر ، فالله تعالى منزه عن الظلم لكمال عدله ، وإن أريد بالشر ما يلحق العبد من الأذى بسبب ذنب ارتكبه العبد فإن هذا لا يعد شرًا له ، بل هو عدل منه جل وعلا .
    وبالجملة فإن أفعال الله تعالى خير كلها ومصلحة كلها ، وحكمة كلها لا شر فيها بوجه من الوجوه ، وهو سبحانه منزه عن نسبة الشر إليه مطلقًا لا إلى ذاته ولا إلى أسمائه وصفاته ولا إلى أفعاله ، فالشر لا يضاف إلى الرب جل وعلا ، لا وصفًا ولا فعلاً ، سبحانه وتعالى وتقدس ، والله أعلم وأعلى .
*  *  *
    س175: كيف يريد الله تعالى أمرًا وهو لا يحبه ؟
    ج175: هذا سؤال مشهور تردده ألسنة الذين لا يعقلون عن الله حكمة ومصلحة ويجعلونه وسيلة للقدح في أفعال الله تعالى وسلب الحكم والمصالح عنها ، وهو مزلق خطير إذا لم يؤخذ جوابه من أهل السنة ، فلكم حصل في جوابه من التخبط لما أخذ عن غيرهم وضل به أقوام كثر ، فنسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يهدي ضال المسلمين ويثبت مطيعهم ويأخذ بنواصينا للبر والتقوى ، فأقول في جوابه وبالله التوفيق :
    إنه لابد أولاً أن نفرق بين المرادات ، فإن المرادات قسمان : مرادات لذاتها ، ومرادات لغيرها .
    فالمراد لذاته مطلوب محبوب لذاته ، وأما المراد لغيره فإنه قد لا يكون محبوبًا ومطلوبًا لذاته ، بل لما يترتب على وجوده من الحكم والمصالح .
    فالمراد لغيره بالنظر إلى ذاته لا يكون محبوبًا ولا مطلوبًا ، وبالنظر إلى ما يترتب عليه يكون مرادًا ، فهو مراد لشيء آخر لا أنه مراد لنفسه ، وأضرب لك مثالين على المراد لغيره ليتضح لك الأمر :
    الأول : قطع العضو المتآكل الذي يكون في بقائه تلف بقية الأعضاء ، فإن الإنسان يذهب بنفسه إلى الطبيب ويمد هذا العضو إليه وهو يعرف أن الطبيب سيقطع هذا العضو من جسده ، وهو يريد ذلك القطع لكن بالله عليك هل هذا المريض يريد هذا القطع لذات القطع أي لأنه يحب ذلك لنفسه ؟ بالطبع لا ، ولكنه أراده لعلمه بآثاره الطيبة ومصالحه المترتبة عليه ، فهو أراد القطع لا لذات القطع وإنما أراده لغيره أي أراده لما يترتب عليه من سلامة بقية الأعضاء ، فاجتمع في هذا القطع البغض والحب ، فبالنظر إلى ذاته مبغوض مكروه ، وبالنظر إلى آثاره محبوب مراد ، فهو - أي القطع - مراد لغيره لا مراد لذاته ، ومن ذلك أيضًا تناول الدواء الكريه .
    الثاني : قطع المسافات والصحارى والقفار وتحمل الأخطار ومفارقة الأهل والبلد ، للوصول إلى محبوبه الذي ملك عليه قلبه واستحكم حبه في نفسه ، فإن أحدًا لا يريد تعذيب نفسه بذلك لكنه علم أنه لا سبيل للوصال إلا بهذا الشقاء ، فأراد الدخول فيه لا لأنه يريده لذاته وإنما لأنه يعلم بآثاره المترتبة عليه ، فقطع المسافات وتحمل المشاق ليس مرادًا لذاته ، وإنما المراد لغيره ، فهو محبوب من وجه ومبغوض من وجه .
    ومن هنا يتبين لنا أن الشيء يجتمع فيه الأمران ، بغض من وجه وحب من وجهٍ آخر ، ومن هنا يعرف الجواب على هذا السؤال الذي طال حوله الجدل وهو أن يقال : إن الأشياء التي أراد الله تعالى وقوعها كونًا وهو لا يحبها ولا يرضاها هي من قبيل المراد لغيره ، لا من قبيل المراد لذاته حتى يرد الإشكال ، فإن الذي يرد هذا الإشكال في ذهنه إنما هو الذي يجعل الأشياء الواقعة كلها من قبيل المراد لذاته وهم الجبرية والقدرية كما ذكرت لك سابقًا أن القاعدة عندهم أن كل شيء يشاؤه فإنه يحبه وهذا مخالف للنقل والعقل والحس والفطرة ، وأما على قول أهل السنة فإن لا إشكال أبدًا ، فكل شيء وقع في الكون فإنه لم يقع إلا بإرادته جل وعلا إذ لا يكون في كونه إلا ما يريد ، وهذه الإرادة لا تخلو إما أن تكون لذاتها وإما لغيرها ، فالأشياء التي وقعت وهو لا يحبها هي من قبيل الإرادة الكونية أي من قبيل ما يراد لغيره لا ما يراد لذاته فإذا فمت ذلك وفرقت بين المرادين فقد أوتيت خيرًا كثيرًا وكفيت شرًا كثيرًا ، وهو من هداية الله لك صراطه المستقيم فاحمد الله على ذلك وأكثر من شكره ليزيدك توفيقًا وهداية ، قال تعالى :  والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم  ، وقال تعالى :  وإذ تأذن ربكم لئن شكرتكم لأزيدنكم  ، والله أعلم .
*  *  *
    س176: هل ضربت لنا أمثلة على ذلك الأمر ليزداد الأمر وضوحًا ورسوخًا في القلوب ؟
    ج176: أقول : نعم وبكل سرور وتشرف فإنما أنا خويدم لك في إيصال ما أقدر على إيصاله لك من علم الشريعة وليس لي في ذلك فضل ولا منة وإنما الفضل كله والخير كله والمنة كلها لله جل وعلا ، فهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل ، فأقول وبالله التوفيق :
    المثال الأول : خلق إبليس والحكمة من ذلك ، فإن إبليس مادة كل فسادٍ في هذه الدنيا في الأديان والاعتقادات والأعمال والشهوات والشبهات ، وهو سبب لشقاوة العبد ، فخلقه ليس مرادًا لذاته ، بل مراد لغيره وقد تلمس العلماء الحكم والمصالح من خلقه فذكروا منها ما يلي :
    فمنها : أن يظهر للعباد قدرة الرب تبارك وتعالى على خلق المتضادات والمتقابلات ، فالذي خلق هذه الذات الفاسدة من كل وجه والتي هي أخبث الذوات والتي هي سبب كل شر ، هو الذي خلق ذات جبريل التي من أشرف الذوات وأزكاها والتي هي مادة كل خير ، فتبارك من خلق هذا وهذا ، وذلك كما ظهرت حكمته في خلق الليل والنهار ، والحر والبرد ، والماء والنار ، والداء والدواء ، والموت والحياة ، والجنة والنار ، وهذا دليل على كمال قدرته وعزته وملكه وسلطانه ، فإنه خلق هذه المتضادات وقابل بعضها ببعض وسلط بعضها على بعضٍ وجعلها محل تصرفه وتدبيره وحكمته ، فخلو الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته وكمال تصرفه وتدبير مملكته ، وهذا يظهر ظهورًا جليًا لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
    ومنها : أن يكمل الله تعالى لأوليائه مراتب العبودية ، وذلك بمجاهدة إبليس وحزبه وإغاظته بالطاعة لله جل وعلا والاستعاذة بالله منه واللجوء إلى الله أن يعيذهم من شره وكيده فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والدينية والأخروية ما لا يحصل بدونه ، ثم إن المحبة والإنابة والتوكل والصبر والرضا ونحوها أحب أنواع العبودية لله جل وعلا ، وهذه إنما تتحقق بالجهاد وبذل النفس وتقديم محبته جل وعلا على كل ما سواه ، فكان خلق إبليس سببًا لوجود هذه الأمور .
    ومنها : حصول الابتلاء ، ذلك أن إبليس خلق ليكون محكًا يمتحن به الخلق ليميز الله الخبيث من الطيب .
    ومنها : ظهور آثار أسمائه تعالى ومقتضياتها ومتعلقاتها فمن أسمائه : الرافع ، والخافض ، والمعز ، والمذل ، والحكم ، والثواب ، وهذه الأسماء تستدعي متعلقات يظهر فيها أحكامها فكان خلق إبليس سببًا لظهور آثار هذه الأسماء ، فلو كان الخلق كلهم مطيعين ومؤمنين لم تظهر آثار هذه الأسماء .
    ومنها : خروج ما في طبائع البشر من الخير والشر ، فالطبيعة البشرية مشتملة على الخير والشر والطيب والخبث ، وذلك كامنٌ فيها كموت النار في الزناد ، فخلق الشيطان مستخرجًا لما في طبائع أهل الشر من القوة إلى الفعل وأرسلت الرسل تستخرج ما في طبيعة أهل الخير من القوة إلى الفعل ، فاستخرج أحكم الحاكمين ما في هؤلاء من الخير الكامن فيهم ليترتب عليه آثاره وما في أولئك من الشر ليترتب عليه آثاره وتظهر حكمته في الفريقين وينفذ حكمه فيهما ويظهر ما كان معلومًا له مطابقًا لعلمه السابق .
    ومنها : ظهور كثير من آياته جل وعلا وعجائب صنعه ، فلقد حصل بسبب وقوع الكفر والشر من النفوس الكافرة الظالمة ظهور كثير من الآيات العجائب ، كآية الطوفان ، وآية الريح ، وآية إهلاك ثمود وقوم لوط ، وآية انقلاب النار على إبراهيم - عليه السلام - بردًا وسلامًا ، والآيات التي أجراها الله تعالى على يد موسى وعيسى - عليهما الصلاة والسلام - ، وغير ذلك من الآيات ، فلولا تقدير كفر الكافرين وجحد الجاحدين لما ظهرت هذه الآيات الباهرة ، والله أعلم ، فهذه بعض من الحكم والمصالح من خلق إبليس ، نعوذ بالله تعالى منه .
    المثال الثاني : خلق المصائب والآلام والحكمة من ذلك ، فإن هذه الأشياء أيضًا ليست مرادة لذواتها وإنما مرادة لغيرها ، فلما يترتب عليها من المصالح والحكم والغايات المحمودة أرادها الله تعالى .
    فمن ذلك : تذكير العباد الذين تنكبوا عن الصراط بقدرته جل وعلا ويملهم عسى أن يحدث ذلك في قلوبهم رجوعًا وتوبة ، وكم حصل من الخير بسبب هذه الحوادث والآلام من توبة المذنبين وتيقظ الغافلين ، وإقبال المعرضين ورجوع الكثير إلى الله تعالى ، قال تعالى :  ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون  .
    ومنها : استخراج عبودية الضراء وهي الصبر ، قال تعالى :  وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون  ، وقال تعالى :  إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب  ، وقال تعالى :  إن الله يحب الصابرين  ، وهذا لا يتم إلا بأن يقلب الله الأحوال على العبد حتى يتبين صدق عبوديته لله جل وعلا .
    ومنها : تكفير السيئات ، فإن العباد كسابون للذنوب كثيرًا وهم خطاءون ، ولربما يغفل العبد عن التوبة عن كثير منها فيجري الله تعالى هذه المصائب والآلام على العبد فيصبر فيكون ذلك سببًا لتكفير السيئات عنه ، وفي الحديث : (( لا بأس عليك كفارة وطهور إن شاء الله )) ، وفي الحديث أيضًا : (( ما يصيب العبد من هم ولا غم ولا وجع ولا نصب إلا كفر الله عنه من خطاياه حتى الشوكة يشاكها )) ، والأحاديث في ذلك كثيرة .
    ومنها : حث النفوس وحفز أشواقها إلى الجنة ، فإن العبد مع مرور هذه الآلام والمصائب التي تكدر عيشه وتنغص عليه حياته يعلم علم اليقين أن هذه الدار دار تعب ومكابدة ونصب ، وأما الجنة فإنها دار الراحة المطلقة فلا تعب فيها ولا نصب ، فيشمر العبد بالاجتهاد في العمل الصالح لنيل هذه الدار الكريمة الغالية ، ولو أن الدنيا لم يكن فيها ذلك لما كان هناك كبير فرق ولنسي العبد الجنة ، فانظر إلى الحكمة العظيمة والغاية النبيلة .
    ومنها : تقوية الرابطة بين العبد وربه جل وعلا وعلمه بضعفه ، فإن هذه المصائب والآلام يعلم العبد أنه لا خلاص له منها ولا مخرج له عنها إلا بصدق الالتجاء إلى ربه جل وعلا ، فيكون العبد دائم الذكر ودائم الدعاء والتضرع إلى الله ، وهذا أمر يحبه الله من العبد ، بل هو حقيقة العبادة ، فالعبد مفتقر إلى الله تعالى الافتقار الذاتي ، كما أنه جل وعلا هو الغني الغنى الذاتي ، فلا يمكن في حال من الأحوال أن يزول وصف الافتقار إلى الله تعالى من العبد ، كما أنه لا يمكن ولا يتصور ويستحيل الاستحالة المطلقة أن يزول وصف الغنى عن الله جل وعلا .
    ومنها : الدخول في زمرة المحبوبين لله جل وعلا ، فالمبتلون يدخلون في زمرة المحبوبين المشرفين بمحبة الله جل وعلا ، فإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم ، وقد جاء ذلك في السنة كما في قوله  : (( إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط )) حديث حسن رواه الترمذي وابن ماجه .
    وغير ذلك من الحكم والمصالح التي لا يحيط بها على التفصيل إلا الله جل وعلا ، فهذان المثلان يوضحان لك إن شاء الله تعالى شيئًا من الحكم والمصالح في المرادات لغيرها ، والله أعلم .
*  *  *
    س177: ما الواجب على العبد اعتقاده في أفعال الله تعالى ؟
    ج177: الواجب على العبد تجاه ذلك أن يعتقد الاعتقاد الجازم أن الله جل وعلا في جميع أفعاله حكمًا جليلة وغايات ومصالح عظيمة سواءً علمناها أو لم نعلمها ، فيجب على العبد أن يعلم ويعتقد أن أفعال الله جل وعلا وأوامره لا تخلو من الحكم الباهرة العظيمة التي تحير العقول وأنه متنزه عن فعل ما لا حكمة فيه ولا مصلحة ، فإن هذا عبث وقد نزه نفسه الكريمة عنه كما في قوله :  أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم  فأفعاله كلها حكم ومصالح ، وإذا لم تدخل في حدود معلومنا فذلك لا يدل على انتفائها في نفس الأمر ؛ لأن عدم العلم ليس علمًا بالعدم وعقولنا أحقر من تحيط بذلك على وجه التفصيل ، وهذا الإيمان الجملي فرض عين على كل أحدٍ ، بل هو من مقتضيات وصف الله جل وعلا بالكمال المطلق ، فإن القدح في ذلك قدح في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وهو منافٍ لكمال التوحيد الواجب ، بل قد بكون في بعض صوره منافٍ لأصل التوحيد والعياذ بالله ، فعلى العبد أن يؤمن بلا ريب أن الله تعالى هو الكامل الكمال المطلق في علمه وحكمته وسائر أفعاله جل وعلا ، ومقتضى هذا الإيمان أن يؤمن بأن أفعاله جل وعلا كلها بلا استثناء لها الحكم العظيمة والغايات والمصالح المحمودة ، والله أعلى وأعلم .
*  *  *
    س178: ما معنى قوله تعالى :  يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب  ؟
    ج178: أقول : هذه الآية واضحة الدلالة ليس فيها شيء يوجب الإشكال ، وبيان ذلك أن يقال : اعلم - رحمك الله تعالى - أن القدر نوعان :
    الأول : القدر المثبت أو المطلق أو المبرم ، ويراد به ما قد كتب في أم الكتاب أي اللوح المحفوظ فإن هذا التقدير ثابت لا يتبدل ولا يتغير ولا يزاد فيه ولا ينقص ، وهذا هو المراد بقوله تعالى :  وعنده أم الكتاب  ، وبناءً عليه فالآجال والأرزاق والأعمال وغيرهما التي كتبت في أم الكتاب ثابتة لا يعتريها شيء من التغيير والتبديل .
    الثاني : القدر المعلق أو المقيد ، وهو ما في صحف الملائكة ، فهذا هو الذي يقع فيه المحو والإثبات ، فإن الله تعالى قد أمر الملك أن يكتب له أجلاً ، وقال : إن وصل رحمه زدته كذا وكذا ، والملك لا يعلم أيزداد أم لا ؟ لكن الله تعالى يعلم ما يستقر عليه الأمر ، فإذا جاء الأجل لا يتقدم ولا يتأخر ، وكذلك يقال في الأرزاق والمصائب ونحوها ، فإنه قد يثبت منها أشياء في الكتب التي بأيدي الملائكة ، وقد يمحى منها أشياء ، وذلك كله داخل تحت قوله تعالى :  يمحو الله ما يشاء ويثبت  ، فهذا المحو والإثبات إنما يكون في الصحف التي بأيدي الملائكة ، وكل ذلك قد كتب في أم الكتاب ، أعني الأقدار وأسبابها ، فلا تبديل ولا محو ولا إثبات فيما كتب في اللوح المحفوظ ، والله أعلم .
    س179: اذكر لنا بعض الأخطاء التي وقع فيها بعض الناس في هذا الباب المهم لنحذرها ونحذر منها .
    ج179: أقول : لقد ذكر جمع من أهل العلم - رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى - عددًا من الأخطاء في هذا الباب وقد ذكرنا بعضها في ثنايا الأسئلة السابقة ، ولكن أعيدها مختصرة وأزيد عليها ما لم يذكر ، فأقول :
    منها : وهو أعظمها الخوض في هذا الباب بلا علم ولا برهان والنزاع فيه ، فإن هذا زلل عظيم ومزلق وخيم ، وهاوية كبيرة قل من يسلم منها إذا وقع فيها ، ولذلك وردت الأدلة والآثار محذرة من ذلك كل التحذير ، فقد روى أحمد وابن ماجه بإسناد حسن عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن رسول الله خرج على الصحابة وهم يتنازعون في القدر ، هذا ينزع آية وهذا ينزع آية ، فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان ، فقال : (( بهذا أمرتم - أو بهذا وكلتم - أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض انظروا إلى ما أمرتم به فاتبعوه وما نهيتهم عنه فاجتنبوه )) . وروى الطبراني وأبو نعيم في الحلية من حديث ابن مسعود  مرفوعًا : (( وإذا ذكر القدر فأمسكوا )) وحسن إسناده الإمام العراقي وابن حجر والسيوطي والمباركفوري ، وقد قال الله تعالى :  ولا تقف ما ليس لك به علم  وإن الخوض في القدر بلا علم ولا برهان قد أورث كثيرًا من الأسئلة الاعتراضية التي لا ينبغي أن يسأل عنها وقد أورث أن بعض الناس يبحث في الجوانب الخفية في هذا الباب ، وأفضى أيضًا إلى ترك التسليم والإذعان لله تعالى في قدره ، وكثير من الناس أقحم عقله الضعيف العاجز في اكتشاف مسائل هذا الباب من غير اهتداء بنور الكتاب والسنة ، وهذا أدى إلى التنازع والافتراق في هذا الباب ، وكل ذلك سببه الكلام في هذا الباب بلا علمٍ ولا نورٍ من الله ، فاحذر من ذلك الأمر الخطير ، والله يحفظنا وإياك .
    ومنها : الاحتجاج به على فعل المعائب أي المعاصي وقد تقدم لنا الحكم فيه والأجوبة عنه .
    ومنها : الاتكال على ما كتب وترك تحصيل الأسباب الشرعية وغيرها اعتمادًا على ما سبق به العلم وهذا خطأ فادح ومهيع وخيم جدًا ومدخل شيطاني لابد من سده بمعرفة منهج أهل السنة وقد قدمنا الجواب عن ذلك .
    ومنها : عدم الاهتمام بشأن الدعاء ويرى أنه لا حاجة له ؛ لأنه لو دعا ثم دعا فلن يأتيه إلا ما قدر له ، فما قدر له فإنه يأتيه بلا دعاء وما لم يقدر له فلن يأتيه ولو استفرغ جهده في الدعاء ، وهذا فرع من فروع الاتكال على القدرة وتعطيل الأسباب الشرعية ، وقد قال - عليه الصلاة والسلام - : (( ولا يرد القدر إلا الدعاء )) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه الألباني - رحم الله الجميع رحمة واسعة - . وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة وما سئل الله شيئًا يعطى أحب إليه من أن يسأل العافية ، إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء )) وحسنه الألباني أيضًا . وقال  : (( لا يغني حذر من قدر وإن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل وإن الدعاء ليلقى البلاء فيعتلجان إلى يوم القيامة )) وحسنه الألباني أيضًا .
    وأما ما يتردد على لسان الصوفية من قولهم عن إبراهيم الخليل  : (( حسبي من سؤالي علمه بحالي )) فإنه كلام لا أصل له ، قاله أبو العباس شيخ الإسلام وغيره من أئمة الحديث .
    ومنها : نسبة المشيئة إلى الظروف أو الأقدار فيقول : شاءت الظروف وشاءت الأقدار ، وهذا خطأ لأن الظروف والأقدار لا مشيئة لها وإنما الذي يشاء هو الله تعالى كما حققه الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله تعالى - .
    ومنها : دعاء بعض الدعاء بقوله : اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه ، وهذا دعاء لا ينبغي ؛ لأنه قد شرع لنا ما هو خير منه وأفضل وهو الدعاء برد القضاء إذا كان فيه سوء ، ويكفيك قوله  : (( تعوذوا بالله من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء )) رواه البخاري .
    ومنها : سب القدر واتهامه والتسخط عليه ونسبة السوء إليه - والعياذ بالله تعالى - ، وهو منافٍ للأدب مع الله تعالى ، وعلامة للجزع النافي للصبر الواجب ، ومفضٍ بصاحبه إلى سخط الله تعالى كما في الحديث : (( ومن سخط فعليه السخط )) والجزاء من جنس العمل .
    ومنها : ما يفعله بعض الناس من استطلاع القدر المستقبلي عند الكهنة والمنجمين ، وهذا ضلال مبين في باب القدر ؛ لأن القدر من الغيب ، والغيب لا يعلمه إلا الله تعالى ، ويدخل في ذلك من يصدق بتأثير الأسماء والأبراج فيما يجري للإنسان في حياته .
    ومنها : إنكار علم الله تعالى السابق أو إنكار الكتابة السابقة أو إخراج أفعال العباد أن تكون مخلوقة لله تعالى كما تقوله القدرية .
    ومنها : سلب العبد قدرته ومشيئته كما هو قول الجبرية .
    ومنها : زعم أن الإنسان مخير مطلقًا أو مسير مطلقًا .
    ومنها : قول العبد ( لو ) أو ( ليت ) عند نزول الأمر المؤلم وقد قدمنا ذلك سابقًا .
    ومنها : تمني الموت بسبب ما نزل به من الضر ، هذا حرام لا يجوز ، قال - عليه الصلاة والسلام - : (( لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لابد متمنيًا فليقل اللهم أحييني ما كانت الحياة خيرًا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي )) متفق عليه .
    ومنها : قتل نفسه ، وهو المعروف بالانتحار ، وهذا جريمة عظيمة وعقوبتها وخيمة ، قال تعالى :  ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كـان بكم رحيمًا ومن يفعـل ذلك عدوانًا وظلمًا فسوف نصليه نارًا وكان ذلك على الله يسيرًا  . وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( من وجأ نفسه بحديدة فقتل نفسه فحديدته في يده يجأ بها في بطنه خالدًا مخلدًا فيها أبدًا ، ومن تحسى سمًا فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا ، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا )) متفق عليه .
    وقتل النفس دلالة صريحة على التسخط على القدر ، والمخيف أنه قد هذه الآونة الأخيرة بدأ يكثر ، فنعوذ بالله من الخذلان والله أعلم .
    فهذه بعض الأخطاء في هذا الباب المهم فاحذر وحذر منها ، عافانا الله وإياك من كل سوءٍ وبلاءٍ ، والله أعلم .
*  *  *
    س180: كيف الجواب على من أشكل عليه الجمع بين قوله تعالى :  ويعلم ما في الأرحام  ، وقوله  : (( ولا يعلم ما في الأرحام إلا الله )) ، وبين معرفة الأطباء لما في الرحم من كونه ذكرًا أو أنثى ؟
    ج180: أقول : اعلم أولاً - رعاك الله تعالى - أن المقدم هو كلام الشارع في كل شيء ، فالقرآن والسنة لا يجوز أن يعارضا بأي شيء ، ولا يجوز التقدم عليها بقولٍ أو فعلٍ .
    وثانيًا : اعلم أيضًا أنه لا يمكن أبدًا ولا يتصور أن تتعارض الحقائق العلمية التي ثبتت بالطريق الصحيح مع نصوص الكتاب وصحيح السنة ، فإن الذي أنزل النص هو الذي خلق الأشياء كلها وهو العالم بذواتها وصفاتها وخصائصها وأفعالها وما يتعلق بها ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، فلا يمكن أبدًا أن يكون كلامه معارضًا لذلك إذا تكلم عنه ، فإذا وحد ما يوهم المعارضة فلا يخلو :
    إما أن تكون هذه الحقيقة العلمية المدعاة ليست بشيء أصلاً ، أي أنها لم تبن على علم وبصيرة وهدى ، أو أن تكون متلقاة ممن لا يؤتمنون على حمل قتٍ ، فيظهرونها في صورة الحقائق العلمية وهي إلى الخرافات والدجل أقرب ويعارضون بها نصوص الوحيين ، وإما أن يكون صريح النص لم يدل على خلافها أصلاً لكنه لم يفهم على وجهه الصحيح ، كما في هذا السؤال ، فإن بعض الناس لا يفهم من قوله تعالى :  ويعلم ما في الأرحام  ، وقوله  : (( ولا يعلم ما في الأرحام إلا الله )) لا يفهم منه إلا العلم بالذكورة والأنوثة فقط ، وهذا فهم قاصر ؛ لأن المراد بهذا العلم العلم الشامل لكل أحوال هذه النطفة من ذكورة وأنوثة ، وانفرادٍ وتعدد ، وشقاوة وسعادة ، وأجل وعمل ، وما تكون عليه من الصفات الخَلقية والخُلقية في المستقبل ، ويعلم رزقها ، وهل يولد حيًا أو ميتًا ، فلا يحصر العلم فقط في الذكورة والأنوثة .
    ويقال أيضًا : إن الأطباء لا يعلمون ذلك غيبًا ، بل بالأجهزة المعلومة المعروفة التي تبدي ما كان مستترًا حتى يكون علانية فيرون صورة الجنين الذي تخلق ، أي أن علمهم هذا ليس من علم الغيب ، بل من علم الشهادة ؛ لأن مبناه على الوسائل الحسية التي هداهم الله لها .
    ويقال أيضًا : إن هذه النطفة قبل تخلقها هل يعرف الأطباء ما ستكون عليه ؟ بالطبع لا ، فوالله الذي لا إله إلا هو لو يجتمع أطباء الدنيا على نطفة في الرحم لم تتخلق لما عرفوا هل هي ذكر أو أنثى ، وصدق الله تعالى إذ قال :  وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً  ، والله أعلم .
*  *  *
    س181: ما ثمرات الإيمان بالقدر ؟
    ج181: ثمراته كثيرة ، وأذكر منها ما يلي :
    الأولى : حصول الهداية وزيادة الإيمان .
    الثانية : خفة حدة المصائب النازلة والأقدار المؤلمة .
    الثالثة : راحة النفس وطمأنينتها لأنها تعلم أن كلاً بقضاء وقدر وأن ما أصابها لم يكن ليخطئها وما أخطأها لم يكن ليصيبها .
    الرابعة : أن الإيمان بالقدر يربي النفس على الصبر وقوة الاحتمال .
    الخامسة : محاربة اليأس والقنوط والعجز والكسل .
    السادسة : الشجاعة والإقدام واطراح الخور والجبن .
    السابعة : تربية النفس على القناعة .
    الثامنة : سد باب الدجل والخرافة وتحرير العقول من ربقتها لأن المؤمن بالقدر لا يعتمد على خبر دجال ولا عراف ولا كاهن ولا يستطلع إلى مستقبله إلا بالبناء الصحيح بالجد والعزيمة الصادقة والاجتهاد في العمل ، والله تعالى أعلى وأعلم .
    س182: ما مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات ؟
    ج182: مذهبهم في الأسماء والصفات في ثلاث نقاط : في الإثبات ، وفي النفي ، وفيما لم يرد فيه دليل بخصوصه .
    فأما الإثبات فهم يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات في كتابه وما أثبته له نبيه  في سنته من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ، بل يؤمنون بأن الله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع العليم والبصير .
    وأما النفي فهم ينفون عن الله تعالى ما نفاه عن نفسه في كتابه وما نفاه عنه نبيه  في سنته مع إثبات كمال الضد كما سيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى - .
    وأما فيما لم يرد فيه دليل بخصوصه فإنهم لا يثبتون لفظه ولا ينفونه ويستفصلون في معناه ، فإن أريد به الحق قبلوه وإن أريد به الباطل ردوه ، وسيأتي بيان ذلك بعد قليل - إن شاء الله تعالى - ، فهذا هو مجمل اعتقادهم  في الصفات ، والله أعلم .
*  *  *
    س183: ما معنى قول أهل السنة : ( من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ) ؟ وضح ذلك بالتقسيم والتمثيل .
    ج183: هذه المصطلحات الأربعة مهمة جدًا في سياق مذهب أهل السنة في الأسماء والصفات ، ودونك شرحها :
    الأول : التحريف ، وهو لغة : التغيير . واصطلاحًا : تغيير النص لفظًا أو دلالة . ونعني بالدلالة المعنى ، وبه يتضح أن التحريف قسمان : تحريف للفظ النص بأن يزاد فيه أو ينقص منه أو تغير حركته ، وقد يتغير معه المعنى وقد لا يتغير ، وتحريف لمعنى النص ، وهو تحريف دلالة النص ، بأن يبقى اللفظ على ما هو عليه ، ولكن تسلب دلالته الصحيحة ويقحم فيه معنى لا يدل عليه ، ودونك الأمثلة :
    مثال تحريف اللفظ الذي تغير معه المعنى ، تحريف اليهود لقوله تعالى :  وقولوا حطة  أي حط عنا ذنوبنا ، فحرفوه وقالوا : ( حنطة ) فزادوا هذه النون ، فهذه النون حرفت النص لفظًا ومعنى ، ويسميها العلماء نون اليهود .
    ومثال آخر : تحريف الجهمية لقوله تعالى :  ثم استوى على العرش  فحرفوه إلى قولهم : ( استولى ) فزادوا فيه اللام ، وبها يكون قد تغير النص لفظًا ومعنى ، ويسميها العلماء لام الجهمية ، وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم في النونية :
في وحي العرش زائدتان
        نون اليهود ولام جهمي هما

    ومثال آخر : في قوله تعالى :  وكلم اللـهُ موسـى تكليمًا  فحرفه بعضهم بنصب لفظ الجلالة الاسم الأحسن ، وذلك لنفي صفة الكلام عن الله تعالى ، ولما جاء بعضهم إلى أبي عمرو بن العلاء المقرئ المعروف واقترح عليه قراءة هذه الآية كذلك أي بنصب لفظ الجلالة قال له : هب أنني وافقتك فيكف تفعل بقوله تعالى :  ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه  فسقط في يديه وبهت ذلكم المعتزلي .
    وأما مثال تحريف اللفظ الذي لم يتغير معه المعنى ، فكنصب لفظ ( الحمد ) في قوله تعالى :  الحمدُ لله رب العالمين  .
    وأما مثال تعريف المعنى ، فكتحريف الأشاعرة والمعتزلة والجهمية لصفات الله تعالى ، مثل قولهم : المراد باليدين النعمة أو القدرة والمراد بالنـزول إلى السماء الدنيا نزول الملك أو الأمراء أو الرحمة ، ونحو ذلك كما سيأتي مفصلاً - إن شاء الله تعالى - .
    والتحريف حرام وقد يصل بصاحبه في بعض صوره إلى الكفر .
    الثاني : التعطيل ، وهو لغة : الإخلاء والتفريغ ومنه قوله تعالى :  وبئر معطلة  أي لا وراد لها لحلول العذاب بأهلها ، ومنه قول العرب : (( جيد معطل )) أي خلي من الحلي .
    واصطلاحًا : إخلاء الله تعالى عن أسمائه وصفاته إخلاءً كليًا أو جزئيًا ، وبه يتضح أن التعطيل قسمان أيضًا : تعطيل كلي ، كتعطيل الجهمية أتباع الجهم بن صفوان الترمذي فإنهم عطلوا الله تعالى عن أسمائه وصفاته كلها . وتعطيل جزئي ، كتعطيل المعتزلة أتباع واصل بن عطاء والأشاعرة أتباع أبي الحسن الأشعري ، فإن المعتزلة عطلوا الله تعالى عن كل صفاته فقط ، وأما الأشاعرة فعطلوه عن ما سوى الصفات السبع ، وقد أثبت الفريقان - أي المعتزلة والأشاعرة - الأسماء وزادت الأشاعرة بإثبات الصفات السبع .
    والتعطيل حرام وقد يصل بصاحبه في بعض صوره إلى الكفر .
    الثالث : التكييف ، وهو حكاية كيفية الصفة أي أن يقال : كيفية يد الله كذا وكذا ، وكيفية وجه الله كذا وكذا ، وهو حرام وقد يصل بصاحبه في بعض صوره إلى الكفر .
    الرابع : التمثيل ، وهو إثبات مماثل ، كأن يقال : يد الله مثل أيدينا أ وجه الله مثل وجوهنا ، وهو حرام وقد يصل بصاحبه إلى الكفر .
    فهذا هو معنى هذه المصطلحات الأربعة .
    وخلاصة الكلام أن يقال : إن إثبات أهل السنة للصفات والأسماء لا تمثيل ولا تكييف فيه وتنزيههم لا تعطيل ولا تحريف فيه ، فإثباتهم ونفيهم بريء من هذه الآفات الأربع ، والله أعلم .
*  *  *
    س184: ما الفرق بين التكييف والتمثيل ؟
    ج184: أقول : التكييف والتمثيل بينهما عموم وخصوص من وجه ، فكل تمثيل فهو تكييف ، وليس كل تكييف تمثيلاً .
    أي أنك إذا حكيت كيفية صفةٍ من صفات الله تعالى - أعاذنا الله من ذلك - فلا يخلوا إما أن تقرنها بشيء مشاهد محسوس ، فهذا هو التكييف والتمثيل ، تكييف لأنك تحكي الكيفية وتمثيل لأنك قرنتها بمماثل ، وأما إذا حكيت الكيفية ولم تقرنها بمماثل مشاهد معروف لنا فإن هذا تكييف فقط ، فصح بذلك قولنا : كل تمثيل فهو تكييف ، وليس كل تكييف تمثيلاً .
    وإن شئت الاختصار فقل : التكييف : حكاية كيفية الصفة من غير قرنٍ بمماثل ، والتمثيل : حكاية كيفية الصفة مع قرنها بمماثل ، والله يتولانا وإياك .
*  *  *
    س185: هل الأفضل أن نقول : ( من غير تمثيل ) أم نقول : ( من غير تشبيه ) ؟ ولماذا ؟
    ج185: بل الأفضل هو أن نقول : ( من غير تمثيل ) وذلك لأمرين :
    الأول : أن هذا هو المتوافق مع لفظ القرآن ، فإن الله تعالى قال :  ليس كمثله شيء  ، وقد تقرر أن متابعة ألفاظ النصوص في أبواب الاعتقاد وأخص منه في باب الأسماء والصفات أسلم وأبعد عن الاختلاف والتناقض وهو من كمال المتابعة .
    الثاني : أن نفي التشبيه لا يخلو إما أن يراد به نفي التشبيه المطلق فهذا لم يقل به أحد من بني آدم ، وإما أن يكون نفي مطلق التشبيه وهذا ممتنع إذ ما من شيئين موجودين إلا وبينهما نوع اشتباه ، وذلك في الاسم المطلق عن الإضافة ونعني به مسمى الوجود ن ونفي هذا القدر حقيقته نفي الصفة ، فصار الأسلم هو التعبير بما جاء في القرآن ، والله تعالى أعلى وأعلم .
*  *  *
    س186: ما معنى قول أهل السنة في النفي : ( مع إثبات كمال الضد ) ؟
    ج186: معناه أن تعرف أن أهل السنة - رحمهم الله تعالى - لهم في النفي نقطتان :
    الأولى : أنهم ينفون هذه الصفة المنفية كصفة الظلم مثلاً .
    الثانية : أنهم لا يقفون عند هذا النفي فقط ، بل يعتقدون أن الله تعالى لم ينف عنه هذه الصفة إلا لأنه متصف بكمال ضدها ، فنفى عن نفسه الظلم لكمال عدله ، ونفى عن نفسه الصاحبة والولد لكمال غناه عن كل أحد ، ونفى عن نفسه السنة والنوم لكمال حياته وقيوميته ، ونفى عن نفسه العجز واللغوب لكمال قوته وقدرته ، ونفى عن نفسه أن يحاط به علمًا ورؤية لكمال عظمته وكبره وجلاله وعزته جل وعلا .
    فهذا معنى قول أهل السنة : ( مع إثبات كمال الضد ) ، أي كمال ضد الصفة المنفية ، فالظلم ضده العدل ، فانف الظلم وصِفْهُ بكمال العدل ، والعجز ضده القدرة ، فانف العجز وصِفْهُ بكمال القدرة ، وهكذا والله أعلم .
*  *  *
    س187: ما الفرق التي خالفت أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات ؟ مع توضيح وسطية أهل السنة في هذا الباب .
    ج187: الفرق التي خالفت أهل السنة - رحمهم الله تعالى - في هذا الباب فرقتان : الممثلة والمعطلة .
    فأما الممثلة فقالوا : نحن نثبت لله الأسماء والصفات ، وهذا حق وصدق ولا ريب فيه ، ويا ليتهم وقفوا عند ذلك ، لكن أفسدوه بقولهم : على وجهٍ يماثل صفات المخلوقات المحدثات ، أي هم يقولون : إثباتنا بتمثيل .
    وأما المعطلة فقالوا : نحن ننزه الله تعالى عن مماثلة المخلوقات المحدثات ، وهذا حق وصدق لا ريب فيه ، ويا ليتهم وقفوا عند ذلك ، ولكن أفسدوه بقولهم : تنزيهًا ننفي معه الأسماء والصفات ، بتفاوتٍ بينهم في هذا النفي ، أي هم يقولون : تنزيهنا بتعطيل .
    فأنت ترى أن الممثلة قد غلوا في جانب الإثبات حتى مثلوا وفرطوا في جانب التنزيه ، والمعطلة غلوا في جانب التنزيه حتى عطلوا وفرطوا في جانب الإثبات ، وأما أهل السنة الموفقون المهديون أهل الحديث والأثر فلا غلو عندهم ولا تفريط ، بل هي الوسطية التي هي عادتهم في كل أبواب الاعتقاد ، وإذا أردت أن تعرف وسطيتهم .
    فانظر إلى الحق الذي مع كلا الطائفتين فإنه خلاصة منهج السلف في هذا الباب ، فالحق الذي مع الممثلة هو إثبات الأسماء والصفات ، والحق الذي مع المعطلة هو تنزيه الله عن مماثلة المخلوقات ، وهذا هو مذهبنا إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل .
    فقولهم : إثبات بلا تمثيل رد على الممثلة لأن إثباتهم بتمثيل ، وقولهم : تنزيه بلا تعطيل رد على المعطلة لأن تنزيههم بتعطيل ، وهذا هو معنى قوله تعالى :  ليس كمثله شيء  ، رد على أهل التمثيل ، وقوله :  وهو السميع البصير  رد على أهل التعطيل ، فالممثلة أخذوا بالأدلة المثبتة للأسماء والصفات وتركوا الأدلة التي تنفي مماثلة الله تعالى للمخلوقات ، والمعطلة عكسوا الأمر فأخذوا بالأدلة التي تنفي مماثلة الله تعالى للمخلوقات وتركوا الأدلة التي فيها إثبات الأسماء والصفات ، فكلا الفريقين قد أخذ بطرفٍ من الأدلة وترك الآخر ، وأما أهل السنة - رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى - فإنهم أخذوا بكل الأدلة ، وهذا هو حقيقة الوسطية ، والله أعلى وأعلم .
*  *  *
    س188: ما السبب في ضلال هاتين الفرقتين حتى نحذر الوقوع فيه ؟
    ج188: أقول : هذا سؤال جيد ، وبيانه أن يقال :
    اعلم - رحمك الله تعالى - أن الممثل والمعطل كانوا في بداية الأمر أخوين متحابين متآلفين متوافقين كل الموافقة ، هذان الأخوان قد أصلوا أصلاً وقعدوا قاعدة ورثوها من آبائهم فلاسفة اليونان ، وفلاسفة اليونان قد أخذوها هدية من أبيهم إبليس - لعنه الله تعالى - ، ونص هذه القاعدة يقول: (الاتفاق في الأسماء يلزم منه الاتفاق في الصفات)، أي أن كل شيئين اتفقا في اسمهما فلابد لزامًا أن يتفقا في صفاتهما ، إلى هنا وهما - أي المعطل والممثل أخوان - .
    ومن المعلوم أن الله تعالى قد سمى صفاته بأسماء كأسماء صفاتنا ، فلما ظهرت نتيجة هذه القاعدة ، افترقوا واختلفوا لأن الممثل رضي بهذه النتيجة فوقع في التمثيل ، والمعطل أباها وحاص ولاص لأنه لا يستطيع أن يغيرها أو يزيد فيها أو ينقص ، فلم يجد مساغًا إلا تعطيل الله تعالى عن أسمائه وصفاته فرارً من محذور التمثيل .
    فسبب تمثيل الممثلة هو قولهم : الاتفاق في الأسماء يستلزم الاتفاق في الصفات ، وسبب تعطيل المعطلة هو الفرار من نتيجة هذه القاعدة ، فهي معتمدة عندهم ولم يتجرءوا على مساسها بشيء ، لكنهم قدروا على تحريف كلام الله ورسوله  ليتوافق مع هذه القاعدة ، فهذه القاعدة هي سبب ضلالهم ، فاستعذ بالله من سبيلهم وتمسك بحبل الله ، واتبع الهدى والتزم بالمنهج السليم والصراط المستقيم ، والله أعلم .
*  *  *
    س189: ما صواب هذه القاعدة عند أهل السنة ؟ وكيف أجابوا - رحمهم الله تعالى - عن قاعدة المبتدعة التي قدمتها قبل قليل ؟
    ج189: أهل السنة - رحمهم الله تعالى - صححوا هذه القاعدة بزيادة حرف فيها ، وبه يكون المعنى صحيحًا سليمًا متوافقًا مع الكتاب والسنة وهو حرف ( لا ) فصار نص القاعدة هكذا : (( الاتفاق في الأسماء لا يستلزم الاتفاق في الصفات )) ، فانظر كيف تغير المعنى من البطلان إلى الصحة ومن الخطأ إلى الرشاد ، بزيادة هذا الحرف ، فالقاعدة بدون هذا الحرف باطلة كل البطلان ، وهي بهذا الحرف صحيحة كل الصحة ، وقد شرحتها في كتابي ( القواعد المذاعة ) .
    وأما جواب أهل السنة - رحمهم الله تعالى - على ما أصله الممثلة والمعطلة فقد أجابوا بأن قاعدتهم التي أصلوها مناقضة للمنقول والمعقول والمحسوس .
    فأما مناقضتها للمنقول : فلأن الله تعالى في الكتاب يسمي نفسه بأسماء ويصف نفسه بصفات ويسمي بعض عباده بهذه الأسماء ويصفهم بهذه الصفات ، ومن المعلوم أنه ليس المسمى كالمسمى وليس الموصوف كالموصوف ، فقال تعالى :  إن الله كان سميعًا بصيرًا  ، وقال :  إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعًا بصيرًا  ، وليس السميع كالسميع ، ولا البصير كالبصير .
    وقال تعالى عن نفسه :  إنه بهم رءوف رحيم  ، وقال عن نبيه  :  عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم  ، وليس الرءوف كالرءوف ولا الرحيم كالرحيم .
    وقال تعالى :  إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين  ، وقال تعالى عن قوم ملكة سبأ :  قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأسٍ شديد  ، وليست القوة كالقوة .
    وقال تعالى :  الله لا إله إلا الله الحي القيوم  ، وقال تعالى :  والسلام عليَّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيًّا  وليس الحي كالحي ولا الحياة كالحياة .
    والآيات في ذلك كثيرة جدًا ، قد ذكر الكثير منها أبو العباس في التدمرية ، فهذا وجه .
    ووجه آخر وهو أن الله تعالى أثبت لنفسه الأسماء والصفات ، بل هي أكثر ما في القرآن ، ومع ذلك قال :  ليس كمثله شيء  ، وقال :  ولم يكن له كفوًا أحد  ، وقال :  هل تعلم له سميًا  ، وقال :  فلا تضربوا لله الأمثال  ، وقال :  فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون  ، فبان بذلك أن هذه الأسماء والصفات التي ذكرها عن نفسه ليست كالمعهود لنا في صفاتنا وقاعدتهم الملعونة تقضي أنها كالمعهود لنا في صفاتنا ، فصارت مناقضة للقرآن وما ناقض القرآن أو خالفه فهو باطل .
    وأما مخالفتها ومناقضتها للمعقول : فلأنه قد تقرر في العقول السليمة أن الصفة تختلف باختلاف من أضيفت إليه ، فيد زيد ليست كيد خالد لأنه اختلف المضاف إليها ، فاليد الأولى أضيفت إلى زيد واليد الثانية أضيفت إلى خالد ، ولا يمكن في المعقول أبدًا أن تختلف الإضافة وتتحد الصفة من كل وجهٍ ، إذا علمت هذا فاعلم أن الصفات التي يذكرها الله في القرآن لا يذكرها مطلقة ، بل يذكرها مضافة إليه جل وعلا ، كقوله :  ويبقى وجه ربك  ، وقوله :  بل يداه مبسوطتان  ، وقوله :  ولتصنع على عيني  ، وقوله :  ورحمتي وسعت كل شيء  ، وغير ذلك .
    ويقال أيضًا : وجه زيد ، ويد زيد ، وعين زيد ، ورحمة زيد ، فاختلفت الإضافتان هنا ، فالوجه واليد والعين والرحمة في الآيات قد أضيفت إلى الله تعالى ، فتكون لائقة بذاته الكاملة من كل وجه ، وفي الأمثلة قد أضيفت إلى زيد وهو مخلوق فتكون مناسبة لحاله وبه يتقرر عقلاً أن المعاني والأوصاف تختلف باختلاف من أضيفت إليه ، فإن أضيفت إلى الخالق صارت لائقة به جل وعلا ، وإن أضيفت إلى المخلوق صارت مناسبة لذاته .
    وأما مخالفتها للحس : فإننا نجد فيما نشاهده أن هناك أشياء قد اتفقت في أسمائها واختلفت في صفاتها ، فنحن نرى أن للفيل يدًا ، للذباب يد ، ولا توافق بينها في شيء من الصفات ، وللجمل وجه وللبعوضة وجه ، ولا توافق بينها في شيء من الصفات ، بل نحن نشاهد أن للقرد وجهًا وللمثل وجهًا فهل هذا الاتفاق في الاسم يلزم منه الاتفاق في الصفات ؟ بالطبع لا ، وأظنهم لا يخالفون في هذا على وجه الخصوص ، فإذا كان هذا الاتفاق في الاسم لا يلزم منه الاتفاق في الصفة فيما بين المخلوقات ، أفيكون ذلك لازمًا فيما بين الخالق الكامل من كل الوجوه والمخلوق الناقض في ذاته وصفاته وأفعاله ؟ أين العقول ؟ ما الذي دهى هؤلاء القوم ؟ أفيزعمون بعد ذلك أنهم أهل الحذلقة والفذلكة ، بل والله الذي لا إله إلا هو إنهم قد بلغوا في الغباء درجته العليا ، فتبًا لهم ثم تبًا لهم .
    فهذا هو جواب أهل السنة على ما أصله حمقى الكلام في باب الأسماء والصفات .
*  *  *
    س190: هل لك أن تزيدنا أمثلة على أن الاتفاق في الأسماء لا يستلزم الاتفاق في الصفات ؟
    ج190: نعم ، وعلى العين والرأس ، وإني لا أجد مثالاً أحسن ولا أقرب إلى الفهم من المثالين اللذين ضربهما أبو العباس شيخ الإسلام رفع الله نزله وأعلى مناره وجمعنا به وبسائر المسلمين في جناتٍ ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، فإنه قد ضرب في كتابه التدمرية مثالين يوضح بهما أن الاتفاق في الأسماء لا يستلزم أبدًا الاتفاق في الصفات ، وهما كما يلي :
    المثال الأول : نعيم الجنة ، فإن الله تعالى لما ذكر نعيم الجنة سماه بأسماء توافق أسماء ما عندنا من النعيم في الدنيا ، فذكر أن في الجنة نخلاً ورمانًا وفاكهة ونساءً وأنهارًا وعسلاً ولبنًا وخمرًا وآنية وكؤوسًا وماءً وظلاً وفرشًا وحريرًا وثيابًا وذهبًا وفضة وزنجبيلاً وخيامًا وكافورًا وعيونًا وغير ذلك من أصناف النعيم ، وإذا نظرت إلى هذه الأسماء وجدتها بعينها أسماء النعيم عندنا في الدنيا ، لكن هذا الاتفاق في الاسم لا يستلزم أبدًا الاتفاق في المسمى ، كما قال تعالى في الحديث القدسي : (( أعددت لعبادي الصالحون ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر )) ، وقال قبل ذلك في القرآن :  فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون  .
    وقال ابن عباس  : (( ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء )) .
    وإذا كانت تلك الحقائق التي أخبر الله عنها أنها من نعيم الجنة هي موافقة في الأسماء للحقائق الموجودة عندنا من نعيم الدنيا ، وليست مماثلة لها بل بينهما من التباين ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، فالخالق سبحانه وتعالى أعظم مباينة للمخلوقات من مباينة المخلوق للمخلوق ، وهذا مثال واضح - إن شاء الله تعالى - ، والله أعلم .
    المثال الثاني : الروح التي بين جنيك ، فإن الأدلة قد وصفتها بصفات معلومة عندنا ، فوصفت بأنها تقبض وتطرح وتكفن ويصعد بها وتنزل وتذهب وتجيء ونحو ذلك من الصفات ، والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها ، ولذلك اضطربت أقوال الناس فيها ، فإذا كانت الروح متصفة بهذه الصفات مع عدم مماثلتها لما يشاهد من المخلوقات فالخالق أولى بمباينته لمخلوقاته مع اتصافه بما يستحقه من الأسماء والصفات ، والله أعلم .
*  *  *
    س191: ما العلاقة بين الممثل والمعطل ؟
    ج191: العلاقة بينهما علاقة تضمن وتلازم وبيانها أن يقال : إن الممثل لابد أن يكون معطلاً ، والمعطل لابد أن يكون ممثلاً ، فكل ممثل معطل وكل معطل ممثل .
    فأما تمثيل المعطل فمن وجوه :
    أحدها : أنه لم يصل إلى درجة التعطيل إلا بعد أن صعد درجة التمثيل ، فمثلاً أولاً وعطل ثانيًا ، وذلك لأنه قد قام في ذهنه أنه لو أثبت لله الصفات لاستلزم ذلك مماثلة الله بالمخلوقات ، فقال : لابد إذًا من تعطيل الله عن صفاته فرارًا من الوقوع في التمثيل ، فالتمثيل هو السبب الذي أوقعه في التعطيل .
    الثاني : أنه لما عطل الله عن أسمائه وصفاته فإنه يكون بذلك قد شبه الله بالمعدومات التي لا توصف بوصف ، بل إن لازم مذهب غلاة الغلاة من الجهمية الذين يسلبون عن الله النقيضين وصف الله تعالى بالممتنعات ، فالمعطل ممثل من هذين الوجهين .
    وأما تعطيل الممثل فمن وجوه :
    الأول : أنه عطل النص الذي يثبت هذه الصفة التي مثلها بصفة خلقه ، فقد عطل النص الخاص ، فعطل النصوص المثبتة بصفة الوجه عن كمالها الواجب وما يراد بها وعطل نصوص إثبات اليد والتي تثبت العين والتي تثبت الاستواء والتي تثبت النزول الغضب والرحمة والرضى ونحو ذلك ، لأنه يعتقد في كل نصٍ منها مماثلة الله بخلقه وهذه النصوص لا يراد بها ذلك فيكون بهذا الاعتقاد الفاسد قد عطلها عن المراد الصحيح لها .
    الثاني : أنه عطل النصوص العامة التي تنفي المماثلة بين الخالق والمخلوق ، كقوله تعالى :  ليس كمثله شيء  ، وقوله:  هل تعلم له سميًا  ، وقوله:  فلا تضربوا لله الأمثال  ، وقوله :  ولم يكن له كفوًا أحد  ، وغير ذلك لأنها تنفي المماثلة وهو يعتقد المماثلة فيكون قد عطلها عن معناها الصحيح ، فالويل له ثم الويل له ؛ لأنه جنى على دلالة النصوص الخاصة والنصوص العامة ، والله أعلم .
    الثالث : أنه باعتقاده مماثلة الله لخلقه يكون بذلك قد عطل الله عن كماله الواجب له جل وعلا ؛ لأن تمثيل الكامل بالنقاض ينقص الكامل ، والواجب أن يوصف الله تعالى بالكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله ، وإذا اعتقد أن صفاته جل وعلا كصفات خلقه فيكون بذلك قد عطل عن هذا الكمال الواجب .
    فهذا وجه العلاقة بين الممثل والمعطل ، والله يحفظنا وإياك من الأهواء المضلة والمذاهب المخالفة للكتاب والسنة ، والله أعلم .
*  *  *
    س192: على أي وجهٍ يثبت أهل السنة الصفات ؟ وعلى أي وجه ينفون ؟ مع بيان ذلك بالدليل والتعلل .
    ج192: أقول : جواب هذا السؤال هو أن تحفظ هذه القاعدة العظيمة المهمة والتي تقول : أهل السنة والجماعة يثبتون لله الصفات على وجه التفصيل وينفون عنه صفات النقص على وجه الإجمال ، وهذه القاعدة أغلبية أكثرية لا كلية ، فإذا جاء أهل السنة - رحمهم الله تعالى - يثبتون لله صفات الكمال فإنهم يسلكون فيها مسلك التفصيل وإذا جاءوا ينفون عنه صفات النقص فإنهم يسلكون فيها مسلك الإجمال ، وهذه الطريقة هي الأسلم والأعلم والأحكم ، وذلك لأنها هي طريقة القرآن والسنة فإن القرآن فصل في الإثبات وأجمل في النفي والأمثلة على ذلك كثيرة ، كقوله تعالى :  هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ...  الآية ، وقد ختم كثير من الآيات باسمين أو أكثر من أسمائه جل وعلا ، وأما في النفي فإن القرآن يجمل كقوله تعالى :  ليس كمثله شيء  ، وقوله :  ولم يكن له كفوًا أحد  ، وقوله :  هل تعلم له سميًا  ، وقوله :  فلا تضربوا لله الأمثال  ، وغير ذلك ، ومنهج السلف في ذلك يمثل صورة من صور موافقتهم للكتاب والسنة .
    ويقال أيضًا : إن هذا القرآن نزل باللسان العربي المبين حاملاً أساليب اللغة العربية في إطلاقها وتقييدها وإسهابها واختصارها وعمومها وخصوصها وإجمالها وتبيينها ، ومن أساليب العرب أنهم إذا أبلغوا في مدحة أحدٍ من الملوك والعظماء فصلوا في الإثبات فيثبتون له من صفات الكمال على وجه التفصيل ما استطاعوا ، ويجملون في نفي النقص عنه وهذا أبلغ في المدح والحمد والثناء والتعظيم ، والله أحق بذلك لأنه ملك الملوك وخالق الخلائق والأمر كله بيده ، ورب كل شيء وإلهه ومدبر أموره ، فمنهج أهل السنة في ذلك جارٍ على سنن سلوك الأدب مع الله تعالى ومتوافق كل الموافقة مع المتقرر في لغة العرب .
    ويقال أيضًا : إن هذه الطريقة هي طريقة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ، فلاشك في سلامتها وصحتها ، ونحن عليها سائرون وللسلف مقتفون إلى الممات - إن شاء الله تعالى - ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، ونعوذ بالله من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن ، والله أعلم .
*  *  *
    س193: هل لك أن توضح لنا قولك في سياق مذهب أهل السنة في النقطة الثالثة حيث قلت : ( مذهبهم فيما لم يرد فيه دليل بخصوصه ) ، فهل وضحت لنا ذلك مع بيان كلامك بالأمثلة ؟
    ج193: أقول : نعم ، هذا لا منة لي فيه أبدًا ، بل المنة كلها أولها وآخرها لله جل وعلا ، ثم لأهل العلم - رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى - .
    فأقول : إن هناك بعض العبارات والألفاظ التي تكلم بها المبتدعة على مختلف فرقهم وجعلوها ديدنهم ، بل وحرفوا كثيرًا من نصوص الصفات من أجل الفرار منها ، مع أننا لا نجد لها ذكرًا في القرآن ولا في السنة ولا في كلام السلف - رحمهم الله تعالى - فمع كثرة تلفظ المبتدعة بها وإلزامهم لأهل السنة بلوازمها ، ومع خوف أهل السنة بلوازمها ، ومع خوف أهل السنة من انسياق العوام وراء هذه الألفاظ حرصوا - رحمهم الله تعالى - أن يبرزوا مذهبهم فيها ، فقالوا : ما لم يرد في الكتاب ولا في السنة نفيه ولا إثباته من الصفات ، فلنا فيه نظران : نظر من ناحية لفظه ، ونظر من ناحية معناه .
    فأما لفظه : فإننا نتوقف فيه فلا نثبته ولا ننفيه ولا نتكلم به أبدًا في إثبات ولا نفي لأنه لم يرد في القرآن ولا في السنة ولا على لسان السلف - رحمهم الله تعالى - ، وأما معناه فإننا نستفصل فيه لأن هذه الألفاظ مجملة تحتمل الحق والباطل فلا يقبل معناها مطلقًا ، فيؤدي ذلك إلى قبول ما فيها من الباطل ، ولا ترد معانيها مطلقًا فيؤدي ذلك إلى رد ما فيها من الحق ، ولكن الأسلم في ذلك أن نستفصل فيها حتى يتميز حقها من باطلها فيقبل الحق ويرد الباطل ، وعلى ذلك بعض الأمثلة :
    المثال الأول : الجهة ، فإن هذا اللفظ بعينه لم يرد ذكره في القرآن ولا في السنة ولا في كلام السلف ، فلنا فيه نظران : أما لفظه فلا نتكلم به ، بل نتوقف فلا نثبته ولا ننفيه . وأما معناه فنستفصل فيه ونقول : هل تريد بالجهة جهة سفل ، فإن كنت تريد هذا فهو مردود عليك ؛ لأن الله تعالى لا يحيط به شيء ، أم تريد جهة علو غير محيطة به جل وعلا ، فإن كنت تريد هذا المعنى الأخير فهو حق وصدق وقد توافرت الدلائل المتواترة لفظًا ومعنى على إثباته كما سيأتي - إن شاء الله تعالى - ، لكن هذا المعنى الأخير لا نسميه جهة وإنما نقول : الله في العلو المطلق .
    المثال الثاني : المكان ، فإن هذا اللفظ لم يرد ذكره بعينه لا في القرآن ولا في السنة ولا في كلام الصحابة والتابعين ، فلنا فيه نظران : أما من ناحية لفظه فلا نتكلم به ، بل نتوقف فيه فلا نثبته ولا ننفيه ، أي لا نقول : الله في مكان ، ولا نقول : الله ليس في مكان . وأما معناه فنستفصل فيه ونقول : هل تقصد بالمكان مكان سفل ؟ فإن كنت تقصد هذا فهو ممتنع على الله تعالى ؛ لأن السفل نقص ، والله منزه عن النقص ، أم تقصد مكان علو محيط بالله جل وعلا ؟ فإن كنت تقصد هذا فهو أيضًا باطل وممتنع عليه جل وعلا ؛ لأنه لا يحيط به شيء عز وجل ، أم تريد مكان علوٍ لائق به جل وعلا غير محيط به ؟ فإن كنت تريد هذا فهو حق وصدق ، ولكن لا نطلق عليه اسم المكان ، وإنما نقول : الرحمن على العرش استوى ، وقل بقول أهل السنة : الله فوق سماواته مستوٍ على عرشه استواءً يليق بجلاله وعظمته .
    المثال الثالث : الحيز ، لفظ تكلم به المبتدعة وامتحنوا عباد الله به وحرفوا نصوص الكتاب والسنة من أجله ، فقال أهل السنة : إن هذا اللفظ لفظ محدث لم يرد في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام الصحابة والسلف الصالح ، فلنا فيه نظران : أما لفظه فلا نتكلم فيه ، بل نتوقف فيه فلا نثبته ولا ننفيه ، فلا نقول : الله في حيز ولا نقول الله ليس في حيز ، وأما معناه فنستفصل فيه ونقول : هل تريد بالحيز أي الذي يحوز الأشياء أو تحوزه الأشياء ، أي يدخل فيها وتدخل فيه ؟ فإن كنت تريد هذا فهو معنى باطل كل البطلان ، وهو مذهب أهل الحلول والاتحاد الكفرة الفجرة ، أم تريد بالحيز أي المنحاز وهو المنفصل البائن ، أي أن الله منحاز عن المخلوقات بمعنى أنه منفصل عنها بائن منها ليس فيها شيء من ذاته وليس فيه شيء منها ؟ فإن كنت تريد هذا المعنى فهو حق وصدق لا ريب فيه ، وهو الواجب اعتقاده ، ولكن لا نطلق عليه اسم ( الحيز ) ، لأنه لفظ مجمل وإنما نقول : الله فوق سماواته مستوٍ على عرشه بائن من خلقه ليس فيه شيء منهم وليس فيهم شيء منه .
    المثال الرابع : الجسم ، احذر كل الحذر من أن تقول : الله جسم ، أو تقول : الله ليس بجسم ، فلا تثبت اللفظ ولا تنفيه ؛ لأنه لفظ لم يرد إثباته ولا نفيه في القرآن ولا في السنة ولا في كلام الصحابة وتابعيهم وأئمة السلف ، ولا تتكلم به وأعرض عنه ، وأما معناه فنستفصل فيه ونقول : هل تريد بالجسم ما هو معهود في حقنا من كونه أجزاءً وأبعاضًا يفتقر بعضها إلى بعض ؟ فإن كنت تريد فإن هذا نقص ، والله منزه عن النقص ، بل هو عين مذهب أهل التمثيل ، فهذا معنى باطل كل البطلان لأنه مفضٍ إلى تمثيل الله بخلقه ومفضٍ إلى تعطيله عما يجب له من الكمال ، أم تريد بالجسم الذات الكاملة من كل وجه المتصفة بصفات الجلال والكمال والجمال على ما يليق به جل وعلا ؟ فإن كنت تريد ذلك فهذا معنى حق لاشك فيه ولا ريب ، بل هذا من مقتضيات الإيمان بالله تعالى ، ولكن لا نطلق على ذلك لفظ ( الجسم ) وإنما نقول : لله ذات وصفات ، هكذا قال أهل السنة .
    فهذه الأمثلة الأربعة توضح قولنا : (( ما لم يرد فيه دليل بخصوصه فلا نثبت لفظه ولا ننفيه ونستفصل في معناه ، فإن أريد به الحق قبلناه وإن أريد به الباطل رددناه )) ولعل الكلام قد اتضح - إن شاء الله تعالى - ، والله أعلم .
    س194: ما منهج أهل السنة في معاني الصفات وكيفياتها ؟ ولماذا ؟
    ج194: أقول : اعلم - رحمك الله تعالى - أن نصوص الصفات لنا فيها نظران : نظر من ناحية معانيها ، ونظر من ناحية كيفياتها .
    فأما باعتبار معانيها : فإننا نعلم معانيها ولا نجهلها ، ومن نسب أهل السنة إلى الجهل بالمعنى فقد غلط غلطًا عظيمًا عليهم ، بل الجهل بمعانيها هو مذهب المفوضة أهل التجهيل الذين قال عنهم أبو العباس : (( إن قولهم من شر أقوال أهل البدع )) ا.هـ .
    وأما أهل السنة - رحمهم الله تعالى - فإنهم يعلمون معاني نصوص الصفات وذلك لأن هذه النصوص نزلت باللسان العربي المبين كما جاء ذلك في آيات كثيرة فكان الواجب حمل معاني هذه الألفاظ على المتقرر عندنا في هذا اللسان العرب ، ولأن الله تعالى أمرنا بتدبر كتابه وغالبه آيات الصفات ، فكيف يأمرنا بتدبر ما لا يفقه معناه ؟ فلما أمرنا بتدبر ذلك علمنا جزمًا أنه مما يمكن تدبره وتفهمه وتعقله ، وهذا يقضي علينا أن نحمل معاني نصوص الصفات على ما تقرر من المعاني في لساننا العربي ، ولذلك قال أبو عبدالرحمن السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عبدالله بن مسعود وعثمان بن عفان أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي  عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل ، قال : (( فتعلمنا العلم والعمل جميعًا )) .
    وقال ابن اعباس : (( تفسير القرآن على أربعة وجوه : تفسير تعرفه العرب من كلامها ، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل فمن ادعى علمه فهو كاذب )) ا.هـ .
    وقال مجاهد : (( عرضت المصحف على ابن عباس - رضي الله عنهما - من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عنها )) .
    فكيف يقال بعد ذلك أن السلف لم يكونوا يفقهون معاني النصوص وأنهم بمنزلة الأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني ، ألا فشاهت وجوه المبتدعة وخابوا وخسروا .
    وبه يتضح أن السلف يعلمون معاني الصفات ، فيقولون مثلاً : الوجه معناه ما تحصل به المواجهة ، والسمع إدراك المسموعات ، والبصر رؤية الأشياء ، والنزول الانحطاط والتدلي من أعلى إلى أسفل ، والاستواء المعدى بـ ( على ) معناه العلو والاستقرار ، فهذا من ناحية المعنى اللغوي لا إشكال فيه ، بل معناه في غاية الوضوح والبيان .
    وأما باعتبار كيفياتها : فهي التي لا نعلمها ولا سبيل لنا إلى علمها ، وذلك لانعدام طرق العلم بالكيفية ، فإن كيفية الشيء لا تعلم إلا برؤيته نفسه ، أو برؤية مماثل له ، أو بإخبار الصادق عن هذه الكيفية ، وكلها منعدمة في حق كيفية صفات الله تعالى ، فإننا لم نره ولن نراه في هذه الدنيا ، ونسأله جل وعلا أن لا يحرمنا رؤيته في الآخرة ، وليس له نظير أو مثيل حتى يستدل به عليه ، ولم يخبرنا  عن كيفية شيء من صفاته وإنما أخبرنا بالصفة فقط ولم يخبرنا عن كيفية الصفة ، فالواجب هو الوقوف حيث وقف النص لا نتعدى القرآن والحديث ، وإذا أردت أن تحفظ القاعدة في ذلك فهذا نصها : (( أهل السنة والجماعة يعلمون معاني الصفات ويجهلون كيفياتها )) ، والله أعلم .
    فتقول مثلاً : أنا أعلم معنى الوجه وأجهل كيفيته ، وأعلم معنى الاستواء ولكن أجهل كيفيته ، وأعلم معنى اليد وأجهل كيفيتها ، وأعلم معنى النزول وأجهل كيفيته ، وأعلم معنى القدم والرجل والساق وأجهل كيفيتها ، وهكذا والله أعلم .
*  *  *
    س195: كيف الجواب عمن يحتج على أهل السنة بمعرفة المعنى بقول الإمام أحمد : (( نؤمن بآيات الصفات لا كيف ولا معنى )) ، فكيف ينفي المعنى وأنت تقول : ( أهل السنة يعلمون المعنى ) ؟
    ج195: لا إشكال في ذلك ولله الحمد والمنة ، فإن هذا القول الصادر من هذا الإمام لابد من فهمه وإنزاله منزلته وقرنه بأقواله الأخرى .
    فأما قوله : (( لا كيف )) فهذا لا إشكال فيه ولم يسبق الكلام من أجله أصلاً .
    وأما قوله : (( ولا معنى )) فإن هذا المعنى المنفي في كلام هذا الإمام العلم العلامة إمام أهل السنة والجماعة ليس هو المعنى الصحيح الذي يقتضيه لسان العرب وما يتبادر إلى الفهم السليم من المعاني اللائقة به جل وعلا ، كلا وألف كلا ، وإنما يريد نفي المعاني التي ابتكرتها الجهمية النفاة وزعمت أنها معاني نصوص الصفات ، فكلام هذا الإمام معول هدم لمذاهب الجهمية ؛ لأنه نسف لجميع ما يدعونه من المعاني الباطلة التي يقحمونها في النصوص ويزعمون أنها المرادة منها ، فجاء هذا الإمام ونفى هذه المعاني الباطلة ، ولم يتعرض لنفي المعنى الصحيح الذي يفهمه أهل العقول السليمة والفطرة المستقيمة ، كيف وهذا الإمام ممن اشتهر عنه تقرير معرفة السلف لمعاني نصوص الصفات ؟ فرحمه الله رحمة واسعة وأسكنه عالي الجنان هو وسائر علماء أهل السنة .. آمين ، والله أعلم .
*  *  *
    س196: ما منهج أهل السنة والجماعة في الصفات التي هي كمال باعتبار ونقص باعتبار ؟ مع توضيح ذلك بالأمثلة ؟
    ج196: مذهبهم في ذلك هو إثبات هذه الصفات لله تعالى في حال كونها كمالاً ، ونفيها عنه جل وعلا في حال كونها نقصًا ، وذلك لأنه يعتريها نقص وكمال ، فلا تثبت لله الإثبات المطلق لأنها ليست من قبيل الكمال المطلق ، ولا تنفى عن الله النفي المطلق لأنها ليست من قبيل النقص المطلق ، ولكن تثبت لله تعالى في حالٍ دون حال ، والحال التي نثبتها لله تعالى هي حال كمالها ، والحال التي ننفيها عن الله تعالى هي حال نقصها ، هذا هو الجواب من ناحية التنظير ، وأما الأمثلة فدونك بعضها ، فأقول :
    المثال الأول : صفة المكر ، فإنها ليست من الكمال المطلق ولا من النقص المطلق ، بل من الصفات التي هي كمال باعتبار ونقص باعتبار ، فهي نقص باعتبار الابتداء ، أي المكر ابتداءً بمن لا يستحق أن يمكر به فهذا نقص ؛ لأنه ظلم فينزه الله تعالى عن المكر بهذا الاعتبار لأنه تعالى لا يظلم أحدًا وما ربك بظلام للعبيد ، وأما المكر من باب الجزاء والمقابلة ، أي المكر بمن يمكر فهذا كمال ؛ لأنه دليل على كمال القدرة والعلم والحكمة ، فيوصف الله به حينئذ ، أي أن الله تعالى يوصف بالمكر الذي من باب الجزاء والمقابلة لا بالمكر ابتداءً ، ولذلك لا تجدها في القرآن مضافة إلى الله تعالى إلا في الجزاء والمقابلة كقوله تعالى :  ومكروا ومكر الله  ، وقال تعالى :  ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين  ، والله أعلم .
    المثال الثاني : الكيد ، فإنه ليس من الصفات التي هي كمال مطلق ، ولا من الصفات التي هي نقص مطلق ، بل من الصفات التي هي كمال باعتبار ونقص باعتبار ، فنثبت لله حال كمالها وتنفى عن الله حال نقصها ، فالكيد ابتداءً بلا مقتضى ظلم والله منزه عن الظلم ، فلا يوصف الله به ، وأما الكيد من باب الجزاء المقابلة فإنه كمال ؛ لأنه دليل على كمال القدرة والعلم الحكمة ، فيوصف الله تعالى به حينئذٍ لأنه كمال ، فنقول : الكيد ابتداءً نقص لا يوصف الله به ، والكيد جزاءً ومقابلة كمال فيوصف الله به ، ولذلك لا تجدها في القرآن مضافة إلى الله تعالى إلا في باب المقابلة كما قال تعالى :  إنهم يكيدون كيدًا وأكيد كيدًا  .
    المثال الثالث : الاستهزاء ، فهذه الصفة ليست من قبيل الكمال المطلق ، ولا من قبيل النقص المطلق ، ولكنها كمال باعتبار ونقص باعتبار ، فأما الاستهزاء ابتداءً بلا موجب ولا سبب فهو نقص ؛ لأنه اعتداء وظلم ، فلا يوصف الله به حينئذٍ ، وأما الاستهزاء بمن استهزأ بالله أو رسله أو كتبه أو عباده المؤمنين فإنه كمال ؛ لأنه دليل على كمال القدرة والقوة والعلم والحكمة ، فيوصف الله به ، فتقول : لا يوصف الله بالاستهزاء ابتداءً ويوصف به من باب الجزاء والمقابلة ، ولذلك فإنك لا تجدها في القرآن مضافة إلى الله تعالى إلا من باب الجزاء والمقابلة كما في قوله جل ذكره :  إنما نحن مستهزئون . الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون  .
    المثال الرابع : السخرية ، فهذه الصفة لا يوصف الله بها ابتداءً وإنما يوصف بها من باب الجزاء والمقابلة ، كما قال تعالى :  الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم  .
    المثال الخامس : المخادعة ، فهذه الصفة لا يوصف الله بها ابتداءً وإنما يوصف بها من باب الجزاء والمقابلة ، كما في قوله تعالى :  إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم  .
    فهذه بعض الأمثلة ولم أفصل في المثال الرابع والخامس لأن الكلام فيهما كالكلام في فيما قبلها ، ولكن ننبهك على أمر مهم ، وهو أن هذه الصفات التي تثبت لله في حالٍ دون حال يقال فيها حال إثباتها لله جل وعلا ما يقال في سائر الصفات من إثباتها على ما يليق بجلاله وعظمته من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل ، الله أعلم .
*  *  *
    س197: هل يوصف الله تعالى بالنسيان ؟ وضح ذلك بالأدلة .
    ج197: أقول : إن صفة النسيان من الصفات التي هي كمال باعتبار ونقص باعتبار ، وقد تقدم أن منهج أهل السنة في ذلك أنهم يثبتون لله حال كمالها وينفونها عن الله حال نقصها ، وبيان ذلك أن يقال : إن النسيان له في لغة العرب معنيان :
    الأول : النسيان بمعنى الغفلة والذهول عن الشيء ، فهذا نقص لا يوصف الله تعالى به ، وهو النسيان المنفي في قوله تعالى :  وما كان ربك نسيًا  ، وفي قوله تعالى :  لا يضل ربي ولا ينسى  ، ومثاله أن يضع الإنسان متاعه في مكان فيغفل عنه ، بل يكون قلمه في يده وهو يبحث عنه ، فهذا نقص والله منزه عن النقص .
    الثاني : النسيان بمعنى الترك عن علمٍ وقصدٍ جزاءً ومقابلة للمتروك ، فهذا الترك يقال له في لغة العرب نسيان ، وهو كمال فيوصف الله به ، ولذلك لا تجده في القرآن مضافًا إلى الله إلا في الجزاء والمقابلة ، كما في قوله تعالى :  نسوا الله فنسيهم  ، وقوله تعالى :  فذوقوا العذاب بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم  ، وقوله تعالى :  كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى  ، فالنسيان بمعنى الترك عن علم وعمد جزاءً ومقابلة ، ومنه أيضًا قوله في الحديث : (( فإني أنساك اليوم كما نسيتني )) ، وأما النسيان المنفي عن الله تعالى فإنه الذي بمعنى الغفلة والذهول عن الشيء ، فهذا هو تفصيل منهج أهل السنة في هذه المسألة ، والله أعلم .
    س198: هل يوصف الله بالعجب ؟ وضح ذلك بالأدلة .
    ج198: أقول : إن صفة العجب من الصفات التي هي كمال باعتبار ونقص باعتبار ، وقد عرفنا أن منهج أهل السنة في مثل هذه الصفات أنهم يثبتوها لله حال كمالها وينفونها عنه جل وعلا حال نقصها ، وهي تعتبر مثالاً يضاف مع الأمثلة السابقة ، ولكن أفردتها بالذكر ؛ لأن القول فيها يختلف قليلاً ، فأقول :
    اعلم - رحمك الله تعالى - أن العجب له سببان :
    الأول : عجب يكون سببه خفاء الأسباب ، وهو الذي يقول فيه الناس : إذا عرف السبب بطل العجب ، فالموجب للتعجب هو خفاء السبب ومتى ما بان السبب وعلم زال ذلك العجب من أساسه ، كفقير لا يملك شيئًا رأينا معه سيارة فارهة غالية الثمن ، فنحن نتعجب لذلك ، وسبب عجبنا هو خفاء السبب لكن علمنا بعد ذلك أن أحدًا تصدق بها عليه أو أنه سرقها أو أنه اشتراها بأقساط يسيرة يستطيع سدادها ، فإننا بذلك يزول عجبنا لأننا علمنا السبب ، فالعجب بهذا الاعتبار نقص لا يجوز وصف الله تعالى به ؛ لأن مبناه على خفاء السبب ، والله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، ومن صفاته العلم الكامل الشامل لكل شيء ، فليس هناك أشياء تخفى على الله تعالى فيتعجب منها حتى إذا ظهرت له أسبابها زال عجبه كلا والله هذا ما لا يتصور أبدًا ، فسبحان الله وتعالى وتقدس وتعاظم عن أن يوصف بالعجب بهذا الاعتبار .
    الثاني : عجب يكون سببه خروج الشيء عن حكم نظائره ، أي أن يكون هناك نظائر لها حكم واحد فيخرج منها فرد من أفرادها عن حكم نظائره ، فيتعجب من هذا الخروج ، مع أن سبب الخروج معلوم ليس بخافٍ ولكن التعجب من عين هذا الخروج ، فهذا العجب كمال يوصف الله تعالى به ، ودليل ذلك قوله تعالى :  بل عجبتُ ويسخرون  بضم التاء في قراءة سبعية متواترة ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - : (( لقد عجب ربكما بصنيعكما بضيفكما البارحة )) ، وقوله - عليه الصلاة والسلام : (( عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب )) ، ويروى في الحديث : (( يعجب ربك إلى الشاب ليست له صبوة )) ، وغير ذلك من الأدلة ، فالعجب المضاف إلى الله تعالى هنا هو العجب الذي يكون سببه خروج الشيء عن حكم نظائره ، وبهذا التفصيل يتضح الجواب ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة ، وهو أعلى وأعلم .
*  *  *
    س199: كيف الجواب على الأشاعرة الذين لا يثبتون لله تعالى إلا سبع صفات فقط ويحرفون الباقي ؟
    ج199: أقول وبالله التوفيق : اعلم أن من أراد أن يفحم الأشاعرة في زيف ما ذهبوا إليه فعليه أولاً أن يسألهم عن البرهان الذي بسببه أثبتوا هذه السبع ونفوا الباقي ، فيقول : أعطوني دليلاً صحيحًا وفرقانًا صريحًا جعلكم تثبتون هذه الصفات السبع وتنفون الباقي ، فإذا قلت لهم ذلك فاعلم أنهم سيجيبون بجوابين لا ثالث لهما :
    الجواب الأول لهم : سيقولون : إن الصفات التي أثبتناها لا يستلزم ثبوتها له مماثلته بخلقه والصفات التي نفيناها تستلزم مماثلته بخلقه ، فإذا قالوا ذلك فقل لهم : لقد تقرر عند أهل السنة أن باب الصفات باب واحد ، والقول في بعضها كالقول في البعض الآخر ، فما تقولونه في صفةٍ فإنه يلزمكم أن تقولوه في سائر الصفات . فإذا قلتم : إن الصفات التي أثبتناها لا تستلزم مماثلة الله بخلقه ، فهذا القول يلزمكم قوله في سائر الصفات التي نفيتموها فإثباتها أيضًا لا يستلزم مماثلة الله بخلقه . وإذا قلتم : إن الصفات التي نفيناها لم ننفها إلا لأن إثباتها يستلزم مماثلة الله بخلقه ، فهذا القول يلزمكم قوله في هذه الصفات السبع التي أثبتموها ، فإثباتها أيضًا يستلزم مماثلة الله بخلقه ؛ لأن القول في الصفات قول واحد لا يختلف ، فإنكم تنفون الرحمة والوجه والغضب والرضا واليد ، وغيرها بحجة أن المخلوقات تتصف بهذه الصفات ، فلو أثبتناها لله لاستلزم ذلك مماثلته بخلقه ، فنقول : وأنتم تثبتون له العلم والسمع والبصر والكلام والقدرة والحياة والإرادة ، وهي موجودة في المخلوقات أيضًا ، فالمحذور الذي من أجله نفيتم سائر الصفات لازم لكم فيما أثبتموه من هذه الصفات السبع . فإن قالوا : نحن نثبت هذه السبع على الوجه اللائق به جل وعلا الذي لا يقتضي مماثلته فيها بخلقه ، فنقول لهم : قولوا هذا القول فيما نفيتموه من الصفات وأثبتوها على الوجه اللائق بالله تعالى الذي لا يقتضي مماثلته فيها بخلقه . فإن قالوا : الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام فلا يليق وصف الله تعالى به ، فنقول لهم : والإرادة التي تثبتونها هي ميل النفس لجلب منفعة أو دفع مضرة ، وهذا لا يليق بالله جل وعلا . فإن قال : هذا تفسير لإرادة المخلوق ، فنقول : وتفسيرك للغضب أيضًا إنما هو تفسير لغضب المخلوق ، فما كان جوابه دفاعًا عن هذه الصفات السبع التي يثبتها فهو بعينه جوابنا عليه فيما نفاه من الصفات ؛ لأن المتقرر في الشرع أن القول في بعض الصفات كالقول في بعض .
    ويقال أيضًا : إن أخاك المعتزلي ينكر عليك إثباتك لهذه الصفات السبع ؛ لأنه ينفي الصفات كلها ، وهو - أي المعتزلي - يورد على إثباتك لهذه السبع بعض الشبه والإيرادات والإلزامات وأنت لابد أن تجب عن ذلك دفاعًا عن مذهبك في إثبات هذه السبع ، فيأتي أهل السنة ويقولون لك : أيها الأشعري إن ما تجيب به أخاك المعتزلي دفاعًا عن إثباتك لهذه الصفات السبع هو بعينه جوابنا عليك فيما تورده من الشبه في نفيك لباقي الصفات ، وبالجملة فالأشاعرة من أعظم الفرق تناقضًا في باب الصفات ؛ لأنهم يفرقون بين المتماثلات ويجمعون بين المختلفات .
    ويقال له أيضًا : أيها الأشعري : هل أنت تقول إن ذات الله كسائر الذوات؟ فسيقول: لا ، بل له ذات تخصه ليست كالذوات ، فإذا قال ذلك فقل له : فإذا كنت تثبت أن لله ذاتٍ ليست كالذوات فعليك لزامًا أن تقول إن صفاته ليست كالصفات ؛ لأن اختلاف الذوات موجب لاختلاف الصفات ، وقد تقرر عند العقلاء من بني آدم أن القول في الصفات فرع عن القول في الذات ، فإذا كنت تعتقد أن ذات الله تعالى لا تماثل الذوات فاعتقد أن صفات هذه الذات لا تماثل الصفات وإلا وقعت في التناقض والاضطراب الذي لا مخرج له منه .
 
س/200 كم أقسام صفات الله تعالى الثبوتية مع التمثيل وبيان الفرق بينهما  ؟
ج/ أقول : صفات الله تعالى تنقسم إلى قسمين : صفات ذاتية وصفات فعلية ، والصفات الذاتية هي الملازمة للذات لا تنفك عنها أزلاً وأبداً ، وأما الصفات الفعلية فهي المتعلقة بالمشيئة، أي متى ما شاء فعلها ومتى شاء لم يفعلها ، ويمثل للصفات الذاتية : بالوجه والبصر والحياة والوجود والسمع والقدم والساق وغير ذلك ، ويمثل للصفات الفعلية : بالنزول إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر ، والرضى والغضب ونحو ذلك والله أعلم.

س/201 هل أسماء الله تعالى مترادفة أم متباينة ؟
ج/ إن هذا السؤال سؤال مجمل يحتاج إلى تفصيل والقاعدة عند أهل السنة رحمهم الله تعالى في ذلك تقول : أسماء الله تعالى مترادفة من حيث الذات ومتباينة من حيث الصفات ، وبيان ذلك أن يقال : إن التباين يكون بالنظر إلى إن كل اسم  من أسمائه جل وعلا يدل على صفة كمال ليست هي الصفة التي يدل عليها الاسم الآخر، فالقدير يدل على القدرة والسميع يدل على السمع ، فالقدير والسميع متباينان من حيث النظر إلى ما تضمناه من الصفات ، لكنهما اسم لذاتٍ واحدة وهي ذات الباري جل وعلا ، والعزيز يدل على صفة العزة والعلي يدل على صفة العلو والعزة ليست هي العلو ، فالعزيز والعلي من حيث النظر إلى صفاتهما متباينان، ولكنهما اسم لذات الباري جل وعلا وهي واحدة ولا تتعدد، والقوي يدل على صفة القوة ، والعليم يدل على صفة العلم ، والقوة ليست هي العلم فهما من هذا الاعتبار متباينان لكنهما اسم لذات واحدة ، وهكذا ، فأسماء الله تعالى إذا نظرت إلى أنها جميعها تدل على ذات واحدة وهي ذات الباري جل وعلا   نقول : مترادفة، وإذا نظرت إلى ما تضمنته من الصفات فهي متباينة فلا نقول : متباينة مطلقاً ولا مترادفة مطلقاً بل نقول : مترادفة من حيث الذات ومتباينة من حيث الصفات ، وأضرب لك ثلاثة أمثلة ليتضح لك الأمر أكثر فأقول :

المثال الأول : أسماء القرآن ، فإن من أسمائه  الذكر والكتاب والهدى والشفاء ، فهذه الأسماء مترادفة من حيث إنها تدل على ذات واحدة وهي ذات القرآن ، لكن كل منها يدل على صفة لا يدل عليها الاسم الآخر ، فهي باعتبار صفاتها متباينة .

المثال الثاني: أسماء النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه محمد وأحمد والعاقب والحاشر وبني الملحمة وبني الرحمة والمقفي وغير ذلك مما ثبت له من أسماء فهذه الأسماء مترادفة إي متفقة من حيث إنها تدل على ذات واحدة وهي ذات النبي صلى الله عليه وسلم لكن كل أسم منها يدل على صفة لا يدل عليها الاسم الآخر فهي من هذا الاعتبار متباينة.

المثال الثالث: أسماء اليوم الآخر فإن من أسمائه يوم القيامة والصاخة والطامة والقارعة ويوم التغابن والواقعة وغير ذلك ، فهذه الأسماء باعتبار دلالتها على يوم واحد مترادفة ولكن كل أسم منها يحمل صفة لا يحملها الاسم الآخر فهي بهذا الاعتبار متباينة ، وبناءً عليه فنقول : أسماء القرآن مترادفة من حيث الذات متباينة من حيث الصفات ، وأسماء النبي صلى الله عليه وسلم مترادفة من حيث الذات متباينة من حيث الصفات ، وأسماء يوم القيامة مترادفة من حيث الذات متباينة من حيث الصفات ، وكذلك أسماء الله تعالى مترادفة من حيث الذات متباينة من حيث الصفات ، ولعل الجواب قد أتضح والله أعلى وعلم .
 
س/202  ما أنواع الإضافة إلى الله تعالى ؟ وما القاعدة في ذلك ؟ مع توضيح الإجابة بالأمثلة ؟ ولماذا قال أهل السنة ذلك وحرصوا على بيانه ؟
ج/ أقول : أن الأشياء التي يضيفها الله تعالى إليه نوعان :

الأول : إضافة  أشياء لا يتصور قيامها بذاتها بل لا يتصور قيامها إلا بغيرها ، فهذه الإضافة إضافة صفة إلى موصوف ، وذلك كإضافة الوجه في قوله تعالى ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ) (الرحمن:27)  فالوجه عين لا يمكن قيامه إلا بغيره ، فهو إضافة صفة إلى موصوف فنقول : من صفاته جل وعلا أن له وجهاً لائقاً بجلاله وعظمته . ومن ذلك إضافة اليدين في قوله تعالى ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) (المائدة: من الآية64) فاليد لا يتصور قيامها إلا بغيرها فهي إضافة صفة إلى موصوف فنقول : من صفاته جل وعلا اليدان ، فله يدان كريمتان لائقتان بجلاله وعظمته . ومن ذلك إضافة العين في قوله تعالى           ( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طـه: من الآية39) والعين من الأشياء التي لا تقوم إلا بغيرها فهي إضافة صفة إلى موصوف فنقول : من صفاته جل وعلا أن له عينين تليقان بجلاله وعظمته ومن ذلك قوله تعالى ( فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ) (التوبة: من الآية6)  وقوله ( إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي ) (لأعراف: من الآية144) فالكلام شيء لا يقوم بذاته بل لا يقوم إلا بغيره فهو إضافة صفة إلى موصوف فنقول : من صفاته جل وعلا الكلام اللائق به جل وعلا ، ومن ذلك قوله تعالى ( وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ      هَوَى ) (طـه: من الآية81) } فالغضب لا يقوم بذاته بل لا يقوم إلا بغيره فهو إضافة صفةٍ على موصوف فيقول : من صفاته جل وعلا أن له غضباً يليق بجلاله وعظمته ، وهكذا .

الثاني : إضافة أعيان قائمة بذاتها أي بنفسها منفصلة عن الله كل الانفصال ، فهذه إضافة تشريف أو إضافة خلق أو إضافة عابدٍ إلى معبوده  كقوله تعالى (هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ            آيَةً ) (لأعراف: من الآية73) والناقة عين قائمة بذاتها منفصلة عن الله كل الانفصال فهي إضافة تشريف وتكريم ، وكقوله تعالى ( أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ) (البقرة: من الآية125) والبيت أي المسجد الحرام عين قائمة بنفسها منفصلة عن الله كل الانفصال فهو إضافة تشريف وتكريم  ، وكقوله تعالى ( وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ ) (الأحزاب: من الآية40) والرسول صلى الله عليه وسلم عين قائمه بذاتها منفصلة عن الله تعالى كل الانفصال فهي إضافة تشريف وتكريم ، وكقوله تعالى ( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً) (مريم: من الآية17) وجبريل عليه الصلاة والسلام عين قائمة بذاتها منفصلة عن الله تعالى كل الانفصال فهي إضافة تشريف وتكريم ، وكقوله تعالى ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ   هَوْناً ) (الفرقان: من الآية63) وهؤلاء العباد أعيان قائمه بنفسها منفصلة عن الله كل الانفصال فهي إضافة تشريف وتكريم ، وكقوله تعالى ( وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ) (المائدة: من الآية32) والرسل أعيان قائمة بنفسها منفصلة عن الله كل الانفصال فهي إضافة تشريف وتكريم ، وهكذا ، وإذا أشكل عليك شيء من الإضافات من أي نوع هي فأرجع إلى سؤال أهل العلم لقوله تعالى ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل:43)  وإياك والتخرص وسلوك طريق العماية وإعمال العقل المجرد عن نور الكتاب والسنة ، والقاعدة في ذلك عند أهل السنة رحمهم الله تعالى تقول : الأشياء المضافة إلى الله تعالى إن كانت لا تقوم بذاتها فإضافة صفة إلى موصوف وإن كانت تقوم بذاتها فإضافة تشريف وتكريم أو خلق ، والذي دعا أهل السنة رحمهم الله تعالى لقول ذلك هو أن المبتدعة يسوون بين الإضافتين إرادةً منهم لنفي صفات الله تعالى فنقول : إن قوله { ويبقى وجه ربك } كقوله { ناقة الله } فكما أن إضافة الناقة له جل وعلا لا تدل على أنها صفته فكذلك إضافة الوجه له لا يدل على أنه صفته بل إضافة الوجه له إضافة تشريف وتكريم كإضافة الناقة ، فأضطر أهل السنة للتفريق بين الإضافتين للرد على هؤلاء الضالين المتهوكين التائهين في باب صفات الله تعالى ، وهذا من توفيق الله تعالى لأهل السنة أعلا الله منارهم وثبت أحياءهم ورحم أمواتهم وأسكنهم فسيح الجنان وجعلني الله وإياك ممن اهتدى بهديهم وسلك سبلهم والله أعلى وأعلم .

س203/ ما لواجب في الإيمان بأسماء الله تعالى ؟ مع التمثيل؟
ج/ الواجب في ذلك أن تؤمن بثلاثة أمور
الأول : أن تؤمن بها اسما لله تعالى ، أي أن نعتقد أنه أسم له جل وعلا ، فنسميه  به .
الثاني : أن نؤمن بالصفة التي تضمنها ذلك الاسم لأن القاعدة المتفردة عند أهل السنة أن كل أسم من أسماء الله تعالى يتضمن صفة من الصفات ، فلا يتم الإيمان بأسمائه جل وعلا إلا إذا آمنا بالصفة التي تضمنها ذلك الاسم ، فالعزيز أسم و العزة صفه والقوي اسم والقوة صفة والحي أسم والحياة صفة والعليم أسم والعلم صفة ، والبصير والسميع اسمان والبصر والسمع صفة وهكذا فأسماء الله تعالى أعلام ونعوت فهي أعلام باعتبار دلالتها على الاسمية ونعوت باعتبار دلالتها على الوصفية وأما الأمر الثالث : فإنه يكون خاصاً بالأسماء التي يكون لصفاتها أثراً متعدٍ ، فإذا كانت صفة هذا الاسم لها أثر متعد فإن من تمام الإيمان له أن تؤمن بهذا الأثر ، فالبصير اسم والبصر صفة ، والأثر هو أنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا السماء ، فليحذر العاقل الذي يريد لنفسه النجاة أن يراه الله على حالٍ أو في مكانٍ لا يحبه جل وعلا ، والسميع أسم والسمع صفة وعموم سمع الله تعالى لكل شيء فلا يخفى على سمعه شيء كما قالت عائشة رضي الله عنها{ سبحان من وسع سمعه الأصوات} والعليم اسم والعلم صفة ، والأثر هو أنه يعلم كل شيء فيعلم ما كان وما يكون وما سيكون وما لم يكن أن لو كان كيف يكون فلا يخرج شيء عن كونه معلوماً له جل وعلا ، والحكيم  أسم والحكمة صفة ، والأثر الإيمان التام بأنه جل وعلا الحكيم في أقداره وأفعاله وشرعه ، والقدير أسم والقدرة صفة ، والأثر هو أن نؤمن بأنه الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، وأن الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمنه ، وهذا شأن الكثير من أسمائه جل وعلا ، وأما إذا كانت الصفة ليس لها أثر متعدٍ فالواجب الإيمان بالأمرين الأولين فقط وذلك كالحي ، فأنه أسم والحياة صفة ولكن ليس لهذه الصفة أثر متعد ، وخلاصة الجواب أن يقال : الواجب في الأسماء أمران : الإيمان بها اسماً والإيمان بما تضمنته من الصفات ، وإذا كانت صفة الاسم لها أثر متعدٍ فيزيد ذلك الاسم بوجوب الإيمان بالأثر المتعدي والله أعلم

س204/ عرف الإلحاد ؟ مع بيان أقسامه ؟
ج/ الإلحاد لغة : هو الميل ، ومنه اللحد لأنه ميل عن سنن القبر ، ومنه الملحد لأنه مائل عن الاعتقاد والعمل الصحيح الموافق للكتاب والسنة ، وشـرعاً : الميل عن ما يجب اعتقاده في أسمائه جل وعلا وآياته ، ومن التعريف يتضح أن الإلحاد قسمان : إلحاد في أسماء الله تعالى وإلحاد في آياته والله أعلم .

