إتحاف الأفهام بشرح نواقض الإسلام

كتاب قيم عرض فيه المؤلف مسائل متفرقات فى نواقض الإسلام.


إتحاف الأفهام بشرح نواقض الإسلام



الحمد لله الذي من جزيل النِّعم أعطى، ولكثير من المعروف لي أسدى، مع ما في نفسي من الهفوات والخطا: 
سبحان من نهـفـو و يعفو دائما        ولم يـزل مهما هفا العبد عـفـا
يعـطي الـذي يخـطي ولا يمنعه         جلاله مـن العـطا لـذي الخطا
فظللت متردداً بين شكر نِعَمٍ كثيرةٍ أسداها، التي من أعظمها التوحيد نبراس العبادة، وبين الاعتراف بظلم نفسي ظلماً كثيراً، والتي أعظم ما أخافه عليها اختلال ميزان العقيدة والتوحيد، ولي في إمام الحنفاء وأبيهم أسوة: " وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ ".
وإني والله أعترف بعجزي عن تمام الشكر، ومستحٍ من ربي على ما اقترفت من الظلم، وسلوتي في ذلك معرفته جلَّ وعلا بعجزي، وقلة حيلتي، وتبرئي من حولي وقوتي لحوله وقوته جل شأنه، فجاءت وريقاتي هذه كفارةً لي عن زللي، وتقصيري في شكره كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.
ثم الصلاة على خير الورى، خير من نبذ الشرك، وللعقيدة والتمسك بالعروة الوثقى دعا، فكانت حياته والحظ الأوفر منها الدعوة للتوحيد حتى جلجلت ( لا إله إلا الله ) في أصقاع الأرض، وعلى صحبه الغُرِّ الميامين، حملة الدعوة إلى العقيدة الصحيحة في الدين، رضي الله عنهم وأرضاهم ومن تبعهم إلى يوم الدين.
   ولا يخفاك أخي المبارك ما للعقيدة من شأن، ويزداد الاهتمام بها حين نرى بعض معالمها يندرس في القلوب وهي لا تشعر لاسيما في زماننا الذي عمَّت به البلوى فظن كثير من الناس أن لا شرك في هذه الأمة، وإذا وجدوا شركاً أو خللاً في العقيدة التمسوا له مخارجَ وتأويلاتٍ تجعله حقاً لاشيء فيه - والله المستعان - وفي هذا يقول عمر -رضي الله عنه-: " إنما ينقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية " ويقول ابن القيم - رحمة الله تعالى عليه- بعد نقله لهذا: " فإن الشرك الجديد بعينه هو القديم، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته، وتضمنه له، ويظنونه في نوح وفي قوم قد خلوا من قبل، ولم يُعقبوا وارثاً ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم  " [ انظر مدارج السالكين 1/342 ]
إليك - صاحب العقيدة - هذه الورقات، عرضت فيها مسائل متفرقات، في كل واحد من هذه النواقض المهلكات، أسميتها ( إتحاف الأفهام بشرح نواقض الإسلام ) مستعيناً بربي جل شأنه في تمام الإيضاح والتبيين، وأسأله السداد والهداية لي ولك، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
                                          كتبه / عبد الله بن حمود الفريح
الحدود الشمالية - رفحاء
[email protected]
 
ترجمة مختصرة لصاحب المتن
- اسمه:
هو الإمام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي الحنبلي النجدي.
- مولده:
ولد الشيخ - رحمه الله - سنة 1115 للهجرة النبوية في بلدة العيينة من بلاد نجد.
- نشأته:
نشأ الشيخ في بيت علمٍ وشرف ودين؛ فقد كان أبوه عبد الوهاب قاضي العيينة ومفتيها، وجده سليمان كان مفتي الديار النجدية.
نشأ الشيخ في هذه البيئة العلمية وتأثَّر بها، فقرأ القرآن وحفِظه وأتقنه قبل بلوغ عشر السنوات، ثم اشتغل بطلب العلم، قال عنه أخوه سليمان بن عبد الوهاب: كان أبوه يتعجب من فهمه، ويعترف بالاستفادة منه مع صغر سنه.
- رحلاته في طلب العلم:
حين بلغ الشيخ سنَّ الرشد، قدَّمه أبوه لإمامة الصلاة، ثم طلب من والده الحجَّ فأذِنَ له، ثم قصد المدينة، ثم رجع بلدة العيينة.
- سافر إلى الحجاز في طلب العلم، وأقام بها مدة يتردَّد بين مكة والمدينة، ثم رحل إلى البصرة في العراق لطلب العلم، وأقام بها مدة يأخذ عن العلماء، ويدعو إلى التوحيد، وضرورةِ الأخذ بالكتاب والسنة.
- ثم ذهب إلى الإحساء وأخذ عن علمائها، ثم توجَّه إلى حريملاء سنة (1140) للهجرة النبوية، وبعد ذلك ارتحل إلى العيينة عام (1153) للهجرة النبوية، ثم استقرَّ بالدرعية عام (1158) للهجرة النبوية.
- مؤلفاته:
 ألف الشيخ - رحمه الله - مؤلفات كثيرة، أغلبها في التوحيد، ومنها:
1- "كتاب التوحيد". 2- "كشف الشبهات". 3- "الأصول الثلاثة". 4- "مفيد المستفيد بكفر تارك التوحيد".
5- "نواقض الإسلام". 6- "مسائل الجاهلية". 7- "مختصر زاد المعاد".
- وفاته: توفي الشيخ - رحمه الله - في عام (1206) للهجرة النبوية، بعد عمر يقارب (91) سنة، عَمَرَه بالدعوة إلى التوحيد والجهاد، والعلم والتعليم، فرحمه الله رحمة واسعة.



 
مُقدمة نواقض الإسلام

المسألة الأولى: تعريف نواقض الإسلام.
النواقض: جمع ناقض اسم فاعل من نقض الشيء إذا حلّه وهدمه وأفسده، قال تعالى: "وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا"
[ النحل: 91 ].
الإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله.
والإسلام له نواقض يجب على الإنسان معرفتها، لأنه قد يقع فيها فتخرجه من الإسلام وهو يدري أو لايدري. فهذا إبراهيم ـ ـ خاف على نفسه من الشرك مع أنه هو الذي كسر الأصنام وأوذي في الله ومع هذا لم يأمن على نفسه وقال:
{ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ } [ إبراهيم: 35 ] لما رأى كثرة الشرك وكثرة المفتونين خاف على نفسه، فالإنسان لا يأمن على دينه بل يخاف عليه أكثر مما يخاف على نفسه وماله، لأن الدين هو أول الضرورات التي تجب المحافظة عليها، وهو الفاصل في مصير الإنسان في الحياة الأخروية، فمن رجع عن دينه فقد ارتد.

المسألة الثانية: الرِّدة معناها, وأنواعها.
الردة: هي الرجوع فالمرتد هو الذي يرجع عن دينه إما بقول أو اعتقاد أو بفعل أو بشك، فهذه أصول أنواع الردة: القول والاعتقاد والفعل والشك. وينشأ عن هذه الأصول أنواع كثيرة من نواقض الإسلام.
أنواع الردة:
النوع الأول: الكفر بالقول:
كأن يتكلم بلفظ الكفر والشرك غير مكره، سواء كان جاداً أو هازلاً أو مازحاً، فإذا تكلم بكلام الكفر فإنه يحكم عليه بالردة إلا إذا كان مكرهاً، قال تعالى: {وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ } [ التوبة: 74 ].
 وقال تعالى في الذين قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أكذب ألسناً وأرغب بطوناً وأجبن عند اللقاء يعنون بذلك رسول الله  وأصحابه، " وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ " [ التوبة: 66 ]، فدل هذا على أن الذي يتلفظ بكلام الكفر غير مكره فإنه يكفر ولو زعم أنه يمزح ويلعب، وفي هذا رد على مرجئة العصر الذي يقولون لا يرتد من قال كلام الكفر حتى يعتقد بقلبه ما قاله بلسانه، فكذلك من يدعو غير الله ويستغيث بغير الله كمن يستغيث بالأموات والغائبين والجن والشياطين فيقول:يا فلان أغثني فإنه يكفر بذلك.
النوع الثاني: الكفر بالاعتقاد:
وهو أن يعتقد الإنسان بقلبه ما يناقض الإسلام، كأن يعتقد أن الصلاة غير واجبة وليس لها قيمة مثل ما كان عليه المنافقون، فيأتي بالأعمال في الظاهر ولكنه في قلبه لا يؤمن بها وإنما يتظاهر بها ويتكلم، قال تعالى:
{ إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } [ المنافقون: 1-2 ] أي أنهم اتخذوا أيمانهم سترة يستترون بها، { فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ }، وقال تعالى " يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [ الفتح: 11 ] فمن كذب بقلبه كفر حتى لو أتى به ظاهراً من الأعمال وهذا هو دين المنافقين لأنهم لا يعتقدون بقلوبهم ما تنطق به ألسنتهم أو ما تفعله جوارحهم من الأعمال المشروعة.
النوع الثالث: الكفر بالفعل:
كأن يعمل شيئاً من العبادات لغير الله، كمن يذبح لغير الله فهذا خرج من دين الإسلام وارتد لأنه عبد غير الله، فالذبح عبادة صرفها لغير الله فكفر بذلك كمن يذبح لصنم أو لقبر أو غير ذلك من معبودات المشركين، أو كمن يسجد للقبور فقد أشرك ولو كان يصلي ويصوم ويحج ويأتي بالواجبات فإن دينه نقض بهذا الفعل الشركي والعياذ بالله.
النوع الرابع: الكفر بالشك:
الشك: هو التردد، فإذا شك في قلبه، هل ما جاء به الرسول  صحيح أو غير صحيح؟ أو هل هناك بعث أو هل هناك جنة ونار أو لا؟ فهذا يكفر بشكه ولو كان يصوم ويصلي ويعمل الواجبات، فإذا لم يكن جازماً في إيمانه فكان لديه شك وتردد بصحة ما جاءت به الرسل صار مرتداً عن الإسلام، ونحن لنا ما يظهر من الناس وأمّا ما في القلوب من اليقين والشك فهذا لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.

المسألة الثالثة: الناس في نواقض الإسلام على ثلاثة أصناف.
الصنف الأول:
الخوارج وهم الذين يغالون في التكفير، والحكم على الناس بالكفر، فكل من خالفهم كفروه، واستحلوا دمه، ويكفرون الناس بالذنوب الكبائر التي دون الشرك، فهم أخذوا النصوص التي تدل بظاهرها على الكفر أو على الشرك دون أن يجمعوا بينها وبين النصوص الأخرى التي تفسرها وتوضحها، فهم ليس عندهم شرك أصغر ولا كفر أصغر وإنما الكفر والشرك عندهم شيء واحد وهو الخروج من الدين.
فالخوارج كفروا الصحابة ـ  ـ ورأوا أن الصحابة ليسوا على حق، وأنهم لا يفهمون ولا يغارون لله تعالى.
الصنف الثاني:
المرجئة الذين يقولون الإيمان بالقلب ولم يدخلوا فيه العمل، فلو عمل ما عمل من الأمور التي تخرجه من الملة فإنه لا يكفر ويقولون: لا يضر مع الإيمان معصية ولا ينفع مع الكفر طاعة وهذا مبدؤهم، فهم أخذوا بنصوص الوعد التي فيها وعد الله بالمغفرة والرحمة ولم يجمعوا بينها وبين نصوص الوعيد التي فيها التحذير من الكفر والشرك والذنوب والمعاصي. 
الصنف الثالث:
أهل السنة والجماعة وهم وسط بين المذهبين مذهب المرجئة ومذهب الخوارج، فيجمعون بين النصوص، ويقولون: إن الكفر في القرآن والسنة ينقسم إلى قسمين: كفر أكبر وكفر أصغر وشرك أكبر وشرك أصغر والذنوب التي دون الشرك لا يكفر صاحبها، فالشرك الأكبر والكفر الأكبر يخرجان من الملة، وأما الشرك الأصغر والكفر الأصغر فلا يخرجان من الملة خلافاً للخوارج، ولكنهما ينقصان الإيمان خلافاً للمرجئة، وأهل السنة والجماعة جمعوا بين الخوف والرجاء، فلم يأخذوا الخوف فقط كما أخذته الخوارج، ولم يأخذوا الرجاء فقط كما أخذته المرجئة، وإنما عبدوا الله  بالخوف والرجاء والحب والرغبة والرهبة، فمن عَبَدَ الله بالخوف فقط فهو خارجي، ومن عَبَدَ الله بالرجاء فقط  فهو مرجئ، ومن عبد الله بالحب فقط فهو صوفي.

