رسول الله مع أعدائه

كان - صلى الله عليه وسلم - رحمة حتى مع أعدائه من الكفار والمجرمين، فإنه ما أرسل إلا لهداية هؤلاء وردّهم إلى الحق والصواب وإخراجهم من الظلمات إلى النور.

 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107].
قال ابن كثير: «يخبر تعالى أن الله جعل محمدًا  رحمة للعالمين، أي أرسله رحمة لهم كلهم، فمن قبل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة، سعد في الدنيا والآخرة، ومن ردها وجحدها خسر في الدنيا والآخرة». [تفسير ابن كثير].
إذن فالنبي  كان رحمة حتى لأعدائه من الكفار والمجرمين، فإنه  ما أرسل إلا لهداية هؤلاء وردّهم إلى الحق والصواب وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
ولذلك فإنه  كان يتعامل مع أعدائه بالرحمة واللين، والحلم وكظم الغيظ، والعفو عن الزلات، والصبر على دعوتهم والحرص على هدايتهم، وكان  يحزن عليهم، ويتأسف على تكذيبهم وعنادهم، وقد ذكر الله ذلك فقال تعالى:  لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء: 3] قال قتادة في قوله تعالى: بَاخِعٌ نَفْسَكَ: أي قاتل نفسك غضبًا وحزنًا عليهم. أي لا تأسف عليهم، وأبلغهم رسالة الله، فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها. ولذلك قال الله تعالى له:  لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ     يَشَاءُ [البقرة: 272] وقال: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ      حَسَرَاتٍ. [فاطر: 8].
معاملة النبي  اليهود والمعاهدين
ولما هاجر النبي  إلى المدينة، أحسن إلى اليهود الذين كانوا بها ووادعهم، وكتب كتابًا ينظم العلاقة بين جميع الطوائف، ومن بنود هذا الكتاب: «وأن من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، لليهود دنهم وللمسلمين دينهم»، وهم كذلك لا يعينون عليه أحدًا، وإن دهمه بالمدينة عدو وينصرونه عليه.
ومن هدى النبي  في المعاهدين: حفظ دمائهم وأموالهم وأعراضهم وذراريهم، حتى أنه  قال: «من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا». [رواه البخاري].
وأما هديه  في المستأمنين يدل عليه قوله : «أمن رجلًا على دمه فقتله، فأنا بريء من القاتل، وإن كان المقتول كافرًا». [رواه البخاري في التاريخ والطبراني في الصغير وحسنه الألباني].
فالنبي  - كما في هذا الحديث- يتبرأ من مسلم لأنه قتل كافرًا غدرًا، والإسلام لا يعرف الغدر، ولا يقبل الخيانة، ولا يؤيد الظلم ولو كان المظلوم كافرًا عدوًّا للإسلام والمسلمين.

 