س205/ ما أنواع الإلحاد في أسماء الله جل وعلا وما حكمه مع بيان ذلك بالدليل؟
الإلحاد في أسماء الله تعالى أنواع :
الأول : إنكارها جملة أو إنكار بعضها ، كما وقع من الجهمية نفاة الأسماء والصفات ، وكما وقع من المشركين كما قال الله تعالى عنهم ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً) (الفرقان:60)  فمن أنكر أسماء الله تعالى بعضاً أو كلاً فهو ملحد .
الثاني : إنكار ما تضمنته من الصفات ، فيثبت الاسم ولكنه ينكر الصفة ، كما وقع من المعتزلة فإنهم يقولون : الله عليم بلا علم وقدير بلا قدرة وبصير بلا بصر  وسميع بلا سمع وقوي بلا قوة وهكذا في سائر الأسماء ، وقد تقدم لك أن أهل السنة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى يثبتون الأسماء ويؤمنون بما تضمنه الاسم من الصفة .
الثالث : تسمية الله تعالى بما لا دليل عليه ، وهذا تجرؤ على مقام الربوبية والألوهية والأسماء والصفات فتراهم يطلقون على الله تعالى من الأسماء ما لا دليل عليه وذلك كتسمية النصارى له{بالأب} وكقول الفلاسفة الأغبياء الحمقى : الله هو العقل الفعال والعلة الفاعلة والموجب بالذات ، وكقول بعضهم عن الله تقدس اسمه : إنه صاحب الفيوضات ، وغير ذلك من تخرصاتهم  وتهوكاتهم وما هي بأول ضلالاتهم ووقاحتهم وقلة أدبهم ، أما أهل السنة رحمهم الله تعالى فإن باب الأسماء عندهم باب توقيفي على الدليل فلا يسمون الله تعالى إلا بما سمى به نفسه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم
الرابع : وصفه تعالى بما لا يليق به جل وعلا وتقدس كقول أخبث الطوائف : إنه فقير وقولهم : إنه استراح بعد أن خلق الخلق ، وقولهم أن يده مغلولة ، وقول النصارى : إنه أتخذ صاحبة وولداً ، وكقول بعض حمقى الكلام ، إنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق ولا تحت ولا موجود ولا معدوم ولا أبيض ولا أسود ولا فوق السماوات إله يعبد ولا رب يصلى له ويسجد ،وكقول أهل الحلول : إنه خال في خلقه فهو بذاته في كل مكان ، وكقول الاتحادية : إنه عين هذا الوجود وهذا الوجود هو عينه فليس هناك خالق ولا مخلوق بل هما عين واحدة لا تنقسم ولا تتجزأ ، وغير ذلك من صفات النقص والبهتان التي ينبو عنها القلم ويستحي العبد من تسطيرها، فالحمد لله على السلامة والعافية وأسأله جل وعلا أن يثبتني وإياكم على اعتقاد أهل السنة إلى الممات وأن يحشرنا في زمرتهم والله أعلم.
الخامس : أن يشتق من أسمائه جل وعلا أسماء لبعض المعبودات الباطلة ، كتسميتهم اللات من الله والعزى من العزيز وتسميتهم الصنم ألهاً وهذا إلحاد حقيقة فإنهم عدلوا بأسمائه إلى أوثانهم ومعبوداتهم الباطلة.
السادس : تشبيه صفاته بصفات خلقه أو تعطيلها ، كما وقع فيه الممثلة والمعطلة. وهذا الإلحاد حرام وجريمة وكبيرة من عظائم الأمور ومن فظائع منكرات الاعتقادات والأقوال وقد يصل بصاحبه إلى الكفر والدليل قوله تعالى ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (لأعراف:180)    والله أعلم .

 

س206/ ما أنواع الإلحاد في الآيات ؟ وما معنى كل نوع ؟ مع بيان ذلك بالدليل؟
ج/ الإلحاد في الآيات نوعان : إلحاد في الآيات الكونية كالشمس والقمر والليل والنهار والسماء والأرض ونحوها ، وإلحاد في الآيات الشرعية أي القرآن ، فالإلحاد في الآيات الكونية فيكون باعتقاد خالق لها مع الله تعالى أو معين له في خلقها أو أن هناك مدبراً لها معه جل وعلا أو صرف شيء من العبادة لها من دونه جل وعلا ، قال تعالى ( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) (سـبأ:22) وقال تعالى ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي     السَّمَاوَاتِ ) (فاطر: من الآية40) وقال تعالى ( وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (فصلت:37) وأما الإلحاد في الآيات الشرعية فيكون بإنكارها جملة أو بإنكار بعضها أو تحريفها وإخراجها عن المعاني الصحيحة اللائقة بها أو اعتقاد أن هذا القرآن مخلوق من جملة المخلوقات أو التكذيب بشيء منها ، وهذا الإلحاد حرام وكبيرة من كبائر الذنوب وقد يصل بصاحبه في كثير أحيانه إلى الكفر ، قال تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (فصلت:40)  فنعوذ بالله تعالى من الإلحاد في أسمائه وآياته والله تعالى أعلم .

س207/هل أسماء الله تعالى محصورة بعدد معين أم لا ؟ وما الدليل على ذلك ؟
ج/ القاعدة عند أهل السنة والجماعة أن أسماء الله تعالى لا تحصر بعدد معين ، والدليل على ذلك ما رواه أحمد وأبن حبان والحاكم بسندٍ صحيح من حديث أبن مسعود رضي الله عنه في حديث الكرب ، وفيه (أسألك بكل أسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك... الحديث ) فهذا الحديث دليل على أن لله أسماء قد استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل ، فقوله (استأثرت به) أي انفردت بعلمه ، وما استأثر الله به في علم الغيب عنده لا يمكن لأحد حصره ولا الإحاطة به ، فإن قلت : فماذا تقول في قوله صلى الله عليه وسلم ( إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة ) أوليس هذا دليلاً على الحصر ، وبيان ذلك بضرب مثالين وهما :
الأول : لو قلت لك : إن عندي مائة بيتٍ شعري من حفظها أعطيته ألف ريال ، فهل تفهم من هذا التركيب اللغوي أنه ليس عندي إلا مائة بيت فقط ؟ بالطبع لا ، ولكني حصرت هذه المكافأة فيمن حفظ من أبياتي هذا المقدار .
الثاني : لو قلت لك : إن عندي مائة درهم أعددتها للصدقة فهل تفهم من هذا التركيب أنه لا يوجد عندي إلا هذه الدراهم فقط ؟ بالطبع لا ، وإنما هذه الدراهم هي المعدة للصدقة فقط ، وبناءً عليه فنقول : إن الله تعالى رتب دخول الجنة على من أحصى من أسمائه هذا المقدار ، فكأنه يقول : إن من أحصى من أسمائي تسعة وتسعين اسماً فله الجنة أي أن هذا العدد من شأنه أن من أحصاه دخل الجنة وهذا واضح ، ويقال أيضاً : سلمنا أنه يفهم منه الحصر فإن الحديث الثاني ( أو استأثرت به في علم الغيب عندك ) أفادنا أن ما فهمناه من الحصر ليس مقصوداً ، وفهمنا تابع للأدلة ، لا أن الأدلة موقوفة على فهمنا فما وافقه منها قبلناه وما خالفه رددناه فإن هذا مسلك الهالكين من أهل البدع ، وقد انعقدت قلوبنا على أنه لا تعارض بين نصين صحيحين مطلقاً والله أعلم
وقبل ختم الجواب أفيدك فائدتين:
الفائدة الأولى : اعلم أن ما ورد مرفوعاً من تعداد هذه الأسماء لا يصح ، فقد قال أبو العباس : إن تعينها ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل المعرفة بالحديث، وقد تتبعها بعض أهل العلم ، والمرجع في ذلك القرآن وما صح من السنة والله أعلم .
الفائدة الثانية : قوله ( من أحصاها ) والمراد بذلك حفظها لفظاً والإيمان بها وبما تضمنته من الصفات وتمامه أن يتعبد لله بمقتضاها والله أعلم .

س208/ هل آيات الصفات من قبيل المحكم أم من التشابه ؟
ج/ لا يقال من المحكم مطلقاً  ولا يقال من المتشابه مطلقاً وبيان ذلك : أن المراد بالمحكم ما اتضح معناه والمتشابه ما خفي معناه ولم يعرف ، وبناءً عليه فنقول : إن آيات الصفات من المحكم باعتبار معانيها بل هي من أعلى درجات المحكم لأننا نعلم معانيها كما قدمنا لك سابقاً ، ومن المتشابه باعتبار كيفياتها لأننا لا نعلمها ولا طريق للعلم بها ، وهذا المذهب الحق وسط بين مذهبين :
الأول : من يرى أنها من المتشابه مطلقاً أي لا يعلم معناها أصلاً فضلاً عن كيفيتها وهم  المفوضة .
الثاني : من يرى أنها من المفهوم المعلوم حتى في كيفياتها وهم الممثلة .
فجاء أهل  السنة فقالوا : بل هي من المحكم باعتبار ومن المتشابه باعتبار، فهي محكمة باعتبار معانيها ومتشابهة باعتبار كيفياتها، وهذا صورة من صور الوسطية التي تميز بها أهل السنة والجماعة والله أعلم .

س209/ هل ظاهر نصوص الصفات مراد أم غير مراد ؟
ج/ أقول : إن الاحتياط في الجواب وإزالة ما عساه أن يرد على السامع من مقاصد أهل السنة والجماعة وبناء عليه فنقول : أن لفظ الظاهر بحسب كثرة الاستعمال صار من الألفاظ المجملة ، فالممثلة والمعطلة يفهمون منها ظاهراً وأهل السنة أهل العقول السليمة والفطر المستقيمة يفهمون منها ظاهراً فإذا كان ذلك كذلك فنقول : إن كنت تريد بالظاهر ما يفهمه أهل السنة والجماعة من هذه النصوص من المعاني اللائقة بالله جل وعلا  التي لا تمثيل فيها ولا تعطيل ولا نقص بوجه من الوجوه ، فهذا الظاهر لاشك أنه مراد ، فأهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون ولا يمثلون ولا يحرفون ولا يعطلون . فهذا الظاهر مراد ولا شك ، وأضرب لك بعض الأمثلة على ذلك :  
قوله تعالى { بل يداه مبسوطتان } فالظاهر منها عند أهل السنة إثبات اليدين اللائقتين بالله جل وعلا ، كقوله تعالى { ويبقى وجه ربك } فالظاهر منها عند أهل السنة إثبات الوجه لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته ، وكقوله تعالى ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (لأعراف: من الآية156) فالظاهر منها إثبات الرحمة لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته وكقوله صلى الله عليه وسلم (ينـزل ربنا إلى السماء الدنيا ......الحديث ) فالظهار منه إثبات النزول في هذا الوقت لله جل وعلا على ما يليق بجلاله وعظمته وكذلك يقال في سائر آيات الصفات ، فإذا كان المراد بالظاهر ما يفهمه أهل السنة من المعاني اللائقة بالله جل وعلا فإننا نقول: هذا الظاهر مراد ، وأما إذا كان يقصد بالظاهر ما يفهمه المبتدعة من الممثلة والمعطلة فإنه ليس بمراد لأنهم يفهمون من هذه الآيات معانٍ لا تليق بالله جل وعلا ، فلا يفهمون منها إلا ما يفهمونه من صفات المخلوقات وهذا ليس بمراد من هذه الآيات ، ولكن نحن ننازعهم أصلاً في أن هذا الذي فهموه ليس هو الظاهر الصحيح الذي دلت عليه آيات الصفات وإنما هو شيء توهموه بعقولهم الفاسدة وإفهامهم العفنة ، وفي الحقيقة أن فهمهم هذا مخالف لما فهمه السلف منها وهو خباية على النصوص وتعطيل لها عن المراد بها ، وهو مخالف أيضاً للعقل الصريح والفطر السليمة والإفهام المستقيمة لأن العقل والشرع يفرضان مباينة الخالق للمخلوق في الذات والصفات ، فهم وإن سموه ظاهر الصفات فإنها تسمية باطلة مردودة بالنقل والعقل والفطرة والله أعلم .

 

س210/ ما حكم السؤال عن كيفية شيءً من صفات الله تعالى ولماذا ؟ وكيف الجواب لمن سألنا عن شيءً من ذلك ؟
ج/ أقول : السؤال عن كيفية صفات الله محرم وجريمة من إقحام العقل والنفس فيما لا مجال لها فيه وهو من زلل القول وخطل الفهم الذي ينبغي لصاحبه التوبة النصوح والاستغفار الكثير منه وذلك لأنه مسلك الهالكين من أهل البدع ومن أبواب الشر التي لو فتحت لأفسدت على الناس عقيدتهم في ربهم جل وعلا ، ولأنه مخالف لمنهج السلف فإن السلف رحمهم الله تعالى لا يعرف عنهم كلمة واحدة في ذلك ولأنه من الأمور الغيبية التي هي خارجة عن حدود العقل وطاقاته فمهما أعملت عقلك في إدراك الكيفية لشيء من صفات الله فلن ترجع إلا بالضلال والخيرة والتيه والشكوك والأسئلة الكثيرة والإشكالات  المحيرة التي لا جواب عنها  إلا يردع العقل والنفس عن الدخول في ذلك ،  فما هلك أهل التمثيل والتعطيل إلا لأنهم  وضعوا لصفات الله كيفية من عند أنفسهم فرضيها أهل التمثيل فمثلوا وأباها أهل التعطيل فعطلوا ، فأحذر من سلوك سبيلهم الضال ، وقف حيث وقف السلف في صفات الله العظيم الكبير المتعال ولأن الكيفية لا تعلم إلا بالرؤية أو بمشاهدة النظير أو بإخبار الصادق عنها وكلها منتفية في حق صفات الله تعالى ، وأما الجواب لمن سألنا عن شيء من ذلك فهناك عدة أجوبة :
الأول : أن نقول له :  ما سألت عنه من الصفات معناه معلوم  ، وكيفه مجهول والإيمان بها واجب والسؤال عنه بدعه ، وهذا الجواب صحيح سديد باتفاق أهل السنة ، وصالح للإجابة به عن أي صفة قد سئل عن كيفيتها ، فهو وإن ورد في الإجابة عن السؤال عن كيفية صفة الاستواء ، لكن يصلح للجميع  لأن المتقرر أن القول في بعض الصفات كالقول في بعضها ، وهذا أوضح .
الجواب الثاني :  أن نقول :  إن كيفية الشيء لا تعلم إلا بعد العلم بكفه ذاته ، فأخبرني أنت عن كفه ذات الباري جل وعلا ، فبالطبع لن يجد جواباً وسيقول لا أعلم كيفية ذاته ، فقل له : إذا كنا أنا وأنت مشتركين في عدم العلم بكيفية الذات فكيف تطالبني بكيفية صفة ذاتٍ لا أعلمها فإن من يجهل كيفية ذات شيء فإنه من باب أولى أن يجهل كيفية صفاتها ، فأنا لا أعلم  كيف استواء الله لأنني أصلاً لا أعلم كيف هو في ذاته ولا أعلم كيفية وجهه ويديه وعينيه لأنني أصلاً لا أعلم كيف هو في ذاته جل وعلا ، فالجهل بكيفية الذات مفضي إلى الجهل بكيفية الصفات وقد تقرر عند أهل السنة أن القول في الصفات كالقول في الذات ، فنحن لا نعرف كيفية صفات الله تعالى لأننا أصلاً لا نعرف كيفية ذاته .
الجواب الثالث :  أن تبين له أن الكيفية لا يمكن أن تعرف إلا بالرؤية  ونحن لم نر الله تعالى ، أو بمشاهدة النظير ، وليس لله مثيل ولا شبيه حتى نستدل برؤية صفاته على صفاته كيف وقد قال تعالى ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (الشورى: من الآية11) وقال (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) (مريم: من الآية65) وقال ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (الاخلاص:4)  وقال تعالى ( فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل:74) أو بإخبار الصادق صلى الله عليه وسلم عن الكيفية ، وهذا منتفٍ أيضاً فإنه صلى اله عليه وسلم أخبرنا بالصفة ولم يخبرنا بكيفيتها فوجب الوقوف حيث وقف النص ، فبالله عليك : شيء لم أره ولم أر نظيره ولم يخبرني الصادق عن كيفيته ، فكيف أتعرف على هذه الكيفية التي تطالبني بها .
الجواب الرابع : وهو جواب علمي ، وهو بمثابة الكي الذي هو آخر العلاج ، ولعلك عرفته ، فإياك أن تجبن عنه ، بل قم به انتصارا لله تعالى وذباً عن شريعته ، ونترك تفاصيله كتقديرك للمصالح والمفاسد والله أعلم .

س211/ ما أقسام التأويل وما المقبول منها والمردود مع بيان ذلك بالأدلة والأمثلة ؟
ج/التأويل ثلاثة أقسام :
الأول : حقيقة الشيء التي يؤول إليها ، وهذا هو استعمال القرآن لهذه اللفظة وما تصرف منها ، أي حقيقة الشيء التي هو عليها في الواقع ، فتأويل الأمر امتثاله وفعله ، كما قالت عائشة رضي الله عنها ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي  يتأول القرآن ) متفق عليه ، أي يوقع حقيقة ما أمر به في القرآن ، وتأويل النهي اجتنابه فتأويل قوله تعالى ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً) (الإسراء:32) هو اجتناب الزنى  وتأويل قوله تعالى ( وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) (الأنعام: من الآية151) هو ترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن وهكذا ، وتأويل الرؤيا وقوعها أي وقوع حقيقتها في الخارج ومنه قوله تعالى عن يوسف عليه الصلاة والسلام ( يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً ) (يوسف: من الآية100) أي أن سجود أبويه وإخوته له هو حقيقة الرؤيا التي رآها من قبل ، وتأويل الخبر وقوع حقيقته كما قال تعالى مهدداً  الذين ينكرون اليوم الآخر     ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ) (لأعراف: من الآية53) أي هل ينتظرون إلا وقوع حقيقته على ما أخبرت به الكتب وجاءت به الرسل يوم تأتي حقيقته حينئذ يندمون ولا ت ساعة مندم ، فتأويل اليوم الآخر هو وقوعه  وتأويل الصفات هي حقيقتها التي هي عليها في الواقع ومن ذلك  أيضاً قول الخضر  لموسى عليهما الصلاة والسلام ( سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (الكهف: من الآية78) أي سأخبرك بحقيقة ما رأيت من الأمور التي جعلتك تستنكر وتبادر بالإنكار ، ثم قال بعد ذلك أي بعد أن بين له حقيقتها  ( ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (الكهف: من الآية82) أي هذا الذي بينته لك هو الحقيقة التي يؤول إليها ما فعلته ،فهذا هو المعنى الأول .
الثاني : التأويل بمعنى التفسير ، ومنه قول الإمام أبن جرير الطبري في تفسيره العظيم : القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا.............كذا وكذا ، أي تفسير ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لأبن عباس ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ) أي تفسير القرآن ومنه قول ابن عباس :أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله ، وقد قيل في بعض الآيات التي ورد فيها لفظ التأويل أنها بمعنى التفسير وهذا من خلاف التنوع لا التضاد ، فهذان المعنيان صحيحان مقبولان متفق عليهما بين أهل العلم ، وهما المأثوران عن السلف الصالح أعلا الله درجتهم في الفردوس الأعلى وجمعنا بهم في دار كرامته ومستقر رحمته .
الثالث : التأويل بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى معناه المرجوح ، أو من حقيقته إلى مجازه  وهذا النوع من التأويل لا يعرف عن السلف وإنما أحدثه المتأخرون الخلف من المتكلمين في الأصول والفقه وقد تلقفوه من أهل الكلام المذموم الذي أدخل على أهل الإسلام البلاء الكثير والشر المستطير وقد توقف أهل  السنة والجماعة رحمهم الله تعالى في قبوله ورده لأنه من الألفاظ المجملة التي تحتمل حقاً وباطلاً ، وشأنهم فيما كان من هذا القبيل التوقف والإستفصال ، فقالوا : إن كان هذا الصرف بمقتضى الدليل الصحيح الصريح فإنه صرف مقبول ، فما اقتضاه الدليل فأهلاً وسهلاً ، وأما إذا كان صرفاً لا دليل عليه وإنما مبناه على والتخرص والظنون الكاذبة والشهوات والهوى فإنه مردود على صاحبه مضروب به في وجهه ولا كرامة له ، وهو في هذه الحالة وإن سماه أصحابه تأويلاً ليروج وتقبله النفوس إلا أنه في حقيقته تحريف و خلط و باطل ودليل بطلانه أنه مخالف لمنهج السلف الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم فإنهم رحمهم الله  تعالى وأعلا درجتهم في الجنة كانوا يقولون عند الظاهر المتبادر من النصوص ولا يتعدونه إلا بمقتضى دليل ، ولأن المتقرر عند أهل العلم أن الأصل هو البقاء على الظاهر الراجح ولا ننتقل إلى المرجوح إلا بدليل ، ولأن الأصل في الكلام الحقيقة فلا يعدل عنها إلى الجاز إلا بقرينه صادقة ، ولأن هذا الصرف الذي لا دليل عليه تحكم في كلام المتكلم بلا إذن منه وهذا لا يجوز في آحاد كلام البشر فكيف بكلام الله جل وعلا وكلام رسله صلوات الله وسلامه عليهم ، ولأن أدلة الشريعة إنما جاءت لإرادة البيان والهدى لا للألغاز والتعمية فكيف يخاطبنا الشارع بكلام له ظاهر وهو في حقيقة الأمر لا يريد منا أن نعتقد ظاهره من غير بيانٍ منه لذلك ، فإن هذا القول يتضمن إخراج هذه النصوص عن مقصود إنزالها الذي هو الهداية ، ولله در الإمام العلامة ابن القيم لما جعله أي التأويل بهذا المعنى من جملة الطواغيت التي أفسدت كثيراً من عقول المسلمين وعلومهم وأدخلت عليهم التمثيل والتعطيل والجير وإنكار القدر والوقيعة في خيار الأمة وسلفها فنعوذ بالله من الخذلان وزيغ القلوب بعد هدايتها والله أعلم .

 س212/ أيهما أرجح في الوقف في قوله تعالى ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (آل عمران: من الآية7) أن يكون على لفظ الجلالة الذي هو الاسم الأحسن أم يكون على لفظة { العلم }؟
ج/ أقول : فيه خلاف بين العلماء ، والأرجح أن هذا من قبيل خلاف التنوع  لا التضاد ، فإن الوقف يختلف باختلاف ما يقوم في قلب القاري من معاني التأويل السابقة - أعني النوع الأول والثاني فقط - لأنهما المأثوران عن السلف ، فإن قام في قلبه المعنى الأول فالوقف على الاسم الأحسن أي على قوله { إلا الله } لأن الذي يعلم حقيقة ما أخبرت به الرسل على ما هو عليه في الواقع من آيات الصفات واليوم الآخر إنما هو الله تعالى ونحن وإن علمنا معانيها لكن لا يعلم كيفياتها على ما هي عليه إلا الله تعالى وأما إذا كان الذي قام بقلب القارئ المعنى التأويل أي التفسير فالوقف التام على قوله { والراسخون في العلم } وهذا اختيار أبي العباس شيخ الإسلام بن تيميه رحمه الله تعالى . فإذا وقفت على الاسم الأحسن فاعتقد المعنى الأول وإذا وصلت فأعتقد المعنى الثاني والله أعلم .

س213/ ما مذهب أهل السنة في نفس الله تعالى مع بيان ذلك بالأدلة من الكتاب والسنة ؟ وهل هي من الصفات الذاتية أم الفعلية ؟
ج/ أقول : يعتقد أهل السنة والجماعة أن لله تعالى نفساً لائقة بجلاله وعظمته ، ليست كأنفس المخلوقين ، ومجرد اتفاق أسم نفسه مع أسم  نفسنا لا يستلزم اتفاقهما في كيفياتهما   
كما قدمنا لك سابقاً ، والدليل قوله تعالى ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) (الأنعام: من الآية54) فقد أضاف النفس إليه وهي لا تقوم بذاتها فدل ذلك على أنها إضافة صفة إلى موصوف جل ربنا وتعالى وتقدس عن أن تكون نفسه كنفس خلقه ، وعز جلاله وتعالت عظمته أن يكون عدماً لا نفس له ، وقال تعالى لكليمه موسى عليه الصلاة والسلام ( ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى  وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (طـه:40،41)  فثبت أن لله نفساً ، وقال تعالى ( وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) (آل عمران: من الآية28) وقال تعالى عن عيسى عليه السلام ( تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) فثبت لله نفساً إثباتاً بلا تمثيل ونزهه عن مماثلة خلقه فيها تنزيهاً بلا تعطيل ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يقول الله تعالى أنا مع عبدي حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في  ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير منهم ) متفق عليه  وإضافة النفس هنا إضافة صفة إلى موصوف ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى صلاة الصبح وجويرية جالسة في المسجد فرجع حين تعالى النهار قال : لم تزالي جالسة بعدي ؟ قالت نعم ، قال : قد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بهن لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ومداد كلماته ورضى نفسه وزنة عرشه "رواه مسلم  والشاهد منه قوله ( ورضى نفسه ) فقد أضاف النفس إليه إضافة الصفة إلى الموصوف ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لما قضى الله الخلق كتب كتاباً  على نفسه فهو عنده فوق العرش أن رحمتي سبقت غضبي ) متفق عليه ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( التقى آدم وموسى عليهما السلام فقال له موسى : أنت الذي أشقيت الناس أخرجتهم من الجنة ، قال آدم : وأنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه واصطنعك لنفسه .....الحديث ) متفق عليه وعن أبي ذر رضي الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى ( إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا....الحديث ) رواه مسلم ، ومن الأدلة القطعية أيضاً إجماع أهل السنة فقد أتفق أهل السنة رحمهم الله تعالى على إثبات النفس لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته ، وهو الذي نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا ، إذا علمت هذا فأعلم أن صفة النفس من الصفات الذاتية التي لا تنفك عن الله تعالى ، والله أعلم  
س214/ ما مذهب أهل السنة في علم الله تعالى ؟ مع الدليل ؟ وهل هو من الصفات الذاتية أم الفعلية ؟
ج/  أقول : يعتقد أهل السنة رحمهم الله تعالى اعتقاداً جازما بيقين راسخ أعظم من رسوخ الجبال الرواسي أن الله تعالى موصوف بالعلم الكامل الشامل الذي لم يسبق بجهل فهو يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن أن لو كان كيف يكون وأنه من الصفات الذاتية التي لا تنفك عن الله تعالى أزلاً وأبداً قال تعالى ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ ......الآية )وقال تعالى ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) وقال تعالى ( وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ) وقال تعالى ( إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) وقال تعالى ( لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) وفي حديث الاستخارة الطويل ( اللهم إني أستخيرك بعلمك الغيب ......الحديث ) وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله ثم قرأ هذه الآية ( إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( سبق علم الله في خلقه فهم صائرون إليه ) أخرجه اللاكائي رحمه الله تعالى في شرح العقائد، ودل عليها العقل أيضاً : وذلك من وجوه :
الأول : أن العلم في حد ذاته صفة كمال في المخلوق لا نقص فيها وقد تقرر في القواعد أن ما كان صفة كمال في المخلوق لا نقص فيها بوجه فالخالق أولى بها .
الثاني : أن الله تعالى هو الذي أعطى المخلوق هذه الصفة التي هي كمال في ذاتها ومعطي الكمال أولى بالكمال .
الثالث : أنه يستحيل أن يوجد هذا الكون العظيم على هذا النسق الرفيع والنظام البديع وهو غير متصف بالعلم ، وقد أشتد نكير السلف على من أنكرها حتى قالوا : ناظروهم بالعلم فإن أقروا به خصوا وإن جحدوا كفروا وقال الإمام أحمد : ( فإن قال الجهمي ليس له علم كفر، وإن قال له علم محدث كفر حيث زعم أن الله كان في وقت من الأوقات لا يعلم حتى أحدث له علماً فعلم )  أ.هـ   
وهذا ما نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا وقد أنعقد الإجماع على ذلك ولله الحمد والمنة والله أعلم .

س215/ ما مذهب أهل السنة رحمهم الله تعالى في صفة الوجه وهل هو من صفات الذات أم الفعل ؟ مع بيان ذلك بالأدلة ؟
ج/يعتقد أهل السنة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى أن لله تعالى وجهاً يليق بجلاله وعظمته وهو من صفاته الذاتية ، قال تعالى ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه ) وقال تعالى      ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَام ) وقال ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ) رواه مسلم ، وعن جابر رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ ) قال النبي صلى الله عليه وسلم  أعوذ بوجهك. قال   ( أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ) قال عليه الصلاة والسلام أعوذ بوجهك . قال ( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) قال : هذه أهون أو أسهل ) رواه البخاري . وفي حديث عطاء بن السائب عن أبيه عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يدعو يقول (( اللهم بعلمك الغيب وقدرتك عن الخلق أجمعين .......وفيه " وأسألك لذة النظر إلى وجهك ") وعن شقيق قال : كنا عند حذيفه فقام شبث بن ربعي فصلى فبصق بين يديه فقال له حذيفة : يا شبث لا تبصق بين يديك ولا عن يمينك فإن عن يمينك كاتب الحسنات ولكن عن يسارك أو من ورائك فإن العبد إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة أقبل الله عليه بوجهه فيناجيه فلا ينصرف عنه حتى ينصرف عنه أو يحدث حدث سوء . متفق عليه . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سألكم بوجه الله فأعطوه ) رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح ، وقد اجمع أهل السنة والجماعة على إثبات هذه الصفة لله تعالى ، وهو ما نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا والله أعلم .

س216/ ماذا قال المبتدعة في هذه الصفة ؟ وكيف الرد عليهم ؟
ج/ أقول لقد تجرأ المبتدعة على صفة الوجه كتجرئهم على سائر صفات الباري جل وعلا ، فقالوا : إن لفظ الوجه الوارد في الآيات والأحاديث لا يقصد به إثبات صفة وإنما المراد به الذات ، فيقال لهم : جوابنا على هذا التحريف من وجوه :
الأول : أنه مخالف لمنهج السلف وما أجمعوا عليه وما خالف منهجهم وإجماعهم فهو باطل مردود وإذ لا يمكن أبداً بل لا يتصور أن يكون السلف من الصحابة والتابعين كانوا في معزل عن فهم ما أنزل عليهم ويفهمه هؤلاء  المتهوكون  الضالون، هذا ما لا يقوله عاقل يعلم ما يقول فضلاً عن كونه مسلماً .
الثاني : أنه مخالف لما يظهر من دلالة النصوص، فإن هذه الأدلة قد أضافت الوجه إلى الله تعالى إضافة الصفة إلى الموصوف والانصراف عن هذا الظاهر المتبادر للفهم السليم لا يجوز إلا بمقتضى دليل صارف ، ولا دليل يصرفنا عن الأصل والظاهر والحقيقة ، فوجب البقاء عليه.
الثالث : أن يقال لهم : إنكم فررتم من إثبات الوجه لله تعالى خوفاً من مماثلة الله بخلقه لأن لهم وجوهاً وقلتم إنه الذات فبالله عليكم أوليست لنا ذوات ؟ بالطبع نعم ، إذاً قد فررتم من شيء ووقعتم في مثله ، فإن قالوا : نحن نقول هي ذات ليست كالذوات ، فنقول قولوا هذا القول في الوجه بادئ الأمر واستريحوا وأريحوا ، وذلك لأنه قد تقرر أن القول في الصفات فرع عن القول في الذات هذا مختصر الجواب عليهم وهو كافٍ والله أعلم.

س217/ ما مذهب أهل السنة في اليدين مع بيان الأدلة ؟ وهل هي صفة ذاتية أو  فعلية ؟
ج/ يعتقد أهل السنة قاطبة أن لله تعالى يدين اثنتين لائقتين بجلاله وعظمته لا تماثل أيدي المخلوقين ومجرد الاتفاق في الاسم لا يستلزم الاتفاق في المسمى وأنهما من الصفات الذاتية التي لا تنفك عنه جل وعلا أزلاً ولا أبداً وأهما كريمتان مبسوطتان بالعطاء والنعم  قال تعالى ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) (المائدة: من الآية64) وقال تعالى ( لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (صّ: من الآية75) وقال تعالى ( بِيَدِهِ الْمُلْكُ ) وقال تعالى ( بيده الخير ) وقال تعالى ( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (الفتح: من الآية10)  وقال تعالى ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر:67)  وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة في ذكر محاجة موسى لآدم عليهما الصلاة والسلام وفيه أن موسى قال :( أنت آدم الذي خلقه الله بيده ونفخ فيك من روحه....الحديث ) وفي الصحيح أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لما خلق الله الخلق كتب بيده على نفسه إن رحمتي تغلب غضبي ) وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ) وفي المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن أحدكم ليتصدق بالتمرة من طيب ولا يقبل الله إلا طيباً فيجعلها الله تعالى في يده اليمنى ثم يربيها كما يربي أحدكم فلوه حتى تصير مثل أحد ) وفي رواية " فيقع في كف الرحمن "  وفي الصحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( يمين الله ملآ لا تغيضها نفقة سماء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغيض ما في يمينه ) وفي الصحيح أيضاً من حديث أبن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يقبض الله تعالى يوم القيامة سمواته فيأخذهن بيمينه ويقبض الأراضين ويأخذهن بيده الأخرى ثم نهزهن فيقول : أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ) وفي المتفق عليه من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم فألحفت في المسألة فقال : يا حكيم ما أكثر مسألتك ؟إن هذا المال حلوة خضرة وإنما هو أوساخ الناس وإن يد الله هي العليا ويد المعطي تليها ويد السائل أسفل من ذلك ) وفي صحيح مسلم من حديث المغيرة بن شعبة قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم على منبره يقول : إن موسى سأل ربه فقال يا رب أخبرني بأدنى أهل الجنة منزله ؟ .....وفيه ( فقال : يا رب فأخبرني بأعلاهم منزله قال : هذا ما أردت فسوف أخبرك ، قال : غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها ،لم تر عين ، ولم تسمع أذن ...الحديث ) وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( تكون الأرض يوم القيامة خبزه واحدة في يكفوها الرحمن بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر ، نزلاً لأهل الجنة ......الحديث ) وقد أتفق أهل السنة على إثبات هذه الصفة لله تعالى من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تكييف لأن الله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وهو ما نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا ، والله   أعلم .

 

س218/ ماذا قال المبتدعة في هذه الصفة وكيف الجواب عليهم ؟
ج/ أقول : لقد نفى المبتدعة على مختلف طوائفهم هذه الصفة وقالوا : المراد بها القدرة أم النعمة كذا قالوا ولبئس ما قالوا ، والجواب عليهم من وجوه :
الأول : أنه خلاف منهج السلف .
الثاني : أنه لا دليل على هذا الصرف فهو في حقيقته تحريف .
الثالث : أنه مخالف لما ظهر من الأدلة .      
الرابع : أن ذلك ممتنع كل الامتناع في قوله { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } وقوله { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } فإن القدرة  والنعمة لا يصح أن تأتي مثناة .
الخامس : أنه لو كان المراد باليد القدرة لما كان لآدم عليه السلام فضل على إبليس لعنه الله إذ أن إبليس خلق بقدرة الله تعالى فأنظر كيف لبس إبليس على هذه الطوائف لينكروا ما تميز به أبوهم عليه حسداً وبغضاً وحقداً لآدم وبنيه ، والله أعلم .

س219/ هل يوصف الله تعالى بالكف وهل إحدى يديه شمال ؟ وضح ذلك بالدليل ؟
ج/ أقول : نعوذ بالله تعالى من أن نقول في صفات الله تعالى شيئاً لا دليل عليه ، وبناءً عليه فهذا السؤال فيه فرعان :
الأول : الكف فنحن يصف الله تعالى بأن له كفاً يليق بجلاله وعظمته لا تماثل كفوفنا والاتفاق في الاسم لا يستلزم الاتفاق في المسمى ، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى عليه وسلم ( إن أحدكم ليتصدق بالتمرة إذا كانت من الطيب ولا يقبل الله إلا طيباً فيجعلها الرحمن في كفه فيربها كما يربي أحدكم مهره أو فصيلة حتى تعود في يده مثل الجبل ) وهو في الصحيح ، والشاهد من قوله " في كفه " ففيه إضافة الكف لله تعالى ، وفي رواية "إلا وهو يضعها في كف الرحمن " فنحن نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل بل نقول : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }.
الثاني : أتفق أهل السنة والجماعة على إثبات اليدين لله تعالى وأنهما يمين في البذل والعطاء والإنفاق وأن إحداهما يمين في الاسم أيضاً، هذا كله متفق عليه ولكن اختلفوا في أسم اليد الأخرى على قولين : فالأكثر على أنها يمين في الاسم أيضاً واستدلوا على ذلك بالحديث الذي فيه ( وكلتا يدي ربي يمين مباركه ) وبحديث ( وكلتا يديه يمين ) وهما في الصحيح ، فهذه المسألة أعني مسألة اسم اليد الأخرى من المسائل التي ثبت فيها الخلاف بين أهل السنة ، وهو يسير والمرد عند الخلاف إلى الكتاب والسنة ، وقد ذكرت دليل من نفى تسميتها بالشمال ، وذهب بعض أهل السنة إلى أنها شمال في الاسم فقط لكنها يمين في البذل والإنفاق والعطاء ، أي هي يمين في الخير والبركة واستدلوا على ذلك بما رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رصي الله عنهما ( يقبض الله تعالى سماواته فيأخذهن بيمينه ثم يهزهن فيقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوي الأرضين فيأخذهن بشماله فيهزهن ويقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ) فأنت ترى هنا أنه سماها بالشمال،  وقد قدح في هذه الزيادة جمع من أهل العلم ،ولكن لا داعي للقدح فيها ولا ردها ولا دعوى أنها شاذة أو منكرة ، وبناءً عليه فنقول : إن كانت هذه اللفظة محفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإننا نقول بها ونطلق على اليد الأخرى اسم الشمال ونقول فيها ما نقوله في سائر صفاته جل وعلا ، من أنها شمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه فنثبتها لله تعالى إثباتاً بلا تمثيل وننزه الله تعالى النقص تنزيهاً بلا تعطيل ، لكن لابد من النظر أولاً في ثبوتها ، والبحث في حال عمر بن حمزة الذي يروي هذا الحديث عن سالم عن ابن عمر ، والله أعلم .

 

س220/ ما مذهب أهل السنة في صفة الأصابع ؟ مع بيان الدليل؟
ج/  يعتقد أهل السنة والجماعة رفع الله درجاتهم في الفردوس الأعلى وأعلا منارهم في الدنيا والآخرة وثبت أحياءهم ورحم أمواتهم أن لله تعالى أصابع تليق بجلاله وعظمته وأنها من الصفات الذاتية له جل وعلا ، وأن الاتفاق في الاسم لا يستلزم الاتفاق في المسمى ، والدليل على ذلك ما في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : أتى النبي صلى الله علنه وسلم رجل من اليهود فقال : يا محمد إن الله يجعل السماوات على إصبع والأراضين على إصبع  والجبال والشجر على إصبع فيهزهن فيقول : أنا الملك ، قال : فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لما يقول الرجل ، ثم قرأ    ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ). وروى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلبٍ واحد يصرفه كيف يشاء ) ثم قال : " اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك " وهذا الحديث مروي عن عدة من الصحابة ، منهم النواس بن سمعان الكلابي وعائشة أم المؤمنين وأبو ذر جندب بن جنادة رضي الله عنهم وعن سائر أصحابه صلى الله عليه وسلم ، وقد أجمع أهل السنة على إثبات هذه الصفة على ما يليق بجلال الله وعظمته وهو ما نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا والله أعلم .

س221/ ما مذهب أهل السنة في صفة العين مع بيان ذلك بالأدلة وهل هي من صفات الذات أم الفعل ؟
ج/ يعتقد أهل السنة رحمهم الله تعالى وغفر لهم وجمعنا بهم في الجنة أن لله عينين اثنتين ذاتيتين لائقتين به جل وعلا ، وأنها لا تماثل أعين العباد ، والاتفاق في الاسم لا يستلزم الاتفاق في المسمى قال تعالى ( تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا ) (القمر: من الآية14) وقال تعالى ( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طـه: من الآية39) وقال تعالى ( وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ) (هود: من الآية37) وقال تعالى ( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ) (الطور: من الآية48) وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن ربكم ليس بأعور إلا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية ) متفق عليه ، فنفي العور عنه جل وعلا دليل على أن له عينين اثنتين لائقتين به جل وعلا ، وقال عليه الصلاة والسلام ( إذا قام العبد في الصلاة قام بين عيني الرحمن فإذا التفت قال له ربه : تلتفت إلى خير لك مني ؟ ... الحديث وفيه مقال .
وقد أجمع أهل السنة على إثبات ذلك وهو ما نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا ولله الحمد والمنة والله أعلم .

س222/ لقد وردت صفتا اليد والعين في الأدلة مفردة ومثناة ومجموعة فأذكر هذه الأدلة وكيف الجمع بينها  ؟
  ج/ أقول : أما صفة اليد مفردة ففي قوله تعالى ( بِيَدِهِ الْمُلْكُ ) وأما ورودها مثناة ففي   قوله تعالى : ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) وأما ورودها مجموعة ففي قوله تعالى ( مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا ) أما صفة العين مفردة ففي قوله تعالى ( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ) وأما ورودها مثناة ففي الحديث ( قام بين عيني الرحمن ) وأما ورودها مجموعة ففي قوله تعالى ( تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) ووجه الجمع بينهما أن يقال أما ورودهما مثناة فلا إشكال فيه لأن أهل السنة يثبتوا لله تعالى يدين اثنتين وعينين اثنتين على ما يليق به جل وعلا ، وأما ورودهما مفرده فلا إشكال فيه أيضاً لأنهما لما أفردتا أضيفتا فهما مفرد مضاف وقد تقرر في الأصول أن المفرد المضاف يعم ، فيعم اللفظ كل ما لله من يد وعين ، وقد سيق أنهما اثنتان . وأما ورودهما مجموعه ، فإن النون هنا ليست نون الجمع وإنما هي نون المعظم نفسه ، كقول الملك لمن أعطاه شيئاً : قد أعطيناك هذا بأيدينا ، وإذا رأى الملك شيئاً وسئل عنه فإنه يقول : قد رأيناه بأعيننا ونحو ذلك ، فهذه النون هي نون المعظم نفسه وليست نون الجمع ، فلا إشكال في ذلك ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة وهو أعلى وأعلم .
س223/ ما مذهب أهل  السنة في صفة القدم والرجل والساق لله تعالى مع بيان ذلك بالأدلة وهل هذه الصفات من صفات الذات أم الفعل ؟
ج/ يعتقد أهل السنة رحمهم الله تعالى أن لله قدماً ورجلاً وساقاً لائقة بجلاله وعظمته ، وباتفاقهم أنها لا تماثل المعهود من صفاتنا لأن الاتفاق في الاسم لا يستلزم الاتفاق في الصفات ، ولا تثريب على من أثبت ما أثبتته الأدلة وقال بما قالت به النصوص مع علم المعنى والجهل بالكيفية ، وأي عيب بالله عليك أن نقول كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن نثبت لربنا ما أثبته له أعلم الخلق به صلى الله عليه وسلم ، بل التثريب والعيب هو على من يقع في مثل هذه النصوص تحريفاً وإنكاراً وجحوداً وإبطالاً وكأنه أعلم من الله ، وأعلم من نبيه صلى الله عليه وسلم ، ونعوذ بالله من حال أهل التمثيل والتعطيل ونبرأ إلى ربنا جل وعلا من طريقهما ، فإنه طريق سوءٍ ومدخل ضلاله ، فلا نقل ولا عقل عند هؤلاء الأغبياء و إنما هو التخرص والهوى وإتباع الشهوات ، فهذه الصفات الواردة في السؤال قد وردت به الأدلة فنحن نثبتها لله تعالى إثباتاً بلا تمثيل وننزه الله تعالى من مماثلة خلقه تنزيهاً بلا تعطيل وهذه الصفات من صفات الذات التي لا تنفك عن الله تعالى ، ففي الصحيحين عن انس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم    ( ولا يزال جهنم يلقى فيها وهي تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها رجله وفي رواية عليها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط ) فقد أضاف الرجل والقدم إليه إضافة الصفة إلى الموصوف ، ولا يصح إن يقال إن الرجل هنا : طائفة من الخلق فإن هذا مخالف لظاهر الدليل بلا برهان ومخالف لما تقرر في منهج السلف رحمهم الله تعالى , وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( تحاجت الجنة والنار فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين ، وقال الجنة : مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم ؟ فقال الله عز وجل للجنة : إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنار : إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ، ولكل واحدة منكما ملؤها ، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فيها فتقول قط قط ........الحديث ) فهنا أضاف الرجل إليه إضافة الصفة إلى الموصوف لأن الرجل والقدم مما لا يقوم بذاته وقد تقرر لنا سابقاً أن الأعيان التي يضيفها الله إليه وهي مما لا يقوم بذاته فإنها إضافة صفة إلى موصوف . وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد نحوه ، وروى أحمد عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( افتخرت الجنة والنار .......فذكر الحديث وفيه ....فيلقى في النار أهلها فتقول هل من مزيد قال ويلقى فيها وهي تقول هل من مزيد ، قال فيلقى فيها وهي تقول : هل من مزيد ، حتى يأتيها الله عز وجل فيضع عليها قدمه فتنزوي وتقول : قدني قدني ...... الحديث ) وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الطويل ...وفيه ( فيكشف رب العزة عن ساقه فيسجد له كل من كان يسجد في الدنيا ويبقى من كان يسجد رياءً وسمعة فيذهب كما يسجد فينقلب ظهره طبقاً واحداً ) والشاهد منه قوله" ساقه " فإضافة الساق إلى الله تعالى إضافة حقيقية وهي من قبيل إضافة الصفة على الموصوف ، وقد أجمع أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى على ذلك ، وهو الذي نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا والله أعلم .

س224/   ما مذهب أهل السنة في صفة الكلام ، مع بيان ذلك بالأدلة ؟ وهل هو من صفات الذات أم الفعل ؟
ج/ يعتقد أهل السنة والجماعة رحمة الله عليهم وأجزل لهم الأجر والمثوبة وجزاهم الله تعالى خير ما جزى عالماً عن أمته أن الله تعالى موصوف بالكلام ، فهو جل وعلا يتكلم بما شاء كيفما شاء متى شاء ، وأن كلامه جل وعلا بحرف وصوت يسمعه من شاء الله أن يسمعه وأنه من صفات الذات باعتبار أصل الصفة ومن صفات الفعل باعتبار آحاده وإفراده ، وهذا معنى قول أهل السنة رحمهم الله تعالى " كلام الله قديم النوع حادث الآحاد" وهذه الصفة من الصفات التي كثرت الأدلة عليها وتنوعت في دلالتها ، قال تعالى :( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) (النساء: من الآية164)   وقال تعالى ( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ) (البقرة: من الآية253)   وقال تعالى ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً) (النساء: من الآية87) وقال      ( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (الأنعام:115) وقال تعالى ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ) (لأعراف: من الآية143) وقال تعالى ( وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً) (مريم:52) وقال تعالى ( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) (لأعراف: من الآية22) وقال تعالى ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (التوبة:6) وقال تعالى ( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ) (القصص:65) وقال تعالى ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (الشورى:51)   وكل آية فيها : وقال الله فإنها دليل على إثبات هذه الصفة ، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان )  وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس في قصة جلوس جويرية بعد الفجر إلى تعالي النهار فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( قد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قلت لوزنتهن ، سبحان الله وبحمده عدد خلقه ومداد كلماته ورضا نفسه وزنة عرشه ) والشاهد قوله " ومداد كلماته " وثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من نزل منزلاً فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرحل عن منزله ذلك ) رواه مسلم فدل ذلك على أن الله موصوف بالكلام وأنه ليس بمخلوق إذ لا تصح الاستعاذة بمخلوق فلما استعاذ بكلمات الله التامات دل ذلك على أنها ليست بمخلوقه ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى يوم القيامة : يا آدم فيقول : لبيك وسعديك  ، فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج بعث النار .... الحديث ) والشاهد منه " يقول الله " وكذلك " فينادي بصوت " فإن فيه أن كلام الله تعالى بصوت ٍ وروى أبو يعلى الموصلي عن عبد الله بن أنيس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( يحشر الله العباد أو قال : يحشر الناس حفاة عراة غرلاً ، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب : أنا الملك أنا الديان ) ورواه الإمام أحمد في المسند أيضاً ، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً   ( إن الله تعالى إذا أحب عبداً نادى يا جبريل أني أحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء إن ربكم يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء فيوضع له القبول في الأرض وإن الله تعالى إذا بغض عبداً نادى يا جبريل إني أبغض فلاناً فأبغضه فيبغضه جبريل فينادي جبريل إن ربكم عز وجل يبغض فلاناً فأبغضوه ....... الحديث) وعن جابر رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول : (هل من رجل يحملني إلى قومه ؟ فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل .... الحديث )رواه أحمد وأبو داود بسند صحيح ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله تعالى على سائر خلقه ) حديث حسن بطرقه وشواهده ،وثبت في أحاديث كثيرة قوله صلى الله عليه وسلم ( ثلاثة لا يكلمهم الله ) وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً ( إن الله تبارك وتعالى يقول يا أهل الجنة : فيقولون لبيك وسعديك فيقول ( هل رضيتم ...... وفيه فيقول أحل عليكم رضواني فلا اسخط عليكم أبداً )  وروى الإمام أبن خزيمة في التوحيد وعبد الله بن أحمد في السنة والبيهقي في الاعتقاد وفي الأسماء والصفات أيضاً عن ينار بن مكرم وكانت له صحبة أن أبا بكر رضي الله عنه خاطر قوماً من أهل مكة على أن الروم تغلب فارس فغلبت الروم فنـزلت ( الـم * غُلِبَتِ الرُّومُ ) (الروم2:1) فأتى قريشاً فقرأها عليهم فقالوا كلامك هذا ؟ قال : ليس بكلامي ولا كلام صاحبي ولكنه كلام الله عز وجل )وهو أثر صحيح . وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت في قصة الإفك ( والله ما كنت أظن أن الله تعالى ينزل براءتي وحياً يتلى ، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمر يتلى .....) متفق عليه ، وروى الإمام أحمد في الزهد وابنه عبد الله في السنة وأبو بكر بن أبي شيبة في المصنف والحاكم في المستدرك عن قروة بن نوفل الأشجعي قال   ( كنت جاراً لخباب فخرجنا يوماً من المسجد وهو آخذ بيدي فقال : " يا هناه ، تقرب إلى الله ما استطعت فإنك لن تقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه يعني القرآن " وهو أثر صحيح ، فأنت ترى توافر هذه الأدلة من الكتاب والسنة والأثر على إثباتها وأما الإجماع فقد أجمع أهل السنة قاطبة على إثبات هذه الصفة لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته بل ودل العقل الصريح على إثباتها أيضاً وبيان ذلك أن يقال : إن الكلام من حيث هو صفة كمال لأن نقيضها نقص وهو البكم والخرس ، وهذه الصفة أعني البكم والخرس لو اتصف بها المخلوق الضعيف العاجز كانت نقصاً بيناً فكيف يصلح إثباتها لمن له الكمال في المطلق سبحانه ؟ وقد تقرر عند أهل السنة أن كل كمال في المخلوق لا يقص فيه فالله أحق أن يوصف به لأنه واهب الكمال ومعطيه ومعطي الكمال أولى بالكمال ، فلما كان يلزم من نفى الكلام عنه وصفة بالنقص الذي هو منزه عنه وجب إثباتها على ما يليق بجلاله وعظمته ولذلك فإن من الأدلة المثبتة لبطلان إلهية الأصنام والأحجار وسلب الكلام عنها كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام ( قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) (الأنبياء:63) وقال تعالى عنه ( مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ) (الصافات:92) بل وقد دل الدليل الفطري أيضاً على إثباتها لله تعالى ، وهو أن الفطر السليمة التي لم تتلوث بعض علم الكلام المذموم ولا بقواعده المخالفة للمعقول والمناقضة للمنقول فإن هذه الفطر تعتقد أحقية الله تعالى بكل كمال وتنـزيهه عن كل نقص ، وصفة الكلام من الكمال فوجب إثباته لله تعالى ، وهذا ما نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا ولله الحمد والمنة ونسأله جل وعلا أن يثبتنا عليه إلى يوم لقاه ليجزينا به الجزاء الأوفى والله أعلم .

س225/ ما عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن مع بيان ذلك بالأدلة من الكتاب والسنة؟
ج/  عقيدة أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى في القرآن في ثلاث نقاط :
الأولى : أنه كلام الله ، قال تعالى ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ) (التوبة: من الآية6) والمراد حتى يسمع القرآن فدل ذلك على أنه كلام الله تعالى . وقال تعالى ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ) (لأعراف: من الآية54) ففرق تعالى هنا بين الخلق والأمر، وهما صفتان من صفاته أضافهما إلى نفسه الكريمة أما الخلق ففعله أما الأمر فقوله ، والأصل في المتعاطفين التغاير إلا بقرينه ، فبان بذلك أن الأمر غير مخلوق والأمر هو القرآن كما ثبت ذلك التفسير عن عامة السلف رحمهم الله تعالى ، وقد تقدم بعض الأدلة على إثبات ذلك الأمر في إجابة السؤال السابق ، وقد أنعقد الإجماع القطعي على ذلك من أهل السنة رحمهم الله تعالى.
الثاني : أنه منزل غير مخلوق ، قال تعالى  في آيات كثيرة ( تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (الزمر:1) وقال تعالى ( وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (الشعراء:192) وقال تعالى ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (الحجر:9) وقال تعالى ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ) (النحل: من الآية102) وقال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) (النساء: من الآية136)  وقال تعالى ( الـم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ..) (آل عمران: من 1-4)  والآيات في ذلك المعنى كثيرة ، وقد أتفق أهل السنة على ذلك الأمر وصرخوا بكفر من قال بأنه مخلوق ، قال عمر بن دينار رحمه الله تعالى أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فمن دونهم منذ سبعين سنة يقولون : الله الخالق وما سواه مخلوق والقرآن كلام الله تعالى منه خرج وإليه يعود . أ.هـ  قال إسحاق بن راهويه رحمه الله تعالى : وقد أدرك عمرو بن دينار أجلةً أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مثل جابر بن عبدالله وأبي سعيد الخدري وعبدالله بن عمر وأبن عباس وعبدالله بن الزبير وأجلةً من التابعين وعلى هذا مضى صدر هذه الأمة وسند الأثرين صحيح . وقال معاوية بن عمار الذهيني قلت لجعفر يعني أبن محمد : إنهم يسألون عن القرآن مخلوق هو ؟ قال :  ( ليس بخالق ٍ ولا مخلوق ولكنه كلام الله عز وجل ) وسنده صحيح ، وقال عبدالله بن نافع كان مالك بن أنس إمام دار الهجرة يقول : ( كلم الله موسى ) ويقول ( القرآن كلام الله ) وكان يستفضع قول من يقول القرآن مخلوق " وسنده صحيح ، وسئل سفيان بن عيينه رحمه الله تعالى عن القرآن فقال " كلام الله وليس بمخلوق " وسنده إليه جيد ، وقال عبدالله بن المبارك رحمه الله تعالى ( القرآن كلام الله تعالى ليس بخالق ولا مخلوق ) وسنده صحيح عنه ، وقال وكيع بن الجراح رحمه الله تعالى ( القرآن كلام الله عز وجل ليس بمخلوق ) وسنده صحيح عنه ، وقال يزيد بن هارون رحمه الله تعالى ( من قال القرآن مخلوق فهو كافر ) وسنده صحيح عنه ، وقال عبدالله بن إدريس الثقة الثبت : (  القرآن كلام الله ومن الله وما كان من الله عز وجل فليس بمخلوق ) وسنده صحيح عنه ، والآثار في ذلك كثيرة شهيرة ونكتفي بذلك خوف الإطالة والإملال .
الثالث : أن القرآن من الله بدأ وإليه يعود ، والمراد بقولهم : ( منه بدأ ) أي أن الله تعالى هو الذي تكلم به ابتداءً كما قال تعالى { قل نزله روح القدس من ربك } وقال تعالى ( الر * كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) (هود:1) وقال تعالى ( وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ) (النمل:6)  وكل آية فيها إثبات تنزيل القرآن من الله تعالى فهي دليل على أنه منه بدأ ، وأما قولهم     ( وإليه يعود ) ففيه تفسيرين أصحهما أن المراد أن كلام الله تعالى يسرى عليه في ليلةٍ فيرفع من المصاحف وصدور الحفاظ فلا تبقى في الأرض منه آية ، أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يقبض روحي وإياك قبل أن يرفع كلامه من بيننا فعن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يسرى على كتاب الله ليلاً فيصبح الناس ليس في الأرض ولا جوف مسلم منه آية ) حديث صحيح ، ومثله أيضاً حديث أبي هريرة رضي الله عنه فهذا المرفوع ، وأما الموقوف فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال ( يسرى على كتاب الله فيرفع إلى السماء فلا يصبح في الأرض آية من القرآن ولا من التوراة ولا من الإنجيل ولا من الزبور وينتزع من قلوب الرجال فيصبحون ولا يدرون ما هو ) حديث صحيح .
وعن شداد بن معقل أن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : ( لينتزعن هذا القرآن من بين أظهركم ‘ فقال له شداد بن معقل : يا أبا عبدالرحمن كيف ينتزع  وقد أثبتناه في صدورنا وأثبتناه في مصاحفنا ، فقال ابن مسعود يسرى عليه في ليلة فلا يبقى في قلب عبدٍ منه ولا مصحف منه شيء ويصبح الناس فقراء كالبهائم ثم قرأ عبدالله { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا }وإسناده صالح ، وهذان الأثران لا يقال مثلهما بالرأي لأنه من أمور الغيب فلهما حكم الرفع ، وقول السلف ( منه بدأ ) فيه رد على الجهمية الذين قالوا : بدأ من غيره ، وقولهم ( وإليه يعود ) فإنه يسرى به في آخر الزمان من المصاحف والصدور فلا يبقى في الصدور منه كلمة ولا في المصاحف منه حرف ، قاله شيخ الإسلام أبن تيميه رحمه الله تعالى فهذا اعتقادنا في القرآن الكريم ، أنه كلام الله تعالى وأنه منزل غير مخلوق وأنه من الله بدأ وإليه يعود وهذا ما نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا وندرسه لطلابنا في الحلقات والمدارس . والله أعلم .

س226/  هل يصح إطلاق القول بأن لفظي بالقرآن مخلوق أو قول لفظي بالقرآن غير مخلوق ؟ وضح ذلك بالتفصيل ؟
ج/ لا يصح إطلاق القول بهذا ولا بهذا ، ولا التحدث به أصلاً بل الواجب السكوت عنه وعدم الخوض فيه ، وهذا هو الأسلم للمرء في دينه لكن إذا ابتليت بمن يسأل عنه أو ثارت فتنة في زمنك قيل فيها أحد هذين القولين فأجب بما يلي :
أن المتقرر عند أهل السنة والجماعة أن الألفاظ الجملة لا تقبل مطلقاً ولا ترد مطلقاً وإنما هي موقوفة على الاستفصال ليتميز حقها من باطلها  فيقبل الحق ويرد الباطل ، وهاتان الكلمتان الواردتان في السؤال هما من الألفاظ المجملة ، فمن أطلق القول بأن ألفاظنا بالقرآن مخلوقه فهو جهمي ، ومن أطلق القول بأن ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقه مبتدع ،هكذا ورد عن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمة الله عليه وعلى سائر علماء أهل السنة ، فالأمر فيه تفصيل إذ أنه لا بد أن يفرق بين اللفظ والملفوظ به فمن قال لفظي بالقرآن مخلوق إن كان يقصد لفظه هو من نبرات صوته وحركة لسانه ولهاته فهذه لاشك أنها مخلوقه وإن كان يقصد الملفوظ به فهو قول باطل لأن ما تلفظ به هو القرآن وهو كلام الله منزل غير مخلوق ، فالصوت والألحان صوت القاري لكنما المتلو قول الباري ، وأصل هذه الكلمة إنما قالها المعتزلة وذلك أنه لما خبت نارهم وانكسرت شوكتهم في عهد المتوكل رحمه الله تعالى ولم يستطيعوا أن يصرحوا بمذهبهم في القرآن كما كانوا يصرحون به في عهد المأمون والمعتصم والواثق ، بحثوا عن كلمة مجملة يستطيعون بها نفث سمومهم بين أهل السنة من حيث لا يشعر بهم أحد فبدل أن يقولوا : القرآن مخلوق ، قالوا : ألفاظنا بالقرآن مخلوقه ، فاستعجل بعض الغيورين من أهل السنة عفا الله عنه وأراد أن يرد كلمتهم هذه بما يناقضها فقال      ( ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقه ) وكلا الإطلاقين مجمل كما تقدم وقد تبين لنا أن من قال لفظي بالقرآن مخلوق إن كان يقصد صوته هو من نبرات كلامه وحركات لسانه وشفتيه ولهاته وفكيه فهذا صحيح وإن كان يقصد الملفوظ به والمقروء والمتلو فهذا باطل وهو ما يريده المعتزلة بقولهم هذا لكنهم تستروا وراء هذه اللفظة المجملة ولذلك قال أهل السنة من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي لأن القرآن وإن كتب في المصاحف وقرئ بالألسنة وحفظ في الصدور فإنه لا يخرج بذلك عن كونه كلام الله منزل غير مخلوق من الله بدأ وإليه يعود.
وأما من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فلا يخلو من حالتين إن كان يقصد بذلك ما تلفظ به أي الملفوظ والمقروء والمتلو فهذا صحيح لا غبار عليه وهو عين اعتقاد أهل السنة رحمهم الله تعالى وإن كان يقصد صوته هو وحركات لسانه ولهاته وشفتيه وفكيه فهذا باطل لأن هذه الأشياء مخلوقه ، وبهذا التفصيل أجاب أهل السنة عن هذه الألفاظ المجملة وهذا هو الحق في هذه المسألة وهو الذي نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا والله تعالى  أعلى وأعلم .

س227/ بماذا استدل من ذهب إلى القول بأن القرآن مخلوق مع بيان الجواب على هذه الشبه ؟
ج/ لا دليل لهم على ذلك وإنما هي خيالات وشبه توهموها بفهمهم الفاسد ومذهبهم الرديء العاطل الكالح الباطل فهم يتبعون المتشابه ويتركون المحكم ويعملون بالمجمل ويتركون المبين ويلوون أعناق الأدلة ويحملونها ما لا تحتمل لتتوافق مع قولهم الفاسد البائر فمن ذلك قولهم : قال تعالى ( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (الزمر: من الآية62) والقرآن شيء من الأشياء فهو داخل في عموم هذا النص ، فيكون مخلوقاً ، فأجاب أهل السنة على ذلك الاستدلال بأن عموم ( كل ) لا تقتضي دخول الأشياء جميعها فإن صيغ العموم يكون عموم كل منها بحسبه ألا ترى إلى قوله تعالى عن بلقيس ملكت سبأ ( وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) (النمل: من الآية23) فإنه لا يفهم عاقل أنها أوتيت كل الأشياء فإنها لم تؤت ما أوتي سليمان عليه السلام ، وإنما المراد أنها من شيء يحتاجه الملوك في الغالب ، وكذلك قوله تعالى في ريح عاد { تدمر كل شيء بأمر ربها }ونعلم عقلاً وحساً أنها لم تدمر السماوات والأرض والجبال والجمادات بل حتى المساكن لم تخل في هذه الكلية  قال تعالى ( فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ) (الأحقاف: من الآية25) فدل ذلك على أنها إنما دمرت كل شيء أمرت بتدميره ، وكذلك قوله تعالى( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) فإن معناه عموم خلقه لما يصلح أن يكون مخلوقاً ، وهو هذه العوالم العلوية والسفلية من أرضها وسمائها وأفلاكها وملائكتها وإنسها وجنها وحيواناتها وشجرها ونباتها ومائها ونحو ذلك مما يصلح أن يوصف بكونه مخلوقاً ، لكن الله تعالى بصفاته هو الخالق جل وعلا وما سواه مخلوق ومن صفاته كلامه والقرآن من كلامه فلا يكون مخلوقاً ، إذ كيف بالله عليك يكون شيء منصفاته مخلوقاً ، وقال أهل السنة أيضاً : أيها المعتزلة هل أنتم تقولون إن أفعال العباد الصادرة منهم شيء أم ليست بشيء ؟ بالطبع سيقولون هي شيء من الأشياء ، فقل لهم : فأنتم تخرجونها عن كونها مخلوقة لله تعالى فأين حرصكم على الاستدلال بقوله { الله خالق كل شيء } وقد أخرجتم منه أفعال العباد فقلتم : لم يخلقها الله مع أنها شيء باعترافكم ، وتدخلون كلام الله تعالى في هذا الدليل لأنه شيء من الأشياء ، هذا والله عين التناقض فإنكم بذلك قد أخرجتم من العموم أفعال العباد وهي داخلة فيه بالإجماع ، وأدخلتم في العموم كلام الله وهو خارج  منه بالإجماع ، فأين عقولكم ، فحق هؤلاء شفقة بهم وإحساناً إليهم أن يدخلوا في المصحات العقلية لأخذ العلاج اللازم ، عافانا الله وإياك من كل بلاء وقال أهل السنة أيضاً : أيها المعتزلة : قال تعالى ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ ) (الأنعام: من الآية19) فهذا يثبت أن الله تعالى شيء وصفاته شيء وهو أكبر الأشياء جل وعلا ، فهل يدخل في هذا العموم ؟ بالطبع سيقولون لا ، فقل ، إن القرآن كلام الله وكلامه صفته وصفته غير مخلوقه فكيف أدخلتموه في هذا العموم والله أعلم .
ومن أدلتهم : أيضاً قوله تعالى ( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ) (الزخرف: من الآية3)) فقالوا : الجعل هنا هو الخلق فيكون المعنى إنا خلقناه قرآنا عربياً ، فقال أهل السنة ، وهذا الاستدلال أيضاً ساقط وما فهمتموه من الدليل ليس بشيء وبيان ذلك أن :
 ( جعل ) في اللغة العربية لها معانٍ فتأتي بمعنى ( خلق ) وتأتي بمعنى ( صَيَّر ) والقاعدة فيها : أن ( جعل ) إذا كانت لا تتعدى إلا إلى مفعول واحد فهي بمعنى ( خلق ) وإذا كانت تتعدى إلى مفعولين فهي بمعنى ( صَيَّر ) فمن أمثلة مجيئها بمعنى خلق قوله تعالى ( وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) (الأنعام: من الآية1)   فهنا بمعنى وخلق الظلمات والنور لأنها لم تتعدى إلا لمفعول واحد ، ومنه قوله تعالى { هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها } أي وخلق منها زوجها لأنها لم تتعدى إلا إلى مفعول واحد فقط .
وأما إذا تعددت إلى مفعولين فإنها تكون بمعنى صَيَّر ومن ذلك قوله تعالى ( فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا ) (البقرة: من الآية66)  فإن المفعول الأول ( ها ) في قوله       ( فجعلناها ) والمفعول الثاني ( نكالاً ) فيكون هنا بمعنى فصيرناها نكالاً ، ومنه قوله تعالى  ( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ) (الزخرف: من الآية19) فإن المفعول الأول ( الملائكة ) والمفعول الثاني ( إناثاً ) فتكون بمعنى صير أي وصير الملائكة باعتقادهم الفاسد إناثاً ، ومنه قوله تعالى ( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (الزخرف:3)  فالمفعول الأول الضمير والمفعول الثاني ( قرآناً ) والمعنى إنا صيرنا أو قلنا قرآناً عربياً ، هذا تفهمه العرب من كلامها ، ولا عبرة بفهم الأعاجم والأنباط وسقطة فارس والروم ، وبالله عليك هل يفهم عاقل من قوله تعالى ( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ ) (الزخرف: من الآية19) أي وخلقوا الملائكة ؟ ومن قوله تعالى ( فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ) (الفيل:5) أو فخلقهم كعصف مأكول؟ هل يفهم عاقل أن ( جعل ) هنا بمعنى خلق ؟ولكن المعتزلة قوم بهت والله يحفظنا وإياك من زلل القول والفهم والله أعلم .
ومن أدلتهم أيضاً : قوله تعالى ( مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (الأنبياء:2)  ومثلها قوله تعالى ( وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) (الشعراء:5) فقالوا : والمحدث هو المخلوق ، فقال أهل السنة رحمهم الله تعالى : إن قوله( مُحْدَثٍ ) من الحدوث وهو كون الشيء بعد أن لم يكن والقرآن العظيم حين كان ينزل ، كان كلما نزل منه شيء كان جديداً على الناس لم يكونوا علموه من قبل فهو محدث بالنسبة إلى الناس ، ألا تراه قال ( مَا يَأْتِيهِمْ ) ؟ فهو محدث إليهم حين يأتيهم ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم ( إن الله يحدث لنبيه ما شاء وإن مما أحدث لنبيه أن لا تكلموا في الصلاة ) فهل يكون المعنى : إن الله يخلق لنبيه ما شاء ؟ بالطبع لا ، وإنما المراد أنه تعالى يشرع من التشريع الجديد ما شاء وإن مما شرع ألا تكلموا في الصلاة ، فقوله ( محدث ) أي بالنسبة إلى لعباد أي جديد عليهم ، فيكون المعنى : أنه كلما أتاهم ذكر جديد من ربهم أي نزل عليهم شيء جديد من القرآن استمعوه وهم ساهون غافلون لاعبون متشاغلون معرضون فليس المحدث هنا هو المخلوق ، قال أبو العباس قدس الله روحه : ( المحدث في الآية ليس هو المخلوق الذي يقوله الجهمي ولكنه الذي نزل جديداً فإن الله كان ينزل القرآن شيئاً بعد شيء ، فالمنزل أولاً هو قديم بالنسبة إلى المنزل آخراً وكل ما تقدم على غيره فهو لغة العرب ) أ.هـ
ومن أدلتهم أيضاً : قوله تعالى في عيسى عليه الصلاة والسلام ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ) (النساء: من الآية171) وقال تعالى  ( يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) (آل عمران: من الآية45) وعيسى مخلوق فتكون الكلمة مخلوقة ، فقال أهل السنة : إن عيسى عليه الصلاة والسلام ليس هو  ( كن ) وإنما هو المكون بـ( كن ) كما قال تعالى ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران:59) وقال تعالى ( قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران:47) فكلمة الله هي قوله ( كن ) وهذه ليست هي عين عيسى عليه السلام حتى تكون هذه الكلمة مخلوقه وإنما عيسى هو أثرها المقصود بقوله ( فيكون ) فعيسى عليه السلام تكوَّن بـ ( كن ) وليس عين ( كن ) فالمعتزلة فهموا أن عيسى هو بعينه ( كن ) وهذا فهم بعيد عن الآية لا تدل عليه أبداً ، فعيسى عليه السلام مخلوق خلقه الله بأمره حين قال له ( كن ) فتكوَّن بهذه الكلمة هذا ما فهمه السلف من الآية وفهمهم حجة على من بعدهم بل هذا هو عين المراد من الآية والله أعلم .
هذه هي مجمل حججهم وأنت ترى أنها مبنية على الفهم الخاطئ من بعض الآيات والله يهدي القلوب ويثبتنا على الاعتقاد الحق وهو أعلى وأعلم .

س228/ ما لدليل على أن كلام الله تعالى بحرف ؟ ج/ الدليل على هذه المسألة  أوضح من شمس النهار التي أحرقت وأعمت عيون الخفافيش من المبتدعة ، ألا ترى أن الله تعالى قال في القرآن ( الم ) و ( المص ) و ( كهيعص ) و
( حم * عسق  ) فهل هذه إلا حروف وهي كلام الله تعالى . وعن ابن عباس رضي الله عنهما  قال : بينما جبريل عند النبي الله صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه فرفع رأسه فقال ( هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك ، فقال: وهذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم ، فسلم وقال : " أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك ، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته ) ، والشاهد منه قوله ( لن تقرأ بحرف منها ) فأطلق على الفاتحة وخواتيم سورة البقرة بأنها حروف وهي كلام الله فدل ذلك على أن كلامه جل وعلا بحرفٍ .  وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : ( تعلموا القرآن فإنه يكتب بكل حرف عشر حسناتٍ ويكفر به عشر سيئات أما إني لا أقول ( الم ) ولكن أقول : ألف عشر ولام عشر ، وميم عشر ) حديث صحيح موقوفاً لكن حكم الرفع لأن مثله لا يقال بالرأي ويروى مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه ( لا أقول " الم " حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف ) ، وقال أبن عباس رضي الله عنه ( ما يمنع أحدكم إذا رجع من سوقه أو من حاجته إلى أهله أن يقرأ القرآن فيكون له بكل حرفٍ عشر حسنات ) وسنده جيد ولذلك قال أهل السنة : إن من كفر بحرف منه فقد كفر به كله ، فهذا يفيدك أن كلام الله تعالى بحرف وهذا ما نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا والله أعلم .

س229/ هل يصح أن يقال إن بعض القرآن أفضل من بعض ؟ وضح ذلك بالأدلة ؟
ج/ هذا السؤال مجمل وقد تقرر في أجوبة كثيرة أن اللفظ المجمل يحتاج إلى تفصيل فنقول : لا يتفاضل باعتبار المتكلم به ، لأن المتكلم به هو الله تعالى ، فالقرآن كله حروفه ومعانيه من الله تعالى ، من الفاتحة إلى الناس فالمتكلم به واحد ، فهو بهذا الاعتبار لا يتفاضل لأن التفاضل إنما يكون بين شيئين أو أكثر فيقال : هذا أفضل من هذا ، والذي تكلم بالقرآن هو الله تعالى وهو واحد في ذاته وصفاته جل وعلا ، وإن كان المقصود بالتفاضل أي باعتبار دلالة الكلام وما يحمله من المعاني العظيمة فهو بهذا الاعتبار يتفاضل ، فإذاً نقول : هنا اعتباران : فأما باعتبار المتكلم به فلا تفاضل وأما باعتبار دلالته ومعانيه فإنه يتفاضل وعلى ذلك وردت الأدلة ، فقد روى النسائي من حديث أنسٍ رضي الله عنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم في مسيرٍ له فنزل، ونزل رجل إلى جانبه فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ألا أخبرك بأفضل القرآن ؟ قال فتلا عليه ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ  الْعَالَمِينَ ) (الفاتحة:2) وسنده صحيح .
وعن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال : كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه فقلت يا رسول الله إني كنت أصلي ، فقال: ألم يقل الله تعالى ( اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم ) (لأنفال: من الآية24)(( ثم قال لي لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد( ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له : ألم تقل ( لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ؟ فقال (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته )) رواه البخاري وغيره ، وعن أبيُّ بن كعب  رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يا أبا المنذر أتدري أيُّ آية من كتاب الله معك أعظم ؟ قال : قلت الله ورسوله أعلم ، قال يا أبا المنذر أتدري أيُّ آية من كتاب الله معك أعظم قال قلت : ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) قال فضرب في صدري وقال " والله ليهنك العلم أبا المنذر " رواه مسلم في صحيحه ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ ( قل هو الله أحد ) يرددها فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له وكأن الرجل يتقالها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن)  رواه البخاري وغيره ، وقال الشيخ تقي الدين : والصواب الذي عليه جمهور السلف والأئمة أن بعض كلام الله أفضل من بعض كما دل عليه الشرع والعقل   أهـ وهو ما نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا والله أعلم .

 


س230/ ما مذهب أهل السنة في صفة الاستواء مع بيانها بالدليل ؟ وهل هو من صفات الذات أم الفعل ؟
ج/ يعتقد أهل السنة رحمهم الله تعالى أن الله تعالى استوى على عرشه استواءً يليق بجلاله وعظمته , قال تعالى  ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) (الرعد: من الآية2) وقال ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طـه:5) وقد ورد إثبات ذلك لله تعالى في سبع آيات من القرآن جمعها الناظم بقوله :
في السجدة الرعد الحديد ويونس       وبطه والأعراف والفرقان
قال تعالى في سورة السجدة : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) (السجدة: من الآية4) وقال تعالى في سورة الرعد : ( اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) (الرعد: من الآية2) وقال تعالى في سورة الحديد : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) (الحديد: من الآية4) وقال تعالى في سورة الأعراف : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) (لأعراف: من الآية54) وقال تعالى في سورة طه : ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طـه:5) وقال تعالى في سورة يونس : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) (يونس: من الآية3) وقال تعالى في سورة الفرقان : ( الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً ) (الفرقان:59)  وقد أجمع أهل السنة رحمهم الله تعالى على إثبات هذه الصفة وأنه استواء حقيقة على ما يليق بجلاله وعظمته ، تعالى الله وتقدس على مماثلة خلقه في شيء من صفاته جل وعلا ، والاستواء من الصفات الفعلية . وهذا ما نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا  والله أعلم .

س231/ ما معاني الاستواء في لغة العرب ؟ مع تأييدها بالدليل ؟
ج/ الاستواء يختلف معناه في اللغة باختلاف وروده مطلقاً أو متعديً بحرف ، فإن ورد مطلقاً فيكون بمعنى النضج والكمال ومنه قوله تعالى ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً   وَعِلْماً ) (يوسف: من الآية22) أي لما بلغ كماله وتمامه ، وإذا ورد مقيداً بـ( إلى ) فيكون معناه القصد بإرادة تامة ومنه قوله تعالى ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ) (فصلت: من الآية11)  أي قصدها بالإرادة التامة .
 وإذا ورد مقيداً بالواو فهو بمعنى المساواة ومنه قول العرب :  استوى الماء والخشية أي ساواها  ، وقول البعض استوى محمد وبكر في العلم ، أي تساويا في العلم ، وهكذا .
وإذا ورد مقيداً بـ( على ) فإنه يكون بمعنى العلو والاستقرار والفوقية ومنه الآيات السبع المذكورة في إجابة السؤال السابق فاستواء الله تعالى على عرشه معلوم معناه في اللغة لكنه مجهول الكيف والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة والله أعلم .

س232/  ما العلة في إنكار كثير من الفرق لهذه الصفة مع ثبوتها بالأدلة الصحيحة الصريحة المتواترة ؟
ج/ العلة في ذلك أنهم مثلوا استواء الله على عرشه باستواء المخلوق على كرسيه أو على ظهر الفلك والدابة فاستوجب لهم ذلك لوازم باطلة فأرادوا أن يفروا منها ، فلزم عليهم أن الله محتاج إلى العرش وأنه يكون محيطاً به وأنه لو أبعد العرش لخر الرب كذا قالوا بكل وقاحة وقلة أدب ، فلم يجدوا إلا أن يحرفوا هذه الصفة بالاستيلاء ، فقالوا : معنى استوى استولى ، وهذا تحريف للكلم عن مواضعه ويلزم منه أن العرش كان مملوكاً لغيره جل وعلا ثم استولى عليه ، وهو مخالف لدلالة اللغة ومخالف لمنهج السلف والأدهى والأمر أنهم يحرفون نصوص الاستواء ويخرجونها عن دلالتها لبيت من الشعر لا يعرف قائله كل ذلك سببه لأنهم مثلوا استواء الله على عرشه باستواء المخلوق على ظهور الفلك والرواحل ولو أنهم قالوا بما قال به أهل السنة لما لزم عليهم هذه اللوازم الباطلة التي بنيت على باطل ، فالقوم يتقلبون من باطلٍ إلى باطل نعوذ بالله من حال أهل الأهواء والبدع والله أعلم .

س233/ ما مذهب أهل السنة في صفة العلو إجمالاً ؟ وهل هو صفة ذاتٍ أم فعل ؟
ج/ يعتقد أهل السنة اعتقادا جازماً لا ريب فيه أن الله تعالى في العلو المطلق بذاته جل وعلا وأنه من صفاته الذاتية التي لا تنفك عنه أزلاً وأبداً ، وهذه الصفة من الصفات التي أشتد فيها خلاف أهل القبلة من أمة الإجابة أفردها بعض أهل السنة بمؤلفات خاصة ككتاب العلو للعلي الغفار للإمام الذهبي ، واجتماع الجيوش الإسلامية للإمام ابن القيم وغيرها من الكتب فالله تعالى له العلو المطلق في ذاته وصفاته ، ونعني بعلو الصفات أن كل صفة أثبتها النص له جل وعلا فله كمالها المطلق جل وعلا ، فالعلو بكل اعتباراته ثابت لله تعالى وهو من صفاته الذاتية وهذا ما نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا والله أعلم .

س234/ ما أوجه دلالة النقل على إثبات هذه الصفة العظيمة ؟
ج/ لقد تنوعت دلالة النقل على إثبات هذه الصفة تنوعاً لا يدع لدى العاقل أدنى مجال للشك في أن الله تعالى متصف بها ولا يخالف في إثباتها إلا أعمى القلب أعمى البصر ..
فمن الأوجه  :  التصريح بها كقوله تعالى ( وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) (الشورى: من الآية4) وقوله تعالى ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) (الأعلى:1)
 ومن الأوجه  : التصريح بالفوقية لقوله تعالى ( يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) (النحل:50)   وقال تعالى ( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (الفتح: من الآية10) وفي الحديث ( لقد حكمت فيكم بحكم الله من فوق سبع سماوات )
ومن الأوجه  : التصريح بأن الأشياء تنزل من عنده ، كقوله تعالى ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) وقوله تعالى ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء) (النحل: من الآية89) والآيات في هذا المعنى كثيرة .
ومن الأوجه  : التصريح بصعود الأشياء ورفعها إليه كقوله تعالى (  إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (فاطر: من الآية10) وقوله تعالى عن عيسى ( بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ) (النساء: من الآية158)   وكحديث عروجه صلى الله عليه وسلم الطويل إلى السماء السابعة وفرض الصلاة عليه هناك .
ومن الأوجه : التصريح بعروج الملائكة والأمر إليه كقوله تعالى  ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (المعارج:4)  وقوله تعالى  ( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (السجدة:5)   ولا تعرج إلا لمن كان في العلو .
ومن الأوجه  : التصريح بأنه استوى على العرش ، والعرش هو سقف المخلوقات وأعلاها كما في الآيات التي سقناها في إثبات صفة الاستواء .
ومن الأوجه  : التصريح بأنه في السماء كقوله تعالى ( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) ( الملك :16ـ17)  وكقول الجارية ( في السماء ) وأقرأها النبي صلى الله عليه وسلم وشهد لها بالإيمان .
ومن الأوجه  : التصريح بأنه ترفع إليه الأيدي في الدعاء كحديث ( إن الله تعالى يستحي من عبده إذا رفع اليدين أن يردهما صفراً ) ولا ترفع إلا لمن كان في العلو .
ومن الأوجه  : التصريح بأنه ينزل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر كما سيأتي سياقه في الأحاديث إن شاء الله تعالى ، ولا ينزل إلا من كان في العلو .
ومن الأوجه  : الإشارة الحسيه إليه إلى العلو كما أشار إليه من هو أعلم بربه وما يجب له ويمتنع عليه من جميع البشر لما كان بالمجمع الأعظم الذي لم يجتمع لأحد مثله في اليوم الأعظم قال لهم : إنكم مسؤولون فماذا أنتم قائلون ؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فرفع إصبعه الكريمة إلى السماء وينكبها إليهم قائلاً اللهم اشهد اللهم اشهد ) وغير ذلك من الأوجه ، فإنها تدل دلالة قطعية على إثبات هذه الصفة لله تعالى ، لا كما يقوله المعطلون الجاحدون المخالفون للمنقول والمناقضون للمعقول وفي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال : كانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول : زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات ) وفي الصحيح من حديث أبي هريرة ( لما خلق الله الخلق كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي) وقال عليه الصلاة والسلام في رقية المريض ( ربنا الله الذي في السماء تقدس أسمك أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء أنزل رحمتك في الأرض اغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع ) رواه أبو داود في كتاب الطب .
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال ( ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء ) وفي الصحيح من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته ( رفع يده أو إصبعه إلى السماء وقال " في الرفيق الأعلى ثلاثاً ثم قضى " والأدلة من السنة على هذه الصفة لا تكاد تحصر ، فراجع الكتب التي ذكرت لك للاستزادة من البراهين الساطعة ليزداد اطمئنان قلبك وتكون على نور وبصيرة  والله أعلم .

س235/ هل دل العقل والفطرة على إثبات هذه الصفة ؟
ج/ نعم ، قد دل الدليل العقلي والفطري على إثبات هذه الصفة ، فأما الدليل الفطري فإن من المتقرر في الفطر السليمة التي لم تتلوث بعض أهل الكلام ، أن الله تعالى في العلو ، فإن من قام بقلبه حاجة وحلت عليه ضرورة وأراد أن يدعو الله تعالى بكشف حاجته وما به من ضر ، قلبه لا يتجه إلى أسفل ولا إلى اليمين ولا الشمال ولا إلى الخلف بل يجد في قلبه ضرورة طلب جهة العلو ولذلك نجده من حيث يشعر أو لا يشعر يتجه ببصره ورأسه ويديه إلى السماء لأن فطرته تعلم جزماً أن مفرج الكربات وقاضي الحاجات ومغيث اللهفات في العلو , ولا عبرة بمن تلوثت فطرته وأفسدت بالشبهات التي يمليها شياطين الإنس والجن , فهذا أمر لا تنكره الفطرة بل قد استقرأوها عليه وأما دلالة العقل فمن
 وجوه :
الأول : أن ضد العلو السفل أو المحاذاة والسفل نقص والمحاذاة توجب المساواة وهي نقص في حق الله تعالى والله منزه عن النقص فحيث انتفى السفل والمحايثة ثبت العلو وهو المطلوب .
الثاني : أن البشر يستشرفون أن يكونوا في العلو لعلمهم أنها كمال ولذلك تجد عليه القوم من الملوك والأمراء يعلون بنيانهم ويكونون في أعلاه ، ويتشرف أحدهم إذا أجتمع رعيته في الشوارع أن يشرف عليهم من أعلا شرفات قصره ليكلمهم ويأمرهم و ينهاهم ولله المثل الأعلى فهو ملك الملوك وجبار السماوات والأرض العلي الأعلى ، فحيث كان ذلك كمالاً في المخلوق فالخالق أحق أن يتصف به لأن كل كمالٍ ثبت للمخلوق لا نقص فيه فالله أحق بالاتصاف به والله أعلم .

س236/ ما مذهب أهل السنة في صفة المعية مع بيان أقسامها ، موضحاً ذلك بالأدلة ؟
ج/ يعتقد أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى أن الله جل وعلا مع خلقه معية تليق بجلاله وعظمته ، وأنها قسمان :
معية عامة ومعية خاصة ، فالمعية العامة من مقتضياتها العلم والإحاطة والهيمنة والقدرة والتدبر ، والمعية الخاصة من مقتضياتها الحفظ والنصر والتأييد ، فمن أدلة العامة قوله تعالى  ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ) (الحديد: من الآية4) وقوله تعالى ( مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ) (المجادلة: من الآية7) "" وأما الخاصة فمن أدلتها قوله تعالى  ( لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) (التوبة: من الآية40)  وقوله تعالى ( إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ) (طـه: من الآية46) وقوله تعالى ( قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ) (الشعراء:15) وهذه معية خاصة مخصوصة بشخص ، ومنه المعية الخاصة المقيدة بوصف كقوله تعالى ( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ) (النحل:128)
 وقوله تعالى ( وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (لأنفال: من الآية46) وأمثال ذلك ، وكلها حق على حقيقتها على ما يليق بجلاله وعظمته ، وتفسير السلف رحمهم الله تعالى للمعية العامة بالعلم والإحاطة والهيمنة والتدبر وتفسيرهم للخاصة بالنصر والتأييد والحفظ ليس تفسيراً بالحد الجامع المانع وإنما هو تفسير للشيء ببعض مقتضياته ، وإلا فالقول الجامع في هذه الصفة أن يقال : أن من صفاته المعية فنحن نثبتها لله تعالى من غير تمثيل ولا تكييف ومن غير تحريف ولا تعطيل لأن الله تعالى ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: من الآية11) فبان ذلك أن معية الله لخلقه ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع السلف ، أنها حق على حقيقتها لكنها معية تليق بجلاله وعظمته ولا تشبه معية المخلوق للمخلوق وأنها لا تقتضي أن يكون الله تعالى مختلطاً بالخلق أو حالاً في أمكنتهم والله أعلم.

س237/ هل هناك تعارض بين كونه تعالى فوق عرشه في العلو المطلق وأنه معنا ؟ وضح الجواب ؟
ج/ لا تعارض في ذلك البتة ، لكن احذر من أن ينقدح في ذهنك مماثلة الله في صفاته بخلقه فإنه لا يتعارض إلا في ذهن من جعل صفات الباري وقدرته كصفات خلقه وقدرتهم وأما من قدّر الله حق قدره وعلم علم اليقين أنه ليس كمثله شيء فإنه أبداً لا يمكن أن يثور في شيء من هذه الإشكالات الباردة التي يوردها نفاة الأسماء والصفات ، وقد جمع العلماء بين ذلك فقالوا :  الجمع بين ذلك من وجوه :
الأول : أن الأدلة جمعت بينهما والأدلة لا يمكن أن تأتي بالمحال أبداً ، فهي وإن أتت أحياناً بما يحار فيه العقل لكنها لا تأتي أبداً بما يتعارض مع العقول السليمة من الآفات    الدخيلة .
الثاني  : أن العلو والمعية قد يجتمعان في حق المخلوق الضعيف والعاجز ، فإن العرب تقول في أسفارها : مازلنا نسير والقمر معنا ، والقمر في العلو ومع ذلك يقولون إنه معنا ,فإذا كان ذلك متصوراً في حق المخلوق العاجز الضعيف ، أفيكون محالاً في حق الخالق القادر القوي من كل وجه ؟
الثالث : سلمنا جدلاً أنه ممتنع في حق المخلوق ، فإن امتناعه في حق المخلوق لا يلزم منه امتناعه في حق الخالق ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، وهو العلي  في قربه ودنوه والقريب في علوه وفوقيته جل وعلا ، والله أعلم .

س238/ هل تجوز الإشارة الحسية عند ذكر شيء من صفات الله تعالى ؟ وضح ذلك بالدليل ؟
ج/ لا يخلو الأمر من حالتين :
الأولى : إن أريد بهذه الإشارة عين المماثلة فهي حرام ، لأن المتقرر عند أهل السنة والجماعة أننا لا نعلم كيفية صفات الله تعالى ، وأن الله ليس كمثله شيء ولم يكن له كفواً أحد وليس له سمي ولا ند ولا نضير ، فإذا كان مقصود صاحب هذه الإشارة أن هذا هو عين كيفية صفة الله تعالى فهو حرام ولا شك في ذلك ، وأما إن كان يقصد بذلك إرادة تحقيق إثبات الصفة لله تعالى فهذا لا بأس به ، لكن من الأحسن تركه سداً لذريعة انقداح المماثلة وخصوصاً عند العوام الذين يخشى عليهم من ذلك والدليل على جوازه ما رواه أبو داود في سننه بسند قوي على شرط مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ قوله تعالى ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ) (النساء:58) ويضع إصبعه ، قال يونس ووضع أبو هريرة إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه قال البيهقي رحمه الله تعالى :( وأراد بهذه الإشارة تحقيق إثبات السمع والبصر لله تعالى لبيان محلهما من الإنسان ) إ.هـ
وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر ( يقبض الله سمواته فيأخذهن بيمينه ويقبض الأرضين ويأخذهن بيده الأخرى ثم يهزهن ويقول أنا الملك ، فقبض النبي صلى الله عليه وسلم ويهزهما فأهتز أصل المنبر حتى أني أقول أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الإرادة حقيقة الهز لا أن الهز كالهز أي كما أن هذا هو الهز الصادر مني على وجه الحقيقة فأنا أريد حقيقة الهز الصادر من الله تعالى على وجه الحقيقة ولكن على الكيفية التي لا يعلمها إلا الله تعالى والله أعلم .  

س239/ ما مذهب أهل السنة في صفة النزول مع بيان ذلك بالدليل ؟
ج/ يعتقد أهل السنة والجماعة أن الله جل وعلا ينزل في ثلث الليل الآخر نزولاً يليق بجلاله وعظمته وأنه من الصفات الفعلية وقد تواتر الدليل من السنة بإثباته فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل ربنا عز وجل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يسألني فأعطيه من يدعوني فأستجيب له من يستغفرني فأغفر له ) وقد روى هذا الحديث عدة من الصحابة منهم أبو سعيد الخدري وجابر بن عبدالله ورفاعة بن عرابه الجهني وجبير بن مطعم وعثمان بن أبي العاص وأبي الدرداء وعلي بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود وأبن عباس وأم المؤمنين عائشة وأم سلمة وعبادة بن الصامت وغيرهم رضي الله عنهم وأرضاهم بألفاظ مختلفة لكنها متفقة في إثبات صفة النزول لله تعالى فيجب الإيمان بها وتفويض كيفيتها إلى الله عز وجل  
قال الناظم :  
والله ينـزل دون كيف يا فتى          نحو السماء إذا مضى الثلثان
فيقول هل من سائل فأجيبه            هل من منيب طالب الغفران
 
وعلى إثباتها أجمع أهل السنة والجماعة فنثبتها لله جل وعلا من غير تحريف ولا تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل ونقول أن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

س240/ ماذا قال أهل البدعة في هذه الصفة ؟ مع بيان الجواب على ذلك ؟  
ج/ المبتدعة أبعدهم الله تعالى قد أبت نفوسهم قبول وصف الله تعالى بهذه الصفة ورأوا بأفهامهم الفاسدة وعقولهم الكاسدة أن إثبات ذلك لله تعالى يوجب اتصافه بالنقص ففروا من إثباتها إلى تحريفها وتعطيلها فقالوا : إن إضافة النزول إلى الله تعالى إضافة مجازية لا حقيقة وإنما الذي ينزل أمره أو رحمته أو ملك من الملائكة ، وأما الله تعالى فإنه منزه عن النـزول ، وهذا هو شأنهم في سائر الصفات التي لا تتوافق مع مذاهبهم وعقولهم , فقال أهل السنة جوابنا على ما قلتموه من عدة أجوبة :
الأول  : أن فهمكم هذا مخالف لما فهمه السلف وأجمعوا عليه فهو باطل لأنه مخالف للحق وما خالف الحق فهو باطل .
الثاني  : أنه صرف للفظ عن دلالته الظاهرة إلى شيء آخر بلا دليل أو قرينة صارفة وقد تقرر أن الأصل هو البقاء على الأصل والظاهر حتى يرد الناقل .
الثالث  : أنكم جعلتم في الكلام شيئاً محذوفاً والأصل عدم الحذف ، وعدم التقدير، ومخالف الأصل عليه الدليل .
الرابع  : أن أمر الله ورحمته نازلة بالليل والنهار فلم قيدتم نزولهما في هذا الوقت فقط ؟ إن هي إلا أهواء أتبعتموها أنتم وأسلافكم ما نزل الله بها من سلطان .
الخامس  : هل يتصور بالله عليكم أن يقول الأمر والرحمة والملك ، من يسألني فأعطيه من يدعوني فأستجيب له من يستغفر فأغفر له ، فهل يمكن أن يصدر هذا الكلام من أحدٍ إلا الله عز وجل ، فهو الذي يعطي السائلين ويجيب الداعين ويغفر للمستغفرين فالقوم أصلاً لم يفكروا بعقولهم في عواقب تحريفهم هذا وإنما همهم كيف الفرار من إثبات هذه الصفة فقط فوقعوا فيما وقعوا فيه بسبب ذلك والله أعلم .
س341/ قد يتوهم البعض في قوله تعالى ( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) (الملك: من الآية16) وما شابهها وقول الجارية لما سئلت أين الله قالت ( في السماء ) أن الله تعالى داخل السماء أي أنها تقلُّهُ أو تظله ؟ فما الجواب لإزالة ذلك الإيهام ؟
ج/ أقول هذا الوهم لا يرد إلا في ذهن من لم يقدر الله تعالى حق قدره ولم يعرف أنه تعالى العظيم في ذاته وصفاته وأفعاله ، ومع ذلك فقد كشف أهل السنة النقاب عن هذا الوارد فقالوا جوابنا من وجهين :
الأول  : أن حرف ( في ) في الآية والحديث لا يراد به الظرفية وإنما يقصد به أنه بمعنى ( على ) ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى قال عز وجل ( وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) (طـه: من الآية71) والمراد عليها ، وقال تعالى ( فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ ) (التوبة: من الآية2) والمراد عليها ، فقوله تعالى ( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ) (الملك: من الآية16) أي على السماء هذا الجواب الأول .
الثاني  : سلمنا أن المراد بـ( في ) الظرفية لكن لا نسلم أن المراد بالسماء هذه الأطباق السبعة بل المراد بها العلو فإن كل ما علاك فهو سماء ، ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى قال عز وجل في وصف الشجرة الطيبة (ٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) (إبراهيم: من الآية24) أي في العلو، وقال تعالى ( وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً ) (الفرقان: من الآية48) والمطر ينزل من السحاب فسمي السحاب سماء لعلوه ، فقوله تعالى ( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ) أي من في العلو ، والله له العلو المطلق جل وعلا ، وبهذين الجوابين لا يبقى ثمة إشكال ولله الحمد والمنة والله أعلم .

