الحجُّ وزيادةُ الإيمان

الحجُّ وزيادةُ الإيمان



إنَّ في الحجِّ مجالاً واسعاً لإصلاح النفوس وتهذيب القلوب وزيادة الإيمان، وكم في الحجِّ من الدروس الرائعة والعبر المؤثّرة في إقبال القلوب على الله، وشدََّّة رغبها ورهبها ورجائها وخوفها، وكثرة رجوعها وإنابتها، فكم من دمعة صادقة في الحجِّ أُريقت، وكم من توبة نصوح قُبلت، وكم من عثرة أُقيلت، وكم من خطيئةٍ حُطَّتْ، وكم من دعاء خاشع أجيب، وكم من رقبة من النار أُعتقت.

وعندما نتأمَّل نصوصَ الكتاب والسنَّة المتعلِّقة بالحجِّ نجدُ فيها من الضوابط العظيمة والتوجيهات الحكيمة التي تحقِّق للعبد صلاحاً وزكاءً في حجِّه، بل في حياته كلِّها، كقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}(1).

فكم في هذه النواهي {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} من دعوة وتوجيه إلى كبح جماح النفس والحدِّ من ميلها إلى رغباتها وشهواتها، وكم في قوله سبحانه: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} من دعوة إلى المسارعة في فعل الخيرات والمسابقة لأداء الطاعات، وكم في قوله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} من دعوة لأخذ الأُهبة والاستعداد بالتَّزوُّد ليوم المعاد، كشأن المسافر الذي يأخذ زاده معه في سفره.

قال ابن القيم رحمه الله: (( الناسُ منذ خُلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حطٌّ عن رحالهم إلاَّ في الجنَّة أو النار، والعاقل يعلم أنَّ السفرَ مبنيٌّ على المشقَّة وركوب الأخطار، ومن المحال عادةً أن يطلب فيه نعيماً ولذَّةً وراحةً، إنََّّما ذلك بعد انتهاء السفر )) (2). اهـ.

إلاَّ أنَّ العبدَ يأتيه في هذه الحياة من الصوارف والشواغل والمُلهيات ما يشغله عن أخذ الزاد ليوم المعاد، ويذهبُ جدةَ إيمانه وجماله وحيويته، بل لقد أخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ الإيمانَ قد يَخْلَقُ في جوف الإنسان، فيحتاج العبدُ إلى تجديده والسعي في تقويته، روى الحاكم في المستدرك والطبراني في المعجم الكبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إنَّ الإيمانَ لَيَخلَقُ في جوف أحدكم كما يَخلَقُ الثوبُ، فاسألوا الله أن يُجدِّدَ الإيمانَ في قلوبكم ))(3)، فوصف عليه الصلاة والسلام الإيمانَ بأنََّّه يَخلَق كما يخلَق الثوب، أي: يبلى ويضعف ويدخله الوهن والنقص من جرَّاء ما يلقاه العبدُ في هذه الدنيا من فتن ومُلهيات، وما يقع فيه من معاصٍ وذنوب، وأرشد عليه الصلاةُ والسلام إلى تعاهد الإيمان والعمل على تقويته، وسؤال الله زيادته وثباته، والله تعالى يقول: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(4)، فمن الخير للعبد أن ينصح لنفسه في إيمانه الذي هو أغلى شيء لديه وأثمنُ شيء عنده، وخيرُ زاد يلقى به ربَّه سبحانه وتعالى.

ومجالات تقوية الإيمان وأسبابُ زيادته عديدةٌ ومتنوِّعةٌ، ومن هذه المجالات العظيمة الحجُّ، فهو يهدمُ ما كان قبله، والمبرورُ منه ليس له جزاء إلاَّ الجنَّة،

ومن أدََّّاه بلا رفث ولا فسوق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه، وهو ينفي الذنوب كما ينفي الكيرُ خبَثَ الحديد، كما صحَّت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكم كان الحجُّ نقطةَ تحوُّلٍ في حياة كثير من الناس من سيِّءٍ إلى حسن، ومن حسن إلى أحسن، والشواهدُ على هذا والوقائعُ المؤكِّدةُ له تفوق الحصر.