خيانة اليهود
لم يحفظ اليهود عهدهم مع رسول الله  وبدأوا في تأليب الناس عليه، بل صدر منهم ما يدل على نكث العهد، وخلف الوعد، والاستهانة بالنبي .
فأما يهود بني فينقاع فقد أجرموا في حق امرأة مسلمة وقتلوا رجلًا من المسلمين، وأغلظوا في الرد على النبي  لما أراد أن يتبين أمرهم، وذكروا أنهم أهل الحرب والقوة، بل أرسلوا ورقة المعاهدة، وتحصنوا بحصنهم واستعدوا للقتال، فحاصرهم النبي  وأجلاهم عن المدينة.
وأما يهود بني قريظة، فإنهم نقضوا العهد وتحالفوا مع المشركين والأحزاب في الخندق، وكادت تحدث مقتلة عظيمة للمسلمين لولا أن الله سلم وفرق جموع الكفار وخذلهم، فعاقب النبي  بني قريظة على خيانتهم عقابًا شديدًا، وقد ارتضوا أن يحكم فيهم سعد بن معاذ t، فحكم فيهم بحكم الله عز وجل، بأن تقتل مقاتلتهم، وتسبى نساؤهم وذراريهم، وتقسم أموالهم جزاءً على خيانتهم، وغدرهم، ونقضهم عهد رسول الله .
وأما يهود بني النضير، فقد حاولوا قتل النبي ، بإلقاء الرحى عليه، فأجلاهم النبي  من المدينة إلى خيبر.
وكان  قبل ذلك يرفق بهم ويلين لهم مع علمه بما يضمرونه في قلوبهم من عداوته، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله  فقالوا: السام عليكم – أي الموت عليكم – فقال النبي : «وعليكم».
قالت عائشة: ففهمتها فقلت: عليكم السم واللعنة وغضب الله عليكم. فقال لها رسول الله : «مهلًا يا عائشة، عليك بالرفق، وإياك والعنفَ والفحشَ، فإن الله يحب الرفق في الأمر كله». قالت: أو لم تسمع ما قالوا؟! قال : «أو لم تسمعي ما قلت؟! رددتُ عليهم، فيستجاب لي فيهم، ولا يستجاب لهم فيّ». [متفق عليه].
هكذا عالج النبي  القضية بكل رفق ولين ومعرفة بالطرف الآخر.
معاملة النبي  المنافقين.
وأمل أهل النفاق فقد عاملهم النبيّ  معاملة أهل الإسلام من الرحمة والرفق والإحسان والعفو، وكان يأخذهم بالظاهر من أقوالهم وأحوالهم دون البحث عما تكنه وسرائرهم وتضمره ضمائرهم..
ولننظر كيف عامل النبي  رأس النافق وأس البلاء عبد الله بن أبي ابن سلول، الذي آذى النبي  أعظم الأذى وعاداه أعظم المعاداة وشرق بدعوته وحسده وألب الناس عليه، وهو القائل: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذلّ. ويقصد بالأذلّ رسول الله  فقال عمر: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال : «دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه». [متفق عليه].
وهو الذي افترى قصة الإفك، وأشاع عن الطاهرة المطهرة عائشة رضي الله عنها قالة السوء...
وهو الذي رجع بثلث الجيش يوم أحد، فخذل النبي  في أحرج المواقف..
وتستمر مؤامرات هذا المنافق حتى مات على نفاقه وعداوته للنبي ، فيذهب ابنه عبد الله (وقد كان مؤمنًا) إلى النبي ، فطلب من النبي  قميصه ليكفن فيه أباه، فأعطاه  قميصه!!
بل إن النبي  مشى إلى قبره يريد الصلاة عليه، فوثب إليه عمر بن الخطاب t  فقال: أتصلي على ابن أبي وقد قال كذا وكذا؛ يعدد عليه قوله. فتبسم رسول الله  وقال: «أخر عني يا عمر» فلما أكثر عليه قال: «إنما خيرني فقال:  اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ [التوبة: 80] وسأزيد على السبعين» .
قال عمر: يا رسول الله إنه منافق. فصلى عليه رسول الله ، فأنزل الله: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ  [التوبة: 84] [رواه البخاري].
وفي هذا الموقف تتجلى رحمة النبي  بهذا العدو في أعظم صورها، فهو عليه الصلاة والسلام عندما استشعر من الآية أن فيها تخييرًا بين أن يستغفر للمنافقين أو لا يستغفر لهم، دعته نفسه الرحيمة إلى الاستغفار لهم وإن كانوا ألدّ أعدائه، فلما نزلت الآية تنهى عن ذلك؛ ترك النبي  الصلاة عليهم والاستغفار لهم.
معاملة النبي  المشركين
أما المشركون من قريش وسائر العرب، فقد بعث النبي  فيهم، فدعاهم إلى دين الله عز وجل، وخاطبهم خطاب المحب المشفق، الحريص على هدايتهم، ومحض لهم النصح، وبين لهم ما هم عليه من شرك وضلال، ولكنهم كذبوه وكفروا برسالته وآذوه وآذوا أصحابه وعذبوهم أشدّ العذاب، وفتنوهم في دينهم وأخرجوهم من ديارهم، وأخذوا أموالهم وفرقوا بينهم، ثم أذن له في قتالهم فقاتلهم ليردعهم عن الباطل، ثم صالحهم وقال: «لا يسألوني خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أجبتهم إليها». [رواه البخاري]. وكان هذا الصلح فتحًا مبينًا ونصرًا عظيمًا إذا تعرف الناس على الإسلام ودخلوا فيه أفوجًا.
رحمة النبي  بالكفار والمشركين
لقد آذى الكفار والمشركون رسول الله  أشدّ الأذى، وآذوا أصحابه، وفتنوهم في دينهم، وضيقوا على النبي  حتى أخرجوه من بلده، ورموه بأبشع التهم، وأغروا به سفهاءهم، ثم نصره الله عليهم في بدر، وأسر منهم سبعين رجلًا، فقال رسول الله  لأبي بكرٍ وعمر: «ما ترون في هؤلاء الأسارى؟» فقال أبو بكر: يا نبي الله! هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم للإسلام.
فقال رسول الله : «ما ترى يا ابن الخطاب؟» قال: لا والله ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنا، فنضرب أعناقهم... فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها.
قال عمر: فهوي رسول الله  ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت. [رواه مسلم].
ولأنه  كان رحيمًا بأعدائه مال إلى إطلاق سرح الأسرى وعدم قتلهم، ولم يمل إلى رأي عمر في قتلهم والتخلص منهم، فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام كما قال أبو بكر.
فتح مكة والعفو عن الأسرى
ويستمر عناد المشركين واستكبارهم وتكذيبهم، وتستمر حروبهم مع النبي ، فتكون العاقبة للنبي  ويدخل مكة فاتحًا منتصرًا، ويصبح هؤلاء العاقبة للنبي  ويدخل مكة فاتحًا منتصرًا، ويصبح هؤلاء الأعداء جميعًا في قبضته، وتصبح رقابهم معلقة بإشارة منه، فعفا عنهم النبي  وأطلق سراحهم جميعًا، فكان أعظم عفو في التاريخ..
حديث مَلَك الجبال
وهذا ملك الجبال يأتي إلى النبي  بعد أن بلغ التكذيب والإيذاء مداه، وبعد أن هام رسول الله  على وجهه يبحث عمن ينصره فلم يجد، وفي تلك الأجواء ورسول الله  بقرن الثعالب قال: « فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذ فيها جبريل عليه السلام. فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. قال فناداني ملك الجبال، وسلم علي، ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني الله إليك لتأمرني بأمرك فما شئت، إن شئت أطبق عليهم الأخشبين – و الأخشبان: جبلان يحيطان بمكة – فقال النبي : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا شريك له، ولا يشرك به شيئًا». [متفق عليه].
هذه هي أخلاقه  مع أعدائه، يحرص على هدايتهم، ولا يقطع الأمل فيهم، ويرفض أن يكون سببًا في استئصالهم وموتهم على الكفر، وإن كان في ذلك راحته والانتهاء من مهمته التي كلف بها، بل اختار  الخيار الأصعب وهو الاستمرار في الدعوة والنصح والبلاغ وإن كان في ذلك من المشقة والعنت والتعب ما فيه.
اللهم اهدِ دوسًا
وهذا الطفيل بن عمرو الدوسي t، دعا قومه إلى الإيمان فأبوا وكذبوا وأعرضوا، فجاء إلى النبي  فقال: يا رسول الله! إن دوسًا قد عصت وأبت، فادع الله عليها..
فاستقبل رسول الله  القبلة ورفع يديه.. فقال الناس: هلكت دوس..
فقال النبي : «اللهم اهد دوسًا وائت بهم، اللهم اهد دوسًا وائت بهم، اللهم اهد دوسًا وائت بهم». [متفق عليه].