 

س242/ ما مذهب أهل السنة في صفة المجيء والإتيان مع بيان الأدلة على ذلك ؟ وهل هما من صفات الذات أم الفعل ؟
ج/ يعتقد أهل السنة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى وجمعنا بهم في الجنة أن لله تعالى مجيئاً وإتياناً يوم القيامة لائقاً بجلاله وعظمته لا يماثل مجيء المخلوقين ولا إتيانهم ، فليس كمثله شيء في مجيئه وإتيانه ومجرد الاتفاق في الاسم لا يستلزم الاتفاق في المسمى فنثبتها لله تعالى إثباتاً بلا تمثيل وننزهه عن مماثلة خلقه تنزيهاً بلا تعطيل ، فما أسلم ذلك المذهب وما أبرده على القلوب وما أوضحه وأحكمه وأعلمه فنسأل الله تعالى أن يميتنا عليه . والمجيء والإتيان من صفات الله الفعلية المتعلقة المشيئة ، قال تعالى ( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً) (الفجر:22) وقال تعالى ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ) (البقرة:210) وفي الحديث الصحيح ( فيأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون ) وقد حرفها المبتدعة بمجيء أمره ، وهذا مخالف للأدلة ومخالف لمنهج السلف ، وإقحام لفظه في السياق لا برهان عليها ، ومخالفة للأصل بلا مقتضٍ والله أعلم .

س243/ ما مذهب أهل السنة رحمهم الله تعالى في الرؤية ؟ وأذكر الأدلة المثبتة لذلك ؟  
ج/ يعتقد أهل السنة والجماعة ويشهدون أن الله تعالى يرى يوم القيامة رؤية حقيقة عياناًً بالأبصار فيرى في عرصات يوم القيامة ويرى بعد دخول الجنة ، كما يرى القمر ليلة البدر والشمس صحواً ليس دونها سحاب ، وكل ذلك على الكيفية التي يريدها الله تعالى ، لا ندخل في هذا الباب متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا بل نثبت ما أثبته النص ونسكت عما سكت عنه ونقف حيث وقف السلف رحمهم الله تعالى ، والأدلة على الرؤية قد بلغت مبلغ التواتر ، فمن القرآن قوله تعالى ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (القيامة:23:22) وقال تعالى ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (يونس:26) وقد فسر أعلم الخلق بربه هذه الزيادة بأنها رؤية الله تعالى ، وقال تعالى ( لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ )         ( قّ:35 ) وأما من السنة فأحاديث كثيرة ، منها حديث صهيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى تريدون شيئاً أزيدكم ؟ فيقولون : ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار ؟ قال : فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم ) ثم تلا هذه الآية ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ) رواه مسلم ، وفي الصحيح عن جرير رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب فإن استطعتم على أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ) وفي الصحيح أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن أناساً قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (  هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ؟ قالوا لا يا رسول الله فقال : هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها حجاب ؟ قالوا لا يا رسول الله قال : فإنكم ترونه كذلك ) وهذان الحديثان فيهما تشبيه الرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي ، أي أن رؤية الله تعالى يوم القيامة ستكون في أعلى درجات الوضوح فلا مضارة فيها ولا خفاء ولا لبس ولا شك .
وعن أبي سعيد الخدري نحو حديث أبي هريرة وهو في الصحيح أيضاً ، وقد وردت أحاديث الرؤية من طريق الصديق وأنس وجابر وجرير البجلي وحذيفة وأبي هريرة وزيد بن ثابت وصهيب وعبادة بن الصامت وأبن عباس وابن عمر وأبن مسعود ولقيط بن عامر وأبي رزين وعلي بن أبي طالب وعدي بن حاتم وعمار بن ياسر وفضالة بن عبيد وأبي سعيد الخدري وأبي موسى الأشعري وبريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنهم وأرضاهم وجمعنا بهم في الجنة ، وقد أخرج اللالكائي في شرح السنة من طريق مفضل بن غسان  قال : سمعت يحيى بن معين يقول : عندي سبعة عشر حديثاً في الرؤية كلها صحاح  .   أهـ   
 قلت : وهذا ما نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا .
س244/  هل أثبت المبتدعة رؤية الله تعالى ؟ وبماذا احتجوا وكيف الجواب عن استدلالتهم؟
ج/ بالطبع لم يثبتوها بل حرفوها إلى رؤية الثواب والجزاء والنعيم فقط ، وهذا كعادتهم قبحهم الله تعالى فيما لا يتوافق مع عقولهم الرديئة وأفهامهم المنتنة ويا ليت الأمر وقف على الإنكار والتحريف فقط بل استدلوا على نفيهم هذا بأدلة من القرآن فقالوا : قال تعالى لموسى عليه السلام ( قَالَ لَنْ تَرَانِي ) (لأعراف: من الآية143) ولن هذه تفيد التأبيد عندهم فهذا نفي للرؤية على وجه الإطلاق ، كذا قالوا ، فقال أهل السنة : لنا على استدلالكم هذا عدة أجوبة :
الأول  : أن ( لن ) لا تفيد النفي المؤبد حتى وإن قرنت بلفظ الأبد ، بدليل قوله تعالى عن اليهود ( فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ   أَيْدِيهِمْ ) (الجمعة7:6) ومع ذلك فإنهم يتمنونه في الآخرة إذا دخلوا النار كما في قوله تعالى ( وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ) (الزخرف:77) وخلاصة هذا الوجه هو أن نفي الرؤية في ذلك الوقت لا يلزم منه انتفائه مطلقاً وإنما هذا شيء قاله بعض صناديد المعتزلة ولذلك قال ابن مالك :
              ( ومن يرى النفي بـ ( لن ) مؤبدا          
                                                       فقوله أردد وسواه فاعضدا )
الثاني : أن الله تعالى قال ( لَنْ تَرَانِي ) ولم يقل : إني لا أرى أولست بمرئي ، أو لا تجوز رؤيتي ، والفرق بين الجوابين ظاهر ، بل قال ( لَنْ تَرَانِي ) ففي ذلك دليل على أنه يرى ولكن موسى عليه السلام لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار لضعف قوى البشر عن رؤيته .
الثالث : أن الله تعالى بين السبب في عدم رؤيته وهو عدم تحمل النفس ذلك بدليل أنه تعالى لما تجلى للجبل حصل للجبل ما حصل من الإندكاك فأعلمه الله تعالى بذلك أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذه الدار فكيف بالبشر الذي خلق من ضعف ؟ فهذا دليل على أن المانع ضعف القوى البشرية عن رؤيته ولذلك فإن هذه القوى تضاعف في الجنة حتى يتمكن أهلها من رؤيته كما ثبتت بذلك الأدلة .
الرابع : أنه لو كانت رؤيته تعالى محال لما كان كليم الله تعالى يتكلف السؤال عنها لأنه أعلم الناس بربه في زمانه فلا يتصور منه أن يسأل ما لا نجوز على الله تعالى فلما سألها موسى علم بذلك أنها مما يمكن ولكن ثمة مانع وهو الضعف البشري ، فلا يمكن أن يكون هؤلاء المتهوكون الحمقى أشد تنزيهاً وأعلم بالله من كليمه ورسوله الكريم .
الخامس : أنه تعالى تجلى للجبل ، فإذا جاز أن يتجلى للجبل الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب فكيف يمتنع أن يتجلى لرسله وأوليائه في دار كرامته ؟ لكن الله تعالى أعلم موسى بأن الرؤية الآن لا تمكن .
السادس : سلمنا جدلاً أن هذه الآية فيها شيء من النقاش فلا تعدو بذلك أن تكون من المتشابه وقد تقرر في الأصول أن المتشابه يرد إلى المحكم والأدلة المثبتة للرؤية من الكتاب والسنة كثيرة وتأيدت بالإجماع القطعي الذي يكفر من خالفه ، فإذا قدروا على الدخول على هذه الآية فهل بالله عليك يقدرون على كل الأدلة المثبتة للرؤية ؟ بالطبع لا إلا مع العناد والاستكبار ، وهذا التسليم جدلي ، وإلا فالآية من المحكم كما سبق في الأجوبة والله تعالى أعلى وأعلم .
وقالوا أيضاً : قال تعالى ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ) (الأنعام: من الآية103) فهذا نفي للإدراك الذي هو الرؤية ، كذا قالوا ، فقال أهل السنة : إن المنفي في هذه الآية ليس الرؤية وإنما هو الإدراك أمر يعقب الرؤية فهي تفيد أنه يرى ولكنه لا يدرك رؤية كما أنه يعلم ولكن لا يحاط به علماً ، فكل إدراك رؤية وليس كل رؤية إدراكاً ، أولا ترى إلى قوله تعالى ( فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) (الشعراء:61) فاثبت الرؤية ونفى الإدراك ، فالإدراك أمر زائد على الرؤية ، ففي الحقيقة أن هذه الآية دليل لنا لا لهم ، لأنه لما نفى الإدراك علمنا أن هناك رؤية إذ لو لم يكن هناك رؤية أصلاً لما نفى الإدراك ، وأضرب لك مثالاً : أنت ترى المساء لكن هل تدركها كلها ؟ الجواب لا ، فعندك رؤية بلا إدراك ، ومثال آخر : أنت ترى الأرض لكن هل تدركها كلها ؟ الجواب لا فعندك رؤية بلا إدراك ، فالله تعالى وله المثل الأعلى يرى ولكن لا يدرك وذلك لكمال كبره وعظمته وعزته جل وعلا ، فالمعتزلة فهموا أن معنى الإدراك هو الرؤية وهذا خطأ وضلال بل الإدراك هو الإحاطة , فلا حجة لأحدٍ في مخالفة ما ثبت به النص والله أعلم .  
   س245/ هل من أسمائه جل وعلا ( القديم ) مع توضيح ذلك ؟
ج/ لا ليس من أسمائه القديم وذلك لأمرين :
الأول : أن أسماء الله تعالى مبناها على التوقيف أي على ورود الدليل ولم يأت فيما أعلم نص صحيح بذلك فحيث لم يثبت في ذلك شيء فإن الأصل عدمه فلا يجوز تسمية الله تعالى به .
الثاني : أن أسماء الله تعالى أسماء حسنى وذلك لاشتمالها وتضمنها صفات كمال من كل وجه ، والقديم صفته القدم وهذه الصفة لا كمال فيها ، فلا يصح تسمية الله تعالى به ، وتستبدل باسمه الثابت بالإجماع ( الأول ) الذي ليس قبله شيء جل وعلا والله أعلم .  

س246/ هل يمكن أن يتعارض النقل مع العقل ؟
ج/ لا ، لا يمكن هذا أبداً ، ولذلك فإن أهل السنة رحمهم الله تعالى قرروا في ذلك قاعدة عظيمة وهي قولهم : ( لا يتعارض نص صحيح ، وعقل صريح ) ويقصدون العقل الصريح أي السليم من الآفات الدخيلة على العقل ، وقد ألف فيها أبو العباس تقي الدين كتابه الكبير، ورد تعارض العقل والنقل فأتى فيه بما لم يأت به أحد ، جزاه الله خيراً ورفع نزله في الفردوس الأعلى وحشرنا وإياه في زمرة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فإذا وجد ما يوهم التعارض فانظر أولاً في صحة النقل ، أعني إذا كان من السنة فإذا ثبتت صحته فانظر في صراحة العقل وسلامته من الآفات الدخيلة عليه ، فإذا توفر الأمران فإنه أبداً لا يمكن أن يتعارض النقل مع العقل ، فإن الذي أنزل النص هو الذي خلق العقل وهو أصدق حديثاً وأحسن قيلاً من خلقه ، والنقل ما نزل إلا لهداية العقل وإخراجه من ظلمات الشرك والبدعة والغفلة والمعصية إلى نور التوحيد والسنة والطاعة فكيف يجعل معارضاً له ، ولذلك فإنه لا يدعي وجود هذه المعارضة إلا أهل البدع ، وأما أهل السنة فإنه لا يعرف عنهم في ذلك حرف واحد ، والله أعلم .

س247/ ما حكم التسمي بأسماء الله تعالى ؟ مع الدليل ؟
ج/ أقول : هذه المسألة لا تخلو من حالتين :
الأولى  : أما الأسماء الخاصة به جل وعلا كـ ( الله ) و ( رب العالمين ) و         ( الرحمن ) و ( الإله ) ونحوها فإنه لا يجوز التسمي بها قولاً واحداً ، لأنها لا يصح أن تطلق إلا عليه جل وعلا إذ لا يستحقها غيره عز وجل .
 الثانية  : بقية الأسماء كالرحيم والكريم والعزيز والسميع والبصير ونحوها ، فهذا يجوز التسمي بها بشرطين ، شرط أصلي لازم ، وشرط تكميلي ، فأما الشرط الأصلي اللازم فألا يراعى في التسمية معنى الصفة ، أي لا يسمي أحد بالكريم لأن من صفاته البارزة الكرم ، ولا يسمى أحد بالقوي لأن من صفاته البارزة القوة ، ولا يسمى أحد بالجواد لأن من صفاته الجود ، ولا يسمى أحد بالحكم لأن من صفاته البارزة فصل الحكومات بين الناس والرضا بحكمه ، وهكذا فإذا روعي في التسمية معنى الصفة فإنه يمنع ودليل  حديث أبي شريح وأنه كان يكنى أبا الحكم فلما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن علة ذلك قال : إني إذا اختصم قومي حكمت بينهم فرضوا بحكمي ، فقال ( ما أحسن هذا ، فكم لك من الولد ، فعدهم وذكر أن أكبرهم شريح ، فقال : أنت أبو شريح ) حديث صحيح ، فقد غير النبي صلى الله عليه وسلم كنيته لأنه روعي أو نقول : روقب فيها معنى الصفة ، مع أن من أصحابه من كان اسمه الحكم ، كالحكم بن هشام رضي الله عنه وأرضاه ، ولم يغيره النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يراقب فيه معنى الصفة ، فهذا دليله من الأثر ، وأما النظر فلأن ذلك فيه لزوم الأدب مع الله تعالى وسلوك مسلك المتعبدين المتواضعين الذين يقدرون الله تعالى حق قدره وفيه احترام لأسمائه وصفاته جل وعلا وتعظيمها وهذا من تعظيم من تسمى واتصف بها عز وجل ولأنه إذا رضى بذلك فإن ذلك نوع مضاهاة لله تعالى في أسمائه وصفاته جل وعلا ، فهذا الشرط كما ذكرت لك شرط أساسي مهم جداً ،
وأما الشرط التكميلي فهو أن يكون الاسم غير محليً بالألف واللام كأن يقال : ( كريم ) بدون ( أل ) أو ( عزيز ) بدون ( أل ) أو ( جواد ) بدون ( أل) وهكذا ، وذلك لأن الألف واللام لها شأن عندنا في لغة العرب وهي أنها تفيد استغراق أجزاء المسمى ما لم يتقدم قرينة عهد فإذا قلت : العزيز دخل فيه كل معاني العزة ، وإذا قلت الكريم دخل فيه كل معاني الكرم ، وهكذا ، وهذا خاص بالله جل وعلا , وهذا المعنى يزول إذا جردتها من
( أل ) وقلنا : إن ذلك شرط تكميلي لأمرين :
الأول  : لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الحكم بن هشام على التسمي بذلك مع أنه معرف بـ ( أل ) مما يدل على أن الأمر فيه تسامح .
الثاني : أن العامة غالباً لا يريدون معنى الاستغراق العام الذي يدخل فيه أجزاء المسمى كلها فإن هذا المعنى لا يقصدونه أبداً وإنما يفهمون أن ( أل) لمجرد التعريف فقط , فأمر هذا الشرط سهل ، لكن الورع ترك التسمي بأسماء الله مطلقاً خروجاً من الخلاف وبعداً عن مطلق المضاهاة وادعى لخضوع القلب وانقياده لله تعالى في مقامات التعبد والله أعلم .

س248/ ما مذهب أهل السنة في صفة الرضى والغضب والسخط والكره ؟ وهل هي صفات فعلية أم ذاتية ؟
ج/ مذهب أهل السنة في ذلك هو مذهبهم في سائر صفات الله تعالى وهو الإيمان بها ووصف الله تعالى بها مع اعتقاد أنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فنثبتها لله تعالى من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل ، وهي من قبيل الصفات الفعلية المتعلقة بالمسيئة التي توجد عند وجود مقتضياتها إذا أرادها الله تعالى ، على ما يليق بجلاله وعظمته , وأن معانيها معلومة ولكن نفوض علم كيفياتها إلى الله تعالى , قال تعالى ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) (البينة: من الآية8) وقال تعالى ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) (الفتح: من الآية18) وقال تعالى ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء:93) وقال تعالى ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) (محمد:28) وقال تعالى ( وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ )(التوبة: من الآية46) وقد أجمع أهل السنة والجماعة على إثبات هذه الصفات ، وهذه كلها من صفات الأفعال التي يفعلها الله جل وعلا متى شاء وكيفما شاء وأهل السنة يثبتون ذلك إثباتاً بلا تمثيل وينزهون الله تعالى عن مماثلة خلقه تنزيهاً بلا تعطيل والله أعلم .

س249/ ما مذهب أهل السنة في صفة الفرح والضحك مع بيانها بالدليل ؟ وهل هي صفة ذاتية أم فعلية ؟
ج/ يؤمن أهل السنة الجماعة رحمهم الله تعالى بأن من صفاته جل وعلا الفرح والضحك ، فيثبتون هاتين الصفتين كسائر صفاته جل وعلا من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل لأن الله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، قال النبي صلى الله عليه وسلم  ( لله أشد فرحاً بتوبة عبده من راحلته .........الحديث ) متفق عليه ، وقال عليه الصلاة والسلام ( يضحك الله تعالى إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة .... الحديث ) متفق عليه  ، وفي الحديث الآخر ( أتدرون مما أضحك ، من ضحك الله تعالى حين قال له " أتستهزئ بي وأنت رب العالمين ) رواه مسلم ، وهما من الصفات الفعلية التي يفعلها الله متى شاء وكيفما شاء ، فمعنى الفرح والضحك معلوم ، وكيفه مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة والله أعلم .

س250/ ما البلايا والمصائب التي وقع فيها أهل البدع وكانت سبب ضلالهم وتخريفهم في باب الاعتقاد ؟
ج/ هذا سؤال مهم جداً ، وبيانه أن يقال : الأسباب كثيرة يجمعها ما يلي :
الأول : عدم حصرهم أدلة الاعتقاد في الكتاب والسنة ، فإنهم يستدلون بالمنطق والفلسفة ويسمونها العقليات ، وهي في حقيقتها جهليات وخرافات ووساوس شيطانية ، فهم يسوقون ما يجب اعتقاده في الله من عقولهم وقواعدهم المنطقية الفلسفية , أو مواجيدهم وأذواقهم العفنة ، ومكاشفاتهم الإبليسية ، وقد نص الدليل على أن من طلب الهدى في غير الكتاب والسنة أضله الله ولذلك فهم يعرضون النصوص على عقولهم فما وافقها أخذوه وما خالفها ردوه واتهموه فيقرون ما تقره عقولهم وإن لم يكن عليه دليل ، وينفون ما نفته عقولهم وإن كانت الأدلة قد تواترت على إثباته وهذا هو السبب العظيم في ضلالهم .
الثاني : أنهم لا يأخذون الكتاب والسنة على فهم السلف بل يبتدعون من عندهم المعاني الغريبة والاصطلاحات العويصة ويقولون :  هذا معنى هذا النص ، وقد تقرر في القواعد أنه لا بد من فهم الكتاب والسنة فهماً يوافق فهم السلف ، فهم أكبر عقولاً وأصح فهوماً وأعمق علوماً ممن أتى بعدهم ، فالمبتدعة مثلاً يفهمون من نصوص الصفات معانٍ بعيدة كل البعد عن فهم السلف ، فهم لا يفهمون منها إلا ما يفهمونه من صفاتنا ، وأما السلف فإنهم يثبتون لله ما أثبته لنفسه ويعتقدون أنه ليس كمثله شيء , وهكذا فالمبتدعة على اختلاف فرقهم لا يعتمدون فهم السلف للنصوص أبداً ولا ينظرون فيه  فأنت ترى أن هؤلاء المبتدعة قد جمعوا بين بليتين فهم لا يقتصرون على الكتاب والسنة في مسائل الاعتقاد ولا يفهمونها على فهم السلف ، فنعوذ بالله من حال أهل الأهواء .
الثالث : أنهم يبنون استدلالهم على القواعد المناقضة للمعقول والمخالفة للمنقول والمعارضة لمنهج السلف في الاستدلال ، فهم يستدلون بالمتشابه ويدعون المحكم ويأخذون بطرف من النصوص ويدعون الآخر ويقدمون العقل على النقل ويثبتون أمور الغيب بالقياس ويأخذون بالمجمل ويدعون المبين ويفسرون بعض ألفاظ القرآن على غير ما تعرفه العرب من كلامها وهكذا فالقوم يقعدون القاعدة على ما تمليه عقولهم القاصرة وينزلون النصوص عليها فوقعوا في الضلال ومخالفة النصوص .
الرابع : أنهم يخوضون في النصوص بلا علم ولا برهان ولا يقفون حيث وقف النص بل يقحمون عقولهم فيما لا مجال لها فيه كخوضهم في باب القدر وباب الصفات ونحوها والسلامة في الوقوف عند ما وقف عليه النص .
الخامس : كثرة جدالهم وخصوماتهم ومرائهم .
السادس  : اعتمادهم على الألفاظ البدعية المجملة وبناء معتقدهم عليها كلفظ الجوهر والعرض والجهة والجسم والحيز ونحوها ، وهذه الألفاظ ، ألفاظ محدثة بدعية لا تعرف عن أحد من السلف ، وأضرب لك مثالاً : المعتزلة ينفون عن الله الصفات ويقعون في آيات الصفات وأحاديثها تحريفاً بسبب أنهم إذا أثبتوا لله الصفات لا يستلزم ذلك أن يكون جسماً والأجسام متماثلة ، فانظر كيف بنوا معتقدهم في الصفات على هذا اللفظ المجمل ، فكم رووا بهذه الألفاظ المجملة من النصوص وحرفوا من الصفات والله المستعان .
السابع : الفهم الفاسد للنصوص ، كفهم الخوارج لبعض النصوص، وكفهم أهل التمثيل والتعطيل لنصوص الصفات ، وكفهم الجبرية والقدرية لنصوص القدر ، وكفهم المرجئة والوعيدية لنصوص الوعد والوعيد ، وهكذا ، فهذا الفهم الفاسد هو الذي أوصلهم إلى هذه النتيجة الفاسدة والله المستعان .
الثامن : اعتمادهم في اعتقادهم على الأحاديث الموضوعة والضعيفة ، وذلك كالرافضة لعنهم الله تعالى ، فإنهم يعتمدون في أمر معتقدهم على المرويات المكذوبة والأحاديث الموضوعة الملفقة على آل البيت .
التاسع : تقديم آراء الرجال وقواعد المذاهب على قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يقبلون من النصوص إلا ما وافق مذهبهم وكلام مبتدعيهم .
العاشر : اعتقادهم التعارض بين العقل والنقل وبين الحقيقة والشريعة .
الحادي عشر : اعتمادهم على الأهواء والشهوات وتحكيمها في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فهذه بعض الأسباب ويظهر غيرها بالتأمل والله أعلم .

س251/ بماذا يعرف أهل البدع ؟   
ج/ منها : الوقيعة في أهل السنة ووصفهم بالأوصاف القبيحة المستهجنة التي هي بهم أليق وهم بها ألصق.
ومنها : عقد الولاء والبراء على المسميات التي ما أنزل الله بها من سلطان .
ومنها : إتباع الهوى والإعراض عن الدليل .
ومنها : أنهم لا يذكرون ألا ما لهم فقط ، ويكتمون ما عليهم أو يكذبون به ويعرضون عنه ويقدحون فيه ، وأما أهل السنة فيذكرون مالهم وما عليهم مع الإجابة عنه .
ومنها : إتباع المتشابه كما قال تعالى ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ) (آل عمران: من الآية7) وفي الصحيحين من حديث عائشة مرفوعاً ( فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فاؤلئك الذين سماهم الله فاحذروهم )
ومنها : كثرة التنقل والتبديل والتغيير فلا يثبتون على شيء فمذاهبهم غالباً تخضع للمستجدات والمتغيرات والأحداث والأهواء والشهوات وأقوال متبوعيهم ، ومن نصبوه إماماً لهم ، ولكثرة جدالهم ومن جعل دينه عرضاً للخصومات أكثر التنقل ولأن هذه المذاهب الفاسدة أصلاً لم تبن على أسس ثابتة بل بنيت على أهواء متغيرة وأفكار متبدلة وشهوات متلونة .
ومنها : معارضة الكتاب والسنة بالأقيسة الفاسدة والمعقولات الكاسدة .
ومنها : دعواهم أن الأدلة لا تفي بالدين ولا بكفي لتنظيم حياة الناس ، وهم في ذلك بين مصرح وملمح .
ومنها : كثرة الاختلاف والفرقة فيما بينهم , وهذا أمر واضح فلا تجدهم يتفقون على شيء , فانظر إلى فرق الخوارج وفرق الشيعة وفرق المعتزلة وهكذا , وهذا من أبرز صفاتهم .
ومنها : أنهم يتسمون بالأسماء المحدثة , فمنهم من ينتسب إلى مؤسس الفرقة كالأشاعرة نسبة إلى أبي الحسن الأشعري والجهمية نسبة إلى الجهم بن صفوان الترمذي ، والماتريدية نسبة إلى أبي منصور الماتريدي والكلابية نسبة إلى محمد بن سعيد بن كلاب ونحو ذلك ، أو ينتسبون إلى أصل بدعهم كالخوارج لأنهم خرجوا على عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه أو لأنهم خرجوا على المسلمين وإمامهم ، والجبرية نسبة إلى قولهم بالجبر وسلب العباد مطلق القدرة والاختيار ، والقدرية نسبة إلى نفيهم للقدر السابق وقولهم : إن العبد هو الذي يخلق فعله ، ونحو ذلك ، وأما أهل السنة رحمهم الله تعالى فإنهم لا يتسمون   
إلا باسم الإسلام والإيمان أو ما دل عليه الدليل أو وقع اتفاق الصدر الأول عليه والله أعلم
ومنها : التعصب للآراء وعدم الرجوع للحق ولو بعد بيان الحق ، بل يتعامون عن الحق تعامياً عجيباً ولا نقول ألا كما قال تعالى ( فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج: من الآية46).
ومنها : بغض أئمة الحديث وأهل الأثر ، وبالجملة : بعض أئمة الإسلام والدين كالصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان كالإمام أحمد والثوري والأوزاعي وأبن عيينة وأبن المدني والبخاري وأبن تيميه وابن القيم ومحمد بن عبدالوهاب رضي الله عنهم وأرضاهم فإذا سمعت الرجل يقع في أحد من أئمة الإسلام والسنة فاعلم أنه صاحب بدعة وهوى والله المستعان . فهذه أشهر علامات أهل البدع نعوذ بالله منهم ومن حالهم والله أعلم .


س252/ عرف الإيمان شرعاً  ؟  مع ذكر الأدلة على كل ما تذكر ؟
ج/ الإيمان شرعاً : هو الاعتقاد بالجنان والقول باللسان والعمل بالجوارح والأركان .
فقولهم : ( الاعتقاد بالجنان ) يدل عليه قوله تعالى ( وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (الحجرات: من الآية14) وقوله تعالى ( أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ  مِنْهُ ) (المجادلة: من الآية22) وقوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ) (المائدة: من الآية41) وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه ).
وقولهم : ( وقول باللسان ) يدل عليه قوله تعالى ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ......... الآية ) (البقرة:136) فأمرهم هنا بالقول ولم يكتف منهم بمجرد ما في القلب ، ومثلها قوله تعالى ( قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ .....الآية ) (آل عمران:84) وقوله تعالى ( وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ) (الحجرات: من الآية14) وقوله تعالى ( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) (آل عمران: من الآية64) وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله ) وفي الصحيحين أيضاً من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ) وفيهما من حديث أبي هريرة مرفوعاً        ( الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ) واتفق أهل العلم أن الكافر إذا أراد الإسلام فإنه لا بد من التلفظ بالشهادتين بحيث يسمع نفسه على الأقل ولا يكتفي بالإقرار القلبي .
وأما قولهم : ( وعمل بالجوارح والأركان )  فيدل عليه قوله تعالى ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) (البقرة: من الآية143) أي صلاتكم كما ورد ذلك في الصحيح ، وقوله تعالى :
( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) (البينة:5) وفي الصحيحين عن ابن عباس في حديث وفد عبد القيس أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بأربع أمرهم بالإيمان بالله وحده وقال : أتدرون ما الإيمان بالله وحده قالوا الله ورسوله أعلم ، قال ( شهادة ألا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس ) وهذه كلها أعمال جوارح وقد سماها إيماناً ، وقال عليه الصلاة والسلام ( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ) حديث صحيح وقال عليه الصلاة والسلام ( إن البذاذة من الإيمان ) حديث صحيح ، وفي صحيح  مسلم عن أبي سعيد مرفوعاً ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) وله من حديث ابن مسعود ( وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) فجعل تغير المنكر ومجاهدة أصحابه باليد واللسان من الإيمان وهي أعمال جوارح ، وفي الحديث السابق (وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) وهي عمل وقد جعلها من جملة شعب الإيمان ، فهذه بعض الأدلة على هذه العقيدة العظيمة التي انفرد بها أهل السنة والجماعة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى والله أعلم .

س253/ ما مذهب أهل السنة في زيادة الإيمان ونقصانه ؟ مع بيان ذلك بالأدلة ؟
ج/ مذهب أهل السنة في ذلك هو أن الإيمان يزيد حتى يبلغ كماله وتمامه إذا جاء العبد بموجبات زيادته , وينقص حتى ينتهي كله إذا جاء العبد بموجبات نقصانه ، وهذا ما تواترت به الأدلة ، فمن أدلة زيادته قوله تعالى (  وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً )(المدثر: من الآية31) وقوله تعالى ( لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ ) (الفتح: من الآية4) وقوله تعالى        ( وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً )(مريم: من الآية76) وقوله تعالى ( وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً ) (لأنفال: من الآية2) وقوله تعالى ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً ) (آل عمران: من الآية173) وقال عليه الصلاة والسلام ( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ) وقال عليه الصلاة والسلام ( من أحب في الله وأبغض في الله فقد استكمل الإيمان ) وقال عليه الصلاة والسلام ( الطهور شطر   الإيمان ) وفي حديث ( رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما هو دون ذلك قالوا: فما  أولته يا رسول الله قال : الدين ) وقد كان ابن مسعود يقول  ( اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً ) أخرجه الطبراني في الكبير بإسناد جيد . وكان معاذ بن جبل يقول للرجل من إخوانه اجلس بنا نؤمن ساعة فيجلسان فيذكران الله ويحمدانه ) رواه ابن أبي شيبة وسنده صحيح . وعن عمار بن ياسر أنه قال : ( ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان : الإنصاف من نفسك ، وبذل السلام للعالم ، والإنفاق مع الإقتدار ) رواه البخاري تعليقاً. وأما نقصانه فقد وردت به أدلة كثيرة أيضاً ، فمنها ما مضى من الآيات فإن فيها إثبات الزيادة وكل شيء يقبل الزيادة فإنه يقبل النقصان ، ومنها : حديث أنس في الصحيح مرفوعاً ( يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير ، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه برة من خير ، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير ) والمراد بالخير هنا الإيمان ، كما في الرواية الأخرى ( يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزمن برةٍ من أو خردلةٍ أو ذرةٍ من إيمان ) .
ومنها : حديث أبي سعيد السابق في إنكار المنكر وفيه ( وذلك أضعف الإيمان) .
ومنها : حديث ابن مسعود السابق أيضاً وفيه ( وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل )
ومنها : حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً وفيه ( ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن قلت وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله ؟ قال : ( أليس شهادة المرأة نصف شهادة الرجل ) قلت : بلى ، قال ( فذلك من نقصان عقلها ، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ؟ قلت : بلى ، قال ( فذلك من نقصان دينها ) متفق عليه .
ومنها : حديث الشفاعة وهو في الصحيح وفيه ( فأخرج من النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرةٍ من إيمان ) .
فهذه الأدلة تفيدك إفادة قطعية إن شاء الله تعالى بما قرره أهل السنة رحمهم الله تعالى في هذه المسألة من أن الإيمان يزيد وينقص والله أعلم .

س254/ ما أسباب زيادته ونقصه ؟
ج/ ذكر أهل العلم رحمهم الله تعالى أن زيادة الإيمان لها أسباب :
منها : معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته .
ومنها : التفكر في آيات الله تعالى الكونية والشرعية .
ومنها : فعل الطاعة .
ومنها : ترك المعصية .
فهذه الأشياء تجمع أسباب زيادة الإيمان، وضد كل واحد منها سبب من أسباب النقص ، فالجهل بالله تعالى ينقص الإيمان ، وعدم التفكر في الآيات الكونية والشرعية سبب للنقص ، وفعل المعصية سبب للنقص ، والله أعلم .

س255/ ما العلاقة بين الإسلام والإيمان ؟ مع بيان ذلك بالأدلة ؟
ج/ الإسلام والإيمان مرتبتان من مراتب الدين ومنزلتان من منازله كما ثبت ذلك في حديث جبريل المشهور لما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان وقال في آخره ( هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم ) رواه مسلم  ، وهاتان المرتبتان متتاليتان فالأولى الإسلام والثانية الإيمان ، وبناءً عليه فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً ، قال تعالى ( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ) (الحجرات: من الآية14) فأول ما يدخل العبد في الدين يوصف بالإسلام حتى يدخل الإيمان في قلبه بما يأتي به من التصديق والعمل الصالح ، فهذا وجه من أوجه العلاقة بينهما ، وخلاصتها أن يقال : إن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً ، فبينهما عموم من وجه واحد فقط ، والوجه الثاني أنهما إذا افترقا اجتمعا وإذا اجتمعا افترقا ، أي إذا ذكر أحدهما في النص فإنه يدخل معه الآخر الذي لم يذكر ، فيصدق المذكور في النص عليهما ، وإذا ذكرا معاً في نص واحدٍ فإنهما يختلفان أي يحمل كل واحدٍ منهما معناً خاصاً ، فيكون الإسلام معناه الأعمال الظاهرة من الشهادتين والصيام والصلاة والزكاة والحج وسائر أعمال الجوارح ، ويكون معنى الإيمان الأعمال الباطنة أي أعمال القلوب من التصديق والإقرار والمحبة والإنابة والرجاء والتوكل والخوف ونحوها ، وإليك بعض الأمثلة :
فمن الأمثلة على افتراقهما
 قوله تعالى ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ ) (آل عمران: من الآية19) أي والإيمان وقوله تعالى ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً ) (آل عمران: من الآية85) أي وغير الإيمان وقوله تعالى ( فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) (آل عمران: من الآية64) أي ومؤمنون  وهكذا ، وفي حديث وفد عبد القيس مرفوعاً ( آمركم بالإيمان بالله وحده ) ثم فسره بأركان الإسلام فقال : شهادة ألا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا خمساً من المغنم ) متفق عليه ، ومن ذلك حديث سعد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى رهطاً وسعد جالس .... وفيه ( مالك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمناً  فقال ( أو مسلماً  ) ثلاث مرات .
ومثال اجتماعهما
قوله تعالى ( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ) (الحجرات: من الآية14) ففرق بينهما لأنهما في نص واحد وكذلك حديث جبريل المشهور فإنه قد فسر الإسلام بأعمال الجوارح وفسر الإيمان بأعمال القلوب ، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة وخلاصة الجواب أن يقال : العلاقة بينهما من وجهين :
الأول : أن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمن .
الثاني : أنهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا . والله أعلم


س256/ ما صورة الاستثناء في الإيمان ؟ وما حكمه بالتفصيل ؟
ج/ صورته أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله . والناس فيها على طرفين ووسط وخير الأمور الوسط ، فمن الناس من يوجب هذا القول أي يوجب قول ( إن شاء الله ) بعد قوله ( أنا مؤمن ) فيوجبه مطلقاً ولهم في ذلك مأخذان :
الأول : أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان والإنسان إنما يكون عند الله مؤمناً أو كافراً باعتبار الموفاة وما سبق في علم الله أنه يكون عليه ، وما قبل ذلك فلا عبرة به .
الثاني : أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله وترك ما نهاه عنه كله فإذا قال الرجل أنا مؤمن بهذا الاعتبار فقد شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين والقائمين بجميع ما أمروا به وترك ما نهوا عنه فيكون من أولياء الله المقربين وهذا من تزكية النفس وقد نهى الله عنه في قوله تعالى ( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ) (لنجم: من الآية32) وقوله تعالى   ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ) (النساء:49) وقال عليه الصلاة والسلام ( الله أعلم بأهل البر منكم ) ومن الناس من يمنعه مطلقاً وهم الذين يجعلون الإيمان جزءً لا يزيد ولا ينقص وهم المرجئة ، ومأخذهم في ذلك قولهم  نحن نعلم قطعاً أننا مؤمنون كعلمنا قطعاً أننا مسلمون ، وتعليق الإيمان بالمشيئة شك في الإيمان والشك في الإيمان كفر ، ولذلك فهم يسمون من يجيز تعليق الإيمان بالمشيئة بالشكاكين ، أما مذهب أهل السنة فإنهم يفصلون في ذلك تفصيلاً يجمع الأدلة كلها فهم أسعد بالحق والصواب المؤيد بالدليل من الفريقين السابقين وهم الوسط في هذه المسألة كما أنهم الوسط في سائر أمور الاعتقاد وخلاصة مذهبهم أنهم قالوا : إن كان القصد من  الاستثناء الشك في وجود أصل الإيمان فهذا حرام لأنه مفض إلى الوقوع في الحرام ، وما أفضى إلى الحرام فهو حرام . وهذا لا خلاف فيه ، وإن كان يقصد به الشك في كماله فهو مندوب حسن جداً لأن كمال الإيمان من الأمور التي لا تدرك بالحس وإنما مبناها على الدليل ولأنه أبعد عن الرياء والسمعة ، ويلحق بذلك من أستثنى وأراد عدم علمه بالعاقبة فهو حسن أيضاً وما عدا ذلك فجائز ، ونقول بتفصيل أوضح : يكون الاستثناء حراماً إذا كان للشك في أصل الإيمان ويكون واجباً إذا خيف على نفسه الرياء إذا تركه ، ويكون مستحباً إذا كان للشك في كماله أو أزاد عدم علمه بالعاقبة ، ويكون مباحاً فيما عدا ذلك والله أعلم .

س257/ ما حكم الأفعال التي نفي الإيمان عن فاعلها أو تاركها ؟ مع توضيح ذلك بالأمثلة وبيان القاعدة في ذلك ؟
ج/ القاعدة في ذلك أن كل فعل نفى الإيمان عن فاعله فلأنه حرام ، وكل فعل نفى الإيمان عن تاركه فلأنه واجب وهذا الأمر من الأشياء التي يعرف بها وجوب الشيء أو حرمته ، بل وهو من الأشياء التي يعرف بها الكبيرة فإن الكبيرة تعرف بأشياء كثيرة ومنها قولهم :
( أو نفي إيمان ) أي أن هذه الأشياء والأفعال التي نفي الإيمان عن أصحابها دليل على أنها كبيرة من كبائر الذنوب ، فإن المنفي هنا هو كمال الإيمان الواجب فإن من الممتنع شرعاً أن ينفى الإيمان عن فاعل المكروه أو تارك المستحب ، بل لا ينفي الإيمان الكامل إلا عن فاعل الحرام أو بارك الواجب ، والأمثلة على ذلك لا تكاد تحصر ودونك بعضها :
فمنها : حديث أبي هريرة في الصحيحين مرفوعاًً ( لا نزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ويشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ) وكان أبو هريرة يلحق معهن ( ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن ولا يغل حين يغل وهو مؤمن ) فهذه الأفعال نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن فاعلها فهو دليل على حرمتها وأنها كبيرة من كبائر الذنوب .
ومنها : ما في الصحيحين من حديث أنس مرفوعاً ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه ) فهذا دليل على وجوب ذلك أي يجب عليك أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك .
ومنها : ما في الصحيحين من حديث أنس مرفوعاً ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ) فهذا دليل على وجوب تقديم محبته صلى الله عليه وسلم على محبة كل أحد من الخلف لأنه فعل نفى الشارع الإيمان عن تاركه فهذا دليل وجوبه .
ومنها : حديث ( لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له ( فهذا دليل على وجوب أداء الأمانة وحفظ العهد . وعلى ذلك فقس والله أعلم .

س258/ ما مذهب أهل السنة في مرتكب الكبيرة في الدنيا مع تأييد ذلك بالأدلة ؟ موضحاً وسطيتهم بذكر أقوال المخالفين إجمالاً ؟
ج/ يعتقد أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى أن فعل الكبيرة له تأثير في نقص الإيمان كما وردت بذلك الأدلة ، لكنه ليس النقص الكامل بحيث لا يكون معه شيء من الإيمان ، بل هو نقص يتفاوت بتفاوت عظم هذه المعصية وصغرها ، فالنقص الذي يحدثه القتل أعظم من النقص يحدثه حلق اللحية وإسبال الثوب ، وهكذا ، فالمحرمات تتفاوت فيما يترتب عليها من العقوبات والآثام ، كما أن الواجبات تتفاوت أجورها وما يترتب عليها ، ففعل المعصية ينقص الإيمان ، لكنه ليس النقص المطلق ، أي أنه نقص من إيمانه بقدر هذه الكبيرة التي فعلها لكن يبقى معه شيء من الإيمان ، فخلاصة مذهب أهل السنة في ذلك أنهم لا يعطونه الإيمان المطلق ولا يسلبونه مطلق الإيمان وبعبارة أخرى نقول : مرتكب الكبيرة مؤمن بما بقي معه من الإيمان وفاسق بما فعله من العصيان . أو نقول : هو مؤمن بإيمانه وفاسق بكبيرته ، والدليل على أن فعل الكبيرة تنقص الإيمان حديث أبي هريرة السابق ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ....... الحديث ) أي لا يكون مؤمناً تاماً ولا يكون له نور الإيمان كما قاله الإمام البخاري رحمه الله تعالى ، فهذه المعاصي من الزنى وشرب الخمر والسرقة والانتهاب والغلول أوجبت نقص الإيمان مما يدل على أن فعل المعصية ينقص الإيمان ، عن أبي هريرة مرفوعاً ( والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قالوا : من يا رسول الله قال ( من لا يأمن جاره بوائقه ) فهذه المعصية وهي أذى الجار وإسرار العداوة له وتربص حلول الدوائر به أوجبت نقص الإيمان ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي مسعود مرفوعاً ( لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ) فهذه المعصية العظيمة أوجبت نقص الإيمان الذي تحصل به النجاة يوم القيامة . وفي الصحيحين من حديث أبن مسعود مرفوعا (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) والوصف بالفسوق والكفر الأصغر دليل على أن هاتين المعصيتين قد أثرتا تأثيرا بليغا في نقص الإيمان مما يدل على أن فعل المعصية ينقص الإيمان بقدر هذه المعصية . وفي الصحيحين من حديث حذيفة (لا يدخل الجنة قتات)أي نمام ، فهذه المعصية أنقصت الإيمان الواجب نقصا كبيرا بحيث أن صاحبها حكم عليه بأنه لا يدخل الجنة ،والنصوص على ذلك كثيرة جدا لا تكاد تحصر، وتفيد بمجموعها أن فعل المعاصي ينقص الإيمان ، والدليل على أن فاعل الكبيرة لا يخرج عن مسمى الإيمان قوله تعالى (( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فإتباع بالمعروف وأداءً إليه بإحسان )) فوصف القاتل بأنه أخٌ للمقتول مما يدل على أنه لا يزال على الإيمان مع اتصافه بالقتل فعلمنا بذلك أن ارتكاب الكبيرة لا يخرج عن مسمى الإيمان ومن ذلك قوله تعالى ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ) فسماهم مؤمنين مع اتصافهم بقتال بعضهم بعضاً ـ وقال في آخرها ( إنما المؤمنون إخوة) فوصفهم بالإيمان وجعلهم إخوة مما يدل على أنه لا يزال بينهم أخوة الإيمان ، فعلمنا بذلك أن ارتكاب الكبيرة لا يخرج العبد من دائرة الإيمان بالكلية ، وفي حديث عياض الملقب حماراً أنه كان يشرب الخمر فيؤتى به فيجلد فلعنه أحد الصحابة فقال عليه الصلاة والسلام ( لا تلعنه فوالله أني لا أعلم إلا أنه يحب الله ورسوله ) ومن المعلوم أن شرب الخمر من الكبائر ومع ذلك أثبت له أنه يحب الله ورسوله أي هو مؤمن ، فأثبت له الإيمان مع تلبسه بهذه الكبيرة فعلمنا بذلك أن ارتكاب الكبيرة لا يخرج العبد من مسمى الإيمان بالكلية . وقد أتفق أهل السنة على ذلك إذا علمت هذا فاعلم أن المرجئة يقولون : فاعل الكبيرة له الإيمان المطلق أي أن إيمان أفسق الناس كإيمان أصلح الناس ففعل الكبيرة غير الشرك لا يؤثر في نقص الإيمان . وأما الوعيدية فقالوا : من فعل الكبيرة فإنه يخرج من دائرة الإيمان ومسماه بالكلية ، فلا ينفع إيمان مع فعل الكبيرة فهم سلبوه مطلق الإيمان ، فقال أهل السنة : ولا يسلبه مطلق الإيمان . فمذهب أهل السنة وسط بين المذهبين، فلم يعطوه الإيمان المطلق كما فعلت المرجئة ولم يسلبوه مطلق الإيمان كما فعلت الوعيدية . والله أعلم .

س259/ ما مذهب أهل السنة في مرتكب الكبيرة في الآخرة مع بيان مذهب المرجئة والوعيدية ؟ وتوضيح منهج الوسطية في ذلك ؟
ج/ نعتقد أهل السنة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى أن مرتكب الكبيرة إذا مات مصراً عليها فإنه تحت مشيئة الله تعالى ، فإن شاء غفر له كبيرته وأدخله الجنة ابتداءً وإن شاء عذبه في النار بقدر كبيرته ثم يخرجه منها ويدخله الجنة انتقالاً ، ويعتقدون م ذلك أنه لا يخلد أحد من أهل القبلة في النار خلود الكفار ، وإن طالت فترة عذابهم فمآلهم إلى الجنة ، والدليل على ذلك حديث أنس في الصحيح مرفوعاً ( يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن حبة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير ) وفي السنن من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( خمس صلوات كتبهن الله على العباد فمن حافظ عليهن لم كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة  ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عهد عند الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه ) حديث صحيح ، وفي الصحيح عن عبادة بن الصامت رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه ) وقال أهل السنة ذلك لأن فاعل الكبيرة قد أجتمع فيه الموجبات ، فما فعله من الكبائر موجب لعقوبته وما عنده من الإيمان موجب لإثابته . فأجتمع فيه موجب الثواب وموجب العقاب فلا نجزم له بأحد الأمرين بل نكل أمره إلى الله تعالى فإن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه ، وبتوضيح أكثر نقول : إعلم رحمك الله تعالى أن مذاهب أهل القبلة في مرتكب الكبيرة في الآخرة هو نتيجة لمذاهبهم فيه في الدنيا .
 فأما الوعيدية فقد سلبوه مطلق الإيمان فقالوا : إنه في الآخرة إلى النار خالداً مخلداً فيها لا يخرج منها أبد الآباد.
 وأما المرجئة فقد قالوا إن مرتكب الكبيرة له الإيمان المطلق  فقالوا : هو في الآخرة إلى الجنة مباشرة ولا اعتبار بما فعله من الكبائر لأنها لم تنقص إيمانه .
 وأما أهل السنة فقالوا :لا نقول إلى الجنة مباشرة ولا إلى النار مباشرة بل هو تحت المشيئة ، فتوسطوا بين المذهبين الضالين ، وهذا من توفيق الله تعالى لأهل السنة والله أعلى وأعلم .

س260/ ما سبب ضلال هاتين الفرقتين ؟ وما سبب تسميتها بذلك ؟ وأي الفرق هم ؟
ج/ أما سبب ضلالهم فلأنهم زعموا أن الإيمان جزء واحد لا يزيد ولا ينقص ، بل هو ثابت في حق كل أحدٍ ما لم يأت العبد بما يناقضه ، وهذا المناقض هو الكفر والشرك عند المرجئة لا غير ، فالذي يؤثر في الإيمان عند المرجئة هو الشرك فقط لا فعل الكبيرة ، تغليباً منهم للرجاء التي دلت عليها أدلة الوعد ، وأما الوعيدية فالناقض عندهم هو كل كبيرة ، فكل كبيرة تعد ناقضة للإيمان من أساسه وكذلك تغليباً منهم للخوف والتهديد التي دلت عليه أدلة الإيمان أي لا يذهبه بالكلية إلا الكفر والشرك ، وأما فعل الكبيرة فإنها مضادة لكماله الواجب أي أن الكبيرة تنقصه عن كماله الواجب ، فلا يجتمع الكمال الواجب مع فعل الكبيرة أبداً ، لكنها - أي فعل الكبيرة لا تناقض أساسه ويكون أهل السنة بذلك قد أخذوا بأدلة الوعيد والوعد فأعملوا جميع الأدلة الشرعية وهذا هو منهج الوسطية .فالمرجئة عبدوا الله بالرجاء فقط ، والوعيدية عبدوا الله بالخوف فقط وأما أهل السنة فعبدوا الله بالخوف والرجاء فأنتج ذلك لهم الخشية ، فالخشية مزيج من الخوف والرجاء ، جعلنا الله وإياك من أهل السنة .
وسميت المرجئة بذلك لأنهم يغلبون جانب أدلة الوعد المفيدة لتغليب الرجاء ، وقيل : بل الإرجاء هو التأخير فلأنهم يؤخرون العمل عن الإيمان سموا بالمرجئة، قلت : وكلا الأمرين صحيح فسموا مرجئة لهذا ولهذا . وهم الأشاعرة وبعض الأحناف والماتريدية والجهمية والكلابية ، فهولاء في باب أسماء الأحكام والدين يسمون مرجئة ، وأما الوعيدية فسموا بذلك لأنهم لا يعلمون إلا بأدلة الوعيد فقط ويتركون أدلة الوعد ، وهم الخوارج والمعتزلة ، فهؤلاء في باب الكلام على مرتكب الكبيرة نسميهم الوعيدية والله أعلم .  

س261/ ما الضابط في معرفة الكبيرة ؟ مع بيان هذا الضابط بضرب مثال ؟
ج/ الضابط في معرفة الكبيرة هي أنها كل ذنب ختم بلعنة أو غضب أو نار أو توعد عليه بعقاب خاص في الآخرة أو نفي عن صاحبه الإيمان أو بأنه ليس منا .
فمثال ما ختم بلعنة حديث علي مرفوعاً ( لعن الله من ذبح لغير الله لعن الله من لعن والديه لعن الله من آوى محدثاً لعن الله من غير منار الأرض ) رواه مسلم  .
ومثال ما ختم بغضب قوله تعالى ( ومن قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالاً فيها وغضب عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً ) وحديث ابن مسعود ( من حلف على يمين صبر ) .
ومثال ما ختم بنارٍ حديث ( فما أسفل الكعبين في النار) .
ومثال ما ثبت فيه الوعيد عليه بخصوصه حديث ( ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل كان له فضل ماءٍ بالطريق فمنعه من ابن السبيل ورجل بايع إمامه لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه منها رضي وإن لم يعطه منها سخط ورجل أقام سلعته بعد العصر فقال والله الذي لا إله إلا غيره لقد أعطيت بها كذا وكذا فصدقه رجل ..) متفق عليه .
ومثال ما نفي عن صاحبه الإيمان حديث أنس ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ) .
ومثال ما قيل فيه ( ليس منا ) حديث ابن مسعود ( ليس منا من ضرب الحدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية ) وحديث ابن عمر وأبي موسى ( من حمل علينا السلاح فليس منا ) ونحو هذه الأدلة ، والمسألة خلافية وهذا هو الراجح إن شاء الله تعالى واختاره شيخ الإسلام والله أعلم .

س262/ ما أسباب تكفير السيئات ؟
ج/ أسباب تكفير السيئات هي :
الأول : التوبة ، قال تعالى ( إلا من تاب ) وقال ( فمن تاب من بعد ظلمه   وأصلح ) وفي الحديث ( ويتوب الله على من تاب ) وقال عليه الصلاة والسلام ( والتوبة يجب ما قبلها ) والأدلة في ذلك كثيرة .
الثاني : الاستغفار ، قال تعالى ( وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) وقال تعالى  ( فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدرارا )  وذكر أهل العلم أن الاستغفار يتضمن التوبة والتوبة تتضمن الاستغفار وكل واحد منها يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق ، وأما عند الاقتران فيكون الاستغفار طلب وقاية شر ما مضى ، والتوبة : الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله ، فيقال في التوبة والاستغفار ما يقال في الإسلام والإيمان ، والفقير والمسكين ، والكفر والشرك عن أنهما إذا اجتمعا  افترقا وإذا افترقا اجتمعا .
الثالث : الحسنات الماحية ، قال تعالى ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) وقال عليه الصلاة والسلام ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها ) حديث صحيح ، وفي الحديث ( الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة  ) وهو في الصحيح .
الرابع : المصائب الدنيوية ، قال صلى الله عليه وسلم  ( ما يصيب المسلم من وصب ٍ ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفّر الله به من سيئاته ) متفق عليه ، وعن أبي هريرة قال : ( لما نزلت ( من يعمل سوءاً يجز به ) بلغت من المسلمين مبلغاً شديداً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قاربوا و سددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها أو الشوكة يشاكها ) رواه مسلم ، وقال عليه الصلاة والسلام لأم السائب ( لا تسبي الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد )  رواه مسلم .
الخامس : عذاب القبر وتقدم الكلام عليه .
السادس : دعاء المؤمنين واستغفارهم في الحياة وبعد الممات .
السابع  : ما يهدى إليه بعد الموت من ثواب صدقةٍ أو حج ونحو ذلك .
الثامن  : أهوال يوم القيامة وشدائده .
التاسع  : المقاصّة عند القنطرة وهو ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرةٍ بين الجنة والنار فيتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا نقُّـوا وهذبوا أذن لهم بدخول الجنة ..... الحديث ) رواه البخاري .
العاشر : شفاعة المؤمنين له يوم القيامة وسيأتي الكلام عليها بعد قليل إن شاء الله تعالى .
الحادي عشر : عفو أرحم الراحمين من غير شفاعه كما قال تعالى ( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) وسيأتي دليلها في الشفاعة إن شاء الله تعالى ، فهذه الأسباب هي مجموع ما ذكره أبو العباس وتلميذه أبن القيم وتابعهم على ذلك شارح الطحاوية والله أعلم .

س263/ عرف الشفاعة ؟ وما الأصل فيها عند أهل السنة والجماعة ؟
ج/ الشفاعة مأخوذة من الشفع ضد الوتر ، وهي انضمام شيء إلى شيء ، أي انضم وتر إلى وتر فصار شفعاً ، والمراد بها في عرف أهل الاعتقاد : السؤال لفصل القضاء والتجاوز من الذنوب وتخفيف العذاب وزيادة الثواب لمستحقه ، فهذا التعريف يدخل فيه جميع الأنواع المذكورة والتي ثبتت بها الأدلة ، وهو تعريف للشفاعة في الآخرة وإلا فالشفاعة في الأصل : طلب الخير للغير ، إذا علمت هذا فاعلم أن الأصل في شفاعة الآخرة التوقيف على الدليل  ، أي أنه لا يجوز أن يثبت منها إلا ما ورد الدليل به فقط وأما ما لا دليل عليه فالأصل عدمه لأن هذه الشفاعات من أمور الغيب وقد تقرر أن أمور الغيب مبناها على التوقيف ، فما صح به الدليل قلنا به ومالا فلا وكما أنه لا يجوز أن يثبت منها إلا ما أثبته الدليل ، فكذلك لا يجوز إنكار أو تأويل ما ثبت به الدليل ، بل الواجب التصديق والإقرار به وترك المراء والجدال فيما ثبت به النص ، ولا يتعارض نص صحيح مع عقل صريح ، والعقل تابع للنص وخادم له ، والنص هو السيد المطاع ، فانتبه لهذا فإن هذا الباب أعني باب الشفاعة باب قد زلت فيها الأقدام وضلت فيه الأفهام وسبب ذلك عدم اعتماد هذا الأصل المبارك والله ولي التوفيق .

س264/ ما أقسام الناس في الشفاعة ؟
ج/ أقول : الناس في الشفاعة ثلاث طوائف
طرفان ووسط:ـ
الأولى : طائفة أنكرها كاليهود والنصارى والخوارج والمعتزلة الذين ينكرون الشفاعة في أهل الكبائر فخالفوا الآيات القرآنية الصريحة والأحاديث النبوية الصحيحة وناقضوا إجماع الأمة.
الثانية : طائفة غلت في إثبات الشفاعة حتى تجاوز بهم الحد الشرعي فجوزوا طلبها من الأموات كالأنبياء والأولياء والصالحين،حتى أثبتوها لبعض الجمادات كما قال الله تعالى ((ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)) وقال عنهم ((هؤلاء شفعاؤنا عند الله )) فرد الله عليهم وكذبهم في زعمهم هذا فقال (( ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع )) وقال تعالى (( فما تنفعهم شفاعة الشافعين )) وقد عاب الله تعالى على الذين اتخذوا شفعاء من دونه وهم لا يملكون شفاعة ولا يعقلون لأنهم إما أموات  غير أحياء وإما جمادات فقال تعالى   (( أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعاً له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون )) وقال تعالى (( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له )) فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون في معبوداتهم هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن .
الثالثة : أهل السنة والجماعة : فقد أثبتوا الشفاعة الشرعية واعتمدوا ما جاء في شأنها في الكتاب والسنة وأنها لا تطلب إلا من الله تعالى ، وسيأتي في الأسئلة بعدها زيادة توضيح لذلك والله أعلم .

س265/ هل الشفاعة ف الآخرة عامة أم خاصة  ؟
ج/ كنها ما هو عام ومنها ما هو خاص ، ونعني بالخاص أي بالنبي وحده صلى الله عليه وسلم ، ونعني بالعام ، أي لسائر النبيين والملائكة والصديقين والشهداء والصالحين ومن مات صغيراً ولعامة المؤمنين ، فأما الشفاعات الخاصة فثلاث :
الأولى : الشفاعة العظمى ، الثانية : الشفاعة في أهل الجنة ليدخلوا الجنة ، الثالثة : الشفاعة في عمه أبي طالب ، وأما الشفاعات العامة فأربع :
الأولى : الشفاعة فيمن أستحق النار إلا يدخلها ، الثانية : الشفاعة فيمن دخلها من أهل القبلة ممن معه أصل الإسلام أن يخرج منها ، الثالثة : الشفاعة في أهل الأعراف
الرابعة : الشفاعة في رفعة الدرجات في الجنة ، فصارت الشفاعات بذلك سبع شفاعات ، ثلاث منها خاصة به صلى الله عليه وسلم والباقي عام له ولسائر المؤمنين والله أعلم .

س266/ ما المراد بالشفاعة العظمى وما دليلها ؟
ج/ المراد بها شفاعته صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف لفصل القضاء بينهم ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض فيأتون آدم فيقولون أشفع لنا إلى ربك فيقول لست لها ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن فيأتون إبراهيم فيقول : لست لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله ، فيأتون موسى فيقول : لست لها ولكن عليكم بعيسى فإنه روح الله وكلمته فيأتون عيسى فيقول : لست لها ولكن عليكم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم فيأتوني فأقول :ـ أنا لها فاستأذنت على ربي لي ويلهمني محامد أحمده بها الآن فاحمده بتلك المحامد وأخر له ساجدا فيقال: يا محمد ارفع راسك وقل يسمع لك واشفع تشفع وسل تعط، فأرفع راسي وأقول : يا رب أمتي أمتي - الحديث الطويل - متفق عليه وقد أجمع السنة على إثباتها. فإذا جمع الأولين والآخرين في صعيد واحد فإن الشمس تدنو منهم والعرق يبلغ منهم كل على قدر أعماله فيبلغ الناس من الكرب ما لا يطيقون وما لا يحتملون فيقول بغض الناس لبعض ألا ترون إلى ما قد بلغكم ألا ترون ما أنتم فيه ، ألا ترون من يشفع لكم إلى ربكم . فيأتون آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام ، كلهم يعتذر عن ذلك ويقول ( إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ، ويذكر ما عنده مما أخطأ فيه ، فيقول آدم عليه السلام ( وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته نفسي نفسي ، ويقول نوح عليه السلام ( وإنه كانت لي دعوة دعوتها على قومي نفسي نفسي ، وإبراهيم عليه السلام ذكر تعريضاته الثلاث ، وموسى يقول ( وإني قتلت نفسًا لم أمر بقتلها نفسي نفسي ، وأما عيسى فلا يذكر ، وينتهي الأمر إلى خاتم الأنبياء وأفضل المرسلين صلى الله عليه وسلم فيقول : أنا لها ، فيشفع عند ربه فيفصل بين الناس في القضاء ، وهذه الشفاعة المقام المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون كما قال الله تعالى (( عيسى أن يبعث ربك مقامًًا محمودا )) وكما ذكرت أن هذه الشفاعة خاصة به صلى الله عليه وسلم والله أعلم .

س267/ما المقصود بالشفاعة لدخول الجنة مع ذكر دليلها ؟
ج/ المقصود بها أن أهل الجنة إذا جاءوا إليها وجدوا أبوابها مغلقة ويكون أول من يفتح له النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلها وقد دخل بعده أمته ثم بقية الأمم ، ودليلها حديث أنس عند مسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن من أنت ؟ فأقول : محمد ، فيقول : بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك ) وفي لفظ له ( أنا أول شفيع في الجنة ) والله أعلم .

س268/ ما المراد بالشفاعة في عمه أبي طالب وما دليلها ؟
ج/ المراد بها شفاعة تخفيف لا إخراج وهي خاصة بأبي طالب فقط وإلا فالأصل في عموم الكفار والمشركين أنهم لا تنفعهم الشفاعة ولا يأذن لأحد أصلاً بالشفاعة فيهم كما قال تعالى (( فما تنفعهم شفاعة الشافعين )) ، ففي الصحيح عن العباس بن عبد المطلب  أنه قال ( يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك قال ( نعم هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ، وفي لفظ ( وجدته في غمرات من النار ، فأخرجته إلى ضحضاح ) وفي الصحيح أيضاً من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عند عمه أبو طالب فقال : ( لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه ) وللبخاري  ( يغلي من أم دماغه ) ولمسلم عنه مرفوعاً ( إن أدنى أهل النار عذاباً من ينتعل بنعلين من نار يغلي دماغه من حرارة نعليه ) والله أعلم .

س269/ ما المراد بالشفاعة في أهل الكبائر ؟ وما دليلها ؟ ومن الذي أنكرها ؟
ج/ المراد بذلك أن من الأمة من يموت مصراً على بعض الكبائر ، وقد ذكرنا أنه عند أهل السنة تحت المشيئة . فإذا شاء الله عذابه فإنه لا يخلو من أحوال إما أن يأذن بالشفاعة فيه فلا يدخل النار أصلاً بل يغفر له ويدخل الجنة ابتداءً ، وإما أن يدخل النار ثم يؤذن بالشفاعة  فيه بعد دخولها فيخرج منها إلى الجنة انتقالاً ، وذلك يعود إلى مشيئة الله جل وعلا وهذه الشفاعة قد تواترت على إثباتها الأدلة ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ( لكل نبي دعوة دعاها لأمته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ) وفي الصحيح أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه ) وعن أنس مرفوعاً ( شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ) وفي الصحيح أيضاً عن حماد بن زيد قال قلت لعمرو بن دينار : أسمعت جابر بن عبدالله يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله يخرج قوماً من النار بالشفاعة ؟ قال : نعم ، وفي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً ( فيقول الله عز وجل شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين فيقبض قبضةً من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا فحماً فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة ، فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل وفي الصحيح من حديث أبي سعيد السابق والطويل وفيه ( حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد مناشدة لله تعالى في استيفاء الحق من المؤمنين يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون : ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم : أخرجوا من عرفتم ، فتحرَّمُ صورهم على النار فيخرجون خلقاً كثيراً قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ، فيقولون : ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينارٍ من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً ، ثم يقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه ، فيخرجون منها خلقاً كثيراً ، ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيراً ) وفي الصحيح من حديث أبي سعيد أيضاً مرفوعاً ( أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس منكم أصابتهم النار بذنوبهم أو قال بخطاياهم فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحماً أذن بالشفاعة فجيئ بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل :  يا أهل الجنة أفيضوا عليهم .... الحديث ) وفي الصحيح عن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فيدخلون الجنة ويسمون بالجهنميين ) وفي البخاري أيضاً عن أنس رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( إذا كان يوم القيامة شفعت وقلت يارب أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة ، فيدخلون ثم أقول : أدخل الجنة من كان في قلبه أدنى شيء فيدخلون ) وفي الحديث في فضائل الشهداء ( و يشفع في سبعة من أهله ) وغير ذلك من الأدلة ، وكما ذكرت لك أن هذا النوع من الشفاعة قد تواترت به الأدلة ، وقد أجمع أهل السنة رفع الله نزلهم في الدنيا والآخرة على إثباته ولكن أبى المبتدعة إلا إنكارها والتكذيب بها ، فقد أنكرها الوعيدية من الخوارج والمعتزلة ، وحري بهم ألا يوفقوا لها يوم القيامة ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ، وعميت أعينهم عن هذه الأدلة النيرات المتواترات لِوهمٍ توهموه ومذهب ٍ انتحلوه وخرافات أصّلوها واعتمدوها وعارضوا بها نصوص الوحي المطهر عافانا الله وإياكم من كل بلاء وفتنة ونعوذ به جل وعلا من حال أهل الأهواء والله أعلم .          

س270/ ما دليل الشفاعة في رفعة الدرجات في الجنة ؟
ج/ دليلها قوله تعالى (( والذين آمنوا وأتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهينة )) وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما توفي أبو سلمة ( اللهم أغفر لأبي سلمة وأرفع درجته في المهديين ) والله أعلم .

س271/ من أهل الأعراف ؟
ج/ أهل الأعراف قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فيوقفون بين الجنة والنار ، يرون أهل الجنة يدخلون فيقولون (( سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون )) ويرون أهل النار يدخلونها (( قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين )) فيأذن الله تعالى بالشفاعة فيهم فيشفع فيهم النبيون والصديقون والشهداء  والصالحون ، ويستدل على الشفاعة فيهم ببعض عمومات الأدلة السابقة كحديث ( شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ) وغير ذلك والله أعلا وأعلم .  
     
س272/ ما شروط الشفاعة ؟ مع بيانها بالأدلة ؟
ج/ شروط الشفاعة شرطان : الإذن و الرضى قال تعالى (( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه )) وقال تعالى (( ولا يشفعون إلا لمن أرتضى )) وقال تعالى (( وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى )) والله  أعلم .

س273/ ما لقاعدة المعتمدة عند أهل السنة في باب التوسل ؟ مع شرح معناها   الإجمالي ؟
ج/ القاعدة المعتمدة عند أهل السنة في باب التوسل تقول : ( الأصل في التوسل التوقيف على الدليل الشرعي الصحيح الصريح ) وبيانها أن يقال أن المتقرر عند أهل الإسلام أن باب التعبد لله تعالى باب توقيفي على الدليل ، فلا يجوز إثبات شيء منها إلا إذا أثبته الدليل فما أثبته الدليل مها أثبتنها وما نفاه منها نفيناه وما لم يثبته ولم ينفه فالأصل عدمه من المعلوم أن باب التوسل من أبواب العبادات فهو عبادة لأن مبناه على أنك تتقرب إلى الله تعالى باتخاذه الوسيلة المعينة المحبوبة له جل وعلا ، وحيث كان عباده فالأصل فيه التوقيف تفريعاً على القاعدة في العبادات  ، وبناءً عليه فلا يجوز لك أيها الأخ المبارك أن تتوسل بشيء وتعتقد من جملة ما يتوسل به إلا وعليه دليل من الكتاب أو صحيح السنة ، وما لا دليل عليه فأحذره ، فليس باب التوسل مفتوحاً للشهوات وآراء الرجال والهوى والأحاديث الضعيفة أو الموضوعة أو الأذواق ، بل هو باب توقيفي على الدليل فما ورد الدليل بجواز التوسل به فيجوز التوسل به ، وما لم يرد على جوازه دليل فقف منه موقف المنع لأن الأصل في باب التوسل التوقيف على الدليل الشرعي الصحيح والله أعلم .             
     

س274/ ما المراد بلفظ (الوسيلة والتوسل) في الكتاب والسنة وكلام الصحابة؟ مع بيان ذلك بالأدلة ؟
ج/ اعلم أن الوسيلة تختلف باختلاف الإطلاق : فالوسيلة في كتاب الله تعالى يراد بها التقرب إليه بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وطاعة رسله وهي الوسيلة العامة التي يطالب بها كل أحد وذلك كما في قوله تعالى (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون)) فابتغاء الوسيلة إليه يراد بها التقرب له بالعمل بما يرضيه وبالمناسبة فإنه لم يرد لفظ الوسيلة  في القرآن إلا في هذا الموضع فقط.  وأما الوسيلة في كلام النبي صلى الله عليه وسلم يراد بها المنزلة التي في الجنة التي لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم ( ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجوا أن أكون أنا هو فنم سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة ) رواه مسلم.وفي حديث جابر مرفوعا ( من قال حين  يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته حلت له شفاعتي) حديث صحيح .
وأما الوسيلة في كلام الصحابة فإنما يراد بها طلب الدعاء فقط ، فإذا وجدت في كلامهم أنهم كانوا يتوسلون بكذا وكذا ،فاعلم أن المراد بذلك أنهم يطلبون منه أن يدعو لهم ، وذلك كما في حديث أنس أنهم كانوا إذا قحطوا يقول عمر رضي الله عنه (اللهم إنا كنا نتوسل بنبيك صلى الله عليه وسلم فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ، قم يا عباس ، فيقوم فيدعو فيسقون) فقوله (كنا نتوسل بنبيك) إي كنا نطلب الدعاء منه . وقوله ( وإنا نتوسل بعم نبيك ) أي ونحن الآن نطلب منه أن يدعو لنا ،فهذه الإطلاقات الثلاث للفظ الوسيلة يجب التفريق بينها ، فإن من فرق بينها فقد أحكم بذلك شيئا كثيرا من مسائل هذا الباب الشائك الذي ضلت فيه أقوام وزلت فيه أقدام والله أعلم.


س/275  ما الوسائل التي ثبت الدليل بجواز التوسل مع تأييد ذلك بالأدلة؟
ج/ لقد أثبت الدليل الشرعي الصحيح الصريح جواز التوسل بعدة أشياء:
الأول : التوسل إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى قال الله تعالى ((ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ))
الثاني : التوسل بالصفات ، وله أدلة كثيرة وذلك كما في حديث الاستخارة ( اللهم إني أستخيرك بعلمك الغيب وأستقدرك بقدرتك ...... الحديث) ومنه دعاء سليمان عليه السلام(( وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ))ومنه حديث بريدة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول : الله إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال ( لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب) رواه أبو داود والترمذي ولبن ماجه بإسناد صحيح، وغير ذلك من الأدلة.
الثالث : التوسل إلى الله تعالى بذكر الحال ، ومنه قوله تعالى عن نوح عليه السلام " رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين" وقوله تعالى عنه أيضا" رب إني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر" وقوله تعالى عن موسى "رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير" ومنه الحديث المشهور في السير أنه صلى الله عليه وسلم قال لما طرده أهل الطائف (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ..... الحديث)
الرابع : التوسل إلى الله تعالى بدعاء الحي الحاضر  القادر، ودليله حديث أنس في الصحيح أن رجلا دخل المسجد من نحو دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فقال : يا رسول الله هلكت الأموال وجاع العيال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا ، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال ( الله أغثنا ) ثلاثا قال أنس فلا والله ما في السماء من سحاب ولا قزعة حتى خرجت من وراء سلع سحابة سوداء ثم توسطت السماء فأمطرت فلا والله ما رأينا الشمس أسبوعا كاملا ..... الحديث) ومنه حديث أنس في طلب عمر رضي الله عنه من العباس أن يدعو للمسلمين ، وهذا دعاء أقره عليه جميع الصحابة ، ولم ينكره أحد مع شهرته، وهو من أظهر الإجماعات الإقرارية ، وكذا فغل معاوية رضي الله عنه لما أصابهم القحط في الشام فإنه أمر يزيد بن الأسود أن يتقدم الناس ويدعو ، ومنه أيضا أمر النبي صلى الله عليه وسلم من لقي أويساً القني أن يطلب منه أن يدعو له ، ومنه أيضا حديث الأعمى الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يدعو له أن يرد الله تعالى عليه بصره ، ومنه أيضا طلب أم سليم منه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يدعو لأنس ، والأدلة على ذلك كثيرة شهيرة.
الخامس : التوسل إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة ، ودليله حديث ابن عمر في توسل الثلاثة من بني إسرائيل الذين انطبقت عليهم الصخرة ، وسدت عليهم باب الغار فقال بعضهم لبعض ( إن الله تعالى لن ينجيكم من أمر هذه الصخرة إلا |أن تدعو الله تعالى بصالح أعمالكم) فتوسل الأول ببره بوالديه، وتوسل الثاني بعفته وخوفه من الله تعالى ، وتوسل الثالث بأمانته وحفظ عهده وفي آخره ( فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون) متفق عليه.
السادس : التوسل إلى الله تعالى بالإيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى (( ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فأغفر لنا ذنوبنا وكفرعنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار .....الآيات ))  وقوله تعالى (( الذين يقولون ربنا إننا آمنا فأغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار )) وهذا السادس يدخل في الأمر الخامس لأنه من جملة الأعمال الصالحة فالأعمال الصالحة من أعظم ما يتوسل به العبد ، فهذه الوسائل الست هو التي دل الدليل الشرعي الصحيح الصريح على جواز التوسل بها والله أعلم .  

 


س276/ ما أقسام التوسل بالأسماء والصفات ؟ مع بيان ما تقول بالمثال ؟
ج/ التوسل بالأسماء والصفات  قسمان :
توسل عام وتوسل خاص ، والمراد بالتوسل العام أي أن تقول اللهم أني أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى ، هكذا على وجه العموم ، فهذا جائز كما مضى بلا شرط ، والمراد بالتوسل الخاص أن تتوسل باسم معين أو صفة معينة ، فيشترط حينئذٍ مناسبة الاسم والصفة للسؤال ، فإذا سألت الرزق فتوسل باسم الله الرزاق والكريم والجواد و المعطي ونحوها ، وإذا سألت المغفرة والرحمة فتوسل باسمه الرحمن الرحيم الغفور الودود التواب الرؤوف ونحوها ، وإذا سألت هلاك ظالم فتوسل باسمه الجبار والقوي والمهيمن والعزيز والقدير ونحوهما ، وكذلك يقال في الصفات ، فلا بد أن يكون الاسم أو الصفة المتوسل بها مناسبة لسؤالك الذي تريد أن يحققه الله لك ، والله أعلم .

س277/ ما حكم التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟ مفصلاً الجواب مع ضرب المثال ؟
ج/ أقول : التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أنواع :
     الأول : التوسل به بمعنى طاعته فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر وتصديقه فيما أخبر وألا يعبد الله إلا بما شرع ، فهذا حقيقة دين الإسلام وزبدة رسالة الشريعة التي بعث بها صلى الله عليه وسلم .
الثاني : التوسل به بمعنى طلب الدعاء منه فهذا جائز في حياته فقط وأما بعد وفاته فلا يجوز ، وقد قدمنا الأدلة على جوازه في حياته ، وأما الدليل على عدم الجواز بعد وفاته فلأنه لا يملك حينئذ لنفسه نفعاً ولا ضراً وفاقد الشيء لا يعطيه ، ولأن الصحابة كانوا إذا قحطوا استسقوا بالعباس مع أنه صلى الله عليه وسلم كان مدفوناً بجوارهم في حجرة عائشة فعدم إتيانهم لقبره وسؤاله إجماع منهم على عدم الجواز ولأنه صلى الله عليه وسلم قال     ( أشتد غضب الله تعالى على قومٍ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) وقال ( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد ) وقصده للدعاء عنده من اتخاذه من اتخاذه عيداً ووثناً ومسجداً فهو باب مفض إلى ذلك فلا بد من سده ،  فحيث لم يفعله أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة السلف فلا يجوز فعله إذ لو كان ذلك مما يجوز لنبهوا عليه ، وفي المختارة أن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رأى رجلاً يجيئ إلى فرجةٍ كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم  فيدعو فنهاه وقال : ألا أحدثك حديثاً سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا علي حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني ) فطلب الدعاء منه بعد مماته من الشرك الأكبر المخرج من الملة ، فإنه لا يدعى إلى الله تعالى ، وأما دعاء الأموات أياً  كانوا فإنه من الشرك الأكبر ، نعوذ بالله منه .
الثالث : التوسل إلى الله بجاهه ، وهذا لا يجوز لأنه لا جاه له عند الله ، نعوذ بالله من قول ذلك ، بل هو أعظم الخلق عند الله جاهاً وأعلاهم منزلة ، لكن قد قدمت لك أن الأصل في التوسل التوقيف على الدليل ، ولم يأت الدليل الشرعي الصحيح في جواز التوسل بذلك ، بل ولا يعرف عن أحد من الصحابة في ذلك حرف واحد ، وكل ما يروى في التوسل بجاهه فكذب  مختلق موضوع لعن الله واضعه وعامله بما توعد به الكاذبين على نبيه صلى الله عليه وسلم فبان بذلك أن التوسل به ثلاثة أنواع ، نوع جائز وهو الأول بل هو حقيقة الدين ، لكن قلت جائز بالنسبة للنوعين قبله فقط وإلا فهو أوجب الواجبات وأعظم المطلوبات المتحتمات ، ونوعان ممنوعان . والله أعلم .

س278/ هل الأفضل طلب الدعاء من الغير أم الأفضل تركه ؟
ج/ هذا يختلف باختلاف ما يقوم بقلب الطالب فإن قام بقلبه حب نفع نفسه وأخيه بدعاء الملك له ، فإنه ما دعا أحد لأخيه بظهر الغيب إلا أجابه ملك وقال ( آمين ولك بالمثل ) فأنا قام في قلبي حب نفع أخي بدعاء الملائكة له فأمرته أن يدعو لي حباً لانتفاعه هو بدعاء الملك له مع انتفاعي أنا  أيضاً بدعائه فهذا جائز لا بأس به وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم لعمر ( لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك ) وأما إذا لم يتم في قلب الطالب إلا انتفاعه هو فقط بهذا الدعاء فهذا جائز أيضاً لكن تركه أفضل ، فإنه صلى الله عليه وسلم قد أخذ العهد على بعض أصحابه ألا يسألوا الناس شيئاً فكان سوط أحدهم يسقط فينزل ويأخذه ولا يقول لمن تحته ناولنيه ) ولأن منزلتك في قلب غيرك تخف بقدر سؤالك له ، ولأن قلبك ولا بد أن تتعلق شعبة منه بالمطلوب الدعاء منه والمستحب للعبد في كل أحواله أن يتعلق قلبه بالله التعلق الكامل ، ولأن الداعي لك قد لا يقوم في قلبه الإلحاح وشدة الافتقار وصدق اللجأ لله تعالى كما يقوم بقلبك أنت ، لأنك صاحب الحاجة ، وليس النائحة الثكلى كالمستأجرة ، فدعاؤك لنفسك في هذه الحالة أكمل لأنه أتم في تحقيق مراتب العبودية في الدعاء من كمال الافتقار وغاية الذل وصدق اللجأ لله تعالى ويكره الإنسان أن يترك هذه الأحوال القلبية الكاملة اتكالاً على دعاء غيره له ، ولأن سؤال غيرك أن يدعو لك فيه نوع ذلة ومسكنة له وقد يكون فيه إيذاء لذلك المسئول ، والله أعلم .

س279/ ما حكم شد الرحل إلى قبور الأنبياء والأولياء للتبرك بها والدعاء عندها مع الدليل ؟
ج/ هذا الأمر من أشد المنكرات وأعظم المحرمات وأكبر الوسائل لتعظيمها واتخاذها أوثانا تعبد من الله تعالى ومن اتخاذها عيدا ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال( لا تشد الرحال  إلا إلى  ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا ) وفي الصحيح أيضا أنه قال ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما صنعوا قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا ) وفي الصحيح أيضا عنه أنه قال ( ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك) فالزيارة على هذه الوجوه كلها مبتدعة لم يشرعها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولا فعلها الصحابة لا عند قبره صلى الله عليه وسلم ، ولا عند غيره ، وهي من جنس الشرك وأسبابه، ولا يفهم أحمق أرعن جاهل غبي أخرق أن كلامنا هذا فيه إنقاص من قدر الأنبياء والأولياء فإن هذا لا يفهمه إلا من عشعش الشيطان في قلبه وبيض وفرخ وعمره بسوء الظن، لأن تعظيم الأنبياء إنما يكون بالإيمان بهم وطاعتهم وموالاتهم ونصرتهم ، وتعزيرهم، وتوقيرهم بما هو مشروع، فالتعبد مبناه على الدليل والإتباع لا على الهوى والابتداع فليس كل أحد يعمل في دينه ما يشتهي بل مصداق المحبة الصادقة أتباع المحبوب فيما يأمر به فيمتثل ، وفيما ينهى عنه فيجتنب وفيما يخبر به فيصدق ، وما شرع لنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم النهي عن شد الرحال لغير هذه المساجد الثلاثة ـ أعني إذا كان القصد التعبد ـ كما نهي عن الدعاء عند القبور ورفع ترابها والبناء عليها والكتابة عليها وتجصيصها  وزخرفتها وإسراجها والذبح عندها والنذر لها وبناء المساجد عليها والصلاة عندها كل بذلك مما شرع لأمته ، فواجب على الأمة أتباعه فيه وأن يكون هوانا تبعاً لما جاء به صلى الله عليه وسلم وأن لا تأذي الأموات بفعل هذا الشرك عندهم و جريمة نكرا ، في حق التوحيد لما فيه من فتح باب الشرك على مصراعيه ، وهل بالله عليك دخل الشرك وفساد الأحوال والاعتقاد إلا بسبب الغلو في الأولياء والصالحين وقبورهم والعكوف عندها ، فاللهم أصلح أحوال المسلمين واكفنا شرور أنفسنا ونزغات الشيطان الرجيم والله أعلم .

س280/ كيف توجه قول الأعمى ( اللهم إني أتوجه لك بنبيك صلى الله عليه وسلم ) فإن بعض المبتدعة يستدل به على جواز التوسل بجاه النبي وصلى الله عليه وسلم وبدعائه بعد مماته ؟
ج/ أقول: لا إشكال في هذا الحديث أبدًا لكن يجب أن تفهم أولا : أنه لا يمكن أبدًا أن تتعارض النصوص الشرعية التي ثبتت صحتها ، ولا يمكن أن يكون فيها ما يدعو إلى نهي عنه أبدا ، فيجب عليك أن تعتقد ذلك وما ورد عليك مما تتوهم فيه مخالفة أو معارضة فعليك بالاستعانة بالله تعالى في كشفه ثم بسؤال أهل العلم الراسخين في بيانه ، وهذا الحديث قد وردت فيه روايات يبين بعضها بعضًا ويفسر بعضها بعضًا ففي جامع الترمذي إن هذا الأعمى قال( اللهم إني أسالك وأتوسل إليك بنبيك ممد صلى الله عليه وسلم في الرحمة لي اللهم شفعه في ) وقد تقدم لك أن التوسل في عرف الصحابة يراد به طلب الدعاء من الغير ولذلك ففي روية في جامع الترمذي وسنن ابن ماجه أن هذا الأعمى قال للنبي صلى الله عليه وسلم ( ادع الله أن يعافيني فقال له إن شئت دعوت وإن شئت صبرت ، قال : فادعه ) فهذا يبين أن هذا التوجه المذكور في حديث السؤال إنما يراد به طلب الدعاء منه ، لا أنه توسل بذاته أو بجاهه كما قد فهمه بعض الغالطين ، ويوضح ذلك لفظ النسائي فإن الأعمى قال للنبي صلى الله عليه وسلم ( ادع الله أن يكشف لي عن بصري ....... الحديث. ) وفي المسند أن ذلك الأعمى قال : ادع الله أن يعافيني ، فهذا الحديث كحديث عمر السابق ( اللهم إنا كنا نتوسل بنبيك ....... الحديث. ) فهذان الحديثان شيء واحد . فالتوجه المذكور والتوسل الوارد غنما يراد به طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم وسؤال الشفاعة منه وهو حي وهذا أمر لا تنازع فيه بل قد ذكرنا أن حديث الأعمى من جملة الأدلة على جوازه ويوضح ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم بعد موته إنما كانوا يتوسلون بغيره بدلاً عنه ، فلو كان التوسل به حياً وميتاً سواء لما عدلوا عن التوسل به بعد موته إلى التوسل بعمه العباس رضي الله عنه ، وهذا واضح إن شاء الله تعالى والله أعلم .

س281/ هل ثبت في زيادة قبره صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص شيء من السنة ؟
ج/ لا ، لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد في زيارة قبره ولا قبر غيره على وجه الخصوص شيء ، وما يروى في ذلك فإنما هو موضوع أو شديد الضعف باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، كقولهم : ( من زارني وزار قبر أبي الخليل في عام واحد ضمنت له الجنة ) قال أبو العباس عنه : كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أهـ وقال النووي : باطل ليس هو مروياً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف في كتابٍ صحيح ولا ضعيف بل وضعه بعض الفجرة أهـ  ومن ذلك قولهم : ( من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي ) ولا يصح من أساسه بل هو شديد الضعف بمرة ويقرب أن يكون موضوعاً ، ومن ذلك قولهم )  من حج فلم يزرني فقد جفاني ) وهذا الحديث لا أصل له بل هو من المكذوبات والموضوعات كما قاله ابن عبدالهادي في الصارم المنكي .                                   
بل قال شيخ الإسلام عن هذه الأحاديث كلها مكذوبة موضوعة ، وقد تقرر في الأصول والقواعد أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة وحيث لم يصح في ذلك شيء فالأصل هو الاستدلال على استحباب الزيارة بالأحاديث العامة الواردة في الباب لكن من غير شد رحلٍ لا لقبره ولا لقبر غيره والله أعلم .

س282/ عرف البدعة لغة وشرعاً ؟                     
ج/ البدعة لغة : هي الشيء المخترع لا على مثال سابق ، ومنه قوله تعالى (( قل ما كنت بدعاً من الرسل )) أي ما كنت أول من أرسل ، فقد أرسل قبلي رسل كثير ، ومنه قوله تعالى (( ورهبانية ابتدعوها ))أي اخترعوها وأبتدؤها من عند أنفسهم ، ومنه قوله تعالى  (( بديع السموات والأرض )) وذلك لإبداعه لها وإحداثه لها لا على مثال سابق .
والبدعة اصطلاحاً : إحداث شيء في الدين ليس عليه أمر الشارع ، وهذا التعريف ألصق باللفظ النبوي الذي لا يداخله الريب ولا تعتريه المناقضة والاختلاف ، أعني ما في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) ولمسلم ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) وقوله ( وإياكم ومحدثات الأمور ) وإن شئت فقل في تعريفها : طريقة في الدين مخترعة تضاهي الطريقة الشريعة يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد له سبحانه ، وهذا تعريف الشاطبي وإن شئت الاختصار فقل : التعبد لله بما لا دليل عليه والله أعلم .

 

س283/ ما حكم البدعة الشرعية مع ذكر بعض النصوص الآمرة بالإتباع  والناهية عن الابتداع ؟
ج/ أما حكمها فقد أوضحه النبي صلى الله عليه وسلم غاية الإيضاح بما لا يدع مجالاً للمناقشة ولا للإيرادات التافهة الباردة وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم ( وكل بدعة ضلالة ) وقد تقرر أن ( كل ) من أقوى صيغ العموم  فهذه كلية عامة لا يخرج عنها شيء مما يصح وصفه بالبدعة فكل ما يدخل تحت هذا المسمى فإنه محكوم عليه بأنه ضلالة ولا شك أن هذه الضلالة تتفاوت بتفاوت هذه البدع، وقد تقرر عند العلماء أن الأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل ،وتقرر أيضا أن الأصل هو البقاء على العموم حتى يرد المخصص وبناء عليه فمن اعتقد في بدعة في الدين أنها حسنة فإنه مطالب بالدليل، لأنه ناقل عن الأصل ، وقد تقرر في الأصول أن الدليل يطلب من الناقل عن الأصل لا من الثابت عليه،وعلى ذلك مضى سلف الأمة، وقد تكاثرت الأدلة بالأمر بالإتباع والنهي عن الابتداع، فمن ذلك: قوله تعالى ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله ) وقال تعالى ( فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تفلحون ) وقال تعالى ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) وقال الله تعالى ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) وقال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ) وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) ولمسلم ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) وله عن جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول إذا خطب الناس ( أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة) وللبخاري عنه أنه قال      ( جاءت الملائكة للنبي صلى الله عليه وهو نائم فقالوا :إن لصاحبكم هذا مثلا فاضربوا له مثلا فقال بعضهم إنه نائم وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقضان........ وفيه أنهم قالوا: فمن أطاع محمدا فقد أطاع الله ومن عصى محمدا فقد عصى الله ، ومحمد فرق بين الناس) وعن العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه قال ( وعظنا رسول الله صلى الله عليه موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقلنا : يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا فقال ( أوصيكم بتقوى الله تعالى والسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا ، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) وسنده صحيح. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال ( خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال : هذا سبيل الله تعالى ، ثم خط خطوطا عن يمينه وشماله، وقال هذه سبل وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه) حديث صحيح. وفي الحديث الذي يصح بمجموع طرقه( وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، وهي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) وقد توا تر عن السلف أنهم كانوا يقولون : اقتصاد في سنة ، خير من اجتهاد في بدعة. ويقولون: ما ابتدع قوم بدعة إلا رفع من السنة بقدرها. ويقولون: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم. وكان سفيان بقول: لا يستقيم قول ولا عمل إلا بموافقة السنة. وفي الصحيح في أحاديث الحوض وأن قوما يذادون عنه كما يذاد البعير الضال فأقول( أصيحابي أصيحابي، فيقولون: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول : سحقا سحقا) وكان ابن عمر يقول :( كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة) وسنده صحيح. وقال محمد بن أسلم (من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام)وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى "ليبلوكم أيكم أحسن عملا" قال أخلصه وأصوبه ،قيل يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل ، حتى يكون خالصا صوابا، والخالص ما كان لله تعالى والصواب ما كان على السنة. والأدلة والآثار في ذلك كثيرة، وأوصي الأحباب القراء بمراجعة الاعتصام للشاطبي ، والباعث لأبي شامة، وكتاب ابن وضاح المسمى بـ(ما جاء في البدع)والأمر بالإتباع والنهي عن الابتداع للسيوطي،والحوادث والبدع للطرطوشي، رحم الله علماء الإسلام الرحمة الواسعة ورفع نزلهم في الفردوس الأعلى وجمعنا بهم في جنات النعيم.والله تعالى أعلى وأعلم.

س284/  ما الفرق بين البدعة والمعصية؟ وأيهما أحب إلى إبليس ؟
ج/أقول : تتفق البدعة والمعصية بأن كلا منهما مخالفة  للمتقرر شرعا ، ولكن تزيد البدعة بأن فاعلها ينوي التقرب إلى الله تعالى بهذا الفعل أو القول،فهو في قرارة نفسه لا يرى أنه قد خالف الشرع في شيء وإنما يرى أنه متقرب إلى الله تعالى بذلك ، وإما المعصية فإن العاصي يعلم حال مقارفته لهذه الفعلة إنه عاص بذلك، ولا يقوم في قلبه التعبد لله تعالى بهذا الفعل ، فالزاني يزني وهو يعلم أنه يعصي ربه بذلك، ولكن غلبة الشهوة وقوة داعي الشيطان وضعف الإيمان حمله على ذلك، والسارق يسرق وهو يعلم أنه عاص بذلك ، وشارب الخمر والذي يأكل الربا وقاتل النفس بلا حق والعاق لوالديه وحالق اللحية ومسبل الثوب ونحوهم كلهم يفعلون ذلك وهم يقرون في أنفسهم أن هذا معصية، ولا يرجون بها تقربا أو ثوابا ، أما من يطوف حول القبر أو يحتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ، أو يدعو الأموات أو ينذر لهم ، أو يقول الذكر الجماعي أدبار الصلوات ونحو هذا فإنه يفعل ذلك وهو المبالغة في التعبد والتقرب إلى الله تعالى ، فالبدعة ينوي صاحبها القربة والمعصية لا ينوي صاحبها ذلك، ولذلك فإن المتقرر عند السلف رحمهم الله تعالى أن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية ، لأن صاحب البدعة لا يرى أنه مخطئ بل يرى أنه على صواب ولذلك فالتوبة منها تحتاج إلى إقناعه أولا بخطأِ فعله هذا وأنه بدعة والكثير من المبتدعة لا تقبل نفسه النزع  عن هذه البدعة لاعتياده عليها ، ورسوخها في قلبه، وأنها من موروثات آبائه وبني قومه، وأما صاحب المعصية فلأنه يعلم قبح فغلته وأنها حرام وموجبة لعذاب الله تعالى وسخطه فإنه بالتذكير والوعظ يزدجر عنها ويتوب منها غالبا، ولذلك فالتوبة في العصاة أكثر من التوبة في المبتدعة ، ولا أعني بذلك أن صاحب البدعة لا يتوب ، كلا ، فإني لا أقصد ذلك أبدا ، بل باب التوبة مفتوح يلجه كل مذنب ، ولكن أعني أن توبته منها طريقها أن يعلم بقبحها، وهذا يحتاج إلى كشف الشبهة عن قلبه وبيان وجه المخالفة ، أسأل الله جل وعلا أن يهدي كل مبتدع ، وأن يصلح باطنه وظاهره، وأن يهديه إلى طريق السنة ويشرح صدره لقبول الحق واعتماده والله أعلم .
 
