الحجُّ والرابطة الإسلامية

الحجُّ والرابطة الإسلامية



إنَّ من مجالات الحجِّ المباركة في تهذيب النفوس ما يشهده الحاجُّ في يوم عرفة من تجمُّع عظيم وتجمهر كبير، بل هو أعظمُ تجمُّع إسلاميٍّ، وفي هذا التجمُّع الإسلامي الكبير وكذا في بقيََّّة المشاعر يلتقي المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها، فيتعارفون ويتناصحون، ويتعرَّف بعضُهم على أحوال بعض، فيتشاركون في الأفراح والمسرَّات، كما يُشارك بعضُهم بعضاً في آلامه ويُرشده إلى ما ينبغي له فعله، ويتعاونون جميعاً على البرِّ والتقوى، كما أمرهم الله سبحانه بذلك.

وفي هذا اليوم المبارك يوم عرفة يكثُر الحجيجُ من قول لا إله إلاَّ الله، فهي خيرُُ ما يُقال في هذا اليوم، بل هي خير الكلمات على الإطلاق وأحبُّها إلى الله، وقد ثبت في الحديث أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( خيرُ الدعاء دعاءُ يوم عرفة، وخيرُ ما قلته أنا والنبيُّون من قبلي لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلِّ شيء قدير )) (1).

وفي هذا إشارةٌ عظيمةٌ إلى أنَّ اجتماعَ المسلمين لا يكون إلاَّ على التوحيد لله والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ بهما تذوب الأهواءُ وتتبدَّد العداوةُ والبغضاء، وتلتقي القلوبُ وتجتمع الكلمة وتتَّحدُ الصفوف، وكلَّما ضعُف استمساكُهم بهذه الكلمة ضعُف حظُّهم من الاجتماع والأُلفة بحسب ذلك.

ثمَّ إنَّ هذه الجموعَ الغفيرةَ على اختلاف ألوانهم وتباين ألسنتهم وتباعد بلدانهم قد اجتمعوا على مقصَد واحد وغاية واحدة، تتَّضح من خلال هذه الكلمة التي يهتفون بها ويُردِّدونها، فالذي جمعهم هو توحيدُ الله والإيمانُ به، والذي ألَّف بينهم هو الخضوعُ لله والتذلُّلُ بين يديه رغَباً ورهباً، رجاءً وخوفاً، حُبًّا وطمعاً.

فكلمة التوحيد (( لا إله إلاَّ الله )) هي الرابطةُ الحقيقيََّّةُ التي اجتمع عليها أهلُ دين الإسلام، فعليها يُوالون ويُعادون، وبها يُحبُّون ويُبغضون، وبسببها أصبح المجتمعُ المسلم كالجسد الواحد، وكالبنيان المرصوص يشدُّ بعضُه بعضاً.

قال الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي ـ رحمه الله ـ في كتابه أضواء البيان: (( والحاصلُ أنَّ الرابطةَ الحقيقيَّةَ التي تجمع المفترقَ وتؤَلِّفُ المختلفَ هي رابطةُ لا إله إلاَّ الله، ألا ترى أنَّ هذه الرابطةَ التي تجمع المجتمعَ الإسلاميَّ كلَّه كأنََّّه جسدٌ واحدٌ، وتجعله كالبنيان يشدُّ بعضُه بعضاً عطفت قلوب حملة العرش ومَن حوله من الملائكة على بني آدم في الأرض مع ما بينهم من الاختلاف، قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)} (2). فقد أشار تعالى إلى أنَّ الرابطة التي ربطت بين حملة العرش ومَن حوله وبين بني آدم في الأرض حتى دعوا الله لهم هذا الدعاء الصالح العظيم، إنَّما هي الإيمان بالله جلَّ وعلا. إلى أن قال رحمه الله: وبالجملة فلا خلاف بين المسلمين أنَّ الرابطةَ التي تربطُ أفرادَ أهل الأرض بعضهم ببعض وتربط بين أهل الأرض والسماء هي رابطة لا إله إلاَّ الله، فلا يجوز البتة النداءُ برابطة غيرها )) (3) اهـ.