المسألة الرابعة: شروط، وموانع الحكم على المعيّن بالكفر.
عقيدة أهل السنة والجماعة أنه لا يحكم على الشخص المعين بالكفر حتى تجتمع فيه جميع شروط التكفير وتنتفي عنه جميع الموانع فهم يفرقون بين التكفير المطلق وبين التكفير المعين أو بين تكفير العمل وبين تكفير العامل فقد يفعل الإنسان عملاً بالاتفاق أنه يكفر به لكن لا نكفر صاحبه ( وهو العامل ) حتى تتحقق فيه الشروط وتنتفي عنه الموانع.
مثال ذلك: لو أن رجلاً شك في قدرة الله  وقال: أن الله لا يقدر أن يعذبني تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً فإن شكه هذا كفر باتفاق أئمة المسلمين فنحن نطلق هذا الحكم ونقول من قال هذا الشيء فإنه يكفر ولكن لا نستطيع أن نكفر شخصاً بعينه إذا وقع في مثل هذا حتى تتحقق فيه الشروط وتنتفي عنه الموانع لأنه قد يكون جاهلاً أو مكرهاً أو غير ذلك من الموانع التي سوف نذكرها.
ويدل على ذلك:
ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة   في قصة الرجل الذي أسرف على نفسه وأوصى بنيه أنه إذا مات أن يحرقوه ويسحقوه ويذروا نصفه في البر ونصفه في البحر وقال: " والله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً ما عذب به أحد " وهذه المقولة كفر باتفاق أئمة المسلمين لأن فيها شكاً في قدرة الله ومع ذلك غفر الله له كما جاء في آخر الحديث لأنه حمله على قول ذلك الخوف من الله  كما ثبت في آخر الحديث، فدل هذا على أنه بمقولته جاهل فعُذر بالجهل إذ أنه لا يمكن أن يشك في قدرة الله ويخافه في نفس الوقت.

أولاً: شروط الحكم على المسلم المعين بالكفر:
1. أن يكون عالماً بتحريم هذا الشيء المكفر.
والعلم ضده الجهل كما في المثال السابق فهذا انتفى عنه هذا الشرط كونه لا يعلم وسيأتي مزيد من تفصيل لهذا الشرط عند ذكر مانع الجهل بإذن الله تعالى.
2. أن يكون متعمداً لفعله.
وضد العمد النسيان فكون فعل هذا المكفر ناسياً فإننا لا نكفره بعينه إذ أنه لم يتعمد فعله لحديث ابن عباس – رضي الله عنهما- مرفوعاً " إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " رواه ابن ماجه.
3. أن يكون مختاراً.
والاختيار ضده الإكراه وسيأتي بإذن الله في موانع التكفير.
ثانياً: موانع الحكم على المسلم المعّين بالكفر:
1. الجهل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاستغاثة (1/381): " إن تكفير المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلا فليس من جهل شيئاً من الدين يكفر ".
وقال ابن القيم في مدارج السالكين (1/367 )بعد ذكره كفر من هجر فريضة من فرائض الإسلام أو أنكر صفة من صفات الله تعالى أو أنكر خبراً أخبر الله به عمداً، قال:" وأما جحد ذلك جهلاً أو تأويلاً يُعذر فيه صاحبه فلا يكفر صاحبه به ".
فمن فعل مكفراً جهلاً فإنه لا يحكم عليه بالتكفير المعين حتى ينتفي في حقه هذا المانع والموانع الأخرى.
ويدل على هذا المانع: حديث أبي هريرة  السابق في قصة الرجل الذي لم يعمل خيراً قط فأمر أولاده إذا مات أن يحرقوه ثم يذروا رماده في شديد الريح في البحر، وقال: " والله لئن قدر عليّ ليعذبني عذابا ما عذب به أحد " فغفر له. والحديث متفق عليه.
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى( 3/230 )بعد ذكره لهذا الحديث: " فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذُري، بل اعتقد أنه لا يُعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، ولكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك ".
ولأهل العلم أقوال وتفصيلات يطول ذكرها في المسائل التي يكون الجهل بها مانعاً من الحكم بكفر المعين، والمسائل التي لا يكون الجهل بها مانعاً من الحكم بكفره [ انظر على سبيل المثال: المغني: الردة 3/249 مجموع الفتاوى ابن تيمية 35/164، 165، الدرر السنية 1/ 235،236، 520،521  و 10/ 386 ـ 474، فتاوى اللجنة الدائمة 2/ 96 ـ 100 نواقض الإيمان الاعتقادية للوهيـبي 1/ 225 ـ 301، فتاوى ابن باز جمع الطيار 2/ 528، 529 ].

ـ قال الإمام محمد بن عبد الوهاب في مجموعته( 12/ 60 ): " وأما ما ذكره الأعداء عنّي أنّي أكفر بالظن وبالموالاة أو أكفّر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة فهذا بهتان عظيم ".
* قال ابن عثيمين: " الجهل بالمكفر على نوعين:
الأول: أن يكون من شخص يدين بغير الإسلام، أو لا يدين بشيء، ولم يكن يخطر بباله أن ديناً يخالف ما هو عليه، فهذا تجري عليه أحكام الظاهر في الدنيا ـ أي أحكام الكفار ـ وأما في الآخرة فأمره إلى الله تعالى......
النوع الثاني: أن يكون من شخص يدين بالإسلام، ولكنه عاش على هذا المكفر، ولم يكن يخطر بباله أنه مخالف للإسلام، ولا نبهه أحد على ذلك، فهذا تجري عليه أحكام الإسلام ظاهراً، أما في الآخرة فأمره إلى الله ـ  ـ وقد دل على ذلك الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم ".
2. التأويل.
والتأويل: هو أن يرتكب المسلم أمراً كفرياً معتقداً مشروعيته أو إباحته له لدليل يرى صحته أو لأمر يراه عذراً له في ذلك وهو مخطئ في ذلك كله.
فِإذا اعتقد المسلم أو فعل أو قال أمراً مخرجاً من الملة، وكان عنده شبهة تأويل في ذلك، وهو ممن يمكن وجود هذه الشبهة لديه، وكانت في مسألة يُحتملُ التأويل فيها، فإنه يُعذر بذلك، وحكى بعض العلماء إجماع أهل السنة على هذا المانع.
ـ قال الشافعي في الأم: الأقضية ( 6/ 205 ): " لم نعلم أحداً من سلف هذه الأمة يقتدى به ولا من التابعين بعدهم ردّ شهادة أحد بتأويل، وإن خطأه وضلله ورآه استحل فيه ما حرم عليه، ولا ردّ شهادة أحد بشيء من التأويل كان له وجه يحتمله، وإن بلغ فيه استحلال الدم والمال أو المفرط من القول ".                                                                            – وقال ابن حجر في فتح الباري (12/ 304): " قال العلماء كل متأول معذور بتأويله ليس بآثم إذا كان تأويله سائغاً في لسان العرب وكان له وجه في العلم ".
ـ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (5/239 ): " إن المتأول الذي قصد متابعة الرسول  لا يُكفَّر، بل ولا يُفسَّق إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفّر المخطئين فيها، وهذا القول لا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع ".
* استدل أهل العلم على هذا المانع بما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الاستغاثة (1/282،283 )أنّ الصحابة  لم يكفروا قدامة بن مظعون ـ  ـ لما شرب الخمر معتقداً أنها تحل له ولأمثاله، متأولاً قوله تعالى {ليسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ } [ المائدة: 93 ] فذكر أن الصحابة لم يكفروا قدامة ومن عمل مثل عمله بالاستحلال ابتداءً؛ لأجل الشبهة التي عرضت لهم حتى يتبين لهم الحق، فإن أصروا على الجحود وكفروا، وهذا الخبر رواه عبد الرزاق 9/240 وابن أبي شيبة 9/546 في مصنفيهما والبيهقي في سننه 8/16.
ـ قال ابن عثيمين: " ومن الموانع أيضاً أن يكون له شبهة تأويل في المكفر، بحيث يظن أنه على حق، لأن هذا لم يتعمد الإثم والمخالفة، فيكون داخلاً في قوله تعالى: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ }
[ الأحزاب: 5 ] ولأن هذا غاية جهده، فيكون داخلاً في قوله تعالى " لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا " [ البقرة: 286 ] [ انظر مجموع الفتاوى لابن عثيمين ( جمع فهد السليمان " 2/136 ].
ـ ولأهل العلم أيضاً تفصيل وأقوال يطول ذكرها في المسائل التي يكون التأويل فيها مانعاً من الحكم بكفر المعيّن، والمسائل التي لا يكون التأويل فيها مانعاً من الحكم بكفره [ انظر على سبيل المثال: في مراجع مانع الجهل السابق فينظر في المغني: 12/276، مجموع فتاوى ابن تيمية 20/263ـ268و 5/161،162، ونواقض الإيمان الإعتقادية للوهيـبي 2/20ـ38 ورسالة ( منهج ابن تيمية في مسألة التكفير ) 1/193ـ250 ].
* ذكر بعض أهل العلم أنه من أجل هذا المانع ـ وهو مانع التأويل ـ لم يكفّر الصحابة  الخوارج الذين خرجوا عليهم وحاربوهم وكفّروا الخليفة الراشد علي بن أبي طالب المشهود له بالجنة، واستحلوا دمه، حتى قتلوه، واستحلوا دماء جميع من خالفهم، مع أن بعض ما وقعوا فيه هو من الأمور التي يكفّر مرتكبها.
ـ قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في الإرشاد ص 207،208: " الخوارج الحرورية الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن معه من الصحابة والمسلمين، وكفّروهم واستحلوا دماءهم الثابت بالكتاب والسنة والإجماع عصمتها واحترامها، فضللوهم واستباحوا قتالهم حيث خرجوا عليهم، ولم يخرجوهم من دائرة الإسلام مع استحلالهم ما هو من ضروريات الدين، ولكن التأويل الذي قام بقلوبهم وظنوا أنه مراد الله ورسوله منع الصحابة من الحكم عليهم بالكفر إتباعا لقوله تعالى " رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا " [ البقرة: 286 ]، قال الله تعالى ( قد فعلت ) وهذا عام في كل ما أخطأ فيه المؤمنون من الأمور العملية والأمور الخبرية،بل أبلغ من ذلك أنهم يروون عنهم ـ أي يروون عن الخوارج ـ ويأخذون الأحاديث المتعلقة بالدين إذا تبين صدقهم، مع أنّ مذهبهم ـ غير تكفير المسلمين ـ إنكار الشفاعة في أهل الكبائر مع ثبوتها وتواترها، ولكنهم مع عدم تكفيرهم لهم قد حكموا عليهم بالضلال والمروق من الشريعة ومخالفة المسلمين، واستحلوا قتالهم، بل رأوه من أفضل الأعمال المقربة منه لشدة ضررهم في عقيدتهم ويسفهم ".
ـ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (5/95): " لم تكفر الصحابة الخوارج مع تكفيرهم لعثمان وعلي ومن والاهما واستحلالهم لدماء المسلمين المخالفين لهم " [ انظر أيضاً مجموع الفتاوى 3/282 و7/217 ].
 وقال أيضاً في منهجه في التكفير( 1/198): " المحفوظ عن أحمد وغيره من الأئمة إنما هو تكفير الجهمية المشبهه وأمثال هؤلاء.... مع أن أحمد لم يكفر أعيان الجهمية ولا كل من قال { إنه جهمي } كفّره، ولا كل من وافق الجهمية في بعض بدعهم، بل صلى خلف الجهمية... لم يكفرهم أحمد وأمثاله، بل كان يعتقد إيمانهم وإمامتهم، ويدعوا لهم، ويرى الإئتمام بهم في الصلوات خلفهم والحج والغزو معهم... ".
 فائدة: للتأويل نوعان:
قال ابن عثيمين في المجموع الثمين( 2/63 ): " النوع الثاني ـ أي من أنواع الجحود ـ إنكار التأويل، وهو أن لا يجحدها ولكن يؤلها، وهذا نوعان: الأول: أن يكون لهذا التأويل مسوغ في اللغة العربية، فهذا لا يوجب الكفر. الثاني: أن لا يكون له مسوغ في اللغة العربية، فهذا موجب للكفر؛ لأنه إذا لم يكن له مسوغ صار تكذيباً، مثل أن يقول: ليس لله يد حقيقية، ولا بمعنى النعمة أو القوة فهذا كافر؛ لأنه نفاها نفيا مطلقاً فهو مكذب حقيقة، ولو قال في قوله تعالى: " بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ " المراد بيديه السماوات والأرض فهو كافر؛ لأنه لا يصح في اللغة العربية، ولا هو مقتضى الحقيقة الشرعية، فهو منكر مكذب ".
3. الإكراه.
قال ابن حزم في المحلى( 8/33 ): " والإكراه هو كل ما سمّي في اللغة إكراهاً، وعرف بالحس أنه إكراه، كالوعيد بالقتل ممن لا يؤمن منه إنفاذ ما توعد به، والوعيد بالضرب كذلك...  "
وعرفه علاء الدين البخاري من فقهاء الحنفية ـ تعريفاً شاملاً فقال: " حمل الغير على أمر يمتنع عنه، بتخويف يقدر الحامل على إيقاعه، ويصير الغير خائفاً فائت الرضا بالمباشرة " [ انظر كشف الأسرار 4/482 ].
فإذا قال المسلم أو فعل أمراً مكفراً مخرجاً من الملة وهو في ذلك مكرها على قتل أو ضرب يؤدي إلى إتلاف نفس أو نحوه فإنه يعذر بذلك ولا يكفر وإن كان قوله أو فعله مكفراً.
ويدل على ذلك: قوله تعالى: { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النحل: 106]، وهذا مجمع عليه بين أهل العلم والمشهور في سبب نزول هذه الآية عند أهل التفسير، ما رواه أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه قال: " أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي وذكر آلهتهم بخير، ثم تركوه، فلما أتى رسول الله، قال: ( ما وراءك )؟ قال: شر يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير، قال: ( كيف تجد قلبك ) قال: مطمئناً بالإيمان، قال: وإن عادوا فعد " رواه البيهقي والحاكم وصححه.
ـ قال أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن( 3/192 ) عن هذه الآية: " هذا أصل في جواز إظهار كلمة الكفر في حال الإكراه ".
ـ وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة( 2/512 ): " واتفقوا على أنه ( أي عماراً ) نزل فيه { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ }.
وقال ابن العربي في أحكام القرآن( 3/1180): " لما سمح الله تعالى في الكفر به، وهو أصل الشريعة، عند الإكراه، ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذه به ".