س285/ ما أقسام البدعة باعتبار تعلقها بأبواب الدين ؟ مع بيان ذلك بالأمثلة ؟  
ج/ تنقسم البدعة بهذا الاعتبار إلى قسمين : بدعة في باب العلميات ، وبدعة في باب العمليات ، ونعني بالعلميات أي العقائد ونعني بالعمليات أي أمور الفقه ، فمن البدع ما يسمى بالبدع العقدية أي لها تعلق بالعمل بالاعتقاد ، ومن البدع ما يسمى بالبدع العملية أي لها تعلق بالعمل ، وقد يجتمعان في بعض الصور فتكون عقدية عملية ، فمن أمثلة البدع في الاعتقاد بدع القدرية والخوارج والمعتزلة والجهمية والاشاعرة والماتريدية والكلابية والرافضة ويرهم من الفرق التي تنتسب للقبلة ، فالبدع التي أتى بها هؤلاء بدع عقدية أو نقول : بدع في باب العلميات فإنكار الصفات بدعة عقدية ، وإنكار القدر بدعة عقدية وإخراج الأعمال عن مسمى الإيمان بدعة عقدية ، وإنكار قدرة العبد واختياره بدعة عمليه ، واعتقاد كفر مرتكب الكبيرة وخلوده في النار بدعة عقدية وغير ذلك .
وأما البدعة المعملية فأنواع :
فمنها : ما يكون بدعة في أصل العبادة وذلك بأحداث عبادة ليس لها أصل في الشرع كإحداث صلاة غير مشروعة أو صيام غير مشروع أو عيد غير مشروع كأعياد الميلاد والأم ورأس السنة أو اتخاذ بعض الموالد لبعض الأنبياء أو الأولياء ، عيداً ، وكالطواف حول القبور والأمثلة على ذلك كثيرة .
     ومنها : ما يكون في الزيادة على القدر المشروع في هذه العبادة كما لو زيد ركعة ميلاً في صلاة الظهر أو العصر .       
ومنها : ما يكون في صفة أداء العبادة كفعل عبادة على صفة غير مشروعة وذلك كأداء الأذكار المشروعة بأصوات جماعية مطربة .
ومنها : ما يكون بتخصيص وقت للعبادة المشروعة لم يخصصه الشرع أ تخصيص فعلها في مكان معين لم يخصصه الشرع كتخصيص ليلة النصف من شعبان وليلته بصيام أو قيام فإن أصل الصيام والقيام مشروع لكن هذا التخصيص يحتاج إلى دليل ، وكتخصيص مكان معين باعتقاد أفضلية فعل الصلاة فيه كمقبرة مثلاً أو مسجد فيه قبراً أو مكان صلى فيه نبي أو ولي ونحو ذلك ، فهذا التخصيص يحتاج إلى دليل وإنك لو سبرت البدع المحدثة في الشرع كلها لم تجدها  تخرج عن هذين القسمين ، إما أن تكون في باب العقائد وأما أن تكون في باب العمليات  فهذا تقسيمها باعتبار تعلقها بأبواب الدين والله أعلم .

س286/ ما أقسام البدعة باعتبار حكمها الشرعي ؟ مع بيان ذلك بالأمثلة ؟
ج/ تنقسم البدعة باعتبار حكمها الشرعي إلى قسمين بدعة مكفرة وبدعة غير مكفرة ، أي من البدع ما يحكم عليه بأنه كفر ، ومن البدع ما لا يصل إلى درجة الكفر بل يبقى في درجة الظلم والفسق ، فمثال البدعة المكفرة بدعة الجهمية أتباع الجهم بن صفوان الترمذي ، فإن بدعة هؤلاء كفروا ببدعتهم وقد تقلد كفرهم خمسمائة عالمٍ من أهل السنة وذكر بعض أهل السنة المتأخرين اتفاق أهل السنة على أن الجهمية كفار خارجون عن الثلاث وسبعين فرقة ولا أن يوصفوا بأنهم من أهل القبلة ، ومن البدع المكفرة بدعة القول بخلق القرآن ولذلك فقد أتفق السلف على أن من قال بخلق القرآن فإنه كافر ، ومن البدع الكفرة بدعة القدرية الذين ينكرون علم الله السابق والكتابة السابقة ويزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف ، وقد أتفق على تكفيرهم من تأخر موته من الصحابة كابن عمر وأنس وأبي سعيد وأبي هريرة وغيرهم  ، وسار أهل السنة على هذا الاتفاق ولذلك قالوا : ناظروهم في العلم في العلم فإن أنكروه كفروا وإن أثبتوه غلبوا ، ومن البدع المكفرة بدعة دعاء الأموات والذبح لهم والاستغاثة لهم في كشف الملمات وتفريج الكربات ، والركوع والسجود إلى القبور والحلف بغير الله تعظيما له كتعظيم الله تعالى ، كل ذلك بدع مكفرة ، وهذه بعض الأمثلة . وأما البدع التي لا تصل إلى حد الكفر ، فكبدعة شد الرحال إلى القبور وبدعة الأذكار الجماعية أدبار الصلوات وبدعة تخصيص مكان أو زمان معين ببعض العبادات وبدعة إخراج العمل من الإيمان وبدعة تكفير مرتكب الكبيرة ، ونحو ذلك ، والله أعلم .

س287/ كيف الجواب على من يقول : أن من البدع ما يكون حسناً ويستدل بقول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس على أبيّ رضي الله عنه في صلاة التراويح فخرج فقال  ( نعمت البدعة هذه ) ؟
ج/ أقول : لا دلالة في هذا القول على ما يريده هذا المدعي وبيان ذلك من وجوه :
الجواب الأول : أننا عرفنا البدعة الشرعية إحداث شيء في الدين ليس عليه أمر الشارع ، والاجتماع في صلاة التراويح مما عليه أمر الشارع ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا في الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلة الله عليه وسلم فلما أصبح قال : قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إلا أني خشيت أن تفرض عليكم وذلك في رمضان فدل هذا الحديث على كونها سنة فإن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً دليل على صحة القيام في المسجد جماعة في رمضان ، وامتناعه عنه بعد ذلك عن الخروج ليس بنسخ لهذا الحكم بل علله بخوفه أن يفرض عليهم هذا القيام ، فرحمة بأمته أمتنع من الخروج وهذا التي يخشاه قد زال بموته صلى الله عله وسلم فإن قلت: فلو كان كذلك فلماذا لم يفعل في عهد أبي بكر؟ فأقول: يرجع ذلك لأمرين :
 أولاً : أما لأنه رأى أن قيام الناس آخر الليل وما هم عليه كان عنده وعنده من جمعهم إلى إمام واحد أول الليل .
     ثانياً : ضيق زمانه رضي الله عنه عن النظر في ذلك الفرع مع شغله التام بأهل الردة وغير ذلك مما هو أوكد من صلاة التراويح ، فالاجتماع في صلاة التراويح شيء كان أول من فعله النبي صلى الله عليه وسلم فهو مشروع ، فعلم بذلك أن قول عمر رضي الله عنه
 ( نعمة البدعة هذه ) أنه لا يقصد بها البدعة الشرعية إنما يقصد بها البدعة اللغوية .
الجواب الثاني :  أنه لا يظن بمن هو دون عمر رضي الله عنه من الصحابة أن يخالف ما كان يسمعه كل خطبة من فم النبي صلى الله عليه وسلم من قوله ( وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ) فإنه لا يتطرق إلى مؤمن عرف قدر الصحابة وشدة ورعهم وتحريهم للمتابعة التامة وحذرهم الشديد من المخالفة ولو في الأمور اليسيرة ولا يتطرق إلى قلبه أي يخالف أحدهم ذلك النهي الذي تواتر سماعهم له فإنهم كانوا يسمعونه الفينة بعد الفينة فكيف يظن ذلك بعمر رضي الله عنه الخليفة الثاني أمير المؤمنين ، أن يحسن بدعه في الشرع كان يسمع كثيرا أنها ضلالة ؟ هذا لا يكون أبداً وأقسم بالله تعالى أنه لا يكون ، فدل ذلك على أنه بقوله ( نعم البدعة هذه ) أنه لا يريد الشرعية وإنما يريد بها معناها اللغوي لأن البدعة باعتبار معناها اللغوي منها ما هو حسن  .
الجواب الثالث : سلمنا جدلاً أنه يريد الشرعية ، فإنه لا كلام لأحد كائنا من كان مع النص الصحيح الصريح من المعصوم صلى الله عليه وسلم ، فكل قول أو فعل يخالف ما ثبت من قوله وفعله فإنه رد على صاحبه ، وأقوال العلماء يستدل لها لا يستدل بها ، وكل يوزن بما معه من الحق لا أن الحق يوزن بالرجال ، وكل يأخذ من قوله ويترك إلا قول محمد صلى الله عليه وسلم وحقيقة الإيمان به تقدم قوله صلى الله عليه وسلم على قول كل أحد قال تعالى (( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين الله و الرسول )) فلا يعارض قوله صلى الله عليه وسلم بقول أحد كائناً من كان قفوله هو السيد المتبوع المطاع وهو الميزان الذي توزن به الأقوال ، فما وافقه من الأقوال فهو المقبول وما خالفه فهو المردود والله أعلم .
الجواب الرابع : أن صلاة التراويح في رمضان خلف إمام مما أنعقد عليه الإجماع المعلوم بالضرورة قطعاً وثبت عليه عمل المسلمين من عهد عمر رضي الله عنه إلى عهدنا هذا لم ينكره منكر من المسلمين ، فإن كان بعض أهل العلم قد استطاع القدح في حجة الإجماع فلا أظنه يستطيع أن ينكر أن هذا من الإجماع ، والإجماع حجة شرعيه وما ثبت بالإجماع فلا يكون أبداً بدعة شرعية . والله أعلم .
الجواب الخامس : أن المقرر في الأصول ومقاصد الشريعة أن المتشابه يرد المحكم ، وأن المجمل يرد إلى المبين فقول هذا إن سلمنا أنه من المتشابه أو المجمل أو المبهم فإن الواجب فيه رد الأمر إلى المحكم المبين الواضح ، ولا يخفاك أيها الأخ المبارك أن الأدلة  والآثار التي سقنا طرفاً يسيراً منها والتي تحذر من الابتداع وتأمر بالإتباع ، ولا يخفاك أنها من الشهرة الوضوح والأحكام والبيان بما لا يدع أدنى أدنى أدنى مجال للشك في حكم كل البدع الشرعية ، فكيف بالله عليك تعارض هذه الأدلة والواضحات المتواترات معنىً المحكمات دلالةً النيرات نهجاً الصحيحات سنداً بقولٍ محتمل متشابه ؟ هذا إذا سلمنا جدلاً أن قول عمر من المتشابه ، فكيف وقد جزمنا سابقاً أنه لا يريد إلا البدعة اللغوية فقط ؟ فالأمر واضح عجزت عيون الخفافيش عن مقاومة نور الشمس والله أعلم .

س288/ يستدل بعض محسني البدع على تحسين بدعهم بقوله صلى الله عليه وسلم    ( من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء ) فما وجه استدلالهم به وكيف الإجابة عنه ؟
ج/ أقول : أما هذا الحديث فقد رواه مسلم رحمه الله تعالى ورفع نزله في الفردوس الأعلى وجمعنا به في الجنة نحن وسائر إخواننا وأخواتنا من المسلمين ، وهو واضح الدلالة بين المقصود لا يدل على ما يرده محنوا البدع لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما ، وبيان ذلك أن يقال : إن الحديث فيه ( من سن في الإسلام سنة حسنة ) فليس فيه سوى ذكر السنة الحسنة والسيئة ولم يرد ذكر للبدعة ، والسنة في اللغة الطريقة ، فالمقصود بالحديث : أن من أتى بطريقة حسنة فسنها للناس فهو من المثابين عليها ولا يمكن تعرف طريفة ما أنها حسنة إلا بدلالة الشرع على تحسينها ، فعندما توصف الطريقة بأنها حسنه كما في الحديث فإن ذلك يدل على أن لها أصلاً في الشرع كذلك قال أهل العلم في هذا الحديث ومناسبة الحديث تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلق( السنة الحسنة ) إلا على أمر له أصل في الشرع فإن سبب الحديث أنه جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وفد من العرب كانوا على غاية من الحاجة والفقر وحث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على التصدق عليهم فجاء رجل من الأنصار فتصدق بصدقة كبيرة ثم تتابع الناس من بعده على التصدق حتى تجمع قدر كبير من الصدقات فأعجب فعل الأنصاري النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحديث فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما قصد بالسنة الحسنة فعل الأنصاري من ابتدائه بالصدقة في تلك الحادثة والصدقة مشروعة من قبل ، فتقرر بهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أطلق السنة الحسنة على ما هو مشروع في الدين فلا مجال لإقحام البدع تحت دائرة السنة الحسنة إذ البدعة لا أصل لها في الشرع ، ولا يمكن أن توصف بأنها حسنة أبداً وقد وصفها أهل أعلم الخلق بالشريعة بأنها ضلالة وبأنها رد ، فظهر بهذا بطلان استدلال محسني البدع بهذا الحديث ، بل الحديث حجة عليهم فإنه قال ( ومن سن في الإسلام سنة سيئة ) والبدع كلها سيئة ، فأنظر كيف انقلب الاستدلال عليهم وذلك لأنه لا يمكن أبداً أن تقر نصوص الشريعة البدعة بأي شكل كانت ، بل تظافرت نصوص الشريعة كتاباً وسنة مع وفور الآثار عن الصحابة والتابعين والسلف على أنها مردودة وضلالة . والله  أعلم .

س289/ أذكر بعض الضوابط والقواعد المهمة لمعرفة البدعة مع شيء يسير من شرحها؟      
ج/ أقول : لقد ذكر أهل العلم رحمهم الله تعالى بعض القواعد والضوابط المهمة لمعرفة البدعة والتميز بينها وبين السنة ودونك بعضها :
        القاعدة الأولى : كل إحداث في الدين فهو رد ، وهذا مأخوذ من الحديث المعروف ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) والمراد بالإحداث هنا أي اختراع قول أو فعل لا دليل عليه من الكتاب والسنة أو ما تفرع عنها من الإجماع والقياس الصحيح ، وهذه القاعدة هي أم القواعد في الباب وما بعدها من القواعد والضوابط فإنه متفرع عنها .
القاعدة الثانية : الأصل في العبادات الحظر والتوقيف وهذه القاعدة كالتعبير الثاني لمعنى القاعدة الأولى.
القاعدة الثالثة : الأصل في العبادات الإطلاق عن الزمان والمكان والصفة المعينة ، وهذه القاعدة أيضاً من الأصول المهمة لمعرفة البدع ، فتقول : أن من قيد عبادة بصفة معينة فإن هذا القيد يتوقف قبوله على الدليل ومن قيّدها بوقت معين فإن هذا القيد يتوقف قبوله على الدليل المعين ، ومن قيد عبادة بمكان معين فإن هذا القيد أيضاً قبوله على الدليل الرعي الصحيح الصريح فمن أعطاه الله فهم هذه القاعدة فقد أوتي خيرا كثيرا .
القاعدة الرابعة :  لا يستدل على شرعية الوصف بشرعية الأصل ، بل لا بد للوصف الزائد على الأصل من دليل خاص ولا يحق أن يعمل العبادات على الوصف المخترع الذي لا دليل عليه ، بل هذا الوصف يتطلب دليلاً زائداً على مجرد دليل الأصل ، وإذا أردت شرحاً بتفصيل فارجع إلى كتابنا تحرير القواعد وجمع الفرائد والله أعلم .
القاعدة الخامسة : الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة ، وهذه القاعدة مع القاعدة قبلها تنسف كل ما يحتج به المبتدعة ، وبيان ذلك أن يقال : إن المبتدعة إذا طلب منهم البرهان على ما اخترعوه فإنهم يستدلون بأحد أمرين ـ وهذا في الأغلب ـ الأمر الأول : إما أن يستدلون عليها بحديث ضعيف أو موضوع فجوابهم حينئذ يكون بالقاعدة الخامسة أي بهذه القاعدة ، الأمر الثاني : وإما أن يستدلون عليها بدليل الأصل الذي لم يتعرض أصلاً للوصف الذي يفعلونها عليه ، فيكون الجواب عليه حينئذ بالقاعدة الرابعة التي تقول :شرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف ، وبهذا نكون قد سددنا عليهم أبوابا كثيرة يلجون منها والحمد لله .
القاعدة السادسة : كل فهم في نصوص الصفات والقدر واليوم الآخر مخالف لفهم السلف فهو بدعة ، أو نقول : ما لم يرد في الكتاب ولا في السنة ولم يأثر عن الصحابة والتابعين من المعتقدات فهو بدعة وهذا الأصل يتضح به فضل السلف على الخلف ، فإن السلف رحمهم الله تعالى ورفع نزلهم في جنات عدن وجمعنا بهم في الجنة وحشرنا في زمرتهم كانوا يفهمون من نصوص الصفات واليوم الآخر فهماً خاصاً موافقاً لمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو أنهم ينظرون لها من جهتين من جهة المعنى ومن جهة الكيف فأما معانيها فإنها معلومة عندهم ، لأنها باللسان العربي فوجب حملها على المعاني المتقررة عندنا في هذا اللسان العربي ، وأما كيفياتها فإنهم يوكلون علمها لله تعالى ، وباختصار نقول : السلف يعلمون معاني نصوص الصفات واليوم الآخر ويفوضون كيفيتها لله تعالى ، وأما القدر فإنهم كانوا يفهمون نصوصه أيضاً فهماً خاصاً جامعاً للأدلة كلها فيثبتون القدر السابق علما وكتابة وخلقاً ومشيئة ويثبتون أن للعباد قدرة ومشيئة ، والله خالق ذواتهم وصفاتهم وأفعالهم فهذا فهمهم في هذه الأبواب ، وبناء عليه فكل فهم محدث يخالف هذا الفهم فإنه بدعة ، وذلك كفهم الجهمية والمعتزلة والاشاعرة والمتردية لنصوص الصفات ، وكفهم الفلاسفة أهل التخييل لنصوص اليوم الآخر ، وكفهم الجبرية والقدرية لنصوص القدر ، فكل هذه الفهوم باطلة بدعة مردودة على أصحابها لمخالفتها لفهم السلف ، وكل فهم يخالف فهم السلف فهو بدعة فأنظر كيف عرفنا بدعاً كثيرة ببركة هذه القاعدة ، وهذا يبين لك أهمية معرفة القواعد وإجادة التفريع عليها .
القاعدة السابعة : كل تعبد قولي أو فعلي لا يعرف عن السلف فهو بدعة ، كالاحتفال بالمواليد ، فإنه ليس معروفاً عن السلف والطواف حول القبور والعكوف عندها ودعاءها والذبح أو النذر لها وتسبيحها وإسراجها ووضع الأشجار الخضراء عليها وتزويقها والكتابة عليها وتجصيصها ، وعمل الختمة لها ، وتوزيع الطعام والشراب في المقبرة بعد الدفن ، وتحية العلم والسلام الملكي على مختلف أنواعه وتنوع ضروبه فإن السلام الشرعي هو قول : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أما السلام بالموسيقى وضرب الطبول ووقف العساكر معظمين لا يتحركون إكباراً واحتراما لهذه الموسيقى فإنه لا يشك أدنى من له اشتغال بالعلم أنه من البدع المنكرة وبذلك يفتي أهل العلم وهو من الحق الذي يجب التصريح به بلا مداهنة أو مجاملة والله من وراء القصد ، وأعياد الميلاد ، والذكر الجماعي والسماع الجماعي ، والتعبد لله بلبس الصوف ، والهيام في البراري ومعاشرة الوحوش طلباً للكرامة ، والتعبد لله بتحريم بعض الحلال كنكاح أو طعام أو لباس ، وتخصيص شيء لا يسجد إلا عليه كما يفعل الرافضة ، وغير ذلك مما لا يكاد يحصى إلا بكلفة مما قد أنتشر وعمة به البلوى في كثير من بلاد الإسلام ، أسأله جل وعلا أن يحفظ علينا ديننا وأمننا وبلادنا ، وخصوصاً بلاد الحرمين رفع الله نزل ولاتها وعلمائها ووفقهم لما فيه الخير والبر وصلاح المسلين فإنه قادة أهل السنة وحماة الإسلام وربان السفينة أسال الله أي يحفظهم بالإسلام ويحفظ الإسلام بهم . والله أعلم .
القاعدة الثامنة : كل فعل توفر سبب فعله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم  ولم يفعله فالمشروع تركه وقد شرحتها في تلقيح الأفهام ، وهي من الردود القوية على أهل البدع ، ويخل فيها من البدع ما لا حصر لها كالطواف حول القبور ودعاء أصحابها من دون الله تعالى والذبح والنذر لها ، وكسوتها والعكوف عندها ، وإسراج القبور ووضع الورود والزهور عليها ورفعها والكتابة عليها ويدخل فيها كل الموالد والأعياد التي أبتدعها أهل التصوف والرفض ـ ويدخل فيها كل الصلوات المبتدعة التي لا دليل عليها كصلاة الرغائب إحياء ليلة النصف من شعبان ونحو ذلك ، ويدخل فيها كل أصناف الأذكار البدعية المعروفة عند أهل الأهواء والبدع وغير ذلك من الأشياء التي كانت أسباب فعلها متوفرة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك فإنه لم يفعلها لا هو ولا أحد من أصحابه فتركه لها يدل على أنها ليست من الشريعة في صدر ولا ورد ، فأمسك بهذا الأصل فإنه خيراً عظيماً والله أعلم.
القاعدة التاسعة : لا مدخل للعادات في أمور التشريع أي أن العادات الموروثة إذا كانت مخالفة للشروع فإنه يجب اطراحها وإلغاؤها وإبطالها واستبدالها بالمشروع ولا يجوز  الاحتجاج على مفكرها بأنها من عوائد القوم وسلومهم وأعرافهم التي ورثوها كابراً عن كابر ، فإن هذه الحجة حجة إبليسية شركية قديمة وهي من الردود التي كان يفزع إليها الأمم الكافرة قال تعالى (( بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها أنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون )) وقال تعالى عنهم (( ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق )) والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً ، وتأتي هذه القاعدة رادة على هؤلاء وتقول : لا مدخل للعادات في أمور التشريع ، أي لا يجوز اعتقاد جواز التعبد بقولٍ أو فعلٍ بحجة أنه من عاداتنا وتقاليدنا وموروثات الآباء والأجداد والله أعلم .

س290/ ما حكم بغض أهل البدع ؟ وعلى أي صيغة يكون هذا البغض ؟
ج/ بغض أهل البدع واجب من واجبات الشريعة يثاب فاعلة امتثالاً ويستحق العقاب تاركه ، وهو من الولاء والبراء الذي هو ركيزة من ركائز الاعتقاد وكما هو معلوم قال تعالى (( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان .. الآية ) وغير ذلك من النقول ، وأما صفة هذا البغض فإنه نختلف باختلاف البدعة ، إن البدعة تتفاوت فمن البدع ما يكون مكفراً ومنها ما يكون مفسقاً ومها ما يكون عقدياً ومنها ما يكون عملياً ومنها ما يكون حقيقياً ومنها ما يكون إضافياً وهكذا ، ويختلف أيضا باختلاف حالة المبتدع فمنهم المستور ومنهم المعلن والداعية ومنهم والمعاند المكابر ومنهم المتأول المخطي ، لكن بالنظر العام نقول : ما كان من البدع مفراً فإنه يجب أن نبغ صاحبها البغض المطلق ، وما لم يكن مكفراً منها فإننا نبغض صاحبها بقدر ما معه من المخالفة أي نبغضه مطلق البغض لا البغض المطلق ، وأما التفصيل في آحاد المبتدعة فإنه متروك في حال المسئول عنه والله أعلم .

س291/ هل تقبل توبة المبتدع إذا تاب ؟ وعلى أي شيء يحمل كلام من قال من السلف أنه لا توبة له ؟
ج/ لقد تقرر في الأدلة من الكتاب والسنة أن من أذنب ثم تاب وأتى بشرائط التوبة فإن الله يتوب عليه قال تعالى (( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً )) فقوله ( الذنوب ) جمع دخلت عليه الألف واللام الإستغراقية وقد أكد هذا العموم بقوله ( جميعاً ) والأصل هو البقاء على العموم حتى يرد المخصص ، وقال تعالى (( والذين لا يدعون مع الله إلهً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فاؤلئك  يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متابا )) وقال تعالى (( حم * تنـزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير )) روى الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما في حديث الإفك الطويل( إن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه ) وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه)  وفي الصحيح ( ويتوب الله على من تاب ) وفي الصحيحين أيضا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا وزنوا وأكثروا ثم أتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما فعلنا كفارة، فنزلت " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ..... الآية" وقوله تعالى " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ...... الآية" وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى مرفوعا ( إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيئ النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيئ الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ) وفي جامع الترمذي بسند حسن عن ابن عمر مرفوعا ( إن الله تعالى يقبل توبة العبد مالم يغرغر) وغير ذلك من الأدلة . فقد دلت هذه الأدلة الدلالة الصريحة على قبول توبة المذنبين والمسيئين من أهل البدع وغيرهم ، وإذا كان صاحب الكفر والشرك إذا تاب منه وصدق في ذلك تاب الله عليه فلأن تقبل توبة المبتدع من باب أولى ، وهذا فيه فتح باب للمذنبين أن لا يقنطوا من رحمة الله تعالى ، ولا يتمادوا في  معاصيهم ، وفي الحديث ( والتوبة تهدم ما كان قبلها ) وهذا هو المعروف عن جماهير أهل السنة ، وأما من صرح منهم بأنه لا توبة له فإنما يريد بذلك أنه لا يوفق لها غالبا وهذا صحيح  ، ولا يقصدون أنه لا تقبل منه إذا صدق فيها ، فإن هذا الفهم مخالف لدلالة الكتاب والسنة، وحاشا السلف من مخالفة الكتاب والسنة، وإنما يقصدون ما ذكرته لك قبل قليل ، والواجب حمل كلامهم جماعات ووحدانا  على ما يوافق الكتاب والسنة، وبيان ذلك أن أول منازل التوبة العلم بقبح الفعل ليتوب منه والمبتدع يرى أنه على حق والصواب فكيف يتوب مما يراه صوابا وحقا في نفسه، ولهذا فالبدعة لا يتاب منها غالبا أي لا يوفق صاحبها غالبا للتوبة منها والله أعلم.

س292/ ما حكم الصلاة خلف أهل البدع بالتفصيل؟
ج/   هذه المسألة من المسائل الدقيقة التي يختلف الحكم فيها باختلاف حال البدعة والمبتدع فأقول وبالله التوفيق:
 أولا : إن كان هذا المبتدع محكوما بكفره فلا تصح الصلاة خلفه باتفاق أهل السنة سواء كان داعية إلى بدعته أو غير داعية، ومن صلى خلفه فعليه الإعادة مطلقا لأنه ائتم بمن ليس من أهل الصلاة أصلا ، وعلى ذلك يحمل كلام  بعض  السلف من نهيهم عن الصلاة خلف من حكموا بكفره من أهل البدع كالجهمية والرافضة والقدرية ، فعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أنه سئل عن الصلاة خلف القدري فقال ( لا يصلى خلفه أما لو صليت خلفه لأعدت ) وعن سلام بن مطيع رحمه الله تعالى أن سئل عن الجهمية فقال      ( كفار ولا يصلى خلفهم) وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى ( لا أصلي خلف رافضي ولا جهمي ولا قدري) وغير ذلك من النقول عن بعض أئمة السلف ، رحمهم الله تعالى ، فهذا أولا.
ثانيا : وأما إن كان لا يكفر ببدعته وكان داعية إليها فإنه لا يصلى خلفه أيضا إلا إذا كان هو إمام الجمع والجماعات التي لا تصلى إلا خلفه ، فإنها حينئذ تصلى خلفه ولا إعادة بل المتخلف عن الصلاة خلف هذا الرجل معدود من أهل البدع ، فقد روى البخاري في صحيحه عن عبيد الله بن عدي أنه دخل على عثمان رضي الله عنه وهو محصور فقال : إنك إمام عامة ونزل بك ما ترى ويصلي لنا إمام فتنة ونتحرج، فقال :     ( الصلاة أحسن ما يعمل الناس ، فإذا أحسن الناس فإحسن معهم وإذا أساؤا فاجتنب إساءتهم) وقد صلى بعض الصحابة خلف أهل البدع كما روى أبو زمنين عن سوار بن شبيب قال ( حج نجدة الحروري في أصحابه فوادع ابن الزبير فصلى هذا بالناس يوما وليلة ، وهذا بالناس يوما وليلة، فصلى ابن عمر خلفهما فاعترض رجل فقال : يا ابن عمر تصلي خلف نجدة الحروري؟ فقال ابن عمر : إذا نادوا حي على خير العمل أجبنا وإذا نادوا حي على قتل النفس قلنا : لا، ورفع بها صوته . قال ابن حزم رحمه الله تعالى : لا نعلم أحدا من الصحابة رضي الله عنهم امتنع من الصلاة خلف المختار ، وعبيد الله بن زياد ، والحجاج، ولا فاسق أفسق من هؤلاء أ.هـ قال أبو العباس رحمه الله تعالى : ومما يدل على أن الصحابة لم يكونوا يكفروا الخوارج أنهم كانوا يصلون خلفهم ، وكان عبدالله بن عمر رضي الله عنهما وغيره من الصحابة يصلون خلف نجدة الحروري . أ.هـ كلامه.
وخلاصة الكلام أن المبتدع الذي لا  يكفر ببدعته وكان داعية إليها لا يصلى خلفه ولا  كرامة له ، إلا إذا كان هو إمام المسلمين أو نائبه الذي لا تقام الجمعة والجماعة إلا خلفه ، فيصلى خلفه ولا يتخلف عن ذلك إلا مبتدع كما نص عليه السلف والصلاة خلفهم صحيحة فلا إعادة عليه والحالة هذه والله أعلم.
ثالثا: وأما إذا كان لا يكفر ببدعته ولم يكن داعية إليها وهو من عامة الأئمة أي أنه يمكن إقامة الصلاة خلفه فإن الأمر في تفصيل أيضا فإن كان في ترك الصلاة خلفه تعطيل لهذه الجماعة فإنه يصلى خلفه لأنه إذا تعارضت المصالح والمفاسد وكانت المفاسد أكبر فإن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة ، وإن كان لا يؤدي ترك الصلاة خلفه إلى تعطيل الجماعة في المسجد فإنه لا يصلى خلفه وهذا من باب الزجر بالهجر ويبحث عن الإمام الأتقى وقد تقرر في القواعد أنه كلما كان الإمام أجمع للصفات المعتبرة شرعاً كلما كانت الصلاة أكمل بل ويكون ترك الصلاة خلفه من باب الوجوب إذا كان يفيد زجره عن بدعته التي يعتقدها أو يفعلها ، وولي الأمر مطالب أن لا ينصب في الإمامة إلا الأتقى فهذا التفصيل هو الذي يتألف به كلام أهل العلم وفعلهم . والله أعلم .

س293/ ما المنهج السليم الذي يسلكه المسلم عند الفتن ؟
ج/ هذا سؤال عظيم القدر جليل المنزلة وخصوصاً في هذه الأزمنة التي كثرة فيها تنوع فيه الشبهات والتبس فيه الحق بالباطل ، وخلاصة المنهج السليم في أمور :
الأول : الاعتصام بالكتاب والسنة فإنهما النجاة من كل فتنة فهما المعين الصافي الذي لا شوب ولا كدر، وهما الأصلان التي شهدت الأدلة على أن من تمسك بهما فهو على الهدى والبر والخير والصلاح قال تعالى (( واعتصموا بحبل الله جميعاً )) فلا نجاة إلا بالاستمساك بهما والعض عليهما بالنواجذ ، قال عليه الصلاة والسلام ( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي ) وقال ( فعليكم بسنتي وسنت الخلفاء الراشدين المهديين بعدي تمسكوا بها واعتصموا وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور ) قال تعالى (( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله إن كنتم تؤمنون بالله ورسوله ذلك خير وأحسن تأويلا )) وقد تقدم في السؤال الأول بعض النقول فيما يؤيد ذلك.
الثاني : لزوم الجماعة والحذر من الفرقة فعن أبن عمر رضي الله عنه قال : إن عمر رضي الله عنه خطب بالجابية فقال ( من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد ) أخرجه الترمذي وأحمد وغيرهما وهو صحيح بمجموع طرقه وقال عليه الصلاة والسلام ( يد الله على الجماعة الشيطان مع من يخالف الجماعة) أخرجه النسائي . قال ابن القيم رحمه الله تعالى ( وحيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق وإتباعه ون التمسك به قليلاً والمخالف له كثيراً لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا نظر إلى كثرة أهل البدع بعدهم ) أ.هـ كلامه رحمه الله تعالى . وقال عليه الصلاة والسلام ( يد الله على الجماعة فإذا شذ الشاذ منهم أختطفه الشيطان كما يخطف الذئب الشاة من الغنم ) وهو حديث صحيح بشواهده .
الثالث : رد الأمر إلى الرسول وإلى اؤلي الأمر وهم اؤلوا العلم ، قال تعالى (( إذا جاءهم  أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى اؤلي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم )) فلا ينبغي أن يصدر في أمر الفتن عن الاصاغر وأحداث الأسنان والغوغائيين الذين همهم إثارة الفتن وإذكاء نارها من الذين لا يعرفون بعلم ولا فهم ولا فقه ولا بمراعاة المصالح والمفاسد ، وإنما مقصود الواحد منهم أن يروي غليله ويطفي غيض قلبه على المخالف  فالواجب ألا يؤبه لهؤلاء الأباعد الأصاغر وحق كلامهم أن يطرح ولا يسمع ، بل ولا يمكنون أصلا من مخاطبة العامة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا  ، وأن يحث الناس ويوجهون إلى الالتفاف حول العلماء الموثوقين في علمهم وديانتهم وأمانتهم فلا تأخذ الأحكام من هؤلاء ، ولا تزال الأمة بخير ما صدرت عن علمائها الراسخين الذين لا يحركهم ولا يوفقهم إلا مراعات المصالح والمفاسد ، وهم كثير في هذا الزمان ولله الحمد والمنة .
الرابع : حبس اللسان وكفه عن الخوض في هذه الفتن ، فإن الفتن كالظلم والغياهب التي تعمي البصر والبصيرة ، فالواجب أن لا تؤخذ في هذه الفتن كلمة منك إلا وأنت على علم كامل تام بعواقبها ، وكم من كلمة صدرت من رجل لم يعلم عواقبها ، زادت النار ناراً ، فأحبس عليك لسانك وليسعك بيتك وأبك على خطيئتك ، ودع الأمر لأهل العلم ، وكم وكم من طويلب علم أستعجل بالكلام في بعض الفتن ، فندم وصفق بكفه على ما رأى من الأثر السيئ هذه الكلمة ، فالرفق الرفق والقصد القصد ، فإن الرفق ما كان في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه ، وأنظر حادثة الإفك ، وأي فتنة هي ؟ فإنها فتنة عظيمة وواقعة فادحة اهتزت فيها قلوب وتحركت فيها السنة فما سلم إلا من كف لسانه وأحسن الظن ، قال تعالى (( إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم )) فما سلم في الفتن إلا من شكت فلا تتفوهوا غلا بما فيه جمع الكلمة وتأليف القلوب وإزالة الشحناء ، فاحرص على هذا الأمر تنجو بإذن الله تعالى وتحمد عواقبه ، وعند الصباح يحمد القوم السرى .
الخامس : الترفق في الأمور وخصوصاً في إصدار الأحكام فإنه الفتن يكثر فيها الهرج والمرج والقيل والقال وتكثر فيها التصريحات ولتفنن وكالات أنباء في نقل الأخبار على ما تريده من زيادة ونقص ويخدم مصالح أحرى ، فاحذر من أن تتعجل في بناء حكم بمجرد خبر سمعته أو جريدة قرأتها أو تحليل أخباري سمعته ، فإن الأحكام على الغير شأنها عظيم وخطرها جسيم وعواقبها وخيمة ، وفي الفتن قد يخفى الحق وتختلط الحقيقة بغيرها ويلتبس الأمر على كثير من أهل العلم فضلاً عن العامة ، وتكثر الإشاعات الأراجيف فكان لزماً على العاقل أن لا يصدر الأحكام بناءً على شيء من الإشاعات والأراجيف ، وقد ندبنا إلى الرفق في الأمور كلها ، فترفق وتأن فإن في التأني السلامة وفي العجلة الندامة ، حتى إذا انجلت الفتنة وظهر نور الحق واختفى غيهب الباطل وتميزت الأمور فأمشي حينئذ على نور من الله وبصيرة .
السادس : الامتثال على أمر الله تعالى بتزكية النفس بالإكثار من الطاعة وصدق التوبة ، وإعظام اللجأ والتضرع إليه ، بالدعاء الصادق والقلب الحاضر أن يكفي الأمة شر الفتن ما ظهر منها وما  بطن فإن هذه الفتن التي تنزل بالأمة هي في حقيقتها مذكرات وموقظات ومواعظ فعلى العبد أن ينظر فيها بعين الاتعاظ والاعتبار وأن يستفيد منها الدروس ، وإن من أعظم ما يستفيده العبد من ذلك علمه اليقيني بحاجته التامة لربه جل وعلا وافتقاره الذاتي لله تبارك وتعالى الافتقار الذي لا ينفك عنه أبدا  فإن مطالعة هذا الافتقار هو عين سعادة العبد ، والغفلة عنه هو عين شقاوته فكم من قلب استفاق من غفلته فيها ، وكم من غوي ضال صار مهتدياً راشداً فيها وكما قال تعالى (( ولا تحسبوه شراً لكم بل هو خيرا لكم )) وقال تعالى (( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون )) .

س294/ هل يصلى على أهل البدع ؟
ج/ أقول : الصحيح في هذه المسألة هو التفصيل ، فلا نقول : يصلى عليهم مطلقاً ، ولا نقول : لا يصلى عليهم مطلقاً ، بل نقول : إن كان هذا المبتدع الذي مات محكوما بكفره ببدعته كالجهمية والرافضة والإسماعيلية والنصيرة فإنه لا يصلى عليه ، لأن صلاة الجنازة مخصوصة بالمسلم الذي مات على الإسلام وهذا المبتدع مات كافرا فلا يجوز الصلاة عليه ، بل أقول : لا  يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدعى له بالرحمة ولا يدفن في مقابر المسلمين بل بوادي في البرية ، وذلك على للاتفاق على أن صلاة الجنازة والتغسيل والتكفين إنما تكون للمسلمين فقط ، وقد حكمنا على هذا المبتدع أنه كافر بهذه البدعة ، فيعامل معاملة الكفار ، فهذا إذا كان يكفر ببدعته ، وأما إذا كان هذا المبتدع الذي مات ليس محكوما بكفره بهذه البدعة كالأشعري والمعتزلي وصاحب الذكر الجماعي ونحو هؤلاء ، فإن الأصل أنه مسلم وبدعته هذه لا تخرجه عن أصل الإسلام وقد تقرر في القاعدة أنه يصلى على كل من مات مسلما ، هذا هو الأصل ، لكن إن كانت المصلحة أن يتخلف عن الصلاة عليه إمام المسلمين أو نائبه وأهل العلم والديانة والصلاح فإنهم يتركون الصلاة  عليه ، زجرا للعامة عن مواقعة هذه الفعلة التي مات عليها ، فإن الناي إذا علموا أن أهل العلم والصلاح تخلفوا عن الصلاة عليه من أجل هذه البدعة أو هذه المعصية فإنه لا شك أنهم يحذرون من مواقعتها ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلي على الغال ولا على قاتل نفسه ولا على من استدان ومات ولا وفاء له حتى تحمله أحد الصحابة ، وهذا يدخل تحت باب الزجر بالهجر وهو تأديب نافع جدا له أثره الحميد لكن مبناه على مراعاة المصالح والمفاسد فهذا القول هو الذي يجمع ما قاله أهل العلم في هذا الباب وتتفق به نصوصهم والله أعلم .

س295/ ما حكم ساب الرسول صلى الله عليه وسلم مع بيان ذلك بالأدلة ؟
ج/ سب النبي صلى الله عليه وسلم كفر وردة وجرم عظيم وموبقة من موبقات الآثام ، وقد أجمع أهل الصدر الأول على أنه يجب قتله ، قال ابن المنذر : أجمع عامة العلماء على أنه يجب على سابه القتل ، قاله أحمد ومالك والليث والشافعي .أهـ وقد حكى الإجماع أيضا أبو بكر الفارسي من أصحاب الشافعي . وكذا يقله إسحاق بن راهويه فإنه قال : أجمع المسلمون ِأن سب  الله أو سب الرسول أو دفع شيء مما أنزل أو قتل نبياً أنه كافر وإن كان مقرا بكل ما أنزل الله . أهـ . ويقله الخطابي أيضا فإنه قال : ( لا أعلم أحدا اختلف في وجوب قتله ) أهـ . وقال محمد بن سحنون ( أجمع العلماء على أن شاتم الرسول المتنقص له كافر ومن شك في كفره فإنه يكفر وأما الأدلة على إثبات هذا الحكم فمن الكتاب والسنة ، والإجماع ، فأما الإجماع فقد تقدم نقله ، وأما ففي مواضع :
منها : قوله تعالى (( إن الذين يؤذون لله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً )) قال أبو العباس : وهذه توجب قتل من آذى الله ورسوله ونحن لم نعاهدهم على أن يؤذوا الله ورسوله . أهـ قلت : من الإيذاء سبه وتنقصه بقول أو فعل ، فإن فاعله ملعون بلعنة الله مطرود عن رحمته متوعد يوم القيامة بالعذاب المهين وهذا يدل على كفره.
ومنها : قوله تعالى (( ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن .....الآية )) إلى قوله
 (( والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم .....الآية )) إلى قوله (( ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فإن له نار جهنم خالداً فيها ذلك الخزي العظيم )) فعلم بذلك أن إيذائه صلى الله عليه وسلم محادة لله ولرسوله لأن ذكر الإيذاء هو الذي اقتضى ذكر المحادة فيجب أن يكون داخلاً فيه ، فالإيذاء له صلى الله عليه وسلم من المحادة لله ورسوله ، وما يحاددهما جزاءه نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم ، وسبه وتنقصه من اعظم الإيذاء فيكون من أعظم المحادة فيكون صاحبه متوعدا بهذه العقوبة البليغة مما يدل على أنه كافر عدو لله ورسوله محارب لله ورسوله ، ويوضح هذا ما رواه عبدالرزاق وأبو نعيم في الحلية وابن حزم في المحلى أن رجلاً كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( من يكفيني عدوي ) وصححه ابن حزم .
ومنها : قوله تعالى (( يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزؤا إن الله مخرج ما تحذرون ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم )) وهذا نص أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر صريح ، فدلت الآية أن كل متنقص رسول الله صلى الله عليه وسلم جادا أو هازلاً فإنه يكفر ، وسبه من تنقصه فهو كفر .
ومنها : قوله تعالى (( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إنه سميع عليم ، يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون )) فإذا ثبت أن رفع الصوت والجهر به فوق صوته يخاف على صاحبه منه أن يكفر به ويحبط عمله وهو لا يشعر ، لأن فيه سوء أدب واستخفاف وهو لا يشعر بذلك ، فكيف بمن يسبه ويستخف به ويؤذيه مع قصه لذلك وتعمده له ؟ فلا ريب أنه يكون كافراً بطريق الأولى . وقد ذكر أبو العباس في الصارم المسلول آيات أخرى ، فارجع إليها إن شئت ، وأما السنة فأحاديث ، فمنها ما رواه الشعبي عن علي رضي الله عنه أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه ، فخنقها رجل حتى ماتت ، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها ، رواه أبو داود واستدل به الإمام أحمد كما في رواية ابنه عبدالله عنه ، وقد روي أن الرجل كان أعمى ، وجود إسناده أبو العباس في الصارم المسلول وقال : وهو حديث جيد وهو متصل لأن الشعبي رأى عليا ولو كان مرسلا فهو حجة وفاقا لأن الشعبي صحيح المراسيل عندهم ليس له مرسل إلا صحيح . أهـ وهذا صريح في جواز قتلها لأجل شتم النبي صلى الله عليه وسلم ووقوعها فيه ، فإذا كان هذا حال أهل الذمة إذا فعلوا ذلك فالمسلم والمسلمة إذا فعلا ذلك فإنهم يدخلون في دلالة النص من باب أولى .
ومنها : ما روى ابن عباس رضي الله عنهما : أن أعمى كانت له أم ولدٍ تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه ، فأخذ المغول ووضعه في بطنها واتكأ عليه فقتلها ثم ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فأهدر دمها ، رواه أبو داود والنسائي واستدل به أحمد ، وصححه الحاكم وقال الحافظ في البلوغ ( رواته ثقات ) وقد تكون هذه القصة هي عين المذكورة سابقا وقد تكون غيرها ووجه الدلالة منها واضحة وهو أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل لأن السب ارتداء فهذا دليل على ما قررناه من حكم سابه صلى الله عليه وسلم .
ومنها : قصة كعب بن الأشرف اليهودي ، وهي مخرجة في الصحيحين ، وقد احتج بها الشافعي على أن الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يقتل وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله فقام محمد بن سلمة فقال : أتحب أن أقتله يا رسول الله ؟ قال ( نعم )  قال : فأذن لي أن أقول شيئا ، فإذن له ...الحديث وفيه أنهم ( قتلوه ) وكان كعب قد هجا النبي صلى الله عليه وسلم فكانت عقوبته ما علمت وهي القتل وهو ذمي فكيف لو فعله مسلم فهذا دليل أن ساب الرسول يقتل.
ومنها : ما رواه النسائي بسند صحيح عن عبدالله بن أبي برزة قال : أغلظ رجل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه فقلت : أقتله ؟ فانتهرني وقال : ليس هذا الأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وفي رواية : أن رجلا شتم أبا بكرٍ ، فذكره ، وهي عند أبي داود وهذا يفيد أن المتقرر عند أبي بكر أن قتل الساب إنما هو إذا كان المشتوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما غيره فلا ، فهو من جملة خصائصه صلى الله عليه وسلم قال أبو العباس : وقد استدل به جماعات من العلماء على قتل ساب الرسول منهم : أبو داود  وإسماعيل بن إسحاق وأبو بكر عبد العزيز والقاضي أبو يعلى وغيرهم ) أ.هـ
ومنها : قصة ابن أبي سرح ، وهي مما أتفق عليها أهل العلم واستفاضت عندهم استفاضة تغنى عن رواية والآحاد ، ومع ذلك فقد صححها الحاكم ووافقه الذهبي وصححه شيخ الإسلام والألباني ، رحم الله الجميع رحمة واسعة وذلك انه يوم فتح مكة اختبأ عبدالله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان رضي الله عنه فجاء به حتى أوقفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال يا رسول الله ، بايع عبدالله فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يا أبي ، فبايعه بعد الثلاث ، ثم أقبل صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقال ( أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله ) فقالوا : ما ندري يا رسول الله ما في نفسك ألا أومأت لنا بعينك ؟ فقال ( إنه ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين ) رواه أبو داود والنسائي .

     س296/ ما عقيدة أهل السنة رحمهم الله تعالى في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ مع ذكر شيء من فضائلهم ؟
ج/ يعتقد أهل السنة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى وجمعنا بهم في جنات النعيم وثبت أحيائهم وغفر لأمواتهم أن الصحابة أفضل الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم لا كان ولا يكون مثلهم ، وأنهم رضي الله عنه ورضوا عنه وأنهم ثقات عدول أثبات ، وندين لله تعالى بحبهم بلا إفراط ولا تفريط ويتبرءون من طريقة الروافض والخوارج قال تعالى             (( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز   العظيم )) وقال تعالى (( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجر عظيما )) وقال تعالى (( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا )) وقال عليه الصلاة والسلام ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) وقال عليه الصلاة والسلام ( لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدّ أحدكم ولا نصيفه ) ويدينون لله تعالى بسلامة قلوبهم وألسنتهم للصحابة جميعا ولا يذكرونهم إلا بالجميل ومن ذكرهم بغير ذلك فهو على غير سواء السبيل قال تعالى ((  والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ))  ونعتقد الاعتقاد الجازم أنهم أكبر هذه الأمة عقولا وأكثرهم وأصحهم علوما وأعلاهم فهوما وأسلمهم صدورا وأشدهم إتباعا ، وأرفعهم قدرا وأنهم الواسطة بيننا وبين نبينا صلى الله عليه وسلم في إبلاغ الشريعة أنهم قاموا بما أوجبه الله عليهم من البلاغ أتم القيام ، فقلوبنا سليمة عليهم فلا غل ولا حقد ولا كراهة لأحد منهم وأنهم أمنة هذه الأمة كما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي بردة عن أبيه رضي الله عنه قال : ( صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلنا : لو جلسنا حتى نصلي العشاء قال : فجلسنا ، فخرج  علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( مازلتم ههنا ) ؟ فقلنا : يا رسول الله صلينا معك المغرب ثم قلنا : نجلس حتى نصلي معك العشاء ، قال     ( أحسنتم ) أو ( أصبتم ) قال : فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيرا ما يرفع رأسه إلى السماء ، فقال ( النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما توعد ) وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( يأتي على الناس زمان نغزو فئام من الناس فيقال لهم : فكيم من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون : نعم ، فيفتح لهم ، ثم فئام من الناس فيقال لهم : فكيف من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون : نعم ، فيفتح لهم ، ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم : هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون : نعم ، فيفتح لهم ، ولمسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس خير ؟ فقال :       ( القرن الذي أنا فيه ثم الثاني ثم الثالث ).والصحيح عند الجمهور رحمهم الله تعالى أن هذه الأفضلية والخيرية في قرن الصحابة هي باعتبار الأفراد وليس بالنسبة إلى المجموع ، إذ الصحبة لا يعد لها شيء ولمشاهدتهم النبي صلى الله عليه وسلم وذبهم عنه ونصرة دين الإسلام وحرصهم على ضبط الوحي الذي تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فما من خصلة من خصال الخير إلا والصحابة قد ضربوا فيها أكبر الحظ والنصيب ، وهم أحق الأمة بقوله صلى الله عليه وسلم ( نضر الله امرءا سمع منا مقالة فوعاها فأداها كما سمعها ........الحديث ) وقال ابن عمر رضي الله عنهما : من كان مستنا فليستن بمن قد مات ، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة ، أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا  قوم أختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وكانوا على الهدى المستقيم ) وقال ابن مسعود رضي الله عنه : إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير القلوب فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه ، يقاتلون على فما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رأوا سيئا فهو عند الله سيئ . وسيأتي إن شاء الله تعالى شيء من ذكر الفضائل في سياق الأسئلة بحوله سبحانه وقوته ، وخلاصة الأمر أن اعتقاد أهل السنة في الصحابة رضي الله عنهم مجمل في أمور :
الأول : أننا نحبهم ولا نفرط في حب أحد منهم .
الثاني : أننا نبغض في الله من أبغضهم .  
الثالث : أنهم خير هذه الأمة وأفضلها على الإطلاق لا كان ولا يكون مثلهم وأن الله تعالى رضي عنهم ورضوا عنه .
الرابع : أنهم عدول ثقات أثبات لا يبحث عن عدالتهم .
الخامس : سلامة ألسنتنا وقلوبهم عليهم والله تعالى أعلى وأعلم .


س297/ ما حكم سب الصحابة مع بيان ذلك بالدليل ؟
ج/ أما سبهم فموبقة عظيمة وجريمة وخيمة ، وهو محرم التحريم الشديد بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول فأما الكتاب فلأنه تعالى ذكرهم في غير آية أنه رضي الله عنهم ورضوا ووعدهم الثواب الجزيل والأجر العظيم  ومن المعلوم أن هذا ثناء حسن وكل من أثنى الله عليه خيرا في القرآن فإنه يموت على ذلك ، فسبهم مصادمة لهذه الآيات وجاحدة لمدلولها فكيف يسب من قال الله فيهم (( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم )) وكيف يسب من قال الله فيهم (( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً  قريباً )) وكيف يسب من قال الله تعالى فيهم (( محمد رسول الله والذين آمنوا معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرعٍ أخرج شطئه فآزره فأستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجراً عظيما )) وكيف يسب من قال الله تعالى فيهم (( لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم   المفلحون )) وكيف يسب من قال الله تعالى فيهم (( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يأتيه من يشاء والله واسع عليم )) وأقول أيضا : إنه لا يختلف اثنان من أهل السنة أن الصحابة أكمل هذه الأمة إيماناً  فقد حققوا فيه المراتب العالية ، وقد توعد الله تعالى من يؤذي المؤمنين والمؤمنات بالعذاب الشديد فقال (( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثماً مبيناً )) والسب من الإيذاء ، بل وأعظم من ذلك فإن سب صحابة الرجل الذين يصحبهم في حله وسفره وسائر أحواله هم أخص الناس به ، فسبهم وتنقصهم هو حقيقته سب ونقص له ، وبناءً عليه فسب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم سب له وتنقصهم والقدح فيهم وهو في حقيقته تنقص له وقدح فيه وهو من إيذائه وقد قال الله تعالى (( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً )) فمن آذى الصحابة فقد آذى النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن آذى النبي صلى الله عليه وسلم فقد آذى الله تعالى ، فنعوذ بالله من حال أهل الأهواء الذين جعلوا سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دينا يدينون به وقربة يتقربون بها ودينا لهم ، وأما دلالة السنة على تحريم سب الصحابة فأدلة كثيرة فمن ذلك ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه ) ولمسلم ، كان بين خالد أبن الوليد وبين عبدالرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تسبوا أصحابي ..........الحديث ) ، وهو نص صحيح صريح في تحريم السب .
ومنها : ما رواه الإمام أحمد في المسند من هذا الحديث أيضا لكن من رواية بن مالك رضي الله عنه قال : كان بين خالد بن الوليد و عبدالرحمن بن عوف كلام فقال خالد لعبدالرحمن بن عوف : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها ـ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ـ فقال : ( دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد ذهبا أو مثل الجبال ذهبا لما بلغتم أعمالهم ) فهذان الحديثان اشتملا على النهي الأكيد والتحذير الشديد عن سب الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ، قال النووي رحمه الله تعالى ( وأعلم أن سب الصحابة رضي الله عنهم حرام ، من فواحش المحرمات سواء من لابس الفتن منهم وغيره لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون ) أ.هـ والنهي في الحديثين المتقدمين موجبه من النبي صلى الله عليه وسلم لمن تأخر إسلامه وهو من جملة الصحابة ولا شك فإذا كان هذا حال الذين أسلموا بعد الحديبية وإن كان قبل فتح مكة فكيف حال من ليس من الصحابة بحالٍ مع الصحابة لا شك أنه داخل في هذا النهي من باب أولى .
ومنها : روى أبو داود في سننه بإسناده إلى رباح بن الحارث فقال : كنت قاعدا عند فولان ، في مسجد الكوفة وعنده أهل الكوفة فجاء سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فرحب به وحياه وأقعده عند رجله على السرير ، فجاء رجل من أهل الكوفة يقال له قيس بن علقمة فأستقبله فسب وسب فقال سعيد : من يسب هذا الرجل ؟ فقال : يسب علياً ، فقال : ألا أرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبون عندك ثم لا تنكر ولا تغير ؟ أنا سمعت رسول اله صلى الله عليه وسلم يقول ( أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وعبدالرحمن بن عوف في الجنة وأبو عبيدة في الجنة ) وسكت عن العاشر ، فقالوا : من هو العاشر ؟ فقال : سعيد بن زيد ـ يعني نفسه ـ ثم قال : والله لمشهد رجل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر فيه وجهه خير من عمل أحدكم ولو عُمِّر عمر نوح ) .
ومنها : ما رواه ابن بطة بإسناد صحيح إلى أبن عباس رضي الله عنهما قال : ( لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة ـ يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم ـ خير من عمل أحدكم أربعين سنة ) .
ومنها : ما رواه أبو نعيم في أخبار أصبهان بإسناده أن يزيد بن هزاري لقي سعيد بن جبير بأصبهان فقال له : أن رأيت أن تفيدني مما عندك ؟ فحبس دابته وقال : قال لي أبن عباس : أحفظ عني ثلاثا : إياك والنظر في النجوم فإنه يدعو إلى الكهانة ، وإياك والنظر في القدر ، فإنه يدعو إلى الزندقة وإياك وشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكبك الله على وجهك في النار يوم القيامة ) وقد أنعقد إجماع أهل العلم على تحريم سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تأيد ذلك بالمعقول أيضاً وذلك من وجوه :
الأول : أن سبهم مفض إلى ترك ما بلغوه من اشرع ، إذ كيف يأخذ التشريع ممن يستحق اللعنة ، ففي الحقيقة أن سبهم يؤدي على نسف الشريعة ، وناهيك بهذا الأمر فضاعة وجرما  فكان سبهم حراما وعظيمة من عظائم الآثام لأنه يفض إلى هذه النتيجة الخطيرة . وهو الذي يريده الرافضة عليهم لعائن الله المتتابعة ، فالطعن في الصحابة والتجريح لهم مفاده إبطال جميع الأحكام الشرعية التي هم نقلتها ورواتها والمبلغون لها .
الثاني : أن المتقرر عند عامة العقلاء من المسلمين أنه لا تعارض نص صحيح مع عقل صريح ، وقد أثبت النص من الكتاب والسنة عدالتهم وأنهم خير الأمة وأزها قلوبا وأكبرها عقولا وأصحهم فهوما وأن الله رضي عنهم ورضوا عنه وقد شهدت بعض النصوص لآحادهم بالجنة ، فهذا هو مقتضى النص ، فحيث ثبت أن هذا مقتضى النص فيكون أيضا هو مقتضى العقل فالعقل يقضى بما قضى به النص ، وسبهم وتنقصهم والقدح فيهم مناقض لدلالة النص ومبطل لها فيكون ضمنا مناقضا لمقتضى العقل ومصادما له فإن بذلك أن سبهم مناقض للمعقول ومصادم للمنقول .
الثالث : أن الذي يعلم السر وأخفى ويعلم ما كان وما سيكون قد سطر لهم في كتابه أجمل الذكر والثناء وأعظم المدح ، وأخرج ذلك مخرج الأخبار التي لا يدخلها النسخ وأخبر أن كتابه هذا سيبقى إلى أن يرفع في آخر الزمان ، ولا تزال هذه الآيات التي فيها الثناء على الصحابة ومدحهم تقرأ في الربط والمدارس والمساجد والدور وتحفظ في الصدور ، فمحال مع ذلك أن يكون الحال قد أختلف ، وأن هذه الآيات لا تصح في دلالتها لأنها تمدح قوما حقهم السب والشتائم هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل ، بل نقول : أن كل من أثنى الله عليه في القرآن خيرا فإنه سيموت على ذلك ولا شك إذ لا تبديل في القرآن ولا تغير ولا زيادة ولا نقص فما مدحهم الله هذا المدح ولا أثنى عليهم هذا الثناء إلا لأنهم أهله في حياتهم وبعد مماتهم وهذا وضح كل الوضوح إن شاء الله تعالى .
الرابع : أنه يستحيل في العقل السليم الاستحالة التامة أن يكون القوم الذين اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه ونصرة دينه وإقامة شرعه وإبلاغ أحكامه أن يكونوا يستحقون اللعنة في باطن الأمر ، بل العقل السليم يرفض الرفض الأكيد أن يكون هؤلاء القوم أعلا الأمة فضلا وأكبرهم قدرا وأزكاهم عقولا وابرهم قلوبا وأعظمهم إتباعا وأشدهم تمسكا ، ومن يقول غير ذلك فإنه لا عقل عنده ولا نقل يعتمد عليه ، بل ليس عنده إلا الهوى والجهل والحمق وإتباع الشيطان نعوذ بالله من حاله .
الخامس : إن من نظر في سيرة القوم بالعدل والإنصاف فإنه يعلم قطعا علو فضل الصحابة وأنه لا يكون إلا يكون مثلهم ، ولذلك فإنه لا يقدح فيهم ولا يثرب عليهم إلا الجاهل بحقيقة حالهم ، وما هم عليه من كمال العلم النافع والعمل الصالح ، رضي الله عنهم وأرضاهم ورفع نزلهم في جنات عدن وجمعنا بهم في الجنة والله أعلم .

س298/ ما حكم ساب الصحابة رضوان الله عليهم مع بيان ذلك بالتفصيل ؟
ج/ أقول : أختلف العلماء في ذلك على قولين مشهورين :
     الأول : ذهب جمع من أهل العلم إلى القول بتكفير من سب الصحابة رضي الله عنهم  أو إنتقصهم وطعن في عدالتهم وصرح ببغضهم وأن من كان هذه صفته فقد أباح دم نفسه وحل قتله إلا أن يتوب من بعد ذلك ويترحم عليهم ويترضى عنهم ، وممن قال بذلك عبدالرحمن بن أبي أبزى وعبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي وأبو بكر بن عياش وسفيان بن عيينة ومحمد بن يوسف الفريابي وبشر بن الحارث والمروزي ومحمد بن بشار العبدي وغيرهم كثير  ، وهو قول بعض العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة   والظاهرية .
     الثاني : وذهب فريق آخر من أهل العلم إلى أن ساب الصحابة لا يكفر بسبهم بل يفسق ويضلل ويعزر التعزير البليغ ، ويزجر الزجر الشديد حتى يرجع عن ارتكاب هذا الجرم الخطير الشنيع وهذا أن القولان في الحقيقة ليس من خلاف التضاد وإنما من خلا ف التنوع أي أن أصحاب القول الأول لا يقصدون بقولهم كل صور السب ، أي لا يكفرون بكل سب ، وإنما يقصدون صور مخصوصة وأصحاب القول الثاني لا يقصدون أن الساب لا يكفر أبدا وإنما يعنون صورا مخصوصة ، ولذلك فالقول الجامع لهذه المسألة هو التفصيل في حكم ساب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكر هذا التفصيل جمع من أهل العلم وهو كما يلي :
الأول : أما سب جميعهم ، أي سبهم على وجه العموم فهذا كفر ولا شك وذلك كلعنهم جميعهم أو اعتقاد أنهم ارتدوا  إلا نفراً يسيراً أو القدح فيهم بما يوجب سقوط عدالتهم ويقدح في أمانتهم وديانتهم ، فهذا كله كفر ولا شك لأنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع من الرضى عنهم والثناء عليهم ، وقال أبو العباس : ( بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق ) أهـ
الثاني : سب الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما شببا يقدح في عدالتهم وديانتهم كاعتقاد كفرهم أو أنهم كتموا شيئا من الوحي أو أنهم خانوا النبي صلى الله عليه وسلم فهذا أيضا فاعله كافر ولا شك في كفره لمخالفته النصوص الكثيرة المتواترة التي وردت في فضلهما وعلو قدرهما كما سيأتي طرف منها إن شاء الله تعالى .
الثالث  : سب عائشة رضي الله عنها بما برأها الله جل وعلا منه ، فهذا كفر بلا شك ، ومن يشك في كفره فهو كافر لأنه مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام براءتها من ذلك بالكتاب والسنة ، فحقيقة قوله تكذيب الكتاب والسنة ، وفاعل ذلك لا شك في كفره نعوذ بالله من أن تتفوه ألسنتنا بشيء من ذلك .
الرابع : إذا اقترن بالسب دعوى أن عليا إله أو أنه كان هو النبي وإنما غلط جبريل في الرسالة فهذا أيضاً لا شك في كفره ، بل لا شك في كفر من توقف في كفره ، ومثله أيضاً من زعم أن القرآن نقص منه آيات وأنها كتمت فهو كافر الكفر الأكبر المخرج من الملة . والعياذ بالله .
الخامس : أن يسب بعضهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم مثل وصف بعضهم بالبخل أو الجبن أو قلة العلم أو عدم الزهد ونحو ذلك ، فهذا لا يكفر بذلك ولكن فاعله يستحق التعزير الشديد والتأديب البليغ الذي يردعه وأمثاله عن هذا القول العظيم في خير الخلق بعد الأنبياء ، قال أبو العباس ( وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم ) أ.هـ فهذا التفصيل هو الذي يجمع ما نقل عن أهل العلم في ذلك ، والله يتولانا وإياك وهو أعلى وأعلم .

س299/ هل الصحابة يتفاضلون ؟ وضح الجواب إجمالاً ؟
ج/ نعم وهذا مما لا شك فيه ، فأفضل الصحابة على الإطلاق أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي فهؤلاء أفضل الأمة بل هم أفضل الخلق بعد الأنبياء ، وأفضل هؤلاء الشيخان أبو بكر وعمر وأفضلهما أبو بكر فهو أفضل الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم ثم يأتي بعد هؤلاء الأربعة في الفضل بقية العشرة المبشرين بالجنة ، عبدالرحمن بن عوف وأبو عبيدة عامر بن الجراح وسعد ابن أبي وقاس وسعيد ابن زيد والزبير ابن العوام وطلحة أبن عبيد الله و المتقرر عند أهل السنة رحمهم الله تعالى أن المهاجرين أفضل من الأنصار وأن الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتل أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ، وأن أهل بدر وبيعة الرضوان أفضل من غيرهم فرضي الله عنهم وأرضاهم وأعلا درجاتهم في جنات عدن ولا حرمنا الله تعالى الحشر معهم والاجتماع بهم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر والله أعلم .

س300/ أذكر شيئا مما جاء في فضل أبي بكر رضي الله عنه ؟  
ج/ أقول : ينبغي للمسلم أن يعتقد الاعتقاد الجازم أن أفضل البشر بعد الأنبياء هو صديق هذه الأمة أبو بكر عبدالله ابن عثمان ابن عامر القرشي التميمي وقد ورد في فضله من الأدلة من الكتاب والسنة ما لا يخفى ولكن يذكر لك بعضه :
فمن ذلك : قوله تعالى (( وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * ولسوف يرضى )) فإن غالب المفسرين ذكروا أن سبب نزولها هو إنفاق أبي بكر ماله في شراء الأرقاء والضعفاء من الذين أسلموا من يد من يعذبهم من صناديد قريش وهذا فيه أبلغ الثناء وعظيم الوعد وأكبر البشارة بالنجاة والفوز بعالي الدرجات
ومن ذلك : قوله تعالى (( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني أثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا )) وقال عليه الصلاة والسلام  ( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما  ) فالآية دالة على فضل أبي بكر إذ جعله الله ثاني النبي صلى الله عليه وسلم وسماه صاحبه وأخبر أنه معهما وأنه أنزل السكينة عليهما وأيدهما بجنود من عنده وما ذلك إلا لأن أبا بكر رضي الله عنه قد بلغ الغاية في الفضل .

ومن ذلك : قوله تعالى (( والذي جاء بالصدق وصدق به أؤلئك هم المتقون )) وقد فسرها علي رضي الله عنه بأنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه .
ومن ذلك : قوله تعالى (( وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين )) فقد فسرها العبادلة عبدالله بن عباس وبن مسعود وبن عمر بأن صالح المؤمنين هو أبو بكر وعمر وقاله مجاهد الضحاك .
ومن ذلك : ما رواه الشيخان في الصحيحين من حديث أنس أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حدثه قال نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار فقلت : يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه فقال : ( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) .
ومن ذلك : ما رواه البخاري بسنده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال ( إن الله خيّر عبد بين الدنيا وبين ما عنده فأختار ما عنده ) قال فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيّر وكان أبو بكر أعلمنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أن مِنْ أمَنِّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبتنّ في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر ) وهو عند مسلم أيضا .
ومن ذلك : ما رواه الشيخان من حديث عمرو ابن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته فقلت أي الناس أحب إليك ؟ قال ( عائشة ) فقلت من الرجال قال( أبوها ) قلت ثم من ؟ قال ( ثم عمر ابن الخطاب ) فعد رجالا .
ومن ذلك : ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( بين راع في غنمه عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة فطلبه الراعي فالتفت إليه فقال من لها يوم السبع يوم ليس لها راعي غيري وبين رجل يسوق بقرة قد حمل عليها فالتفت إليه فكلمته فقالت إني لم أخلق لهذا ولكني خلقت للحرث ) فقال الناس ( سبحان الله ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( فأني أومن بذلك وأبو بكر وعمر ابن الخطاب .
ومن ذلك : ما رواه البخاري في صحيحة بإسناده إلى محمد بن الحنفية قال : قلت لأبي أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أبو بكر . قلت : ثم من . قال : عمر . وخشيت أن يقول عثمان . قلت : ثم أنت . قال : ما أنا إلا رجل من المسلمين .
ومن ذلك : ما رواه البخاري بسنده إلى ابن عمر رضي الله عنهما قال : كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم .
ومن ذلك : ما رواه البخاري أيضاً بإسناده إلى أبي الدرداء رضي الله عنه قال : كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذٌ بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبتيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما صاحبكم فقد غامر . فسلم وقال يا رسول الله إنه قد كان بيني وبين ابن الخطاب شيئاً فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى علي فأقبلت إليك فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثاً ) ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبا بكر فسأل عنه فلم يجده فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثى على ركبتيه فقال : يا رسول الله أنا كنت أظلم مرتين فقال : النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركو لي صاحبي مرتين فما أوذي بعدها .
ومن ذلك : ما رواه مسلم في صحيحه بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى عليه وسلم : من أصبح منكم اليوم صائماً . قال أبو بكر : أنا . قال : فمن تبع منكم اليوم جنازة . قال أبو بكر : أنا . قال : فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً . قال أبو بكر : أنا . فقال رسول الله صلى عليه وسلم ( ما اجتمعن في امريء إلا دخل  الجنة .
ومن ذلك : ما روى البخاري في صحيحه بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحداً وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال ( أثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان ) وقد لقبه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللقب الشريف الذي يفيد ثبوت منـزلة الصديقية له وأنت خبير بأن هذه المنـزلة تعقب منـزلة النبيين كما في سورة النساء قال تعالى (( ومن يطع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا )) .
ومن ذلك : ما ثبت في البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها ( مروا أبا بكر فليصلي بالناس ) والإمامة في الصلاة منـزلة عالية وخصوصاً إذا كان الآمر بها المعصوم عليه السلام فإنه لم يكن ليختار لإمامة المسلمين في عهدة إلا أفضلهم وأعلاهم قدراً وأوفرهم علماً .
ومن ذلك : ما رواه البخاري في صحيحة بسنده من حديث أبي هريرة يرفعه للنبي عليه السلام وفيه ( فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وباب الريان ) فقال أبو بكر رضي الله عنه " ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة ، وقال : هل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله . قال : نعم ، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر " . ومن المعلوم أرجائه عليه السلام واقع محقق فهذه بعض الأدلة الدالة على فضل خليفة رسول الله رضي الله عنه .

س301/ أذكر شيئا من فضائل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؟
ج/ يجب على المسلم أن يعتقد اعتقادا جازما أن أفضل الصحابة بعد أبي بكر هو فاروق الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد وردت الأدلة الكثيرة الدالة على فضله وأذكر لك طرفا منها :
فمن ذلك : ما رواه الشيخان من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال النبي عليه الصلاة والسلام رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالريمصاء امرأة أبي طلحه وسمعت  خشفة فقلت من هذا فقال هذا بلال ورأيت قصرا بفنائه جارية فقلت لمن هذا ؟  فقال لعمر      ( فأردت أن أدخله فأنظر إليه فذكرت غيرتك ) فقال عمر بأبي وأمي يا رسول الله أعليك أغار ، ومثله أيضا ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة .
ومن ذلك : ما رواه البخاري بإسناده إلى حمزة بن أسيد الأنصاري عن أبيه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام بين أنا نائم بقدح لبن فشربت حتى إني أنظر إلى الري يخرج من أظفاري ثم ناولت فضلي عمر قالوا فما أولته يا رسول الله قال ( العلم ) ومن المعلوم أن رؤيا الأنبياء حق .
ومن ذلك : ما رواه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله عليه السلام يقول ( بين أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها دون ذلك . وعرض عليّ عمر وعليه قميص يحبره) قالوا فما أولته يا رسول الله قال( الدين ) فهذان الحديثان فيهما تزكية لأبي حفص رضي الله عنه في علمه وديانته .
ومن ذلك : ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث سعد ابن أبي وقاص قال : قال رسول الله عليه السلام ( يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجاً إلا سلك فجاً آخر ) .
ومن ذلك : ما رواه الشيخان من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام قال ( أُريت في المنام أني أنزع بدلو بكره على قليب فجاء أبو بكر فنـزع ذنوبا أو ذنوبين نزعا ضعيفا والله نغفر له ثم جاء عمر بن الخطاب فاستالت غربا فلم أرى عبقريا يفري فرية حتى روي الناس وضربوا بعطن .
ومن ذلك : ما رواه الشيخان بإسنادهما إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام ( لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر ) .
ومن ذلك : ما رواه البخاري بإسناده إلى أنس رضي الله عنه قال : قال عمر رضي الله عنه وافقت ربي في ثلاث ، قلت  : يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت (( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى )) وآية الحجاب قلت يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البر و الفاجر فنـزلت آية الحجاب ، وأجتمع نساء النبي عليه السلام في الغيرة عليه فقلت لهن ((عسى ربه أن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً   منكن )) فنزلت هذه الآية .
ومن ذلك : ما رواه الحاكم والترمذي وأحمد بسند حسن من حديث عقبه بن عامر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله عليه السلام يقول ( لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب ، ومن مناقبه العظيمة أيضا تبشير النبي عليه السلام بالجنة كما في صحيح البخاري من حديث  أبي موسى  قال كنت مع النبي عليه السلام في حائط من حيطان المدينة فجاء رجل فاستفتح فقال النبي عليه السلام ( أفتح له وبشره بالجنة ) ففتحت له  فإذا هو أبو بكر فبشرته بما قال النبي عليه السلام فحمد الله ثم جاء رجل فاستفتح فقال النبي عليه السلام    ( أفتح له وبشره بالجنة ) ففتحت له فإذا هو عمر بن الخطاب فأخبرته بما قال النبي عليه السلام فحمد الله ..........الحديث )
ومن ذلك : ما رواه البخاري بإسناده إلى عبدالله بن مسعود قال :( ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر ) ولأبن أبي شيبة الطبراني من طريق القاسم بن عبد الرحمن قال : قال عبدالله بن مسعود ( كان إسلام عمر عزا وهجرته نصرا وإمارته رحمة والله ما استطعنا أن نصلي حول البيت ظاهرين حتى أسلم عمر ) وقال عبد الله أبن عباس رضي الله عنهما     ( أول جهر بالإسلام عمر بن الخطاب ) وروى الترمذي بإسناده إلى أبن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله عليه السلام قال اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب ) وكان أحبهما إليه عمر فهذه طائفة يسيرة من الأحاديث الآثار التي تضمنت شيئا من مناقبه رضي الله عنه وجمعنا به في جنات الفردوس الأعلى .

س302/ أذكر شيئا من فضائل عثمان رضي الله عنه ؟
ج/ أن فضائله رضي الله عنه كثيرة وقد صحت بها الأدلة الشهيرة ومن المعلوم عند جمهور أهل السنة أن أفضل الناس على الإطلاق بعد أبي بكر وعمر هو عثمان رضي الله عنه فهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى وهو ثالث الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين المأمور بإتباعهم والإقتداء بهم وهو أحد السابقين إلى الإسلام وقد هاجر الهجرتين إلى الحبشة والمدينة وهو الملقب بذا النورين لأنه تزوج ابنتي الرسول عليه السلام واحدة بعد واحده رقية وأم كلثوم وقد بايع عنه النبي عليه السلام بإحدى يديه وأذكر لك بعض الأحاديث في فضله فأقول :
من ذلك : ما رواه الإمام البخاري بإسناده إلى عبدالله بن عمر رضي الله عنهما  قال : كنا في زمن النبي عليه السلام لا نعدل بأبي بكر أحد ثم عمر ثم عثمان ثم نترك أصحاب النبي عليه السلام لا نفاضل بينهم .
ومن ذلك : ما رواه الشيخان في الحديث السابق أعني حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وفيه ( ثم جاء رجل يستأذن فسكت هنيهة ثم قال ( ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه فإذا هو عثمان بن عفان رضي الله عنه )
ومن ذلك : ما رواه البخاري بإسناده إلى أبي عبدالرحمن أن عثمان رضي الله عنه حوصر أشرف عليهم فقال أنشدكم الله ولا أنشد إلا أصحاب النبي عليه السلام ألستم تعلمون أن رسول الله  عليه السلام قال ( من حفر رومه فله الجنة ) فحفرتها ، ألستم تعلمون أنه قال ( من جهز جيش العسرة فله الجنة ) فجهزته فصدقوه بما قال فهذا الحديث يتضمن منقبتين عظيمتين له رضي الله عنه وقد ضمن النبي عليه السلام لفعلها دخول الجنة .
ومن ذلك :  ما سبق من قوله عليه السلام ( أثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق شهيدان )
ومن ذلك :  ما رواه الإمام أحمد بإسناده إلى عبد الرحمن أبن سمره قال : جاء عثمان أبن عفان إلى النبي عليه السلام بألف دينار في ثوبه حين جهز عليه السلام جيش العسرة قال فصبها في حجر النبي عليه السلام فجعل النبي عليه السلام يقلبها بيده ويقول   ( ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم ) يرددها مراراً .
ومن ذلك : ما رواه الإمام مسلم في صحيحه بسنده إلى عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام كان مضطجعا في بيتها كاشفا عن ساقيه أو فخذيه فاستأذن أبو بكر فإذن له وهو على تلك الحال ثم أستأذن عمر فأذن له وهو كذلك ثم أستأذن عثمان فجلس رسول الله عليه السلام وسوى ثيابه ) وفي آخره ( أن النبي عليه السلام قال ألا استحي من رجل تستحي منه الملائكة فهذا  الحديث تضمن فضيلة ظاهرة لعثمان رضي الله عنه وبيان أنه جليل القدر حتى عند الملائكة ، وفي لفظ آخر قال رسول الله عليه السلام ( أن عثمان رجل حييّ وأني خشيت أن أذنت له على تلك الحال ألا يبلغ إلي في حاجته .
ومن مناقبه أيضا : أجماع الصحابة على خيرته وأفضيلته بعد الشيخين ولذلك اختاروه خليفة لهم فإجماعهم على توليته الخلافة وليس على أنه أفضل الخلق بعد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما جميعا .
ومن مناقبه العظيمة : وحياته الكبيرة أنه جمع الناس على مصحف واحد وكفى الأمة شرا كبيرا وبلاءً عظيما وهو الاختلاف في الكتاب وقد شكر له هذا العمل من جاء بعد من المسلمين وأهل السنة .
ومن مناقبه العظيمة : أن النبي عليه السلام شهد له أنه سيكون مستمرا على الهدى المستقيم عند حلول الفتنة كما روى الحاكم بإسناده إلى مره بن كعب قال سمعت رسول الله عليه السلام يذكر فتنة فقربها فمر به رجل مقنع في ثوب فقال عليه السلام ( هذا يومئذ على الهدى ) فعمت إليه فإذا هو عثمان رضي الله عنه فأقبلت بوجهه فقلت هو هذا فقال (نعم ) .
ومن مناقبه العظيمة : أنه منع الصحابة من أن يريقوا دم أحد من المسلمين بسبه وذلك لكمال صبره ورضاه بما قضاه الله وقدره . وقد كان يلح على الصحابة كثيرا إلا يعتلوا أحدا دفاعا عنه لعلمه رضي الله عنه أنه شهيد فأراد أن يلقى الله جل وعلا ولا يطلبه أحد بدم . ومناقبه كثيرة ولعل فيما مضى كفاية والله أعلم .

س303/ أذكر شيئا من فضائل علي رضي الله عنه ؟
ج/ أقول : لقد اجمع أهل السنة والجماعة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى ، أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أفضل الخلق بعد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، فهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنه راضٍ وهو رابع الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين المأمور بالإقتداء بهم ، وهو من السابقين الأولين بالإسلام ، وقد تربى في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وهو زوج أبنته فاطمة رضي الله عنها وأرضاها وقد شهد المشاهد كلها غير تبوك ، وقد لواء النبي صلى الله عليه وسلم بيده في مواطن كثيرة ولقد وردت الأدلة الكثيرة في إثبات    فضله .
فمن ذلك : ما رواه الشيخان بسندهما من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر ( لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ) قال فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أين علي بن أبي طالب ؟ فقيل : هو يشتكي عينيه ، فأرسلوا إليه ، فأتي به ، فبصق في عينيه وأعطاه الراية وقال ( أنفذ على رسلك حتى تنـزل بساحتهم ثم أدهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم ) وهذه منقبة عظيمة وشهادة من أصدق الخلق صلى الله عليه وسلم .
ومن ذلك : ما رواه الشيخان بسندهما من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : ( أنت مني بمنـزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ) وهذا في بيان منزلة علي رضي الله عنه منه ومكانته العظيمة عنده عليه الصلاة والسلام .
ومن ذلك : ما رواه الشيخان رضي الله عنهما من حديث سهل بن سعد قال : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يجد عليا ً ، فقال ( أين أبن عمك فقالت كان بيني وبينه شيئا فغاضبني فخرج فلم يقل عندي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان ( أنظر أين هو ) فجاء فقال : يا رسول الله هو في المسجد راقد ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع وقد شقط رداؤه عن شقه وأصابه تراب فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول : ( قم أبا تراب ، قم أبا تراب ) وهذا فيه بيان علو منزلته عند النبي صلى الله عليه وسلم حيث مشى إليه ومسح عنه التراب واسترضاه وتلطفه وكناه بهذه الكنية التي هي أحب إليه من كل شيء ، فرضي الله عنه وأرضاه وجمعنا به في الفردوس الأعلى .
ومن ذلك : ما رواه مسلم في صحيحه رضي الله عنه قال : قال علي رضي الله عنه(والذي فلق الحب وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم أني ، أنه لا يجيبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق ) ولا تخفى دلالة هذا الحديث عن فضله وأنه معقد للولاء والبراء فاللهم أنا نشهدك على حبه .
ومن ذلك : ما رواه البخاري رضي الله عنه بسنده إلى البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي ( أنت مني وأنا منك ) .
ومن مناقبه العظيمة : رضي الله عنه أنه من أصحاب الكساء ، وحديثه معروف فإنه لما نزل قوله تعالى (( فقل تعالوا ندعوا أبنائنا وأبنائكم )) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال ( اللهم هؤلاء أهلي ) رواه مسلم في صحيحه ، ومن فضائله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا له بقوله ( اللهم ثبت لسانه وأهدي قلبه ) كما رواه الحاكم في المستدرك وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وأقره الذهبي .
ومن مناقبه أيضا : ما رواه الحاكم أيضا بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال ( شكى علي بن أبي طالب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام فينا خطيبا فسمعته يقول : أيها الناس لا تشكوا عليا فوالله إنه لأخشى في ذات الله وفي سبيل الله  ) قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه فوافقه الذهبي .
ومن مناقبه العظيمة : وفضائله الكبيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أبنته فاطمة وزوجها عليا وولدهما الحسن والحسين يكونان  معه يوم القيامة في مكان واحد ، كما رواه الحاكم في المستدرك وصححه ووفقه الذهبي .
ومن مناقبه : أن عمر رضي الله عنه كان يتعوذ من معضلة ٍ ليس لها أبو حسن ، وروى البخاري بسنده إلى ابن العباس قال : قال عمر رضي الله عنه : أقرؤنا أبيّ وأقضانا علي ، وفضائله كثيرة مشهورة ، وقبل الختام أحب التنبيه على أمر مهم وهو أني أحذرك كل الـتحذير مما وضعته الرافضة لعنهم الله من المكذوبات في فضله رضي الله عنه وأرضاه فإنهم قوم بهت كذابون دجالون ، قطع الله ألسنتهم وأراح الأمة من شرهم وقد تصدى لفضح هذه المرويات وبيان زيفها وكذبها شيخ الإسلام والمسلمين أبو العباس بن تيميه رحمه الله تعالى في كتابه الكبير منهاج السنة ، فعلي رضي الله عنه قد ثبت له من الفضائل ما ذكرت لك ، وهو غني عن هذه الأباطيل والمرويات الكاذبة الفاجرة والله يحفظنا وإياك من زلل اللسان والعمل.

س304/ ما عقيدة أهل السنة في الخلافة ؟
ج/ يعتقد أهل السنة رضي الله عنهم وأرضاهم أن الخليفة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أحب الخلق إليه وأحقهم بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه ورفع نزله في الجنات الفردوس الأعلى ، ثم عمر فاروق الإسلام أبو حفص ، رضي الله عنه ثم عثمان ذو النورين ثم علي رضي الله عنهم وأرضاهم ولا حرمنا الله الحشر معهم ومرافقتهم في الجنة ، وهذا ما نعتقده بقلوبنا ونقوله بألسنتنا وندونه في كتبنا ونعوذ بالله من زيغ القلوب بعد هداها ، ومن الحور بعد الكور ، ومن النقص بعد الكمال والله أعلم .

س305/ كيف تمت الخلافة لأبي بكر رضي الله عنه ؟
ج/ أقول : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقله الله إليه في جنته ودار كرامته ، اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعده بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم وأرادوا عقد الإمامة لسعد بن عبادة ، وبلغ ذلك أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فقصدا نحو مجتمع الأنصار في رجال من المهاجرين ولما انتهوا إليهم حصل بينهم حوار في أمر الخلافة حيث اضطرب أمر الأنصار فجعلوا يطلبون الأمر لأنفسهم أو الشركة فيه مع المهاجرين ، فأعلمهم أبو بكر رضي الله عنه إن الإمامة لا تكون إلا في قريش وأحتج عليهم بقوله صلى الله عليه وسلم   ( الأئمة من قريش ) فأذعنوا لذلك رضي الله عنهم وأرضاهم وانقادوا طائعين وبايعوا أبا بكر رضي الله عنه واجتمعوا على إمامته واتفقوا على خلافته وانقادوا لطاعته وأنقطع الحوار في هذه المسألة باجتماعهم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه ، وقد روى هذه القصة الإمام البخاري في صحيحه وإنما ذكرت لك معناها ، وقد أذعن سعد بن عبادة رضي الله عنه بذلك وأعترف بصحة ما قال الصديق رضي الله عنه يوم السقيفة من أن قريشا هم ولاة هذا الأمر ، فقال : صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء كما في مسند الإمام أحمد ، وقد حسن إسناده شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى . فهذا هو الحق في هذه المسألة ودع عنك ما يقوله أهل الإفك قطع الله ألسنتهم أخرس أفواههم ، فإنهم ما قدروا الصحابة حق قدرهم ، عاملهم الله بعدله لا بعفوه وأرانا الله فيهم عجائب قدرته والله أعلم.

س306/ هل ثبتت الخلافة لأبي بكر الصديق بالنص أم بالاختيار ؟ وأذكر بعض الأدلة على ما تقول ؟
ج/ أن هذه المسألة ليست من المسائل الكبار عند أهل السنة وإنما المهم أن تثبت خلافته وأنه أحق بها من غيره وأنه أفضل الأمة بعد نبينا صلى الله عليه سلم وأن تثبت أيضا وقوع الإجماع على خلافته وإن حصل في بداية الأمر شيء من الخلاف لكن قد انعقد الإجماع على أنه أحق بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا اعتقدت ذلك فسواءً قلت : قد تثبتت خلافته بالنص ، أو قلت : بالاختيار ، كل ذلك نتيجته واحدة وبأي القولين قلت فالأمر سهل يسير والخلاف فيه سائغ لكن الذي يترجح والله أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دل الأمة على خلافته وأخبر أنه يرضاها وقد عزم على الكتابة بذلك لكن علم صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى ورسوله والمؤمنين لا يبغون عن أبي بكر حولا فروى الشيخان رضي الله عنهما في صحيحهما بسندهما عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال : أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه ، فقالت : أرأيت إن جئت فلم أجدك ـ كأنها تقول الموت ـ فقال عليه الصلاة والسلام  ( إن لم تجديني فأتي أبا بكر ) قال ابن حزم ( وهذا نص جلي على استخلاف أبي بكر ) أهـ وروى الشيخان أيضا بسندهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه ( ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمنٍ ويقول قائل: أنا أولى ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ) وعند الإمام أحمد في المسند عنها رضي الله عنها قالت لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبدالرحمن بن أبي بكر ( أئتني بكتف أو لوح حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه ) فلما ذهب عبدالرحمن ليقوم قال
( أبا الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر ) وكذلك اختياره صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الإمامة الصلاة ، فلما رضيه للإمامة الشرعية وقدمه فيها على غيره ، فإنه من باب أولى أن يرضاه ويقدمه على غيره في الإمامة الدنيوية ، وكذلك قال بعض الصحابة : قد رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا ، وهذا من باب قياس الأولى وهو حجة بالاتفاق . وقد روى أبو عبدالله الحاكم في المستدرك بإسناده إلى عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال :(لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار ، منا أمير ومنكم أمير قال : فأتاهم عمر رضي الله عنه وقال : يا معشر الأنصار أليتم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمّر أبا بكر يؤم الناس ، فإنكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر ، فقالت الأنصار ، نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر ) فالتحقيق في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دل المسلمين على استخلاف أبي بكر رضي الله عنه وأرشدهم إلى ذلك بأمور كثيرة من أقواله وأفعاله وأخبر بخلافته إخبار راضٍ بذلك حامدٍ له مع همه بأن يكتب في ذلك كتابا لكن لما علم أن المسلمين يتجمعون على خلافته ترك الكتابة اكتفاءً بذلك ، واختار هذا القول أبو العباس بن تيمية رضي الله عنه ، وأذكرك بارك الله فيك أن هذه المسألة أي مسألة دليل خلافته هل كانت بالنص الخفي أم الجلي هي من المسائل التي يسوغ فيها الخلاف لاحتمال الدليل وبناءً عليه فلا تفسيق فيها ولا تأثيم ولا تبديع ، أي أنه لا يخرج على من قال : ثبتت بالنص الجلي ، أو قال : ثبتت بالنص الخفي ، وإنما الذي تعظم مخالفته هو القدح في خلافته أصلاً أو القدح في أحقيته بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقول لك : لقد انعقد الإجماع من أهل السنة سلفا وخالفا على أن أحق الناس بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه ورفع نزله في الجنة وجمعنا به في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر والله أعلم

      س307/ ما مذهب أهل السنة رحمهم الله تعالى فيما وقع بين الصحابة من الخلاف والقتال؟  
ج/ مذهبهم في ذلك أفضل المذاهب على الإطلاق لأن مبناه على تعظيم قدرة الصحابة وعلو منزلتهم في قلوبهم ، فما من فرقة عظمت الصحابة كأهل السنة ، وما فرقة عرفت للصحابة فضلهم ومنزلتهم كأهل السنة ولذلك فهم يعتقدون وجوب السكوت وحبس اللسان وعدم الخوض فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم  مع الاعتقاد الجازم أنهم      فيما وقع بينهم مجتهدون وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المجتهد المصيب له أجران والمخطئ له أجر واحد فهم رضي الله عنهم دائرون بين الأجرين والأجر فالمصيب                                                                                              منهم له أجران والمخطئ له أجر واحد فهم مأجورون على كل حال ، ويعتقد أهل السنة أيضا أن غالب المرويات في الخلافة بينهم كذب وزور وكثير منه ضعيف من جهة سنده ، والصحيح منه نزر قليل يسير هم فيه مجتهدون ونشهد أن لهم من الفضائل والمحاسن ما يوجب مغفرة ما صدر من بعضهم من الخطأ إن صح عنه ذلك ونشهد بالله انهم أحق الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن هذا الخلاف لم يدخل فيه غلا نزر يسير منهم ، وأنهم بشر لا ملائكة ، وأن العصمة إنما هي في إجماعهم لا في قول آحادهم مع مخالفته غيره له ، ولا ندخل في هذا الخلاف ، ونقول : كما أن الله تعالى عصم أيدينا منهم ، فلنحرص على عصمة ألسنتنا منه ونعوذ بالله من أن نجعل صحابة الحبيب  صلى الله عليه وسلم فاكهة مجالسنا بالجرح والتثريب بل نفديهم بأرواحنا وقلوبنا وأموالنا وكل ما نملكه ولا يُمَسَّا أحدهم بسوء أو طعن ولا نقول إلا كما قال ربنا جل وعلا (( ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم )) والله ربنا أعلى وأعلم .

س308/ ما عقيدة أهل السنة في الشهادة بالجنة والنار ؟
ج/ مذهب أهل السنة رحمهم الله تعالى في ذلك التفصيل ، فالشهادة بالجنة ، إما أن تكون عامة وإما خاصة أي للمعين ، فأما العامة فكقولنا : المؤمنون في الجنة والكفار في النار ، فهذه الشهادة لا إشكال فيها ، وإما الخاصة : فإنهم لا يشهدون لأحد بعينه أنه من أهل الجنة أو أنه من أهل النار إلا من شهد له النص بذلك ، فمن اثبت النص الصحيح انه من أهل الجنة فهو من أهل الجنة ومن أثبت النص أنه من أهل النار فهو من أهل النار ، ومن لم يرد فيه النص فلا نقول أنه من أهل الجنة ولا من أهل النار ، بل نرجو للمحسن الثواب ونخاف على المسيء العقاب فممن شهد له النص له بالجنة العشرة المبشرين بالجنة وبلال وثابت بن قيس بن شماس ، وعكاشة بن محصن ، وغيرهم فهؤلاء نشهد أنهم من أهل الجنة إبداءً بأعيانهم ، وممن شهد له النص بأنه من أهل النار أبو لهب وأبو جهل وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف وعمرو بن لحي ووالد النبي صلى الله عليه وسلم ، وعمه أبو طالب والوليد بن المغيرة وامرأة أبي لهب وامرأة نوح وامرأة لوط وإبليس ، وقارون وفرعون وهامان والسامري من قوم موسى  وغيرهم ، فهؤلاء نشهد أنهم من أهل النار بأعيانهم لثبوت النصوص بذلك ، ويبقى من لم يرد فيه النص بعينه لا نشهد له بعينه أنه من أهل النار ولا من أهل الجنة وإنما نرجو للمحسن الثواب ونخاف على المسيء العقـاب والله أعلم .