وتقريراً لهذا المعنى العظيم وتأكيداً عليه قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في خُطبته بمنى يوم النحر: (( يا أيُّها الناس، ألا إنَّ ربَّكم عزَّ وجلَّ واحدٌ، ألا وإنَّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيٍّ على عجمي، ألا لا فضل لأسود على أحمر إلاَّ بالتقوى، أَبَلَّغت؟ قالوا: نعم، قال: ليبلغ الشاهدُ الغائبَ )) رواه الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح(4).

ومن منافع الحجِّ العظيمة تقوية هذه الرابطة وتوثيق هذه الصلة فالربُّ المعبود واحد، والقبلة المتََّّجه إليها واحدة، والرسول المتَّبع واحد، ولباس الإحرام، ومشاعر الحجِّ وأعماله واحدة، ومكان تجمع المسلمين وزمانه واحد، وشعار الجميع (( لبَّيكَ اللهمَّ لبَّيك )) خضوعاً واستكانةً وانقياداً وامتثالاً، فأيُّ رابطة أوثقُ من هذه، وأيُّ صلة أعظمُ من هذه الصلة.

ألا فليَعِ المسلمون ذلك، وليحمدوا ربَّهم على هذا الوشاج المبارك والوفاق الكريم، والحب والإخاء، ولْيَسْعَ كلُّ واحد منهم في تحقيق كلِّ ما يقوِّي هذه الصلةَ وينميها، وليبتعدوا عن كلِّ أمر يضعفها ويوهيها، ومن الدعوات الثابتة (( اللَّهم أصلح ذات بيننا وألِّف بين قلوبنا واهدنا سُبُل السلام وأخرجنا من الظلمات إلى النور ))، وليطرح الجميعُ العصبيات العرقية، والشعارات القومية، والنَّعرات الجاهلية، والتحزبات الضيقة.

روى أبو داود وغيرُه بإسناد صحيح أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( إنَّ الله تعالى قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهليَّة وفخرها بالآباء، مؤمنٌ تقيٌّ أو فاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، لَيدَعنَّ رجالٌ فخرَهم بأقوام إنَّما هم فَحْمٌ من فَحْم جهنَّم، أو ليكونُنَّ أهونَ على الله من الجُعَلان التي تدفع بأنفها النَّتَن )) (5).

وفي المسند للإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: (( انظر، فإنَّك ليس بخير من أحمر ولا أسود إلاَّ أن تفضله بتقوى )) (6).

ثمَّ إنَّ من استطال على غيره بنسب أو غيره بحقٍّ فقد افتخر، وإن استطال على غيره بغير حقٍّ فقد بغى، والفخرُ والبغيُ كلاهما محرَّم، ولهذا ثبت

في صحيح مسلم أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( إنِّي أوحي إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحد على أحد )) (7).

فنهى سبحانه فيما أوحاه إلى نبيِّه صلى الله عليه وسلم عن نوعي الفخر والبغي اللذين هما استطالة على الخلق، فمَن استطال بحقٍّ فقد افتخر، ومن استطال بغير حقٍّ فقد بغى، ولا يحلُّ هذا ولا ذاك.

نعوذ بالله من الفخر والخيلاء، ومن البغي والظلم، ونعوذ به من كلِّ خطيئة وإثم ونسأله سبحانه أن يجمع المسلمين على البر والتقوى، وأن يصلح ذات بينهم وأن يؤلِّف بين قلوبهم وأن يهديهم سبل السلام، وأن يوحِّد صفوفَهم وأن يجمع كلمتهم، وأن يُبطل كيدَ عدوِّهم، إنَّه سبحانه سميع مجيب.

* * *

 

------------

(1) سنن الترمذي (3585)، وحسنه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (4/7،8).

(2) سورة غافر، الآيات: 7 ـ 9

(3) أضواء البيان (3/447، 448).

(4) المسند (23489).

(5) سنن أبي داود (5116)، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (1787).

(6) المسند (21407).

(7) صحيح مسلم (2865).