-أنواع الإكراه:
1. الإكراه الملجئ ( وهو الإكراه التام ).
وهو الذي يقع على نفس المكره، ولا يبقى للشخص معه قدرة ولا اختيار: كأن يهدد الإنسان بقتله أو بقطع عضو من أعضاءه كيده ورجله، أو بضرب شديد يفضي إلى هلاكه.
2. الإكراه غير الملجئ ( وهو الإكراه الناقص ).
وهو التهديد أو الوعيد بما دون تلف النفس أو العضو كالتخويف بالضرب أو الحبس أو أخذ المال اليسير أو الشتم ونحوه في كل ما لا يضطر الإنسان إلى مباشرة ما أكره عليه لتمكنه من الصبر على ما هُدّد به.
مسألة: شروط الإكراه ( أو متى يكون الإكراه عذراً؟ )
1. أن يكون المكره ـ بكسر الراء ـ قادراً على تحقيق ما أوعد به، لأن الإكراه لا يتحقق إلا بالقدرة، فإن لم يكن قادراً لم يكن للإكراه معنى ولا اعتبار.
2. أن يكون المكره ـ بفتح الراء ـ  عاجزاً عن الدفع عن نفسه بالهرب أو الاستغاثة أو المقاومة أو نحو ذلك.
3. أن يغلب على ظنه وقوع الوعيد، إن لم يفعل ما طُلب منه.
4. أن يكون هذا الوعيد مما يستضر به المكره ـ بفتح الراء ـ ضرراً كثيرا كالقتل والضرب الشديد، وأما الشتم والسب فليس بإكراه رواية واحدة وكذلك أخذ المال اليسير.
ـ ولأهل العلم أقوال وتفصيلات يطول ذكرها في الأمور التي يُعذر فيها الإكراه والأمور التي لا يُعذر فيها بذلك، وفي صور الإكراه، وهل يدخل فيها الخوف من ضرر محقق أم لا؟ [ انظر على سبيل المثال: تعظيم قدر الصلاة ص 930، والمغني 12/292 ـ 295، شرح صحيح البخاري لابن بطال أول كتاب الإكراه 8/290، وشرح ابن حجر 12/311ـ315، جامع العلوم والحكم ( شرح الحديث 39 )، نواقض الإيمان الاعتقادية للوهيـبي 2/5ـ19، ورسالة ( منهج ابن تيمية في مسألة التكفير ) 1/266ـ270 ].
مسألة أخرى: ما الحكم لو أكره المرء على قتل معصوم ليفدي نفسه؟
نقل الأئمة الإجماع على أنه لا يحل للمرء أن يفدي نفسه بقتل غيره، وممن نقل الإجماع ابن العربي والقرطبي وابن رجب.
قال القرطبي في تفسيره( 10/183 ): " أجمع العلماء على أن من أكره على قتل غيره، أنه لا يجوز له الإقدام على قتله ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره، ويصبر على البلاء الذي نزل به، ولا يحل له أن يفدي نفسه بغيره، ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة ".
-وإن قتله فما الحكم؟
قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم ص 354: " فإذا قتله في هذه الحال فالجمهور على أنهما يشتركان في وجوب القود المكرِه والمكرَه لاشتراكهما في القتل ".
مسألة أخرى: هل يفرق في الإكراه بين الأقوال والأفعال؟
لا خلاف بين الفقهاء في أن أفعال القلوب كالحب والبغض لا مجال للإكراه فيها، واختلفوا في التفريق بين الأقوال والأفعال:
القول الأول: أن الرخصة في الإكراه تكون في الأقوال فقط دون الأفعال فلا رخصة فيها مثل أن يكره على السجود لغير الله أو قتل مسلم أو الصلاة لغير القبلة أو الزنى أو أكل الربا، وقالوا لأن الآية السابقة التي نزلت في عمار وردت في القول فقط.
والقول الثاني: عدم التفريق بين الأقوال والأفعال لعموم قوله تعالى: { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَان ِ} فلم يفرق في الآية بين القول والفعل.
ـ قال الشوكاني في فتح القدير( 3/197 ): ( وذهب الحسن البصري والأوزاعي والشافعي وسحنون إلى أن هذه الرخصة المذكورة في هذه الآية، إنما جاءت في القول، وأما الفعل فلا رخصة، مثل أن يكره على السجود لغير الله ويدفعه ظاهر الآية فإن الآية عامة فيمن أكره من غير فرق بين القول و الفعل، ولا دليل لهؤلاء القاصرين للآية على القول، وخصوص السبب لا اعتبار به مع عموم اللفظ ) وهذا القول هو الأرجح و الله أعلم.
* زاد بعضهم في موانع التكفير:
4- الخطأ ( وهو أن يريد ما يحسن فعله، ولكن يقع منه خلاف ما يريد ).
5- التقليد: ومن أراد الاستزادة في هذين المانعين وهل هي معتبرة أم لا؟ فليراجع نواقض الإيمان الاعتقادية للوهيـبي.
* خاتمة في موانع التكفير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى( 12/487 ): " إن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين، إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات ـ أي من قال أو فعل كذا فقد كفر ـ لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه، فإن الإمام أحمد مثلاً قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن، ونفي الصفات، وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التّجهم بالضرب والحبس والقتل والعزل عن الولايات، وقطع الأرزاق ورد الشهادة، وترك تخليصهم من أرض أهل العدو، بحيث كان كثير من أولي الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم يكفرون كل من لم يكن جهمياً موافقا لهم على نفي الصفات، مثل القول بخلق القرآن، ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر.... ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه،واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم، فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون: إن القرآن مخلوق، وأن الله لا يُرى في الآخرة... ".
فائدة:
هذا التفصيل الذي يظهر منه الفرق ين الحكم المطلق والحكم على المعين موجود في كثير من الأحكام الشرعية ومنها مثلاً:
1- قطع يد السارق جاء حكمه في الشرع عاماً مطلقا، قال الله تعالى " وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا " [ المائدة: 38 ] لكن لا يجوز قطع يد سارق معين حتى تتوفر فيه جميع شروط القطع وتنتفي عنه جميع موانعه، فلا بد أن يكون هذا السارق المعين بالغا عاقلا، ولا بد أن يكون سرق المال من حرزه، ولا بد أن يبلغ المال المسروق المقدار الذي تقطع اليد بسرقته ولا بد أن لا توجد شبهة لهذا السارق في هذا المال ونحو ذلك، فإذا توفرت جميع شروط القطع وانتفت موانعه وجب حينئذ الحكم بقطع يد هذا السارق المعين.
2- وكذلك جاء الحكم العام بوجوب رجم الثيب الزاني، لكن لا يجوز رجم رجل معين إذا زنا وهو ثيب حتى تتوفر فيه جميع شروط الرجم وتنتفي عنه جميع موانعه، فلا بد أن يكون عالما بتحريم الزنا فقد يكون حديث عهد بإسلام، ولم يعلم بتحريمه، ولا بد أن يكون محصنا، وأن تنتفي الشبهة، ونحو ذلك فإذا توفرت جميع شروط الرجم في هذا الزاني المعين وانتفت عنه جميع موانعه حكم برجمه. 
3- وكذلك التفريق بين لعن المطلق ولعن المعين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى( 10/329 ): " لعن المطلق لا يستلزم لعن المعين الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة به، وكذلك التكفير المطلق والوعيد المطلق، ولهذا كان الوعيد المطلق في الكتاب والسنة مشروطا بثبوت شروط وانتفاء موانع ".

المسألة الخامسة: مسألة تكفير المعين من المسائل التي لا يحكم فيها على شخص إلا أهل العلم.
لما كانت مسألة تكفير المعين من المسائل المهمة لأن الحكم على المسلم بالكفر وهو لا يستحقه ذنب عظيم، لأنه حكم عليه بالخروج من ملة الإسلام، وأنه حلال الدم والمال وحكم عليه بالخلود في النار إن مات على ذلك، وجب ألا يحكم على شخص بكفر إلا أهل العلم وهم أهل الشأن في ذلك الأعلم في الشروط والموانع، ولذلك ورد الوعيد الشديد في شأن من يحكم على مسلم بالكفر وهو ليس كذلك فقد ثبت عن أبي ذر  قال: قال النبي  " لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك " متفق عليه.
ـ قال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام( 4/76 )عند شرح حديث أبي ذر السابق: " وهذا وعيد عظيم لمن أكفر أحداً من المسلمين وليس كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق كثير من المتكلمين ومن المنسوبين إلى السنة وأهل الحديث، لما اختلفوا في العقائد فغلظوا على مخالفيهم وحكموا بكفرهم ".
ـ وقال ابن الوزير في شرح الطحاوية ص432: " وقد عوقبت الخوارج أشد عقوبة، وذمّت أقبح الذم على تكفيرهم لعصاة المسلمين مع تعظيمهم في ذلك لمعاصي الله تعالى، وتعظيمهم الله تعالى بتكفير عاصيه، فلا يأمن المكفر أن يقع في مثل ذنبهم، وهذا خطر في الدين جليل، فينبغي شدة الاحتراز فيه من كل حليم نبيل ".
ـ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " لابد للمتكلم في هذه المباحث ونحوها أن يكون معه أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل،ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات.
ـ قال ابن عثيمين: " الأصل فيمن ينتسب للإسلام بقاء إسلامه حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي، ولا يجوز التساهل في تكفيره... الغالب أن من تسرع بوصف المسلم بالكفر كان معجبا بعمله محتقرا لغيره فيكون جامعا بين الإعجاب بعمله الذي قد يؤدي إلى حبوطه، وبين الكبر الموجب لعذاب الله تعالى في النار كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود عن أبي هريرة  أن النبي  قال: ( قال الله : الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار "
فالواجب قبل الحكم بالتكفير أن ينظر في أمرين:
الأمر الأول: دلالة الكتاب والسنة على أن هذا مكفر لئلا يفتري على الله الكذب.
الأمر الثاني: انطباق الحكم على الشخص المعين بحيث تتم شروط التكفير في حقه وتنتفي الموانع.. [ انظر مجموع الفتاوى لابن عثيمين 2/133 ( جمع فهد السليمان ) ].

المسألة السادسة:من فعل ناقضا من نواقض الإسلام ثم تاب بعد ذلك فهل له توبة؟
من فعل ناقضا من نواقض الإسلام ثم تاب، تاب الله عليه، فالله يقبل التوبة من جميع المذنبين سواءً كانوا مرتدين أو غيرهم، والأدلة في ذلك كثيرة منها: -
1- قوله تعالى: " وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى " [طه: 82].
2-قوله تعالى:"قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً "[ الزمر: 53 ].
3- قوله تعالى: " وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ " [ البقرة: 217 ]، ومفهوم هذه الآية أنه لو تاب قبل موته لتاب الله عليه، وأما كونه لم يتب حتى مات فهو من مات على الكفر بل ممن ازداد كفراً كما قال تعالى: 
وقوله: " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ " [ آل عمران: 90 ].

المسألة السابعة: هل نواقض الإسلام عددها عشرة فقط؟
نواقض الإسلام أكثر من عشرة نواقض لكن الشيخ ذكر عشرة نواقض لأسباب منها: أن هذه النواقض مما اتفق العلماء على كونها نواقضا للإسلام، ومنها: أن هذه النواقض الأكثر وقوعاً بين الناس، ومنها: أن هذه النواقض أشد النواقض خطرا، ولذلك خصها الشيخ بالذكر والعناية كما ذكر في نهاية النواقض.
فائدة:
الكفر أعم من الشرك، لأن الكافر قد يكون جاحدا للرب سبحانه وتعالى، لا يؤمن برب مثل فرعون والمعطلة والدهرية، وأما المشرك فإنه يؤمن بالرب ولكنه يشرك معه غيره فبين الكفر والشرك عموم وخصوص.