 

رقم الصفحة    الســـــؤال    رقم السؤال
217    كم أقسام صفات الله تعالى الثبوتية مع التمثيل وبيان الفرق بينهما  ؟    س200
217    هل أسماء الله تعالى مترادفة أم متباينة ؟    س201
218    ما أنواع الإضافة إلى الله تعالى ؟ وما القاعدة في ذلك ؟ مع توضيح الإجابة بالأمثلة ؟ ولماذا قال أهل السنة ذلك وحرصوا على بيانه ؟    س202
221    ما لواجب في الإيمان بأسماء الله تعالى ؟ مع التمثيل؟    س203
222    عرف الإلحاد ؟ مع بيان أقسامه ؟    س204
222    ما أنواع الإلحاد في أسماء الله جل وعلا وما حكمه مع بيان ذلك بالدليل؟    س205
224    ما أنواع الإلحاد في الآيات ؟ وما معنى كل نوع ؟ مع بيان ذلك بالدليل؟    س206
224    هل أسماء الله تعالى محصورة بعدد معين أم لا ؟ وما الدليل على ذلك ؟    س207
226    هل آيات الصفات من قبيل المحكم أم من التشابه ؟    س208
226    هل ظاهر نصوص الصفات مراد أم غير مراد ؟    س209
228    ما حكم السؤال عن كيفية شيءً من صفات الله تعالى ولماذا ؟ وكيف الجواب لمن سألنا عن شيءً من ذلك ؟    س210
        س211
        س212
        س213
        س214
        س215
        س216
        س217
        س218
        س219
        س220
        س221
        س222
        س223
        س224
        س225
        س226
        س227
        س228
        س229
        س230
        س231
        س232
        س233
        س234
        س235
        س236
        س237
        س238
        س239
        س240
        س241
        س242
        س243
        س244
        س245
        س246
        س247
        س248
        س249
        س250
        س251
        س252
        س253
        س254
        س255
        س256
        س257
        س258
        س259
        س260
        س261
        س262
        س263
        س264
        س265
        س266
        س267
        س268
        س269
        س270
        س271
        س272
        س273
        س274
        س275
        س276
        س277
        س278
        س279
        س280
        س281
        س282
        س283
        س284
        س285
        س286
        س287
        س288
        س289
        س290
        س291
        س292
        س293
        س294
        س295
        س296
        س297
        س298
        س299
        س300
        س301
        س302
        س303
        س304
        س305
        س306
        س307
        س308
    الفـهــــرس

 
    س308: عرف الولاء والبراء في اصطلاح علماء الاعتقاد .
    ج308: الولاء في الاصطلاح : هو التعاضد والنصرة والمحبة ، ومنه قول الله تعالى :  والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض  أي : يتناصرون ويتعاضدون . ومنه قوله  : (( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا )) وشبك بين أصابعه ، وهو في الصحيح .
    فهذا التشبيك دليل على وجود التعاضد والنصرة وهذا التعاضد والتناصر له مقتضيات كثيرة سيأتي الكلام عليها - إن شاء الله تعالى - .
    وأما البراء في الاصطلاح فهو : المصارمة والعداوة والمجانبة والتبري والبغض ، ومنه قوله تعالى عن إبراهيم والذين آمنوا معه :  قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا بُرآءُ منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا حتى تؤمنوا بالله وحده ...  الآية .
    والبراء أيضًا له مقتضيات كثيرة سيأتي الكلام عنها - إن شاء الله تعالى - .
    والخلاصة أن يقال : الولاء والمولاة هي التعاضد والنصرة بكل معانيها . والبراء والتبري هو البغض والعداوة بكل معانيها ، والله أعلى وأعلم .
*  *  *
    س309: ما الذي يدور عليه الولاء والبراء ؟
    ج309: أقول : الولاء مداره على الحب ، والبراء مداره على البغض .
    فأما الحب فلابد أن يتوفر في الولاء ، بل هو عموده الأساسي الذي ينبني عليه بعد ذلك لوازم هذا الولاء وتوابع هذا الحب ، وهذا الحب مكانه ومقره القلب الذي هو مكان العاطفة ، إلا أنه لابد أن تظهر آثاره على الجوارح ، وإلا لكان كذبًا وزورًا وادعاءً ؛ وذلك لأن المتقرر عند الجميع أن كل إناءٍ بما فيه ينضح وأن الجوارح لابد أن تتأثر بما يكون في القلب ، فالذي يدعي الولاء والمحبة للمؤمنين فلابد أن يأتي بمصداق هذه الدعوى حتى لا تكون دعوى مجردة عن البرهان ، وبرهانها الذي يصدقها هو ما يظهر على الجوارح من الأعمال ، ونعني بها مقتضيات الولاء ، فليس الولاء كلمة تقال أو عاطفة باطنية فقط ، بل يختلف صدق الدعوى باختلاف ظهور الآثار ، فمن كانت الآثار فيه أكثر فهو الأصدق ، وتقوى هذه الآثار كلما قويت المحبة التي في القلب التي هي مدار الولاء ، وبناءً عليه فمن يدعي الولاء للمؤمنين وهو يبغضهم فهو كاذب في دعواه ، ومن يدعي الولاء لهم وهو يخادعهم ويغشهم فهو كاذب في دعواه ، ومن يدعي الولاء لهم وهو يخذلهم ويسلمهم ويعين عليهم عدوهم فهو كاذب في دعواه ، ومن يدعي ولاءهم وهو لا يهتم بأمورهم فلا يحزن لحزنهم ولا يفرح لفرحهم فهو كاذب ، ومن يدعي الولاء لهم وهو يؤذي أولياء الله تعالى من العلماء والعباد والدعاة والصالحين بالسجن والتعهدات والمنع من نشر علمهم ومن الدعوة إلى الله تعالى فهو كاذب في دعواه ، ومن يدعي الولاء للمؤمنين وهو يحكم فيهم قوانين الشرق والغرب فهو كاذب في دعواه ، ومن يدعي الولاء لهم وهو عبد ذليل لفراعين الغرب والكفرة يستجيب لكل ما يأمرون به أو ينهون عنه في عباد الله تعالى ولا هَمَّ له إلا إرضاء هؤلاء الطواغيت ، فإذا قالوا : اقتل فلانًا قتله ، وإذا قالوا : اسجن فلانًا سجنه ، وإذا قالوا : امنع فلانًا منعه ، وإذا قالوا : ارفض هذا التشريع رفضه ، وهو مع ذلك يدعي أنه ولي للمؤمنين فهو كاذب في هذه الدعوى فاجر فيها .
    فالولاء مداره على المحبة والمحبة عمل القلب ، ولها آثار كثيرة فلابد للعبد من الصدق في عمل الباطن حتى يتصحح له عمل الظاهر ، فأسال الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يصلح بواطننا وظواهرنا إنه خير مسئول ، فهذا بالنسبة لما يدور عليه الولاء وهو المحبة .
    وأما البغض الذي هو مدار البراء ، فكذلك نقول فيه أن محله ومقره القلب ، إلا أنه لابد أن يكون له أثر ظاهر على سلوك العبد وتصرفاته ، ويظهر هذا البغض في معاملاته مع أعداء الله ظهورًا واضحًا جليًّا ؛ لأن هذه المعاملات هي التي يظهر فيها حقيقة الموالاة والمعاداة ، فاحذر من مخالفة القول للعمل ، واحذر من تناقض الظاهر مع الباطن ، فلابد من المفاصلة والمصارمة والتباعد باطنًا وظاهرًا ، وعلى هذا مدار الشريعة ، فإن الشريعة إنما نزلت لتفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ، فالذي يريد تمييع هذه الفروق وإزالتها أو يهوِّن في تطبيقها فهو منافق زنديق مصادم للمقصود الشرعي الأعظم ، وبناءً عليه فمن يدعي البراء من الكفرة وهو قد ارتمى في أحضانهم يربونه كيف شاءوا فهو كاذب في دعواه هذه ، ومن يدعي البراء منهم وهو معظم لحضارتهم ومقدم لهديهم على هدي الكتاب والسنة فهو كاذب في دعواه ، ومن يدعي البراء منهم وهو يحكم قوانينهم فهو كاذب في دعواه ، ومن يدعي البراء منهم متشبه لهم في ملبسهم وطريقة أكلهم وعاداتهم وتقاليدهم المخالفة للشريعة فهو كاذب في دعواه ، ومن يدعي البراء منهم وهو يريد من أمة الإسلام أن تتمثل بهم في أمورهم الخاصة والعامة فهو كاذب في دعواه ، وغير ذلك .
    ونفهم من هذا أن البراء ليس كلمة تقال ولا هو عاطفة باطنية فقط ، بل لابد أن يصدق الظاهرُ الباطنَ ، فمن ظهرت على جوارحه آثار البراء فهو صادق في دعواه ، ومن خالف فعلهُ قولَه فالله له بالمرصاد، فإن السر عنده علانية ولا يخفى عليه خافية في الأرض ولا السماء في العالية .
    والخلاصة : أن مدار الولاء على المحبة ، ومدار البراء على البغض ، وأرجو منك أن تعيد قراءة هذا الجواب وتتفكر فيه ، فإنه ثلاثة أرباع هذا الباب ، والله الموفق والهادي إلى الصواب ، والله أعلى وأعلم .
*  *  *
    س310: ما مفهوم البراء في الشريعة الإسلامية والعقيدة السلفية عقيدة أهل السنة والجماعة ؟
    ج310: أقول : إن مفهوم البراء في الشريعة الإسلامية والعقيدة السلفية عقيدة أهل السنة والجماعة تقتضي بغض أعداء الله تعالى ومعاداتهم والتبري منهم والتجافي عنهم ومصارمتهم وعدم التودد لهم بقولٍ أو فعل أو إشارة ، ومجاهدتهم بكل أنواع الجهاد بالقلب واللسان واليد والسيف والقلم ، فنجاهد كل طائفة منهم بما يناسبها من الجهاد ، وأن لا نتشبه بهم فيما هو من عاداتهم وعباداتهم وهجرهم وفضح أستارهم وكشف مخططاتهم وإدخال الغيظ في قلوبهم ، وإهانتهم وعدم إكرامهم والحط من قدرهم واضطرارهم إلى أضيق الطريق ، وعدم بداءتهم بالسلام ، وألاَّ يروا منَّا فعلاً أو يسمعوا قولاً يوجب دخول السرور على قلوبهم ، ومحاصرة اقتصادهم ومحاولة تضييق مجالات التعامل معهم حتى لا يستفيدوا من أموال المسلمين ويقاتلونهم بها وتكون أموالنا عونًا لهم علينا ، وأن لا تكون بيننا وبينهم علاقات وصداقات ودية ، فإن هذا منافٍ لمعنى التبري منهم ، بل الواجب قطع العلاقات معهم إلا فيما اضطررنا إليه ولم نجد بدًا من التعامل معهم فيه ، فلا بأس ولكن الضرورة تقدر بقدرها .
    وبالجملة : فكل ما من شأنه أن يكون برهانًا على صدق البغض القلبي الذي عليه مدار البراء فإنه داخل في مفهومه ، والله أعلم .
*  *  *
    س311: ما الولاء الذي يريده الله منا ؟ مع بيان ذلك بالدليل ، وتوضيح المراد من كل واحدٍ منها بأدلته ؟
    ج311: أقول : الولاء الذي يريده الله جل وعلا من عباده هو الولاء له جل وعلا ولرسوله  ولعباده المؤمنين ، فهذه أنواع الولاء المشروعة وما عداها فليس بمشروع ، بل إن ما عداها داخل في الولاء الممنوع ، وبه تعلم أن الولاء قسمان : ولاء مشروع أي مأمور به ، وولاء ممنوع أي منهي عنه .
    والولاء المشروع هو الولاء لله تعالى ، والولاء لرسوله  ، والولاء لعباده المؤمنين ، والدليل على ذلك قوله تعالى :  إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون  ، فقوله :  إنما  هي أداة حصر ، أي : أنه يجب حصر الولاية فيما ذكر فقط ونفيها عما عداه ، فهذه الآية الكريمة حددت لنا الذين يتوجه إليهم بالولاء ، وهم : الله تعالى ، ورسوله  ، والذين آمنوا .
    واعلم أن المراد بالولاء بكل واحدٍ من هؤلاء يقتضي أمرين : الحب والنصرة .
    فأما حب الله تعالى فهو أساس الدين وقاعدة الشريعة ، فهو جل وعلا أحق من يتوجه إليه بالموالاة بكل أشكالها ومختلف صورها ، ومحبته جل وعلا محبة تعبد واتباع ، فحبه تعالى ركن من أركان الولاء ، أي : أنه لا يمكن أن يقوم ولاء لله تعالى بدون تحقيق هذا الحب ، بل لا يقبل إسلام بدون هذا الحب ، بل يجب على المسلم أن يفوق حبه لله تعالى كل حب ، قال تعالى :  والذين آمنوا أشد حبًا لله  ، وقال تعالى :  يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه  ، وقال تعالى :  قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين  .
    وهذا الحب له مقتضيات ، منها : توقيره ، وتعظيمه ، وإفراده بالتوحيد جل وعلا ، والتوكل عليه ، والإنابة إليه ، والتحاكم إليه ، وإسلام القلوب والوجوه له ، والإيمان به ، واللجأ إليه في جميع الأمور ، ورجاؤه ، والتقرب إليه بما يحبه ويرضاه من الشرائع إيجابًا أو استحبابًا ، والإكثار من ذكره بأنواع الذكر المشروعة ، والإقبال على التعرف عليه بمعرفة أسمائه وصفاته والتعبد له بآثارها ومقتضياتها ، واتباع رسوله  بأن لا نعبد الله ولا نتقرب إليه إلا بما شرعه لنا على لسان رسوله  ، ومحبة ما يحبه وبغض ما يبغضه ، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه ، وغير ذلك مما توجبه محبته جل وعلا ؛ وذلك لأن حبه جل وعلا إذا تحقق في القلب فإنه لابد أن تظهر آثاره على الجوارح ، والله المستعان .
    وأما نصرته جل وعلا فهي الركن الثاني من أركان موالاته جل وعلا ، فيجب على المسلم الذي يوالي الله تعالى أن ينصر الله تعالى كما قال الله جل شأنه :  يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم  ، وقال تعالى :  ولينصرن الله من ينصره  ، وقال تعالى :  وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب  ، وقال تعالى :  للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون  ، والمراد بنصره جل وعلا نصره باتباع شريعته بفعل المأمور وترك المحظور ، ونصر كتابه ، والدفاع عن دينه ، والإيمان برسوله  ، والجهاد في سبيله ، وترك شهوات النفوس التي لا يرضاها ، ونصرة أوليائه ، وغير ذلك ، فمن تحقق فيه ذلك فإنه يكون قد حقق ركني ولاية الله جل وعلا التي هي المحبة والنصرة ، وبه تعلم أن موالاة العباد لله جل وعلا تتفاوت بين شخصٍ وآخر بتفاوت تحقيق هذه المقتضيات وظهور هذه الآثار ، فمحبته لها آثارها ونصرته لها آثارها ، فأعظمنا تحقيقًا لهذه الآثار أكبرنا ولاية له جل وعلا ، والله أعلم .
    وأما الموالاة للنبي  فهي أيضًا تقتضي أمرين هما : المحبة والنصرة .
    فأما محبته فهي فرض لازم على كل أحد ، بل هي من مقتضيات الشهادة بأنه رسول الله ، بل لابد أن تكون محبتنا له مقدمة على محبة الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والتجارات والمساكن والأنفس والناس أجمعين ، فإنه لم يحقق الإيمان الواجب من قدم شيئًا من هذه المحاب على محبته  كما قال  في الصحيحين : (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين )) ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( ثلاث من كن فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ... )) الحديث ، متفق عليه . ولما قال له عمر : يا رسول الله ، إني أحبك أكثر من كل شيء إلا من نفسي . فقال : (( لا يا عمر حتى من نفسك )) . فقال عمر : والذي بعثك بالحق إني لأحبك أكثر من نفسي . فقال - عليه الصلاة والسلام - : (( الآن يا عمر )) والحديث في صحيح البخاري .
    فهذه الأدلة تدل دلالة صريحة على أن محبته  شرط من شروط تحقيق الإيمان الواجب ، بل ليست محبته فقط ، وإنما تقديم محبته على كل محبة ، ثم اعلم أن محبته  ليست شعورًا نفسيًا أو مجرد اعتقاد فقط ، بل لابد أن يأتي العبد ببرهانها الذي يصدقها ، وهو اتباعه  بفعل ما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر وألا يعبد الله إلا بما شرع ، فعنوان محبته الاتباع وترك الابتداع ، وبناءً عليه فنقول : أعظمنا وأصدقنا محبة له أشدنا له اتباعًا وأكملنا به اقتداءً ، وبه تعلم أن الذين يحتفلون بمولده هم في الحقيقة يبغضونه وإن ادعوا حبه ؛ لأن ما يفعلونه ويقولونه من هذه البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان هي في حقيقتها مضادة لما جاء به ، ومخالفة لشريعته ، فكيف يزعمون حبه وهم يخالفون أمره ويدخلون في شريعته ما ليس منها ، وهم مع ذلك يرفضون تحكيم ما جاء به من الشرع ويستبدلونه بقوانين الشرق والغرب ، فسبحان الله ما هذا التناقض ؟
    والمقصود : أن محبته ليس عقيدة باطنية فقط ولا كلمة تقال فقط ، بل لابد مع الاعتقاد والقول تصديق ذلك بالاتباع ، والله الموفق والهادي ، فهذا بالنسبة لمحبته .
    وأما نصرته  فاعلم - يا رعاك الله تعالى - أن من تمام الموالاة أن ينصر المسلم رسول الله  بكل أنواع النصرة ، وبكل ما تحويه هذه الكلمة من معانٍ ولوازم .
    فمن جملة هذه المعاني : نصرته بالإيمان به وأنه آخر الأنبياء ، فلا نبي بعده .
    ومنها : نصرته بالذب عن سنته والدفاع عنها بما يفتحه الله على العبد من العلم النافع .
    ومنها : نصرته بالإقبال على سنته تعلمًا وتعليمًا وحفظًا وشرحًا ونشرًا .
    ومنها : نصرته بتقديم قوله على قول كل أحدٍ ، كما قال الناظم :
ذكر الحديـث تقـول شيئًا ثاني
        والقـول منـه مقـدم فاحـذر إذا

    ومنها : نصرته بطاعة أمره وترك نهيه وتصديقه في كل ما أخبر به .
    ومنها : نصرته بتعزيره وتوقيره وتعظيمه وتقديره حق قدره ، قال تعالى :  فالذين آمنوا بالله ورسوله وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون  ، وقال تعالى :  لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه ...  الآية .
    ومنها : نصرته بحب صحابته واعتقاد أنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء وأنه لا كان ولا يكون مثلهم ، والذب عنهم ونشر فضائلهم والصمت وعدم الخوض فيما جرى بينهم من الخلاف .
    ومنها : محاربة البدع بكل أنواع المحاربة الممكنة ، ولا نعني بدعة بعينها ، بل نحارب البدع كلها بكل صورها ومختلف أشكالها .
    ومنها : بيان مكانته  وفضله ونشر شمائله والتحلي بأخلاقه وسلوك سبيله واتباع سنته واقتفاء أثره وغير ذلك من معاني الاتباع .
    ومنها : قتل سابه والقادح فيه انتصارًا له  كما مضى ذكره مفصلاً في الكلام عن سب النبي - عليه الصلاة والسلام - ، قال تعالى :  وينصرون الله ورسوله  ، وقال تعالى :  وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب  .
    فإذا حقق العبد هذين الركنين فقد حقق ولايته للنبي  ، ومن المعلوم أن تحقيق الولاية كمالاً ونقصًا يتفاوت بتفاوت تحقيق هذه المقتضيات ، أعني آثار المحبة والنصرة له  ، والله أعلم .
    وأما موالاة المؤمنين فلها ركنان أيضًا ، وهما : المحبة والنصرة .
    فأما المحبة فاعلم - يا رعاك الله - أنه يجب وجوب عين على كل مسلم أن يحب إخوانه المسلمين فهم إخوة له في العقيدة وشركاء له في التوحيد ، كما قال تعالى :  إنما المؤمنون إخوة  ، وقال تعالى عن المشركين :  فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين  .
    وهـذه المحبة تقتضي أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك ، كما قال - عليه الصلاة والسلام - : (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )) متفق عليه ، فجعل النبي  ذلك الأمر شرطًا لا يتحقق كمال الإيمان الواجب إلا به .
    ومحبته أيضًا تقتضي تحقيق قوله  : (( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه ... )) الحديث .
    وتقتضي أيضًا تحقيق قوله  : (( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا )) .
    وتقتضي أيضًا التسامح والتصافح والتوادد والتعاطف والتراحم فيما بيننا .
    وتقتضي أيضًا حفظ عرضه فلا يغتاب بعضنا بعضًا ولا ينم بعضنا على بعض .
    وتقتضي أيضًا ستر عيوبه والتجاوز عن أخطائه ما أمكن ذلك .
    وتقتضي أيضًا بذل النصيحة له بلا غش كما قال - عليه الصلاة والسلام - : (( الدين النصيحة )) ، وقال : (( وإذا استنصحك فانصح له )) .
    وتقتضي أيضًا سد فاقته وإعانته بما تقدر عليه من بذل جاهٍ أو مال ونحو ذلك ، وإن مما امتدح الله به الأنصار  قوله تعالى :  والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدروهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون  ، فالمحبة بين المسلمين فرض لازم لابد من تحقيقه بتحقيق مقتضياتها وآثارها ، نسأل الله تعالى أن يعيننا على ذلك .
    وأما نصرته فاعلم أنه يجب على المسلم الذي صرف ولاءه للمؤمنين أن ينصر إخوانه في الله وأن يشد عضد إخوانه في العقيدة بما آتاه الله تعالى من قوة وقدرة ، قال تعالى :  وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق  ، فنرى المسلم الحق يشعر بأخيه المسلم في كل مكان وإن تباعدت الأقطار واختلفت الألوان واللغات والجنسيات ، فكل ذلك لا أثر له في زيادة الحب أو ضعفه ، فإنه مهما تباعدت مساقط رؤوسهم فإن الدين يشملهم والعقيدة تجمعهم .
    وهذه النصرة تقتضي أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وتعليمه إن كان جاهلاً وتذكيره إن كان ناسيًا وتخليصه من الأسر والرق إن كان مأسورًا أو رقيقًا .
    وتقتضي أيضًا اللين وخفض الجناح له كما قال تعالى :  واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين  .
    وتقتضي أيضًا محبته ومودته والحفاظ على حرمته ونصرته بالمال والنفس .
    وتقتضي أيضًا نصرته بأن يخلفه بخير في أهله وماله .
    وتقتضي أيضًا نصرته بالدعاء له .
    وتقتضي أيضًا الذب عن عرضه عند سماع غيبته .
    وبالجملة فلابد من نصره ظالمًا ومظلومًا ويوضح ذلك قوله  : (( انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا )) فقال : يا رسول الله : أنصره مظلومًا فكيف أنصره ظالمًا ؟ فقال : (( تمنعه عن الظلم فإن ذلك نصر له )) أو كما قال رسول الله  والحديث في الصحيح .
    وبالجملة فالكلام على هذه الأمور يطول ويحتمل أكثر من ذلك . والمقصود أن الولاء المشروع إنما هو الولاء لله تعالى بنصرته ومحبته ، والولاء للنبي  بنصرته ومحبته ، والولاء للمؤمنين بنصرتهم ومحبتهم ، والله يتولانا وإياك وهو أعلم وأعلى .
*  *  *
    س312: كيف يكون ولاء المؤمن لكتاب الله تعالى ؟
    ج312: يكون ولاء المؤمن لكتاب الله إذا حقق عدة أمور :
    منها : أن يعتقد أنه كلام الله منـزل غير مخلوق ، وأنه من الله بدأ وإليه يعود .
    ومنها : السعي الحثيث في تحقيق مقاصد إنزاله ، وهي تلاوته باللسان وتدبره وتعقله والتذكر والاتعاظ به وتفهمه ، قال تعالى :  كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب  .
    ومنها : العمل به بالائتمار بأوامره واجتناب زواجره وتصديق أخباره وأخذ العبرة والفائدة والدروس من قصصه وأمثاله .
    ومنها : الحذر والتحذير من تحريفه عن مواضعه أو الإلحاد في آياته بتكذيبها أو تعطيلها عن معانيها المرادة منها أو إخراجها عن مدلولاتها الصحيحة إلى معانٍ باطلة .
    ومنها : احترامه بكل أنواع الاحترام المشروعة من تعظيمه وألا يمسه إلا على طهارة كاملة وأن يبعده عن الأماكن التي لا تليق به .
    ومنها : الذب عنه ومحاربة خصومه المكذبين به وكشف زيف كلامهم وفضح أسرارهم وهتك عوارهم ودحض شبهاتهم التي يثيرونها حوله .
    ومنها : الإقبال عليه تلاوة وحفظًا وتعلمًا وتعليمًا ونشرًا .
    ومنها : التحاكم إليه عند التنازع كما قال تعالى :  فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر  ، وقد أجمع السلف على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه .
    ومنها : الاستماع والإنصات عند تلاوته تمسكًا للفائدة ولنـزول الرحمة كما قال تعالى :  وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون  .
    ومنها : الاستشفاء به ، فإن الله جل وعلا جعل هذا القرآن هدى وشفاء ، كما قال تعالى :  يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين  ، وقال تعالى :  وننـزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين  ، وقال تعالى :  قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء  .
    وإنه لما خف يقين كثير من الناس في القرآن تعلقت قلوبهم بالعلاج البدني المجرد وتركوا الاستشفاء بالقرآن ، وإلى الله المشتكى .
    ومنها : عدم التقدم عليه بقول أو فعل، كما قال تعالى:  يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله  ، فلا نقول حتى يقول ، ولا نحكم حتى يحكم وهكذا ، وبناءً على ذلك فهو المقدم على آراء الرجال ومذاهب أصحاب المذاهب ؛ لأنه الميزان الذي يوزن به الحق من الباطل والصواب من الخطأ ، فما وافقه من الأقوال فهو الحق والصواب ، وما خالفه فهو الباطل والخطأ ، فلا عبرة بقولٍ خالفه ، ولا اعتداد برأي خالفه ، ولا عبرة بمذهبٍ خالفه ، ولا عبرة بحكمٍ خالفه ، ولا عبرة باجتهادٍ خالفه ، فهو الأصل وما سواه ففرع ، وهو المتبوع وما سواه فتابع ، وهو الميزان وما سواه فموزون ، فأسأله جل وعلا أن يجعلنا وجميع إخواننا المسلمين ممن حقق الولاء للقرآن ، والله أعلى وأعلم .
*  *  *
    س313: كيف يكون ولاء المؤمن لدين الله جل وعلا ؟
    ج313: يكون ولاء المؤمن لدين الله تعالى بتحقيق عدة أمور :
    منها : حب شريعة الله تعالى ، الحب الذي يثمر العمل بها بانشراح صدر وإقبال قلب وسعادة روح .
    ومنها : تعلم أحكام هذا الدين العظيم وشرائعه ، وقد تقرر في القواعد والضوابط أن العلم الواجب على كل أحدٍ هو العلم الذي تتوقف عليه صحة العقيدة والعبادة ، وما زاد على ذلك ففرض كفاية في حق عموم الأمة وسنة في حق الأفراد ، وأعني العلم الشرعي .
    ومنها : نشره بمختلف الوسائل وعلى جميع بقاع الأرض وبذل الغالي والنفيس في سبيل ذلك ، والدعوة إليه وإيصال صورته الحقيقية المشرقة الصافية لجميع البشر على وجه هذه البسيطة ، ويتضمن ذلك : التعريف بمحاسن الإسلام والجهاد في سبيل الله تعالى .
    ومنها : الذب عن هذا الدين ، بتوضيح الاعتقاد الصحيح وكشف الشبه ومحاربة أهل الأهواء والبدع وإثبات صلاحيته المطلقة في كل زمانٍ ومكانٍ ، والله المستعان .
    ومنها : نصره بالجهاد بالنفس والمال لإعلاء كلمة هذا الدين وبإعلاء رايته خفاقة عزيزة في سائر بلاد الشرك ، ونصره بنصر قضاياه في كل المحافل ، والله المستعان ، وهو أعلى وأعلم .
*  *  *
    س314: كيف يكون ولاء المؤمن لصحابة النبي  ؟
    ج314: يكون ولاؤنا للصحابة بتحقيق عدة أمور :
    منها : أن نعتقد الاعتقاد الجازم أنهم خير البشر بعد الأنبياء والرسل ، فلا كان ولا يكون مثلهم .
    ومنها : أن نعتقد أن الله تعالى رضي عنهم ورضوا عنه .
    ومنها : أن نحبهم وننصرهم بالقول واليد والقلم وبكل ما يدخل تحت ذلك المسمى .
    ومنها : أن ننشر فضائلهم ونظهر محاسنهم للعامة والخاصة .
    ومنها : أن نمسك عن الخوض فيما شجر بينهم مع اعتقادنا الجازم أنهم في ذلك الخلاف مجتهدون محبون للحق ، فالمصيب له أجران والمخطئ له أجر واحد .
    ومنها : الذب عنهم ممن نالهم بسوءٍ أو قدح فيهم بشيءٍ بكشف عواره وهتك أستاره وفضيحة أمره وتزييف كلامه ، وألا نمكنه من ولايةٍ أو منصب وأن يهجر ويعزر بما يردعه وأمثاله عن الكلام في خيار الأمة ، وألا يتلطف معه بقولٍ أو فعل ، وإني لأعجب كل العجب في هذا الزمان فإنه لو تكلم الرافضي في بعض الملوك أو الأمراء لأخذ من تلابيب رقبته وأهين كامل الإهانة ولغيبت شمسه ، ولكنه يقع في خيار الأمة من صحابة رسول الله  وخصوصًا أبي بكرٍ وعمر - رضي الله عنهما - يقع فيهم سبًا وقدحًا ولعنًا وتكفيرًا وشتمًا ونعلم ذلك منه فلا نحرك لذلك ساكنًا ولا نتكلم عليه ببنت شفة وكأن الأمر لا يعنينا ، بل وازداد الأمر سوءًا أن نعاقب من ينكر عليه حرصًا على الائتلاف السياسي وعدم إثارة الفتن ، فيا سبحان الله إن هذا الشيء عجاب ، فاللهم إني أبرأ إليك من فعل هؤلاء ، والأمر ستكون له عاقبته الوخيمة على الأمن والاقتصاد ، بل على المجتمع بأسره حكومة وشعبًا ، فالله المستعان .
    ومنها : دراسة سيرهم وأخذ الفوائد والأخلاق والعبرة منها ، فإنهم القدوة للأمة بعد نبيها  ، فهم أبر الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلها تكلفًا ، فلابد أن تدرس سيرهم وخصوصًا للصغار حتى يتخذهم الشخص قدوة من صغره ، فإن الإنسان مدني واجتماعي بطبعه وفطرته ، فلابد أن يكون له قدوة وخير القدوة هم سلف هذه الأمة ومقدموها - أعني صحابة الحبيب  - ، فلابد من إطلاعه على سير القوم بالأسلوب المناسب وتكريرها على مسامعه ليعيش معهم بقلبه وتفكيره ، والله المستعان .
*  *  *
    س315: ما أقسام البراء ؟ مع توضيح ذلك بالدليل والتمثيل ؟
    ج315: قسم العلماء البراء إلى قسمين : البراء المطلق ، ومطلق البراء ، وبمعنى آخر نقول : البراء الكلي ، والبراء الجزئي .
    ونعني بالبراء المطلق أو البراء الكلي ، أي البراء التام من الفعل وصاحب الفعل ، كما قال تعالى عن إبراهيم والذين آمنوا معه :  قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا حتى تؤمنوا بالله وحده ...  الآية ، فالمراد بالبراءة هنا البراءة المطلقة الكلية التامة الأبدية حتى يحصل منهم الإيمان .
    وهذا البراء أو نقول : هذه البراءة الكلية لها مقتضيات حتى تكون براءة صادقة ، وهي العداوة الكاملة التي لابد من ظهور آثارها على الجوارح من مجانبتهم المجانبة التامة وعدم العيش معهم والاستئناس بهم أو التشبه بهم في شيء من عباداتهم وعاداتهم وهكذا .
    وتقتضي أيضًا وجود البغضاء المطلقة في القلب ، ولذلك فإن الله قال في الآية السابقة :  وبدا  أي : بسبب هذه البراءة التي تقدم ذكرها  بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا  ، فمن تحقق فيه مقتضى البراءة المطلقة فلابد أن نتبرأ منه البراءة المطلقة التي تقتضي عداوته العداوة المطلقة وبغضه البغض المطلق ، وهذا فرض واجب على كل أحد ، وهي من الأمور التي نتقرب بها إلى الله تعالى ، وأنت خبير - إن شاء الله تعالى - أن البراءة المطلقة إنما تكون في حق الكافر الكفر الأكبر ، والمشرك الشرك الأكبر ، والمنافق النفاق الاعتقادي ، فالكافر لابد أن نتبرأ منه البراءة المطلقة ونعاديه ونبغضه المعاداة والبغض المطلق ، والمشرك شركًا أكبر لابد أن نتبرأ منه البراءة المطلقة ونعاديه ونبغضه المعاداة والبغض المطلق ، والمنافق النفاق الأكبر لابد أن نبرأ منه البراءة المطلقة ونعاديه ونبغضه المعاداة والبغض المطلق للآية السابقة ، ولقوله تعالى :  لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ...  الآية ، ولقوله تعالى :  لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة  أي أن من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم فله أن يتقيهم بظاهره فقط لا بباطنه ونيته ، وذلك كما قال أبو الدرداء  : (( إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم )) رواه البخاري . وقال الثوري : قال ابن عباس : (( ليس التقية بالعمل وإنما التقية باللسان )) اهـ .
    وقال تعالى :  يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين  ، وقال تعالى :  يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون  ، وقال تعالى منكرًا على من يوالي الكفار :  الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعًا  ، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًا ، وهي تفيد إفادة وجوب البراءة المطلقة لمن اتصف بالكفر أو الشرك الأكبر أو النفاق الاعتقادي ، فهذا بالنسبة للبراء المطلق أو البراء الكلي .
    وأما مطلق البراء أو البراء الجزئي ، فإنه يكون لعصاة الموحدين سواءً كانت المعصية معصية شهوة أو شبهة ، ويدخل في ذلك المبتدعة الذين لم يكفروا ببدعتهم كالأشاعرة والمعتزلة والماتريدية والخوارج والكلابية والمرجئة ونحوهم ، فنبرأ منهم لكن ليس البراء المطلق ؛ لأن معهم أصل الإسلام وإنما نبرأ منهم مطلق البراء أي بعض البراء لا كل البراء ، ومطلق البراء ممن تحقق فيه ما يقتضيه ، يوجب مطلق العداوة أي بعضها لا كلها ، ويوجب مطلق البغضاء أي بعضها لا كلها ، وهذا يؤيد مذهب أهل السنة أنه قد يجتمع في الشخص الواحد موجب المحبة والعداوة ، وموجب الثواب والعقاب ، وبعبارة أخرى نقول : عصاة الموحدين نحبهم ونواليهم بما معهم من الإيمان ، ونبغضهم ونعاديهم بما معهم من الفسوق والعصيان ، ونضرب لك أمثلة ليتضح لك الأمر - إن شاء الله تعالى - فأقول :
    منها : عبدالله بن أبي بن سلول ، نبرأ منه البراءة المطلقة ونبغضه البغض المطلق ونعاديه المعاداة المطلقة ؛ لأنه منافق النفاق الأكبر ، بل هو عند أهل العلم رأس المنافقين .
    ومنها : أبو لهب وأبو جهل ، نبرأ منهما البراءة المطلقة ونبغضهما البغض المطلق ونعاديهما المعاداة المطلقة ؛ لأنهما كافران ومشركان ، بل هما رأس كفار هذه الأمة ، لعنهم الله وأبعدهم وسحقًا لهم ثم سحقًا .
    ومنها : الأشعري - وأعني به من يعتقد معتقد الأشاعرة - ، نبرأ منه مطلق البراءة ونبغضه مطلق البغض ونعاديه مطلق العداوة ؛ وذلك لأن معه أصل الإسلام ، ولكنه جاء بهذه البدع المخالفة للشريعة ، فنبغضه بقدر ما عنده من البدع .
    ومنها : ما يقول : الإيمان لا يزيد ولا ينقص ، لاشك أنه جاء ببدعة مخالفة للشريعة ولما أجمع عليه أهل السنة قاطبة ، ويسمَّون المرجئة ، فهؤلاء لا يكفرون الكفر الأكبر ، ولكنهم يوصفون بالمبتدعة ، فهم موحدون ، لكن عندهم هذه البدعة ، فنبرأ منهم مطلق البراءة ونبغضهم مطلق البغض ونعاديهم مطلق العداوة ، أي أن هذه البراءة والعداوة والبغض تكون بقدر ما معهم من المخالفة .
    ومنها : السراق والزناة وشاربو الخمر وقطاع الطريق والبغاة وسائر أصحاب المعاصي ، فهؤلاء لا يخرجون من دائرة الإسلام بهذه المعاصي ، بل ينقص إيمانهم بقدر ما عندهم من المعصية ، وبناءً عليه فنبرأ منهم مطلق البراءة ونبغضهم مطلق البغض ونعاديهم مطلق العداوة ، ويكون ذلك بقدر ما مع كل واحدٍ منهم من المعصية وهكذا ، وعليه فقس ، ولعل الأمر اتضح - إن شاء الله تعالى - ، وأزيده وضوحًا بذكر خلاصته فأقول :

البراء

 

 