وكم من حاجٍّ تحرَّى مواطنَ الإجابة في الحجِّ ومدَّ يديه إلى ربِّه خاشعاً متذلِّلاً طامعاً في فضله العظيم، وسأله أن يُجدِّد الإيمانَ في قلبه وأن يثبته عليه، وأن يصرفَ عنه الفتنَ ما ظهر منها وما بطن، وأن يُصلح له دينَه ودنياه وآخرته، وأن يُزيّنه بزينة الإيمان، وأن يجعله من الهُداة المهتدين.

والله عزَّ وجلَّ لا يُخيبُ عبداً دعاه ولا يردُّ عبداً ناجاه، وهو القائلُ سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(5)، وثبت في الحديث عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( الحُجَّاجُّ والعُمََّّار وفدُ الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم ))(6).

فحريٌّ بمَن أكرمه الله بالحجِّ أن يكون في حجِّه مخبتاً لربِّه متواضعاً لجَنَابه، منكسراً بين يديه، يرجو رحمتَه ومغفرتَه ويخاف عذابه ومقتَه، تائباً من كلِّ ذنب اكتسبته يداه، ومن كلِّ خطيئة مشت إليها قدماه، مُكثراً من الذِّكر والدعاء والاستغفار والتضرُّع؛ لينقلب من حجِّه خير منقلب، وليعودَ إلى أهله وبلده على خير حال، فيبدأ صفحةً جديدة في حياته، عامرةً بالطاعة والصلاح والاستقامة، بقلب مطمئنٍّ ونفس منيبة وفؤاد مخبت، سائلاً ربَّه الثبات على الإيمان والسلامةَ من الفتن.

أليس من الجدير بالحاجِّ أن يتنبَّه لهذا الأمر الجلل العظيم، ليربحَ من حجِّه ويستفيد، ولا سيما مع كثرة الأمور التي تضعف الإيمان في هذه الحياة، فما بالنا لا نستفيد من هذا الباب المبارك لتقويته وتتميمه وتكميله، فإنَّ الحجَّ إيمانٌ، وما يقع فيه من مواهب وكمالات كلُّ ذلك كمالٌ في الإيمان وقوَّة.

والعبدُ المؤمن الموَفَّق لا يزال يسعى في تحقيق أمرين عظيمين ومَقصَدين جليلَين:

أحدهما: تحقيق الإيمان وفروعه والتحقق بها علماً وعملاً.

والثاني: السعي في دفع ما يُنافيه وينقضه أو ينقصه من الفتن الظاهرة والباطنة، ويُداوي ما قصر فيه من الأول، وما تجرَّأ عليه من الثاني بالتوبة النصوح، وتدارك الأمر قبل فواته.

وتأمَّل هذين الأمرين في قوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}(7)، فذكر سبحانه الأمرين دفع المفسدات والمنقصات، والسعي في تحصيل الخيرات والكمالات.

نسأل الله جلَّ وعلا أن يُصلحَ لنا جميعاً ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأن يُصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأن يُصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، وأن يجعل الحياة زيادة لنا في كلِّ خير، والموت راحة لنا من كلِّ شرٍّ، وأن يزيننا بزينة الإيمان، وأن يجعلنا هُداةً مهتدين غير ضالِّين ولا مُضلِّين، إنََّّه سبحانه سميع الدعاء، وهو أهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

***

------------

(1) سورة البقرة، الآية: 197.

(2) الفوائد (ص:190).

(3) المستدرك (1/4)، وصححه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (1590).

(4) سورة الحجرات، الآيتان: 7، 8.

(5) سورة البقرة، الآية: 186.

(6) رواه البزار في مسنده كما في كشف الأستار (1153)، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في السلسلة الصحيحة (1820).

(7) سورة البقرة، الآية: 197.