 
الناقض الأول:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -: [ اعلم أن نواقض الإسلام عشرة نواقض.
الأول: الشرك في عبادة الله تعالى قال الله تعالى: " إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً " [النساء: 48]، وقال: " إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ " [المائدة: 72].ومنه الذبح لغير الله كمن يذبح للجن أو للقبر، وأشهرها الشرك في عبادة الله ].
الشـرح:
المسألة الأولى: لابد للعبد أن يخاف على دينه.
إن مما ينبغي للمسلم مادام على قيد الحياة أن يخاف على دينه من الفتن والشبهات، روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة  أن النبي  قال " إنها ستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا " ومن أعظم ما يخافه المؤمن على دينه أن يرتد عن دين الإسلام فهذا إمام الحنفاء الخليل إبراهيم  يدعو ربه فيقول: " وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ "[إبراهيم: 35-36 ].
فهذا الخليل  وهو الذي كسر الأصنام بيده، وأوذي في سبيل الله من أجل ذلك وألقي في النار يخاف على نفسه أن يرتد عن التوحيد ويعبد الأصنام لأن الذين عبدوا الأصنام بشر عندهم عقول وإدراك ولم تنفعهم عقولهم ولا إدراكاتهم من النجاة من هذه الفتنة وهي عبادة الأصنام فأشركوا بالله، وها هو الخليل محمد  أكمل الناس إيماناً وتوحيداً يخاف على نفسه فيدعو ويقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " فتقول له عائشة أم المؤمنين: تخاف على نفسك؟ فيقول الرسول : " يا عائشة، وما يؤمنني وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن " رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني، فخاف عليه الصلاة والسلام على دينه فلجأ إلى الله بأن يثبته على دينه، فإذا كان حال الخليلين هكذا فمن كان دونهما من باب أولى أن يخاف على نفسه من الشبهات والفتن كيف لا ونحن في خضم فتن عظيمة، وشبهات مضللة، ودعاة سوء وأمواج تتلاطم تضل الجاهل وتربك المتعلم وهذا يحمل الإنسان على أن يخاف على دينه ويعتني بنفسه، أعاذنا الله وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

قول المصنف: " الشرك في عبادة الله "
المسألة الثانية: الشرك بالله. تعريفه وعواقبه.
الشرك لغة: يقال شاركت فلاناً صرت شريكه، والشرك يكون بمعنى الشرك وبمعنى النصيب وجمعه أشراك.
واصطلاحاً: جعل شريك لله في أولوهيته أو ربوبيته أو أسماءه وصفاته، والذي يغلب الإشراك فيه الألوهية.
ـ وهو أعظم فتنة يجب أن يخافها المسلم على دينه ولا شك أن الشرك الأكبر أعظم ذنب عصي الله به وهو أشد نواقض الإسلام جرماً وهو أصل كل شر وجماعه ومن عواقبه ما يلي:
أولاً: أنه يجعل صاحبه كافراً مشركاً.
ثانياً: أن صاحبه مخلدٌ في النار فقد حرم الله عليه الجنة. قال تعالى: " إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ " [المائدة: 72].
  ثالثاً: أن الله تعالى أخذ على نفسه ألا يغفر للمشرك إلا أن يتوب.
قال تعالى:"إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً " [النساء: 48]، فلا يكفِّر الشركَ شيءٌ من أنواع المكفرات المعروفة إلا أن يتوب المشرك من شركه فهو محروم من المغفرة.
رابعاً: أن الشرك يحبط جميع الأعمال قال تعالى: " لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ " [الزمر: 65].
وقال: " وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ " [الأنعام: 88].
خامساً: أنه أعظم ذنب فهو الظلم العظيم فقد روى أحمد والبخاري ومسلم حديث عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية: " الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ " [الأنعام: 82]، شق ذلك على أصحاب رسول الله  وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله  ليس كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه:" يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ " [لقمان: 13].
وروى أحمد والشيخان أيضاً حديث عبد الله بن مسعود قال: " سألت رسول الله أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت: إن ذلك لعظيم.... " الحديث.
سادساً: أن الشرك يبيح دم المشرك وماله روى مسلم في صحيحه حديث أبي هريرة  أن النبي  قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله " فلا يعصم المال والدم إلا التوحيد، وأما الشرك فإنه يبيح الدم والمال، فالمشرك حلال الدم والمال إلا ما استثناه الشرع كأهل الذمة والعهد.
المسألة الثالثة: أقسام الشرك بالله.
* اختلف أهل العلم في أقسام الشرك على قولين:
القول الأول: أن أقسام الشرك قسمان: شرك أكبر، وشرك أصغر.
والقول الثاني: أن أقسام الشرك ثلاثة: شرك أكبر وشرك أصغر وشرك خفي.
والصواب والله أعلم القول الأول وأنهما قسمان: شرك أكبر، وشرك أصغر.
قال ابن القيم في مدارج السالكين( 1/368 ): " أما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر، فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله نداً يحبه كما يحب الله ".
وأما الشرك الخفي فمنه ما هو أكبر ومنه ما هو أصغر.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله في مجموع فتاواه ومقالاته( 1/46 ): " وهناك شرك يقال له: الشرك الخفي.... والصواب: أن هذا ليس قسماً ثالثاً، بل هو من الشرك الأصغر، وهو قد يكون خفياً لأنه يقوم بالقلوب كما في هذا الحديث، وكالذي يقرأ ويرائي، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يرائي، أو يجاهد يرائي أو نحو ذلك.... وقد يكون خفياً وهو من الشرك الأكبر كاعتقاد المنافقين فإنهم يراؤون بأعمالهم الظاهرة وكفرهم خفي لم يظهروه.... وبما ذكرنا يعلم أن الشرك الخفي لا يخرج عن النوعين السابقين: شرك أكبر وشرك أصغر.
إذن الشرك ينقسم إلى قسمين:
1- شرك أكبر           2- شرك أصغر.
أولاً: الشرك الأكبر:
وهو مراد المصنف رحمه الله، وهو تسوية غير الله بالله في شيء من خصائص الله، ويدل على هذا التعريف قوله تعالى: " تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ " [الشعراء: 97-98]، وقوله تعالى: "  ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ " [الأنعام: 1]، وما رواه الشيخان من حديث ابن مسعود أن النبي  قال في جواب من سأله أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: " أن تجعل لله نداً وهو خلقك ".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاستقامة( 1/344 ): " أصل الشرك أن تعدل بالله تعالى مخلوقاته في بعض ما يستحقه وحده، فإنه لم يعدل بالله أحد من المخلوقات في جميع الأمور، فمن عبد غيره أو توكل عليه فهو مشرك ".
قال ابن القيم في نونيته:
والشرك فاحذره فشرك ظاهر            ذا القسم ليس بقابل الغفران
وهو اتخاذ الند للرحمن  أيـا            كان من حجر ومن إنسـان
يدعوه أو يرجوه ثم يخـافه              ويحبه كمحبة الـرحمن