*  *  *
    س316: هلا ضربت لنا أمثلة على موالاة الكفار لنحذرها ونحذِّر منها ؟
    ج316: نعم وعلى الرحب والسعة ولا منة لي في ذلك ، بل الفضل كله والخير كله والمنة كلها لله جل وعلا ، فهو الموفق والهادي والمنعم والمتفضل ، فالحمد لله على فضله وإحسانه أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا ، وما أنا إلا خويدم لك في إيصال ما فتحه الله علي من العلم النافع وأعوذ بالله من غرور النفس ومن الرياء ، وأسأله جل وعلا الإخلاص في القول والعمل .
    فأقول : الأمثلة على موالاة الكفار كثيرة ، ولكن نذكر لك أهمها فأقول :
    منها : الرضا بكفرهم وعدم تكفيرهم أو الشك في كفرهم أو تصحيح أي مذهبٍ من مذاهبهم الكافرة ، وهذه الصورة ناقضة للتوحيد من أساسه وقد جعلها العلماء من جملة نواقض الإسلام ، فنبرأ إلى الله منها ومن أهلها ، والله أعلم .
    ومنها : التولي العام للكفار باتخاذهم أنصارًا وأعوانًا وأصدقاء وإخوانًا أو الدخول في دينهم أو إعانتهم على مراسم كفرهم بقولٍ أو عمل ، والله المستعان .
    ومنها : التحاكم إليهم عند نزول الحوادث وترك التحاكم للشريعة ، فما أن تنـزل نازلة بالمسلمين إلا ويرفعون الأمر إلى الكفار ليحكموا فيه ، وهذا خطير جدًا ؛ لأنه نوع من الإيمان بما هم عليه من الكفر ، قال تعالى :  ألم ترى إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيدًا  ، والله أعلم .
    ومنها : مودتهم ومحبتهم والسعي الحثيث في تحقيق ما يرضيهم ولو كان على حساب الإسلام وقضاياه ، وهذا مزلق خطير وطامة كبيرة ، قال تعالى :  لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ...  الآية .
    ومنها : الركون إليهم ، قال تعالى :  ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون  ، والمراد بالركون إليهم أي الاعتماد عليهم في سائر الأمور أو أغلبها اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا وفكريًا وغير ذلك ، والله المستعان .
    ومنها : مداهنتهم ومجاملتهم ومداراتهم على حساب ديننا ، قال تعالى :  ودوا لو تدهن فيدهنون  .
    ومنها : اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين ، قال تعالى :  يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون  .
    ومنها : طاعتهم فيما يأمرون ويشيرون به ، قال تعالى :  ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطًا  ، وقال تعالى :  يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين  .
    ومنها : توليتهم أمرًا من أمور المسلمين كالإمارة والكتابة وقيادة الجند أو توزيرهم ، ونحو ذلك .
    ومنها : التشبه بهم فيما هو من عباداتهم أو عاداتهم ومشاركتهم في أعيادهم وفي مراسم كفرهم الخاصة بهم وتهنئتهم على ذلك .
    ومنها : تهنئتهم باستقلال بلادهم والدعاء لهم بمزيد من الرخاء والاستقرار كما هو حاصل هذه الأزمنة في كثير من بلاد الإسلام .
    ومنها : البشاشة لهم والطلاقة وانشراح الصدر لهم وإكرامهم ، وتقديمهم في المجالس وتقريبهم ، وإفساح الطريق لهم ، وبداءتهم بالسلام ، قال النبي  : (( لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه )) .
    ومنها : السكنى معهم في ديارهم وتكثير سوادهم ، وقد قال النبي  : (( من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله )) ، رواه أبو داود بإسناد حسن .
    وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم فمن ساكنهم أو جامعهم فليس منا )) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي .
    وبناءً عليه فإنه لا يجوز السفر إلى ديارهم إلا بثلاثة شروط :
    الأول : أن يكون عنده علم يمنع به الشبهات .
    الثاني : أن يكون عنده دين يمنع به الشهوات .
    الثالث : أن يكون ثمة حاجة أو ضرورة لسفره هذا كتعلم علم نافع للأمة لا يوجد في بلاد المسلمين ، أو لعلاجٍ لا يوجد في بلاد المسلمين ونحو ذلك .
    ومنها : معاونتهم على ظلمهم ونصرتهم فيه .
    ومنها : تعظيمهم بإطلاق الأوصاف عليهم كصاحب الفخامة أو السيد الرئيس أو صاحب العظمة .
    ومنها : مناصحتهم والثناء عليهم ونشر فضائلهم .
    ومنها : تفضيلهم على المسلمين ، وهذه طامة يقع فيها كثير من المغرورين بما عليه الغرب من الحضارة والتقدم .
    ومنها : التآمر معهم وتنفيذ مخططاتهم والدخول في أحلافهم وتنظيماتهم ومكاتبتهم بعورات المسلمين ونقاط الخلل فيهم .
    ومنها : فرح القلوب بانتصارهم على المسلمين كما قد فرح بعض المنافقين هذه الأزمنة بانتصار بعض دول الكفر على بعض دول الإسلام .
    ومنها ولعله آخرها : من هرب إلى ديارهم مبغضًا الإقامة في ديار المسلمين ومعتزًا بالكافرين ومحتميًا بهم كما هو حاصل من بعض المنافقين في هذه الأزمنة ، والله أعلم .
*  *  *
    س317: ما خلاصة عقيدة أهل السنة والجماعة في الولاء للكفار - باختصار - ؟
    ج317: هذا سؤال مهم ، وبيانه أن يقال :
    إن موالاتهم تختلف باختلاف الحال ، فإن من الموالاة ما يكون كفرًا وردة وانسلاخًا من الدين ، وذلك مثل : التولي المطلق ، ومودتهم لأجل دينهم وسلوكهم والرضا بأعمالهم وتمني انتصارهم على المسلمين ، وطاعتهم في التشريع ، واعتقاد مساواتهم بالمسلمين وأن المسلمين لا ميزة لهم ، والوثوق بهم وائتمانهم دون المسلمين ، ونصرتهم ومساعدتهم على حرب المسلمين ، والتشبه بهم إعجابًا واستحسانًا في قضايا التوحيد والعبادات ، وكذلك التشبه المطلق بهم ، فهذه الصور من الموالاة كفر أكبر - والعياذ بالله تعالى - .
    ومن الولاء ما يكون كبيرة من الكبائر ، لا يكفر فاعلها إلا إذا فعلها استحلالاً ، وذلك كاتخاذهم بطانة ، ومداهنتهم ، والتذلل لهم ، وملاينة الحربيين منهم ، والمبالغة في رفع شأنهم وتعظيمهم ، والدخول في سلطانهم بلا حاجة ولا اقتضاء مصلحة عامة ، والتشبه بهم في أخلاقهم وشعائرهم كالموالد والأعياد ، والإقامة عندهم لمن لا يستطيع إعلان دينه مع قدرته على الهجرة ، فهذه الصور من الولاء لا تصل إلى حد الكفر ، بل هي في دائرة الكبائر ما لم يكن مستحلاً لها .
    ومن الموالاة ما يكون أقل من ذلك ، وذلك كميل القلب غير الإرادي إلى الزوجة الكتابية أو للابن غير المسلم ، أو لمن بذل إلينا معروفًا ، أو من كان منهم صاحب خلقٍ وأدب ، أو الثقة فيهم ، أو العمل لديهم مع وجود الإهانة والاحتقار مع وجود فرص عملٍ أخرى ، أو بداءتهم بالسلام والدعاء لهم بالصحة والعافية ولبلادهم بمزيد من الأمن والاستقرار والرخاء ، أو تهنئتهم في المناسبات العادية والأفراح مثل الزواج والسلامة من الحوادث والكوراث ، ونحو ذلك ، فهذه تتراوح بين التحريم والكراهة بحسب الحال والملابسات ، والله المستعان .
    واعلم - رحمك الله تعالى - أن هناك أشياء مباحة لا تعد من باب الموالاة لهم ، وذلك كمعاملتهم بالحسنى واللطف ولاسيما المسالمين منهم ، والصدقة على محتاجيهم والإهداء إليهم وقبول الهدية منهم ، وتعزيتهم في مصائبهم على الوجه المشروع ورد التحية عليهم ، ومعاملتهم في العقود المالية المباحة وتأجيرهم المساكن والدور بشرط أن لا تكون من بنيان المسلمين المجاورين ولا تتخذ كنيسة أو دار فساد ، وكذلك استعمالهم عند الحاجة إليهم في الأمور العادية كإصلاح سيارة أو بناء مسكن أو صناعة شيء من الأشياء ، وأيضًا السفر إليهم للأغراض المباحة مع توفر الشروط المعروفة وقد تقدم ذكرها ، وكذلك زيارتهم للغرض المشروع ، ومن ذلك أيضًا مصالحتهم ومسالمتهم عند الحاجة ، والاستفادة من مخترعاتهم وصناعتهم ، وأكل طعامهم إذا كانوا من أهل الكتاب وذكروا اسم الله على ذبائحهم ، فهذه الصور وأشباهها لا تدخل في الموالاة الممنوعة ، بل هي جائزة وقد ورد لكثير منها أدلة ، لكن تركت ذكرها خشية الإطالة .
    وبهذا يتبين لك جليًا أن موالاة الكفار منها ما هو كفر وردة ، ومنه ما هو كبيرة ، ومنه ما هو صغيرة ، ومنه ما هو مكروه ، ومنه ما قد يعده البعض من الموالاة لهم وهو ليس من الموالاة لهم في شيء ، فلا يطلق على جميع صور الموالاة حكم واحد ، بل لابد من معرفة عين الصورة وإنزالها على الأدلة الشرعية والاستنارة بآراء أهل العلم الراسخين ، وفقنا الله وإياك للعلم النافع والعمل الصالح ، والله أعلى وأعلم .
*  *  *
    س318: ما حكم ما يتردد على ألسنة البعض من قولهم : ( الدين لله والوطن للجميع ) فهل لهذه الكلمة تعلق بقضية الولاء والبراء ؟
    ج318: أقول : إن هذه الكلمة كلمة ضالة خبيثة فاجرة ، يراد بها تمييع قضية الولاء والبراء ، وهي من وسائل مكر الكفرة من اليهود والنصارى وغيرهم بالمسلمين ، فإن مفادها ومؤداها تمييع قضية المحبة والعداوة وعدم التمييز بين الطيب والخبيث ، فيعيش المسلم مع الكافر دون تحديد شخصية ولا معرفة دين ولا بيان معتقد ، ويعيش الجميع تحت راية واحدة وأنه لا اعتبار باختلاف الأديان والاعتقادات والملل والنحل ما دام الوطن واحدًا ، ولا حق لأحدٍ من أفراد هذا الوطن أن ينكر على الفرد الآخر ما يدين به ويعتقده ، فكل يعتقد ما يشاء فهو حر في اعتقاده ولا دخل لأحدٍ فيه .
    وهذه دعوى لنبذ التفريق بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن ، وبين حزب الله المفلحين وحزب الشيطان الهالكين ، ومؤداها ترك الإنكار والأمر بالمعروف ، وهي نفخة علمانية خبيثة يراد بها تعظيم صورة الوطن في النفوس وتقديم الوطنية على أخوة الدين ، فالواجب رفضها والبراءة منها والإنكار على من يتلفظ بها ، وهي كقولهم : ( ما لله لله وما لقيصر لقيصر ) ، أي أن الدين حقه جل وعلا وأما المواطنة فهي حق الجميع ، فالجميع يعيش تحت راية واحدة ، فتكون المحبة والعداوة والولاء والبراء مرتبطة بالمصالح الدنيوية الشخصية والعلاقات المادية ، ولا دخل للعقيدة والدين فيها ، فنعوذ بالله من فساد العقائد وخداع الألفاظ البراقة ، فالحذر الحذر - أيها الأخ المبارك - من هذه الكلمة ، فإنه يراد بها إزهاق روح الأخوة الإيمانية وإذهاب هيبة الولاء والبراء ، والله المستعان ، وهو أعلى وأعلم .
    س319: كيف يتعامل المسلم مع المنافقين ؟ مع توضيحها بالدليل ؟
    ج319: أقول : المسلم في كل مصادره وموارده لابد أن يكون تابعًا للدليل من الكتاب والسنة ، وهذه المسألة قد فصلتها الأدلة الصحيحة الصريحة ، فيتعامل المسلم مع المنافقين كما كان النبي  يتعامل معهم فإنه القدوة الحسنة فداه روحي وأبي وأمي والناس أجمعين ، وقد ذكرها الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى ورفع نزله في عليين - في كتابه زاد المعاد ، فقد ذكر أن سيرته  أنه كان يأمر بقبول علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى ، وأنه كان يجاهدهم بالحجة والعلم ، وأن الله أمره أن يعرض عنهم ، وأمره أن يغلظ عليهم وأن يبلغ القول البليغ إلى نفوسهم ، ونهاه أن يصلي عليهم وأن يقوم على قبروهم ، وأخبر أنه إن استغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر لهم ، فهذه تسع مسائل هي مجمل الجواب ، وإليك هذه المسائل مقرونة بأدلتها فأقول :
    نتعامل مع المنافقين بما يلي :
    أولاً : قبول علانيتهم ، ودليل ذلك : أنه  كان يسمح لهم بالخروج معه للجهاد وبالدخول في المسجد وبالصلاة معه ، ولما تخلف طائفة منهم في غزوة تبوك جاءوا واعتذروا وحلفوا بالله أنهم لم يستطيعوا الخروج ولا عدة عندهم ويخافون من الفتنة ، فقبل منهم علانيتهم واستغفر لهم وكان يقول : (( أتريد أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه )) ، وغير ذلك من الأدلة ، وإنه مع علمنا اليقيني بوجودهم في عهده  إلا أننا لم نقرأ ولا نعرف أنه عامل أحدًا منهم بما يسره في قلبه ، وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة .
    ثانيًا : توكيل سرائرهم إلى الله تعالى ، ذلك لأن النفاق أمر باطني لا يرى ، ولكن له علامات وهم يحاولون إخفاء هذه العلامات ، ونحن مأمورون بالأخذ بالظاهر ، وأما أمر السرائر فإنه إلى الله تعالى ، ويستدل على ذلك بما سبق من الأدلة ، فإن قبول علانيتهم يلزم منه أنه لم ينظر إلى ما يسرونه من النفاق في قلوبهم ، والله المستعان .
    ثالثًا ورابعًا : مجاهدتهم بالعلم والحجة والإغلاظ عليهم ، قال تعالى :  يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير  ، والمجاهدة هنا تختلف ، والمراد مجاهدة المنافقين ، فإنها مجاهدة بالحجة والبرهان لا بالسيف والسنان .
    خامسًا : الإعراض عنهم ، قال تعالى :  سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون  ، وقال تعالى :  ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً  .
    سادسًا : إغلاظ القول لهم وإقامة الحجة عليهم ، قال تعالى :  أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغًا  .
    سابعًا : أننا لا نصلي على أحدٍ ثبت نفاقه يقينًا ، وذلك لقوله تعالى :  ولا تصل على أحدٍ منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره  .
    ثامنًا : أننا لا نشهد جنائزهم ولا نقوم على قبورهم كما في الآية السابقة ، والشاهد منها قوله :  ولا تقم على قبره  ، فيدل ذلك على المنع من شهود جنائزهم والقيام على قبورهم .
    تاسعًا : أن لا نستغفر لهم ، كما قال تعالى :  استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم  ، وقال تعالى :  سواءً عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين  .
    فهذا هو منهجنا في التعامل معهم ، ولكن أنبهك على أمر مهم وهو أن الحالات التسع السابقة إنما هي فيمن ثبت نفاقه يقينًا بالقرائن الواضحة التي لا تحتمل الشك والتردد في حاله وإلا فلا ينبغي اتهام أحدٍ بالنفاق ، عافانا الله وإياك من هذا البلاء الخطير ، والله أعلم .
*  *  *
    س320: اذكر لنا شيئًا من صفات المنافقين مؤيدة بالأدلة حتى نَحْذَرَ من الاتصاف بها ونُحَذِّر المسلمين منها ؟
    ج320: صفاتهم كثيرة وقد فضحهم الله في القرآن غاية الفضيحة وبيَّن مكنون نفوسهم وما تحمله صدورهم من الغل والحسد والحقد لعباد الله تعالى ، وبالتتبع لبعض الآيات والسور والأحاديث تبين لنا من صفاتهم ما يلي :
    فمنها : إخلاف الوعد ونقض المواثيق ، قال تعالى :  ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصَّدَّقنَّ ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون  .
    وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة  : (( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن خان )) ، وهذه الصفة من أبرز صفاتهم قبحهم الله تعالى .
    ومنها : الكذب في الحديث والخيانة في الأمانة والفجور في المخاصمة ، قال النبي  : (( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا أؤتمن خان ، وإذ حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر )) متفق عليه .
    ومنها : لمز المؤمنين في صدقاتهم وتعبداتهم ، كما قال تعالى :  الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم  .
    ومنها : التذبذب بين فريق الإيمان وفريق الكفار ، كما قال تعالى :  مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء  ، فهم يتكيفون حسب غلبة أحد الفريقين ، فإن كانت الغلبة للكفار قالوا : ألم نكن معكم ونمنعكم من المؤمنين ، وإن كانت الغلبة للمؤمنين قالوا : نحن معكم على الإسلام ضد الكفار ، فهم كما قال رسول الله  : (( مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذا مرة وإلى هذا مرة )) رواه مسلم من حديث ابن عمر  .
    ومنها : أنهم يفسدون في الأرض بدعوى الإصلاح ، كما قال تعالى :  وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون  .
    ومن إفسادهم أن يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ، كما قال تعالى :  المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون  .
    ومن إفسادهم أنهم يريدون التحاكم إلى الطاغوت ، كما قال تعالى :  ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيدًا  .
    ومن إفسادهم أنهم إذا دعوا لتحكيم الكتاب والسنة صدوا عن الداعي صدودًا وأعرضوا عنه إعراضًا ، كما قال تعالى :  وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودًا  ، فنعوذ بالله منهم ومن حالهم .
    ومنها : السخرية من عباد الله الصالحين وحزبه المفلحين ، كما قال تعالى :  فيسخرون منهم سخر الله منهم  ، وقال تعالى :  وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون  ، فيسخرون من اللحية وتقصير الثـوب والحجاب والأذان وغير ذلك ، بـل ويسخرون بأعظم من ذلك وهو تطبيق الشريعة - والعياذ بالله - ، فيصفون من يطبق الشريعة بالتأخر والأصولية والرجعية والإرهاب وغير ذلك من الأوصاف التي يقصدون بها السخرية والاستهزاء واللمز ، نسأل الله تعالى أن يكفينا شرهم ، قال تعالى :  ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم  .
    ومنها : مخادعة المؤمنين والكيد لهم بالتخطيط والتدبير ، قال تعالى :  يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون  .
    ومنها : أنهم يريدون إشاعة الفتنة والفاحشة بين المسلمين وخصوصًا في أمور الجهاد ، كما قال تعالى :  لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين  ، وقال تعالى عنهم في سياق الآيات المحاربة للإفك :  إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون  ، وقال تعالى :  لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون  .
    ومنها : كراهتم للإنفاق في سبيل الله ، بل كراهتم للشريعة جملة وتفصيلاً ، وأنهم لا يقومون ولا يأتون للصلاة إلا وهم كسالى ، كما قال تعالى :  وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله ورسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون  ، وقال تعالى عنهم :  إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى  ، ويزداد ثقل الصلاة عليهم في العشاء والفجر ، كما قال - عليه الصلاة والسلام - : (( أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا )) ، وهذا الكسل والتثاقل عن الإتيان للصلاة جعل كثيرًا منهم يؤخرون الصلاة عن وقتها وينقرونها نقر الغراب ، كما قال - عليه الصلاة والسلام - : (( تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعًا لا يذكر الله تعالى فيها إلا قليلاً )) رواه مسلم .
    ومنها : الخوف الشديد الذي استحكم على عقولهم وقلوبهم حتى صار صفة راسخة ، كما قال تعالى :  أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت  الآية ، ونحو هذه الآية .
    ومنها : الفرح بانتصار الكفار ، والاستياء من انتصار أهل الإسلام ، كما قال تعالى :  إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون  .
    ومنها وهو خاتمتها : اختلاف بواطنهم مع ظواهرهم ، فظواهرهم مختلفة عن بواطنهم ، فهم يدَّعون الإيمان ويبطنون الكفر ، كما قال تعالى :  ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين  ، ويدعون حب المؤمنين ويبطنون بغضهم والحقد عليهم ، كما قال تعالى :  ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور  .
    فهذه بعض صفاتهم وهي أهمها ، وإلا ففي النصوص أكثر من ذلك ، فنعوذ بالله من النفاق كله ، والله أعلى وأعلم .
*  *  *
    س321: اذكر لنا شيئًا من صور الموالاة للمنافقين ؟
    ج321: الصور كثيرة ، ولكن أذكر لك أهمها فأقول :
    من هذه الصور : التلطف معهم ، وشهود جنائزهم ، والصلاة عليهم ، وتقديمهم في المجالس ، وأن يقال لهم : يا سيد ، وأعظم من هذا : يا صاحب العظمة ونحو ذلك ، وفي الحديث : (( لا تقولوا للمنافق يا سيد ... )) الحديث .
    ومن هذه الصور أيضًا : توليتهم المناصب الدينية والدنيوية ، وإظهار الاحترام لهم ، واصطفاؤهم على المؤمنين ، وتقريبهم ، وفرض الأعطيات لهم من بيت مال المسلمين ، والإصغاء لحديثهم وتصديقه والعمل بموجبه .
    ومن الصور أيضًا : تسليطهم على مناهج التعليم ، ليضعوا فيها ما يشاءون ويحذفون ما يشاءون ويصيغوا للأمة ما تمليه عليهم شياطينهم من الإنس والجن ، وهذه طامة كبرى ومزلق خطير جدًا ، فإذا تولت هذه الفئة الفاسدة مناهج الأمة وفتح لها الباب في صياغة هذه المناهج على الوجه الذي يريدونه فقل على الأمة السلام ، ولذلك فيجب على ولي الأمر حفظ مناهج الأمة من عبث العابثين ونفاق المنافقين ، وكل سيقف بين يدي الله تعالى ويحاسبه على عمله .
    ومن الصور أيضًا : الدفاع عنهم ، وفرض العقوبات على من يصفهم بالنفاق ، أو يحاربهم أو يمس مشاعرهم ، ومن عجائب زمننا والعجائب كثيرة أن بعض الدول المجاورة لبلاد الحرمين تعاقب بالسجن سنة أو أقل أو أكثر لمن يقول للرافضي : يا رافضي ! فأي موالاة بعد هذه الموالاة ؟ وبعض الدول تمنع منعًا باتًا دخول أو طباعة الكتب التي تبين فضائح الرافضة أو بعض الفرق ، ألا فشاهت وجوه أهل النفاق وخاب مسعاهم ، فإنهم يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون .
    ومن الصور أيضًا : تمكينهم من وسائل الإعلام ، كالتلفاز والإذاعة المسموعة والجريدة المقروءة وغير ذلك ، وما فسد الإعلام إلا لما تولته هذه الفئة الفاسدة ، وهذا غش للرعية ، فالواجب على ولاة أمور المسلمين أن يتقوا الله تعالى في رعاياهم وأن يحفظوا عليهم دينهم وأخلاقهم ، فلا يولون في هذه المناصب المهمة المؤثرة إلا أهل الكفاءة من أهل الدين والصيانة والغيرة والصلاح ، وأنا في هذه النصيحة لا أخص إعلام دولة بعينها ، بل الكلام عام لكل إعلام المسلمين في سائر الدول ، والله أسأل أن يعين ولاة الأمور على القيام بهذه الأمانة العظيمة والحمالة الكبيرة وأن يغفر لنا ولهم ولجميع المسلمين زللنا وتقصيرنا في العلم والعمل والدعوة ، فالكل يقصر، ولكن الموفق هو من إذا ذكر تذكر ، وإذا وعظ انتصح، والله تعالى أعلى وأعلم.
*  *  *
    س322: هل يجوز السفر لبلاد الكفر ؟
    ج322: الأصل أن الذهاب إلى ديار الكفر ممنوع ، وذلك لما فيه من تعريض الإنسان نفسه إلى الفتنة في دينه وماله ونفسه وأهله ، فكم ممن ذهب وعاد متنكرًا لدينه ووطنه وعادات قومه السامية وتقاليدهم ، وقد تقرر بالدليل أن الذهاب إلى ديارهم من جملة الموالاة لهم ، وقد تقرر أيضًا أن من مقتضيات البراء منهم مجانبتهم ومصارمتهم المجانبة والمصارمة المطلقة ، وقد تقرر أيضًا في القاعدة الشرعية الكبرى أن هذه الشريعة المباركة جاءت لتقرير المصالح وتكمليها وتعطيل المفاسد وتقليلها ، ومن المعلوم أيضًا أن المتقرر أيضًا أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، وبناءً عليه فالأصل في السفر لديار الكفر المنع والتحريم ، فلا يجوز الذهاب إليهم ، ويزداد الأمر منعًا وتحريمًا إذا كان المقصود من السفر للإقامة بينهم ، ويزداد الأمر سوءًا على سوءٍ ويعظم التحريم إذا كان ذهابه إليهم لطلب العزة منهم بالحماية والنصرة التمكين - نعوذ بالله من الخذلان - ، لكن لما تفاقم الأمر وعظمت البلية وانفتحت البلاد بعضها على بعض نظر العلماء أن من براءة الذمة مع كثرة السفر إلى ديار الكفار ، أن يشترطوا شروطًا من باب النصح للأمة للحفاظ على دينها وأخلاقها ، فقالوا : لا يجوز السفر إلى بلاد الكفار إلا لمن استجمع ثلاثة شروط :
    الأول : أن يكون عنده علم من الكتاب والسنة يستطيع به أن يدفع ما قد يرد عليه أو يراه من الشبه في أمور الاعتقاد والتشريع ، فإن الأمر في بلاد الكفر مفتوح على مصراعيه ، فكل أصحاب المذاهب الباطلة والأهواء المختلة والآراء المعتلة يجدون الفرصة لطرح معتقداتهم الفاسدة وتصوراتهم المخالفة للكتاب والسنة ، فضلاً عن شبه الكفرة التي يثيرونها حول الإسلام على وجه العموم ، أو حول بعض قضاياه وما أكثر هذه الشبه وشدة وقعها على الجاهل الذي لا حظ له من علم النبوة ، وقد تقرر أن من الضرورات الخمس التي جاءت بها الشرائع حفظ الدين ، فمن لم يك يحمل شيئًا من علم الشريعة الذي يحميه من هذه الشبه فلا يجوز له الذهاب إلى ديار الكفار ، وهذا شرط أساسي لابد من مراعاته ولا ينبغي التساهل فيه .
    الثاني : أن يكون عنده دين وورع وتقى يمنعه من مواقعة الشهوات ، وذلك لأن بلاد الكفر تعج فيها الشهوات بمختلف أنواعها وتباين أشكالها ، وتحصيلها لا كلفة فيه ، ففيها الزنا الظاهر ، وشرب الخمر الظاهر ، وغير ذلك من المنكرات ، فلابد أن يكون الذاهب هناك ذا دين وتقى وورع ومراقبة لله تعالى ، حتى يكون ذلك مانع له وزاجر لنفسه عن مواقعة شيء من هذه المنكرات ، ولكم ولكم رأينا وسمعنا عن أشخاص ذهبوا إلى هناك وليسوا على دين يمنعهم ويزجرهم فغرقوا في مستنقعات الشهوات وعفن المنكرات ، فهذا أيضًا شرط أساسي ، فلا يجوز للعبد أن يعرض دينه للفتن ، فإن العبد لا تؤمن عليه النكسة - والعياذ بالله - .
    الثالث : أن يكون الداعي لهذا السفر حاجة لا تنقضي إلا به ، وذلك كعلاج لا يوجد في بلاد الإسلام ، أو يوجد فيها ولكن يحتاج المريض إلى تقنية أعلى من التقنية الموجودة في بلاد الإسلام ، وكالذهاب للدعوة إلى الله تعالى ، وكالسفر لتسويق أو شراء سلع من هذه البلاد الكافرة ونحو ذلك .
    وبناءً عليه فإذا لم تكن ثمة حاجة لهذا السفر فلا يجوز حينئذٍ ، واعلم - رحمك الله تعالى - أنه ليس من الحاجة السفر للسياحة للنـزهة والفرجة وتتبع الآثار ونحو ذلك ، بل نقول كما قال كثير من الأئمة : إن السياحة في البلاد بلا مقصود شرعي ليست من الإسلام في شيء .
    فإذا توفرت هذه الثلاثة جاز السفر حينئذٍ ، وكل سيقف بين يدي ربه ويحاسبه على عمله ويسأله عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه ، والله أعلم .
*  *  *
    س323: ما القواعد التي يجب مراعاتها في الحكم على الآخرين ؟ اذكرها مجملة ؟
    ج323: هذه القواعد كثيرة وقد كتبت فيها مؤلفًا مستقلاً فراجعه إن شئت ، وخلاصة هذه القواعد كما يلي :
    القاعدة الأولى : يجب صون المنطق عن الحرام ويسن كفه عن المكروه وفضول المباح .
    القاعدة الثانية : لنا الظاهر والله يتولى السرائر .
    القاعدة الثالثة : صفاء السريرة على المحكوم عليه وإحسان الظن به مطلب أساسي في الحكم عليه .
    القاعدة الرابعة : ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه .
    القاعدة الخامسة : من وقع في مكفر أو مبدع أو مفسق فإنه لا يحكم عليه بمقتضاه إلا بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع .
    القاعدة السادسة : الحكم العام على الأقوال والأفعال لا يستلزم انطباقه على الأفراد قطعًا إلا بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع .
    القاعدة السابعة : لا تقوم الحجة على المعين إلا بعد بلوغها وفهمها مطلق الفهم .
    القاعدة الثامنة : لا يحكم على الغير لمخالفته شيئًا ثبت الخلاف فيه لاسيما إذا كان قويًا.
    القاعدة التاسعة : يجب في الحكم على الغير النظر في القرائن المصاحبة للقول والفعل .
    القاعدة العاشرة : طلب العذر للمخالف مقدم على الحكم عليه .
    القاعدة الحادية عشرة : لازم القول ليس قولاً إلا بعد عرضه وقبوله .
    القاعدة الثانية عشرة : من العدل والإنصاف أن يغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه .
    القاعدة الثالثة عشرة : الحكم على الآخرين وقف على العلماء الراسخين .
    القاعدة الرابعة عشرة : لا تبنى الأحكام على الإشاعات والنقول والأراجيف .
    فهذه جملة من قواعد في الحكم على الآخرين وقد ذكرتها بأدلتها وفروعها وتفاصيلها في الكتاب المذكور ، والله يحفظك ويرعاك ، وهو أعلى وأعلم .
*  *  *
    س324: عرف الساعة اصطلاحًا ، مع بيان إطلاقاتها .
    ج324: الساعة اصطلاحًا : هي الوقت الذي تقوم فيه القيامة .
    سميت بذلك : لأنها تأتي بغتة كما قال تعالى :  ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة  ، فهي تأتي والناس غافلون ، فيموت الخلق كلهم بصيحة واحدة ، وذكر أهل العلم - رفع الله درجاتهم في الفردوس الأعلى - أن الساعة تطلق ويراد بها معانٍ ثلاث :
    الأول : الساعة الصغرى ، ويراد بها موت الإنسان ، فمن مات فقد قامت قيامته لدخوله بالموت في عالم البرزخ الذي هو أول عوالم الآخرة .
    الثاني : الساعة الكبرى ، ويراد بها القيامة الكبرى ، وهي المرادة بلفظ الساعة في القرآن ، كقوله تعالى :  يسألك الناس عن الساعة  ، وكقوله تعالى :  وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب  ، وكقوله تعالى :  يسألونك عن الساعة أيان مرساها  ، وكقوله تعالى :  وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب  ، وغير ذلك من الآيات .
    الثالث : تطلق الساعة أحيانًا ويراد بها موت أهل القرن الواحد ، كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة  قالت : كانت الأعراب إذا قدموا على النبي  سألوه عن الساعة ، متى الساعة ؟ فينظر إلى أحدثهم سنًا فيقول : (( إن يعش هذا لم يدركه الهرم حتى قامت عليكم الساعة )) . قال هشام : يعني موتهم . فإذا مات أهل القرآن فإنه يقال : قامت قيامتهم .
    وبعض أهل العلم يقول : الساعة لها ثلاث معانٍ : صغرى ، ووسطى ، وكبرى ، ويعني بالصغرى موت الفرد ، وبالوسطى موت أهل القرن ، وبالكبرى القيامة الكبرى ، وهو خلاف في عبارة ، والله تعالى أعلى وأعلم .
*  *  *
    س325: ما أقسام أشراط الساعة باعتبار ذاتها ، وباعتبار ظهورها من عدمه ؟
    ج325: أقول : قسَّم أهل العلم أشراط الساعة باعتبار ذاتها إلى قسمين : أشراط صغرى ، وأشراط كبرى ، ويجمعها قول الله عز وجل :  فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها  ، وذكر أهل العلم - رحمهم الله تعالى - أن الأشراط الصغرى هي التي تتقدم الساعة الكبرى بأزمانٍ بعيدة متطاولة ، وتكون في أصلها معتادة الوقوع ، مثل : قبض العلم ، وظهور الجهل ، وشرب الخمور ، ونحو ذلك مما سيأتي - إن شاء الله تعالى - .
    وأما الأشراط الكبرى ، فهي التي تقارب قيام الساعة مقاربة وشيكة سريعة ، وتكون في ذاتها غير معتادة الوقوع ، كالدخان ، والدجال ، وطلوع الشمس من مغربها ، ونحو ذلك مما سيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى - .
    وبه تعلم أن أشراط الساعة الصغرى تختلف مع الكبرى من عدة فروق : أحدهما : أن الأشراط الصغرى تتقدم قيام الساعة بأزمنة كبيرة مديدة ، وأما الأشراط الكبرى في التي تقارب قيام الساعة جدًا .
    والفرق الآخر : هو أن الأشراط الصغرى معتادة في ذاتها ، وأما الأشراط الكبرى فإنها في ذاتها غير معتادة .
    فهذا بالنسبة لتقسيم أشراط الساعة باعتبار ذاتها .
    وأما أقسامها باعتبار ظهورها من عدمه ، فقد قسمها أهل العلم إلى ثلاثة أقسام :
    الأول : قسم منها ظهر وانقضى .
    الثاني : قسم ظهر ولا زال يتتابع ويكثر .
    الثالث : قسم لم يظهر إلى الآن .
    فأما القسمان الأولان فهما من أشراط الساعة الصغرى ، وأما القسم الثالث فهو الأشراط الكبرى وبعض الأشراط الصغرى ، والله أعلم .
*  *  *
    س326: عدد لنا بعض أشراط الساعة الصغرى مقرونة بأدلتها مع شيء يسير من تفاصيلها ؟
    ج326: أشراط الساعة الصغرى كثيرة جدًا ، ونذكر منها ما يلي :
    فمنها : بعثة النبي  ، فإن بعثته  علامة على قرب قيام الساعة ، ففي حديث سهل بن سعد الساعدي  قال : قال رسول الله  : (( بعثت أنا والساعة كهاتين )) ويشير بإصبعيه فيمدهما . رواه البخاري . ولمسلم نحوه عن أنس وفيه : وضم السبابة والوسطى ، وعـن قيس بن أبي حازم عن أبي جبير مرفوعًا : (( بعثت في نسم الساعة )) وصححه الألباني - رحمه الله تعالى - ، والمراد بنسم الساعة ، أي أول هبوب ريحها ، أي أنه بعث في أول أشراط الساعة ، وإشارته  بالسبابة والوسطى يحتمل أمرين :
    أحدهما : أن الساعة تعقب بعثته كما أن الوسطى هي التي تعقب السبابة ولا إصبع تفصل بينهما ، بل هما متقاربتان لا يفصل بينهما شيء .
    الثاني : أن الوسطى أطول من الإصبع السبابة بشيءٍ يسير ، فكأن المدة بين بعثته وقيام الساعة إنما هو كفضل الوسطى على السبابة ، والمقصود أن المراد من هذه الأحاديث الإخبار بقرب بعثته  من قيام الساعة ، فالله المستعان .
    ومن الأشراط الصغرى : موته  بأبي هو وأمي ، ففي الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه بسنده عن عوف بن مالك  قال : قال رسول الله  : (( اعدد ستًا بين يدي الساعة : موتي ، ... )) الحديث ، فموته  من أعظم المصائب التي وقعت على الأمة ، والله أعلم .
    ومن الأشراط الصغرى : فتح بيت المقدس ، فقد جاء في حديث عوف المذكور آنفًا : (( اعدد ستًا بين يدي الساعة )) ، وذكر منها : (( وفتح بيت المقدس )) ، وقد تم هذا الفتح في عهد عمر بن الخطاب  سنة ست عشرة من الهجرة ، وذهب عمر بنفسه وصالح أهلها وفتحها وطهرها من اليهود والنصارى ، وبنى بها مسجدًا في قبلة بيت المقدس ، والله أسأل أن يعيد هذا الفتح في هذا الزمان الذي سيطر فيه أولاد القردة والخنازير على هذه البقعة الطاهرة وما ذلك على الله بعزيز .
    ومن الأشراط أيضًا : طاعون عمواس ، وهي بلدة بفلسطين على ستة أميال من الرملة على طريق بيت المقدس ، فقد جاء في حديث عوفٍ السابق : (( اعدد ستًا بين يدي الساعة )) وذكر منها : (( ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم )) .
    فقوله : (( موتان )) هو عبارة عن الموت الكثير الوقوع ، وقوله : (( قعاص الغنم )) هو داء يصيب الدواب فيسيل من أنوفها شيء فتموت فجأة .
    وقد ذكر ابن حجر - رحمه الله تعالى - أن هذه الآية يقال إنها خرجت في طاعون عمواس في خلافة عمر ، وكان ذلك بعد فتح بيت المقدس ، فقد انتشر هذا الوباء العام في كورة عمواس ثم انتشر في الشام جميعها ، فمات فيه خلق كثير من الصحابة وغيرهم ، فقد مات فيه أكثر من خمسة وعشرين ألفًا من المسلمين ، فنعوذ بالله من البلاء والوباء ، والله أعلم .
    ومن الأشراط أيضًا : ظهور المدعين للنبوة ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة  عن النبي  قال : (( لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله )) ، وفي حديث ثوبان  قال : قال رسول الله  : (( لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين ، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان ، وإنه سيكون في أمتي ثلاثون دجالون كذابون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي )) رواه أبو داود والترمذي بإسنادٍ صحيح .
    وليس المراد بهذه الأحاديث كل من ادعى النبوة ، فإنهم كثير لا يحصون ، وإنما المراد من ادعى النبوة وصارت له شوكة وكثر أتباعه وعظمت به الفتنة كمسيلمة الكذاب ، والأسود العنسي ، وسجاح ولكنها رجعت إلى الإسلام ، وطليحة بن خويلد الأسدي ولكنه تاب ورجع إلى الإسلام وحسن إسلامه ، والمختار بن أبي عبيد الثقفي ، وغير هؤلاء .
    وقد روى الإمام أحمد في المسند بإسنادٍ صحيح من حديث حذيفة  قال : (( في أمتي كذابون ودجالون سبعة وعشرون ، منهم أربع نسوة ، وإني خاتم النبيين لا نبي بعدي )) ، فدل هذا الحديث أن من هؤلاء الكذابين المدعين للنبوة أربع نسوة ، والله أعلم .
    ومن الأشراط أيضًا : ظهور نار في أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى ، فعن أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى )) متفق عليه .
    وقد ظهرت هذه النار في منتصف القرن السابع الهجري في عام أربعٍ وخمسين وستمائة ، وكانت نارًا عظمية كما وصفها وأفاض في وصفها من عاصرها من العلماء كأبي شامة ، والنووي وغيرهم ، ولكن أنبهك على أمر مهم وهي أن هذه النار المذكورة في الحديث ليست هي النار التي تخرج في آخر الزمان والتي تحشر الناس إلى محشرهم ، فإن هذه الأخيرة من الأشراط الكبرى ، وتلك من الأشراط الصغرى ، وسيأتي ذكرها - إن شاء الله تعالى - ، والله أعلم .
    ومن الأشراط الصغرى : استفاضة المال والاستغناء عن الصدقة حتى يدور رب المال على الناس بماله وصدقته فلا يقبلها أحد ، وهذه العلامة من العلامات التي ظهرت في عهد الصحابة وفي عهد أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز  وفي بعض عصور الدولة العباسية ، ولا تزال تتجدد وتظهر إلى قيام الساعة ، فعن أبي هريرة  أن رسول الله  قال : (( لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يُهمّ رب المال من يقبل صدقته ويدعى إليه الرجل فيقول : لا أرب لي به )) متفق عليه ، وعن أبي موسى  عن النبي  قال : (( ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب ثم لا يجد أحدًا يأخذها منه )) رواه مسلم ، والله أعلم .
    ومن الأشراط الصغرى : كثرة الفتن وتتابع ظهورها - نعوذ بالله منها - ، ففي حديث أبي موسى الأشعري  قال : قال رسول الله  : (( إن بين يدي الساعة فتنًا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ، فكسروا قسيكم وقطعوا أوتاركم واضربوا ابني آدم )) رواه أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، والحاكم ، وصححه ، ووافقه الذهبي ، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير أيضًا .
    والفتن التي حصلت في الإسلام كثيرة أولها قتل أمير المؤمنين عمر  ، وقتل الخليفة الثالث عثمان  ، واقتتال بعض الصحابة في موقعة الجمل .
    وغالب الفتن ستأتي من المشرق ، ففي حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه سمع رسول الله  وهو مستقبل المشرق يقول : (( ألا إن الفتنة هاهنا ألا إن الفتنة هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان )) متفق عليه .
    وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : دعا النبي  فقال : (( اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا ، وبارك لنا في شامنا ويمننا )) . فقال رجل من القوم : يا رسول الله وفي عراقنا . قال : (( إن بها قرن الشيطان وتهيج الفتن وإن الجفاء بالمشرق )) .
    وأنت تعلم أن مشرق المدينة إنما هو ضاحية العراق وما وراءها ، صدق رسول الله  وهو الصادق المصدوق ، فمن العراق ظهر الخوارج والشيعة والروافض والباطنية ، وبه مقر حزب البعث الكافر ، وظهر فيه القدرية والجهمية والمعتزلة ، بل وأكثر مقالات الكفر والإلحاد والزندقة كان منشؤها من المشرق ، من جهة الفرس المجوس كالمانوية والزردشتية والمزدكية والهندوسية والبوذية والقاديانية والبهائية ، وغير هذه الأديان والفرق فإنها ظهرت من المشرق .
    وهذه العلامة من العلامات المتجددة إلى يوم القيامة ، والله المستعان .
    ومن الأشراط الصغرى أيضًا : قتال الترك ، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة  أن رسول الله  قال : (( لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك ، قومًا وجوههم كالمجان المطرقة يلبسون الشعر ويمشون في الشعر )) رواه مسلم .
    وللبخاري عنه قال : قال رسول الله  : (( لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قومًا نعالهم الشعر ، وحتى تقاتلوا الترك صغار الأعين حمر الوجوه ذلف الأنوف كأن وجوههم المجان المطرقة )) .
    وعن عمرو بن تغلب قال : سمعت رسول الله  يقول : (( من أشراط الساعة أن تقاتلوا قومًا عراض الوجوه كأن وجوههم المجان المطرقة )) رواه البخاري وأحمد واللفظ له .
    ومن الأحاديث المشهورة عند الصحابة حديث : (( اتركوا الترك ما تركوكم )) حديث حسن إن شاء الله تعالى .
    وقد ذكر بعض أهل العلم أن هذه العلامة قد ظهرت وذلك لما غزا التتار العالم الإسلامي في القرن السابع الهجري ، فإن التتار من الترك ، وقد ذكر الإمام النووي وهو ممن عاصر هذه الحروب المريرة : أن صفات التتار هي بعينها نفس الصفات الواردة في أحاديث قتال الترك ، وكذلك ذكره أبو العباس بن تيمية - رحمه الله تعالى - في الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ، والله أعلم .
    ومن الأشراط الصغرى أيضًا : ضياع الأمانة - والله المستعان - ، فعن أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( إذا ضيعت الأمانة فانتظروا الساعة )) . قال : وكيف إضاعتها ؟ قال : (( إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة )) .
    وقد بين النبي  كيف ترفع الأمانة من القلوب ، ففي الصحيح عن حذيفة  قال : حدثنا رسول الله  حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر ، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة ، وحدثنا عن رفعها فقال : (( ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوكت ، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المجل كجمرٍ دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرًا وليس فيه شيء ، فيصبح الناس فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة ، فيقال : إن في بني فلان رجلاً أمينًا ، ويقال للرجل : ما أعقله ، ما أظرفه ، ما أجلده ، وليس في قلبه من الإيمان حبة خردل ... )) الحديث .
    وهذه العلامة من العلامات التي ظهرت ولا تزال تتجدد في صورٍ مختلفة حتى تقوم الساعة ، فنعوذ بالله من خيانة الأمانة ، والله أعلم .
    ومن الأشراط أيضًا : قبض العلم ، وظهور الجهل ، وشرب الخمور ، وظهور الربا ، وقلة الرجال وكثرة النساء ، وكثرة الهرج - أي القتل - ، وكثرة الزنا ، ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك  قال : قال رسول الله  : (( من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل )) ، وفي حديثه الآخر : (( إن من أشراط الساعة: أن يقل العلم ، ويظهر الجهل، ويشرب الخمر، ويكثر النساء ويقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد )) .
    وفي حديث ابن مسعود  قال : قال رسول الله  : (( بين يدي الساعة يظهر الربا )) رواه الطبراني ، وقال المنذري : رواته رواة الصحيح . اهـ
    وعن أبي موسى الأشعري وعبدالله بن مسعود - رضي الله عنهما - قالا : قال رسول الله  : (( إن بين يدي الساعة أيامًا ينـزل فيها الجهل ، ويرفع العلم ، ويكثر فيه الهرج ، والهرج القتل )) رواه البخاري ومسلم .
    وعن أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( إن من أشراط الساعة أن يتقارب الزمان ، وينقص العلم ، وتظهر الفتن ، ويلقى الشح ، ويكثر الهرج )) . قالوا : يا رسول الله ، وما الهرج ؟ قال : (( القتل القتل )) متفق عليه ، وغير ذلك من الأدلة .
    وهذه العلامات المذكورة ظهرت ولا تزال تظهر حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، والله المستعان .
    ومن العلامات أيضًا : زخرفة المساجد والتباهي في بنائها وتشييدها مع تعطيل عمارتها المعنوية ، فقد روى الإمام أحمد في المسند عن أنس  قال : قال رسول الله  : (( لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد )) وصححه الإمام الإلباني - رحمه الله تعالى ورفع نزله في الفردوس الأعلى وجزاه الله خير ما جزى عالمًا عن أمته هو وسائر علماء المسلمين من محدثين وفقهاء - .
    وفي رواية للنسائي وابن خزيمة : (( من أشراط الساعة أن يتباهى الناس في المساجد )) وصححه الألباني أيضًا .
    قال البخاري - رحمه الله تعالى - : يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلاً ، فالتباهي بها العناية بزخرفتها .
    قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى . اهـ
    وقد نهى عمر بن الخطاب  عن زخرفة المساجد ؛ لأن ذلك يشغل الناس عن صلاتهم ، وقال  عندما أمر بتجديد المسجد النبوي : (( أكنَّ الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس )) .
    وهذه العلامة قد ظهرت ولا تزال في تزايد ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، ونبرأ إلى الله تعالى من فعل بعض أهل زماننا ، والله أعلم .
    ومن العلامات أيضًا : التطاول في البنيان ، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة  قال : قال النبي  عندما سأله جبريل عن الساعة : (( ما المسئول عنها بأعلم من السائل وسأخبرك عن أشراطها : إذا ولدت الأمة ربتها فذلك من أشراطها ، وإذا تطاول رعاء البهائم في البنيان فذاك من أشراطها )) .
    ولمسلم من حديث عمر المشهور : (( وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان )) ، ولأحمد في المسند أن النبي  قال : (( العرب )) وإسناده صحيح .
    وللبخاري من حديث أبي هريرة مرفوعًا : (( حتى يتطاول الناس في البنيان )) .
    وهذه العلامة قد ظهرت ظهورًا لا خفاء فيه ، فتطاول الناس في البنيان وتفاخروا في طولها وعرضها وزخرفتها ، فاللهم إنا نسألك الاستعداد للساعة بالعمل الصالح الذي يرضيك عنا ، والله أعلم .
    ومن الأشراط أيضًا : أن تلد الأمة ربتها ، كما جاء ذلك صريحًا في حديث جبريل المشهور : (( إذا ولدت الأمة ربتها )) متفق عليه من حديث أبي هريرة ، ولمسلم من حديث عمر نحوه .
    وقد اختلف العلماء في تفسير ذلك على أقوال ، والأقرب - والله أعلم - أنه عبارة عن كثرة الإماء كثرة مستغربة وعزوف الرجال عن الحرائر وتتبع الإماء والرضى بهن دون الحرائر ، ومع كثرة مواقعتهن يكثر استيلادهن ، والولد يتبع أباه الحر في الحرية ، فيكون الابن سيدها ، فيصدق عليها أنها ولدت ربها أي سيدها .
    وبناءً عليه فنقول : قد ظهر ذلك مع كثرة الفتوح وكثرة السبي في العصور الأولى مع قيام علم الجهاد ، وأما الآن فلا أثر لهذه العلامة ، ومن الجدير بالذكر أن المنكر في هذه العلامة ليس هو الجهاد أو كثرة السبي - حاشا وكلا - وإنما المنكر هو العزوف عن الحرائر وطلب الأولاد من الإماء وأنت خبير بأن ولد الأمة سيعاملها معاملة الأمة لا معاملة الأم فيكثر الضرب والسب والشتم والاستخدام لها ، فتكون أمه كأمته وخادمته ، وهذا القول هو الذي يجمع ما قاله أهل العلم ، ولا داعي لصرف الكلام عن حقيقته ؛ لأن الأصل في الكلام الحقيقة ، والله أعلم .
    ومن الأشراط أيضًا : تقارب الأسواق وتقارب الزمان ، فعن أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان )) رواه البخاري .
    وعنه  قال : قال رسول الله  : (( لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر ، ويكون الشهر كالجمعة ، وتكون الجمعة كاليوم ، ويكون اليوم كالساعة ، وتكون الساعة كاحتراق سعفة )) رواه أحمد ، والترمذي ، وقال ابن كثير : إسناده على شرط مسلم . وقال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح . وصححه الألباني - رحم الله الجميع رحمة واسعة - .
    وعن أبي هريرة  أن رسول الله  قال : (( لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن ، ويكثر الكذب ، وتتقارب الأسواق )) رواه أحمد ، وقال الهيثمي : ورجال أحمد رجال الصحيح غير سعيد بن سمعان وهو ثقة . اهـ
    وقد اختلف العلماء - رحمهم الله تعالى - في تفسير هاتي العلامتين ، والأقرب - إن شاء الله تعالى - أن المراد بتقارب الزمان هو التقارب الحسي والمعنوي ، ونعني بالتقارب الحسي قلة أجزاء الزمان كما ورد ذلك صريحًا في الحديث الآخر ، وهذا لم يظهر بعد ، فتكون السنة كالشهر في زمنه حقيقة ، ويكون الشهر كالأسبوع في زمنه حقيقة ، ويكون الأسبوع كاليوم في زمنه حقيقة ، ويكون اليوم كجزءٍ يسير من أجزائه حقيقة ، والله قادر على كل شيء .
    ويؤيد هذا أنه هو حقيقة التقارب وظاهره ، والأصل بقاء اللفظ على حقيقته وظاهره ، ولأنه ورد من قوله  صريحًا ولا عبرة بتفسير أحدٍ مع تفسيره  ، وقد تقرر في الأصول أن خير ما فسرت به السنة هو السنة ، ويؤيده أيضًا أن أيام الدجال تطول حقيقة وقد فهم الصحابة من قوله : (( يوم كسنة ، ويوم كشهر ... )) إلخ ، فهم الصحابة منه حقيقة هذا التطويل ، فكذلك نحن نفهم كما فهموا من قوله : (( ويتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر ... )) إلخ ، نفهم منه التقارب الحقيقي .
    وأما التقارب المعنوي فهو ذهاب بركة الزمان فتتفلت أوقاته وتنقضي ساعاته على الناس ولم يحصلوا فيه ما كان يحصله من قبلهم ، وبناءً عليه فنقول : أما التقارب المعنوي فإنه قد ظهر ولاشك ونحن نحسه من أنفسنا في التعامل مع أوقاتنا ، وأما التقارب الحسي فإنه لم يظهر بعد ، ولعل التقارب المعنوي علامة ومؤشر للتقارب الحسي ، والله المستعان وعليه التكلان .
    وأما تقارب الأسواق ، فالأقرب فيها حمله على الحقيقة أيضًا من أن المراد به تقاربها حقيقة سواءً في بنائها أو في تعاملاتها بيعًا وشراءً كما هو حاصل اليوم ، فتجد الأسواق تنافس البيوت في أعدادها كما لا يخفى على أحد فما بين السوق والسوق إلا مسافة يسيرة ، فهذا تقارب حسي ، وأما تقاربها في تعاملاتها بيعًا وشراءً فلا أظنه يخفى على أحد وخصوصًا مع ظهور هذه الأجهزة الحديثة ، فالشخص يشتري ويبيع من الأسواق البعيدة وهو في بيته أو في محل تجارته بلا عناءٍ ولا قطع مسافات وكأن السوق تحت يديه يشتري منه ما يشاء ويبيع لغيره وهو بعيد عنه ما يشاء بلا كلفة ولا مشقة ، وكذلك أيضًا سهولة الوصول إلى هذه الأسواق بالمراكب الحديثة من الطائرات والسيارات وغيرها ، فهذه المراكب جعلت الأسواق البعيدة كأنها قريبة فلا يقتطع الشخص في الذهاب للسوق البعيد ولو في غير بلاده إلا الوقت اليسير ، وهذا قد ظهر جليًا وتحقق ولا يزال في ازدياد ما ازدادت الحضارة وتقدمت التقنيات ، وأنت تعلم أثر الشبكة العنكبوتية في التقارب بين الأسواق ، فيشتري الشخص السلعة من أسواق أمريكا وهو في بلاد الخليج وتصله في أسرع وقت ، والله المستعان وعليه التكلان .
    وخلاصة الأمر أن التقارب في الزمان والأسواق كلها يراد بها حقائقها من التقارب الحسي والمعنوي ، والله أعلم .
    ومن الأشراط : ظهور الشرك في هذه الأزمنة ، فقد روى الشيخان من حديث أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوسٍ على ذي الخلصة ، وهو طاغية دوس الذي كانت تعبده في الجاهلية )) .
    وروى أبو داود والترمذي من حديث ثوبان  قال : قال رسول الله  : (( إذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان ... )) الحديث ، وهو حديث صحيح .
    وقد ظهرت هذه العلامة ظهورًا لا خفاء فيه ، وبخاصة في نجد قبل بزوغ فجر هذه الدعوة المباركة رضي الله عن إمامها وحامل لوائها الإمام المجدد الشيخ المجاهد محمد بن عبدالوهاب - رفع الله نزله وأجزل له الأجر والمثوبة وحشره مع النبي  وجعل قبره روضة من رياض الجنة وأمَّنَ فزعه يوم الفزع الأكبر وجزاه الله خير ما جزى عالمًا ومجاهدًا عن أمته وبارك في دعوته وجعلها باقية إلى يوم القيامة ورحم الله تلامذته من أولاده وأحفاده وسائر علماء الدعوة وبارك في جهودهم ونفعنا بعلمهم وأعظم الله أجورهم وأحيا في الأمة ذكرهم وأسأله جل وعلا باسمه الأعظم أن يغفر لهم يوم الدين ويجعل لهم لسان صدق في الآخرين وأن يرفع درجاتهم في عليين - ، والله أعلم .
    ومن الأشراط أيضًا : عود أرض العرب مروجًا وأنهارًا ، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة  قال : قال رسول الله  (( لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجًا وأنهارًا )) ، وهذا الحديث فيه دلالة على أن أرض العرب كانت مروجًا وأنهارًا وأنها ستعود كما كانت ، آمنا بخبره  وصدقنا ، والله أعلم .
    ومن الأشراط أيضًا : كثرة المطر وقلة النبات ، فعن أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( لا تقوم الساعة حتى تمطر السماء مطرًا لا تُكِنُّ منها بيوت المدر ولا تُكِنُّ منها إلا بيوت الشعر )) .
    وعن أنس  قال : قال رسول الله  : (( لا تقوم الساعة حتى يمطر الناس مطرًا عامًا ولا تنبت الأرض شيئًا )) رواه أحمد بسندٍ جيد .
    وعن أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( ليس السنة ألاَّ تمطروا ، ولكن السنة أن تمطروا وتمطروا ولا تنبت الأرض )) رواه مسلم .
    ومن الأشراط أيضًا : حسر الفرات عن جبل من ذهب ، فعن أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبلٍ من ذهب يقتتل عليه الناس فيقتل من كل مائةٍ تسعة وتسعين ويقول كل رجل منهم : لعلي أن أكون أنا الذي أنجو )) متفق عليه ، وفي الحديث الآخر : (( فمن حضره فلا يأخذ منه شيئًا )) .
    وقد تقرر لنا في مناسبات كثيرة أن الأصل في الكلام الحقيقة ولا يجوز صرفه عنها إلا لقرينة صحيحة قد أيدتها الشواهد والأدلة ، وبناءً عليه فلا يصح تفسير هذا الجبل بالبترول وذلك لأمور :
    الأول : أن البترول إنما يحفر له الحفر العميقة ؛ لأنه لا يستخرج إلا من باطن الأرض السفلي ، والحديث فيه : (( جبل )) ، فأي تحريف هذا .
    الثاني : أنه قال : (( من ذهب )) ، والبترول ليس بذهبٍ على الحقيقة ، فإن الذهب هو المعدن المعروف .
    الثالث : أن النبي  قد خص الفرات بذلك ، والبترول نراه يستخرج من أماكن كثيرة ، فأي آية في ذلك حتى تفرد بالتخصيص والتنبيه ، فإن قلت : والذهب أيضًا يستخرج من أماكن كثيرة في العالم . فأقول : نعم ، ولكن هل هو على شكل جبل ؟ بالطبع لا ، فالغريب ليس من أنه ذهب ، وإنما الغريب أنه جبل من ذهب .
    الرابع : أننا لو حملنا الحديث على البترول لأوشكت الأمة أن تهلك على إطباقها على هذه المخالفة ؛ لأن الحديث فيه : (( فمن حضره فلا يأخذ منه شيئًا )) ، والدول الآن إنما قيام مصالحها ومصانعها على البتروك ، فأين عقل من فسره بذلك ، فإنه لم يقل أحد من العلماء بعد اكتشاف البترول لا يجوز الانتفاع به ، فانظر إلى هذا التفسير الذي هو ضحكة للعقلاء ، والله المستعان .
    الخامس : أنه صرف للفظ عن حقيقته وظاهره إلى معنى آخر غريب جدًا عن ظاهر اللفظ ولا قرينة توجب ذلك ، فهو مخالفة للقاعدة المتفق عليها : الأصل في الكلام الحقيقة ، وبناءً عليه فالمراد من الحديث الجبل حقيقة والذهب حقيقة ، وهي علامة لم تظهر بعد ولله الحمد ، والله أعلم .
    ومن الأشراط أيضًا : كلام السباع والجمادات للإنس وإخبارها بما حدث في غيابه ، وتكلم بعض أجزاء الإنسان كفخذه يخبره بما فعل أهله من بعده ، ففي حديث أبي هريرة الطويل في تكليم الذئب لراعي الغنم ، وفيه أن النبي  قال : (( إنها أمارة من أمارات بين يدي الساعة قد أوشك الرجل أن يخرج فلا يرجع حتى تحدثه نعلاه وسوطه ما أحدث أهله بعده )) رواه أحمد بسندٍ صحيح . وفي رواية له عن أبي سعيد الخدري - وذكر القصة - وفيه فقال : قال النبي  : (( صدق والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى يكلم السباع الإنس ويكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله ويخبره فخذه بما أحدث أهله بعده )) وسنده صحيح .
    ولا يسعنا مع قوله  إلا أن نقول : آمنا به كل من عند ربنا ، وهذا لم يقع بعد ولله الحمد .
    ومن الأشراط أيضًا : فتح القسطنطينية ، ويكون فتحها قبل الدجال على يد المسلمين ، وقد دل الدليل أن هذا الفتح يكون بعد قتال الروم في الملحمة الكبرى وانتصار المسلمين عليهم فعندئذٍ يتوجهون إلى مدينة القسطنطينية فيفتحها الله لهم بلا قتال وسلاحهم التكبير والتهليل ، ففي الحديث عن أبي هريرة  أن النبي  قال : (( سمعتم بمدينةٍ جانب منها في البر وجانب في البحر )) ؟ قالوا : نعم يا رسول الله . قال : (( لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفًا من بني إسحاق ، فإذا جاءوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاحٍ ولم يرموا بسهم قالوا : لا إله الا الله والله أكبر فيسقط أحد جانبيها ، ثم يقولوا الثانية : لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط جانبها الاخر ، ثم يقولوا : لا إله إلا الله والله أكبر ، فيفرج لهم فيدخلوها فيغنموا ، فبينما هم يقتسمون الغنائم إذ جاءهم الصريخ فقال : إن الدجال قد خرج فيتركون كل شيء ويرجعون )) رواه مسلم .
    وفتح القسطنطينية بدون قتال لم يقع إلى الآن ، وقد ذكر بعض أهل العلم أنها قد فتحت ، والصحيح أنها لم تفتح في عصر الصحابة ، فإن معاوية  بعث إليها ابنه يزيد في جيش فيهم أبو أيوب الأنصاري ولم يتم لهم فتحها ثم حاصرها مسلمة بن عبدالملك ولم تفتح أيضًا ، ولكنه صالح أهلها على بناء مسجدٍ بها ، وأما فتح الأتراك لها فإنه كان بقتالٍ ، والحديث ينص على أنها تفتح بلا قتال ، والفتح الذي ذكر في الحديث إنما سيكون آخر الزمان قبيل خروج الدجال ، والله أعلم بزمانه تحديدًا ، لكنه مربوط بعودة المسلمين إلى عزهم بالتمسك بدينهم ونصرهم لقضاياهم وحماية جنابه وتحقيقه اعتقادًا وقولاً وعملاً وما ذلك على الله بعزيز ، والله أكبر ولا إله إلا الله ، والله أعلم .
    ومن أشراط الساعة أيضًا : خروج القحطاني ، وذلك يكون في آخر الزمان أيضًا فإنه لم يخرج إلى الآن ، وهو رجل من قحطان تدين له الناس بالطاعة وتجتمع عليه بعد افتراق ، وذلك عند تغير الزمان ، فقد روى الشيخان عن أبي هريرة  أن رسول الله  قال : (( لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه )) وهو رجل صالح ، بدليل ما ذكره ابن حجر عن نعيم بن حماد أنه روى من وجهٍ قوي عن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - أنه ذكر الخلفاء ثم قال : (( ورجل من قحطان )) ، وأيضًا يؤيده ما أخرجه بسندٍ جيد عن ابن عباسٍ أنه قال فيه : (( ورجل من قحطان ، كلهم صالح )) ا.هـ كلام ابن حجر .
    واعلم - رحمك الله تعالى - أن هذا القحطاني ليس هو الجهجاه المذكور في حديث أبي هريرة عند أحمد بسندٍ صحيح قال : قال رسول الله  : (( لا يذهب الليل والنهار حتى يملك رجل من الموالي يقال له : الجهجاه )) وأصله في مسلم بدون لفظة : (( من الموالي )) فإن القحطاني من الأحرار نسبه إلى قحطان الذي ينتهي إليه أنساب أهل اليمن ، وأما الجهجاه فإنه من الموالي ، والله أعلم .
    ومنها أيضًا : قتال اليهود، ففي الصحيحين عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله  : (( لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر : يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله ، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود )) متفق عليه واللفظ لمسلم .
    ومنها أيضًا : انتفاخ الأهلة ، ومعناه أن يرى الهلال في أول الشهر فيقال : إنه ابن ليلتين أو ثلاث ، فعن عبدالله بن مسعود  قال : قال رسول الله  : (( من اقتراب الساعة انتفاخ الأهلة )) وصححه الألباني - رحمه الله تعالى - ، وعن أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( من اقتراب الساعة انتفاخ الأهلة وأن يرى الهلال لليلة فيقال : لليلتين )) وفيه ضعف .
    فهذه بعض العلامات الصغرى ، وأستبيحك عذرًا من الإطالة فإنه أمر لابد منه في هذا السؤال خاصة ، والله يتولانا وإياك ، وهو أعلى وأعلم .
*  *  *
    س327: اذكر لنا نسب المهدي وشيئًا من صفاته مقرونة بالأدلة ؟    
    ج327: لقد ورد بذلك السنة الصحيحة ، وأن اسمه كاسم النبي  ، فيكون اسم أبيه كاسم والد النبي  ، فيكون اسمه : محمد بن عبدالله ، وهو من ذرية فاطمة بنت رسول الله  ، ومن ولد الحسن بن علي - رضي الله عنهما - . قال ابن كثير : (( وهو محمد بن عبدالله العلوي الفاطمي الحسني  )) ا.هـ
    فعن عبدالله بن مسعود  قال : قال رسول الله  : (( لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلاً مني ، أو : من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي ، واسم أبيه اسم أبي ، يملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما ملئت جورًا وظلمًا ، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض يقسم المال صحاحًا )) . فقال رجل : ما صحاحًا ؟ قال : (( بالسوية بين الناس )) وهذا سنده صحيح ورجاله ثقات . وفي رواية أخرى : (( لا تنقضي الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي )) .
    فهذه الأحاديث فيها دلالة واضحة على نسب المهدي واسمه ، ونزيد ذلك استدلالاً فنقول : عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت : سمعت رسول الله  يقول : (( المهدي من عترتي من ولد فاطمة )) رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم بإسنادٍ حسن .
    وعن علي  قال : قال رسول الله  : (( المهدي منا آل البيت يصلحه الله في ليلة )) رواه الإمام أحمد بسندٍ صحيح ، فهذا يؤكد أن المهدي من آل بيت رسول الله  ، وهو مذهب جماهير الأمة فلا يسوغ العدول عنه ولا الالتفات لغيره ، فهذا بالنسبة لاسمه ونسبه وأدلة ذلك ، وهو الشطر الأول للسؤال .
    وأما الشطر الثاني : ففي بيان صفته ، فقد ثبت في السنة الصحيحة أنه خفيف شعر النـزعتين عن الصدغين إذ قد ذهب شعر رأسه إلى نصفيه .
    ومن صفاته : أنه طويل الأنف دقيق عند أرنبته مع حدب في وسطه ، ففي حديث أبي سعيد الخدري  قال : سمعت رسول الله  يقول : (( المهدي مني ، أجلى الجبهة ، أقنى الأنف ، يملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما ملئت جورًا وظلمًا ، ويملك سبع سنين )) رواه الإمام أحمد وأبو داود والحاكم وسنده حسن، بل وقد أشار الألباني إلى صحته كما في تخريج المشكاة، فقوله : (( أجلى الجبهة )) هو خفيف شعر ما بين النـزعتين من الصدغين ، والذي انحسر الشعر عن جبهته ، وقوله : (( أقنى الأنف )) القنا في الأنف طول ورقة أرنبته مع حدبٍ في وسطه ، ذكر ذلك صاحب النهاية .
    ومن صفاته : أنه كان بعيدًا عن الصلاح ثم يوفقه الله تعالى للتوبة ويلهمه رشده كما في حديث علي السابق يرفعه : (( المهدي منا آل البيت يصلحه الله في ليلة )) .
    هذا ما نعرفه من صفته والأمر غيب ويحتاج إلى دليل صريح صحيح ، ودعك من خزعبلات المتهوكين وتحريفات الشياطين وخرافات المهاويس الذين يضفون عليه من الصفات الخلقية ما لا دليل عليه ، والله أعلى وأعلم .
*  *  *
    س328: هل أحاديث المهدي في صفته وخروجه بلغت مبلغ التواتر أم أنها من الآحاد ؟
    ج328: أقول : الأحاديث في خروج المهدي قد بلغت مبلغ التواتر المعنوي ، وقد نص على ذلك الحافظ أبو الحسن الآبري ، والعلامة محمد البرزنجي في كتابه الإشاعة ، والإمام السفاريني في لوامع الأنوار ، والإمام الشوكاني وقد ألَّف رسالة في ذلك ، والشيخ صديق خان ، والشيخ محمد بن جعفر الكتاني كما في نظم المتواتر ، لكن ننبه على عدة أمور :
    الأول : أن التواتر الذي ينص عليه أهل العلم هنا إنما يعنون به التواتر المعنوي ، وهو اتفاق المعنى مع اختلاف في اللفظ ، وهو قسيم التواتر اللفظي .
    الثاني : أن أحاديث المهدي قد صح منها طرف كبير ، ومع صحة الحديث فإنه يجب قبوله واعتماد مدلوله ، ولا يشترط في إثبات الاعتقاد أن يكون النص متواترًا ، فإن هذا مسلك المبتدعة ، فلو أنه لم يصح في المهدي إلى حديث واحد فإنه يجب الإيمان به ؛ لأن المتقرر عند أهل السنة أن أخبار الآحاد حجة كما بحثنا هذه القاعدة في كتابنا تحرير القواعد ، فكيف وقد وصلت أحاديث - أعني أحاديث المهدي الصحيحة - إلى درجة التواتر المعنوي ؟
    الثالث : اعلم أن خروجه علامة من علامات الساعة الكبرى ، وبناءً عليه فيكون ذلك في آخر الزمان ، ولكن بلا تحديد زمن بعينه لعدم ورود ما يصح بذلك ، وإنما العلامة لخروجه امتلاء الأرض ظلمًا وجورًا كما صح بذلك الحديث السابق .
    الرابع : اعلم أننا متعبدون بالإيمان به وبما صح من اسمه ونسبه وصفاته ، وبمبايعته لو خرج ونحن أحياء ، إذا ثبت عندنا أنه المهدي الذي صحت به الأحاديث وثبتت به الآثار ، ولا نكلف أنفسنا شيئًا لم نكلف به مما لا دليل عليه .
    الخامس : اعلم أن الرافضة المتهوكين يريدون أن يجعلوا هذا الفضل لإمامهم المزعوم في سرداب سامراء ، فهم ينتظرون خروجه ، فإن هذا نوع من الهذيان وقسط كبير من الخذلان وهوس شديد من الشيطان ، والله أعلى وأعلم .
*  *  *
    س329: كيف نجمع بين أحاديث إثبات خروج المهدي وحـديث : ( لا مهـدي إلا عيسى ابن مريم ) ؟
    ج329: أقول : هذا الحديث رواه ابن ماجه والحاكم عن أنس يرفعه للنبي  ، ويجاب عنه بأنه حديث ضعيف لا يثبت مثله ؛ لأن مداره على محمد بن خالد الجندي ، وقد قال الذهبي : (( قال الأزدي : منكر الحديث )) . وقال أبو عبدالله الحاكم : (( مجهول )) . ثم قال الذهبي بعد روايته للحديث المذكور : (( وهذا خبر منكر )) ا.هـ .
    وقد ضعفه أبو العباس ابن تيمية  فقال في المنهاج : (( هذا الحديث ضعيف ، وقد اعتمد أبو محمد بن الوليد البغدادي وغيره عليه وليس هو مما يعتمد عليه . ورواه ابن ماجه عن يونس عن الشافعي والشافعي رواه عن رجل من أهل اليمن يقال له محمد بن خالد الجندي وهو ممن لا يحتج به وليس هذا في مسند الشافعي . وقد قيل : إن الشافعي لم يسمعه من الجندي وإن يونس لم يسمعه من الشافعي )) ا.هـ كلام ابن تيمية .
    وقال الحافظ ابن حجر في التقريب : (( مجهول )) .
    فخلاصة القول فيه أنه حديث ضعيف ، ومن المعلوم أن الأحكام الشرعية لا تثبت إلا بالأحاديث الصحيحة الصريحة ، وإذا سلمنا تنـزلاً أنه حديث حسن كما ذكره الإمام ابن كثير فيجاب عنه بجوابين :
    أحدهما : أنه شاذ ؛ لأنه لا يقدر على مقاومة الأحاديث التي بلغت مبلغ التواتر في خروج المهدي ، وقد تقرر في قواعد الحديث أن الشاذ قسم من أقسام الضعيف .
    الثاني : أن يصار إلى الجمع ، فيقال : إن قوله : ( لا مهدي إلا عيسى ) ليس يراد به نفي الوجود والحقيقة وإنما يراد به نفي الكمال ، أي لا مهدي كاملاً إلا عيسى ، ولا شك أن عيسى - عليه السلام - أكمل في الهداية من المهدي .
    ولكن كما ذكرت لك أن هذين الجوابين على تسليم فرض صحة الحديث المذكور ، وبذلك فلا يكون ثمة إشكال أو تعارض ، وقد ذكر هذا الجواب الثاني الإمام أبو عبدالله القرطبي في التذكرة ، والله أعلم .
    والخلاصة أن الأجوبة عن هذا الحديث ثلاثة :
    الأول : أنه ضعيف .
    الثاني : أنه شاذ .
    الثالث : أن المنفي هو الكمال ، والله أعلم .
*  *  *
    س330: ما العلامة الثانية من العلامات الكبرى على قيام الساعة مع ذكر الأدلة الدالة عليها ؟
    ج330: العلامة الثانية من الأشراط الكبرى خروج الدجال لعنه الله ، مسيح الضلالة ، وقد ثبتت بذلك الأحاديث الكثيرة :
    فمن ذلك : حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله  ذكر الدجال بين ظهراني الناس فقال : (( إن الله تعالى ليس بأعور ألا وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية )) متفق عليه .
    ومن ذلك : ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا : (( إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليستعذ بالله من أربع )) وذكر منها : (( ومن فتنة المسيح الدجال )) .
    ومن ذلك : حديث زيد بن ثابت الطويل ومنه : (( تعوذوا بالله من فتنة الدجال )) . فقالوا : نعوذ بالله من فتنة الدجال .
    ومن ذلك : حديث عمران بن حصين  قال : سمعت رسول الله  يقول : (( ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال )) رواه مسلم .
    ومن ذلك : حديث حذيفة  قال : قال رسول الله  : (( الدجال أعور العين اليسرى جفال الشعر )) رواه مسلم .
    ومن ذلك : حديث النواس بن سمعان  قال : قال رسول الله  في وصف الدجال : (( إنه شاب قطط عينه طافية ... )) الحديث ، رواه مسلم .
    ومن ذلك : حديث أبي أمامة  أن النبي  قال : (( يا أيها الناس ، إنها لم تكن فتنة على وجه الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم من فتنة الدجال وإن الله عز وجل لم يبعث نبيًا إلا حذر أمته من الدجال وأنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم وهو خارج فيكم لا محالة ، فإن يخرج بعدي فكل حجيج نفسه والله خليفي على كل مسلم ، وإنه خارج من حلة بين الشام والعراق فيعيث يمينًا وشمالاً ، يا عباد الله فاثبتوا ... )) رواه ابن ماجه والحاكم بسندٍ صحيح .
    وغير ذلك من النصوص وسيأتي - إن شاء الله تعالى - في سياق الأسئلة شيء منها ، والله أعلم .
*  *  *
    س331: اذكر لنا شيئًا من صفاته بالدليل ، وما سبب افتتان الناس به ؟
    ج331: أقول : لقد وردت النصوص بشيء من صفاته ، ودونك بعضًا منها :
    فمن صفاته لعنه الله : أنه أعور العين اليمنى ، وقد ورد ذلك في حديث ابن عمر : (( وإنه أعور العين اليمنى )) متفق عليه ، وفي الروايات : (( عينه طافية )) ، وفي بعضها : (( كأنها عنبة طافية )) ، وفي بعضها : (( مطموس العين )) ، والله أعلم .
    ومن صفاته : أنه شاب ، كما في حديث النواس السابق ، وفيه : (( إنه شاب )) .
    ومن صفاته : أنه شديد جعودة الشعر جدًا ، كما في حديث النواس أيضًا وفيه : (( قطط )) ، والقطط هو شديد جعودة الشعر ، وفي بعض الروايات : (( جعد الشعر )) ، وهو بمعنى القطط وتفسير له .
    ومن صفاته : أنه رجل قصير ، كما في حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله  : (( إن المسيح الدجال رجل قصير أفحج جعد أعور مطموس العين ليس بناتئة ولا حجراء ... )) الحديث ، وهو عند أبي داود في سننه بسند صحيح .
    ومن صفاته أيضًا : أنه أفحج ، والفحج ، هو بعيد ما بين الفخذين ، أي أن فخذيه بينهما تنافر وتباعد ، ودليل ذلك حديث : (( إنه أعور أفحج )) ، وقد تقدم قبل قليل .
    ومن صفاته أيضًا : أنه رجل جسيم أحمر في لونه ، كما في حديث ابن عمر في وصفه  لعيسى ابن مريم وللدجال في الرؤيا التي رآها وفيه : (( فإذا رجل جسيم أحمر ... )) الحديث رواه البخاري ومسلم .
    ومن صفاته أيضًا : أنه أجلى الجبهة وعريض النحر ، كما في حديث أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( وأما مسيح الضلالة فإنه أعور العين ، أجلى الجبهة عريض النحر ، فيه دفأ )) رواه أحمد وسنده جيد .
    ومن صفاته : أن فيه انحناءً ، للحديث السابق ، وفيه أنه قال : (( فيه دفأ )) والدفأ هو الانحناء ، ورجل أدفى أي فيه انحناء ، أي أن ظهره ليس مستقيمًا معتدلاً ، بل فيه شيء من الانحناء ، والله أعلم .
    ومن صفاته أيضًا : أنه قد كتب بين عينيه ( ك ، ف ، ر ) أي كافر ، كما في حديث أنس  قال : قال رسول الله  : (( وإن بين عينيه مكتوب كافر )) متفق عليه ، وقد ثبت عن كثير من السلف أن هذه الكتابة بين عيني الدجال يقرؤها كل أحدٍ قارئ وغير قارئ .
    ومن صفاته : أنه عقيم لا يولد له ، وذلك لما جاء في حديث أبي سعيد الخدري  في قصته مع ابن صياد ، فقد قال لأبي سعيد : (( ألست سمعت رسول الله  يقول : إنه لا يولد له ؟ قال : قلت : بلى )) رواه مسلم .
    ومن صفاته أيضًا لعنه الله : أنه جثـة كبيرة أي ضخم جدًا ، وذلك لما في حديث فاطمة بنت قيس - رضي الله عنها - في قصة الجساسة ، وفيه : قال تميم  : (( فانطلقنا سراعًا حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسانٍ رأيناه قط وأشده وثاقًا )) رواه مسلم .
    وفي حديث عمران بن حصين قال : سمعت رسول الله  يقول : (( ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال )) رواه مسلم أيضًا .
    وهذا لا يتنافى مع كونه قصيرًا ، فكم من قصير في قامته ضخم كبير في جثته، والله أعلم.
    ومن صفاته أيضًا : أنه كثير الشعر جدًا ، لما في حديث حذيفة وفيه : (( الدجال أعور العين اليسرى جفال الشعر )) ، والله أعلم .
    فهذه بعض صفاته التي صحت بها الأدلة ، والله يعيذنا منه ونسأله جل وعلا أن نموت قبل خروجه فإن الحي لا يؤمن عليه أن يفتتن به ، والله المستعان .
    وأما قولك في السؤال : ولماذا يفتتن الناس به ؟
    فأقول : اعلم أولاً - رحمك الله تعالى - أن فتنة الدجال من الأمور الكونية القدرية التي لابد وأن تقع كما أخبرت بذلك الأدلة وأن الله تعالى يجري على يديه بعض الخوارق التي بها يفتن الناس وفتنته أعظم الفتن ، فالله تعالى بحكمته أقدره على أشياء مذهلة تدهش العقول وتحير الألباب ، ولهذا حذرت منه الأنبياء جميعًا .
    فمن فتنته : أنه تظهر معه زهرة الدنيا من السعة والخصب والكنوز ، وأن الجماد يستجيب له ، وهذا خاص بمن أجابه وآمن به ، ففي حديث النواس بن سمعان  قال : ذكر النبي  الدجال ذات غداة وفيه : فقال رسول الله  : (( فيأتي على القوم - أي الدجال - فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت درًا وأسبغه ضروعًا وأمده خواصر ، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله ، فينصرف عنهم فيصبحون مُمْحِلِينَ ليس بأيدهم شيء من أموالهم ، ويمر بالخربة فيقول لها : أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ... )) الحديث ، وقد رواه مسلم .
    فأي فتنة أعظم من هذه الفتنة أن يشير إلى السماء فتمطر وإلى الأرض فتخرج زهرتها ، نعوذ بالله منه ثم نعوذ بالله منه ثم نعوذ بالله منه ثم نعوذ بالله منه ثم نعوذ بالله منه ثم نعوذ بالله منه ثم نعوذ بالله منه ، والله المستعان .
    ومن فتنته أيضًا : أنه يجيء ومعه مثل الجنة والنار ، فعن أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( ألا أحدثكم حديثًا عن الدجال ما حدث به نبي قومه ؟ إنه أعور وإنه يجيء بمثال الجنة والنار ، فالتي يقول : إنها الجنة هي النار ، وإني أنذركم به كما أنذر نوح قومه )) رواه البخاري ومسلم .
    وعن حذيفة  أنه سمع النبي  يقول : (( إن مع الدجال إذا خرج ماءً ونارًا ، فأما الذي يرى الناس أنه نار فإنه ماء بارد ، وأما الذي يرى الناس أنه ماء فإنه نار تحرق ، فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يرى أنه نار فإنه ماء عذب )) وفي رواية : (( لأنا أعلم بما مع الدجال منه معه نهران يجريان ، أحدهما رأي العين نار تأجج فإما أدركن أحد فليأت النهر الذي يراه نارًا وليغمض ثم ليطأطئ رأسه فليشرب منه فإنه ماء بارد )) متفق عليه .
    فنعوذ بالله من فتنة الدجال ثم نعوذ بالله من فتنة الدجال ثم نعوذ بالله من فتنة الدجال .
    ومن فتنته أيضًا : أنه سريع الانتقال في الأرض ، فهو في سرعة انتقاله كالغيث استدبرته الريح ، ففي حديث النواس بن سمعان - الطويل - وفيه : قلنا يا رسول الله ، وما إسراعه في الأرض ؟ قال : (( كالغيث استدبرته الريح ... )) رواه مسلم وغيره .
    وفي حديث أنس بن مالك مرفوعًا : (( ليس من بلدٍ إلا سيطؤه الدجال ... )) الحديث ، وسيأتي قريبًا - إن شاء الله تعالى - ، فخطره عام على كل أهل الأرض في زمنه ، فالله نسأل أن نموت قبل خروجه .
    ومن فتنته أيضًا : أن الشياطين تستجيب لأمره فلم يدخر عدو الله وسيلة من وسائل الإضلال إلا وسلكها ؛ لأن هدفه الوحيد الذي يسعى له هو إيقاع الناس في الكفر والشرك ، فعن أبي أمامة  قال : قال رسول الله  : (( وإن من فتنته أن يقول للأعرابي : أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك ؟ فيقول : نعم ، فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه فيقولان له : يا بني اتبعه فإنه ربك )) رواه ابن ماجه والحاكم بسندٍ صحيح .
    فأي فتنة أخطر وأشد من هذه الفتنة ، فأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يثبت المؤمنين في ذلك الزمان .
    ومن فتنته أيضًا : أنه يخرج في زمن ذهب فيه العلم وخفيت فيه آثار النبوة وعم فيه الجهل وكثرت فيه الفواحش والمضلات ، وهذا هو الذي يجعل أكثر الناس في حيرة من أمره ، ودليل ذلك أن خروجه - أي الدجال - من علامات الساعة الكبرى ، وقد وردت الأدلة بأن الساعة لا تقوم حتى يرفع العلم ، ويظهر الجهل ، ويشرب الخمر ، ويكثر الزنا .
    ومن فتنته أيضًا: كثرة أتباعه من اليهود وشدة تسلحهم ودفاعهم عنه، فعن أنس  قال: قال رسول الله : (( يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفًا عليهم الطيالسة )) رواه مسلم ، فجيش بهذا العدد وهذه العدة في ذلك الوقت لاشك أنه فتنة للعباد ، والله المستعان .
    ومن فتنته أيضًا : أنه يخرج في وقت العرب فيه قليل جدًا ، فعن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - قال : أخبرتني أم شريك أنها سمعت النبي  يقول : (( ليفرن الناس من الدجال في الجبال )) . قالت أم شريك : (( فأين العرب يومئذٍ )) ؟ فقال : (( هم قليل )) .
    فلهذه الأمور العظام والفتن الجسام يقع كثير من الناس في شراكه ويستجيبون له إلا من ثبته الله تعالى ووقاه شر هذه الفتنة الكبيرة العظيمة الخطيرة ، والله أعلم .
*  *  *
    س332: كيف العصمة من فتنته ؟ مع تأييد ذلك بالدليل ؟
    ج332: أقول : العصمة من هذه الفتنة يكون بأمور :
    أحدها : العصمة بالاستعاذة بالله من هذه الفتنة الخطيرة ، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليستعذ بالله من أربع يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار، وعذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال )) . فالله هو الملجأ والمفزع والمعاذ والملاذ من خطر هذه الفتنة .
    وفي حديث زيد بن ثابت - الطويل - أن النبي  أمر الصحابة أن يستعيذوا بالله من فتنة الدجال فقال : (( تعوذوا بالله من فتنة الدجال )) .
    فليكن هذا ديدنك - أعني كثرة الاستعاذة منه - فإنه لا يعدو أن يكون مخلوقًا ضعيفًا ذليلاً ، والله تعالى هو القوي العزيز القدير ، فلا مخرج من هذه الفتنة إلا بالاعتصام به وصدق اللجئ إليه جل وعلا ، ومن استعاذ بالله أعاذه ، ومن توكل عليه فهو حسبه وناصره ، فنعوذ بالله تعالى من هذه الفتنة ، بل ومن سائر الفتن ما ظهر منها وما بطن ، والله أعلم .
    ثانيها : سكنى المدينة أو مكة ، فإن ساكنها معصوم من هذه الفتنة إن كان ذا إيمان صادق ، فإن الله تعالى حرم على الدجال أن يطأ أرض المدينة ومكة ، ففي حديث أبي سعيد  قال : حدثنا رسول الله  يومًا حديثًا طويلاً عن الدجال ، فكان فيما يحدثنا به أنه قال : (( يأتي الدجال وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة ... )) الحديث ، متفق عليه .
    وعن أنس بن مالك  قال : قال رسول الله  : (( ليس من بلدٍ إلى سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة وليس نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة حافين تحرسها فينـزل المدينة فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات يخرج منها كل كافرٍ ومنافق )) رواه مسلم .
    وفي حديث أبي أمامة عند ابن ماجه : (( وإنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه وظهر عليه إلا مكة والمدينة لا يأتيهما من نقب من أنقابها إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلتة ... )) الحديث ، وسنده صحيح ، والله أعلم .
    ثالثها : تعلم العلم الشرعي ، فإنه أعظم سلاح يدافع به المؤمن هذه الفتنة وغيرها من الفتن ، فإن من عرف علامات الدجال وصفاته بدراسة الأدلة عرف حقيقة أمره ، فلا ينخدع بما يجريه الله على يديه ، فإن العلم يورث البصيرة ، وصاحب البصيرة المستنيرة بالكتاب والسنة لا ينـزلق وراء هذه الدعايات الكاذبة والفتن الزائغة ، وإنما الخوف على الجهلة الذين أشغلتهم دنياهم عن آخرتهم وآثروا العاجل على الآجل ، فعصفت بهم الشهوات وغرقوا في مستنقع الشبهات ، نعوذ بالله من حال أهواء النفوس ونزعات الشياطين ومضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن ، والله أعلم .
    رابعها : أن يعتقد المؤمن الاعتقاد الجازم أنه لن يرى ربه بعيني رأسه حتى يموت ، ولذلك فقد روى مسلم في صحيحه أن النبي  حذر الناس الدجال وقال : (( إنه مكتوب بين عينه كافر يقرؤه من كره عمله أو يقرؤه كل مؤمن )) وقال : (( تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت )) .
    فهذا التنبيه النبوي الكريم الصادق منه كشف واضح وبيان ساطع وبرهان لامع على كذب دعوى الدجال للألوهية ، وأن مصدقه فيه هذه الدعوى إنما أتى من جهله بهذا التنبيه المهم ، فلابد من عقد القلب على ذلك ورسوخ هذه المسألة فيه وأن الدجال وإن جاء بالدنيا بأسرها وبالخوارق كلها ، فإنه كذاب فاجر في دعواه ، والله أعلم .
    خامسها : قراءة فواتـح سورة الكهف عند رؤيته ، وذلك لحديث النواس بن سمعان - الطويل - وفيه : (( فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف ... )) الحديث ، رواه مسلم .
    وهذا يجعل المسلم يحفظ هذه السورة كاملة ، وإن قصرت به العزيمة فلا أقل أن يحفظ فواتحها فقط .
    وروى مسلم أيضًا عن أبي الدرداء  أن النبي  قال : (( من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال )) وفي بعض الروايات : (( من خواتيم سورة الكهف )) .
    وأقول : إنه لا يثقل حفظ ذلك المقدار إلا على من حرمه الله هذه العصمة ، فإنها مع يسرها إلا أنها تقيك من شر هذه الفتنة الكبيرة ، فوصيتي لنفسي ولك - أيها الأخ المبارك - أن تحفظها كلها فإنها يسيرة ، فإن عجزت عن حفظها فلا أقل من أن تحفظ عشرًا من فواتحها وعشرًا من خواتمها ، والله أسأل أن يعينك على ذلك ، والله أعلم .
    سادسها : الفرار منه وعدم التعرض إليه ، فإنه عدو ولا يجوز تمني لقاءه ، ولأن معه فتن عظيمة - كما ذكرت لك بعضها - ، والمؤمن لا يجوز له أن يعرض دينه للفتن ، فمن سمع به فليفر منه إلى الجبال والبلاد البعيدة ، وإن كان فراره إلى مكة والمدينة فهو الأكمل ولاشك ، ففي الحديث : (( ليفرن الناس من الدجال في الجبال )) ، ولا يثق العبد بنفسه ، فكم من واثق بها تعرض له ففتنه بما معه من الفتن والخوارق ، نسأل الله تعالى أن يعيذنا من فتنته وجميع المسلمين . فهذه بعض العواصم والوسائل التي يحصل بها النجاة من فتنته ، والله أعلى وأعلم .
*  *  *
    س333: كيف يكون هلاك هذا الطاغية ؟ وعلى يد مَنْ ؟ مع بيان ذلك بالدليل .
    ج333: أقول : يكون هلاك الدجال على يد نبي الله عيسى ابن مريم - عليه الصلاة والسلام - ، وبيان ذلك قد ورد في حديث النواس بن سمعان  في الحديث الطويل وفيه : (( فبينما هو كذلك إذ بعث الله عيسى ابن مريم فينـزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعًا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله ... )) الحديث ، رواه مسلم .
    وله أيضًا من حديث عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - وفيه : (( فيبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه ... )) الحديث ، والله أعلم .
*  *  *
    س334: ما قصة الجساسة ؟ ولماذا سميت بذلك ؟
    ج334: قصة الجساسة قد وردت في صحيح الإمام مسلم  فقد رواها بسنده إلى عامر بن شراحيل الشعبي أنه سأل فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس وكانت من المهاجرات الأول فقال : حدثيني حديثًا سمعتيه من رسول الله  لا تسنديه إلى أحدٍ غيره . فقالت : لئن شئت لأفعلن . فقال لها : أجل حدثيني . فقالت : نكحت ابن المغيرة وهو من خيار شباب قريش يومئذٍ فأصيب في أول الجهاد مع رسول الله  فلما تأيمت خطبني عبدالرحمن بن عوف في نفر من أصحاب رسول الله  وخطبني رسول الله  على مولاه أسامة بن زيد ، وكنت قد حدثت أن رسول الله  قال : (( من أحبني فليحب أسامة ... )) الحديث ، وفيه أنها قالت : فلما انقضت عدتي سمعت نداء المنادي ، منادي رسول الله  ينادي : الصلاة جامعة ، فخرجت إلى المسجد فصليت مع رسول الله  فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم ، فلما قضى رسول الله  صلاته جلس على المنبر وهو يضحك فقال : (( ليلزم كل إنسانٍ مصلاه )) ثم قال : (( أتدرون لماذا جمعتكم )) ؟ فقالوا : الله ورسوله أعلم . قال : (( إني والله ما جمعتكم لرغبةٍ ولا لرهبة ، ولكن جمعتكم لأن تميمًا الداري كان رجلاً نصرانيًا فجاء فبايع وأسلم فحدثني حديثًا وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال ، حدثني : أنه ركب سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من لخم وجذام ، فلعب بهم الموج شهرًا في البحر ، ثم أرفؤوا إلى جزيرة من جزائر البحر حتى مغرب الشمس ، فجلسوا في أقرب السفينة فدخلوا الجزيرة ، فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر ، فقالوا : ويلك من أنت ؟ فقالت : أنا الجساسة . قالوا : وما الجساسة ؟ قالت : أيها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق . قال : فلما سمت لنا رجلاً فرقنا منها أن تكون شيطانة . قال : فانطلقنا سراعًا حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسانٍ رأيناه قط خلقًا وأشده وثاقًا ، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد ، قلنا : ويلك من أنت ؟ فقال : قد قدرتم على خبري فأخبروني ما أنتم ؟ قالوا : نحن أناس من  العرب ركبنا في سفينة بحرية فصادفنا البحر حين اغتلم فلعب بنا الموج شهرًا ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه ، فجلسنا في أقربها ، فدخلنا الجزيرة فلقينا دابة أهلب كثير الشعر لا يدري ما قبله من دبره من كثرة الشعر ، فقلنا : ويلك من أنت ؟ فقالت : أنا الجساسة . قلنا : وما الجساسة ؟ قالت : اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق ، فأقبلنا إليك سراعًا وفزعنا منها ولم نأمن أن تكون شيطانة . فقال: أخبروني عن نخل بيسان . قلنا : عن أي شأنها تستخبر ؟ قال : أسألكم عن نخلها هل يثمر ؟ قلنا له : نعم . قال : إنه يوشك ألا يثمر . قال : أخبروني عن بحيرة طبرية . قلنا : عن أي شأنها تستخبر ؟ قال : هل فيها ماء ؟ قالوا : هي كثيرة الماء . قال : أما إن ماءها يوشك أن يذهب . قال : أخبروني عن عين زغر . قالوا : عن أي شأنها تستخبر ؟ قال : هل في العين ماء ؟ وهل يزرع أهلها بماء العين ؟ قلنا : نعم هي كثيرة الماء وأهلها يزرعون من مائها . قال : أخبروني عن نبي الأميين ما فعل ؟ فقالوا : قد خرج من مكة ونزل يثرب . قال : أقاتله العرب ؟ قلنا : نعم . قال : كيف صنع بهم ؟ فأخبرناه أنه ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه . قال لهم : قد كان ذلك ؟ قلنا : نعم . قال: أما إن ذلك خير لهم أن يطيعوه وإني مخبركم عني، إني أنا المسيح ، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلى هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة فهما محرمتان علي كلتاهما ، كلما أردت أن أدخل واحدة استقبلني ملك بيده السيف صلتًا يصدني عنها وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها )) . قالت - أي راوية الحديث - : فقال رسول الله  - وطعن بمخصرته في المنبر - : (( هذه طيبة هذه طيبة هذه طيبة - يعني المدينة - ألا هل كنت حدثتكم ذلك )) ؟ فقال الناس : نعم. فقال : (( إنه قد أعجبني حديث تميم لأنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة ، ألا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن ، لا بل من قبل المشرق ما هو ، من قبل المشرق ما هو من قبل المشرق ما هو )) وأومأ بيده إلى المشرق ، قالت : فحفظت ذلك من رسول الله  .
    فهذا هو خبر الجساسة وشيء من أخبار الدجال ، وقف عند ذلك ولا تشغل نفسك عن معرفة مكانه فإنه من علامات الساعة الكبار والفتن العظام ، والحمد لله الذي أضلنا عن مكانه ، ولا تعرض نفسك للفتنة وكثرة السؤال عن مالا برهان عليه مما يحتاج إلى دليل ، وانظر إلى الصحابة - رضوان الله عليهم - فإنهم قد سمعوا هذا الحديث ولم يتكلفوا سؤال النبي  عن مكان هذه الجزيرة ، وإنما هذا دأب الفضوليين الذين كثروا في هذا الزمان ، ممن يدخلون أنوفهم فيما لا شأن لهم به ، فقف حيث وقف النص وقل : (( آمنا به كل من عند ربنا )) ، ولا تعمل عقلك في الأمور التي هي خارجة عن حد إدراكه فتهلك ، وعليك ببذل الجهد في تحصيل العلم النافع والعمل الصالح ، ولا تكن كأبي عبية ذي الأفكار والأوهام الغبية ، فإنه قد جعل عقله حاكمًا على الأدلة الشرعية ، وأعمله إعمال الأحمق في الأمور الغيبية ، فجادل في النصوص الواضحات الجلية ، ورد كثيرًا من الأدلة الشرعية ، بلا برهان ولا حجة نقية غير أنها لم تتوافق مع مدركاته العقلية فاطرحها ورفضها وعاب من يصدقها ووصفه بالأوصاف الردية ، ألا فخاب سعيه وشاه مذهبه ، ونعوذ بالله من تقديم العقول على الأدلة الشرعية ، بل النص عندنا هو المقدم وشأنه هو المعظم فهو الميزان وما سواه فموزون ، وهو السابق وما سواه فلاحق ، وهو المتبوع وما سواه فتابع ، وهو الأصل وما سواه ففرع ، فهذا الحديث يجب أن يتلقى بالقبول والإذعان والتسليم وترك الخوض فيما لا طائل من ورائه ولا ثمرة تجنى منه ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، والله أعلم .
    وأما لماذا سميت بذلك : فاعلم أن الجساسة مأخوذة من الجس وهو تحسس الخبر ، فهي تتحسس الأخبار للدجال ، والله أعلم .
    فإذا سُئلت : هل الجساسة هي الدابة التي ستخرج في آخر الزمان ؟ فقل : الله أعلم . وإن سُئلت : هل هذه الجزيرة في بحر كذا أو بحر كذا ؟ فقل : الله أعلم . والله يتولانا وإياك ، وهو أعلى وأعلم .
*  *  *
    س335: ما العلامة الثالثة من العلامات الكبرى ؟ مع بيانها بالأدلة .
    ج335: العلامة الثالثة هي نزول عيسى ابن مريم - عليه الصلاة والسلام - ، وقد ثبت نزوله بالكتاب ، والسنة ، والإجماع .
    فأما الكتاب : ففي قوله تعالى :  وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا  ، وقد ثبت عن ابن عباس بالسند الصحيح أنه فسر هذه الآية بالإيمان به بعد نزوله في آخر الزمان وقبل موته الميتة التي كتبها الله عليه ، ذكر ذلك ابن جرير وابن كثير وغيرهم من أئمة التفسير .
    ومنها قوله تعالى :  وإنه لعلم للساعة  أي أن نزوله من علامات قرب الساعة ، وقد قرئ في قراءة سبعية :  وإنه لعَلَمٌ للساعة  بفتح العين واللام وهي مروية عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما من أئمة التفسير .
    وأما السنة فكثير جدًا : فمن ذلك : ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينـزل فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا فيكسر الصليب ويقتل الخنـزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد )) ، وزاد في رواية : (( وحتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها )) ، ثم يقول أبو هريرة  : (( اقرءوا إن شئتم :  وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ...  )) .
    ومن ذلك : ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله  : (( والله لينـزلن ابن مريم حكمًا عادلاً فليكسرن الصليب وليقتلن الخنـزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاس فلا يسعى عليها ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد )) .
    ومن ذلك : ما رواه مسلم في الصحيح في حديث النواس - الطويل - ، وفيه : (( فبينما هو كذلك - أي الدجال - إذ بعث الله المسيح ابن مريم - عليه السلام - ... )) الحديث .
    ومن ذلك : ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم )) .
    ومن ذلك : ما رواه مسلم عن جابر  قال : سمعت النبي  يقول : (( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة )) قال: (( فينـزل عيسى ابن مريم - عليه السلام - ، فيقول لهم : تعال فصل لنا . فيقول : لا ، إن بعضكم على بعضٍ أمراء تكرمة الله لهذه الأمة )) .
    ومن ذلك : ما رواه مسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري في ذكر النبي  لعلامات الساعة ، وذكر منها : (( ونزول عيسى ابن مريم ... )) الحديث .
    ومن ذلك : ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( والذي نفسي بيده ، ليهلنَّ ابن مريم بفج الروحاء حاجًا أو معتمرًا أو ليثنينَّهما )) .
    ومن ذلك : ما رواه الإمام أحمد في المسند عن أبي هريرة  أن النبي  قال : (( الأنبياء إخوة لعلات ، أمهاتهم شتى ودينهم واحد ، وإني أولى الناس بعيسى ابن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي ، وإنه نازل ، فإذا رأيتموه فاعرفوه )) وسنده صحيح ، وأوله في صحيح البخاري ، والله أعلم .
    ومن ذلك : حديث أوس بن الصامت  قال : قال رسول الله  : (( ينـزل عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق )) رواه الطبراني بإسناد صحيح .
    وغير ذلك من النصوص ، وقد ذكر كثير من أهل العلم أن الأحاديث في نزوله قد تواترت التواتر المعنوي ، وممن صرح بذلك ابن جرير الطبري في تفسيره ، وابن كثير في تفسيره ، ومن المتأخرين الشيخ صديق خان ، والشيخ الغماري وغيرهم ، فالواجب الإيمان بذلك ولا يجوز تحريف هذه النصوص ، أو دعوى أنها من الآحاد وأمور العقيدة لابد فيها من المتواتر ، فإن هذا مسلك الهالكين من أهل البدع ، والله أعلم .
    وأما الإجماع : فقد أجمعت الأمة - زادها الله شرفًا ورفعة - على نزول المسيح عيسى ابن مريم - عليه الصلاة والسلام - ولم يخالف في ذلك أحد، إلا الفلاسفة والملاحدة ممن لا يعتد بخلافهم ولا وفاقهم ؛ لأنهم نكرات أوباش سفلة سقطة لا يعرفون معقولاً ولا يحترمون ويعظمون منقولاً ، فلا نقل عندهم ولا عقل ، ومن لا عقل ولا نقل عنده فإنه يكون من سقط المتاع الذي لا يؤبه بخلافه ولا بموافقته ، والله أعلم .
*  *  *
    س336: لماذا سمي عيسى ابن مريم بالمسيح ؟ واذكر لنا شيئًا من صفاته ، ومكان نزوله ووقته ، مؤيدًا جميع ما تذكره بالأدلة .
    ج336: أقول : أما سبب التسمية بذلك ، ففيه أقول :
    فقيل : لأن زكريا - عليه السلام - مسح عليه عندما ولد . وقيل : لأنه يمسح الأرض أي يقطعها . وقيل : لأنه يمسح ذا العاهة فيبرأ . وقيل : إنها مأخوذة من السماحة .
    وقد سماه الله في القرآن بذلك في عدة آيات فقال تعالى :  لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم  ، وفي قوله تعالى :  وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم  ، وفي قوله تعالى :  إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله  ، وغير ذلك من الآيات ، وقد وردت السنة أيضًا بهذه التسمية ، فنحن نقول كما قال ربنا وكما قال نبينا  .
    وأما صفاته ، فقد وردت السنة الصحيحة بشيءٍ من صفاته وأنه رجل مربوع القامة ، ليس بالطويل ولا بالقصير ، جعد الشعر الجعودة المستحسنة ، أحمر اللون ، عريض الصدر ، وأنه مشبه بعروة بن مسعود الثقفي الصحابي الجليل  ، وأن له لمة حسنة قد رجلها تملأ ما بين منكبيه ، ودليل ذلك ما رواه الشيخان عن أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( ليلة أسري بي لقيت موسى - فذكر صفاته - ، ولقيت عيسى فإذا هو ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس يعني ( الحمام ) )) .
    وروى البخاري من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله  : (( رأيت عيسى وموسى وإبراهيم ، فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر )) .
    وروى مسلم في الصحيح عن أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني ... )) الحديث ، وفيه : (( وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي أقرب الناس به شبهًا عروة بن مسعود الثقفي )) .
    وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أن رسول الله  قال : (( أراني الليلة في المنام عند الكعبة فرأيت رجلاً آدم كأحسن ما ترى من آدم الرجال ، له لِمَّةٌ كأنت ما أنت راءٍ من اللمم قد رجلها ، فهي تقطر ماءً ، متكئًا على رجلين يطوف بالبيت ، فسألت : من هذا ؟ فقيل : هذا المسيح ابن مريم )) ، والله أعلم .
    وأما مكان نزوله وكيف ذلك ، فقد ثبت وصف ذلك في السنة الصحيحة ، وذلك أنه بعد خروج الدجال وإفساده في الأرض يبعث الله تعالى المسيح - عليه السلام - فينـزل إلى الأرض ويكون نزوله عند المنارة البيضاء شرقي دمشق الشام ، وعليه مهرودتان أي أنه قد لبس ثوبين مصبوغين بورسٍ وزعفران ، واضعًا كفيه على أجنحة ملكين ، إذا طأطأ رأسه قطر ، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي إليه طرفه . وقد ثبت ذلك في حديث النواس بن سمعان عند مسلم ، وقد ذكرناه من قبل ، وهو بنفس هذا اللفظ المذكور في الإجابة إلا قليلاً .
    ويكون نزوله على الطائفة المنصورة التي تقاتل على الحق ، وتكون مجتمعة لقتال الدجال ، فينـزل وقد أقيمت الصلاة ، فيطلب منه أمير القوم وإمامهم أن يتقدم فيصلي بهم ، فيرفض ، ويصلي خلف أمير تلك الطائفة ، وقد تقدم الحديث في ذلك قبل قليل ، والله أعلم .
*  *  *
    س337: كم مدة مكثه - عليه السلام - في الأرض ؟ وبماذا يحكم عند نزوله ؟ وهل يصدق عليه أنه صحابي ؟
    ج337: لقد أخبر النبي  أن مدة بقائه  في الأرض أربعين سنة ثم يموت الميتة التي كتبها الله عليه ، ويصلي عليه المسلمون ، ويدفن ، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن أبي هريرة  أن رسول الله  قال : (( ثم يمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون )) رواه أبو داود وإسناده صحيح .
    وأما بماذا يحكم ؟ فاعلم - رحمك الله تعالى - أن عيسى - عليه السلام - من جملة المجددين في هذه الأمة ، فلا يحكم إلا بالشريعة التي جاء بها محمد  لا بشرعٍ جديد ؛ لأن دين الإسلام خاتم الأديان وشريعته آخر الشرائع وباقية إلى قيام الساعة لا تنسخ ، فيكون عيسى - عليه السلام - حاكمًا من حكام هذه الأمة ومجددًا من مجدديها ، إذ لا نبي بعد رسول الله  ، فعيسى - عليه الصلاة والسلام - من جملة أتباع النبي  وقد قال - عليه الصلاة والسلام - لعمر : (( لو كان موسى حيًا ما وسعه إلا اتباعي )) ، فلا يحكم إلا بالإسلام ، ولا يرضى إلا بالإسلام .
    فإن قلت : فإنه قد ثبت في الحديث أنه يضع الجزية ، والجزية من الشريعة ، فكيف يضعها ؟ فأقول : ليس هذا نسخًا ولا شرعًا جديدًا جاء به عيسى - عليه السلام - ، وإنما هو بهذا الوضع يحكم بالشريعة ؛ وذلك لأن وضع الجزية مقيد بزمن عيسى - عليه السلام - بدليل أن النبي  أخبر بذلك إخبار راضٍ به مقررًا له ، وقد أخبرنا أن شريعته في الجزية هي أنها توضع عند نزول عيسى ابن مريم ، ولم ينكر ذلك ولم يأمر المسلمين في زمن نزوله برفض ذلك ، ومن المعلوم أن إقراره  حجة على الجواز كما تقرر ذلك في الأصول .
    وخلاصة الأمر : أن عيسى - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - عند نزوله لا يحكم إلا بالإسلام ، والله أعلم .
    وأما قولك في السؤال : وهل هو صحابي ؟ فأقول : لقد عرف العلماء الصحابي بأنه : من ثبت لقاؤه للنبي  في حياته مؤمنًا به ومات على الإيمان .
    وهذه القيود كلها متوفرة في عيسى - عليه السلام - ، فإنه قد لقي النبي  وذلك في ليلة الإسراء والمعراج ، كما ثبت ذلك في الأحاديث في الصحيحين ، وسيأتي الكلام عن ذلك مفصلاً - إن شاء الله تعالى - ، وهو حال لقائه به مؤمنًا به ولاشك في ذلك وسيموت على الإيمان ولاشك ، فصدق عليه تعريف الصحابي ، فهو إذًا من جملة الصحابة ، ولا يرد على ذلك أنه  قد لقي آدم ، وموسى ، وإبراهيم ، وإدريس ، وزكريا ، ويحيى ، ويوسف ؛ لأن هؤلاء قد ماتوا الميتة التي كتبت عليهم ، وأما عيسى فإنه لقيه وهو حي الحياة الدنيوية ؛ لأن الله تعالى رفعه حيًا إلى السماء .
    ولذلك فإن الإمام الذهبي - رفع الله نزله في الفردوس الأعلى - قال في كتابه تجريد أسماء الصحابة : (( عيسى ابن مريم - عليه الصلاة والسلام -، صحابي ونبي ، فإنه رأى النبي  ليلة الإسراء وسلم عليه ، فهو آخر الصحابة موتًا )) ا.هـ كلامه .
    وجملة القول: أنه - عليه السلام - من الصحابة، وهو آخرهم موتًا، والله أعلى وأعلم .
*  *  *
    س338: ما العلامة الرابعة من علامات الساعة الكبرى ؟ مع بيانها بالأدلة .
    ج338: العلامة الرابعة من علامات الساعة الكبرى هي خروج يأجوج ومأجوج ، وخروجهم على الناس قد ثبت به الكتاب ، والسنة الصحيحة ، والإجماع .
    فأما الكتاب : فقوله تعالى :  حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدبٍ ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلةٍ من هذا بل كنا ظالمين  ، وقال تعالى :  حتى إذا بلغ السدين وجد من دونهما قومًا لا يكادون يفقهون قولاً . قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجًا على أن تجعل بيننا وبينهم سدًا . قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردمًا . آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارًا قال آتوني أفرغ عليه قطرًا . فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا . قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقًا . وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعًا  .
    فهذه الآيات تدل دلالة صريحة على أن اندكاك السد وخروج يأجوج ومأجوج من علامات قرب الساعة جدًا ، فالله المستعان .
    وأما السنة ، ففي أحاديث :
    منها : ما ثبت في الصحيحين عن أم حبيبة بنت أبي سفيان عن زينب بنت جحش أن رسول الله  دخل عليها فزعًا ذات يومٍ فقال : (( ويل للعرب من شد قد اقترب ، فتح اليـوم من ردم يأجوج ومأجـوج مثل هذه )) ، وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها ، قالت زينب بنت جحشٍ : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : (( نعم إذا كثر الخبث )) .
    ومنها : ما جاء في صحيح مسلم من حديث النواس بن سمعان - الحديث الطويل - وفيه : (( إذ أوحى الله تعالى إلى عيسى أني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحدٍ بقتالهم ، فحرز عبادي إلى الطور ويبعث الله يأجوج وهم من كل حدبٍ ينسلون ، فيمر أولئك على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ، ويمر آخرهم فيقولون : لقد كان بهذه مرةً ماءً ، ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرًا من مائة دينار لأحدكم اليوم ، فيرغب نبي الله عيسى والمؤمنون إلى الله تعالى ، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفسٍ واحدة ، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم ، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله تعالى ، فيرسل الله تعالى طيرًا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله تعالى )) وفي رواية : (( ثم يسيرون )) أي يأجوج ومأجوج (( حتى ينتهوا إلى جمل الخمر وهو جبل بيت المقدس فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض ، هلم فلنقتل من في السماء ، فيرمون بنشابهم إلى السماء ، فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبًا دمًا )) .
    ومنها : ما جاء في حديث حذيفة بن أسيد  في تعديد النبي  لأشراط الساعة وفيه : (( ويأجوج ومأجوج )) .
    ومنها : حديث عبدالله بن مسعود  - الحديث الطويل - : (( ثم يرجع الناس إلى بلادهم فيستقبلهم يأجوج ومأجوج وهم من كل حدبٍ ينسلون ، لا يمرون بماءٍ إلا شربوه ، ولا بشيء إلا أفسدوه يجأرون إلى الله تعالى فيميتهم فتجوى الأرض منهم ومن ريحهم ، فيجأرون إلي - أي إلى عيسى عليه السلام - فأدعو الله فيرسل السماء بالماء فيحملهم فيقذف بأجسامهم إلى البر )) رواه أحمد والحاكم وسنده جيد .
    ومنها : حديث أبي هريرة  وفيه : (( ويخرجون على الناس - أي يأجوج ومأجوج - فيستقون الماء ويفر الناس منهم ، فيرمون سهامهم فترجع مخضبة بالدماء ، فيقولون : قهرنا أهل الأرض وغلبنا أهل السماء قوةً وعلوًا )) قال : (( فيبعث الله عز وجل عليهم نغفًا في أقفائهم فيهلكهم، والذي نفسي بيده إن دواب الأرض لتسمن وتبطر وتشكر شكرًا وتسكر سكرًا من لحومهم )) رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن غريب ، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي ، وقال الحافظ : رجاله رجال الصحيح إلا أن قتادة مدلس . اهـ ، وصححه الألباني - رحم الله الجميع رحمة واسعة - .
    ومنها : ما في الصحيح : (( يقول الله تعالى : ( يا آدم ) . فيقول : لبيك وسعديك . فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج بعث النار ... )) الحديث ، وفيه : (( إن من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم رجل واحد )) .
    وأما الإجماع : فقد أجمع أهل السنة - رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم - على إثبات ذلك ولم يخالف فيه إلا أهل الأهواء والبدع ، والله أعلى وأعلم .
*  *  *
    س339: ما أصل يأجوج ومأجوج ؟ ومن الذي بنى السد بينهم وبين الناس ؟ وأين هو الآن ؟ واذكر شيئًا من صفاتهم ؟
    ج339: أصل يأجوج ومأجوج من البشر من ذرية آدم وحواء - عليهما الصلاة والسلام - ، وهذا قول أهل السنة ، وأما قول من قال إنهم من ذرية آدم فقط لا من حواء وأن آدم احتلم فاختلط منيه بالتراب فخلق منه يأجوج ومأجوج فهو قول ساقط لا دليل عليه ، ولم يرد عمن يجب قبول قوله ، وهو مخالف للحديث الصحيح : (( إن الله يأمرك أن تخرج بعث النار )) ثم قال : (( إن من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم رجل واحد )) رواه البخاري عن أبي سعيد  .
    ويدل على ذلك أيضًا حديث عبدالله بن عمرو بن العاص عن رسول الله  أنه قال : (( إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم وأنهم لو أرسلوا على الناس لأفسدوا عليهم معايشهم ولن يموت منهم أحد إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا )) وسنده جيد .
    قال ابن حجر: (( ولم نر هذا - أي القول الآخر - عند أحد من السلف إلا عن كعب الأحبار، ويرده الحديث المرفوع: (( إنهم من ذرية نوح )) ونوح من ذرية حواء قطعًا )) ا.هـ .
    وذكر ابن كثير : (( أن يأجوج ومأجوج من ولد يافث أبي الترك ، ويافث من ولد نوح - عليه السلام - )) ا.هـ .
    فهذا يبين أن يأجوج ومأجوج من ذرية آدم وحواء - عليهما السلام - ولا اعتداد بقولٍ يخالف هذا القول .
    وأما الذي بنى السد بينهم وبين الناس فهو ذو القرنين الرجل الصالح والمجاهد العظيم ، وذلك ثابت بالقرآن كما في قوله تعالى :  حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قومًا لا يكادون يفقهون قولاً . قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجًا على أن تجعل بيننا وبينهم سدًا ...  الآيات بعدها .
    وأما مكانه بالتحديد فإنه لا يعرف ولا مطمع في معرفته ولم نكلف التعرف عليه ، بل نحن مأمورون بالابتعاد عنه ؛ لأن وراءه فتنة عظيمة ولا ينبغي تعريض النفس للفتن ، ولأن يأجوج ومأجوج أمتان مفسدتان عدوتان لنا ، والطمع في التعرف على مكانهم بالتحديد هو من باب تمني لقاء العدو ، وقد نهينا عن ذلك ، ويكفي من ذلك أن نؤمن بخروجهم ووجودهم ، والله أعلم بما وراء ذلك .
    ودعك من الأخبار التي لم تبن على يقين وعلم وبرهان ، فإن بعض الأولين قد رام التعرف على مكان السد وبعث بعثًا وأنهم وجدوه ، ولكن لا يعرف لهذه القصة سند يثبت ، والأمر غيب ، ولو كان العلم بعين مكان السد مما ينفع العبد في دينه لبيَّنه الله ورسوله  ، ولله در زينب بنت جحش التي سمعت النبي  يقول : (( لقد فتح من ردم يأجوج ومأجوج قدر هذه ... )) الحديث ، ولم تقل أين هو ولا بين لنا مكانه ، وإنما سألت عن المهم في الدين : (( أنهلك وفينا الصالحون )) .
    وقد كان النبي  يحدث الصحابة بأحاديث يأجوج ومأجوج ولم يتكلفوا أن يسألوا عن مكانه ؛ لأنهم علموا أنه مما لا ينفعه في دينهم ، ومن المتقرر أنه لابد من فهم الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح ، فمن سمعته يتكلف السؤال عن مكانهم ويتعب نفسه في جمع الأخبار في ذلك ، فقل له : ( هلك المتنطعون ) .
    والخلاصة : أن مكان السد تحديدًا مما لا يعرف ومما لم نكلف بمعرفته ، فالحمد لله رب العالمين .
    وأما صفاتهم : فهم في الجملة يشبهون أبناء جنسهم من الترك الغتم المغول ، ذلف الأنوف ، صهب الشعور ، عراض الوجوه ، كأن وجوههم المجان المطرقة ، على أشكال الترك وألوانهم ، وأنهم أقوياء .
    فقد روى الإمام أحمد عن ابن حرملة عن خالته قالت : خطب رسول الله  وهو عاصب أصبعه من لدغة عقرب ، فقال : (( إنكم تقولون : لا عدو ، وإنكم لا تزالون تقاتلون عدوًا حتى يأتي يأجوج ومأجوج ، عراض الوجوه ، صغر العيون ، شهب الشعاف ، من كل حدبٍ ينسلون ، كأن وجوههم المجان المطرقة )) وسنده جيد .
    وأما وصفهم بالقصر المفرط أو الطول المفرط ، والآذان الطويلة ، بحيث يفترش أحدهما ويلتحف الأخرى ، فلا والله لا سند لهذه الصفات يصح الاعتماد عليه ، وإنما هي مذكورة في آثار وأخبار لا سند لها أو لا يثبت أهل الحديث مثله ، فكل ذلك ضعيف لا يعتمد عليه .
    وأما قوتهم  فهي ثابتة ، وذلك كما في حديث النواس عند مسلم وفيه : (( وإنه لا يدان لأحدٍ بقتالهم )) .
    فهذا ما يتعلق بهم ، والله أعلى وأعلم .
*  *  *
    س340: ما العلامة الخامسة من علامات الساعة الكبرى ؟ مع الدليل .
    ج340: العلامة الخامسة من علامات الساعة الكبرى ، هو الخسوف الثلاثة : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب .
    كما ورد ذلك في حديث حذيفة بن أسيد  أن رسول الله  قال : (( لن تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات ... )) فذكر منها : (( وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب )) . قلت : يا رسول الله ، أيخسف بالأرض وفيها الصالحون ؟ قال له : (( إذا أكثر أهلها الخبث )) رواه الطبراني وسنده جيد .
    وهذه الخسوفات لم تقع بعد - ولله الحمد والمنة - ، بل هي كغيرها من الأشراط التي لم يظهر شيء منها ، وما ذكره بعض أهل العلم من وقوع بعض الخسوفات في أماكن وأزمنة متفرقة ، فإنما هو من الأشراط الصغرى ، أما هذه الخسوفات الثلاثة فإنها لم تقع بعد ، لأنها ستكون عظيمة ، فنسأل الله تعالى أن نموت قبل ظهور شيء من ذلك ، نسأل الله تعالى أن نموت قبل ظهور شيء من ذلك ، نسأل الله تعالى أن نموت قبل ظهور شيء من ذلك ، والله أعلى وأعلم .
*  *  *
    س341: ما العلامة السادسة من علامات الساعة الكبرى ؟ موضحًا لها بالأدلة ؟
    ج341: العلامة السادسة من علامات الساعة الكبرى ، ظهور الدخان في آخر الزمان .
    وقد ثبت ذلك بالقرآن والسنة والإجماع .
    فأما الكتاب : ففي قوله تعالى :  فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين . يغشى الناس هذا عذاب أليم  .
    وقد اختلف أهل العلم في هذا الدخان المذكور في الآية على قولين : الأقرب منها قول ابن عباس - رضي الله عنهما - ومن تبعه من السلف من أنه لم يظهر بعد ، وأنه علامة من العلامات الكبرى للساعة ، فهو - أي الدخان - من الآيات المنتظرة التي نسأل الله تعالى أن نموت قبل ظهور شيء منها .
    وأما السنة : ففي حديث حذيفة بن أسيد الغفاري  عند مسلم قال : اطلع علينا رسول الله  ونحن نتذاكر الساعة ، فقال : (( إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات )) فذكر منها : (( الدخان ، والدجال ، والدابة ، وطلوع الشمس من مغربها ، ونزول عيسى ابن مريم ... )) الحديث .
    وقد أجمعت الأمة على أن الدخان من علامات الساعة ، ولكنهم اختلفوا هل هو من علاماتها الصغرى التي ظهرت وانقضت ، أو هو من العلامات الكبار التي لازالت تنتظر كغيرها من العلامات ؟ والصحيح : أنه من العلامات الكبار التي لازالت تنتظر ، وأما ما ورد في الصحيحين من حديث ابن مسعود أنه ما رأته قريش من شدة ما أصابها من الجوع والعطش ، فإن هذا نوع منه ولكنه ليس هو حقيقة ، فإن ما يراه شديد الجوع من الغتمة في الأفق إنما هو شيء يتوهمه بسبب شدة الجوع ، والدخان الذي أخبر به النص دخان حقيقي ، بل هو موصوف بأنه دخان مبين وأنه يغشى الناس ، وليست قريشًا وحدها ، ولأن النبي  قال لابن صياد : (( إني خبأت لك خبأً )) فقال : هو الدخ . فقال : (( اخسأ فلن تعدو قدرك )) .
    وهذه القصة في المدينة ، وهذا يدل على أنه مما ينتظر لا أنه مما مضى وانقضى ، والله ربنا أعلى وأعلم .
 *  *  *
    س342: ما العلامة السابعة من علامات الساعة الكبرى ؟ مع توضيحها بالأدلة .
    ج342: العلامة السابعة ، هي طلوع الشمس من مغربها - والعياذ بالله أن ندرك ذلك الزمن - .
    وقد ثبت ذلك بالقرآن ، والسنة ، والإجماع .
    فأما القرآن : ففي قوله تعالى :  يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا  ، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة أن المراد ببعض الآيات المذكورة هو طلوع الشمس من مغربها وهو قول كثير من المفسرين .
    وروى الشيخان من حديث أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذاك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا )) .
    وروى البخاري عن أبي هريرة  أن رسول الله  قال : (( لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان ... )) فذكر الحديث وفيه : (( وحتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت آمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا )) .
    وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة  أن رسول الله  قال : (( بادروا بالأعمال ستًا : طلوع الشمس من مغربها ... )) الحديث .
    ولمسلم أيضًا من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري في ذكر أشراط الساعة ، فذكر منها : (( وطلوع الشمس من مغربها )) .
    ولمسلم أيضًا من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال : حفظت من النبي  حديثًا لم أنسه بعد ، سمعت رسول الله  يقول : (( إن أول الآيات خروجًا طلوع الشمس من مغربها ، وطلوع دابة الأرض من موضعها ، وأيتهما كانت قبل الأخرى فالأخرى على أثرها قريبًا )) .
    ولمسلم أيضًا من حديث أبي ذر  أن النبي  قال يومًا : (( أتدرون أين تذهب الشمس )) ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : (( إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها : ارتفعي ، ارجعي من حيث جئت ، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ، ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة ، ولا تزال كذلك حتى يقال لها : ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة مطلعها ، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئًا حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش فيقال لها : ارتفعي ، أصبحي طالعة من مغربك ، فتصبح طالعة من مغربها )) ، فقال رسول الله  : (( أتدرون متى ذاكم ؟ ذاك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا )) ورواه البخاري أيضًا لكنه مختصر .
    وقد أجمعت الأمة على إثبات هذه العلامة ، فلا عبرة بمن تأثر بالعقلانيين الذين يقدمون العقل على النقل ويعرضون النصوص على عقولهم العفنة ، فما وافقها قبلوه وما خالفها ردوه واتهموه ، فلا بارك الله فيهم ولا كثرهم الله ، ونعوذ بالله منهم ومن حالهم .
    فهذا هو شأن العلامة السابعة مقرونة بأدلتها من الكتاب والسنة والإجماع ، آمنا بذلك كله فإنه كل من عند ربنا ، ورسولنا  لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، والله أعلم .
*  *  *
    س343: ما العلامة الثامنة من علامات الساعة الكبرى ؟ مع ذكر الأدلة عليها .
    ج343: العلامة الثامنة ، هي طلوع دابة الأرض من موضعها ، وذلك يكون في آخر الزمان .
    وقد ثبت ذلك بالكتاب والسنة والإجماع .
    فأما الكتاب : فقوله تعالى :  وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون  .
    وأما السنة : فقد روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا : طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، ودابة الأرض )) .
    ولمسلم أيضًا عـن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله  : (( أول الآيات خروجًا طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة على الناس ضحى ، وأيهما كانت قبل الأخرى فالأخرى على أثرها قريبًا )) .
    وله في حديث حذيفة بن أسيد الغفاري في تعديد أشراط الساعة وذكر منها : (( والدابة )) وفي رواية : (( ودابة الأرض )) .
    ولأحمد في المسند من حديث أبي أمامة  يرفعه للنبي  قال : (( تخرج الدابة ، فتسم الناس على خراطيمهم ثم يغمرون - أي يكثرون - فيكم حتى يشتري الرجل البعير فيقول : ممن اشتريته ؟ فيقول : من أحد المخطمين )) وسنده صحيح .
    وروى مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة  أن رسول الله  قال : (( بادروا بالأعمال ستًا ... )) وذكر منها : (( دابة الأرض )) .
    وقد أجمع أهل السنة قاطبة على إثبات خروج هذه الدابة ولم يخالف في ذلك أحد ، وإنما الخلاف حصل في بعض التفاصيل فقط ، وإلا فأصل خروج الدابة متفق عليه بين أهل السنة ، والله أعلم .
*  *  *
    س344: ما الذي يجب على المؤمن في أمر هذه الدابة ؟ وما الذي ينبغي له الحذر منه ؟
    ج344: يجب على المؤمن في أمر هذه الدابة أن يؤمن إيمانًا جازمًا ويصدق تصديقًا يقينيًا بأن الله تعالى في آخر الزمان قرب قيام الساعة إذا وقع القول على الناس سيخرج عليهم من الأرض دابة - الله أعلم بحقيقة أمرها - وأنها تكلم الناس كلامًا يفهمونه ، وتسم المؤمن والكافر ، وأنها بلاشك تخالف معهود البشر من الدواب خلقة وعملاً ، وأنها من علامات الساعة الكبرى ، وأنه بعد خروجها يقفل باب التوبة فلا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا .
    والذي ينبغي للمؤمن الحذر منه هو الخوض فيما لا علم له به ولا برهان يعضده وأن يعلم أن الأمر غيب وأمور الغيب لا مدخل للعقول فيها ، فإنها خارجة عن مدركات العقول وطاقاته ، وليحذر العاقل من فتح الباب على نفسه بالترهات الباطلة والآثار التافهة التي لا خطام لها ولا زمام ، فإن بعض الأغبياء انساق وراء أفكاره التافهة حتى زعم أن الدابة هي هذه الحشرات التي في الجو وفي بدن الإنسان التي تفتك به وهو لا يشعر ، وهذا زعم باطل ورأي عاطل عن البرهان ، بل هو مخالف للنصوص ولما أجمع عليه أهل السنة ، ولا نقول إلا أن هذه الآراء الباطلة والمذاهب العاطلة هي في حقيقتها الجراثيم التي توجب لصاحبها تعطيل النصوص وتحريفها والتشكيك في صحتها وصراحتها ، وحق أصحابها أن يرش في وجوههم مبيد الحشرات حتى يتخلصوا من جراثيمهم التي عشعشت في عقولهم ونسجت خيوطها في أفهامهم ، نعوذ بالله من حال من قدم عقله على نص الشريعة ، والله أعلى وأعلم .
*  *  *
    س345: ما العلامة التاسعة من علامات الساعة الكبرى ؟ مع ذكر الأدلة عليها .
    ج345: العلامة التاسعة من العلامات الكبرى ، النار التي تخرج من اليمن من قعرة عدن ، من بحر حضرموت .
    ودليلها حديث حذيفة بن أسيد الغفاري الذي تقدم مرارًا وفيه : (( وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم )) رواه مسلم، وفي رواية : (( تخرج من قعر عدن )) ، وفي رواية : (( وآخر ذلك نار تخرج من اليمن من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر )) .
    وروى الإمام البخاري من حديث أنس بن مالك  قال : قال رسول الله  : (( أول أشراط الساعة نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ... )) الحديث .
    وروى الإمام أحمد من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله  : (( ستخرج نار من حضرموت أو من بحر حضرموت قبل يوم القيامة تحشر الناس )) وسنده صحيح .
    وقد انعقد الإجماع على هذه العلامة العظيمة وأنها من العلامات الكبار التي هي آخر الأشراط باعتبار بقية العلامات السابقة ، والله أعلم .
*  *  *
    س346: كيف يكون حشر هذه النار للناس ؟ مع بيان ذلك بالدليل .
    ج346: أقول : إذا ظهرت هذه العلامة العظيمة من اليمن فإنها تنتشر في الأرض وتسوق الناس إلى أرض المحشر ، ويكون حشرها للناس على ثلاثة أشكال :
    الأول : أناس يحشرون راغبين طامعين كاسين راكبين .
    الثاني : أناس يمشون تارة ويركبون تارة ويعتقبون البعير الواحد .
    الثالث : أناس تحشرهم فتحيط بهم وتسوقهم من كل جانب إلى أرض المحشر ومن تخلف منهم فإنها تأكله .
    والدليل على ذلك حديث أبي هريرة  أن النبي  قال : (( يحشر الناس على ثلاث طرائق : راغبين راهبين ، واثنان على بعير ، وثلاثة على بعير ، وأربعة على بعير ، وعشرة على بعير ، وتحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا ، وتبيت معهم حيث باتوا ، وتصبح معهم حيث أصبحوا ، وتمسي معهم حيث أمسوا )) متفق عليه .
    وقد اختلف أهل العلم - رحمهم الله تعالى - في وقت هذا الحشر على هذه الصفة ، والصواب الذي لا مرية فيه أنه آخر الزمان قبل يوم القيامة لا بعده ، واختار هذا القول الإمام الخطابي ، والقاضي عياض ، والقرطبي ، وابن كثير ، وابن حجر ، وغيرهم ، وهو الذي يقتضيه الدليل السابق ، والله أعلم .
*  *  *
    س347: ما الأرض التي يحشر إليها الناس ؟ مع ذكر الدليل .
    ج347: الأرض التي يحشر إليها الناس هي أرض الشام ، ودليل ذلك حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال : سمعت رسول الله  يقول : (( إنكم محشورون رجالاً وركبانًا وتجرون على وجوهكم ههنا )) وأومأ بيده نحو الشام . رواه أحمد والترمذي وسنده حسن .
    وعن أبي ذر  أن رسول الله  قال : (( الشام أرض المحشر والمنشر )) صححه الإمام الألباني - رحمه الله تعالى - .
    وعن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال : (( ليأتين على الناس زمان لا يبقى على الأرض مؤمن إلا لحق بالشام )) رواه الحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي ، والله أعلم .
*  *  *
    س348: من آخر من تحشرهم النار ؟ مع ذكر الدليل .
    ج348: آخر من تحشرهم النار راعيان من مزينة ، كما ورد ذلك في الحديث الصحيح عن أبي هريرة  قال : سمعت رسول الله  يقول : (( يتركون المدينة على خير ما كانت لا يغشاها إلى العوافي - أي عوافي السباع والطير - فآخر من يحشر راعيان من مزينة يريدان المدينة ينعقان بغنمهما فيجدانها ملئت وحوشًا حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرا على وجوههما )) وفي رواية أخرى : (( ليتركنها أهلها على خير ما كانت مذللة للعوافي )) والله أعلى وأعلم .
*  *  *
    س349: اذكر لنا بعض الوصايا التي منها ننطلق في تعلم هذه الأشراط .
    ج349: أوصي نفسي وإخواني عند قراءة هذه الأشراط الحرص على عدة أمور :
    الأول : أن يكون قائدنا في إثبات شيء من هذه الأشراط إنما هو الدليل الصحيح الصريح فقط ، فلا يجوز التعويل في هذا الباب على الأحاديث الضعيفة والموضوعة والآثار الباطلة العاطلة فضلاً عن الآراء المجردة عن البرهان ، فإن هذه الأشراط وارتباطها بالساعة من الغيب والغيب مبناه على التوقيف ، فما أثبته الدليل الصحيح الصريح ، فالواجب إثباته ، وما نفاه الدليل الصحيح الصريح فالواجب نفيه ، وما لم يثبته ولم ينفيه فلا حق لأحد في إثباته ولا نفيه ، وإنما يسعنا أن نقول : الله أعلم .
    وهذا من أهم الأمور لمن أراد الدخول في هذا الباب ، وقد سلكت - ولله الحمد والمنة - في سرد هذه الأشراط على ما ثبت به النص من الكتاب والسنة ، وهذا من فضل الله تعالى ، فالحمد لله أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا .
    الثاني : أن تعلم علم اليقين أن هذه الأشراط - أعني الأشراط الكبرى على وجه الخصوص - من العجائب العظام والغرائب الكبار التي تحار فيها العقول وتطيش فيها الألباب ، فلا سبيل للعبد إلا أن يصدق بها التصديق الجازم ، من غير إقحام لعقله الضعيف في درك شيء من ذلك ، وإنما لا يسعه إلا أن يقول :  آمنا به كل من عند ربنا  ، ونقول في حق الصادق المصدوق  :  وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى  .
    واحذر كل الحذر من أن تجعل ميزان القبول والرد لمثل هذه النصوص هو موافقة العقل ومناظرته ، فإن هذا مسلك الهالكين من أهل البدع الذين يسمون أنفسهم - زورًا وبهتانًا - بالعقلانيين ، وهم والله المخرفون المتهوكون السفلة السقطة ، فالعقل المجرد عن هدي الكتاب والسنة لا ينفع صاحبه ، بل قد يكون سببًا لضلاله ، ومن المعلوم المتقرر أن النصوص الصحيحة لا تأتي بمحالات العقول وإنما قد تأتي أحيانًا بمحارات العقول ، فالوصية لنفسي ولمن شاء الله تعالى من إخواني أن يقفوا حيث وقف النص ويكلوا أمر الغيب إلى الله تعالى ، وأن يعتقدوا الاعتقاد الجازم أن ما أخفاه الله تعالى أوسع مما يتصوره لعبد ، فهو القادر على كل شيء ولا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض ، والله أعلم .
    الثالث : من المتقرر عند عامة أهل العلم أن الوقت له أهمية قصوى ومنـزلة عظمى ، والأدلة في ذلك كثيرة جدًا والذي نوصي به أنفسنا وإخواننا المسلمين عمومًا وطلبة العلم على وجه الخصوص أن لا يشغلوا أنفسهم في تفاصيل هذه الأشراط مما لم يرد به النص ، كإشغال النفس بالبحث عن جنس الدابة ، وما أصلها ؟ ومن أي الدواب هي ؟ وأين مكان السد ؟ وأين ستكون هذه الخسوف بالتحديد ؟ والشمس في غروب دائم باختلاف قرب البلاد وبعدها ؟ فيلزم من ذلك أن تكون في سجود دائم ، وكيف سيشرب يأجوج ومأجوج البحر وهو مالح شديد الملوحة منافر للطبع لا تطيقه النفس غير سائغ شرابه ؟ وهل يمكن لو اجتمع الناس جميعًا أن يشربوا البحر ؟ وكيف نتحقق وجود يأجوج ومأجوج وقد امتلأت الأرض وعمرت بالناس وعرفت أجزاءها بالبحث والتنقيب ؟ فلم نر سدًا ولا خلقًا بهذه الصفات ونحو هذه الأسئلة التي مؤداها التكذيب بصحيح الأخبار والتشكيك في ثبوتها وهي عند الأمة أثبت من شمس النهار والوقوع فيها تحريفًا وتعطيلاً واستهزاءً وسخرية ، وهذا موجب للتقحم في حفر الزندقة والإلحاد والثلوث بدرن النفاق والكفر الذي هو كفر العناد والإباء والاستكبار ، فضلاً عن القدح في ناقليها من خيار الأمة ، وكل ذلك سببه إشغال النفوس بما لم تكلف به ، وإدخالها فيما لا طائل من ورائه ولا ثمرة تجنى من البحث فيه .
    وإذا رأيت من يتكلف ذلك وجدته مقصرًا التقصير الكبير في جوانب الاستعداد ليوم المعاد ، فلو أنه أشغل نفسه فيما يعود عليه نفعه في العاجل والآجل لكان خيرًا له ، لكنه تسويل الشيطان وغروره وإملاؤه على النفوس بالباطل ، ومن المعلوم أن النفوس مولعة بالتكذيب بما لم تحط به علمًا .
    فالوصية لي ولمن شاء الله من إخواني أن يدعوا كثرة الخوض بالأسئلة التي لا طائل من ورائها ولا دليل على جوابها وأن يعمروا أوقاتهم بتحصيل العلم النافع ، مقرونًا بالعمل الصالح ، متوجًا بالدعوة إليه ، متممًا بالصبر على الأذى فيه ، حتى يخرجوا من الخسر الذي أقسم الله عليه في سورة العصر ، والله أعلى وأعلم .
    الرابع : أوصيك إذا نظرت في الأدلة أن تنظر نظر المستفيد الطالب للحق والهدى والبيان ، فإن من نظر بهذا القصد فإنه يوفق بفضل الله تعالى ولا تنظر فيها نظر المجادل المناقش المتغطرس المتكبر عن الحق والهدى - أعاذك الله من هذا النظر الذي ضل صاحبه وخاب سعيه - وتذكر دائمًا قوله تعالى في القرآن :  وإنه لحسرة على الكافرين . وإنه لحق اليقين  فلا يزداد صاحب ذلك النظر إلى سفالاً وضلالاً ؛ لأنه لم يرم الهدى من هذه الأدلة ، فإن أشكل عليك فيها شيء فاعلم أن القصور في علمك وفهمك وبحثك ، لا في الأدلة حاشا وكلا ، بل القصور فينا نحن ، فنحن الذين قصرنا في علمنا وعملنا ، واستعذ بالله تعالى استعاذة الصادق من شهوات النفوس وخلجات الهوى ، واستعن بالله ولا تعجز ، وأدم النظر والمطالعة ، وأكثر السؤال عمَّا أشكل عليك ولا تعتد بنفسك ، واستنر بآراء من سبقك في ميدان العلم ، فإنهم أصحاب التجارب ، فرحمهم الله تعالى ورفع نزلهم في الفردوس الأعلى وعاملهم بعفوه ، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ، والله أعلى وأعلم .
*  *  *
    س350: ما عقيدة أهل السنة في قضية الإسراء والمعراج ؟ مع ذكر الدليل على ذلك .
    ج350: يعتقد أهل السنة - رحمهم الله تعالى - الاعتقاد الجازم ويؤمنون الإيمان اليقيني التام الذي لا يخالطه مطلق الريب أن الله تعالى قد أسرى بعبده ورسوله  من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عرج به إلى السماء حتى بلغ السماء السابعة في ليلة واحدة ، وأن ذلك كان بروحه وجسده ، وكان يقظة لا منامًا - والله على كل شيء قدير - قال تعالى :  سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير  ، وأن ذلك كان مرة واحدة ، ولا عبرة بغير ذلك وأن ذلك كان بمكة ، وروى الإمام البخاري بسنده عن أنس عن مالك بن صعصعة  قال : قال النبي  : (( بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان - وذكر بين الرجلين - فأتيت بطست من ذهب ملآن حكمة وإيمانًا فشق من النحر إلى مراق البطن ثم غسل البطن بماء زمزم ثم ملئ حكمة وإيمانًا ، وأتيت بدابة أبيض دون البغل وفوق الحمار - البراق - ، فانطلقت مع جبريل حتى أتينا السماء الدنيا ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : من معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم . قيل : مرحبًا به ولنعم المجئ جاء ، فأتيت على آدم فسلمت عليه ، فقال : مرحبًا بك من ابن ونبي ، فأتينا السماء الثانية ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد  . قيل : أرسل إليه ؟ قال : نعم . وقيل : مرحبًا به ولنعم المجيء جاء ، فأتيت على عيسى ويحيى فقالا : مرحبًا بك من أخ ونبي ، فأتينا السماء الثالثة ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد  . قيل : أرسل إليه ؟ قال : نعم . فقيل : مرحبًا به ولنعم المجيء جاء ، فأتيت على يوسف فسلمت عليه ، فقال : مرحبًا بك من أخ ونبي ، فأتينا السماء الرابعة ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ قال : محمد  . قيل : أرسل إليه ؟ قال : نعم . قيل : مرحبًا به ولنعم لمجيء جاء، فأتيت على إدريس فسلمت عليه فقال : مرحبًا بك من أخ ونبي ، فأتينا السماء الخامسة ، قيل: من هذا ؟ قال: جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد  . قيل : أرسل إليه ؟ قال: نعم . قيل: مرحبًا به ولنعم المجيء جاء ، فأتينا على هارون فسلمت عليه ، فقال : مرحبًا بك من أخ ونبي ، فأتينا السماء السادسة ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك . قال : محمد  . قيل : أرسل إليه ؟ قال نعم . قيل : مرحبًا به ولنعم المجيء جاء ، فأتيت على موسى فسلمت عليه ، فقال : مرحبًا بك من أخ ونبي ، فلما جاوزت بكى ، فقيل : ما أبكاك ؟ قال : يا رب هذا الغلام الذي بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أفضل مما يدخل من أمتي ، فأتينا السماء السابعة ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد  . قيل : أرسل إليه ؟ قال : نعم . قيل : مرحبًا به ولنعم المجيء جاء ، فأتيت على إبراهيم فسلمت عليه ، فقال : مرحبًا بك من ابن ونبي ، فرفع لي البيت المعمور ، فسألت جبريل ، فقال : هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم ، ورفعت سدرة المنتهى ، فإذا نبقها كأنه قلال هجر وورقها كأنه آذان الفيول ، في أصلها أربعة أنهار : نهران باطنان ، ونهران ظاهران ، أما الباطنان ففي الجنة ، وأما الظاهران فالنيل والفرات ، ثم فرضت عليَّ خمسون صلاة ، فأقبلت حتى جئت موسى فقال : ما صنعت ؟ قلت : فرضت عليَّ خمسون صلاة . قال : أنا أعلم بالناس منك ، قد عالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ، وإن أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك فسله ، فرجعت فسألته فجعلها أربعين ، ثم مثله ، ثم ثلاثين ، ثم مثله ، فجعل عشرين ، ثم مثله ، فجعل عشرًا ، فأتيت موسى فقال مثله ، فجعلها خمسًا ، فأتيت موسى فقال : ما صنعت ؟ قلت : جعلها خمسًا ، فقال مثله ، قلت : سلمت بخير ، فنودي إني قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي وأجزي الحسنة عشرًا )) .
    واعلم أنه وقع بعض الأغلاط في بعض ألفاظ حديث الإسراء ، كقول شريك : (( ثم استيقظت )) وهذا من جملة أغلاطه التي عدها أهل العلم ، وقد قيل : إنه نزل ببيت لحم وصلى فيه ولا يصح عنه ذلك البتة . فهذا خلاصة عقيدتنا في الإسراء والمعراج ، والله أعلم .
*  *  *
    س351: ما عقيدة أهل السنة في كرامات الأولياء ؟
    ج351: تتلخص عقيدة أهل السنة - رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم - في مسألة كرامات الأولياء في عدة نقاط :
    الأولى : الإيمان بها وإثباتها على وجه العموم ، أي يؤمنون إيمانًا جازمًا ويصدقون تصديقًا يقينيًا أن الله تعالى يجري بعض أنواع الخوارق على يد من شاء من أوليائه وأن هذه الكرامة قد تكون في مكاشفةٍ أو أمرٍ خارق للعادة ليس بمقدورٍ لهذا الولي وإنما الله تعالى هو الذي أجراها على يده ، وذلك لإظهار فضله وشرفه ولتثبيته ، فكم من كرامة صارت سببًا لثبات من ظهرت على يديه ، والله أعلم .
    الثانية : أن الكرامة المعتبرة والتي تعد كرامة لا تجري إلا على يد أولياء الله تعالى الذين اتصفوا بصفات الولي ، وهي المذكورة في قوله تعالى :  ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . الذين آمنوا وكانوا يتقون  ، فالولي هو من اتصف بالإيمان والتقوى ، وتختلف مراتب الولاية كمالاً ونقصًا باختلاف تكميل مراتب الإيمان والتقوى ، فكلما ازداد العبد إيمانًا وتقوى كلما ازداد ولاية لله تعالى ، وهذا شرط في اعتبار الكرامة ، فلابد من عرض مدعيها على الكتاب والسنة ، وبناءً عليه فيما يجري على يد أولياء الشيطان من الخوارق والمكاشفات لا تعد من باب الكرامات ، بل هي أحوال شيطانية وتلبيسات إبليسية يقصد منها إحقاق الباطل وإبطال الحق ، وذلك كما يظهر عند السحرة والكهان والمشعوذين ومخاريق الصوفية والدراويش أصحاب الطرق المخالفة للكتاب والسنة ، فإن هؤلاء وإن مشوا على الماء ، أو طاروا في الهواء ، أو دخلوا النار وخرجوا منها ، أو أدخلوها في أجوافهم ، أو أخبروا ببعض الأمور الغائبة ونحو ذلك ، فكل ذلك من أحوال الشياطين ، وخوارق الكهان والسحرة ، وكله دجل وتلبيس من إبليس ومخادعة وتخييل وكذب وفجور ، بل ويصل في أحوالٍ كثيرة إلى الكفر والشرك ؛ لأن الشياطين لا تعين أحدًا لمحبته وسواد عينيه ، وإنما لما يتقرب إليها بذبح توحيده بفعل ما يطلبونه منه من أمور الشرك ، فالكرامة لا تكون إلا لأولياء الله تعالى ، وهم المؤمنون المتقون، وأما المخالفون للشريعة المتنكبون عن الصراط المستقيم الأفاكون الفاجرون فإن ما يظهر على أيديهم إنما هو من إعانة الشيطان لهم ، فانتبه لهذا ، فإن هذا هو الفرقان بين كرامات الأولياء وخوارق السحرة والكهان .
    الثالثة : منهج أهل السنة طلب الاستقامة لا طلب الكرامة ، فالمؤمن إنما يعبد الله تعالى ويستقيم على شرعه بفعل أوامره واجتناب زواجره وتصديق أخباره طلبًا لرضاه والفوز بالجنة ، لا أنه يفعل ذلك طلبًا للكرامة ، فإن هذا شرك في القصد ؛ لأن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا له جل وعلا ؛ لأنه أغنى الشركاء عن الشرك ، ولذلك قال بعض السلف : (( كن طالبًا للاستقامة لا طالبًا للكرامة )) .
    ولذلك فالموفقون هم الذين يطلبون الاستقامة والهداية لذات الاستقامة والهداية ، ولنيل رضى الله تعالى والفوز بعالي الدرجات ، فهم يتنافسون فيها تنافسًا سواءً ظهرت لهم كرامة أو لم تظهر .
    وبناءً عليه فالذين يفنون أنفسهم في طلب الكرامة ليسوا على شيء ، وقد خالفوا منهج أهل السنة بذلك ، فترى الواحد منهم يهيم في القفار ، أو يعاشر الوحوش ، أو يحبس نفسه مع الحيات والثعابين ، أو يَدْخُل النار ، أو يُدْخِلُ النار في جوفه ونحو ذلك من خرافاتهم وهذيانهم ، وكل ذلك طلبًا للكرامة ، وهذا منكر في الشرع وخبل في العقل وتعريض للنفس للهلاك بلا مصلحة شرعية ، ولا قصد ممدوح ، فاحذر من ذلك وحذر منه ، ولا نقول إلا كما قال السلف : كن طالبًا للاستقامة ، موافقًا للحق ، مهتديًا بهدي الكتاب والسنة ، متبعًا لا مبتدعًا ، مقتديًا لا مبتديًا ، ودع عنك السبل المعوجة والمذاهب المعتلة والآراء المختلة ، فإنه ما سلم في دينه إلا من أخلص وتابع ، ولا تكن طالبًا للكرامة ، وليكن همك رضى الله جل وعلا . أسأله جل وعلا أن يلهمنا رشدنا ويقينا شرور أنفسنا ، والله أعلم .
    الرابعة : يعتقد أهل السنة أن الكرامة لا تستلزم أن يكون من ظهرت على يديه أنه أفضل من غيره في الإيمان والتقوى ؛ لأن من أسبابها تثبيت الولي ، ولذلك فإن كرامات عمر بن الخطاب أكثر من كرامات أبي بكر  ، وإيمان أبي بكر أكمل ولاشك ، بل وقد ظهرت كرامات كثيرة على يد بعض التابعين وتابعيهم لم تظهر على يد الصحابة ، ولا مقارنة بين إيمان الصحابة وإيمان من بعدهم ، فلا تلازم بين الكرامة وكمال الإيمان ، بل قد تظهر الكرامة على يد من عنده تقصير في تكميل مراتب الإيمان ، ولا تظهر على يد من كمل إيمانه وتقواه ، وهذا يوجب أن لا نجعل الكرامة سببًا لتفضيل من ظهرت على يديه على من لم تظهر له هذه الكرامة ، ولعل هذا هو السبب الذي جعل بعض الطوائف والأفراد يفني حياته في طلب الكرامة ، وذلك طلبًا لأنْ يكون أفضل من غيره ، فَضَلَّ في سعيه وخاب في قصده ، فانتبه لهذا الأمر فإنه مهم جدًا لكثرة من خالف فيه .
    الخامسة : يعتقد أهل السنة أن الموفق عند حصول الكرامة له إنما هو من عاملها بإكثار الشكر والحمد وازداد بها تواضعًا للخلق وازداد ثباتًا واستقامة على الحق واستعملها فيما يقربه إلى الله تعالى وفيما ينفع عباد الله ، وجعلها وسيلة لإحقاق الحق وإبطال الباطل ، واستعان بها على طاعة الله جل وعلا، فهذا هو الموفق. وبناءً عليه فمن استعان بها على حرامٍ أو كانت سببًا لاستكباره واتكاله عليها وترك العمل الصالح ، فإن هذه الكرامة لم تزده في الحقيقة إلا ندامة وخيبة وخسارة ، وكان عدمها له أنفع ، واستمع إلى قول الله جل وعلا :  واتل عليهم نبأ الذين آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث  ، وبه تعلم أن ظهور الكرامة على يدي الولي نوع ابتلاءٍ له ، فليتق العبد ربه وليكثر من حمده وشكره وليترق في مراتب الاستقامة ، ولا تكون هذه الكرامة سببًا لتكبره وغروره ورفضه للحق وتعاليه على الخلق ، والله المستعان .
    السادسة : قال أهل السنة : بما أن الكرامة قد تشتبه على بعض الناس مع خوارق الكهان والسحرة ، فإنه لابد من عرض الأمر على أهل العلم الثقات الأثبات الذين يعرفون الفرقان بين كرامات الأولياء ومخاريق الفجرة ، فلا ينبغي اعتمادها وعدها كرامة إلا بعد أن يقول أهل العلم كلمتهم فيها ، ولاسيما في هذا الزمن الذي كثر فيه المدعون للصلاح ، فالعامي قد يغتر ببعض هذه الظواهر ، فلابد من عرض الأمر على أهل العلم ليصدر عن رأيهم ، فهم أهل الاستنباط والفهم المبني على الكتاب والسنة ، وقد فضح أبو العباس - رحمه الله تعالى - كثيرًا من هذه الدعاوى الكاذبة وبَيَّنَ زيفها وأنها من الشيطان ، فلا ينبغي أن يصدر العبد في هذه المسائل من رأي نفسه ، بل لابد من رد الأمر إلى العلماء الراسخين ، قال تعالى :  وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم  ، ولأنه قد يدعي الكرامة من هو كاذب في دعواه ، فيقول : إني رأيت كذا وكذا ، وكوشفت بكذا وكذا ، وحصل لي كذا وكذا ، وهو كاذب في ذلك ، فإذا أخذ الأمر بمعزل عن العلماء فناهيك عن الفساد والضلال الذي سيحصل ، لكن إذا كان الأمر وقفًا على أهل العلم فلنبشر جميعًا بالهداية والصلاح والتوفيق ، والله المستعان وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
    السابعة : أن الكرامات التي تخرج على أيدي الأولياء هي دليل على صدق نبوة نبينا  ؛ لأن الكرامة تختلف باختلاف متابعته ، فإذا أكرم الله من آمن به واتبع سبيله واقتفى أثره فهذا دليل على أنه رسول من عند الله وأنه صادق كل الصدق في قوله : (( إني رسول الله )) ، إذ لو كانت دعواه للنبوة كذبًا لا يرضاه الله لما أكرم الله أتباعه بمثل هذه الكرامات ، والله أعلم .
    فهذا خلاصة مذهب أهل السنة في هذه المسألة المهمة التي حصل بسبب الجهل بها ضلال كثير وبلاء مستطير ، فأسأله جل وعلا أن يحفظك من نزغات الشيطان ويعصمك من زلل اللسان والبنان ، والله أعلى وأعلم .
*  *  *