اللهم اهد أم أبي هريرة
وهذا أبو هريرة t يقول: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة فدعوتها يومًا فأسمعتني في رسول الله  ما أكره.
قال: فأتيت رسول الله  وأنا أبكي.
قلت: يا رسول الله! كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليّ، فدعوتها اليوم، فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة.
فقال النبي : «اللهم اهد أم أبي هريرة» هكذا اتسع قلبه الشريف لمن كانت تتناوله بالسبِّ والنقيصة فدعا الله أن يهديها ويشرح صدرها للإيمان.
قال أبو هريرة: فخرجت مستبشرًا بدعوة النبي ، فلما جئت إلى الباب سمعت أمي خشف قدميَّ فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعت خضخضة الماء، قال: فاعتسلت، ولبست درعها – ثوبها- وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.
قال: فرجعت إلى رسول الله ، فأتيته وأنا أبكي من الفرح. قلت: يا رسول الله! أبشر فقد استجاب الله دعوتك، وهدى أمَّ أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه وقال خيرًا. [رواه مسلم].

 

تأليف قلوب المشركين
وبعد فتح مكة خرج رسول الله  لغزو حنين، وأخذ معه صفوان بن أمية، وكان لا يزال مشركًا، فنصر الله دينه والمؤمنين، وأعطى رسول الله  يومئذٍ صفوان بن أمية مئة من النعم، ثم مئة، ثم مئة.
قال صفوان: «والله لقد أعطاني رسول الله  ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى إنه لأحبّ الناس إليّ». [رواه مسلم].
إرسال الرسائل إلى الملوك والرؤساء
فقد أرسل عمرو بن أمية الضمري رسولًا إلى النجاشي، فأخذ كتاب رسول الله  فوضعه على عينيه وأسلم وحسن إسلامه، وأرسل دحية بن خليفة الكلبي إلى هرقل ملك الروم، فهمَّ بالإسلام، ولكن الروم لم توافقه، فآثر الكفر؛ حفاظًا على ملكه.
وبعث رسول الله  عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك فارس، فمزق كتاب الله ، فمزق الله ملكه وملك قومه.
وبعث رسول الله  عمرو بن العاص إلى ملكي عمان فأسلم وصدقا.
وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس ملك الإسكندرية فقال خيرًا ولم يسلم.