وعرفه الشيخ السعدي فقال: " إن حدّ الشرك الأكبر وتفسيره الذي يجمع أنواعه وأفراده أن يصرف العبد نوعاً أو فرداً من أفراد العبادة لغير الله، فكل اعتقاد أو قول أو عمل ثبت أنه مأمور به من الشارع فصرفه لله وحده توحيد وإيمان وإخلاص، وصرفه لغيره شرك وكفر فعليك بهذا الضابط للشرك الأكبر الذي لا يشذ عنه شيء ".[انظر القول السديد(43)، وانظر الحق الواضح المبين (59) ].  
فالشرك قد يكون في الاعتقاد وقد يكون في الأعمال وقد يكون في الأقوال.
* أنواع الشرك الأكبر:
النوع الأول: شرك في الربوبية.
ـ ويكون بالاعتقاد كمن يعتقد أن هناك من يخلق أو يحيي أو يميت أو يملك أو يتصرف في هذا الكون أحد مع الله، لأن الخلق والإماتة والإحياء والتصرف والملك من خصائص الرب سبحانه فلا تجعل لغيره.
ويكون شرك الربوبية في الأعمال كمن يعلق التمائم أو يلبس الحلقة ونحوها ويعتقد أنها بذاتها محصلة للمقصود من التأثير من دون الله تعالى.
قال ابن عثيمين في القول المفيد على كتاب التوحيد( 1/207 ): " إن اعتقد لابسها أنها مؤثرة بنفسها دون الله فهو مشرك شركاً أكبر في توحيد الربوبية لأنه اعتقد أن مع الله خالقاً غيره ويكون شرك الربوبية في الأقوال كمن يقول بوحدة الوجود فيزعمون أن الله تعالى هو عين المخلوق، أو من يقول بإنكار الخالق .   
النوع الثاني: شرك في الألوهية.
ـ ويكون بالاعتقاد كمن يعتقد أن هناك من يطاع طاعة مطلقة مع الله فيتبعونهم في ذلك حتى لو أحلُّوا ما حرم الله أو حرموا ما أحل الله، ومنه أيضاً الشرك بالله في المحبة والتعظيم كمن يحب مخلوقاً كمحبة الله تعالى وهو الشرك الذي قال الله فيه " وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ " [البقرة: 165]، ولذلك قال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم " تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ " [الشعراء: 97-98]، لأنهم ساووا آلهتهم بالله تعالى في الحب والتأليه والخضوع لهم والتذلل.
فمن اعتقد أن لأحد من الناس سواءً كانوا علماء أو حكاماً أو غيرهم حقاً في التشريع ( التحليل والتحريم ) من دون الله أو مع الله فقد أشرك مع الله إلهاً آخر، وقال الله  في أولئك: " أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ " [الشورى: 21]، وهذا أيضاً يسمى شرك الطاعات.
فائدة: والطائع لمن أحل ما حرم الله وحرم ما أحل الله لا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يطيعه في ذلك مع علمه بتبديله لحكم الله ومخالفته للرسل فيعتقد مع ذلك تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله إتباعاً له فهذه الحالة شرك أكبر مخرج من الملة.
الحال الثانية: أن يطيعه في ذلك مع اعتقاده تحريم ما حرمه الله وتحليل ما أحل الله ولكن طاعته له في ذلك عن هوى وعصيان مع اعترافه بذنبه وأنه عصى الله في ذلك فهذا حاله حال أهل الذنوب والمعاصي.(انظر مجموع فتاوى ابن تيمية 7/70 ).
ـ وقد يكون شرك الألوهية في الأعمال كذلك كمن يصلي لغير الله أو يركع ويسجد لغير الله، أو يذبح لغير الله كأن يذبح للجن أو للقبر كما ذكر المصنف وسبق أن هذا النوع وهو شرك الألوهية أغلب أنواع التوحيد الثلاثة انتشاراً. فمن جعل شيئاً من العبادة لمخلوق كائناً من كان، فقد أشرك بالله تعالى في عبادته، واتخذ مع الله نداً يصرف العبادة إليه.
ـ وقد يكون شرك الألوهية في الأقوال كمن يدعو غير الله سواءً كان دعاء عبادة أو دعاء مسألة أو يستغيث بغير الله أو يستعين بغير الله أو يستعيذ بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله  فقد وقع في الشرك سواءً كان هذا الغير نبياً أو ولياً أو ملكاً أو جنياً أو غير ذلك من المخلوقات. ولهذا قال الله تعالى عن الذين يدعون غيره: " فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ " [العنكبوت: 65]، لأنهم في حال الرخاء والنجاة يدعون غير الله  فسماهم مشركين، وهذا النوع يسمى شرك الدعوة، أو شرك الدعاء، والدعاء عبادة عظيمة لا يجوز صرفها لغير الله، فمن دعا الله وهو يريد بالدعاء طلب نفع أو دفع ضر فهذا الدعاء يسمى ( دعاء مسألة ) ومن دعا الله وهو يريد بالدعاء الخضوع والانكسار والذل بين يدي الله  شأنه فهذا الدعاء يسمى ( دعاء عبادة ) والدعاء بنوعيه دعاء المسألة ودعاء العبادة لا يجوز صرفه لغير الله تعالى والدعاء أعظم العبادات وأفضل القربات قال تعالى " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ " [البقرة: 186] وقال آمراً بدعائه وسؤاله: " وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ " [غافر: 60] وجاء في مسند الإمام أحمد ورواه أهل السنن من حديث بشير أن رسول الله  قال: " إن الدعاء هو العبادة " ثم قرأ " وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ".
قال ابن القيم في مدارج السالكين( 1/353) مبيناً شناعة هذا الشرك وعظمه: " ومن أنواعه ـ أي الشرك الأكبر ـ طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، فضلاً عمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها، وهذا من جهله بالشافع، والمشفوع له عنده ".
النوع الثالث: شرك في الأسماء والصفات.
ـ ويكون بالاعتقاد كمن يعتقد أن هناك من يعلم الغيب مع الله تعالى الله عن ذلك علوَّاً كبيرا، فالله  من صفاته أنه علام الغيوب، فمن اعتقد أن هناك من يعلم الغيب مع الله فقد أشرك وهذا يكثر لدى بعض الفرق المنحرفة كالرافضة وغلاة الصوفية والباطنية عموماً، حيث يعتقد الرافضة في أئمتهم أنهم يعلمون الغيب وكذلك يعتقد الباطنية والصوفية في أوليائهم نحو ذلك، وكذلك من يعتقد أن هناك من يرحم كالرحمة التي تليق بالله  إذ أن الرحمة صفة من صفاته جل شأنه والرحمن اسم من أسمائه تقدست أسماؤه فمن اعتقد أن غير الله يرحم كرحمة الله التي تليق بجلاله وذلك بأن يغفر الذنوب ويعفو عن عباده ويتجاوز عن السيئات فقد أشرك لأنه ساوى الخالق بالمخلوق تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وقد يكون شرك الأسماء والصفات في الأعمال أيضاً كمن يتعاظم على الخلق مضاهاة بالله تعالى، وتشبها بصفاته التي منها صفة العظيم.
قال ابن القيم في الجواب الكافي صـ ( 202 ): " فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم والخضوع والرجاء، وتعليق القلب به خوفاً ورجاء والتجاء واستعانة، فقد تشبه بالله ونازعه في ربوبيته وإلهيته ".
ـ وقد يكون شرك الأسماء والصفات في الأقوال أيضاً كمن يطلق اسم الرحمن أو الأحد أو الصمد على غير الله تعالى أو يسمى الأصنام بها.
* هذه أنواع الشرك الأكبر في أنواع التوحيد الثلاثة الربوبية والألوهية والأسماء والصفات ذكرتها على وجه التمثيل لا على وجه العد والحصر ومرجع ذلك كله تسوية غير الله بالله في شيء من خصائص الله تعالى، ومن أهل العلم من يقسم الشرك إلى أربعة أقسام ( وهي داخلة في الأقسام السابقة ) إلا أن التقسيم السابق باعتبار أنواع التوحيد الثلاثة، ومن قسمها إلى أربعة أقسام قسمها باعتبار أن أنواع الشرك الأكبر كثيرة ومدارها على أربعة أنواع كما ذكر ذلك في كتاب مجموعة التوحيد صـ ( 5 ) وهذه الأنواع الأربعة هي: ـ
النوع الأول: شرك الدعوة أو الدعاء.
وهو أن يدعو العبد غير الله كدعاء الله سواء كان دعاء عبادة أو دعاء مسألة، وسبق توضيح هذا النوع تحت شرك الألوهية في الأقوال، فمن دعا غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله كان مشركاً قال تعالى: " وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ " [المؤمنون: 117].
النوع الثاني: شرك النية والإرادة والقصد.
وهو أن يقصد ويريد وينوي بعمله أصلاً غير الله ، ويدل على هذا النوع من الشرك قوله تعالى: " مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ " [هود: 15-16] والأصل عند ورود إحباط العمل في القرآن أن سببه الشرك والكفر، وجعل هذا النوع شركاً أكبر محمول على من كانت جميع أعماله مراداً بها غير وجه الله، أما من طرأ عليه الرياء في عمل أصله لله فهو شرك أصغر وسيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.
النوع الثالث: شرك الطاعة.
وهو مساواة غير الله بالله في التشريع والحكم ( أي في التحليل والتحريم ) وسبق توضيح هذا النوع تحت شرك الألوهية في الاعتقاد، ومما يجدر التنبيه عليه أن هذا النوع من الشرك وهو شرك الطاعة ربما يقع من العالم الذي اتبع هواه وأطاع غير الله من حاكم أو والٍ أو صاحب أو جاه في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله طمعاً في جاه أو متاع أو سلطان أو رئاسة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى( 35/372،373 ): " ومتى ترك العالم ما علمه من كتاب الله وسنة رسوله  واتبع حكم الحاكم المخالف لحكم الله ورسوله كان مرتداً كافراً يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة قال تعالى: " المص (1) كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (3) " [ الأعراف 1-3 ].
ولو ضرب وحبس وأوذي بأنواع الأذى ليدع ما علمه من شرع الله ورسوله الذي يجب إتباعه واتبع حكم غيره كان مستحقاً لعذاب الله بل عليه أن يصبر وإن أوذي في الله فهذه سنة الأنبياء وأتباعهم، قال تعالى: " الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2)وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) "
[ العنكبوت 1-3 ].
النوع الرابع: شرك المحبة.
وهو أن يحب مع الله غيره كمحبة الله أو أشد من ذلك، وسبق توضيح ذلك أيضاً تحت شرك الألوهية، كمن يحب آلهته من صنم ووثن أو قبر وضريح فيغضب إذا امتهنت وأهينت أشد من غضبه لله، أو يُسر لها أشد من سروره لله.
فائدة: قال ابن القيم في أقسام المحبة كما في الجواب الكافي (1/134 ): " ها هنا أربعة أنواع من الحب، يجب التفريق بينهما، وإنما ضل من ضل بعدم التمييز بينهما: ـ
أحدها: محبة الله، ولا تكفي وحدها في النجاة من عذابه والفوز بثوابه فإن المشركين وعباد الصليب واليهود وغيرهم يحبون الله.
الثاني: محبة ما يحبه الله، وهذه هي التي تدخله في الإسلام وتخرجه من الكفر وأحب الناس إلى الله، أقومهم بهذه المحبة وأشدهم فيها.
الثالث: الحب لله فيه، وهي من لوازم محبة ما يحب الله ولا يستقيم محبة ما يحب الله إلا بالحب فيه وله.
الرابع: المحبة مع الله، وهي المحبة الشركية وكل من أحب شيئاً مع الله لا لله ولا من أجله ولا فيه فقد اتخذه نداً من دون الله وهذه محبة المشركين " أ ـ هـ.
وقال رحمه في كتاب الروح( 1/254 ): " والفرق بين الحب في الله والحب مع الله وهذا من أهم الفروق وكل أحد محتاج بل مضطر إلى الفرق بين هذا وهذا فالحب في الله هو من كمال الإيمان والحب مع الله هو عين الشرك " أ ـ هـ.
ثانياً: الشرك الأصغر.                                                                                                               وهو ما ورد في الشرع أنه شرك ولم يصل إلى الشرك الأكبر، وهو وسيلة إلى الشرك الأكبر وهو بلا شك ينقص التوحيد ولا يخرج مرتكبه من الإسلام فلا يخلد في النار.
 ـ وهو أيضاً يقع في الربوبية كلبس حلقة أو خيط لرفع البلاء ودفع الضر ويقع في الألوهية كالحلف بغير الله ويقع في الأسماء والصفات كقول ( ما شاء الله وشئت ) وسيأتي توضيح ذلك.                                                                    وللشرك الأصغر دلائل وعلامات يعرف بها من نصوص الشرع منها:                                                       - تحديده بالنص أنه أصغر: كما جاء في مسند أحمد من حديث محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا وما الشرك الأصغر يارسول الله؟ قال: الرياء "                                                 - أن يأتي لفظ الشرك منكراً من غير تعريف بـ (أل): كما جاء عند أحمد وأبي داود والترمذي من حديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الطيرة شرك ثلاثاً، وما منَّا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل ".                                                   – فهم الصحابة له بأنه شرك أصغر لا أكبر مخرج من الملة.                                                                            – ما يعرف عند جمع النصوص ومقارنتها أنه شرك أصغر.                                                                                                        
* والشرك الأصغر على قسمين:
الأول: شرك أصغر ظاهر.
وهو ما يقع في الأقوال والأفعال، فالنوع الأول وهو شرك الألفاظ أو الأقوال مثاله الحلف بغير الله تعالى.
ويدل على ذلك ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث سعد بن عبيدة قال: سمع ابن عمر رجلاً يحلف لا والكعبة فقال له ابن عمر: إني سمعت رسول الله  يقول: " من حلف بغير الله فقد أشرك ".
وجاء في الصحيحين أن النبي  قال: " ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت " لأن الحلف لا يكون إلا بالله أو صفاته، ولا يجوز الحلف بغيره، وإن اعتقد أن المحلوف به بمنزلة الله في العظمة فهذا شرك أكبر كما سبق وإلا فهو شرك أصغر.
قال الألباني في السلسلة الصحيحة( 5/71 )بعدما نقل كلاماً للطحاوي في إثبات أن الحلف بغير الله شرك أصغر: " يعني والله أعلم أنه شرك لفظي وليس شركاً اعتقادياً، والأول تحريمه من باب سدّ الذرائع، والآخر محرم لذاته، وهو كلام وجيه متين " أ. هـ.
ومن الشرك الأصغر في الألفاظ كذلك قول ( ما شاء الله وشئت ) ويدل على ذلك ما رواه أحمد وابن ماجه والنسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلاً أتى النبي  فكلمه فقال: ما شاء الله يعني وشئت، فقال: " ويلك أجعلتني والله عِدلاً، قل: ما شاء الله وحده " وفي رواية " أجعلتني لله نداً، قل: ما شاء الله وحده " فالحق أن يقول: ما شاء الله وحده أو ما شاء الله ثم شئت ومثله لولا الله ثم فلان، ففي قول النبي  " أجعلتني لله نداً " دليل على أن قول ما شاء الله وشئت، شرك أصغر إذ أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله، قال تعالى: " وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ " [التكوير: 29].
والأصل في هذا الشرك أنه شرك أصغر وقد يصل إلى الشرك الأكبر وذلك إذا اعتقد أنه يساوي الله  في المشيئة.
قال شيخنا ابن عثيمين في القول المفيد (2/378 ): " فإن اعتقد أنه يساوي الله  في التدبير والمشيئة فهو شرك أكبر، وإن لم يعتقد ذلك واعتقد أن الله سبحانه وتعالى فوق كل شيء فهو شرك أصغر.
وهناك من الألفاظ ما يشابه ذلك ويوقع في الشرك الأصغر، وما أروع ما قاله الإمام ابن القيم في الجواب الكافي صـ ( 199 ) بعدما ذكر الحديث السابق حيث قال: " فكيف من يقول: أنا متوكل على الله وعليك، وأنا من حِسْب الله وحسبك، وما لي إلا الله وأنت، وهذا من الله ومنك، وهذا من بركات الله وبركاتك، والله لي في السماء وأنت لي في الأرض، ويقول: والله وحياة فلان، أو يقول: نذراً لله ولفلان، وأنا تائب لله ولفلان، أو أرجو الله وفلاناً، ونحو ذلك؟ فوازن بين هذه الألفاظ وبين قول القائل: ما شاء الله وشئت، ثم انظر أيهما أفحش؟ يتبين لك أن قائلها أولى بجواب النبي  لقائل تلك الكلمة، وأنه إذا كان قد جعله نداً لله بها، فهذا قد جعل من لا يداني رسول الله  في شيء من الأشياء، بل لعله أن يكون من أعدائه، نداً لرب العالمين " أ.هـ.