    س352: هَلاَّ ذكرت لنا بعض الكرامات التي ثبتت بالنقل الصحيح ، مقرونة بأدلتها لنتعرف على شيء منها .
    ج352: نعم ، وعلى العين والرأس ، وأعيد تذكيرك بما قررته لك سابقًا من أني لا أحسب نفسي إلا خادم ، بل خويدم لك في إيصال ما فتحه الله تعالى بتوفيقه وحسن فضله وتعليمه وامتنانه ، وكلي شرف أن تقبل مني هذا العرض ، فإن من دواعي افتخاري أن أكون خويدمًا لعباد الله تعالى .
    فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل والعون : الكرامات الثابتة كثيرة جدًا ، ودونك بعضها :
    فمن ذلك : ما أجراه الله تعالى على يد الصالحة التقية الزكية النقية المصطفاة الطاهرة العفيفة مريم الصديقة - رضي الله عنها وأرضاها - ، قال تعالى :  كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب  .
    فإنه قد ورد عن السلف أنه كان يوجد عندها الفاكهة في غير أوقاتها المعتادة ، ورد ذلك عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة ، فهذا الرزق المذكور في الآية كان يوجد عندها في غير حينه وأوانه ، وكانت امرأة صالحة تتعبد في محرابها ولا تتكلف أن تأتي به ، وأيضًا لم يكن أحد يدخل عليها في محرابها إلا زكريا - عليه السلام - فكانت كلما دخل عليها مكان تعبدها وجد عندها هذا الرزق ، فيتعجب ويقول :  يا مريم أنى لك هذا  فكانت تجيبه بقولها :  هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب  .
    ومن ذلك : ما أجراه الله تعالى على يد الصالحة العابدة سارة - رضي الله عنها وأرضاها - امرأة نبي الله إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ، فإنها قد بشرت بالولادة وهي عجوز كبيرة لا يلد مثلها ، قال تعالى :  وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب  .
    ومن ذلك : ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - في حديث النفر الثلاثة - وقد تقدم في التوسل - انطبقت عليهم الصخرة ، فدعوا الله تعالى بصالح أعمالهم فاستجاب الله لهم وفرج عنهم أمر هذه الصخرة بلا فعل إنسان وإنما كرامة من الله تعالى لهم على صلاحهم وتوسلهم بهذه الأعمال الصالحة .
    ومن ذلك : ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( بينما رجل يمشي بأرض فلاة إذ سمع صوتًا في سحابة : اسق حديقة فلان ، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حَرَّةٍ فانتهى إلى الحرة ، فإذا هي أذناب شراج وإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت الماء ، فتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقة يحول الماء بمسحاته فقال له : يا عبد الله ما اسمك ؟ قال : فلان ، الاسم الذي سمع في السحابة ، فقال له . يا عبد الله لِمَ سألتني عن اسمي ؟ قال : إني سمعت صوتًا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول : اسق حديقة فلان ، باسمك فما تصنع فيها ؟ قال : إن قلت هذا فإني أنظر إلى ما خرج منها فأتصدق بثلثه ، وآكل وعيالي ثلثه ، وأرد فيها ثلثه )) ، وهذه كرامة أجراها الله تعالى على يد هذا العبد الصالح ، جزاء هذا العمل الصالح الذي يعمله في حديقته .
    ومن ذلك : ما أجراه الله تعالى على يد عبده الصالح جريج ، فقد روى مسلم في صحيحه بسنده من حديث أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( كان جريج يتعبد في صومعته فأتته أمه فقالت : يا جريج أنا أمك كلمني ، فقال : اللهم أمي أو صلاتي ، فاختار صلاته ، ثم جاءت الثانية فقالت : يا جريج أنا أمك ، كلمني فصادفته يصلي ، فقالت : اللهم هذا جريج وإنه ابني وإني قد كلمته فلم يكلمني ، اللهم لا تمته حتى تريه المومسات ، قال : ولو دعت عليه أن يفتن لافتتن . قال : وكان راعي ضأن يأوي إلى الدير فخرجت امرأة من القرية فوقع عليها فحملت فولدت غلامًا فقيل لها : ممن هذا ؟ قالت : من صاحب هذه الصومعة ، قال : فأقبلوا إليه بفئوسهم فصوتوا به ، فصادفوه يصلي ، فلم يكلمهم ، فأخذوا يهدمون ديره ، فلما رأى ذلك نزل إليهم فقالوا له سل هذه ، قال : فتبسم ثم مسح رأس الصبي فقال : من أبوك ؟ فقال : أبي راعي الضأن فلما سمعوا ذلك منه ، قالوا : نبني لك ما هدمنا بالذهب والفضة ، فقال : لا ، ولكن أعيدوه ترابًا ثم علاه )) ، فانظر هذه الكرامة العظيمة ، فإن الله تعالى أنطق هذا الصبي في المهد ليبرأ هذا العبد الصالح - رضي الله عنه وأرضاه - ، فهذا لاشك كرامة أجراها الرب جل وعلا على يد هذا العبد الصالح التقي .
    ومن ذلك : ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة  قال: قال رسول الله  : (( لم يكذب إبراهيم - عليه السلام - إلا ثلاث كذبات اثنتين في ذات الله تعالى قوله :  إني سقيم  ، وقوله :  بل فعله كبيرهم هذا  ، وواحدة في شأن سارة فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة وكانت من أحسن الناس فقال لها : إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فإن سألك فأخبريه أنك أختي - وإنك أختي في الإسلام - فإني لا أعلم اليوم مسلمًا غيري وغيرك ، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار فأتاه فقال : لقد دخل أرضك امرأة لا تنبغي إلا أن تكون لك ، فأرسل إليها فأتي بها ، وقام إبراهيم - عليه السلام - إلى الصلاة ، فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها ، فقبضت يده قبضة شديدة ، فقال لها : سلي الله أن يطلق يدي ولا أضرك ، ففعلت فانطلقت يده ، فعاد فقبضت يده أشد من القبضة الأولى ، فقال لها : سلي الله أن يطلق يدي ولا أضرك ، ففعلت ، فعاد فقبضت يده أشد من القبضتين الأوليين ، فقال : سلي الله أن يطلق يدي ولك الله علي أن لا أضرك ، ففعلت ، فانطلقت يده فدعا الذي جاء بها فقال : إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان ، فلما رآها إبراهيم قال لها : مهيم ؟ قالت : خير ، كف الله يد الفاجر وأخدمني هاجر )) ، قال أبو هريرة : فتلك أمكم يا بني ماء السماء .
    وما حصل ليد هذا الملك الظالم الفاجر إنما هو كرامة أجراها الله تعالى على يد هذه المرأة الطاهرة الصالحة ، والله أعلم .
    ومن ذلك : الإلهام والفهم الثاقب ، الذي سماه النبي  بالتحديث ، وهو قول الشيء موافقًا للحق في ذات الأمر ، قال النبي  : (( قد كان فيمن خلا من الأمم محدثون فإن يكن من أمتي محدث فهو عمر بن الخطاب )) رواه البخاري من حديث أبي هريرة ، ورواه مسلم أيضًا من حديث عائشة - رضي الله عنها - ، فهذا التحديث نوع من الكرامة .
    ومن ذلك : ما جاء في الصحيح من حديث أنس بن مالك  أن أسيد بن حضير وعباد بن بشر كانا عند رسول الله  في ليلة ظلماء حندس ، فلما خرجا أضاءت عصا أحدهما فجعلا يمشيان بضوئها ، فلما تفرقا أضاءت عصا الآخر ، وهذه الإضاءة كانت كرامة لهذين الصحابيين الفاضلين - رضي الله عنهما - وعن سائر أصحاب رسول الله  .
    ومن ذلك : ما جاء في الصحيح أيضًا من حديث البراء  قال : قرأ رجل سورة الكهف وفي الدار دابة ، فجعلت تنفر فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته ، فذكر ذلك للنبي  فقال : (( اقرأ فلان فإنها السكينة نزلت عند القرآن )) أو قال : (( نزلت للقرآن ))  .
    وفي حديث أبي سعيد  عن أسيد بن حضير أنه كان من أحسن الناس صوتًا بالقرآن ، قال : فقرأت ليلة سورة البقرة وفرس لي مربوط ويحيى ابني مضطجع قريب منه ، فجالت جولةً فقمت ما لي هم إلا ابني يحي ، فسكنت الفرس ، ثم قرأت فجالت الفرس فقمت ليس لي هم إلا ابني ، ثم قرأت فجالت فرفعت رأسي فإذا شيء كهيئة الظلة فيها المصابيح تقبل من السماء فهالني فسكت ، فلما أصبحت غدوت على رسول الله  فأخبرته فقال : (( اقرأ أبا يحيى )) . فقلت : قد قرأت فجالت الفرس فقمت ليس لي هم إلا ابني . فقال : (( اقرأ أبا يحيى )) . فقلت : قد قرأت فجالت الفرس فقمت ليس لي هم إلا ابني . فقال : (( اقرأ أبا يحيى )) . فقلت : قد قرأت فجالت الفرس فرفعت رأسي فإذا كهيئة الظلة فيها مصابيح فهالني . فقال : (( تلك الملائكة دنت دنوًا لصوتك ولو قرأت حتى تصبح لأصبح الناس ينظرون إليهم )) .
    وهذا لاشك أنه كان كرامة لهذا العبد الصالح رضي الله عنه وأرضاه .
    ومن ذلك : ما حصل للصحابي المجاهد الشجاع خبيب لما كان أسيرًا ، فإنه كان يأكل من قطف عنب وما بمكة ثمرة وإنه لموثق في الحديد وما كان إلا رزقًا رزقه الله إياه ، والقصة بطولها رواها الإمام البخاري في صحيحه .
    ومن ذلك : ما حصل للصديقة بنت الصديق - رضي الله عنهما وأرضاهما وعن سائر أصحاب رسول الله  - من نزول براءتها في آيات تتلى إلى يوم القيامة والحديث في الصحيح.
    ومن ذلك : ما رواه مسلم - رحمه الله - في صحيحه من حديث جابر قال : كان عمر بن الخطاب  إذا أتت عليه وفود اليمن سألهم : أفيكم أويس بن عامر ؟ حتى أتى على أويس ، فقال : أنت أويس بن عامر ؟ قال : نعم . قال : من مراد ؟ قال : نعم . قال : ثم من قرن ؟ قال : نعم . قال : ألك والدة أنت بها بار ؟ قال : نعم . قال : وكان بك وضح فبرئت منه إلا موضع درهم ؟ قال : نعم . قال : سمعت رسول الله  يقول : (( يأتي عليك أويس بن عامرٍ من أمداد اليمن ثم من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم ، له والدة هو بها بار ، لو أقسم على الله تعالى لأبره ، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل )) فاستغفر لي .
    وهذا الأمر الجليل الكبير والكرامة العظيمة بشهادة رسول الله  هي بحق تصف مصاف العطايا العظام لهذه الأمة المرحومة ، زادها الله شرفًا ورفعة .
    ومن ذلك : ما رواه الشعبي قال : قال علي  : (( كنا نحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر وقلبه )) ورجاله ثقات . وروى البخاري في صحيحه بسنده عن عبدالله بن عمر قال : (( ما سمعت عمر يقول لشيء قط : إني لأظن كذا إلا كان كما ظن )) .
    وبالمناسبة فالقصة التي تروى عن عمر من كتابة البطاقة بعد وقوف نيل مصر فلما ألقيت فيه جرى ، لا يصح سندها ؛ لأن فيها رجل مجهول ، وكذلك القصة التي قال فيها عمر  : يا سارية الجبل . فإنها ضعيفة أيضًا ، وكراماته الثابتة فيها كفاية ، والله أعلم .
    ومن ذلك : إكرام الله تعالى لسعد بن أبي وقاص  أن جعله مستجاب الدعوة ، فروى الترمذي والحاكم بسند حسن عن سعد أنه قال : قال رسول الله  : (( اللهم استجب دعوته )) ، فكان  لا يدعو بشيءٍ إلا واستجيب له .
    ومن كراماته  ما رواه البخاري ومسلم - رضي الله عنهما - بسندهما عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن سعد بن أبي وقاص  قال : (( رأيت عن يمين رسول الله  وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض لم أرهما قبل ولا بعد )) وهم الملائكة ، ولاشك أن رؤيتهم كانت كرامة له - رضي الله عنه وأرضاه - .
    ومن ذلك : أن خالد بن الوليد شرب السم ولم يصب بقلبه ، فعن قيس بن حازم  قال : (( شهدت خالد بن الوليد  بالحيرة أُتِيَ لهم بسم فقال : ما هذا ؟ قالوا : سُمَّ ساعة . فقال : بسم الله ، ثم شربه فلم يصبه شيء )) وسندها حسن لغيره - إن شاء الله تعالى - .
    ومن ذلك : ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن حميد بن هلال قال : (( سمعت مطرف بن عبدالله يقول : قال لي عمران بن حصين : إني أحدثك حديثًا عسى الله أن ينفعك بـه ، إن رسول الله  جمع بين الحج والعمرة ولم ينه عنه حتى مات ولم ينـزل فيه قرآن يحرمـه ، ولقد كان يُسَلَّمُ عَلَيَّ - يعني الملائكة - فلما اكتويت أمسك فلما تركته عاد إلي )) .
    فهذه غيض من فيض مما ثبت من الكرامات لأولياء الله جل وعلا ، ومن أراد الاستزادة فليراجع المجلد التاسع من شرح أصول اعتقاد أهل السنة ، للإمام اللالكائي ، فإنه قد ذكر فيه قرابة ثلاثين ومائتي كرامة ، والله أعلى وأعلم .
*  *  *
    س353: هل الجن مكلفون ؟ وضح ذلك ؟ مع بيان ما يدل عليه .
    ج353: نعم ، الجن مكلفون ، وهذه قضية قطعية ومسلمة ثابتة الثبوت اليقيني بالأدلة من الكتاب والسنة والإجماع ، فهم مأمورون بفعل الطاعات ومنهيون عن فعل المعاصي والمنكرات ، ولا أقول هذا قول أهل السنة فقط ، بل هو قول جمهور أهل الإسلام ولا اعتداد ولا عبرة بالأقوال الزائغة عن الحق المائلة عن الهدى المبنية على التخرصات الكاذبة والظنون الباطلة العاطلة ، فهم مكلفون بالإسلام ومنهيون عن الشرك ، ومكلفون بالإيمان ومنهيون عن الكفران ، ومكلفون بالصلاة والزكاة والحج والصيام ، ومنهيون عن تركها ، ومكلفون بالجهاد ، وببر الوالدين ومنهيون عن العقوق ، وعن أكل الربا ، وقتل النفس ، وشهادة الزور ، والزنا ، والكذب ، والقذف ، والسرقة ، وشرب الخمر ، وهكذا .
    وبالجملة فنقول : كل ما أمر الشارع به أمر إيجاب أو استحباب فإنه عام للثقلين الإنس والجن ، وكل ما نهى الشارع عنه نهي تحريم أو كراهة فهو عام للثقلين الإنس والجن ، وكل مباح شرعًا فإن إباحته عامة للثقلين الإنس والجن ، والأدلة على تكليف الجن كثيرة جدًا ، ونذكر منها ما يلي :
    فمن ذلك : قوله تعالى :  وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون  ، وهذه الآية نص صريح قاطع الدلالة في إثبات تكليف الجن وبيان الحكمة والغاية من خلقهم وأن المقصود بذلك عبادة الله وحده بفعل المأمور إيجابًا واستحبابًا وترك المنهي تحريمًا أو كراهة ، وأعظم ذلك وأجله وأكبره توحيده جل وعلا وإفراده بالعبادة .
    ومن ذلك : قوله تعالى :  يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا . قالوا بلى ...  الآية ، وهذا نص قاطع بأن الجن مكلفون بالإيمان بالرسل ، ومتعبدون باتباع ما يقصه الرسل عليهم من الآيات ، فكما أن الرسل مبعوثون إلى الإنس ، فكذلك أيضًا هم مبعوثون إلى الجن ، ولذلك فإن الثقلين يوم القيامة يسألهم الله تعالى عن مجيء الرسل إليهم وإبلاغهم آياته فيقرون ويتعرفون بأن الرسل قد أتوا وبلغوا وأنه لا حجة لهم ، فيقال لهم :  النار مثواكم خالدين فيها ...  الآية .
    ومن ذلك : قوله تعالى :  وإذ صرفنا إليك نفرًا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولَّوا إلى قومهم منذرين . قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابًا أنزل من بعد موسى مصدقًا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم . يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم  ، وهذه الآية تدل على تكليف الجن من عدة وجوه :
    أحدها : أن الله تعالى هو الذي صرفهم إلى نبيه  لاستماع القرآن ، وحكمة ذلك وغايته أن يؤمنوا به ويأتمروا بأوامره وينتهوا عن نواهيه .
    ثانيها : أنهم لما استمعوه تواصوا بالإنصات له وبعد سماعه اعترفوا بأنه يهدي إلى الحق وإلى الصراط المستقيم وأنه متوافق لما جاء به موسى - عليه السلام - من قبل ، وهذا يدل على أن عندهم آلات الفهم والعقل وأنهم قادرون على امتثال ما فيه من العلم النافع والعمل الصالح ، وهي شروط التكليف ، فإن من كان قادرًا على العلم والفهم والعمل فإنه مكلف .
    ثالثها : أنهم بعد سماعهم للقرآن وإيمانهم به أسرعوا إلى قومهم منذرين يقولون لهم :  يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به  ، وهذا نص صريح في أنهم مكلفون بالإيمان بهذا القرآن ، ومن المعلوم أن الإيمان به يتضمن امتثال أوامره واجتناب نواهيه وتصديق أخباره ، وإيمانهم بالقرآن مستلزم للإيمان بالنبي  ، فأي دليل أصرح من هذا الدليل ؟ ولكن سبحان من أعمى قلوب بعض الطوائف عن هذا النور الذي يبهر العيون وينير الصدور ، والله أعلم .
    ومن الأدلة أيضًا : قوله تعالى :  قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنًا عجبًا . يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدًا . وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدًا ...  إلى قوله :  وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبًا ...  ، وهذه الآيات دليل على تكليف الجن من عدة وجوهٍ أيضًا :
    أحدها : أن إخبار الله تعالى نبيه  بهذا الاستماع فيه التصريح بأن هؤلاء النفر قد آمنوا وقر الإيمان في قلوبهم ، وهذا فيه دليل أنهم مكلفون بالإيمان به ، وإلا لما كان في هذا الإخبار فائدة ولم يكن ليمدح هؤلاء بأنهم فعلوا شيئًا لم يكلفوا به ، فلما أخبر بذلك إخبار المادح لهم دل ذلك على أنهم فعلوا ما كان يجب أن يفعلوه ، وهو الإيمان بالرسول وبالقرآن .
    ثانيها : أنهم تعجبوا من هذا القرآن ، من بيانه وفصاحته وبلاغته ومعانيه وأخذه بمجامع القلوب ، وهذا فيه دليل على أن عندهم القدرة على الفهم والتذكر والاتعاظ الاعتبار والعقل ، وهذا كافٍ في تكليفهم ، فما المانع من تكليفهم وهم عقلاء يفهمون وقادرون على الامتثال ؟

    ثالثها : التصريح بوقوع الإيمان منهم ، وذلك في قوله تعالى :  فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدًا  ، وهذا نص صريح قاطع في أنهم مكلفون بالإيمان بالرسول وبالقرآن ، ومنهيون عن الشرك .
    رابعها : في قوله تعالى :  وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به ...  الآية ، ففيها التصريح أيضًا بوقوع الإيمان منهم ، وهو دليل على أنهم كانوا مكلفون به .
    خامسها : في قوله تعالى :  وإنا منا الصالحون ومنا دون ذلك  ، ولا يعرف الصالح من غير الصالح إلا بمتابعته الرسل الذين بعثوا إليهم ، فمن تابع رسوله الذي بعث إليه فهو الصالح ، ومن خالف واستكبر فهو الطالح ، وهذا فيه دليل على أن منهم طائفة قد آمنوا برسلهم واتبعوا ما جاءوا به من الحق ، وهؤلاء هم الصالحون ، وهذا يدل على أنهم مكلفون .
    سادسها :  وأنا منا المسلمون ومن القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدًا . وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبًا  ، وهذا فيه دليل أيضًا على أنهم مكلفون وأن المسلمين منهم هم الناجون ، وأما الكفار القاسطون المشركون فهم الخاسرون .
    وكل ذلك دليل على أنهم مطالبون بالإسلام والإيمان ومنهيون عن الشرك والطغيان ، وبالجملة فسورة الجن من أولها إلى آخرها كلها أدلة على القول بتكليف الجن كما هو قول جماهير أهل الإسلام ، والله أعلم .
    ومن ذلك : سورة الرحمن ، فإن الله تعالى قد ذكر فيها قوله :  فبأي آلاء ربكما تكذبان  ، في واحدٍ وثلاثين موضعًا ، والخطاب فيها للثقلين الإنس والجن ، وهذا يفيد أنهم مكلفون بالإيمان بالله والاعتراف بعظيم نعمته عليهم والقيام بحق هذه النعم من شكرها باللسان والجوارح ، وقبل ذلك بالقلب ، ومأمورون بالإيمان بجميع الشرائع والقضايا التي أخبرت عنها هذه السورة العظيمة ، والله أعلم .
    ومن ذلك : قوله تعالى في سورة سبأ إخبارًا عن سليمان - عليه الصلاة والسلام - :  ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير ، وهذا تهديد للجن بالعذاب الشديد حال زيغهم عن أمره جل وعلا ، وهو يدل على تكليفهم وإلا لما استحقوا العذاب على هذه المخالفة .
    ومن ذلك : ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عامر قال : سألت علقمة : هل كان ابن مسعود مع رسول الله  ليلة الجن ؟ قال : علقمة : أنا سألت ابن مسعود فقلت : هل شهد أحد منكم مع رسول الله  ليلة الجن ؟ قال : لا ، ولكنا كنا مع رسول الله  ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب ، فقلنا : استطير أو اغتيل . قال : فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء . قال : فقلنا : فقدناك يا رسول الله فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم . فقال : (( أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن )) قال : فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ، وسألوه الزاد ، فقال : (( لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحمًا ، وكل بعرة علف لدوابكم )) ، فقال رسول الله  : (( فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم )) ، وهذا نص صحيح صريح في تكليف الجن لدعوتهم له وذهابه إليهم وقراءة القرآن عليهم ، وهذا دليل على أنهم مكلفون بهذا الكتاب ، كما أن الإنس مكلفون به .
    ومن ذلك : حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : (( انطلق رسول الله  في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بينهم وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا : مالكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب . قالوا : ما ذاك إلا لشيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهم بنخلة عامدين إلى عكاظ ، فأتوا على النبي  وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن ، استمعوا له وقالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء ، فرجعوا إلى قومهم فقالوا :  إنا سمعنا قرآنًا عجبًا . يهدي إلى الرشد ...  الآية )) رواه مسلم في الصحيح .
    فقد دل هذا الحديث على استماع الجن للقرآن وتعجبهم منه ثم انطلاقهم إلى قومهم منذرين بهذا القرآن ، ولاشك أن هذا يدل على تكليفهم وإلا لما انطلقوا ولما تكلفوا الاستماع والإنذار والتحذير لأقوامهم ، والله أعلم .
    ومن ذلك : ما رواه مسلم أيضًا من حديث أبي هريرة  أن رسول الله  قال : (( فضلت على الأنبياء بستٍ : أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض مسجدًا ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون )) ، ومحل الشاهد منه قوله : (( وأرسلت إلى الخلق كافة )) ، فإنه لفظ شامل للإنس والجن ، وأنت خبير بأن حمله على الإنس فقط تخصيص للفظ بلا دليل ، وقد تقرر في القواعد أن الأصل هو البقاء على العموم حتى يرد المخصص ، وذكر الشيخ علاء الدين الهندي في كنـز العمال رواية لهذا الحديث وهي قوله : (( أرسلت إلى الإنس والجن )) ، وهي عند الإمام أحمد في المسند عن أبي ذرٍ، والله أعلم .
    فهذه بعض الأدلة التي تفيد ذلك .
    وأما الإجماع : فإنه قد انعقد إجماع أهل السنة على أن الجن مكلفون ، مأمورون منهيون ، ولم يخالف في ذلك أحد فيما أعلم ، والله ربنا أعلى وأعلم .
*  *  *
    س354: ما طبيعة التكاليف التي كلف بها الجن ؟
    ج354: أقول : بعد اتفاق أهل السنة - رحمهم الله تعالى - على القول بتكليف الجن ، وقع خلاف في نوعية هذه التكاليف ، وهذه الجزئية لا تكدر صفو الإجماع السابق ؛ لأن الجميع ذهبوا إلى القول بتكليف الجن ، وإنما النـزاع حصل في ماهية هذه التكاليف .
    إذا علمت هذا فأقول : القول الصحيح والرأي الراجح المليح في هذه المسألة هو القول بأن تكاليف الجن تماثل تكاليف الإنس ؛ وذلك لأن الآيات والأحاديث الدالة على تكليفهم بشريعة نبينا - عليه الصلاة والسلام - جاءت عامة في كل شيء فإذا ثبت إرساله - عليه الصلاة والسلام - إليهم كإرساله إلينا لزمهم - أي الجن - على هذا الأساس أن يكون التكليف واحدًا ، ولكن مع القول باتحاد نوعية التكاليف قد يكون بعض شروط العبادات لا تتحقق فيهم لعدم وجودها في طبيعة خلقتهم ، كاشتراط القدرة بالراحلة في الحج ، فإنه غير مشترط فيمن يطير منهم ، ونحو ذلك ، وإلا فالأصل أن التكاليف واحدة ، والقرآن والسنة قد علما ولا خفاء فيهما ، وقد خوطب بها جميع الثقلين وفيهما كل التكاليف الشرعية التي طولب بها الجن والإنس ، فكيف يدخل الجهل في ذلك .
    وبناءً عليه فهم مطالبون بالإسلام والإيمان أي الشهادتين وشروطها الثمانية المعروفة ، ومنهيون عن الوقوع في شيء من نواقضها ، ومطالبون باعتقاد أهل السنة والجماعة ومنهيون عن سلوك مناهج أهل الأهواء والبدع ، ومطالبون بالصلاة وشروطها ، وبالزكاة ، وبالصوم ، وبالحج ، وببر الوالدين ، وبالصدق ، وبالوفاء بالعقود ، وأداء الأمانات إلى أهلها ، وبالحكم بين بعضهم بالعدل ، وبصلاة الجماعة ، وبصلاة العيدين ، وبالجهاد بالمال والنفس ، وهكذا في سائر مأمورات الشريعة ، ومنهيون عن الشرك ، والسحر والكهانة ، واتخاذ الوسائط بينهم وبين الله ، وبقتل النفس ، وبإيذاء بني آدم بالمس ونحوه ، وعن الزنا ، والسرقة ، والربا ، والكذب ، والنفاق بأنواعه ، وعن الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وعن شرب الخمر ، وعن الغش ، وعن أكل الأموال بالباطل ، وعن الظلم والبغي ، وعن أكل الحرام بجميع أنواعه ، وعن الغيبة والنميمة ، وظن السوء .
    وبالجملة نقول : هم مكلفون بفعل ما أمر الله به ورسوله  وجوبًا في أوامر الوجوب واستحبابًا في أوامر الاستحباب ، ومكلفون باجتناب جميع ما نهى الله عنه ورسوله  تحريمًا فيما كان من قبيل التحريم وكراهةً فيما كان من قبيل الكراهة ، ومن قال غير ذلك فإنه قد جاء بما لا دليل عليه ، والله أعلم .
*  *  *
    س355: ما مصير العاصي والمحسن منهم ؟ مع الدليل .
    ج355: أقول : لقد نقل ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه القيم طريق الهجرتين وباب السعادتين اتفاق المسلمين على أن كفار الجن في النار ، فالعاصي منهم بالكفر مصيره النار باتفاق المسلمين ، وقد دل على ذلك قوله تعالى :  ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين  ، وقوله تعالى :  لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين  ، وقوله تعالى :  ويوم يحشرهم جميعًا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجَّلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكم عليم . وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا بما كانوا يكسبون  ، وقال تعالى حاكيًا مقالتهم :  وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدًا . وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبًا  ، والقاسطون هم الجائرون العادلون عن الصراط المستقيم ، وقد أثبتت الآية أنهم حطب لجنهم ، وقوله تعالى :  قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار  ، وهي نص في الموضوع أيضًا ، والآيات في هذا المعنى كثيرة ، فقد تبين لك - إن شاء الله تعالى - حال الكافر منهم وأنه يدخل النار كما يدخلها كافر الإنس ، وهذا بالاتفاق كما ذكرت لك سابقًا نقلاً عن ابن القيم - رحمه الله تعالى - .
    وأما حال مؤمنهم فقد اختلف أهل العلم فيه على أقوال :
    فقيل : أنه لا ثواب له إلا النجاة من النار ثم يقال لهم : كونوا ترابًا مثل البهائم ، وهو قول أبي حنيفة وبعض أهل العلم .
    وقيل : بل يثابون على الطاعة بدخول الجنة ، وهو مذهب جماهير أهل العلم على خلاف بينهم في نوعية هذا الثواب .
    وقيل : بالتوقف في المسألة .

    والقول الصحيح في هذه المسألة هو أن مؤمنهم يدخل الجنة وينعم فيها بما ينعم به الإنس على اختلاف مراتبهم في الجنة ، فكل النعيم الذي يصيبه المؤمن من الإنس في الجنة يصيبه المؤمن من الجن أيضًا ، وكل له مرتبته ودرجته التي أنزله الله إياها ، والدليل على ذلك قوله تعالى :  ولكل درجات مما عملوا  ، قال ابن القيم - رحمه الله - : (( أي ولكل درجات في الخير والشر يوفونها ولا يظلمون شيئًا من أعمالهم ، وهو ظاهر جدًا في ثوابهم وعقابهم وأن مسيئهم يستحق العذاب بإساءته ومحسنهم يستحق الدرجات بإحسانه )) ا.هـ
    ويدل عليه أيضًا قوله تعالى :  وأنَّا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسًا ولا رهقًا  ، وبهذه الآية استدل البخاري . ووجه الاحتجاج بها : أن البخس المنفي هو نقصان الثواب ، والرهق هو الزيادة في العقوبة على ما عمل ، وهما منفيان عن المؤمن ، وبناءً عليه فلا ينقص من ثواب حسناته ولا يزاد في سيئاته ، فالمؤمن من الجن إذا عمل الصالحات فإنه لا يخاف بخسًا ولا رهقًا .
    ويدل عليه أيضًا قوله تعالى :  وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدًا  . قال المفسرون : أي أصابوا طريق الحق والهداية الموصل إلى المطلوب الأعظم وهو الجنة ، فهو دليل على أن المسلم قد أصاب الطريق الموصل للجنة بإسلامه .
    ومن الأدلة أيضًا : أن الآيات التي تذكر نعيم الجنة لا تعلقها بالجنس - أي بجنس النار أو الطين - ، بل تعلقها بأعمال معلومة كقوله تعالى :  قد أفلح المؤمنون . الذين هم في صلاتهم خاشعون . والذين هم عن اللغو معرضون . والذين هم للزكاة فاعلون . والذين هم لفروجهم حافظون . إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين . فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون . والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون . والذين هم على صلواتهم يحافظون . أولئك  أي أصحاب هذه الصفات  هم الوارثون . الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون  ، فعلق دخول الجنة على صفات من قام بها وحقق فيها الإخلاص والمتابعة فإنه يستحق أن يكون من الذين يرثون جنة الفردوس ولم يربط ذلك بإنس ولا جن .
    ومن المعلوم أن من الجن من يفعل هذه الأعمال بشروطها ، وإذا تحقق الشرط تحقق المشروط ووعد الله تعالى لا خلف فيه .
    والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًا ، وهذا يدل على أن الجني إذا اتصف بالصفات التي علقت الأدلة عليها دخول الجنة أنه يستحق دخولها ، لاسيما وهذه الصفات خرجت مخرج العموم ، وغالبًا تصدر بكلمة (( والذين )) ، وهي اسم موصول ، وقد تقرر في الأصول أن الأسماء الموصولة من صيغ العموم ، فيدخل فيها من يصلح لخطاب التكليف وهم الثقلان .
    وتقرر أيضًا أن الأصل هو البقاء على دلالة العموم حتى يرد المخصص ، فما الذي خصص الجن وأخرجهم من هذه العمومات ؟ وهذا دليل قوي جدًا ، فلا تعد عيناك عنه إلا بعد فهمه وإتقانه .
    ويدل عليه أيضًا : التقابل في الجزاء الذي هو مقتضى العدل ، فإن المشرك منهم استحق النار بإساءته وخطيئته ، فكذلك المسلم منهم يستحق الجنة بسبب إحسانه وطاعته ، وهذا ما يسميه أهل الأصول بقياس العكس ، ويدل عليه أيضًا : قوله تعالى :  هل جزاء الإحسان إلا الإحسان  ، فمن جاء بالإحسان من الطاعات وعمل الصالحات فإنه يجازى بالإحسان ، وهذا وعد من الله تعالى ، ووعده لا يخلف ، وبناءً عليه فالجني إذا جاء بالإيمان ، والصلاة ، والزكاة ، والبر ، والصدقة ، والصوم ، والحج ونحو ذلك ، فقد جاء بالإحسان فله الإحسان ، وهذا دليل قوي في الموضوع لا ينبغي أن تغفل عنه .
    ويدل عليه أيضًا قوله تعالى :  ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلمًا ولا هضمًا  ، أي لا يخاف أن يوضع عليه وزر غيره ولا ينقص من ثواب عمله ، وقوله :  ومن  اسم شرط ، وهو من صيغ العموم كما تقرر في الأصول ، فيدخل في ذلك الإنس والجن ، فالجني إذا عمل صالحًا وهو مؤمن فإننا نقول له : لا تخف ظلمًا ولا هضمًا ، وإذا كان لا يخاف عليه هضم حقه فلابد أن ينعم بهذا العمل الصالح الذي جاء به وهو مؤمن ، وهذا واضح في أن مؤمنهم في الجنة يتنعم بما يتنعم به مؤمن الإنس ، فليس عند ربنا جل وعلا لا ظلم ولا هضم ؛ لأنه الحق الحكم ذو العدل الكامل من كل وجه ، والله أعلم .
    ومثله في وجه الاستدلال قوله تعالى :  ولمن خاف مقام ربه جنتان  ، فقوله :  من  هي اسم موصول بمعنى ( الذي ) ، والأسماء الموصولة من صيغ العموم ، والأصل هو البقاء على العموم حتى يرد المخصص ، فيدخل في هذا العموم الإنس والجن .
    ويدل عليه أنه قال بعدها مخاطبًا لهما :  فبأي آلاء ربكما تكذبان  ، والله أعلم .
    وبهذه الأدلة يتضح وضوحًا جليًا أن الصحيح من أقوال أهل العلم في مؤمني الجن أنهم يدخلون الجنة ويتنعمون بما يتنعم به الإنس على اختلاف مراتبهم ودرجاتهم فيها ، وبه تعلم أن من جملة النعيم ، بل هو أعظمه وأكمله وأكبره رؤية الله تعالى ، والجن إذا دخلوا الجنة ينعمون بكل النعيم ، ومن ذلك رؤيته جل وعلا ، والله أعلى وأعلم .
*  *  *
    س356: ما أنواع استخدام الجن ؟ موضحًا حكم كل قسم ، مع الدليل .
    ج356: أقول : هذه من المسائل المهمة في هذا المبحث ، والتي بمعرفة أقسامها يتحدد لك غالب المخالفات في هذا الباب ، وبيانها أن يقال :
    استخدام الإنس والجن له أنواع :
    الأول : الاستخدام المحرم الشيطاني ، وهو كاستخدام السحرة والكهنة والمشعوذين والعرافين ، وكالذي يستخدمهم في سرقة الأموال ونهب المتاع ونحو ذلك ، فهذا النوع محرم بالاتفاق ، وهو يوصل صاحبه في كثير أحيانه إلى الكفر والشرك ، وعليه يحمل قوله تعالى :  وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقًا  ، فقد استخدموهم في الحفظ بصرف الاستعاذة لهم ، وهذا شرك أكبر ، وقوله تعالى :  ويوم يحشرهم جميعًا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجَّلت لنا ...  الآية ، وهذا هو موضع الاستمتاع المحرم ، فقد ذكر كثير من المفسرين أن استمتاع الإنس بالجن يكون بما يخبرونه به من الأمور الغائبة وبما يوفرونه له من خدمة في إيصال ما يريد إيصاله إلى الغير من الشر ونحو ذلك ، وأن استمتاع الجن بالإنس يكون بما يفعله لهم من العبادات ويصرفه لهم من القربات والطاعات ، وبما ينفذه لهم من أمور الشرك كالذبح لهم والاستعاذة والاستعانة بهم وبفعل الأمور العظام كالبول على المصحف وسب الله أو الشريعة أو الرسول ، فكل ذلك مما يستمتع به الشياطين من الإنس ، فالاستمتاع المذكور هو الاستمتاع المحرم الشيطاني .
    وبالجملة : فهذا الاستخدام محرم وزندقة وفجور ، وفي كثير أحيانه كفر وشرك .
    الثاني : الاستخدام الملكي القهري السلطاني السليماني ، وهذا إنما كان معجزة لنبي الله سليمان - عليه وعلى أبيه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم - ، فالله تعالى قد سخر الجن له يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات ، توعدهم بأن من يزغ عن أمره فله عذاب السعير ، وأنهم أصناف : فمنهم البناء ، ومنهم الغواص ، ومنهم المقرن في الأصفاد وهي السلاسل العظام ، وذلك لتمرده وشدة طغيانه ، فعوقب بذلك ، فهذا النوع من الاستخدام لا يستطيعه أحد بعد سليمان - عليه السلام - ؛ لأنه كان من جملة معجزاته ، ولأنه قال :  وهب لي ملكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعدي  ، ولعلك بذلك فهمت العلة من قوله  لما تفلت عليه الشيطان ليقطع صلاته فأمسك به وخنقه ، وقال : (( لقد هممت أن أربطه بسارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا له جميعًا ويلعب به صبيان المدينة ، ولكن ذكرت دعوة أخي سليمان فتركته )) ؛ وذلك لأن الربط بالأغلال ، والتقييد والإذلال نوع من الاستخدام الملكي القهري ، وهو من خصائص سليمان - عليه السلام - فتوقيرًا منه  لأخيه سليمان - عليه السلام - ترك ذلك الشيطان ، ولذلك قال : (( ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح موثقًا يلعب به صبيان المدينة )) ، فالنبي  لا يريد أن يتصرف فيهم التصرف الملكي القهري السلطاني السليماني .
    والخلاصة : أن هذا النوع من الاستخدام لا يستطيعه أحد ولا يمكن لأحدٍ أصلاً بعد نبي الله سليمان - عليه السلام - ، فهو من جملة معجزاته التي أُعطيها ، والله أعلم .
    الثالث : الاستخدام الرحماني المحمدي ، وهو استخدامهم فيما يعود عليهم وعلى قومهم نفعه في العاجل والآجل من أمور الشريعة ، من أمرٍ بمعروف أو نهيٍ عن منكر ، أو تبليغًا لعلم ، فهذا أمر مشروع شرع إيجاب أو استحباب ، وذلك لمن توفرت له أسبابه وتحققت فيه الأهلية لذلك ، لكمال صلاحه ووفور علمه ، فالنبي  مأمور بإبلاغ الشريعة للثقلين ؛ لأنه صاحب الرسالة العامة للإنس والجن ، وقد ثبت لقيه معهم كما مضى في الأدلة وليس كلهم قد حضر ولاشك ، فيكون بذلك قد حملهم أمانة التبليغ لمن خلفهم من أقوامهم ، وهذا أمر يعود عليهم نفعه في العاجل والآجل ، وهو أمر محبوب للشارع .
    وبناءً عليه فإذا أسلم عندك أحد منهم فلا بأس عليك أن تأمره بدعوة قومه للإسلام ، ويأمرهم بالتوحيد وينهاهم عن الشرك ، بل أنت مأمور بذلك ؛ لأنه يحقق كثيرًا من المصالح الشرعية ، ولا مفسدة تصادم ذلك ، وكاستخدامه في الاستدلال على مكان السحر ، فهذا أمر طيب وقد حصلت منه آثار حميدة ، لكن لابد من الحذر من كثرة كذبهم ، وكاستخدامهم في إبلاغ بعض أمور المجاهدين الذين انقطعت معهم وسائل الاتصال ، فهذا طيب أيضًا ، لكن لابد من ابتلاء المخبر منهم عدة مرات ، ليتبين صدقه ونصحه للمسلمين ، وإلا فالكذب فيهم كثير جدًا ، ونحو ذلك مما يحقق مصلحة شرعية ، ويدل على ذلك أن الشريعة جاءت لتقرير المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها ، وهذا النوع من الاستخدام فيه تحقيق للمصالح وتعطيل للمفاسد .
    الرابع : استخدام بعضهم في بعض الأمور المباحة ، كبناء شيء أو حفر شيء أو صنع شيء أو الذهاب به إلى بقعةٍ ما ونحو ذلك ، فهذا لنا فيه نظران :
    أحدهما : بيان حكمه من جهة الأصل وهو أن الأصل فيه الجواز بشرط أن لا يترتب عليه محرم أو مكروه ، وانتبه لهذا الشرط ؛ لأنه إن ترتب عليه محرم فيلحق بالقسم الأول ، وإن ترتب عليه مكروه فإنه يمنع سدًا للذريعة - أي لذريعة الوقوع في الحرام - فإن المكروهات بريد المحرمات ، فمن سوغ لنفسه كثرة الوقوع في المكروهات ولم يتحرز منها فإنه يوشك أن يقع في الحرام ، فسدًا للباب وحسمًا لمادة الفساد يمنع الاستخدام المباح ، وإلا فالأصل فيه الجواز ، لكن بهذا الشرط ؛ لأن الأصل في الأشياء الحل والإباحة ، ولم تمنع الأدلة إلا الاستخدام الشيطاني كما مضى في سياق أدلة تحريمه ، فيخرج ما دل الدليل على تحريمه ، ويبقى ما عداه على أصل الجواز والحل ، وهذا هو الذي يفيده كلام أبي العباس - رحمه الله تعالى - في الفتاوى ، فإنه ذكر أن استخدام الإنسي للجني في الأمور المباحة كاستخدام الإنسي بعضهم لبعض ، بل وأزيده إيضاحًا وأقول : لو أن بعض الجن أمرك بشيءٍ من الأشياء المباحة ولم يترتب على استجابتك له شيء من المحرم ولا المكروه ، فإن استجابتك له مباحة ، فكذلك لو كنت أنت الطالب ، لكن بالشرط المذكور ، وهذا من قياس العكس ، وهو حجة على القول الصحيح .
    وأما قوله تعالى :  وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن  ، فإن هذا الاستعمال ترتب عليه الوقوع في المحرم ، وهو الاستعاذة بغير الله في الأمر الذي لا يقدر عليه إلا الله ، وقد اشترطنا في إباحة النوع الرابع أن لا يترتب عليه محرم ، وتممنا ذلك بألاَّ يترتب عليه مكروه أيضًا .
    وبالجملة : فلا مانع يمنع ذلك ، لكن أعيد وأكرر وأنبه على الشرط المذكور وهو أن لا يترتب على هذا الاستخدام محرم أو مكروه ، فهذا بالنسبة لحكم أصله .
    ثانيهما : لو جاءنا أحد يسألنا عن مدى إمكانية فعل ذلك لأجبناه بالمنع، وذلك لأمور:
    منها : سدًا للذريعة .
    ومنها : خروجًا من خلاف أهل العلم في ذلك .
    ومنها : خروجًا من الدخول في هذه المسالك الغامضة التي يلتبس كثيرًا حقها بباطلها .
    ومنها : أن كثيرًا ممن سوغ لنفسه الدخول في بدايات هذه الأمور اشتغف بها وأحبتها نفسه حبًا شديدًا حتى صار جزءًا من حياته، وكان الجان يحضر عنده بلا مطالب ، فلما علم بأن نفسه لا تستطيع فراقها بدأت المطالب وزادت الشروط من الجن عليه حتى أوقعته في المهالك ، فعاد الأمر إلى المخادعة بالملاطفة بادئ الأمر ، ثم بالمخاطفة في نهاياته، والله المستعان .
    ومنها : أنه موجب لغرور النفس وارتفاع الذات إذا اشتهر أمره وأنه صاحب بعض الجن وأنها تطيعه فيما يأمر به ، وهذا الغرور موجب لزهو النفس وللكبر وللإعجاب بالذات ، وهذا مزلق خطير ومهيع وخيم ، وهو أساس البلاء وبدايات الشر .
    ومنها : أن الجن قد تصاحبه في أول الأمر ثم تتسلط عليه في الأخير ، وذلك لأن الجن قبائل ، ولكل قبيلة كبير وقائد ، فإذا كان كافرًا وعلم بأن من أفراد قبيلته من يعين المسلمين على بعض حوائجهم فإنه يقهره بالملك والسلطان والقوة على ترك ذلك أو عكس الأمر بإيذاء ذلك الإنسي ، وقد رأينا ذلك في عددٍ من الأفراد ، والله المستعان .
    ومنها : أن الكذب فيهم - أي في الجن - من الصفات المؤكدة ، وهي كثيرة فيهم جدًا ، ويدل على ذلك حديث : (( وهو كذوب )) ، وقبل ذلك قوله تعالى :  يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا  ، وغير ذلك ، ومن طبيعتهم وأصل خلقهم أنهم لا يراهم الإنس على الخلقة التي خلقهم الله عليها ، لقوله :  من حيث لا ترونهم  ، فنخشى أن يأتيه نفر منهم ويعرضوا عليه أن يخدموه لصلاحه ودينه حتى يوقعوه في حبالهم ، فإذا أوقعوه في حبالهم جروه من رقبته إلى الشرك والعقائد الباطلة والملل الزائغة ، ولغير ذلك من الأمور .
    وبناءً عليه فمن جاءنا يسألنا عن ذلك فإننا نمنعه من الدخول في هذه الطرق ، لهذه العلل التي وإن لم تشاركني في كلها فإني لا أظنك تخالفني إلا في بعضها ، والله المستعان .
    فإن قلت : فإذا كان الأمر كذلك ، فلماذا لم تقل بالمنع بادئ الأمر واسترحت وأرحت ؟ ولماذا تفصل الجواب في جزئين فتجيزه أولاً وتمنعه ثانيًا ؟ فأقول : هذا لأن بعض أهل العلم قال بالجواز ، وبعضهم قال بالمنع ، فأحببت أن أبين لك مأخذ كل واحد ، وأن من قال بالجواز إنما أفتى بالأصل ، ومن قال بالمنع فإنما نظر إلى هذه العلل ، وإلا فلو عرضت هذه العلل على من أفتى بالأصل لمنع منه ، ولو خلا الأمر من هذه العلل لأفتى المانع بالأصل ، ومعرفة مآخذ أهل العلم مطلب أساسي من مطالب طالب العلم في مسيرته العلمية . وأقول أيضًا : هذا من باب تغير الأحكام بتغير الأحوال والأزمان ، وذكرت لك أنه لو جاءنا أحد يسألنا في هذه الأزمنة لقلنا بالمنع مراعاة لهذه العلل ، ولعل من أفتى بالجواز لم يكن في زمنه هذه المفاسد أو كانت ولكنها ليست بالكثيرة كما هي الحال في زمننا ، وقد يفتى طائفة بالجواز وتفتى طائفة أخرى بالمنع وهكذا ، وهذا التغير في مثل هذه الأحكام ليس بمنكر من القول ولا ببدع من الإفتاء . وأقول أيضًا : إن بيان  حكم أصل الشيء ثم بيان انتقال الحكم من كذا إلى كذا بسبب كذا وكذا من تمام شرح المسألة ، فإنك لو أجزت الإجازة المطلقة لظن الطالب أن هذا هو حكمه الأصلي ، لكن مع التفصيل يزول اللبس ويتحقق كمال الفهم ويعرف الطالب كيف يتعامل مع المتغيرات والظروف ، والله ربنا أعلى وأعلم .
    فهذا هو الجواب عن السؤال المهم ، وأرجو منك رجاء المحب لحبيبه والأخ لأخيه أن تعيد قراءة السؤال والجواب ، ليزداد فيه فهمك ويرسخ في ذهنك ، والله يحفظك ويرعاك ويسدد على طريق الهدى والحق خطاك ، وهو أعلم وأعلى .
*  *  *
    س357: ما المراد بقاعدة الوسطية ؟ مع بيانها بضرب الأمثلة .
    ج357: المراد بقاعدة الوسطية قول العلماء : (( أهل السنة والجماعة وسط بين فرق الأمة كوسطية الأمة بين الأمم )) .
    وبيان ذلك أن يقال : إن هناك وسطيتين : وسطية عامة ، ووسطية خاصة .
    فالوسطية العامة : يراد بها وسطية الأمة الإسلامية بين سائر النحل كاليهودية والنصرانية ، فأنت إذا نظرت إلى دين اليهود الذي هم عليه وجدته دينًا يقوم على الغلو والإفراط والتشديد ، وإذا نظرت إلى دين النصارى الذي هم عليه وجدته دينًا يميل إلى التفريط والتساهل المخزي الفاضـح في غالب أموره ، فمثلاً : يعتقد اليهود أن عيسى كذاب وابن بغي - نعوذ بالله من ذلك - ، بينما يعتقد النصارى أنه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة - تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا - ، وكلا الملتين على طرفي نقيض بين الإفراط والتفريط . فتوسط المسلمون في ذلك وقالوا : (( هو عبدالله ورسوله )) ، فقولهم : (( عبدالله )) رد على النصارى الذين غلوا فيه ، وقولهم : (( ورسوله )) رد على اليهود الذين كذبوه وأهانوه ، فاعتقاد المسلمين في عيسى - عليه السلام - وسط بين هاتين الأمتين الضالتين المغضوب عليهما .
    ومثال آخر : يعتقد اليهود في الحائض أنها نجسة العين وبنوا على ذلك أنها لا يجوز مؤاكلتها ولا مجالستها ولا الحديث معه ولا مسها ؛ لأنه عندهم نجسة قذرة ، وهذا هو الغلو بعينه ، بينما يعتقد النصارى جواز فعل كل شيء معها حتى النكاح ، وهذا تفريط وتساهل ، فجاءت الشريعة الإسلامية فقالت : (( اصنعوا كل شيء إلا النكاح )) ، فقوله : (( اصنعوا كل شيء )) رد على اليهود الذين قالوا : لا تصنعوا معها شيئًا ، وقوله : (( إلا النكاح )) رد على النصارى الذين يجيزون ذلك ، فالأمة الإسلامية بهذا التشريع توسطت بين الأمتين الضالتين المغضوب عليهما ، وهكذا في سائر الاعتقادات والشرائع ، وهذا هو الذي نعنيه بالوسطية العامة ، أي وسطية الأمة بين الأمم الكافرة .
    إذا علمت هذا فاعلم أن الدليل الشرعي الذي يصح بمجموع طرقه قد أخبر أنَّ هذه الأمة ستفترق على ثلاثٍ وسبعين فرقة ، وحكم على سائر الفرق أنها في النار إلا فرقة واحدة ، وهذه الفرقة هم أهل السنة والجماعة الذين هم على مثل ما كان عليه النبي  وأصحابه ، وإذا نظرت إلى اعتقادات هذه الفرق في سائر أبواب الاعتقاد وجدتهم على طرفي نقيض ، ففرقة فرطت وفرقة أفرطت ، وفرقة واحدة توسطت في سائر هذه الأبواب ، وهم أهل السنة - رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى - ، وسبب هذه الوسطية هو أنهم اعتمدوا النص وأخذوا بكل أطراف الأدلة وقدموها على العقل وعظموا قدرها في نفوسهم فلم يخالفوها برأي ساقط ولا بعقل متهافت ولا بمذهب باطل ، وسلكوا في فهمهم لهذه النصوص مسلك الصحابة  ، فهم لا يأخذون معتقدهم إلا من الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة ، فلا يدخلون في أبواب الاعتقاد متأولين بآرائهم ولا متوهمين بأفكارهم - حاشاهم وكلا - ، بل يقولون كما قال السلف الصالح ، ويعملون كما عمل السلف الصالح ، ويقفون حيث وقف السلف الصالح ، ويسلكون ما سلكه السلف الصالح ، فيصدق عليهم قوله تعالى :  وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا  ، فكما أن الأمة شهيدة على سائر الأمم ، فكذلك أهل السنة شهداء على سائر الطوائف والفرق ، وهذا الذي نعنيه بقولنا : الوسطية الخاصة .
    وحتى يتضـح لك الأمر أكثر نضـرب بعض الأمثلة ، وقد سبق معنا في هذا الكتاب - الذي أسأل الله أن ينفع به عامة المسلمين - بعض هذه الأمثلة ، فأقول :
    منها : وسطية أهل السنة في باب الأسماء والصفات ، فإنهم توسطوا فيه بين الممثلة والمعطلة .
    ومنها : وسطيتهم - أعلى الله قدرهم في الدنيا ورفع منازلهم في الآخرة - في باب القدر بين الجبرية والقدرية .
    ومنها : وسطيتهم - رحمهم الله تعالى - في باب مسائل الدين والأحكام بين الوعيدية والمرجئة .
    ومنها : وسطيتهم - غفر الله لأمواتهم وثبت أحياءهم - في باب الصحابة وآل البيت بين النواصب ( الخوارج ) والروافض .
    ومنها : وسطيتهم في باب التعامل مع الولاة بين مـن ارتمى في أحضانهم وجعلهم أربابًا من دون الله فيحل ما أحلوه وإن كان حرامًا في الشرع ، ويحرم ما حرموه وإن كان حلالاً في الشرع ، وبين من دعا للخروج عليهم وسفك دمائهم ووقع فيهم تكفيرًا وتبديعًا زاعمًا أنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما تقوله المعتزلة ، بل هو أصل من أصولها ، فجاء أهل السنة فقرروا أنه تجب طاعتهم ولا يجوز الخروج عليهم بقولٍ ولا بفعلٍ إلا إذا رأينا كفرًا بواحًا عندنا فيه برهان صحيح وغلب على الظن الغلبة بلا دماء ، وأنه تقام خلفهم الجمع والجماعات ، ويجاهد ويحج معهم ولا يتخلف عن ذلك إلا مبتدع ، ولكن الطاعة إنما تكون في المعروف وأنه لا معصية لمخلوقٍ في معصية الخالق ، ويدينون لله تعالى بمناصحتهم والإنكار عليهم بالطرق الشرعية التي لا توجب فسادًا ولا سفك دماء ، وهذا المذهب هو الوسط بين من أطاعهم الطاعة المطلقة وبين من يدعو إلى الخروج عليهم وعصيانهم في كل أوامرهم .
    ومنها : وسطيتهم في باب الكرامات ، بين من جعل كل أمرٍ خارقٍ للعادة من الكرامات ، ولو ظهر على يد أفجر الخلق ، وبين من أنكر الكرامات جملة وتفصيلاً ، وتقدم مذهب أهل السنة في الكرامات وهو المذهب الحق بلا ريب لأنه قائم على منهج الوسطية .
    ومنها : وسطيتهم في مسألة تسيير العبد وتخييره بين من قال بأنه مسير مطلقًا وهم الجبرية ، وبين من قال مخير مطلقًا وهم القدرية ، فقال أهل السنة : (( العبد مسير باعتبار سبق الكتابة ، ومخير باعتبار دخول الفعل تحت قدرته واختياره )) .
    ومنها : وسطيتهم في مسألة التعامل مع القبور وأصحابها بين من لم يعرف للقبور قدرًا ولم يقم عليها وزنًا وبين من غلا فيها وعظمها التعظيم الزائد حتى جعلها أوثانًا تعبد من دون الله .
    ومنها : وسطيتهم في مسألة تعليق الكلام بالمشيئة بين من يعلق كل كلامه بالمشيئة ، وبين من لا يعرف للمشيئة طريقًا ، فقال أهل السنة : يعلق الكلام بالمشيئة في أحوال ولا يعلق في أحوال ، فيعلق بها في الكلام المستقبلي الذي لم نتحقق وقوعه بالدليل ، ويعلق بها أيضًا في الأمور الغيبية، ولا يعلق بها في الدعاء وفي الأمور التي مضت وانقضت، وهذا هو عين الوسطية .
    ومنها : وسطيتهم في باب التعامل مع الأولياء ، بين من لم يقم لهم وزنًا ولم يعرف لهم قدرًا ، بل يقع فيهم ثلبًا وسبًا وشتمًا وقدحًا وأذىً وغير ذلك ، وبين من رفعهم إلى منازل الألوهية فاعتقد فيهم أنهم يتصرفون في أمر هذا العالم كما هو معتقد غلاة الروافض والقبوريين والصوفية ، فقال أهل السنة : الأولياء لهم المنـزلة العالية والمراتب السامية ، لكنهم عبيد لله تعالى لا يملكون مع الله تعالى في خلقه وأمره لا نفعًا ولا ضرًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا ولا تدبيرًا ولا تصريفًا ، فعرفوا قدرهم وأنزلوهم منـزلتهم ولم يرفعوهم عن هذه المنـزلة التي أنزلهم الله إياها ، وهذا هو الوسطية .
    ومنها : وسطيتهم في باب تعليق الإيمان بالمشيئة بين من يوجبه مطلقًا ، وبين من يمنعه مطلقًا ، فقالوا : إن كان المراد كمال الإيمان فلابد من تعليقه بالمشيئة وإن كان المراد به أصله فيمنع تعليقه بها .
    فهذه بعض الأمثلة على هذه القاعدة ، ولأهميتها فقد أفردها بعض أهل العلم في تأليف خاص ، وقد اعتمدناها في جملة قواعد أهل السنة في كتاب القواعد المذاعة ، والله أعلى وأعلم .
*  *  *
    س358: من المعتزلة ؟ ولماذا سموا بذلك ؟ وما أبرز أصولهم التي يقوم عليها مذهبهم ؟ مع توضيح المراد بها .
    ج358: المعتزلة هم أتباع واصل بن عطاء ، وهي فرقة ظهرت في أوائل القرن الثاني ، وسلكت منهجًا عقليًا متطرفًا في بحث العقائد الإسلامية .
    وسموا بذلك : لأن رئيسهم واصل بن عطاء اعتزل حلقة الحسن البصري لما خالفه في حكم مرتكب الكبيرة ، فاعتزله وجلس عند سارية يقرر هذا المذهب ، فاجتمع معه بعض الأتباع كعمرو بن عبيد وغيره ، فسمي واصل ومن جلس إليه بالمعتزلة ، لاعتزالهم حلقة أهل السنة وأهل الحديث .
    ومذهبهم مبني على خمسة أصول وهي التي يسميها أصحابها الأصول الخمسة :
    التوحيد : ويقصدون به نفي صفات الله تعالى ، بحجة أنهم لو أثبتوا الصفات لاستلزم ذلك تعدد القدماء ، فلابد من توحيد الله بالقدم ، ولا يمكن ذلك إلا بإنكار الصفات وتحريفها ، وبه تعلم موقف المعتزلة في باب الأسماء والصفات ، فإنهم ينكرون الصفات جميعها ، ويثبتون الأسماء بلا صفات ، فأسماء الله تعالى عندهم أعلام محضة لمجرد التعريف فقط ، فهم في باب الأسماء والصفات معطلة جهمية نفاة .
    والأصل الثاني عندهم العدل : ويقصدون به إخراج أفعال العباد أن تكون مخلوقة لله تعالى ؛ لأنهم يعتقدون أن العبد هو الذي يخلق فعله وأنه لا تعلق أبدًا لأفعال العباد بمشيئة الله تعالى ، فالعبد هو الذي يوجد فعله استقلالاً ، وبه تعلم أن المعتزلة في باب خلق أفعال العباد قدرية مجوسية ثنوية .
    والأصل الثالث عندهم الوعد والوعيد ، ويعنون به أنه يجب على الله تعالى إنفاذ وعده ووعيده ، فلا يجوز على الله تعالى أن يخلف شيئًا مما وعد به ولا مما أوعد به ، وأصلهم هذا مخالف لما قرره أهل السنة في باب الوعد والوعيد ، فإن أهل السنة قالوا في الوعد : إن العبد لا يستحق بنفسه شيئًا على الله تعالى ، واتفق أهل السنة - رحمهم الله تعالى - على أن الله تعالى لا يخلف وعده أبدًا ، لكن لا لأن العبد يستحق ذلك بنفسه ، وإنما لأن الله تعالى أوجب ذلك الوعد على نفسه لعبده تفضلاً منه وإحسانًا للعبد ، والله تعالى لا يخلف الميعاد ، فالله تعالى إذا وعد عباده بشيء كان وقوعه واجبًا بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق كما يقوله المعتزلة ، وبذلك تعرف الفرق بين المذهبين .
    وخلاصته أن نقول : إن المعتزلة قالوا : إنفاذ الوعد واجب ، وقال أهل السنة : إنفاذ الوعد واجب ، لكن قال المعتزلة : واجب بحكم استحقاق العبد له ، وقال أهل السنة : واجب بحكم الوعد تفضلاً وإحسانًا ومنَّة .
    وأما الوعيد فالمذهب فيه عند أهل السنة : أن الله تعالى قد يخلفه إحسانًا منه وتفضلاً ورحمة وجودًا وكرمًا على من استحق شيئًا من وعيده ، فيجوز أن يعفو الله تعالى عن المذنب ويخرج أهل الكبائر من النار فلا يبقى فيها أحد من أهل التوحيد ، والله أعلم .
    والمقصود : أن المعتزلة يقصدون بهذا الأصل تخليد أصحاب الكبائر في النار ، وهم في هذا الاعتقاد خوارج مارقة وعيدية .
    والأصل الرابع عندهم : المنـزلة بين المنـزلتين ، وهي من أوائل أصولهم ، وهي التي بسببها سموا معتزلة كما ذكرت آنفًا ، ويعنون به أن مرتكب الكبيرة خرج من مسمى الإيمان ، ولكنه لم يدخل في مسمى الكفر ، بل أصبح بفعل الكبيرة في منـزلة بين الإيمان والكفر ، فلا هو مؤمن ولا هو كافر ، بل هو بين المنـزلتين ، وهذا كلام ساقط ؛ وذلك لأن تقابل الإيمان والكفر الأكبر تقابل نقيض ، فلا يجتمعان ولا يرتفعان ، فلما سلبوا مطلق الإيمان عنه لزمهم وصفه بالكفر ، لكن لأنهم خناثر للخوارج هابوا من وصفه بالكفر الصريح فتستروا وراء هذه اللفظة ، والدليل على ذلك حكمهم عليه في الآخرة ، فإنهم يخلدونه في النار الخلود الأبدي ، وهل يخلد في النار أبدًا إلا الكفار الكفر الأكبر ؟
    والأصل الخامس والأخير عندهم : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويقصدون به استعمال السيف والخروج على الأئمة بسبب ضلالهم وطغيانهم ، فهم يجيزون الخروج على السلطان إذا فعل الكبيرة ووصف بالفسق ، وأما أهل السنة فقد تقدم لك كيفية تعاملهم مع الحكام في سؤال مستقل .
    فهذه هي أصولهم ، فهي وإن كانت بعض أسمائها براقة إلا أن معانيها خاطئة زائغة عن الحق ، لكنهم يعبرون عنها بهذه الأسماء لتقبلها النفوس وتروج عند الأتباع ، فهذا جواب هذا السؤال باختصار شديد ، والله أعلم .
*  *  *
    س359: من الجهمية؟ مع ذكر بعض عقائدهم في بعض المسائل، وهل هم من فرق الأمة؟
    ج359: الجهمية هم أتباع الجهم بن صفوان الترمذي ، الذي أخذ مقالة التعطيل عن الجعد بن درهم ، وهو الذي أذاعها ونشرها ، فنسبت الفرقة إليه ، وقتل الجهم في خراسان سنة 128هـ ، وهم من أخبث الطوائف وأضلها وأبعدها عن الحق .
    ومذهبهم في الصفات والأسماء إنكارها وتعطيلها ، فهم في باب الأسماء والصفات معطلة ، بل هم رؤوس المعطلة .
    ومذهبهم في أفعال العباد الجبر ، أي أن العبد مجبور على فعله ، فيسلبون العبد مطلق القدرة والاختيار ، فهم في باب القدر جبرية .
    ومذهبهم في الوعد الوعيد الإرجاء ، أي أنه لا يضر مع الإيمان فعل الكبائر ما خلا الشرك ، فهم في باب أسماء الأحكام والدين يقال لهم المرجئة .
    ولذلك فإن كثيرًا من أهل السنة المتأخرين يخرجونهم من جملة طوائف الأمة ؛ لأنهم كفار الكفر الأكبر ، وقد ذكر بعض أهل السنة الإجماع على ذلك ، ويعني به إجماع المتأخرين ، والله أعلم .
*  *  *
    س360: من الخوارج ؟ ولماذا سموا بذلك ؟ مع ذكر بعض عقائدهم ؟
    ج360: الخوارج هم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب  وخرجوا على الأمة الإسلامية .
    ولذلك سموا بالخوارج لخروجهم على إمام المسلمين والأمة الإسلامية .
    وهم من أوائل الفرق خروجًا ، ويقال لهم : الحرورية نسبة إلى حروراء موضع بالعراق قرب الكوفة ، وهم يوصفون بأنهم من أشد الناس تدينًا كما قال - عليه الصلاة والسلام - : (( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم إلى يوم القيامة )) .
    وهم يستحلون قتل المسلمين ويجعلون ديارهم ديار حرب ، وهم يكفرون أهل التحكيم كعلي ، ومعاوية ، وعمرو بن العاص ، وأبي موسى الأشعري ، ومن شارك في القتال ورضي بالتحكيم ، وينكرون الأخذ بالسنة ، فلا يأخذون بها جملة وتفصيلاً ، ويكفرون مرتكب الكبيرة ، ويعتقدون أنه إن مات مصرًا عليها فهو خالد في النار أبدًا كخلود الكفار ، وينكرون الشفاعة في الآخرة ، ويقولون في كثير من الصفات كقول الجهمية ، فينكرون الرؤية ، ويقولون : إن القرآن مخلوق ، ويحرفون سائر الصفات ، وقد تفرقوا أحزابًا وتمزقوا شيعًا وصاروا طوائف كثيرة ، ومن أخبث فرقهم في هذا الزمان الإباضية ، فإنهم هم الخوارج ، والله أعلم .
    س361: من الأشاعرة ؟ ولماذا سموا بذلك ؟ مع ذكر بعض عقائدهم .
    ج361: الأشاعرة هم أتباع أبي الحسن الأشعري ، وهذه الفرقة تنسب إليه ، وقد تاب وعاد إلى مذهب أهل السنة وألف في ذلك بعض الكتب ، ولكن لم يسلم من بعض الألفاظ الكلامية حتى ولو بعد توبته - فنسأل الله تعالى أن يعفو عنه ويغفر له - .
    والأشاعرة في باب الأسماء والصفات معطلة ، فهم يثبتون الأسماء ، ولكن لا يثبتون من الصفات إلا الصفات السبع فقط ، وهي : الحياة ، والكلام ، والبصر ، والسمع ، والإرادة ، والعلم ، والقدرة فقط ، مع اختلاف مع أهل السنة في طريق إثباتها ، ويسمونهها بالصفات العقلية .
    وهم في باب القدر مرجئة ، لأنهم يخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان ، بل ويخرجون القول أيضًا ويزعمون أن الإيمان هو الاعتقاد القلبي فقط ، وأما القول والعمل فهما فضلة زائدة لا تأثير لوجودهما ، ولا لعدمهما في زيادة الإيمان ونقصه ، فالإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص ، وهم في باب القدر جبرية لاعتقاد أن العبد لا قدرة له ولا اختيار ، والله أعلم .
*  *  *
    س362: من الرافضة ؟ ولماذا سموا بذلك ؟ مع ذكر أبرز عقائدها وأصولها .
    ج362: الرافضة هم الذين يغلون في آل البيت ويرفعونهم عن مرتبة البشرية إلى مرتبة الإلهية ويضفون عليهم من الصفات والأفعال ما لا يليق إلا برب الأرض والسماء ويفضلون علي بن أبي طالب على سائر الصحابة ، وبعضهم يعتقد أنه هو الرسول ولكن الملك أخطأ في الرسالة .
    وسموا رافضة لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب  ، فإنهم قالوا له : ما قولك في أبي بكرٍ وعمر ؟ فقال : هما وزيرا جدي - يعني النبي  - فانصرفوا عنه ورفضوه .
    ويقال لهم الشيعة وذلك لتشيعهم لآل البيت وغلوهم فيهم .
    وأشهر طوائفهم الاثني عشرية وهم الذين يعتقدون أن الإمامة في الاثني عشر الذين آخرهم محمد بن الحسن العسكري صاحب السرداب - أعني سرداب سامراء بالعراق - .
    وقد ذكر أبو العباس - رحمه الله تعالى - في فاتحة كتابه منهاج السنة أوجهًا كثيرة في مشابهة الرافضة لليهود ، فهم بحق اليهودية الصغرى ، ولذلك فهم يلتقون مع اليهود في جوانب كثيرة ، فبينهم توافق وتجانس كبير يعرف ذلك من نظر في عقيدة الطائفتين .
    ومن أوائل عقائدهم الفاسدة : الإمامة ، وتكون بالنص ، وهم يعظمون هذا الأصل التعظيم المطلق .
    ومن عقائدهم الفاسدة : التقية ، وهي إظهار الموافقة للخصوم ، وإبطال التشيع وهذا يكون في أزمنة الضعف ، وأما في أزمنة القوة فناهيك عما يفعلونه بأهل السنة من التعذيب والقتل ، وفتح أبواب العدو عليهم .
    ومن عقائدهم الفاسدة : الرجعة ، فهم يعتقدون بأن إمامهم المزعوم الغائب في السرداب سيرجع ، فهم يقفون عند السرداب كل ليلة انتظارًا لخروجه ، وقد وضعوا دابة وسلاحًا ويهتفون باسمه ، وهكذا كل ليلة .
    ومن عقائدهم الفاسدة : عدم إقامة الجمع والجماعات إلا خلف إمام معصوم .
    ومن عقائدهم : تعظيم القبور بالذبح ، والطواف ، والسجود ، والركوع ، والتقبيل ، والنذور ، فهم سادات عباد القبور ، وبخاصة القبور التي يزعمون أنها لآل البيت .
    ومن عقائدهم : تجويز المتعة .
    ومن عقائدهم : تجويز البدا على الله تعالى ، أي أنه يجوز على الله تعالى أن يفعل فعلاً ثم يبدو له عدم صلاحيته ، فينتقل منه إلى غيره ، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا .
    ومن عقائدهم : البراءة ، وهي قولهم : لا ولاء إلا ببراء ، أي أنه لا ولاء لآل البيت وخصوصًا علي بن أبي طالب إلا بالبراءة من الخلفاء الثلاثة : أبي بكر ، وعمر ، وعثمان .
    ومن عقائدهم : المغالاة في آل البيت ، حتى أضفوا عليهم صفات الرب ، ولهم في ذلك أقوال ونقول يشيب منها الرأس .
    ومن عقائدهم : أن هناك مصحفًا آخر غير هذا المصحف ليس فيه مما في مصحفنا حرف واحد ، وقد رواها إمامهم في الحديث الكليني في أصوله الكافي .
    ومن عقائدهم : وجوب تعذيب النفس بالضرب بالسيوف والسلاسل حتى تسيل الدماء على الوجوه ، وأكثرهم تعذيبًا لنفسه أشدهم موالاة لآل البيت ، وهذا يفعلونه في يوم عاشوراء . وأقول : الحمد لله لقد كفينا مئونة ضربهم والتنكيل بهم ، فإننا لو تكلفنا ذلك لما وجدنا له سبيلاً ، فكفانا الله بأنفسهم .
    وبالجملة : فعقائد القوم ضحكة للعقلاء ومحطًا لسخرية أهل الألباب ، ولكن القوم لا عقول لهم تمنعهم من مواقعة ذلك ، ولا نُقُولَ تهديهم إلى الصراط المستقيم ، فذرهم في غمرتهم حتى حين ، وذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون ، والله أعلم .
*  *  *
    س363: اذكر بعض الأوجه الدالة على صحة منهج السلف .
    ج363: أقول : الأوجه الدالة على صحة منهج السلف كثيرة ، وقد استوفاها الشيخان أبو العباس وتلميذه ابن القيم - رحمهما الله تعالى ورفع نزلهما في الفردوس الأعلى وخَلَّدَ ذكرهما إلى يوم القيامة وجزاهما خير ما جزى عالمًا عن أمته وجمعنا بهم في الجنة - ، وذكر الأوجه كلها يطول ، ولكن أذكر لك بعضها فأقول :
    الوجه الأول : أن منهج السلف الصالح مبناه على الدليل من الكتاب والسنة ، لأنهم لا يأخذون معتقداتهم إلا من الكتاب والسنة وليس لهم أصول أخرى ليسوقوا منها اعتقادهم ، ولاشك ولاريب أن الكتاب والسنة حق وصدق وصواب وما بني على الحق فهو حق ، وما بني على الصدق فهو صدق ، وما بني علي الصواب فهو صواب ، ومن قال بغير ذلك فهو قادح في الكتاب والسنة .
    إذًا فنقول : لما كان منهج السلف موافقًا للكتاب والسنة ، فهو يسير معهما حيث سارا ويقف معهما حيث وقفا ، لزم من ذلك أن يكون هو الصحيح والحق ؛ لأنهما - أي الكتاب والسنة - حق وما وافق الحق فهو حق ، والله أعلم .
    الوجه الثاني : أن منهج السلف متوافق كل الموافقة مع ما كان يعتقده الصحابة والتابعون وتابعوهم ، ومن المعلوم أنهم - أي الصحابة والتابعون وتابعوهم - هم خير قرون الأمة بشهادة النص الصحيح الصريح ، وهذا المدح والثناء العظيم لم يكن ليحصل لو كان المنهج مخالفًا للكتاب والسنة ، فإن مخالف الكتاب والسنة حقه الذم لا المدح ، فلما مدحوا بذلك ومنحوا هذه الشهادة العظيمة دل ذلك على صفاء اعتقادهم ، وصحة مذهبهم ، وسلامة سبيلهم ، وأنهم أهل الهدى والصراط المستقيم ، وأهل العلم النافع والعمل الصالح ، وأن الحق معهم يدور حيث داروا ، بل وإن هذه الشهادة بالخيرية فيها حث للأمة اللاحقة أن تقتفي آثار الأمة السابقة ، وأن يترسموا خطاهم ويهتدوا بهديهم ، وإنك إذا سبرت فرق الأمة كلها لم تجد أشدهم شبهًا بالسابقين ، ولا ألزمهم اتباعًا لهم ، ولا أعظمهم موافقة لاعتقادهم ولا أبرهم قلوبًا ولا أشدهم تمسكًا بالكتاب والسنة إلا أهل السنة والجماعة ، فيلزم من ذلك أن يكون أهل السنة هم أهل الهدى وأهل المعتقد الصافي والصراط المستقيم ، وهم أهل الحق وأهل العلم النافع والعمل الصالح ، وذلك لموافقتهم لخير القرون في العلم والهدى والاعتقاد ، فالسبب الذي من أجله مدح السابقون متحقق في أهل السنة ، وهذا يفيدك صحة منهج السلف لتوافقه مع معتقد خير القرون ، والله أعلم .
    الوجه الثالث : أن العقل السليم من الآفات والعلل والشبه والشهوات يفرض فرضًا قطعيًا لا نقاش فيه ولاشك ولاريب يخالطه تقديم الكتاب والسنة على كل شيء وألاَّ تعارض بقولٍ أو فعل أو قاعدة كلامية أو مذهب ما ، وهذا هو حال أهل السنة والسلف الصالح - رضوان الله عليهم - ، فإنهم يقدمون النقول على العقول وعلى آراء الرجال وعلى المذاهب وعلى شهوات النفوس ، فالنص عندهم هو الأصل وغيره الفرع ، وهو الميزان وغيره الموزون ، وهو المتبوع وغيره التابع ، وهو الأول والمقدم ، وغيره الثاني والمؤخر ، ولا تجد مذهبًا أو فرقة من الفرق إلا وعندها من مخالفة المنقول الشيء الكثير ، إلا أهل السنة والجماعة ، وهذا يدل على صحة منهجهم وسلامة طريقهم ، لأنه متوافق مع العقل السليم كل الموافقة ، وما وافق العقل السليم فهو صحيح ؛ لأنه لا يتعارض العقل الصريح مع النقل الصحيح ، فقد توافر في منهج أهل السنة توافقه مع النقل وتوافقه مع العقل السليم وتوافقه مع منهج خير القرون .
    الوجه الرابع : في بعض روايات حديث الافتراق الذي يصح لمجموع طرقه وتلقي الأمة له بالقبول والاعتماد ، أن النبي  قال : (( كلها في النار إلا واحدة )) . قالوا : من هي يا رسول الله ؟ قال : (( من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي )) ، فهذا النص يشهد أن من كان على مثل ما كان عليه النبي  وأصحابه فهو الناجي ، وإنك إذا نظرت إلى سائر الفرق لن تجد فرقة إلا وعندها من المخالفة لما كان عليه النبي  وأصحابه الشيء الكثير ، سواءً في اعتقاداتهم أو أعمالهم ، إلا أهل السنة والجماعة ، فإنهم الفرقة الوحيدة التي هي على مثل ما عليه النبي  وأصحابه في الاعتقاد وفي العمل ، وهذا يفيد أنها الفرقة الناجية ، ونجاتها دليل على صحة مسلكها وسلامة منهجها ، فإن النجاة ثمرة السلامة في الاعتقاد والعمل ، فهم الناجون بشهادة الصادق المصدوق  .
    الوجه الخامس : أنك إذا نظرت إلى كل الفرق وجدت أن عقائدها تتكيف مع المتغيرات بالزيادة والنقصان ، كالقدرية كان أوائلهم ينكرون علم الله السابق بالأشياء مع إنكار تقديرها ، ولكن لما كان هذا القول مفضوحًا أنكره متأخروهم وأبوه ورفضوه ، وقالوا : يعلمها ولكنه لم يخلقها ، وهذا الاختلاف والاضطراب دليل الفساد .
    والرافضة كانوا في أول أمرهم ممثلة ثم صاروا في آخر الأمر معطلة .
    والمعتزلة كانوا فرقة واحدة ثم تفرقوا أحزابًا وشيعًا كل حزب بما لديهم فرحون ، وكل من جاء متأخرًا يزيد أصولاً ويحذف أشياء مما قرره السابقون في مذهبه .
    وكل فرقة من هذه الفرق افترقت في اعتقاداتها إلى فرق شتى ، وكل فرقة منها تقرر أصولاً تخالف به الفرقة الأخرى ، وهم منتمون لفرقة واحدة ، فالخوارج صاروا فرقًا شتى ، والرافضة صاروا فرقًا شتى ، والصوفية صاروا فرقًا شتى ، وهذا الاختلاف والتنافر والتناقض دليل على فساد أصول هذه الفرق ، ولكن إذا نظرت إلى أهل السنة وجدت أنهم مؤتلفون لا يختلفون ومتحدون مؤتلفون لا يفترقون ، أصولهم واحدة ، وطريقهم واحدة ، وعقيدتهم واحدة ، يأخذه الآخر عن الأول ، واللاحق عن السابق ، غضًا طريًا واضحًا سهلاً بعيدًا عن الإغراب والغموض ، لا تشوبه شائبة ، ولا تكدر صفو مشربه شبهة أو شهوة ، قريب المأخذ ، سهل المدرك ، قوي الأساس ، ثابت لا يتغير ، واحد لا يتعدد ، صامد لا يهتز على كثرة من حاربه وكاد لأهله ، تقرأ الكتب الكثيرة فيه وكأنها لمؤلف واحد ، هو المذهب الذي ترتاح له القلوب ، وتنشرح له الصدور وتطمئن له النفوس ، ليس بين أهله اختلاف في أصوله وقواعده ، ولا تنافر في أدلته وثوابته ؛ لأنه مبني على أصل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، قد تأيدت بالدلائل مسائله ، وانتشرت بين البرية فضائله ، فهو الحق وما سواه فباطل ، وهو الصواب المقطوع به ، وما سواه فباطل مردود على صاحبه ، وهو الثريا وغيره الثرى ، وهذا كله دليل صحته ، وعلامة على خيريته ، فوا عجبًا لمن شك أو شكك في سلامته وصلاحيته ، إن هي إلا شِنْشِنَةٌ نعرفها من أخزم ، ونخالة فكر مزجت بحثالة قولٍ نسمعها ممن ضل وأجرم ، والله ربنا أعلى وأعلم .
    الوجه السادس : من المعلوم أن مذهب السلف يختلف عن مذهب الخلف ، ونعني بالسلف النبي  والصحابة والتابعين وتابعيهم ، ونعني بالخلف المتأثرون بالمناهج الكلامية الفلسفية كالجهمية والمعتزلة والخوارج والشيعة والأشاعرة وسائر طوائف أهل الكلام .
    فمذهب السلف يتنافر مع مذهب الخلف ، فحينئذٍ لا يخلو : إما أن يكون الحق مع السلف ، وإما أن يكون مع الخلف ؟ لا يمكن أن يقول مؤمن يدري ما يقول إن الحق مع الخلف ؛ لأنه يلزم عليه تجهيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وهذا أعظم القدح في خير قرون الأمة ، ويلزم عليه أيضًا أن من اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه كانوا أجهل الخلق وأضلهم وأبعدهم عن الهدى في أبواب الاعتقاد ، ويلزم عليه أيضًا أن الحق لم يزل خافيًا غامضًا ملتبسًا ، ولا يدرى عن حقيقة أمره ، حتى جاء أولئك المتأخرون الأوباش فاستخرجوه بغرائب الألفاظ ومستكره العبارات التي هي للألغاز والأحاجي أقرب منها إلى العلم والبيان والهدى ، ويلزم عليه أيضًا أن الصحابة قد ضلوا في هذا الباب - أي باب الاعتقاد - وأضلوا غيرهم ؛ لأنهم علموا الأجيال التي جاءت بعدهم أبواب الاعتقاد ، وأي كفر بعد هذا الكفر ، وأي زندقة بعد هذه الزندقة ، وأي قدح بعد هذا القدح ، ويلزم عليه أيضًا تفضيل الخلف على السلف ، وهذا هو الضلال بعينه ، فبالله عليك كيف تكون زبالات أذهان الفلاسفة ، وخرافات اليهود والنصارى أفضل وأكمل وأصح منهجًا من منهج السابقين الأولين ؟ أم كيف يكون هؤلاء المتهوكون الأفاكون الذي هم أعظم الناس شكًا وتيهًا وضلالاً وحيرة واضطرابًا أهدى من طريق محمد  وصحابته من المهاجرين والأنصار ، رضي الله عنهم وأرضاهم ؟ أم كيف يكون من تربى في حظائر الفلسفة وتروى من بالوعة الباطنية القرامطة ، وعشعشت في عقله القواعد التي تناقض المعقول وتصادم المنقول أعلم وأحكم من الذين استنارت قلوبهم بنور الكتاب والسنة ، وترووا من معينها الصافي الذي لا شوب فيه ولا كدر وتربوا في حلقات خاتم الأنبياء والمرسلين - صلوات الله وسلامه عليه - ونهلوا من العلم النافع المؤيد لنصوص الوحيين ؟ بالله عليك كيف يكون ذلك ؟
    فهذا القول باطل كل البطلان ، لفساده في جميع نتائجه - أعني القول بأن الحق مع الخلف - ؛ لأنه مفضٍ إلى لوازم كلها فاسدة باطلة ، وقد تقرر في الأصول أن فساد اللازم دليل على فساد الملزوم ، فإذا بطل ذلك الأمر لزم الأمر الآخر وهو أن الحق مع السلف ، ومن كان الحق معه فمذهبه هو الصحيح ، وهذا هو الذي لا يجوز القول بغيره ، ولا تنس أن من جملة نواقض الشهادتين أن يعتقد العبد أن هدي غير رسول الله  أكمل من هديه ، فنعوذ بالله من الأقوال المخالفة للكتاب والسنة ، والله أعلم .
    الوجه السابع : أن كبار المتعمقين في مناهج الخلف قد أعلنوها صريحة أنهم ليسوا على شيء وأن أصولهم وقواعدهم التي عظموها وأفنوا فيها أعمارهم وألَّفُوا فيها المؤلفات وأشغلوا في تقريرها الأوقات إنما هي كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه بعد جهدٍ جهيد لم يجده شيئًا وأنها لا توصل إلى الهدى ولا إلى علم ، بل هي مجرد شبه وخيالات ظنوها حججًا مستقيمة فإذا هم يعترفون في آخر أمرهم أنها خرافات عقيمة ، فمنهم من أسعفه الله برحمته وهداه في آخر أمره إلى مذهب السلف ، ومنهم من بقي مترددًا في ضلاله ، ويعمه في غيِّه ، وهو معترف بأنه ليس على شيء ، لكنه لا يدري أي طريق الهدى . وهذه شهادة من هؤلاء بصحة مذهب السلف ، وقد تقرر في قواعد النقد أن الحق ما شهدت به الأعداء ، فقد قال كبيرهم الغزالي : (( أكثر الناس شكًا عند الموت أهل الكلام )) ا.هـ .
    ويقول كبير من أئمتهم :
وسـيرت طرفي بـين تلك المعـالم
        لعمـري لقـد طفـت المعاهد كلها

على ذقــن أو قـارعًا سـن نـادم
        فلـم أر إلا واضـعًا كـف حائـرٍ

    ويقول الرازي وهو من هو في علم الكلام فإنه أسرف على نفسه في الحيرة والشك والاضطراب، له نهمة في ذلك ، فهو مغرم بالتشكيك لا التحقيق، فقد قال يخبر عن نهاية أمره :
وأكـثـر سعـي العـالمـين ضـلال
        نهايـة إقـدام العـقـول عـقـال

وحـاصــل دنيـانـا أذى ووبـال
        وأرواحنا فـي وحشة مـن جسومنا

سـوى أن جمعـنا فيـه قيـل وقـالوا
        ولـم نستفد مـن بحثنا طول عمرنا

    ثم قال : (( لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فلم أرها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ، اقرأ في الإثبات  الرحمن على العرش استوى  ،  إليه يصعد الكلم الطيب  ، واقرأ في النفي :  ليس كمثله شيء  ،  ولا يحيطون به علمًا  ، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي )) ا.هـ .
    ويقول الآخر منهم : (( لقد خضت البحر الخضم وتركت أهل الإسلام وعلومهم وخضت في الذي نهوني عنه والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لفلان وها أنا أموت على عقيدة أمي )) ا.هـ .
    فهذه بعض اعترافات كبارهم كالغزالي ، والجويني ، والرازي ، والشهرستاني ، واعترافاتهم هذه دليل على فساد المذاهب الكلامية ، ورجوعهم إلى مذهب السلف بعد توغلهم في عمق الفلسفة ، دليل على صحة مذهب السلف وأنه المتوافق مع الفطر السليمة والأفهام المستقيمة ، والله أعلم .
    الوجه الثامن : أن السلف هم ورثة الأنبياء والمرسلين ، فقد تلقوا علومهم من ينبوع الرسالة الإلهية وحقائق الإيمان ، ولا يمكن أبدًا أن يكون الحق إلا مع هؤلاء وإلا لفسدت العلوم وهلكت البشرية كلها ، فإن الخلف قد تلقوا ما عندهم من المجوس والمشركين وضلال اليهود واليونان ، أفيكون أعداء الله تعالى وأعداء الرسل أعلم وأحكم وأهدى من الرسل وأتباعهم ؟ لا والله هذا لا يكون أبدًا ولا يمكن للعقل السليم أصلاً أن يتصوره ، بل إن الذي ندين الله تعالى به أنه لا يجوز أصلاً عقد المقارنة بين المذهبين ؛ لأن مجرد عقد المقارنة تنقيص لمذهب السلف ولقد أحسن القائل :
إذا قيل إن السيف أمضى مـن العصى
        ألم تـر أن السيـف ينقـص قـدره

    فكيف بمن يفضل مذهب الخلف على السلف ؟ فالله المستعان .
    الوجه التاسع : أننا لا نزال - ولله الحمد والمنة - نرى ونسمع ونقرأ انتصارات السلف بالحجة والبرهان ، وبالسيف والسنان ، فما يتبجح صاحب بدعة ببدعته ، ولا مفتون بقوله المخالف للكتاب والسنة إلا وقيض الله له من جنده من يريق دم بدعته ويقطعها من دابرها ، والأمثلة على ذلك كثيرة شهيرة .
    فالسلف هم المنصورون بالحجة والسيف ، فكلمتهم ظاهرة ، ورايتهم عالية لا تنـزل أبدًا ، لهم من الله مؤيدًا ونصيرًا ، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ، حتى يأتي أمر الله عز وجل ، وهذا أمر يشهد به القريب والبعيد ، والموافق والمخالف ، وهذا ليس في زمن دون زمن ، بل في كل الأزمنة ، وما كان الله ليؤيدهم لولا أنهم على الحق ، وما كان الحكيم العليم ليديم نصرهم إلا لأنهم نصروه بإعلاء كلمته والجهاد في سبيله بالقول واليد والمال ، إذ من المعلوم أنه يمتنع في عدله وحكمته جل وعلا أن يديم نصر الباطل وأن يعلي كلمة السوء الإعلاء المطلق .
    فلما أدام الله عزهم وأعلا منارهم وثبت أقدامهم ونشر علومهم وأتم نصرهم على مخالفيهم بكل معاني النصر في كل الأزمان ومختلف مجاري الأحوال دل ذلك أنهم على الحق ، وأن مذهبهم هو الصواب الصحيح ، ومن قال بغيره فقد قدح في حكمة الله تعالى وعدله ونسبه إلى ما لا يجوز من وصف السوء - تعالى الله عن كل أوصاف النقص علوًا كبيرًا - ، وبهذا الدليل استدل بعض أهل العلم على صدق الرسول  حال مناظرته مع بعض النصارى ، فتدبره وأعد النظر فيه ، فإنه قوي ، لكن يحتاج إلى تمهيده ببعض المقدمات ، والله أعلم .
    الوجه العاشر : إنه من المحال في العقول السليمة نسبة الصحابة إلى الجهل في باب معرفة الله بأسمائه وصفاته ؛ ذلك لأن النبي  قد علم أمته آداب الخلاء ، والطعام والشراب ، والنوم ونحوها ، وبينها لهم البيان الشافي الكافي ، ولا مقارنة بين هذه الآداب وبين باب معرفة الله بأسمائه وصفاته وغيرها من أبواب الاعتقاد ، فإذا كان النبي  قد بين هذه الآداب البيان الكامل التام فإنه من باب أولى أن يكون بيانه لأبواب الاعتقاد أكمل وأتم ، وهذا من القياس الأولوي ، وهو حجة عند الجميع .
    ويقال أيضًا : إن النبي  قد بعث بالنور والهدى ، فشريعته كلها نور وهدى ، وأعظم ذلك النور والهدى وأكبره وأهمه أبواب الاعتقاد ، فمن المحال مع عظم أهميته أن يتركه النبي  غامضًا ملتبسًا حقه بباطله ، بل المتوافق مع كمال نصحه وتمام شفقته والقيام بأمانة البلاغ أن يكون بيانه لأبواب الاعتقاد أكبر وأعظم ، ولازم ذلك أن يكون الصحابة قد أخذوا الحظ الأوفر والنصيب الأكبر في بيان هذه الأبواب - أعني أبواب الاعتقاد - .
    ويقال أيضًا : إن أبواب الاعتقاد هي أساس العمل وقاعدته ، وما عداه فثمرة وفروع له ، ومن المحال في المعقولات أن يهتم الشخص كل الاهتمام ببيان الفروع والثمرة ويترك القاعدة والأصل والأساس ، فهذا لا يجوز ظنه في أصغر داعية من دعاة الإسلام ، فكيف بالنبي  ؟ وإذا تقرر لك ذلك وفهمته فهمًا جيدًا فإنه يلزم من ذلك كله أن يكون الصحابة قد حققوا هذه الأبواب التحقيق التام وفهموها الفهم الكامل ، وعرفوها المعرفة المطلقة ، وأنهم أهل الحق في هذه الأبواب ، فالهدى معهم ، والبر والإحسان في سلوك سبيلهم ، وليس مع من خالفهم في أبواب الاعتقاد إلا الضلال والتيه والحيرة والشكوك والأوهام ، ومخالفة المنقول ومناقضة المعقول ، فالحق كل الحق مع الصحابة ، والهدى كل الهدى مع الصحابة ، والبر والإحسان كله مع الصحابة - رضي الله عنهم وأرضاهم - ؛ وذلك لأن معلمهم ومدرسهم خير المعلمين وأعظم المدرسين  .
    فهذه الأوجه العشرة فيها البيان الشافي لصحة السلف ، وليست هي كل الأوجه ، وإنما هذه أهمها ، والعذر ثم العذر من الإطالة في إجابة هذا السؤال ، فإنه مقصود هذا الكتاب - الذي أسأله جل وعلا أن يجعله مباركًا - ، والله أعلى وأعلم .
*  *  *
    س364: كيف التوفيق بين وصف القرآن كله بالتشابه والإحكام ، ووصف بعضه بالتشابه والإحكام ؟
    ج364: قبل البدء في الجواب لابد من ذكر الآيات أولاً ، فأقول : قال تعالى :  كتاب أحكمت آياته  ، وهذا وصف بالإحكام العام . وقال تعالى :  الله نزل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا  ، وهذا وصف بالتشابه العام . وقال تعالى :  هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات وأخر متشابهات  ، وهذا وصف لبعضه بالإحكام ووصف لبعضه بالتشابه .
    ولا اختلاف بين هذه الآيات ولا تناقض بينها ، فإن الإحكام العام معناه الإتقان ، فالقرآن كله متقن الإتقان المطلق في ألفاظه ومعانيه وترابط آياته وعمق بلاغته وكبير إعجازه ووضوحه ؛ وذلك لأنه كلام الله تعالى منـزل غير مخلوق .
    والتشابه العام هو بعينه الإحكام العام ، أي أن بعضه يشبه بعضًا في أوامره وزواجره وأخباره وأمثاله ، فهو يصدق بعضه بعضًا ، ويؤيد بعضه بعضًا ، ويوافق بعضه بعضًا ، فهو متشابه في الكمال والإحسان والبلاغة والإعجاز والإتقان والائتلاف ، فالإحكام العام هو التشابه العام ، فلا اختلاف بين وصفه بالإحكام العام والتشابه العام ، والله أعلى وأعلم .
    وأما الإحكام الخاص والتشابه الخاص فلا تعارض بينها أيضًا ، وبيان ذلك أن يقال : المراد بالإحكام الخاص أي وضوح المراد وبيانه وظهور المقصود منه ، والتشابه الخاص هو ما خفي معناه ولم يتضح المراد به ، فبعض القرآن محكم ظاهر المعنى ، وبعضه متشابه خفي المعنى ، ويتضح الكلام على مسألة الإحكام الخاص والتشابه الخاص في هذه المسائل :
    المسألة الأولى : اعلم أن مسلك أهل العلم الراسخين الموفقين إذا ورد عليهم الأمر المتشابه الخفي في القرآن أن يقولوا :  آمنا به كل من عند ربنا  ، كما وصفهم الله تعالى بذلك في قوله تعالى :  وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ  ، فهذا مسلك الراسخين في العلم .
    وأما مسلك الهالكين الزائغين فهو اتباع هذا المتشابه واعتماده والصدود عنه ومعارضة المحكم به ابتغاء الفتنة للمؤمنين وابتغاء تأويله ، كما وصفهم الله تعالى بذلك في قوله :  فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله  ، وفي الصحيحين من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت : تلا رسول الله  هذه الآية :  هو الذي أنزل عليك الكتاب ...  فقال : (( فإذا رأيت )) وعند مسلم : (( فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله تعالى فاحذروهم )) .
    فاسلك منهج الراسخين في العلم فإنه النجاة والسلامة ، جعلنا الله وإياك منهم .
    المسألة الثانية : اعلم - رحمك الله تعالى - أن التشابه الخاص أمر نسبي - أي باعتبار صاحبه - ، فإنه قد يخفى على بعض أهل العلم ما لا يخفى على البعض الآخر ، وقد يكون متشابهًا في حق البعض ما هو محكم في حق الآخر ، وهذا يفيدك أنه - أي التشابه الخاص - أمر نسبي - أي بالنسبة إلى صاحبه - ، وبه تعلم أن التشابه ليس وصفًا ذاتيًا في الدليل - حاشا وكلا - ، بل الأدلة في ذاتها واضحة كل الوضوح ومحكمة كل الإحكام ، وإنما التشابه حصل في ذهن المجتهد - أي الناظر في الدليل - ، وذلك لقلةٍ في العلم وضعفٍ في الفهم ، بدليل أنه يتفاوت بين مجتهدٍ ومجتهد ، فليكن ذلك منك على ذكرٍ فإنه مهم جدًا ، والله أعلم .
    المسألة الثالثة : اعلم - رحمك الله تعالى - أن عندنا صنفين من الأدلة لابد أن نفرق في الكلام على معانيها وكيفياتها التي هي عليه في الواقع ، وهي الأدلة التي تثبت وقائع اليوم الآخر ، وهي كثيرة في القرآن ، فالمتقرر عند أهل السنة - رفع الله نزلهم في الفرودس الأعلى - هو أننا نعلم معانيها ونكل علم كيفياتها إلى الله تعالى ، وقد قدمنا ذلك في أسئلة خاصة ، ولكن أعدته هنا لأهميته ؛ وذلك لأن بعض من يتكلم على الفرق والمذاهب ينسب أهل السنة إلى الجهل بمعاني هذه الأدلة ، وهذه النسبة جهل إن كان صاحبها جاهلاً بحقيقة الحال ، وظلم وغواية إن كان صحابها يريد التلبيس على العامة ، وإلا فأهل السنة يعلمون معاني أدلة الصفات واليوم الآخر ، فيعلمون معنى السمع ، والنـزول ، والبصر ، والوجه ، واليد ، والعلو ، والاستواء ونحو ذلك ، ولكنهم لا يعلمون كيفياتها على ما هي عليه في الواقع .
    وقد ذكرت لك أن القاعدة المتقررة عند أهل السنة أن آيات الصفات نعلمها من جهة معانيها ونجهلها من جهة كيفياتها ، وكذلك نحن نعلم معنى انشقاق السماء ، وانكدار النجوم ، وتكوير الشمس ، والقمر ، والميزان ، والصراط ، ونعلم معاني أسماء ما في الجنة من النعيم ، وما في النار من العذاب الجحيم ونحو ذلك ، ولكننا نجهلها من جهة كيفيتها التي ستكون عليه في الواقع .
    وبالجملة : فأهل السنة - رحمهم الله تعالى - يعلمون معاني الصفات ونصوص اليوم الآخر ، لكنهم يكلون علم كيفياتها إلى الله تعالى ، أي : أن آيات الصفات واليوم الآخر محكمة من قبل معانيها ، متشابهة في كيفياتها ، أي : أنه قد اتضح المراد منها في معانيها ، وخفي علينا المراد من كيفياتها ، وهذا الخفاء في كيفياتها أمر عام لكل أحدٍ من المكلفين وهو التشابه الحقيقي ؛ لأنه لم ير ، ولم ير نظيره ، ولم يخبرنا الصادق عن حقيقة كيفيته ، وليس ذلك لعيب في الأدلة أو أنها في ذاتها متشابهة - حاشا وكلا - ، وإنما القصور في عقولنا ، فإن كيفيات هذه الأشياء لا تحتملها عقولنا ، وليست داخلة في حدود مدركاتها وما خلقت له ، ولم يكلفنا الله تعالى في هذين الصنفين من الأدلة إلا بالإيمان بها وبما اتضح لنا من معانيها ، وبالعمل بمقتضياتها والاستعداد لها ، وأما الغوص في معرفة تفاصيل كيفية هذه الأشياء فلم نكلف به ، بل كلفنا باجتنابه والتباعد عنه ؛ لأنه دخول فيما لا دليل عليه وإقحام للعقل فيما ليس له فيه مجال .
    والخلاصة : أن آيات الصفات واليوم الآخر إنما تعلم من جهة معانيها لا من جهة كيفياتها ، وأهل السنة في هذا المذهب النبيل الكامل والمسلك السليم الفاضل وسط بين ضلالتين وهدىً بين غوايتين : بين المفوضة الذين يزعمون أنهم لا يعلمون المعاني ولا الكيفيات ، وبين أهل التمثيل الذين يزعمون أنهم يعلمون المعاني والكيفيات . فقال أهل السنة : بل المعنى معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة .
    فلا خفاء في المعاني ولا غموض فيها ولا لبس ، وإنما الخفاء في الكيفية فقط ، فانتبه لهذا - بارك الله فيك - فإنه مهم غاية الأهمية ، ونعوذ بالله من زلل البنان واللسان ، وخطأ الفهم وتحكم الهوى ، والله أعلم .
    المسألة الرابعة : اعلم أن القاعدة في المتشابه أنه يرد إلى المحكم ، وهذا هو المخرج الشرعي الصحيح في هذه المتشابهات التشابه الخاص ، فما سلم في دينه من اعتمد الكلام في المتشابهات وخاض فيها وجادل بلا برهان ولا علم ، وإنما السالم في دينه هو من آمن بها وقال :  كل من عند ربنا  وردها إلى المحكمات الواضحات ، فاحفظ هذه القاعدة أعني قاعدة : (( المحكم مقدم على المتشابه )) أو تقول : (( المتشابه مردود إلى المحكم )) ، والله أعلى وأعلم .
*  *  *
    س365: ما الحكمة من كون بعض القرآن متشابهًا ؟
    ج365: إن الحكمة في ذلك ابتلاء العباد واختبارهم ليتبين الصادق في إيمانه ، الراسخ في علمه ، الذي يؤمن بالله وكلماته ، ويعلم أن كلام الله تعالى ليس فيه تناقض ولا اختلاف ، فيرد ما تشابه منه إلى المحكم ، ليصير بذلك كله محكم ، من الشاك الجاهل الزائغ الذي يتبع ما تشابه منه ليضرب كتاب الله بعضه ببعض ، فيضل ويضل ، ويكون إمامًا في الضلال والشقاء ، فيفتن الناس في دينهم ويوقعهم في الحيرة والشك ، قال تعالى :  فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ  ، فالحكمة من ذلك هي الابتلاء والاختبار ، والله أعلى وأعلم .
*  *  *
    س366: ما الأسباب التي بسببها ضل من ضل في أبواب الاعتقاد ؟
    ج366: هذا سؤال عظيم النفع غزير البركة ، وقبل الإجابة عنه أقول : أنني لا أدري الآن هل كنت قد كتبته سابقًا أو لا ؟ لأنني أكتب الأسئلة درجًا تباعًا بلا فهرسة ، والطلبة يأخذون مني ما أكتبه أولاً بأول ، فإن كان قد سبق فالعفو والمعذرة ، وإن كان لم يكتب فهذا أوان كتابته ، والله يعفو عن الزلل وأستغفر الله تعالى وأتوب إليه .
    فأقول : الأسباب كثيرة وأذكر لك أهمها :
    الأول وهو أعظمها وأخطرها : وهو إرادة الهدى من غير الكتاب والسنة ، فإن هذه الطوائف التي ضلت في هذا الباب لم تأخذ معتقداتها من الكتاب والسنة ، وإنما أخذت عقائدها ومناهجها من عقولها المجردة وأهوائها العفنة ، وما تمليه عليهم شياطينهم .
    وقد وردت الأدلة الكثيرة أن من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة أضله الله تعالى ، فهم لا ينظرون في الكتاب والسنة نظر من يطلب الهداية والحق ، وإنما نظر المجادل المعاند المستكبر الذي يصدق عليه قوله تعالى :  فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون  ، ولا يخفاك قوله - عليه الصلاة والسلام - : (( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده ، كتاب الله وسنتي ... )) ، وغير ذلك من الأدلة التي قدمتها في أول الكتاب .
    الثاني : اختلاط النبع ، ونعني به أن هناك بعض الطوائف الإسلامية تأخذ بالكتاب والسنة ، ولكنها لم تقصر أخذ الاعتقاد عليهما ، بل عولت على مناهج أخرى ، كمناهج أهل الكلام وطرائق أهل الفلسفة ، فكدر هذا الأخذ الآخر أصل المنبع الشافي والمورد الكافي الصافي كالأشاعرة ، فهم لم يتركوا الكتاب والسنة جملة وتفصيلاً ، بل أخذوا بهما ، لكن في بعض المسائل فقط ، ولكنهم عولوا على مذاهب الفلاسفة الأغبياء في باب الصفات والقدر وغير ذلك .
    وهذا السبب وإن كان داخلاً فيما قبله إلا أنني أفردته بالذكر حتى لا يقول قائل : إن بعض هذه الفرق تذكر في مذاهبها واستدلالاتها الكتاب والسنة ، فذكرت لك لتعرف أن الاهتداء بالكتاب والسنة كافٍ لوحده بلا منابع أخرى تكدر صفوه ، فهذه الطوائف لم تقصر أمور اعتقادها على الكتاب والسنة ، بل أخذت بغير الكتاب والسنة في كثير من المسائل ، فالطائفة الأولى سبب ضلالهم تركهم الأخذ بالكتاب والسنة أصلاً ، والطائفة الثانية سبب ضلالهم تشريكهم في الأخذ من الكتاب والسنة أصولاً أخرى ومناهج مختلفة ومخالفة، والله أعلم .
    الثالث : عزل أدلة الكتاب والسنة عن فهم السلف الصالح ، فهم وإن أخذوا بآيات القرآن والسنة لكنهم لا يفهمونها كما فهمها السلف الصالح ، وإنما اخترعوا لها فهمًا آخر يكون في كثير من أحيانه مناقضًا المناقضة التامة لما فهمه السلف ، وهذا كثير جدًا .
    وقد ذكرت لك سابقًا أن فهم السلف شرط في فهم الكتاب والسنة وبخاصة مسائل الاعتقاد ، فلابد من هذين الأمرين ، فإن الهداية تحصل بمجموعها وهما : الأخذ بالكتاب والسنة ، ويكون ذلك الأخذ على فهم سلف الأمة ، فهؤلاء الضالون في أبواب الاعتقاد وإن أخذوا ببعض الكتاب والسنة إلا أنهم لم يفهموها الفهم الموافق لفهم السلف ، وهذه طامتهم وتلك بليتهم ، فإنهم اغتروا بفهمهم وتكبروا بذكائهم الفطري المجرد عن هداية الكتاب والسنة ، فضلوا وأضلوا ، ولله در أبي العباس - رحمه الله تعالى - لما وصفهم بقوله : هؤلاء أقوام أتوا فهومًا ولم يؤتوا علومًا ، وأتوا ذكاءً ، ولم يؤتوا زكاءً ، لهم سمع وأبصار وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء . ا.هـ بمعناه .
    الرابع : تحميل الأدلة مالا تحتمل أو التقصير عنها من حد دلالتها ، فهم بين طرفين : إما مُفْرِطٌ ، وإما مُفَرِّطٌ ، فترى طوائف منهم تذكر أشياء في الأدلة لم يدل عليها النص لا مطابقة ولا تضمنًا ولا التزامًا ، وتجد بعض الطوائف تبتر دلالة النص فتأخذ ببعضه وتترك بعضه ، وذلك كاستدلال بعض المتهوكين السفلة الحمقى على نفي الصفات بقوله تعالى :  قل هو الله أحد  ، فبالله عليك أين وجه الاستشهاد ؟ إن هو إلا قلة الأدب والسفه والتفاهة والغي والهوى ، وكاستدلال بعضهم على نفي الصفات أيضًا بقوله تعالى :  ليس كمثله شيء  ، وغير ذلك مما تراه في كتبهم أو في كتب من نقل مقالاتهم مما لا ينقضي منه العجب .
    وتجد القدري الذي ينكر مشيئة الله تعالى يأخذ بقوله تعالى :  وما تشاءون  فقط ، وينكر قوله تعالى بعدها في نفس الآية :  إلا أن يشاء الله  ، وهذا السبب كثير فيهم ، فتجد بعضهم يأخذ ببعض الدليل أو الأدلة ويترك الطرف الآخر ، وتجد بعضهم يحمل الدليل أوجهًا من الاستدلال لا خطام لها ولا زمام ، فنعوذ بالله من هذه الطرق .
    الخامس : اتباع الأهواء وتحكيمها في الأدلة وعرض الأدلة عليها فما وافقها قبلوه وما خالفها ردوه واتهموه ، ولذلك فإن أهل السنة يطلقون على هذه الطوائف الضالة أهل الأهواء ، وهي في الحق تسمية مناسبة لهم كل المناسبة ، فهل وقع التمثيل فيما وقعوا فيه من تمثيل صفات الله بصفات خلقه إلا بالأهواء ، وهل وقع أهل التعطيل فيما وقعوا فيه من التعطيل إلا بالأهواء ، وهل وقع القدرية الجبرية فيما وقعوا فيه إلا بالأهواء ، وهل وقع الرافضة فيما وقعوا فيه إلا بالأهواء ، وغير ذلك مما هو معلوم من حال هذه الطوائف .
    فالهوى إن لم يكن مضبوطًا بالكتاب والسنة فإنه مدخل إبليسي واسع ، وباب فتنة عظيم يجر على أصحابه العلوم الفاسدة والأعمال الطالحة ، ولقد عصم الله تعالى بمنه وفضله وحسن توفيقه أهل السنة من هذه الأهواء وسد أبوابها ؛ لأنهم يعتمدون ما اعتمده النص لا ما اعتمده الهوى ، ويتبعون ما جاء به النص لا ما قرره الهوى، قال تعالى:  أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به )) ، فاستعذ بالله من هذه الأهواء ، وليكن قائدك الدليل ، عافانا الله وإياك من كل سوءٍ وبلاء .
    السادس : تقعيد القواعد المخالفة للمنقول والمناقضة للمعقول ، فتجد هذه الطوائف الضالة تقعد بعض القواعد ثم تنزل عليها أدلة الكتاب والسنة وتلوي أعناق الأدلة حتى تتوافق مع هذه القواعد ، وإذا كانت نتائج هذا الإنزال لا تتناسب مع مذاهبهم فإنهم يقعون في الأدلة ردًا وتحريفًا وتعطيلاً وجحودًا ، كل ذلك حتى لا تنخرم هذه القاعدة ، فيحرفون كلام رب البشر صيانة لكلام حثالة البشر .
    ومثال ذلك أن القاعدة المتقررة عند عامة أهل الكلام أن الاتفاق في الأسماء يستلزم الاتفاق في الصفات ، وهي قاعدة باطلة كل البطلان نقلاً وحسًا وعقلاً ، لكنهم قعدوها وورثوها من فلاسفة اليونان الذين لا عقل عندهم ولا نقل ، فلما أنزلت أدلة الصفات على هذه القاعدة وبانت نتائجها رضي بها أهل التمثيل فمثلوا وأباها أهل التعطيل فعطلوها ، فما وقع أهل التمثيل في التمثيل إلا بسبب هذه القاعدة ، وما وقع أهل التعطيل في التعطيل إلا بسبب هذه القاعدة ، وما وقع المرجئة والوعيدية في إنكار زيادة الإيمان ونقصه إلا بسبب تقعيدهم للقاعدة التي تقول : الإيمان جزء واحد فلا يزيد ولا ينقص ، فخالفوا بهذه القاعدة أدلة الوحيين وعطلوها عن مدلولاتها الصحيحة صيانة لهذه القاعدة .
    وما وقع الجبرية في القول بالجبر والقدرية في نفي القدر إلا بسبب تقعيدهم للقاعدة التي تقول : (( كل مراد لله فهو محبوب )) وهي قاعدة باطلة، فلم يفرقوا بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية وغير ذلك ، فلأنهم قعدوا هذه القواعد المخالفة للكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة ضلوا وتاهوا في كثير من أبواب الاعتقاد ، وأما أهل السنة - رفع الله نزلهم في الفردوس العلى - فإنه لما كانت كل قواعدهم مستمدة من الكتاب والسنة كانوا هم أهل الهدى والحق ، فاللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم وثبتنا على صراطهم المستقيم إلى الممات ، والله أعلى وأعلم .
    السابع : كثرة الجدال والخوض بالباطل بلا علم ولا برهان مع التعصب المقيت وحب رفع الذات ولو كان الحق في خلاف ذلك ، وهذا سببه ضعف التعبد لله تعالى وعدم تجرد النفس من الهوى ، قال تعالى :  ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون  ، وقال تعالى :  وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً  ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( ما ضل قوم بعد هوى إلا أوتوا الجدل )) .
    فالمجادل بلا علم ولا برهان ضال ، لم يرد الله به خيرًا ، وهذه الطوائف تجادل بعد بيان الحق واتضاحه كل الوضوح ، ومع ذلك فلا يزالون من الحق في حيص بيص ، فكيف إن قيل ؟ وماذا لو كان كذا ؟ وهب أنه كان كذا وكذا فماذا يقال ؟ وغير ذلك من الأسئلة الجدلية العقيمة التي تزيد القلوب شكًا وتطمس نور البصائر ، قال تعالى :  يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون  ، فكلما ازداد هؤلاء جدالاً كلما ازدادوا ضلالاً ، ولذلك قال الغزالي وقد كان كبيرًا من كبرائهم : (( أكثر الناس شكًا عند الموت أهل الكلام )) ا.هـ .
    الثامن : تقديم العقول على النقول ، وهذا أصل من أصول فسادهم ، فإن النقل عندهم تابع للعقل ، والعقل مقدم عليه ، بل العقل هو الميزان ، والنقل هو الموزون ، والعقل هو المبتدع ، والنقل هو التابع ، ولذلك فإنهم يعرضون النقول على العقول ، فما وافقها أخذوه واعتمدوه وما خالفها ردوه سندًا إن كان آحادًا وقالوا : إن الآحاد لا يقبل في مسائل الاعتقاد ، وردوه معنى بالتحريف تارة والتعطيل تارة إن كان متواترًا بحجة أنه لم يتناسب مع عقولهم ، ألا فشاهت عقول القردة والخنازير ومن ارتضع من ثديهم ، والله أعلى وأعلم .
    التاسع : ضعفهم في معرفة لسان العرب ، وهذا أمر واضح فيهم كل الوضوح ، فإن الأدلة من الكتاب والسنة نزلت باللسان العربي المبين ، فيشترط أن يكون الناظر فيها ذا معرفة باللسان العربي ، فيعرف العام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والمحكم والمتشابه ، والمجمل والمبين ، والأمر والنهي ، والناسخ والمنسوخ ونحو ذلك ، ولكن هؤلاء الطوائف معرفتهم بلسان العرب ضعيفة ، فإن غالبهم من الأعاجم ويعرف ذلك من تتبع تراجمهم ، والله أعلى وأعلم .
    العاشر : الأخذ بالمرويات الضعيفة والنقول الكاذبة الموضوعة التي لا خطام لها ولا زمام ، ويظهر ذلك جليًا في مذاهب الرافضة ، فإنهم يبنون معتقداتهم على النقول الكاذبة والمرويات الباطلة التي يروونها - زورًا وبهتانًا - عن آل البيت ، والعجب من هؤلاء يتركون الأدلة الصحيحة المتواترة الصريحة ويعتمدون على هذه النقول الباطلة ، يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هي خير ، وتجد هذا السبب واضحًا في كثيرٍ من الطوائف والفرق ، والله أعلم .
    فهذه بعض الأسباب وهي أهمها ، فنسأل الله تعالى أن يعافينا وإخواننا من كل فتنة وبلاءٍ ، والله أعلم .
*  *  *
    س367: من المقصود بأهل التخييل ، وأهل التأويل ، وأهل التجهيل الذين ذكرهم أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في الفتوى الحموية ؟ مع ذكر شيء من مذاهبهم .
    ج367: أقول : هذه الطوائف الثلاث هم المنحرفون عن منهج النبي  وأصحابه والتابعين لهم بإحسانٍ ، في العقيدة والعمل ، فإنه قد تقرر لنا سابقًا أن النبي  وأصحابه التابعين كانوا على الصراط المستقيم علمًا وعملاً ، فقد حققوا الإيمان بالله واليوم الآخر وأقروا بأن ذلك حق على حقيقته وهم في عملهم مخلصون لله تعالى ، متبعون لشريعته فلا شرك ولا ابتداع ولا تحريف ولا تكذيب ، وأما المنحرفون عن منهجه فهم طوائف ثلاث ، وهي هذه الطوائف التي ذكرها أبو العباس - رفع الله نزله في الفردوس الأعلى - في الفتوى الحموية :
    فأما أهل التخييل : فهم الفلاسفة والباطنية ومن سلك سبيلهم من المتكلمين وغيرهم ، وحقيقة مذهبهم أن ما جاءت به الأنبياء مما يتعلق بالإيمان بالله واليوم الآخر إنما هو أمثال مضروبة وتخييلات لا حقيقة لها في الواقع ، وإنما المقصود بها انتفاع العامة وجمهور الناس ؛ لأن الناس إذا قيل لهم : إن لكم ربًا عظيمًا رحيمًا قادرًا قاهرًا سميعًا بصيرًا ، وأمامكم يومًا عظيمًا تبعثون فيه وتحاسبون فيه على كل صغيرة وكبيرة ، استقامت أمورهم وصاروا على الطريقة المطلوبة ، ولكن في حقيقة الأمر لا حقيقة لهذه الأخبار ، هكذا زعم هؤلاء الكفار الفجار .
    وقد انقسموا إلى قسمين : إلى غلاةٍ ، وغير غلاة .
    فأما غلاتهم ، فإنهم يزعمون أن الأنبياء أيضًا لم يكونوا يعلمون حقائق هذه الأمور وأنه قد لُبِّسَ عليهم ، فهم والعامة سواء ، وإنما الذي يعلم حقيقة هذه الأخبار هو الكبراء والأولياء من أهل مذهبهم ، فزعموا أن الفلاسفة والأولياء أعلم بالله واليوم الآخر من الأنبياء والمرسلين .
    وأما غير الغلاة منهم ، فإنهم قالوا : إن الأنبياء والرسل كانوا على علمٍ يقيني بأنه لا حقيقة لهذه الأخبار ، ولكنهم قد كتموا ذلك لأنه سر الأسرار ونهاية الأخبار ، وهذان المذهبان للفلاسفة الباطنية كفر وإلحاد وزندقة ؛ لأنه تكذيب لله تعالى في خبره وتكذيب للرسل - عليهم الصلاة والسلام - في أخبارهم وإنكار عن علم وجحود للصفات ويوم المعاد ، وحقائق اليوم الآخر ، ونسبة للرسل الجهل والخيانة والكذب والغش والتدليس ، ولا أظن أحدًا يتوقف في كفر هؤلاء ، بل أقول : إن من شك في كفرهم بعد علمه التام بمذاهبهم في الصفات ويوم المعاد وما أخبرت به الرسل فإنه كافر ، وأما في بقية أمور التشريع فإن غالب هؤلاء يجعلون أدلة التشريع رموزًا وإشارات لا يعرف حقيقتها إلا خاصتهم ، فيقولون : إن الصلاة معناها معرفة أسرارهم ، والصيام معناه كتمان هذه الأسرار ، والحج معناه السفر إلى شيوخهم وغير ذلك ، وهؤلاء الملاحدة من الإسماعيلية والباطنية الذين نص على كفرهم أكثر أهل السنة ، فهذا بالنسبة لأهل التخييل والحكم عليهم .
    وأما أهل التأويل : فهم المتكلمون من الجهمية والمعتزلة وأتباعهم ، وحقيقة مذهبهم أن ما جاء به النبي  من نصوص الصفات لم يقصد به ظاهره وإنما المقصود به معانٍ تخالف ما يظهر منها ، وقد كان النبي  يعلم ذلك ، ولكنه لم يظهره للناس وإنما ترك اكتشاف ذلك إلى الناس ليظهروها بعقولهم ، والغرض من ذلك امتحان العقول ، فيعطلون الله تعالى عن صفاته ويحرفون الكلم عن مواضعه ، ويقحمون في الآيات معانٍ غريبة يزعمون أنها هي الحقيقة المرادة من هذه الآيات ، وهؤلاء أخطر على الإسلام من الفرقة الأولى ؛ لأن كفر الفرقة الأولى ظاهر واضح ، وقولهم ممجوج لا يقبله المسلم ولذلك فهم يتكتمون عليه ولا يظهرونه إلا لخواصهم ، وأما أهل التأويل فإنهم يتظاهرون بنصر السنة والذب عن حياضها ويلبسون ثوب المشفق الناصح للأمة والعامة ، فالاغترار بهم أكثر من الاغترار بغيرهم ، فهذا مذهب أهل التأويل في باب الصفات وهو تعطيلها وتحريفها ، وادعاء أنها مجازات لا يراد به ما يظهر منها .
    وأما مذهبهم في نصوص المعاد فهو الإيمان بها إجمالاً وإن كانوا يعارضون في بعض تفاصيلها ، وأنبهك على أمر مهم وهو أن بعض أهل السنة يقول : إن أهل التأويل لا يحرفون نصوص المعاد . وأقول : هذا القول فيه نظر ، فإن بعض طوائفهم تزعم أن الصراط كناية عن العدل لا أنه صراط حقيقي ، وهذا تحريف ، ويزعمون أن الميزان ليس له حقيقة ترى وإنما هو كناية عن إقامة الحق والحكم بالقسط فقط وهذا تحريف ، ويزعمون أن الجنة والنار لم توجدا بعد كما وأنهما تفنيان وتبيدان ، أو تفنى حركات أهلها كما يقوله بعض المعتزلة وهذا تحريف ، وهكذا في كثير من قضايا اليوم الآخر .
    فالحقيقة أن أهل التأويل قد حرفوا عددًا كبيرًا من قضايا اليوم الآخر بإخراجها عن معانيها الصحيحة اللائقة بها ، إلى معانٍ أخرى ، أو نقول : إنهم آمنوا ببعض مدلولاتها وأنكروا بعضها ، فهذا حقيقة مذهب أهل التأويل في الصفات ونصوص المعاد .
    وأما أهل التجهيل : فهم الذين يزعمون أنهم لا يفهمون من نصوص الصفات ولا المعاد شيئًا ، بل هي عندهم بمنـزلة من خوطب بلسانٍ لا يفهمه ، فيقرءون ألفاظًا فقط ، ولكن يعتقدون أن هذه الألفاظ لا يعرف معناها ولا سبيل إلى العلم بدلالاتها ، ويزعمون أن النبي  هو أيضًا لم يكن يعرف معاني هذه الألفاظ ، وهذا المذهب شر مذاهب أهل البدع والإلحاد كما ذكره الشيخ تقي الدين - قدس الله روحه في الفردوس الأعلى - .
    فهذا بالنسبة للكلام على هذه الطوائف الثلاث ، ولو أن شيخ الإسلام - رحمه الله - سمى أهل التخييل بأهل التخريف لكان أنسب ، ولو أنه سمى أهل التأويل بأهل التحريف لكان أنسب ، والله أعلم وأعلى .
*  *  *
    س368: ما حكم من يدعي علم الغيب ؟ مع بيان ذلك بالتدليل والتمثيل .
    ج368: الحكم فيمن يدعي علم الغيب أنه كافر الكفر الأكبر المخرج عن الملة بالكلية ، لقوله تعالى :  قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله  ، وهذا خبر الله تعالى الحق الصدق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنـزيل من حكيم حميد .
    وهذا المدعي لعلم الغيب مكذب بهذا الخبر القرآني ومصادم له وناقض لدلالته ، وقد تقرر في القواعد أن من كذب بشيء من أخبار القرآن فإنه كافر بهذا التكذيب ، وهذه الآية قد صدرت بقوله تعالى :  قل  ، والخطاب للنبي  ، فإذا كان الله تعالى يأمر نبيه  بأن يعلن أمام الملأ جميعًا أنه لا يعلم الغيب في السموات والأرض إلا الله تعالى ، فغيره من باب أولى ، فقد تقرر في القاعدة القرآنية حصر علم الغيب له جل وعلا لا لغيره ، ومن المعلوم في اللغة أن الفائدة من الحصر إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه ، ومن قال بغيره فهو مكذب لدلالة هذا الخبر .
    وقال تعالى :  عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدًا  ، فقوله تعالى :  فلا يظهر  هذا نفي ، وقوله :  أحدًا  نكرة ، فهو نكرة في سياق النفي ، وقد تقرر في الأصول أن النكرة في سياق النفي تعم فيدخل في ذلك النفي كل أحد ، الملائكة والأنبياء ومن دونهم من باب أولى إلا أن الله تعالى قد استثنى جل وعلا من ارتضاه من رسول فإنه يعلمه من الغيب بما أرد جل وعلا .
    وقال تعالى :  أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولدًا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدًا  ، وهذا الإنكار دليل على أنه لم يطلع على الغيب ولم يتخذ عهدًا من الله تعالى .
    ووجه الدلالة منه : أنه نفى اطلاعه على الغيب ، وقد ثبت في القواعد أن ما ثبت في حق واحدٍ من الأمة فإنه يثبت في حق الأمة إلا بدليل الاختصاص ، فالاطلاع على الغيب منتفٍ في حقه وفي حق سائر الأمة إلا بدليل الاختصاص ، والله أعلم .
    وقال تعالى عن نبيه نوح - عليه الصلاة والسلام - :  قل لا أقول لكم عندي خزائن الأرض ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك  ، وقال تعالى عن نبيه محمد  :  قل لا أقول لكم عندي خزائن الأرض ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك  ، فهذا أول الرسل وآخرهم يؤمرون بإعلان ذلك القول أمام الملأ بأسرهم بأنهم لا يعلمون الغيب ، فإذا كان هذا حال الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - فكيف يعتقد علم الغيب فيمن هو دونهم ؟
    وقال تعالى :  قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب  ، وقال تعالى :  وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو  ، وهذه المفاتح هي الأمور الغيبية الخمسة المذكورة في آخر سورة لقمان :  إن الله عنده علم الساعة وينـزل الغيث ...  الآية .
    وبناءً عليه فلا أحد يعلم الغيب لا ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا من أطلعه الله على شيء من ذلك .
    وكذلك الجن لا مدخل لهم في علم شيء من أمور الغيب ، قال تعالى :  فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته . فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين  ، فعلم الغيب من خصائصه جل وعلا ، وإذا سمعت أحدًا ينسب علم الغيب لأحدٍ فقل له منكرًا عليه مقالته :  أعنده علم الغيب فهو يرى  .
    وخلاصة الجواب : أن من ادعى علم الغيب فهو كافر ومن صدقه في هذه الدعوى فهو كافر أيضًا .
    ومثال ذلك : الأبراج التي يضعها الكهنة على بعض صفحات الجرائد كبرج الثور وبرج الأسد والعقرب ونحو ذلك ، وهي معروفة ، فإن واضعها كافر لأنه مدع لعلم الغيب ومصدق ذلك كافر أيضًا إن كان عالمًا بحقيقة الحال .
    ومثال آخر : من يصدق السحرة فيما يدعونه من علم الغيب .
    ومثال آخر : وهو من يصدق الشياطين فيما تخبر به من أمور الغيب ، وكذلك من يصدق الكهنة ، والله تعالى أعلم وأعلى .
*  *  *
    س369: ما الترياق الشافي والعلاج الكافي للوساوس الشيطانية في ذات الله تعالى وأسمائه وصفاته ونحو ذلك ؟ مع تأييد ذلك بالأدلة .
    ج369: العلاج الشافي والترياق الكافي هو الأخذ بهدي الكتاب والسنة اعتقادًا وقولاً وعملاً ، وتفصيل ذلك في عدة أمور :
    الأول : كثرة الاستعاذة بالله من هذه الوساوس ، وذلك لأن مصدرها الشيطان ، فإنه حريص على إدخال ما يكدر صفو الاعتقاد وما يوجب ضيق الصدر ، بل هذا من أكبر مقاصده ، وهو عدو يرانا من حيث لا نراه ، فطريق الخلاص من وساوسه أن نستعيذ بالله تعالى منه ومن وساوسه ، قال تعالى :  قل أعوذ برب الناس . ملك الناس . إله الناس . من شر الوسواس الخناس  ، وقد أعلمنا ربنا جل وعلا أنه بالاستعاذة يزول سلطانه عنَّا ، قال تعالى :  فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم . إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون  ، وهذا العلاج من أعظم ما يدافع به العبد هوى الواردات ، فالله تعالى جعل للشيطان سبيلاً على القلوب والنفوس ، والاستعاذة بالله منه تسد عليه هذه الأبواب التي ينفذ منها . وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( يأتي الشيطان أحدكم فيقول : هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله عز وجل ، فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته )) .
    فالوصية لمن يرد عليه شيء من ذلك أن يكثر من الاستعاذة بالله من هذا العدو المترصد اللدود الذي لا يرضيه إلا هلاك بنو آدم حسًا ومعنى .
    الثاني : الانتهاء عن هذه الوساوس وقطع التفكير فيها والاشتغال بغيرها وتغيير الحال الراهنة ، فإن كان وحيدًا فليطلب من يجلس معه ، وإن كان ساكتًا فليتكلم بشيء من ذكر وتسبيح أو قراءة قرآن ، ونحو ذلك ، بل ولو بحديث الدنيا النافع ، والمقصود أنه ينتهي عنها بغيرها ، ودليل ذلك ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة  السابق وفيه : (( ولينته )) .
    وبناءً عليه فلا يجوز الرضى بها - أي بمثل هذه الأفكار والوساوس - ولا الاسترسال معها وفتح أبواب العقل والروح أمامها ، فإنها هلكة مميتة ، وحفر عميقة ، من وقع فيها فقل عليه السلام .
    الثالث : أن يقول آمنت بالله ورسله ، ويكرر ذلك القول حتى يندحر عدو الله ويخف أثر وسوسته على القلب والعقل ، فإن هذه الكلمة تقطع دابره وتبعث اليأس في قلبه ، وفي هذا معاملة للخبيث بنقيض قصده ، فإنه يقصد بهذه الوساوس هز الاعتقاد في الله تعالى ، فإذا قلت : آمنت بالله ورسوله ، ازدادت حيرته وعظم كربه وندم على وسوسته ؛ لأنك بهذا القول قد جددت إيمانك واعتصمت بربك التجأت إليه وعذت به ، ولربما قد كنت غافلاً عن ذلك من قبل ، فذكرك إبليس بهذه الوسوسة ، فيصدق عليه أنه حفر حفرة فوقع فيها وأراد بك شرًا فقادك إلى خير ، ودليل هذا القول حديث أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( لا يزال الناس يقولون ما كذا ؟ ما كذا ؟ حتى يقولوا : هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله ؟ فمن وجد من ذلك شيئًا فليقل : آمنت بالله ورسله )) متفق عليه .
    الرابع : أن يعلم العبد أن هذه الوساوس لا تدل على قلة الإيمان وضعف اليقين ، بل إنها ترد على الجميع إلا من عصمه الله تعالى ، وليعلم أيضًا أن نتائجها إذا عوملت بالعلاج الشرعي إنها طيبة ، فقد كانت هذه الوساوس تعرض لبعض الصحابة وهم أكمل الأمة إيمانًا وأعمقها علمًا ، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة  قال : جاء ناس من أصحاب رسول الله  إلى النبي  فقالوا : يا رسول الله ، إنا لنجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به . قال : (( أوقد وجدتموه )) ؟ قالوا : نعم . فقال : (( ذاك صريح الإيمان )) .
    وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي  جاءه رجل فقال : إني أحدث نفسي بالشيء لأن أكوه حممة أحب إلي من أن أتكلم به . فقال النبي  : (( الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة )) رواه أبو داود .
    فإذا كان مثل ذلك قد عرض لبعض أصحاب رسول الله  وهم في عصر العلم ، فلأن يعرض لمن هو دونهم في العلم والإيمان من باب أولى ، فلا ينـزعج العبد من مثل هذه الوساوس أو يتهم نفسه بقلة الإيمان أو أنه ضعيف التقوى ، كل ذلك لا يدل عليه مثل هذه الوساوس ، بل العكس هو الصحيح ، وهو أن مدافعتها ومقابلتها بالعلاج الشرعي هو صريح الإيمان ، كما قال - عليه الصلاة والسلام - مطمئنًا لمن سأله عن ذلك : (( ذاك صريح الإيمان )) ، بل إن حرص الشيطان على إثارة مثل هذه الوساوس عليك دليل على وجود الإيمان الذي أخافه وأجلب بخيله ورجله عليه .
    ولما سُئل ابن عباس عن السبب الذي جعلنا نوسوس واليهود والنصارى لا يوسوسون قال : (( وماذا يريد الشيطان بالبيت الخرب )) ، فلو كان قلبك خاليًا من الإيمان لما حرص على مثل هذه الوساوس ، فأبشر بالخير ولا تخف ولا تنـزعج ، فإن النتائج طيبة والعاقبة للمتقين ، والله المستعان .
    الخامس : أن تقنع نفسك وتذكرها دائمًا أن هذه الوساوس لا أثر لها ما دامت في حيز حديث النفس ووسوسة الصدر ، ولم تقرن بعملٍ أو قولٍ أو استرسالٍ تستطيع أن تدفعه عن نفسك ، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : (( إن الله تبارك وتعالى تجاوز عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تتكلم )) وفي رواية : (( ما حدثت به أنفسها )) . وهذا من عظيم فضله جل وعلا وتبارك وتقدس .
    واعلم أن التكاليف منوطة بالاستطاعة ، وليس في استطاعة العبد أن يمنع من ابتداء مثل هذه الوساوس الشيطانية، لكنه مكلف بما هو داخل تحت قدرته واستطاعته، وهو عدم العمل بها ولا التكلم فيها ، ومكلف بقطع الاسترسال معها وبمجاهدتها بالطرق الشرعية ، وهذه نعمة عظيمة ومنحة جليلة فالوصية لمن وقع له شيء من ذلك أن لا يؤثم نفسه ، ولا يجعله في عداد الذنوب والخطايا ، فإنه عفو بنص الصادق المصدوق  ، لكن بالشروط المذكورة : وهي أن لا يقارنه عمل ، ولا يقارنه قول ، ولا يقارنه استرسال ، بل يبادر بقطع التفكير فورًا ، والله المستعان.
    السادس : أن يتجنب العبد ما يثير مثل هذه الوساوس ، ومن ذلك : السؤال عما لا يليق كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا : (( لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا : هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله )) ؟ فمبدأ الأمر مطلوب وهو السؤال عن العلم ، ولكن الانسياق وراء هذه الأسئلة حتى تصل الحال بالعبد إلى هذه المرحلة المغلقة ، فهذا هو الممنوع وصاحبه هالك ؛ لأنه هو الذي تسبب في إثارة ذلك بالتنطع بمثل هذه الأسئلة وفي الحديث : (( هلك المتنطعون )) .
    ومن ذلك : تجنب قراءة أو سماع الشبه في الأسماء والصفات خاصة ، فإن هذه الشبه تخطف القلوب وتطمس نور البصيرة ، وخصوصًا في وسائل الإعلام ، فاحذر من ذلك كل الحذر ، فلا تفتح الباب على نفسك ، فإنه إن فتح فإنه لا يكاد يغلق إلا بكلفة ، وأقبل على المعين الصافي والمورد العذب الشافي ، وهو كتاب الله وسنة الحبيب  ، وأَكْثِرْ من قراءة كتب السلف ، فإنها تعطيك العلم صافيًا لا شوب فيه ولا كدر .
    ومن ذلك : كثرة الجدال في باب الأسماء والصفات بلا علم ولا برهان ، وهذا أمر ممنوع شرعًا ، وهو عنوان الخاسرين المخذولين الذين لم يرد الله بهم خيرًا .
    وغير ذلك ، والمقصود أن يتجنب العبد الأسباب التي من شأنها إثارة مثل هذه الأفكار المذمومة ، ومن القواعد المقررة في الشريعة سد الذرائع المفضية إلى الممنوع .
    السابع : الحرص التام على توطين النفس لطلب العلم الشرعي النافع وإشغال النفس به الإشغال التام ، وخصوصًا في أبواب المعتقد ، فأقبل على حلقات أهل العلم واجث بالركب عندهم وأطل ملازمتهم وانهل من معين علومهم وأخلاقهم وأقبل على وكتب السلف الصالح فأكثر من مطالعتها واستخراج فوائدها وأبرد حرارة ظمأ قلبك ببرد يقينه ، فطوبى لعبد أشغل وقته بمطالعتها ، ويا سعادة قلبٍ استقرت فيه علومها ، ودع عنك قيل وقال وخذ وهات وإضاعة الأوقات في الذهاب والإياب ، والله يحفظنا وإياك .
    الثامن : أن تقرأ سورة الإخلاص ، فإنه قد ورد في بعض روايات حديث أبي هريرة : (( وليقرأ :  قل هو الله أحد  )) ، فالله تعالى هو الأحدُ في ذاته وفي صفاته وأسمائه وأفعاله ، والصمدُ الذي له من الصفات أعلاها وغاياتها ونهاياتها ، وهو الغني بذاته عن كل أحد ، فلا صاحبة له ولا ولد ، ولا أصول ولا فروع ، لأنه الأول الذي ليس قبله شيء ، والآخر الذي ليس بعده شيء ، الذي له الملك كله ، وإليه يرجع الأمر كله ، المنفرد بالأحدية والصمدية والربوبية والألوهية ، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، فلا مكافئ له في ذاته ولا في أسمائه وصفاته ولا في أفعاله جل وعلا وتقدس وتنـزه عن مماثلة المحدثات ، وتعالى جل وعلا عن الأوهام الفاسدة والظنون الكاذبة والاعتقادات الباطلة والأفكار العاطلة ، آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله ، وآمنا برسول الله  وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله ، فلا ندخل في هذه الأبواب متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا .
    التاسع : أن تكثر من دعاء الله تعالى بقلبٍ حاضر ونبرةٍ صادقة أن يملأ قلبك إيمانًا ويقينًا وثباتًا وعافية ، فلرب دعوة صادقة صارت سببًا لسعادة صاحبها في الدنيا والآخرة ، وكم وكم من البلاء الذي دفع ورفع بسبب الدعاء ، فعلق قلبك بالله تعالى بالإكثار من التضرع إليه والانطراح بين يديه واللجئ إلى جنابه ، فنعم المولى ، ونعم النصير ، ونعم العضيد ، والمعين والمؤيد ، ونعم المجيب ، فاجتهد في دعائه أن يرفع عنك هذه الوساوس وأن يجعل قلبك قلبًا سليمًا وأن يملأه خشية وتقوى ، ولا تستطل الدعاء ولا تستبطئ الإجابة ، وأبشر بالخير فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً ، والله يحفظك من كل سوءٍ وبلاءٍ ، والله أعلم .
    العاشر : إذا زادت عليك هذه الوساوس ولم تذهب بالعلاجات السابقة وترقت معك حتى صارت من الوساوس القهرية ، فأوصيك بمراجعة بعض الأطباء النفسانيين الموثوقين في علمهم وديانتهم وأمانتهم ، فإن بعض هذه الوساوس تكون أسبابها اضطرابات نفسية ومزاجية بسبب زيادة بعض الإفرازات أو نقصها وعلاجها عند الأطباء النفسيين ولا عيب في ذلك فإن علم النفس علم له أدواته وقواعده ، وقد تحققت منه الفوائد العظيمة والعوائد الحميدة ، فلا ينبغي إهمال جانبه ولا إغفال أهميته ، فاذهب إليهم وأخبرهم بحقيقة ما تجده وستجد عندهم الخير - إن شاء الله تعالى - ، فهذا ما حضرني من العلاجات لمثل هذه الوساوس ، أسأله جل وعلا باسمه الأعظم أن يعيذنا وإخواننا من هذه الوساوس إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وهو أعلى وأعلم .

    س370: ما أقسام التكفير عند أهل السنة مع التمثيل ؟
    ج370: التكفير عند أهل السنة نوعان : تكفير بالوصف الأعم أو العام ، وتكفير بالوصف الأخص أو الخاص .
    ونعني بالتكفير بالوصف الأعم : أي أن يكون الحكم بالكفر متوجهًا إلى القول أو الفعل ذاته بغض النظر عن القائل أو الفاعل ، وذلك كقول أهل السنة : من شبه الله بخلقه كفر ومن جحد ما وصف به نفسه كفر ، ومن حلف بغير الله فقد أشرك ، ومن صرف عبادة لغير الله فقد أشرك ، ومن قال بخلق القرآن كفر ، ومن ترك الصلاة فقد كفر ، ونحو ذلك .
    فهذا يسمونه التكفير العام ، أي أن ذلك لبيان حكم هذه الأقوال والأفعال ، ولا يقصدون بذلك الحكم على كل فردٍ بعينه ، فهذا غير مراد لهم ، ومن فهم من كلامهم ذلك فقد غلا في الفهم ونسبهم إلى ما لم يقولوا به .
    والمقصود : أن التكفير العام جائز باتفاق أهل السنة ، فمتى ما ثبت بالدليل الشرعي الصحيح أن هذا القول أو هذا الفعل كفر ، فإنهم  يحكمون عليه بذلك ، ولكنهم لا يتعرضون إلى قائله أو فاعله إلا بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع التي ستذكر آنفًا - إن شاء الله تعالى - .
    فقولهم : من قال بخلق القرآن فقد كفر ، لا يلزم منه تكفير كل قائل بذلك بعينه .
    وقولهم : من شبه الله بخلقه فقد كفر ، لا يلزم منه تكفير كل مشبهٍ بعينه .
    وقولهم : من ترك الصلاة فقد كفر ، لا يلزم منه تكفير كل تارك بعينه .
    وقولهم : من أنكر معلومًا من الدين بالضرورة كفر ، لا يلزم منه تكفير كل منكر بعينه ، وهكذا .
    فالحكم بالكفر على هذه المقالات والأفعال إنما هو حكم عام ، والحكم بالكفر على وجه العموم لا يلزم منه تكفير كل أفراد العام بأعيانهم ، وذلك لأنه قد يتخلف في الشخص المعين شرط من شروط التكفير أو يوجد فيه مانع من موانعه ، فلا تلازم بين الحكم العام والحكم الخاص ، ولذلك فإنهم  قد قعدوا هذه القاعدة العظيمة في هذا الباب المهم والتي تقول : التكفير العام لا يستلزم تكفير الأعيان إلا بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع ، فاحفظ هذه القاعدة كما تحفظ اسمك ، فإنه قد حصل بسبب الخلط بين التكفير العام وتكفير الأعيان مفاسد عظيمة وبلايا وخيمة لا زلنا نعايش آثارها إلى اليوم ، فالتكفير العام يشترط فيه النظر إلى حقيقة القول أو الفعل هل هو كفر أم لا ؟
    وأما تكفير الأعيان فإنه يشترط فيه النظر إلى توافر الشروط وانتفاء الموانع ، فإنها قد تتوفر في شخص وتتخلف في شخص ، ولذلك فإن المنقول الصحيح عن أهل السنة في تكفير الأعيان قليل جدًا مقارنة بما نقل عنهم من التكفير العام .
    وخلاصة القول : أن التكفير قسمان :
    التكفير العام : وهو أن يكون التكفير منصبًا على الأقوال والأفعال كما مثلنا سابقًا .
    والنوع الثاني ، التكفير للمعين : وهذا قد ورد فيه عن أهل القبلة ثلاثة أقوال :
    فقيل : بعدمه مطلقًا .
    وقيل : بفتحه مطلقًا .
    وقيل : بالوسطية ، وهو قول أهل السنة المشهور عنهم - رحمهم الله تعالى وأعظم لهم الأجر المثوبة وجزاهم الله تعالى خير ما جزى عالمًا عن أمته - .
    وحقيقة قولهم في تكفير المعين : أنه لا يفتح مطلقًا ولا يغلق مطلقًا ، بل هو موقوف على تحقيق شروط معينة وانتفاء موانع معينة ، فإذا توفرت في المعين شروط التكفير وانتفت موانعه حكم بالكفر عليه عينًا ، ومن تخلف فيه شرط من شروط التكفير أو وجد فه مانع من موانعه فإنه لا يحكم عليه بالكفر عينًا ، وهذا الكلام فيمن كان من أهل القبلة ، وأما من شهد النص من الكتاب وصحيح السنة بكفره عينًا فهذا لا كلام لنا فيه ، وقد قدمناه سابقًا ، وأما المعين من أهل القبلة فإنه لا يحكم عليه بالكفر عينًا بقولٍ أو فعل يقتضي التكفير إلا بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع .
    ومن باب زيادة التسهيل أقول : التكفير قسمان : التكفير العام وهو جائز باتفاقهم ، والتكفير للمعين وهو موقوف على تحقق الشروط وانتفاء الموانع ، والله أعلم .
*  *  *
    س371: ما الشروط والموانع التي يتوقف عليها كفر المعين مع بيانها بالأدلة والتمثيل ؟
    ج371: أقول : إن العلم بهذه الشروط من واجبات الأعيان على من أراد الحكم على المعين بالكفر لوقوعه في شيءٍ مما يقتضي الكفر ، ولا يمكن أن يكون الحكم سليمًا موافقًا للحق إلا بالعلم بذلك ، ودونك هذه الشروط بأدلتها وشيء من أمثلتها :
    الأول : العقل ، أي أن يكون قائل الكفر أو فاعله عاقلاً ، وضد العقل الجنون ، فالعقل شرط والجنون مانع .
    وبناءً عليه : فمن فعل شيئًا من المكفرات قولية كانت أو فعلية وهو مجنون فإنه لا يحكم عليه بمقتضاه ، وذلك لفوات شرط وهو العقل ، ووجود مانع وهو الجنون ، وفي الحديث : (( رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون حتى يفيق )) وهذا الشرط متفق عليه بين العلماء ، والله أعلم.
    الثاني : البلوغ ، أي أن يكون قائل الكفر أو فاعله بالغًا وضد البلوغ الصغر ، فالبلوغ شرط والصغر مانع .
    وبناءً عليه : فمن فعل شيئًا من هذه المكفرات قولية كانت أو فعلية وهو صغير لم يبلغ فإنه لا يحكم عليه بمقتضاه ، وذلك لفوات شرط وهو البلوغ ووجود مانع ، وهو الصغر ، وفي الحديث السابق : (( وعن الصغير حتى يحتلم )) ، والله أعلم .
    الثالث : العلم ، أي أن يكون فاعل الكفر أو قائله عالمًا ، وضد العلم الجهل ، فالعلم شرط والجهل مانع .
    وبناءً عليه : فمن فعل شيئًا من المكفرات قولية كانت أو فعلية وهو جاهل بحقيقة الحال ومثله يجهل فإنه لا يحكم عليه بمقتضاه ، وذلك لفوات شرط وهو العلم ووجود مانع وهو الجهل ، لكن لابد أن يكون ذلك الجهل من الجهل الذي يعتبر عذرًا في حقيقة الأمر ، وهو الذي يعبر عنه الفقهاء بقولهم : (( ومثله يجهل )) ، قال تعالى :  ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا  والجهل نوع من الخطأ ، وقال تعالى :  لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها  ، وتكليف العبد بما لا يعلمه تكليف له بما لا يطاق ، وهو منتفٍ شرعًا ، وقد ذكر أبو العباس - رحمه الله تعالى - أن الجهـل عذر معتبر مطلقًا أي سـواءً كان في مسائـل الشريعة أو العقيدة ، وذكر - رحمه الله تعالى - أن القول بعدم العذر في مسائل الاعتقاد مسلك المبتدعة ، أما أهل السنة فهم يعذرون الجاهل في كل المسائل ، لكن بهذا الشرط المعبر عنه بقولهم : (( ومثله يجهل )) .
    ويدل على ذلك أيضًا : حديث ابن عمر في الصحيحين في صلاة أهل قباء إلى القبلة المنسوخة ، فعذروا بذلك ، وسبب العذر الجهل بالدليل الناسخ ، فإذا كان هذا حال أهل قباء مع قربهم من المدينة فكيف بحال البعيدين عن المدينة ، فالكل قد عذر ولم يؤمر بالإعادة ، وسبب العذر هو الجهل .
    وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة  في حديث المسيء صلاته وأنه قال : (( والذي بعثك بالحق لا أحسن غيره فعلمني )) ، وذلك يفيد أن جميع صلواته السابقة كانت كهذه الصلاة التي قال فيها الرسول  : (( فإنك لم تصل )) ، ومع ذلك فلم يأمره بإعادة هذه الصلاة ، فلأن وقتها لا يزال حاضرًا وقد بلغه العلم الشرعي في الكيفية الصحيحة للصلاة في وقتها فلزمه إعادتها .
    وحديث عمر وعمار لما بعثهما النبي  فأجنبا فلم يجدا الماء ، فأما عمر فلم يصل وأما عمار فتمعك في الصعيد كا تتمعك الدابة ... الحديث ، رواه البخاري .
    ووجه الاستشهاد : أن النبي  بين الصفة الشرعية ولم يأمر عمر بقضاء ما فاته ؛ لأنه تركه حال كونه جاهلاً بحقيقة الحال ولم يأمر عمارًا بالإعادة مع أنه لم يتطهر الطهارة الشرعية على الصفة الشرعية ، مما يدل على أنه عذرهما لجهلهما .
    ويدل عليه أيضًا : حديث أبي هريرة  في قصة الرجل الذي أسرف على نفسه بالذنوب والمعاصي فقال لأبنائه : (( إذا أنا مت فأحرقوني ثم ذروني في يوم ريح حتى لا يقدر عليَّ ربي فيعذبني )) والحديث في الصحيح ، فهذا الرجل وقع في مكفرين ، وقع في إنكار القدرة وإنكار بعث الأجساد ، ولكنه لم يكفر بدليل أنه قال في آخر الحديث : (( قد غفرت لك )) ، فلو كان كافرًا لما دخل في حيز المغفرة ، فلما غفر له علمنا أنه لم يكفر بقوله هذا ؛ لأنه كان جاهلاً بحقيقة القول ، فعذر لجهله ، قاله شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - .
    ويدل عليه أيضًا : ما رواه مسلم عن عائشة قالت : لما كانت ليلتي التي كان النبي  فيها عندي ... - فذكرت حديثًا طويلاً - وفيه أنها قالت : يا رسول الله ، مهما يكتم الناس يعلمه الله ؟ قـال : (( نعم ... )) الحديث ، وهذا موضع الشاهد منه ، فهذه عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها وأرضاها - سألت النبي  : هل يعلم الله كل ما يكتم الناس ؟ فقال له النبي  : (( نعم )) ، وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك من قبل ولم تكن قبل معرفتها بذلك كافرة وإن كان الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان لكنها عذرت لجهلها بذلك ، مما يدل على أن العذر بالجهل من أصول الشريعة .
    ومن الأدلة أيضًا : قوله تعالى :  وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً  ، وقال تعالى :  رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل  ، فنفى الله العقوبة عن الذي لم تبلغه دعوة الرسل ، ومن باب أولى نفى العقوبة عمن كان مؤمنًا بالله ورسوله ولم يبلغه بعض ما أخبر به الرسول  فخالف فيه ، فلا يحكم بكفر أحدٍ حتى تقوم عليه الحجة الرسالية ، والأدلة على ذلك الشرط كثيرة ، والمقصود أن العلم شرط والجهل مانع .
    الرابع : الإرادة ، ومعناه أن يفعل الفعل الكفري أو يقول القول الكفري مريدًا مختارًا طائعًا ، وضد الإرادة الإكراه ، فالإرادة شرط والإكراه مانع .
    وبناءً عليه : فمن فعل أو قال شيئًا من المكفرات وهو مكره على ذلك فإنه لا يحكم عليه بمقتضاه ، وذلك لفوات شرط وهو الإرادة ووجود مانع وهو الإكراه ، قال تعالى :  من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان  ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )) حديث حسن .
    وهذا العذر عذر عام في الأقوال والأفعال الكفرية التي أكرهت عليها ، لا في الأقوال فقط ، فإن هذا تخصيص للدليل بلا مخصص ، والآية وإن نزلت على سبب خاص ، فإن المتقرر في القواعد : (( أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب )) .
    والخلاصة : أن الإرادة شرط والإكراه مانع ، والله أعلم .
    الخامس : القصد ، ومعناه أن يقول الكفر قاصدًا حقيقة ذلك القول ، وأما من سبق لسانه بقول شيء من ألفاظ الكفر بلا قصدٍ فلا شيء عليه ، وهو الخطأ ، فالقصد شرط والخطأ مانع، والله تعالى لا يؤاخذنا إلا بما تعمدت قلوبنا، وأما الخطأ فهو معفو - ولله الحمد والمنة - ، قال تعالى :  وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورًا رحيمًا  ، ولما قال الرجل : (( اللهم أنت عبدي وأن ربك )) ، قال - عليه الصلاة والسلام - معتذرًا عنه : (( أخطأ من شدة الفرح )) والحديث متفق عليه من حديث أنس - رضي لله عنه وأرضاه - .
    ووجه الاستشهاد من ذلك : أن هذا الرجل قال هذه الكلمة الكفرية بلا قصد ، وإنما أخطأ في هذا القول من شدة الفرح الذي داخله ، فعُذِر لأنه لم يك قاصدًا حقيقة هذا القول ، والله أعلم .
    السادس : عدم التأويل ، ومعناه أن يتلبس العبد بشيء من الأقوال أو الأفعال التي هي كفر من غير قصد لذلك ، ويكون سببه القصور في فهم الأدلة الشرعية دون تعمد للمخالفة ، بل هو يعتقد صواب نفسه وأنه على الحق ، وقد قال العلماء : كل متأول فليس بآثم ، بل هو معذور بتأويله ، بشرط أن يكون تأويله مما يسوغ في لسان العرب ، وهذا العذر يجب النظر فيه بعين الرحمة للخلق الموجبة لبيان الحق بيانًا شافيًا كافيًا ، مع العلم بأن الأفهام تختلف والمسائل قد يشتبه بعضها ببعض .
    فعدم التأويل شرط ، ووجوده مانع ، لكن كما ذكرت لك أنه لابد أن يكون من التأويل السائغ في لغة العرب ، ولذلك فإن أهل السنة لم يكفروا الأشاعرة مع أنهم يحرفون الصفات الخبرية - أي ما عدا الصفات السبع - والمانع من ذلك وجود التأويل الذي يسوغ في لسان العرب ، فإنكارهم لبقية الصفات ليس إنكار جحودٍ وتكذيب ، بل إنكار تأويل سائغ في لسان العرب ، ولا يفهم من ذلك أننا نبرئهم من هذه المزالق الخطيرة التي وقعوا فيها ، بل المقصود أن نبين لماذا لم يكفرهم أهل السنة، وأزيد الأمر وضوحًا بذكر بعض الأدلة على ذلك:
    فمن الأدلة : أنه ثبت الثبوت الصحيح الصريح عنه  أنه قال : (( لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه )) وقال : (( هم سواء )) رواه مسلم .
    وصح عنه أنه قال لمن باع صاعين بصاع : (( أَوَّهٌ عن الربا )) متفق عليه .
    وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( البر بالبر ربا إلا هاء وهاء ... )) الحديث .
    وغير هذه الأدلة ، وهي مفيدة بعمومها دخول نوعي الربا : ربا الفضل ، وربا النسيئة ، ثم إن الذين بلغهم قول النبي  : (( إنما الربا في النسيئة )) قد استحلوا بيع الصاعين بالصاع إذا كان يدًا بيد مثل ابن عباس  وأصحابه ، وهم صفوة الأمة علمًا وعملاً ، فهل بالله يوصفون بشيء من أوصاف السوء بسبب هذه المخالفة ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم ، وذلك لأنهم خالفوا عموم الأدلة السابقة متأولين تأويلاً سائغًا في الجملة فعذروا لذلك ، والله أعلم .
    ومن الأدلة أيضًا : لما نزل قوله تعالى :  وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر  عمد عدي بن حاتم إلى عقالين فوضعهما عنده ، فصار يأكل ويشرب حتى تبينا ، فإذا الصبح قد طلع ، فذكر ذلك للنبي  فوضح له المراد الصحيح من الآية ولم يأمره بإعادة ذلك اليوم الذي أكل في نهاره ، وذلك لأنه معذور بالتأويل السائغ ، فقد ظن - رضي الله عنه وأرضاه - صواب نفسه في هذا العمل ، فمخالفته - رضي الله عنه وأرضاه - ليست عن قصدٍ للمخالفة - حاشاه وكلا - وإنما كانت عن فهم للآية على غير وجهها الصحيح ، والله أعلم .
    ومن الأدلة أيضًا : ما ثبت في الصحيح من حديث أسامة بن زيد في قتله الرجل المشرك بعدما قال : لا إله إلا الله ، فقـال له النبي  : (( أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله )) ! قال : يا رسول الله إنما قالها خوفًا من السلاح . الحديث
    ووجه الاستشهاد به : أن النبي  لم يوجب الدية على أسامة  مع أنه قتل مسلمًا في الظاهر ، والمسلم معصوم الدم ، وهذا دليل على أنه عذره ؛ لأنه كان متأولاً في قتله هذا ، فإنه ظن أنه وإن قال : لا إله إلا الله ، فإنها لا تعصم دمه ؛ لأنه يريد بقولها التعوذ من القتل فقط ، ولا يريد حقيقة الإسلام ، فجعل النبي  ذلك التأويل عذرًا له في إسقاط الدية عنه ، مما يدل على أن التأويل السائغ عذر في عدم الحكم بالكفر ، وأن عدم التأويل شرط من شروط التكفير ، ووجوده مانع من موانعه .
    ومن الأدلة أيضًا : ما رواه البخاري في صحيحه عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال : (( بعث النبي  خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا : أسلمنا ، فجعلوا يقولون : صبأنا صبأنا ، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر ، ودفع إلى كل رجلٍ منا أسيره ، فقلت : والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره ، حتى قدمنا على النبي  فذكرناه فرفع النبي  يديه فقال : (( اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد - مرتين - )) .
    ووجه الاستشهاد به : هو أن خالدًا - رضي الله عنه وأرضاه - قتل هؤلاء خطأ وقد تبرأ النبي  من ذلك ، ومع هذا لم يؤاخذه النبي  ولم يوجب عليه القصاص أو الدية ؛ لأنه كان متأولاً .
    ومن الأدلة أيضًا : قوله تعالى :  ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا  ، والتأويل السائغ لا يعدو أن يكون نوعًا من الخطأ فيدخل في عموم هذه الآية .
    ومن الأدلة أيضًا : ما رواه البخاري من قصة حاطب  وفيها أن عمر قال : (( يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين دعني فأضرب عنقه ... )) الحديث .
    وفي الصحيح أيضًا من حديث جابر  في قصة صلاة معاذٍ بأصحابه العشاء وأنه أطال عليهم الصلاة فاعتزل رجل وتجوز في صلاته فقال معاذ : (( إنه منافق )) الحديث .
    ووجه الاستشهاد بهما : أن عمر  وصف حاطبًا بأنه خان الله ورسوله ، ومعاذ وصف الرجل بأنه منافق ، ومع ذلك فقد عذرهما النبي  في رميهما ذلك لهذين المسلمين ؛ لأنهما - أي عمر ومعاذ - كانا متأولين في قولهما ذلك ، وهذا واضح .
    ومن الأدلة أيضًا : حادثة سجود معاذ بين يدي النبي  متأولاً في ذلك - إن صح الحديث - ، فإن معاذًا  لم يرد التعبد له بهذا السجود ، وإنما أراد به التحية والتقدير ؛ لأنه رأى بعض أساقفة الشام يسجد بعضهم لبعض تحية وإكرامًا، فأراد أن يفعل ذلك مع النبي  ، ومع ذلك فلم يحكم عليه النبي  بشيء وإنما أخبره بأن ذلك لا يجوز وأنه لا يسجد إلا لله تعالى ، مما يدل على العذر بالتأويل ، لكن إذا صح الحديث وإن لم يصح ففيما مضى كفاية وهداية - إن شاء الله تعالى - .
    ومن الأدلة أيضًا : ما رواه محمد بن نصر المروزي بسنده عن طارق بن شهاب قال : (( كنت عند علي حين فرغ من قتال أهل النهروان فقيل له : أمشركون هم ؟ قال : من الشرك فروا . فقيل : فمنافقون ؟ قال : المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً . قيل : فما هم ؟ قال : قوم بغوا علينا فقاتلناهم )) ؛ وذلك لأنهم متأولون ، فعذرهم علي  من أجل ذلك ، وعلى ذلك جرى عامة أصحاب النبي  الذين أدركهم الخوارج ، بل قال الإمام الزهري - رحمه الله تعالى : (( وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله  متوافرون فأجمعوا أن كل دمٍ أو مالٍ أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر ، أنزلوهم منـزلة الجاهلية )) .

    فهذه الأدلة تفيدك إفادة صريحة أن التأويل عذر من الأعذار المانعة من إطلاق الكفر على صاحبه ، فإذا تبين لك هذا فلابد من التنبيه على أمرين :
    أحدهما : أن يكون هذا التأويل مما يسوغ في لغة العرب ، وبناءً عليه : فمن جاءنا بتأويل لا مساغ له في لسان العرب فإنه لا يعذر به ، وذلك كمن قال : إن المراد بقوله تعالى :  بل يداه مبسوطتان  السماء والأرض ، فهذا في حقيقته تكذيب للنص واستهزاء به .
    الثاني : أن لا يكون هذا التأويل في أصل الدين الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له وقبول شريعته ؛ لأن هذا الأصل الذي هو الشهادتان ، لا يمكن تحقيقه مع حصول الشبهة فيه ، ولهذا أجمع العلماء على كفر الباطنية وأنهم لا يعذرون بالتأويل ؛ لأن حقيقة مذهبهم الكفر بالله تعالى وعدم عبادة الله وحده وإسقاط شرائع الإسلام ، فتأويلهم هذا يعود على أصل التوحيد والشرائع بالإبطال .
    فإذا تحقق هذان الشرطان فإن العذر بالتأويل أصل مهم من الأصول التي بها يعذر أهل السنة كثيرًا من المخالفين لهم .
    وبعد ذلك أقول : لقد تبين لنا شروط التكفير وموانعه وهي كما يلي :
    الأول : العقل ، فإنه شرط ، وضده الجنون وهو مانع .
    الثاني : البلوغ ، فإنه شرط ، وضده الصغر وهو مانع .
    الثالث : العلم ، فإنه شرط ، وضده الجهل وهو مانع .
    الرابع : الإرادة ، فإنها شرط ، وضدها الإكراه وهو مانع .
    الخامس : القصد ، فإنه شرط ، وضده الخطأ وهو مانع .
    السادس : عدم التأويل، فإنه شرط، وضده وجود التأويل وهو مانع، والله أعلى وأعلم.
*  *  *
    س372: اذكر لنا أمثلة على بعض نواقض الإيمان الاعتقادية والقولية والعملية إجمالاً ؟
    ج372: سمعًا وطاعة ، وقد تولى بعض العلماء - مشكورًا مأجورًا - الكتابة فيها بمؤلفٍ لم أطالع مثله في مثل هذا الموضوع المهم - فجزاه الله خيرًا ووفقه الله - ودونك هذه النواقض مختصرة فأقول :
    منها : القول بقدم العالم فإنه كفر بالاتفاق .
    ومنها : سب الله تعالى أو الاستهزاء به فإنه كفر بالاتفاق .
    ومنها : الاستعاذة بغيره في الأمر الذي لا يقدر عليه إلا هو .
    ومنها : الاستعانة والاستغاثة بغيره في الأمر الذي لا يقدر عليه إلا هو .
    ومنها : الذبح لغيره متقربًا للغير ومتعبدًا له بهذا الذبح .
    ومنها : سب النبي  أو الطعن فيه .
    ومنها : سب الأنبياء أو الطعن فيهم فإن ذلك كفر بالاتفاق .
    ومنها : ادعاء النبوة فإنه كفر بالاتفاق .
    ومنها: اتهام أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بما برأها الله تعالى فهو كفر بالاتفاق.
    ومنها : إنكار معلوم من الدين بالضرورة .
    ومنها : القول بإنكار الملائكة فهو كفر بالاتفاق .
    ومنها : إنكار البعث ومعاد الأبدان فهو كفر بالاتفاق .
    ومنها : القول بإنكار وجود الجن فهو كفر بالاتفاق .
    ومنها : إنكار الوعد والوعيد أو الاستهزاء بهما .
    ومنها : دعاء غير الله في الأمر الذي لا يقدر عليه إلا الله تعالى فإنه كفر بالاتفاق .
    ومنها : النذر لغير الله تعالى .
    ومنها : الحلف بغيره معظمًا لذلك الغير كتعظيم الله تعالى .
    ومنها : السجود للقبور أو الأولياء والركوع لها فهو كفر بالاتفاق .
    ومنها : اعتقاد أن بعض الخلق له نوع تصرف في الكون من إحياءٍ أو إماتة أو إنزال مطر وإجراء سحاب ونحو ذلك .
    ومنها : تقرير القوانين الوضعية المضادة لشريعة الله تعالى .
    ومنها : الحكم بهذه القوانين الحكم المطلق ، بحيث يحكم بها في كل مصادره وموارده .
    ومنها : اعتقاد أن في وسعه الخروج عن شريعة الله .
    ومنها : الإعراض التام عن شريعة الله فلا يتعلمها ولا يعمل بها .
    ومنها : سب الصحابة على وجه العموم أو القدح فيهم بما يوجب سقوط عدالتهم ، أو سب من تواترت الأدلة بإثبات عدالته وفضله وعلو مرتبته .
    ومنها : من اعتقد أن التميمة هي التي تجلب الخير وتدفع الشر بذاتها لا بتقدير الله تعالى .
    ومنها : الطواف على القبور بقصد تعظيم أصحابها واعتقاد أنهم يجلبون الخيرات ويدفعون المضرات .
    ومنها : السحر تعلمه وتعليمه .
    ومنها : إنكار علم الله إنكار جحود .
    ومنها : إنكار تقدير الله تعالى للأشياء أي من زعم أن لا قدر وأن الأمر أنف فإنه كافر.
    ومنها : من اعتقد أنه لا حقيقة لما أخبرت به الرسل من نصوص الأسماء والصفات ونصوص البعث والجزاء والحساب ، وإنما هي خيالات يقصد بها استقامة أمور العامة ، من زعم ذلك فإنه كافر بالاتفاق .
    ومنها : الاستهزاء بشيء مما جاء به النبي  .
    ومنها : بغض شيءٍ مما جاء به النبي  .
    ومنها : ادعاء علم الغيب أو تصديق من يدعي ذلك .
    ومنها : من اعتقد أنه ليس فوق العرش إله يعبد ولا رب يصلى له ويسجد فإنه كافر بالاتفاق .
    ومنها : من اعتقد أن القرآن مخلوق فإنه كافر .
    ومنها : من جحد شيئًا من صفات الله تعالى فإنه كافر .
    ومنها : من شبه الله بخلقه فإنه كافر .
    ومنها : من جحد أو كذب بشيء من القرآن فإنه كافر .
    ومنها : من اعتقد أن الشريعة لا تصلح للقرن العشرين فإنه كافر .
    ومنها : من تحاكم إلى القوانين الوضعية المخالفة للشريعة وهو راض بذلك مقدمًا لها على التحاكم لله تعالى فإنه كافر .
    ومنها : من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم فإنه يكفر إجماعًا .
    فهذه بعض ما حضرني حال كتابة هذه النواقض ، ولا أقصد به الحصر وإنما المقصود التمثيل فقط ، والله أعلم .
    س373: ما القواعد المقررة في مذهب أهل السنة في باب الأسباب ؟ مع شيء من شرحها .
    ج373: إن باب الأسباب وارتباطها بآثارها له عند أهل السنة أهمية كبرى ، ولذلك فإنهم نظروا له نظر المؤصل له ، فذكروا في هذا الباب ثلاث قواعد مهمة جدًا ، كل قاعدة منها تعتبر فاصلاً بينهم وبين المبتدعة ، فلابد من حفظها وفهمها الفهم الجيد ، وسوف أحاول - إن شاء الله تعالى - أن أبذل جهدي في تيسيرها لك ، فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل وحسن التحقيق :
    القاعدة الأولى : قال أهل السنة : (( الأسباب مؤثرة لا بذاتها )) .
    وبيانها أن يقال : اعلم - رحمك الله تعالى - أن الناس قد انقسموا في تأثير الأسباب إلى ثلاث طوائف : طرفين ، ووسط .
    فالطرف الأول هم المعطلة ، أي معطلة الأسباب ، وهم الذين يعتقدون أنه لا تأثير للأسباب أصلاً ، وإنما الآثار توجد عند السبب لا به ، فالانكسار حصل عند رمي الزجاجة ولا أثر للرمي فيه ، والموت حصل عند رمي الرصاصة وإصابتها للجسد ولا أثر لها فيه ، وهذا المذهب مذهب باطل كل البطلان ، وحق الواحد منهم أن يُصْفَع فإذا أحس بالألم وقال : لم صفعتني ؟ فقل : إن الألم حصل عند الصفعة ولا أثر للصفعة فيه .
    فهذه الطائفة تعتقد نفي تأثير الأسباب ولو مطلق التأثير ، أي أنه لا أثر للأسباب في مسبباتها البتة .
    وناقضهم الطائفة الأخرى وهم مشركة الأسباب ، وهؤلاء يعتقدون أن السبب هو المؤثر بذاته لا بتقدير الله تعالى ، فالسبب هو الذي يوجد أثره بنفسه بلا تدخل شيء آخر ، وهذا المذهب أيضًا باطل كل البطلان ، وهو في ذاته شرك في الربوبية ؛ لأنهم يعتقدون أن ثمة متصرفًا وخالقًا في هذا الكون غير الله تعالى .
    فالأولون فرطوا في الأسباب حتى نفي تأثيرها النفي المطلق ، والآخرون غلو في إثباتها حتى أثبتوا لها التأثير المطلق ، فجاء أهل السنة - رفع الله قدرهم وأعلا نزلهم وأدام عزهم وجعلنا من أتباعهم - فتوسطوا بين هذين المذهبين ، فقروا هذه القاعدة العظيمة فقالوا : (( السبب يؤثر لكن لا بذاته وإنما يجعل الله له مؤثرًا )) ، فلم ينفوا تأثير الأسباب كما زعمه المعطلة ، ولم يثبتوا التأثير المطلق كما زعمه مشركة الأسباب ، بل قالوا : (( السبب يؤثر لا بذاته )) ، فقولهم : (( السبب يؤثر )) رد على معطلة الأسباب ، وقولهم : (( لا بذاته )) رد على مشركة الأسباب ، فالله جل وعلا هو الذي خلق الأسباب وآثارها وهو الذي يربط بينها ويفصل على ما تقتضيه حكمته البالغة ، فلا خالق إلا هو جل وعلا .
    وبناءً عليه : فأول اعتقاد يجب عليك في مسألة الأسباب وآثارها هو أن تعتقد أنها مؤثرة لكن لا بذاتها ، وهذا هو خلاصة القاعدة الأولى .
    القاعدة الثانية : كل من اتخذ سببًا لم يدل عليه شرع ولا قدر فشرك أصغر وإن اعتقده الفاعل بذاته فشرك أكبر .
    أقول : وهذه القاعدة مهمة أيضًا في باب الأسباب وآثارها .
    وبيانها أن يقال : إن المتقرر في القواعد أنه لا خالق إلا الله تعالى ، وقد ذكرنا سابقًا أن الأسباب لابد لها من آثار .
    وبناءً عليه : فمن اعتقد أن هذا الشيء سبب لهذا الشيء ، فإن دعواه هذه موقوفة على إثباتها بأحد دليلين ، إما بدليل الشرع وإما بدليل القدر أي التجربة ، فإذا أثبت هذه الدعوى بأحد هذين الدليلين قبلنا كلامه واعتقدنا سببية هذا الشيء لهذا الشيء ، وأما إذا لم يكن هناك دليل يثبت صدق الدعوى لا من الشرع ولا من القدر فإن كلامه مردود عليه مضروب به في وجهه ولا كرامة له ، بل ونقول له : إن اعتقادك هذا شرك أصغر ؛ لأنك تدخلت فيما هو من خصائص الله تعالى ، فالله تعالى هو الذي يربط بين الأسباب وآثارها ، فلابد لاعتقاد سببية شيء لشيء من دليل شرعي أو قدري ، وأما أن يزعم أحد سببية شيء لشيء بلا دليل ، فهذا تدخل فيما هو من فعل الله تعالى وإقحام للنفس فيما قد اختص الله به ، وأقل أحواله أن يكون شركًا أصغر ، وهذا هو معنى قولنا : (( من اعتقد سببًا لم يدل عليه شرع ولا قدر فشرك أصغر )) .
    وبناءً عليه : فلا يجوز لأحد أن يعتقد أن هذا الشيء سبب لهذا الشيء إلا بالدليل وإلا لكان واقعًا في هذا المحظور العظيم ، ويزداد الأمر سوءًا على سوء إذا كان يعتقد أن السبب هو الفاعل بذاته ، وهذا هو الشرك الأكبر المخرج عن الملة بالكلية ، وهو اعتقاد مشركة الأسباب الذين ذكرناهم في القاعدة الأولى ، وهذا هو معنى قولنا : (( وإن اعتقده الفاعل بذاته فشرك أكبر )) ، وذلك كمن يعتقد أن التمائم هي التي تجلب الخير وتدفع الشر بذاتها ، وكمن يعتقد أن الرقية تدفع المرض بذاتها ، أو اعتقد أن الأنواء هي التي أنزلت المطر بذاتها ، أو اعتقد أن هذا الشيء الذي تبرك بهو هو الذي يفيض البركة عليه بذاته ، كل ذلك من الشرك الأكبر الذي يخرج من الإسلام بالكلية ، فهذه بعض الأمثلة على هذه القاعدة ، وخلاصتها أن يقال :
    أولاً : من اعتقد سببًا قد دل على سببيته الشرع فلا شيء عليه .
    ثانيًا : من اعتقد سببًا قد دل على سببيته القدر فلا شيء عليه .
    ثالثًا : من اعتقد سببًا لم يدل عليه شرع ولا قدر فشرك أصغر .
    رابعًا : من اعتقد في سبب أنه هو الفاعل بذاته فشرك أكبر ، والله أعلى وأعلم .
    القاعدة الثالثة : الالتفات إلى الأسباب مطلقًا شرك في الشرع ، وعدم الالتفات لها مطلقًا قدح في الشرع ، والأخذ بها مع كمال التوكل على الله هو حقيقة الشرع .
    أقول : لقد اشتملت هذه القاعدة على ثلاث فقرات :
    الفقرة الأولى : وهو شأن مشركة الأسباب الذين لا ينظرون إلا إلى السبب ؛ وذلك لاعتقادهم أنه هو المؤثر بذاته ، وقد علمت أن هذا الاعتقاد شرك في توحيد الربوبية لاعتقاد أن ثمة خالقًا ومتصرفًا في هذه الكون غير الله تعالى ، فهذه نظرة متطرفة جائرة قد تعلقت قلوب أصحابها بالمخلوق العاجز الضعيف وانصرفت عن التعلق بالخالق القوي القادر من كل وجه ، فخابوا الخيبة المطلقة وخسروا الخسران المبين ، نعوذ بالله منهم ومن حالهم .
    الفقرة الثانية : وهو شأن معطلة الأسباب الذين صرفوا نظرهم الصرف المطلق عن تحصيل الأسباب اعتمادًا على القدر ، فتركوا العمل والسعي اتكالاً على ما كتب وسبق به القلم ؛ وذلك لأنهم ظنوا أنه لا تأثير للأسباب في المسببات أبدًا ، فحيث لا تأثير لها فلماذا يتعبون أنفسهم في تحصيلها ، وهذا الاعتقاد قدح في الشرع ؛ لأن الشرع قد رتب الآثار على أسبابها وربط الكون بعضه ببعض ، وأمرنا بتحصيل الأسباب الشرعية والقدرية ، فأمرنا بالعمل الصالح لأنه سبب لدخول الجنة ، وأمرنا بالجهاد حتى لا تكون فتنة ، وقال لنا :  هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور  ، وغير ذلك من الآيات الدالة على ذلك ، فيأتي هؤلاء الأغبياء الحمقى ويقولون : إنه لا تأثير للأسباب ، فأي قدح في الشرع أعظم من ذلك ، وأي تعطيل للأدلة التي تثبت الأسباب أعظم من ذلك ، فهاتان الفرقتان الضالتان قد تاهتا في باب الأسباب ، ففرقة زلت بها القدم في مهاوي الشرك ، وفرقة زلت بها القدم في القدح في الشرع ، وعصم الله أهل السنة والجماعة - رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى - فتوسطوا بين المذهبين فقالوا : نأخذ بالأسباب ونتوكل أولاً وآخرًا على الله تعالى وهو الفقرة الثالثة : فجمعوا بين الأمرين فسعوا في تحصيل الأسباب مع اعتماد قلوبهم الاعتماد المطلق على ربهم جل وعلا ، فلا هم اعتمدوا على الأسباب الاعتماد المطلق كما فعل مشركة الأسباب ولا هم عطلوا الأسباب وتركوا تحصيلها الترك المطلق كما فعل معطلة الأسباب ، بل أخذوا بالأسباب وسعوا في تحصيلها وتوكلوا على الله حق التوكل ، وهذا هو الصراط المستقيم والنهج القويم ، بل ما صدق في دعوى التوكل من ترك تحصيل الأسباب ، فإنه لو كان صادقًا لأخذ بها ، فالأخذ بالأسباب من تمام التوكل على الله تعالى .
    فهذا سيد المتوكلين - عليه الصلاة والسلام - قد دخل مكة وعلى رأسه المغفر ، وظاهر يوم أحد بين درعين ، وقد تواترت الأدلة التواتر المعنوي بحرصه  على الأخذ بأذكار الصباح والمساء ، وذلك أخذًا بأسباب الحفظ ، وثبت عنه أنه كان يحرص أن يضع بين يديه العنـزة لتكون سترة له أخذًا بأسباب حفظ صلاته من القطع أو نقص الأجر ، وكان في بداية أمره  مستخفيًا في دار الأرقم بن أبي الأرقم ولا يصلي إلا في الشعاب بأصحابه أخذًا بأسباب حفظ بيضة المسلمين ، وهاجر هو وأبو بكر ليلاً مستخفيين أخذًا بأسباب السلامة من العدو ، واستأجر في سفر الهجرة عبدالله بن الأريقط هاديًا خريتًا أخذًا بأسباب الاهتداء للوجهة الصحيحة وعدم الضياع ، ولما أدركهم سراقة أمره  بإخفاء خبرهم ووعده تاج كسرى بن هرمز أخذًا بأسباب الاحتماء من العدو ومن كيده ، واتخذ خاتمًا من فضة نقشه محمد رسول الله أخذًا بأسباب قبول وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله وهي المكاتبة ، لأنه قيل له إن الروم لا يقرأون الكتاب إلا إذا كان مختومًا ، واتخذ المنبر ليخطب عليه أخذًا بأسباب إبلاغ الصوت لمن كان بعيدًا ، وبنى حجر نسائه حول المسجد أخذًا بأسباب الاستتار عن الأعين ، وباع واشترى أخذًا بأسباب تحصيل المعاش، وكان يتسحر ويأمر به أخذًا بأسباب التقوية على الصيام، وأفطر يوم عرفة وأظهر فطره للناس ليتقوى على الاجتهاد في الدعاء ، وأفطر في سفر من أسفار الجهاد وأظهر فطره للناس ليتقوى على مواجهة العدو وقتالهم ، وكان يتخول الصحابة بالموعظة في الأيام أخذًا بأسباب عدم إملالهم أي لئلا تدخل السآمة في قلوبهم من المواعظ ، وآخى بين المهاجرين والأنصار في بداية الهجرة ليرسخ أخوة الإيمان في القلوب ولإزالة الوحشة من النفوس وليكسر حاجز العوائد وليكتسب بعضهم من بعض عاداته وتقاليده وليخفف على المهاجرين ألم الفقر والغربة وفراق الأهل والأولاد والأوطان وغير ذلك ، فهذه المؤاخاة أخذًا بأسباب هذه المصالح كلها .
    والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصر ، وكلها بمجموعها تثبت هذه القضية المهمة ، وهو وجوب الأخذ بالأسباب واعتماد القلب على الله تعالى ، وهذا هو حقيقة الشرع ، فالشرع جاء بالأمر بتحصيل الأسباب وجاء بالأمر بالتوكل على الله تعالى ، فلا تنافي بينها ، بل هما متلازمان متآلفان يكمل أحدهما الآخر ، فمن أخذ بالأسباب فقط فقد قصر ، ومن توكل فقط فقد قصر ، ومن أخذ بالأسباب وتوكل فهو المؤمن الصادق والموحد الموفق ، والله يحفظنا وإياك ، فهذه قواعد الأسباب عند أهل السنة مع شيء من شرحها ، والله أعلى وأعلم .
*  *  *
    س374: ما الأخلاق التي يدعو إليها أهل السنة ؟
    ج374: أقول : أهل السنة - رحمهم الله تعالى وغفر لهم وحشرنا في زمرتهم - يدعون إلى كل مكارم الأخلاق وأعظمها الإخلاص والمتابعة ، ويدعون إلى أن تعفو عن من ظلمك ، وتصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وإكرام المسكين ، والتعاون على البر التقوى والتناهي عن الإثم العدوان ، وبر الوالدين ، والإحسان إلى الفقراء واليتامى والمملوك والبهيمة بل والإحسان في كل شيء ، ويدعون إلى حفظ اللسان عن الغيبة والسباب والشتائم ولغو القول والكذب والنميمة والخوض في أعراض الخلق ، وقول الزور ، ويدعون إلى حفظ الجوارح وحماية الأركان عن الحرام ، ويدعون إلى حفظ الأوقات من الضياع فيما لا يفيد فضلاً عن ما فيه من مضرة ، ويدعون إلى التحلي بآداب القرآن والسنة تحقيقًا لقول عائشة - رضي الله عنها - : (( كان خلقه القرآن )) ، ويدعون إلى تنفيس الكرب عن المؤمنين والتيسير على المعسرين والستر على المذنبين إذا كان الستر مصلحة راجحة أو خالصة ، وأن يكون العبد في عون أخيه ، ويدعون إلى احترام وطاعة العلماء والأمراء في غير معصية الله ، وأن لا يذكرون إلا بالجميل ، ويدعون إلى طلاقة الوجه ، ونصر المظلوم ، وإبرار القسم ، ويدعون إلى إحسان الظن وصفاء النفوس والتسامح ، وسلامة الصدر ، ونفع من يحتاج إلى النفع بالجاه والمال ، ويدعون إلى نبذ التعصب والحذر من الكبر والتزام التواضع ولين الجانب ، واتباع الحق واحترام الخلق وإنزال الناس منازلهم ، ويدعون إلى تعلم العلم النافع وقرنه بالعمل الصالح والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه ، ويدعون إلى قول الحق والحكم به على المؤالف والمخالف والقريب والبعيد والصديق والعدو ، ويدعون إلى أداء الأمانات إلى أهلها ، وإلى صحبة الأخيار والتباعد والتجافي عن مقاربة الأشرار ، ويدعون إلى الرفق واللين في الأمر كله ، وإلى الزهد في متاع الحياة الدنيا وعدم الاغترار بزخرفها ، ويدعون إلى إفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام وإلى إطعام الطعام ليدخل العبد جنة ربه بسلام ، ويدعون إلى توافق الظاهر مع الباطن والوفاء بنذر الطاعة والتبرر ، ويدعون إلى إصلاح ذات البين ، وإلى سد أبواب الفتنة ، وعدم الجدال بالباطل ، وإلى الاعتذار عن مخالفتهم ما أمكنهم ذلك ، ويدعون إلى قول التي هي أحسن ، ودرء السيئة بالحسنة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
    وبالجملة : فيدعون إلى كل ما صح به الدليل من التشريع إيجابًا واستحبابًا ، وإلى ترك كل ما صح النهي عنه تحريمًا أو كراهة ، والله ربنا أعلى وأعلم .
    وهذا آخر سؤال وجواب أحببت أن أتحفك به ، راجيًا المولى باسمه الأعظم أن ينفع بها مؤلفها وقارئها وشارحها وسامعها وجميع المسلمين ، وأُشْهِدُ الله تعالى ومن حضرني من الملائكة أنها وقف لله تعالى على جميع عباد الله المؤمنين ، ولا حق لأحدٍ كائنًا من كان أن يحتفظ بحقوق طبعها ؛ لأن ما فيها من العلم ليس من إنتاجي وإنما هو ميراث أهل السنة والجماعة ، وليس لي في هذه الوريقات اليسيرة إلا الجمع والتنسيق فقط ، ولا أرجو ثوابًا من ورائها إلا من الله تعالى في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
    فأناشد بالله أخًا وقعت في يده وانتفع بما فيها أن يرفع يديه داعيًا لمقيدها بالمغفرة والرحمة والرضوان ، فإنه العبد الذليل الفقير الحقير المهين الذي قد كثر خطأه وزادت حيرته وعظمت ذنوبه وكبرت غفلته ، وليس له إلا الله الغفور الرحيم الكريم الجواد التواب ، فيا رب عذرًا ثم عذرًا من الزلل التقصير ، واجعلني دائرًا بين الأجرين أو الأجر ، ولا تحرمني بركة هذا العلم ، وانفعني به في الدنيا والآخرة ، وأنزل فيه البركة تلو البركة ، واشرح له الصدور وافتح فيه الأفهام .
    اللهم واستر زللنا واعف عنا حوبنا وخطايانا وآمن روعاتنا واكفنا شرور أنفسنا ، ونعوذ بك من الكبر والبغي والحسد والفحش ما ظهر منه وما بطن .
    فهذا ما كتبته يداي المذنبتان أضعه بين يديك أيها الأخ المبارك لتشهد على صاحبه بالإحسان أو التقصير ، ولقد تقرر في القواعد أن عمل البشر مناطه النقص ؛ لأنهم ناقصون في ذواتهم وصفاتهم ، والمعصوم من عصمه الله تعالى ، ويبعد جدًا ألاَّ نجد عيبًا أو خللاً ، لكن فإن تجد عيبًا فسد الخللا فجل من لا عيب فيه وعلا ، وانظر فيه بعين المحب المشفق الناصح المستفيد المفيد ، لا بعين الناقد الذي همه إخراج الخطأ والبحث عن الزلة ، أعاذك الله من ذلك .
    والله أعلم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وأستغفر الله تعالى وأتوب إليه ، ثم أستغفر الله وأتوب إليه ، ثم أستغفر الله وأتوب إليه ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا .
    وكان الفراغ منه في عصر يوم الأربعاء الموافق لليوم الأول من شهر ذي القعدة عام أربع وعشرين وأربعمائة وألف للهجرة من هجرة الحبيب  .
 
الفهرس
الصفحة    الــســـــــــؤال    رقم السؤال
358    عرف الولاء والبراء في اصطلاح علماء الاعتقاد    308
358    ما الذي يدور عليه الولاء والبراء ؟    309
360    ما مفهوم البراء في الشريعة الإسلامية والعقيدة السلفية عقيدة أهل السنة والجماعة ؟    310
361    ما الولاء الذي يريده الله منا ؟ مع بيان ذلك بالدليل ، وتوضيح المراد من كل واحدٍ منها بأدلته ؟    311
367    كيف يكون ولاء المؤمن لكتاب الله تعالى ؟    312
369    كيف يكون ولاء المؤمن لدين الله جل وعلا ؟    313
370    كيف يكون ولاء المؤمن لصحابة النبي  ؟    314
371    ما أقسام البراء ؟ مع توضيح ذلك بالدليل والتمثيل ؟    315
374    هلا ضربت لنا أمثلة على موالاة الكفار لنحذرها ونحذِّر منها ؟    316
377    ما خلاصة عقيدة أهل السنة والجماعة في الولاء للكفار - باختصار - ؟    317
379    ما حكم ما يتردد على ألسنة البعض من قولهم : ( الدين لله والوطن للجميع ) فهل لهذه الكلمة تعلق بقضية الولاء والبراء ؟    318
380    كيف يتعامل المسلم مع المنافقين ؟ مع توضيحها بالدليل ؟    319
382    اذكـر لنا شيئًا من صفـات المنافقين مؤيدة بالأدلة حتى نَحْذَرَ من الاتصاف بها ونُحَذِّر المسلمين منها ؟    320
385    اذكر لنا شيئًا من صور الموالاة للمنافقين ؟    321
386    هل يجوز السفر لبلاد الكفر ؟    322
388    ما القواعد التي يجب مراعاتها في الحكم على الآخرين ؟ اذكرها مجملة ؟    323
389    عرف الساعة اصطلاحًا ، مع بيان إطلاقاتها    324
390    ما أقسام أشراط الساعة باعتبار ذاتها ، وباعتبار ظهورها من عدمه ؟    325
392    عدد لنا بعض أشراط الساعة الصغرى مقرونة بأدلتها مع شيء يسير من تفاصيلها ؟    326
405    اذكر لنا نسب المهدي وشيئًا من صفاته مقرونة بالأدلة ؟    327
407    هل أحاديث المهدي في صفته وخروجه بلغت مبلغ التواتر أم أنها من الآحاد ؟    328
408    كيف نجمع بين أحاديث إثبات خروج المهدي وحديث : لا مهدي إلا عيسى ابن مريم ؟    329

الصفحة    الــســـــــــؤال    رقم السؤال
409    ما العلامة الثانية من العلامات الكبرى على قيام الساعة في ذكر الأدلة الدالة عليها ؟    330
411    اذكر لنا شيئًا من صفاته بالدليل ، وما سبب افتتان الناس به ؟    331
415    كيف العصمة من فتنته ؟ مع تأييد ذلك بالدليل ؟    332
418    كيف يكون هلاك هذا الطاغية ؟ وعلى يد مَنْ ؟ مع بيان ذلك بالدليل .    333
418    ما قصة الجساسة ؟ ولماذا سميت بذلك ؟    334
421    ما العلامة الثالثة من العلامات الكبرى ؟ مع بيانها بالأدلة .    335
423    لماذا سمي عيسى ابن مريم بالمسيح ؟ واذكر لنا شيئًا من صفاته ، ومكان نزوله ووقته ، مؤيدًا جميع ما تذكره بالأدلة .    336
425    كم مدة مكثه - عليه السلام - في الأرض ؟ وبماذا يحكـم عند نزوله ؟ وهل يصدق عليه أنه صحابي ؟    337
426    ما العلامة الرابعة من علامات الساعة الكبرى ؟ مع بيانها بالأدلة .    338
429    ما أصل يأجوج ومأجوج ؟ ومن الذي بنى السد بينهم وبين الناس ؟ وأين هو الآن ؟ واذكر شيئًا من صفاتهم ؟    339
431    ما العلامة الخامسة من علامات الساعة الكبرى ؟ مع الدليل .    340
432    ما العلامة السادسة من علامات الساعة الكبرى ؟ موضحًا لها بالأدلة ؟    341
433    ما العلامة السابعة من علامات الساعة الكبرى ؟ مع توضيحها بالأدلة .    342
435    ما العلامة الثامنة من علامات الساعة الكبرى ؟ مع ذكر الأدلة عليها .    343
436    ما الذي يجب على المؤمن في أمر هذه الدابة ؟ وما الذي ينبغي له الحذر منه ؟    344
437    ما العلامة التاسعة من علامات الساعة الكبرى ؟ مع ذكر الأدلة عليها .    345
438    كيف يكون حشر هذه النار للناس ؟ مع بيان ذلك بالدليل .    346
438    ما الأرض التي يحشر إليها الناس ؟ مع ذكر الدليل .    347
439    من آخر من تحشرهم النار ؟ مع ذكر الدليل .    348
439    اذكر لنا بعض الوصايا التي منها ننطلق في تعلم هذه الأشراط .    349
442    ما عقيدة أهل السنة في قضية الإسراء والمعراج ؟ مع ذكر الدليل على ذلك .    350
444    ما عقيدة أهل السنة في كرامات الأولياء ؟    351
448    هَلاَّ ذكرت لنا بعض الكرامات التي ثبتت بالنقل الصحيح، مقرونة بأدلتها لنتعرف على شيء منها.    352

الصفحة    الــســـــــــؤال    رقم السؤال
453    هل الجن مكلفون ؟ وضح ذلك ؟ مع بيان ما يدل عليه .    353
458    ما طبيعة التكاليف التي كلف بها الجن ؟    354
460    ما مصير العاصي والمحسن منهم ؟ مع الدليل .    355
463    ما أنواع استخدام الجن ؟ موضحًا حكم كل قسم ، مع الدليل .    356
468    ما المراد بقاعدة الوسطية ؟ مع بيانها بضرب الأمثلة .    357
472    من المعتزلة ؟ ولماذا سموا بذلك؟ وما أبرز أصولهم التي يقوم عليها مذهبهم؟ مع توضيح المراد بها.    358
474    من الجهمية ؟ مع ذكر بعض عقائدهم في بعض المسائل ، وهل هم من فرق الأمة ؟    359
475    من الخوارج ؟ ولماذا سموا بذلك ؟ مع ذكر بعض عقائدهم ؟    360
476    من الأشاعرة ؟ ولماذا سموا بذلك ؟ مع ذكر بعض عقائدهم .    361
476    من الرافضة ؟ ولماذا سموا بذلك ؟ مع ذكر أبرز عقائدها وأصولها .    362
478    اذكر بعض الأوجه الدالة على صحة منهج السلف .    363
486    كيف التوفيق بين وصف القرآن كله بالتشابه والإحكام ، ووصف بعضه بالتشابه والإحكام ؟    364
489    ما الحكمة من كون بعض القرآن متشابهًا ؟    365
490    ما الأسباب التي بسببها ضل من ضل في أبواب الاعتقاد ؟    366
495    من المقصود بأهل التخييـل ، وأهل التأويل ، وأهل التجهيل الذين ذكرهم أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في الفتوى الحموية ؟ مع ذكر شيء من مذاهبهم .    367
497    ما حكم من يدعي علم الغيب ؟ مع بيان ذلك بالتدليل والتمثيل .    368
500    ما الترياق الشافي والعلاج الكافي للوساوس الشيطانية في ذات الله تعالى وأسمائه وصفاته ونحو ذلك ؟ مع تأييد ذلك بالأدلة .    369
505    ما أقسام التكفير عند أهل السنة مع التمثيل ؟    370
507    ما الشروط والموانع التي يتوقف عليها كفر المعين مع بيانها بالأدلة والتمثيل ؟    371
515    اذكر لنا أمثلة على بعض نواقض الإيمان الاعتقادية والقولية والعملية إجمالاً ؟    372
518    ما القواعد المقررة في مذهب أهل السنة في باب الأسباب ؟ مع شيء من شرحها .    373
522    ما الأخلاق التي يدعو إليها أهل السنة ؟    374

 

إتحاف أهل الألباب بمعرفة التوحيد والعقيدة فى سؤال وجواب

Download

About the book

Author :

وليد بن راشد السعيدان

Publisher :

www.islamland.com

Category :

Doctrine & Sects