وأما النوع الثاني وهو الشرك في الأفعال والأعمال. فمثاله: من يعلق التمائم والقلائد خوفاً من العين أو لرفع البلاء أو دفع الضر أو يلبس حلقة أو خيطاً لرفع البلاء ودفع الضر، فيجعل هذه القلائد والتمائم ولبس الخيط والحلقة أسباباً ظاهرة لدفع العين والضر ورفع البلاء التي لم يثبت كونها سبباً لا شرعاً ولا حساً وهذا نوع من الشرك الأصغر، ويدل على ذلك ما رواه أحمد من حديث عقبة مرفوعاً: " من تعلق تميمة فقد أشرك " فقد جعل هذه أسباباً لرفع البلاء ودفع الضر ولم يجعلها أسباباً في شرعه ولم يثبت ذلك لنا بالحس الظاهر فقد وقع في الشرك الأصغر بفعله هذا وأما إن اعتقد أنها تدفع الضر وترفع البلاء بنفسها فهذا شرك أكبر لأنه ساواها بالله في دفع الضر ورفع البلاء.
قال الشيخ ابن عثيمين في القول المفيد( 1/165 ): " ولبس الحلقة ونحوها إن اعتقد لابسها أنها مؤثرة بنفسها دون الله، فهو مشرك شركاً أكبر في توحيد الربوبية، لأنه اعتقد أن مع الله خالقاً غيره، وإن اعتقد في شيء أنه سبب، ولكنه ليس مؤثراً بنفسه، فهو مشرك شركاً أصغر، لأنه لما اعتقد أن ما ليس بسبب سبباً، فقد شارك الله تعالى في الحكم لهذا الشيء بأنه سبب، والله تعالى لم يجعله سبباً. وطريق العلم بأن الشيء سبب:
إما عن طريق الشرع، وذلك كالعسل " فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ " [النحل: 69]،وكقراءة القرآن فيها شفاء للناس، قال تعالى: " وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ " [الإسراء: 82]
وإما عن طريق القدر، كما إذا جربنا هذا الشيء فوجدناه نافعاً في هذا الألم أو المرض، ولكن لابد أن يكون أثره ظاهراً مباشراً كما لو اكتوى بالنار فبرئ بذلك مثلاً، فهذا سبب ظاهر بيّن ".
ومن أمثلة الشرك الأصغر بالأعمال أيضاً من يتمسح بشيء لم يجعل الله فيه البركة، كتقبيل أبواب المساجد، والتمسح بأعتابها، والاستشفاء بتربتها، ومثله التمسح بجدران الكعبة ومقام إبراهيم طلباً للبركة، لأن طلب البركة لا تكون إلا بأمر شرعي معلوم.
القسم الثاني: شرك أصغر خفي.
وهو الشرك في النيات والمقاصد والإرادات، وهو على نوعين: ـ
النوع الأول: ما يكون رياء.
والرياء قسمان: ـ
1- شرك أكبر: وهو رياء المنافقين كما قال تعالى: " إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً " [النساء: 142].
2- شرك أصغر: كأن يعمل عملاً مما يتقرب به إلى الله  فيُحسن عمله من صلاة أو قراءة لأجل أن يمدح ويثنى عليه، ويدل على ذلك ما رواه أحمد في مسنده من حديث محمود بن لبيد أن رسول الله  قال: " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء ".
وهذا النوع من الشرك وهو الرياء قلَّ من يسلم منه نسأل الله السلامة والعافية وللشيطان فيه مداخل خفية حتى على أهل العبادة والزهادة  والعلم.
ـ قال ابن القيم رحمه الله: " فذلك البحر الذي لا ساحل له وقلّ من ينجو منه، فمن أراد بعمله غير وجه الله ونوى شيئاً غير التقرب إليه وطلب الجزاء منه فقد أشرك في نيته وإرادته " أ. هـ.
وقال بعض أهل المعرفة في هذا الباب: " هو من أضر غوائل النفس وبواطن مكائدها، يبتلى به العلماء والعباد والمشمرون عن ساق الجد لسلوك طريق الآخرة، فإنهم مهما قهروا أنفسهم وفطموها عن الشهوات، وصانوها عن الشبهات، عجزت نفوسهم عن الطمع في المعاصي الظاهرة، وطلبت الاستراحة إلى إظهار العلم والعمل، فوجدت مخلصاً من مشقة المجاهدة إلى لذة القبول عند الخلق، ولم تقنع باطلاع الخالق، وفرحت بحمد الناس، ولم تقنع بحمد الله وحده، فأحبت مدحهم وتبركهم بمشاهدته وخدمته وإكرامه وتقديمه في المحافل، فأصابت النفس بذلك أعظم اللذات وأعظم الشهوات وهو يظن أن حياته بالله وبعبادته، وإنما حياته هذه الشهوة الخفية التي تعمى عن دركها العقول النافذة، وقد أثبت اسمه عند الله من المنافقين وهو يظن أنه عند الله من عباده المقربين " أ ـ هـ.
ـ ولما كثر هذا النوع من الشرك بين الناس وهو الرياء فقدت حلاوة الإيمان في كثير من العبادات ولا حول ولا قوة إلا بالله لأن الرياء ضد الإخلاص الذي هو روح العبادة ولبُّها بل شرطها الذي لابد منه مع المتابعة للنبي  في ذلك، بل ربما وجد من الناس من هو أشد حرماناً من ذلك فأصبح يرائي بما لا يعمل ولذا قال أحد السلف: " أدركنا أقواماً يراءون بما يعملون فما لنا نرى أقواماً يراءون بما لا يعلمون " ولما دبّ هذا الداء في قلوب الكثير كان لزاماً على من ابتلي بذلك أن يتدارك نفسه ويجاهدها على الإخلاص والنجاة من الضد وهو الرياء، ولقد سأل خير القرون وهم الصحابة رضوان الله عليهم رسول الله  عن النجاة من هذا الداء فأجابهم بأبي هو وأمي عليه أفضل الصلاة والتسليم.

قال ابن القيم رحمه الله في معرض كلامه عن الشرك في العبادة: " ولكن لا يخص الله في معاملته وعبوديته، بل يعمل لحظ نفسه تارة، ولطلب الدنيا تارة، ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق تارة، فلله من عمله وسعيه، ولنفسه وحظه وهواه نصيب، وللشيطان نصيب، وللخلق نصيب، وهذا حال أكثر الناس. وهو الشرك الذي قال فيه النبي   فيما رواه ابن حبان في صحيحه ": " الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة ". قالوا: كيف ننجو منه يا رسول الله؟ ! قال: " قل اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم ". فالرياء كله شرك...... " أ ـ هـ.
النوع الثاني: ما يكون سمعة.
كأن يعمل عملاً لله ثم يحدث الناس ويسمع بعمله، فيعمل العمل ليسمعه الناس فيكون القصد لغير الله، ويدل على ذلك ما جاء في الصحيحين أن النبي  قال: " من سمَّع سمّع الله به ومن يراءى يراءى الله به ".
* العمل إذا خالطه الرياء لا يخلو من حالات: ـ
 الحالة الأولى: أن ينشئ العبد العمل من أصله لغير الله، كأن لا يريد بعمله إلا الدنيا، فهذا العمل عمل المنافقين الذين قال الله فيهم: " وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً " [النساء: 142]  فهذا العمل لا يشك مسلم بأنه حابط وأن صاحبه يستحق المقت والعقوبة من الله .
الحالة الثانية: أن يكون العمل لله ويشاركه الرياء من أصله.
فهذا عمله باطل كما هو ظاهر النصوص الصريحة فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة ؛ قال:قال رسول الله : قال الله تعالى: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري، تركته وشركه ".
الحالة الثالثة: أن يكون أصل العمل لله ثم طرأت عليه نية الرياء فهذا ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يدافعه فهذا لا يضره.
مثاله: رجل صلى ركعة واحدة، ثم جاء أناس في الركعة الثانية، فحصل في قلبه شيء بأن أطال الركوع أو السجود أو تباكى وما أشبه ذلك، فإن دافعه فإنه لا يضره لأنه قام بمجاهدته.
الثاني: أن يسترسل معه فهو باطل، ولكن هذا البطلان هل يمتد لجميع العبادة أم لا؟ لا يخلو من حالين:
الأولى: أن يكون آخر العبادة مبنياً على أولها، بحيث لا يصح أولها مع فساد آخرها، فهذه كلها فاسدة كالصلاة مثلاً فحينئذٍ تبطل الصلاة كلها إذا طرأ عليها الرياء في أثناءها ولم يدافعه.
الثانية: أن يكون آخر العبادة منفصلاً عن أولها، بحيث يصح أولها دون آخرها، فما كان قبل الرياء فهو صحيح وما كان بعده فهو باطل، كمن عنده مائة ريال، فتصدق بخمسين بنية خالصة، ثم تصدق بخمسين بقصد الرياء، فالأولى مقبولة والثانية غير مقبولة.[ انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب، وانظر القول المفيد لشيخنا ابن عثيمين 1/117 ].

المسألة  الرابعة: هل الشرك الأصغر يُغفر ويكون تحت المشيئة أم أنه لا يغفر إلا بالتوبة كالشرك الأكبر.
والمقصود: هل مكفرات الذنوب تكفر الشرك الأصغر أم لابد من التوبة؟ على قولين: ـ
القول الأول: أنه لا يُغفر إلا بالتوبة، ولكن صاحبه لا يحكم بكفره ولا يُخلَّد في النار بل مآله إلى الجنة.
واستدلوا: بعموم قوله تعالى: " إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ " [النساء: 48].
واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: " وأعظم الذنوب عندالله الشرك به وهو سبحانه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء والشرك منه جليل ودقيق وخفي وجليٌّ " [ انظر جامع الرسائل ( 2/254 ) ]، وقال في الرّد على البكري صـ 146: " وقد يُقال الشرك لا يُغفر منه شيء لا أكبر ولا أصغر على مقتضى القرآن وإن كان صاحب الشرك ـ أي الأصغر ـ يموت مسلماً لكن شركه لا يُغفر له بل يُعاقب عليه وإن دخل بعد ذلك الجنة " وأيضاً لشيخ الإسلام كلام يوحي بأنه لم يجزم بهذا القول وأن الشرك الذي لا يغفره الله هو الشرك الأكبر.
والقول الثاني: أنه تحت المشيئة ويُغفر بغير التوبة.
واستدلوا: بقوله تعالى: " إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ " [المائدة: 72].
فقالوا: أنه بإجماع العلماء أن الشرك الأصغر لا يدخل تحت هذه الآية ولا يدخل في قوله تعالى: " لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ " [الزمر: 65] فلا يحبط الأعمال إلا الشرك الأكبر وهو المراد في هذه الآية بالإجماع، فكذلك هو المراد بقوله تعالى: " إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ..... " ولأن الموازنة بين الحسنات والسيئات يكون فيما دون الشرك الأكبر من السيئات، لأن الشرك الأكبر لا موازنة بينه وبين غيره فهو يحبط العمل فلا يبقى معه عمل ينفع.
وهذا القول هو ظاهر اختيار الإمام ابن القيم قال في إغاثة اللهفان( 1/59 ): " فأما نجاسة الشرك فهي نوعان: نجاسة مغلظة ونجاسة مخففة،فالمغلظة الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله فإن الله لا يغفر أن يشرك به والمخففة الشرك الأصغر كيسير الرياء "
وعلى كل حال يجب الحذر من الشرك مطلقاً لأن عموم قوله تعالى: " إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ " يحتمل دخول الشرك الأصغر فيه، ولكل قول حظّ من النظر في أدلته على مسألة دخول الشرك الأصغر في الآية أم لا نسأل الله السلامة والعافية.

المسألة الخامسة: كيف الجمع بين نهي النبي  عن الحلف بغير الله وبين قول النبي : " أفلح وأبيه إن صدق ".
جاء في صحيح مسلم من طريق إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل عن أبيه عن طلحة بن عبيد الله عن النبي  في قصة الرجل النجدي الذي سأل رسول الله عن الإسلام وفي آخر الحديث أدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه فقال رسول الله : " أفلح وأبيه إن صدق " فظاهر الحديث أن النبي  حلف بأبيه فكيف الجمع بينه وبين نهيه عليه الصلاة والسلام عن الحلف بغير الله؟
الجواب من وجهين:
الوجه الأول: أن لفظ " أفلح وأبيه إن صدق " حكم عليها بعض الحفاظ بالنكارة وقالوا لا تصح لما يلي:
 1- أن مالك بن أنس تابع إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل بدون لفظة ( وأبيه ) ومالك بن أنس أوثق من إسماعيل بن جعفر وأيضاً أبو سهيل عمّ مالك بن أنس فهو أعرف به من غيره فتكون روايته مقدّمة على غيره، ولهذا أخرّ مسلم رواية إسماعيل بن جعفر وقدّم رواية مالك بن أنس لأنه يقدّم الأصح فالأصح.
قال محدث اليمن عبد الرحمن المعلمي في الأنوار الكاشفة ص 29، 230: " من عادة مسلم في صحيحه أنه عند سياق الروايات المتفقة في الجملة يقدّم الأصح فالأصح، فقد يقع في الرواية المؤخرة إجمال أو خطأ تبيّنه الرواية المقدّمة ".
2- أن إسماعيل بن جعفر قد اضطرب في الحديث فمرة يأتي بهذه اللفظة ومرة لا يأتي بها.
قال ابن حجر: قال ابن عبد البر: " هذه اللفظة غير محفوظة، وقد جاءت عن راويها هو إسماعيل بن جعفر بلفظ " أفلح والله إن صدق " قال: هذا أولى من رواية من روى عنه بلفظ: " أفلح وأبيه " لأنها لفظة منكرة تردها الآثار الصحاح، ولم تقع في رواية مالك أصلاً " أ ـ هـ.
وقال الألباني:" قوله ( وأبيه ) شاذ عندي في هذا الحديث وغيره كما حققته في الأحاديث الضعيفة ( 4992 ) " أ ـ هـ.
الوجه الثاني: أن هذه اللفظة على فرض صحتها فقد وجهها أهل العلم، فمنهم من قال أن هذا الحلف كان قبل النهي، ومنهم من قال أن هذا خاص بالنبي  ومنهم من قال أن هذا مما يجري على اللسان من غير قصد، وبهذه الاحتمالات وغيرها من التوجيهات تكون هذه اللفظة من المتشابه الذي يُردُّ إلى المُحكم وهو النهي عن الحلف بغير الله، وهذه هي طريقة الراسخين في العلم في المحكم والمتشابه أن يدعوا المتشابه ويأخذوا بالمحكم [ انظر فتاوى العقيدة للشيخ ابن عثيمين ص 173 ].
قول المصنف: " في عبادة الله ".
المسألة السادسة: تعريف العبادة.
العبادة: مأخوذة من التعبد والتذلل والخضوع الاختياري، والتقرب إلى الله بما شرعه.
وبعض العلماء يعرفها بأنها غاية الحب لله  مع غاية الذل له، وهذا تعريفها المجمل.
وأما تعريفها المفصل فكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (10/ 149 ): " العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة.... والعبادة أصل معناها الذل أيضاً، يقال: طريق معبد إذا كان مذللاً قد وطئته الأقدام، لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له ـ ثم قال ـ: ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابداً له، ولو أحبّ شيئاً ولم يخضع له لم يكن عابداً له، كما قد يحب ولده وصديقه، ولذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا الله ".
وقال ابن القيم في نونيته الكافية الشافية:
وعبادة الرحـمن غـاية حبه..........مع ذل عابده هما قطبـان
وعليهما فلك العبادة دائرٌ.......... ماقام حتى قامت القطبان
ومداره بالأمر أمر رسوله.......... لا بالهوى والنفس والشيطان

قول المصنف: " ومن ذلك دعاء الأموات "
المسألة السابعة: من أنواع الشرك دعاء غير الله.
وقول المصنف: " ومن ذلك دعاء الأموات والاستغاثة بهم " موجود في بعض النسخ دون البعض، وعلى كل حال مرّ معنا شرك الدعوة وأن من دعا غير الله سواء كان دعاء مسألة أو دعاء عبادة فقد أشرك لأن الدعاء لا يكون إلا مع محبة وتعظيم وافتقار وتذلل واعتقاد أن المدعو قادر على الاستجابة.
ويدل على ذلك: قوله تعالى: " وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ " [ الأحقاف: 5-6] وقوله تعالى: " وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ " [فاطر: 13-14].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: " فكل من غلا في حي، أو في رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان اغفر لي، أو ارحمني، أو انصرني، أو ارزقني أو أغثني، أو أجرني، أو توكلت عليك، أو أنت حسبي، أو حسبك أو نحو هذه الأقوال والأفعال، التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله تعالى، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل.
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الدرر السنية( 2/19 ): " فمن قال: يا رسول الله، أو يا عبد الله بن عباس، أو يا عبدالقادر، أو يا محجوب زاعماً أنه يقضي حاجته إلى الله تعالى، أو أنه شفيع عنده أو وسيلته إليه فهو الشرك الذي يهدر الدم، ويبيح المال إلا أن يتوب من ذلك ".

قول المصنف: " والاستغاثة بهم "
المسألة الثامنة: الاستغاثة بغير الله.
والاستغاثة: طلب العون من جلب خير أو دفع شر، وهي نوع من أنواع العبادة لا يجوز صرفها لغير الله.
ومن صرفها لغير الله فقد وقع في الشرك وسبق توضيح ذلك.
قال شيخ الإسلام في الرد على البكري ص 387: " ولا يجوز أن يستغيث بأحد من المشايخ الغائبين، ولا الميتين، مثل أن يقول: يا سيدي فلاناً أغثني، وانصرني، وادفع عني، أو أنا حسبك، ونحو ذلك، بل كل هذا من الشرك الذي حرم الله ورسوله، وتحريمه مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام ".

قول المصنف: " الذبح لغير الله كمن يذبح للجن والقبر ".
المسألة التاسعة: الذبح لغير الله.
من ذبح لغير الله كمن يذبح للصنم أو للجن أو للقبر أو للكعبة أو لشجرٍ أو لحجرٍ أو مكانٍ فقد أشرك شركاً أكبر، وذبيحته حرام سواءً كان الذابح مسلماً أو نصرانياً أو يهودياً وهذا الذابح إن كان مسلماً قبل ذلك صار بذبحه لغير الله خارجاً من الملة لأنه صرف عبادة عظيمة لغير الله.
قال ابن عثيمين في مجموع فتاواه ورسائله( 2/148 ): " الذبح لغير الله شرك أكبر، لأن الذبح عبادة كما أمر الله في قوله: " فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ " [الكوثر: 2] ".
* و الذبح من حيث حكمه الشرعي له ثلاثة أنواع: ـ
1- الذبح التعبدي: وهو إزهاق الروح بإراقة الدم على وجه مخصوص، كالأضحية والعقيقة والهدي والوفاء بالنذر، وهي إما أن تكون مستحبة كالأضحية أو واجبة كالوفاء بالنذر.
2- الذبح البدعي: وهي أن يتقرب إلى الله بإزهاق الروح بإراقة الدم ويصحب فعله أمر محدث، كأن يتقرب بجنس لم ترد به الشريعة، فيأتي في مواضع منصوص على بهيمة الأنعام فيها من غنم أو إبل أو بقر وهو يتقرب بدجاجة.
3- الذبح الشركي الأكبر: وهو أن يصرف عبادة الذبح لغير الله متقرباً له كأن يذبح للجن أو لصاحب القبر ونحوه.

تنبيه: الذبح إكراماً للضيف لا يعد من الذبح لغير الله لأنه لم يقصد بإراقته للدم التقرب للضيف بل المقصود اللحم لا إراقة الدم فإراقة الدم جاءت تبعاً لا قصداً، بخلاف الذبح الذي يذكر في أبواب التوحيد فإن إراقة الدم فيه مقصودة لغير الله فتكون قصداً لا تبعاً.
وعليه فإن الذبح عند استقبال الرجل من سلطان أو غيره على أربعة أقسام: ـ
1- شرك أكبر: إذا تقرب به إلى القادم بها.
2- بدعة: إذا تقرب إلى الله بالذبح عند مروره.
3- محرم: إذا ذبح مريداً اللحم وكان في فعله إسراف.
4- مستحب: كالذبح مريداً اللحم عند استقبال الضيف إظهار للإكرام، ولم يصاحب ذلك إسراف، والإكرام الممدوح شرعاً صفته راجعة لعادة القوم.
ـ ومن صور الشرك الأكبر الذي لابد من التنبيه عليه ( النذر لغير الله تعالى ) لأنه منتشر في بعض البلدان الإسلامية فالنذر عبادة لا يجوز صرفها لغير الله ومن نذر لغير الله فقد أشرك كمن نذر لولي صالح أو شجر أو حجر فمن فعل ذلك انسلخ من الإسلام ووقع بما وقع فيه كفار قريش قال الله تعالى عنهم: " مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى " [الزمر: 3].
وكمن يقول: لفلان عليَّ نذر، أو لهذا القبر عليّ نذر، أو لجبريل عليّ نذر يريد بذلك التقرب إليهم فقد وقع في الشرك ولا ينعقد نذره ولا يجب فيه الكفارة وعليه التوبة لأنه وقع في شرك أكبر.
المسألة العاشرة: هل الكفر والشرك بمعنى واحد أم يختلفان؟
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين: ـ
القول الأول: أنهما يختلفان فكل شرك كفر وليس كل كفر شركاً.
واستدلوا:
 1- بأن بينهما فرقاً في لغة العرب وعليه يكون بينهما فرق في الشرع لأن الشرع نزل بلغة العرب.
2- قوله تعالى: " لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ........ " [البينة: 1]
ووجه الدلالة: أن الله تعالى عطف على أهل الكتاب المشركين والعطف يقتضي الفرق والمغايرة.
3- أن من أشرك بالله فقد كفر بالأوامر التي جاءت بتوحيد الله فمن هنا صار كل مشرك كافراً، وأما الكفر فهو أعم من الشرك فمثلاً من لا يعبد إلا هواه أو غيره من المعبودات الباطلة وحدها دون الله جلّ في علاه، أو من يدعي أنه لا يعبد أحداً فهؤلاء لم يشركوا لأنهم لم يعبدوا إلا واحداً وهو معبودهم الباطل ولم يتحقق فيهم الشرك لأنهم لم يعبدوا الله حتى يكون هناك تسوية، فهنا حصل الكفر دون الشرك.
ويوضح ذلك ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في التدمرية ص 169: " فالإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده فمن استسلم له ولغيره كان مشركاً ومن لم يستسلم له كان مستكبراً عن عبادته، والمشرك والمستكبر عن عبادته كافر، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده وطاعته وحده ".
والقول الثاني: أن الكفر والشرك اسمان لمسمى واحد فهما سواء.
واستدلوا: 1- بقوله تعالى: " قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً " ثم قال: " وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً " وقالوا: أن وجه الدلالة أن هذه الأشياء المذكورة على قول المفرقين كلها كفر ومع ذلك أطلق عليها شركاً.
ونوقش هذا الاستدلال: بأن وصفه للجنة بقوله: " مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً " حيث وصفها بالدوام وهذا شرك أكبر إذ أنه لا يوصف بالدوام إلا الله سبحانه " كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ " [الرحمن: 26-27] وبهذا يسقط الاستدلال.
2- قوله تعالى: " إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ " [النساء: 48].
وقالوا: أن وجه الدلالة أن القول بالفرق بينهما يلزم منه أن الكفر يُغفر.
ونوقش هذا الاستدلال: بأننا لا نسلم أن الكفر دون الشرك فإن الكفر إن لم يكن مساوياً للشرك فهو أعظم منه، فمن جحد وجود الرب سبحانه فقد كفر ولا شك أن هذا أعظم من الشرك. فأدلت عدم غفران الشرك تستلزم عدم غفران الكفر من باب أولى.  
3- قوله تعالى:" أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ " [الجاثية: 23].
ووجه الدلالة: أنه كفره لما اتخذ إلهه هواه وهذا شرك.
ونوقش هذا الاستدلال: أن هذه الآية لا دلالة فيها إذ أن من اتخذ إلهه هواه لا يخلو من حالتين: ـ
إما أنه ينكر الرب سبحانه ويعبد هواه وحده فهذا لا يكون إلا كافراً وإما أنه يعبد الله وهواه وهذا يكون مشركاً، والآية على كلا الحالتين لم تحكِ لنا حاله هل هو مشرك أو كافر.
 والقول الأول: هو قول أبي حنيفة، والثاني: هو قول الشافعي كما حكى ذلك ابن حزم، ومال شيخ الإسلام ابن تيمية إلى القول الأول كما هو ظاهر كلامه السابق والله أعلم 
الناقض الثاني:
قال الإمام محمد بن عبدالوهاب: [من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة، ويتوكل عليهم، كفر إجماعاً].
الشـرح
المسالة الأولى: المقصود بهذا الناقض.
ما ذهب إليه بعض المشركين من أن معبوداتهم التي أشركوا بها مع الله تملك بعض التصرف في الكون، فطائفة أشركوا بتعظيمهم للموتى وأهل القبور، وطائفة بالنجوم والكواكب وطائفة بالأصنام فسوّل لهم الشيطان أنها وسائط وشفعاء يشفعون لهم عند الله في قضاء الحوائج وكشف المُلمّات وتفريج الكربات فيدعونهم ويسألونهم الشفاعة ويتوكلون عليهم، وهذا الناقض هو الذي وقع فيه مشركو قريش، حيث جعلوا مع الله وسائط تقربهم إلى الله زلفى قال الله تعالى عنهم: " مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى " [الزمر: 3] وقال تعالى " وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ " [يونس: 18] مع أنهم يقرون بربوبية الله فيقرون أنه الخالق ولا يقدر على الخلق والرزق والأحياء والإماتة إلا الله، ومع هذا لم يصيروا مسلمين موحدين بل كانوا مشركين.
وهذا الناقض أيضاً وقع فيه كثير ممن ينتسب للإسلام في هذا العصر فجعلوا بينهم وبين الله وسائط كما فعل كفار قريش فعظموا الأضرحة والمزارات وتقربوا إليها بالذبح وسألوها قضاء الحوائج لتشفع لهم عند الله زاعمين أن هذه الأضرحة والمزارات وسائط بينهم وبين الله تعالى، قال تعالى: " قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ " [سبأ: 22-23] ومن عَظَّم هذه الوسائط فذبح لها ودعاها بأن سألها قضاء الحوائج فجعلها وسائط بينه وبين الله فقد وقع في الكفر والشرك لأنه شبه الخالق بالمخلوق. 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى ( 1/126 ): " وإن أثبتم وسائط بين الله وبين خلقه كالحجّاب الذين بين الملك ورعيته بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، فالله إنما يهدي عباده ويرزقهم بتوسطهم، فالخلق يسألونهم، وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك الحوائج للناس، لقربهم منهم والناس يسألونهم، أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك، لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب للحوائج. فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك، يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهؤلاء مشبهون لله، شبهوا المخلوق بالخالق وجعلوا لله أنداداً ".
المسألة الثانية: ما الفرق بين الناقض الأول  والناقض الثاني؟
الناقض الثاني نوع من أنواع الناقض الأول، وداخل فيه، فالأول عام والناقض الثاني خاص وخصّه الشيخ بالذكر لكثرة وقوعه ممن ينتسب للإسلام من عبادة الأضرحة وعبادة القبور والأولياء والصالحين.
قول المصنف رحمه الله: [من جعل بينه وبين الله وسائط].
المسألة الثالثة: الوسائط تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: بمعنى تبليغ الرسالة.
وهي أن تجعل بينك وبين الله واسطة في تبليغ الرسالة، وهم الرسل من الملائكة والبشر فهم واسطة بين الناس والرب في تبليغ شرع الله تعالى، ومن أنكر هذه الواسطة فقد كفر بإجماع العلماء، فمن قال لا حاجة إلينا بالملائكة والرسل الذين يأتون بشرع الله نحن نتصل بالله بدونهم كما تقوله الصوفية أنهم يأخذون عن الله مباشرة بلا واسطة فهذا كفر بالإجماع لأنهم أنكروا أن شرع الله يأتي بواسطة الملائكة والرسل وقالوا نحن نأتي به مباشرة من دون واسطة.
والحق أننا لا نعرف ما جاء عن الله تعالى إلا بواسطة الرسل من الملائكة والبشر قال تعالى: " اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ " [الحج: 75] فهؤلاء الذين اصطفى الله هم واسطة بيننا وبين الله في تبليغ الرسالة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " مما أجمع عليه جميع أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى، إثبات الوسائط بين الله وبين عباده، وهم الرسل الذين بلغوا عن الله أمره وخبره، قال تعالى: " اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ " [الحج: 75] ومن أنكر هذه الوسائط فهو كافر بإجماع أهل الملل " [ انظر مجموع الفتاوى 1/122 بتصرف ].
* القسم الثاني: بمعنى الطلب والمعاونة والإعاذة وطلب الغوث والشفاعة.
كأن يجعل العبد له واسطة بينه وبين الله فيطلبه بما لا يقدر عليه إلا الله كطلب الرحمة والمغفرة ودخول الجنة وطلب الشفاء والرزق من غير الله، وطلب الشفاعة من الأموات فكل هذا من الشرك الأكبر ومن أثبت هذه الواسطة فقد كفر بإجماع العلماء وهي المقصودة في قول المصنف في هذا الناقض، قال تعالى: " وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ " [الأحقاف: 5-6] وقال تعالى: " لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ " [الرعد: 14].
قال ابن تيمية: " فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب وتفريج الكروب، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين ". [ انظر مجموع الفتاوى 1/124 ].
وملخص المقصود بالوسائط أنها على قسمين: ـ
أ ـ وسائط من أنكرها فهو كافر بإجماع المسلمين، وهي الوسائط التي بمعنى تبليغ الرسالة، وهي أن تجعل بينك وبين الله واسطة في تبليغ الرسالة، وهم الرسل من الملائكة والبشر، كما سبق بيانه.
ب ـ وسائط من أثبتها فهو كافر بإجماع المسلمين، وهي الوسائط من المخلوقين التي يجعلها بعض الناس بينهم وبين الله فيسألونهم الشفاعة ويتوكلون عليهم ويدعونهم وهي مراد المصنف رحمه الله وهذا كفر بإجماع المسلمين.
المسألة الرابعة: من جعل بينه وبين الله وسائط لا يعبدها وإنما جعلها أسباباً تقربه إلى الله.
كالذي يتخذ الوسائط لا يدعوها ولا يعبدها ولا يذبح لها ولا ينذر لها ولا يصرف لها أي نوع من أنواع العبادة فهو ليس كالذين قال الله عنهم: " مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى " [الزمر: 3] بل يعتقد أن العبادة لله ولا يعبد إلا الله لكنه يتخذ الوسائط على أنها سبب تقربه إلى الله بزعمه فيطلب من الميت عند قبره أن يدعو له فهل هذا يُعدُّ شركاً أكبر؟
القول الأول: أنه يُعدُّ من الشرك الأكبر.
والقول الثاني: أنه لا يُعدُّ من الشرك الأكبر بل هو وسيلة إليه وهي وساطة بدعيَّة، وأصحاب هذا القول لم يجعلوها من الشرك الأكبر لأن طلب الدعاء من الآخرين ليس خاصاً بالله وسبق أن في تعريف الشرك الأكبر أنه مساواة غير الله بالله في شيء من خصائص الله، فقالوا: أن طلب الدعاء من الآخرين ليس خاصاً بالله، لأنه يجوز طلبه من الحي ولو كان خاصاً بالله لما جاز طلبه من الحي لكونه خاصاً بالله، فطلبه الدعاء من الميت ليس شركاً أكبر على هذا القول واختاره ابن باز رحمه الله.
قال الشيخ عبدالعزيز بن باز في تعليقه على الفتح ( 2/575 ) عند قول مالك الدار ـ وكان خازن عمر ـ أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر رسول الله  فقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا. فأتي الرجل في المنام فقيل له: " ائت عمر...... " الحديث قال ابن باز رحمه الله: " وأن ما فعله هذا الرجل منكر ووسيلة إلى الشرك، بل قد جعله بعض أهل العلم من أنواع الشرك ".
وقال الشيخ بكر أبو زيد في كتابه تصحيح الدعاء ص ( 250 ): " سؤال حي لميت بحضرة قبره بأن يدعو الله له، مثل قول عباد القبور مخاطبين لها: يا فلان ادع الله لي بكذا وكذا. أو: أسألك أن تدعو الله لي بكذا وكذا، فهذا لا يختلف المسلمون بأنها وساطة بدعية، ووسيلة مفضية إلى الشرك، ودعاء الأموات من دون الله، وصرف القلوب عن الله تعالى، لكن هذا النوع يكون شركاً أكبر في حال ما إذا أراد الداعي من صاحب القبر الشفاعة والوساطة الشركية على حد عمل المشركين " مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى " [الزمر: 3] أ ـ هـ.
إلا أن كثيراً ممن ينتسب إلى الإسلام اليوم ممن يجعلون وسائط بينهم وبين الله لا يجعلونها مجرد وسائط بل يعبدونها وينذرون ويذبحون لها ويتبركون بترابها وأعتابها ويحجون إليها في أوقات معينة ويعكفون عندها، ويأتون بقطعان الأنعام فيذبحونها في ساحات الأضرحة يتقربون بها إلى أصحاب الأضرحة بزعمهم أنهم يقربونهم إلى الله وكل هذا شرك أكبر يخرج صاحبه من الملة وقد وقع هؤلاء فيما حذّر منه النبي  كما جاء في صحيح مسلم من حديث جندب: " إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك " فوقع هؤلاء بما وقع فيه اليهود والنصارى من قبل من البناء على القبور وكان هذا ممنوعاً في الصدر الأول من هذه الأمة في عصر القرون المفضلة حتى جاءت دولة الفاطميين الشيعة، واستولوا على مصر وغيرها من البلاد فبنوا المشاهد على القبور في مصر وغيرها، ثم تكاثرت الأضرحة في بلاد المسلمين بسبب هؤلاء الشيعة قبحهم الله فهم أول من بنى على القبور كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية.
المسألة الخامسة: شبهة وردُُّها.
وهؤلاء الذين يتخذون وسائط بينهم وبين الله  يدعونهم ويتوكلون عليهم ويطلبون منهم الشفاعة لهم شبهة يرددونها ويتمسكون بها مستدلين بها على اعتقادهم الخاطئ، ومن أبرز شبههم العريضة التي يتشبثون بها ما جاء في صحيح البخاري عن أنس بن مالك: " أن عمر بن الخطاب  كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فأسقنا قال: فيُسْقَون " ففهموا من هذا الحديث أن عمر بن الخطاب توسل بالعباس بن عبد المطلب وجعله واسطة بينه وبين الله  وهذا يدل على أن اتخاذ الوسائط جائز بدليل توسل عمر بجاه ومكانة العباس عند الله سبحانه وتعالى.
والرد على هذه الشبهة من وجوه عدة: ـ
الأول: إن من القواعد المهمة في تفسير الشريعة الإسلامية أن النصوص الشرعية يفسر بعضها بعضا وإذا نظرنا إلى توسل عمر بالعباس نجد أننا أمام أحد معنيين إما أن يكون عمر توسل بجاه العباس ومكانته عند الله سبحانه كما فهمه أصحاب هذه الشبهة وإما أن يكون أن المعنى أن عمر توسل بدعاء العباس بن عبد المطلب وهو الاعتقاد الصحيح كما سيأتي، وبالنظر إلى ما جاءت به السنة من بيان طريقة توسل الصحابة بالنبي  فأي المعنيين أقرب حينما أجدبوا وقحطوا هل كانوا يدعون ويقولون:[ اللهم بنبيك محمد وحرمته عندك ومكانته لديك أسقنا الغيث ]أم أنهم كانوا يطلبون منه الدعاء بنزول الغيث وزوال القحط؟مما لا شك فيه أن المعنى الأول ليس له وجود إطلاقاً في السنة النبوية ولا في عمل الصحابة رضوان الله عليهم.
وأما المعنى الثاني فكتب السنة مستفيضة به والأحاديث الواردة الثابتة كثيرة أيضاً فإنهم يأتون إلى النبي  ويطلبون منه أن يدعو لهم ومن ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث أنس في قصة الأعرابي الذي قام وعرض على النبي  وهو يخطب الجمعة وقال: " يا رسول الله هلك المال وجاع العيال وانقطعت السبل فادع الله لنا " فدعا لهم النبي  فسقوا فلما كانت الجمعة الأخرى جاءه أعرابي وقال " رسول الله تهدم البناء وهلكت المواشي وغرق المال فادع الله لنا " فدعا لهم النبي  بإمساك السماء، ومن ذلك أيضاً ما جاء في السنن عن عائشة – رضي الله عنها- حيث قالت: شكا الناس إلى رسول الله قحوط المطر فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ووعد الناس يوماً يخرجون فيه " ثم دعا لهم النبي  فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن هدي الصحابة في توسلهم إنما هو طلب الدعاء لهم ويشهد لذلك أيضاً قول الله تعالى: " وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً " [النساء: 64].
الثاني: لقد فسرت بعض روايات الحديث الصحيحة كلام عمر بن الخطاب    المذكور وقصده إذ نقلت دعاء العباس  استجابة لأمر عمر  فمن ذلك ما نقله الحافظ العسقلاني رحمه الله في الفتح حيث قال: " قد بين الزبير بن بكار في [ الأنساب ] صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة والوقت الذي وقع فيه ذلك فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر قال: " اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث " قال: فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس "
قال الألباني: في هذا الحديث:
أولاً: التوسل بدعاء العباس   لا بذاته كما بينه الزبير بن بكار وغيره وفي هذا ردّ واضح على الذين يزعمون أن توسل عمر كان بذات العباس لا بدعائه إذ لو كان الأمر كذلك لما كان ثمة حاجة ليقوم العباس فيدعو بعد عمر دعاء جديدا.
ثانياً: أن عمر صرح بأنهم كانوا يتوسلون بنبينا  في حياته وأنه في هذه الحادثة توسل بعمه العباس ومما لاشك فيه أن التوسلين من نوع واحد: توسلهم بالرسول  وتوسلهم بالعباس وإذا تبين للقارئ ـ مما يأتي ـ أن توسلهم به  إنما كان توسلاً بدعائه  فتكون النتيجة أن توسلهم بالعباس إنما كان توسلاً بدعائه أيضاً بضرورة أن التوسلين من نوع واحد. أما أن توسلهم به  إنما كان توسلاً بدعائه فالدليل على ذلك صريح رواية الإسماعيلي في مستخرجه على الصحيح لهذا الحديث بلفظ: " كانوا إذا قحطوا على عهد النبي  استسقوا به فيستسقي لهم فيسقون فلما كان في إمارة عمر.... " فذكر الحديث نقلته من الفتح ( 2/399 ) فقوله: " فيستسقي لهم " صريح في أنه  كان يطلب لهم السقيا من الله تعالى ففي ( النهاية ) لابن الأثير: " الاستسقاء استفعال من طلب السقيا أي إنزال الغيث على البلاد والعباد يقال: سقى الله عباده الغيث وأسقاهم والاسم السقيا بالضم واستسقيت فلاناً إذا طلبت منه أن يسقيك " إذا تبين هذا فقوله في هذه الرواية: " استسقوا به " أي بدعائه وكذلك قوله في الرواية الأولى " كنا نتوسل إليك بنبينا " أي بدعائه فلا يمكن أن يفهم من مجموع رواية الحديث إلا هذا. ويؤيده:
 ثالثاً: لو كان توسل عمر إنما هو بذات العباس أو جاهه عند الله تعالى لما ترك عمر التوسل به  بهذا المعنى لأن هذا ممكن لو كان مشروعاً فعدول عمر عن هذا إلى التوسل بدعاء العباس  أكبر دليل على أن عمر    والصحابة الذين كانوا معه كانوا لا يرون التوسل بذاته  وعلى هذا جرى عمل السلف من بعدهم " أ ـ هـ. [ مسألة التوسل للشيخ الألباني بتصرف يسير ].
وملخص الكلام أن الرد على هذه الشبهة من وجوه: ـ
1- أن الثابت عن الصحابة مع النبي  حين يصيبهم القحط وتمسك السماء أن يذهبوا إليه  و يطلبوا منه الدعاء كما في الصحيحين من حديث أنس في قصة الأعرابي الذي دخل على النبي  وهو يخطب فطلب منه الدعاء وكذلك حديث عائشة عند أبي داود، فهم يتوسلون بدعاء النبي  لا بجاهه وكذلك هو المقصود بالتوسل بالعباس فإنه توسل بدعائه لا بجاهه لأن عمر ذكر في الحديث توسلهم بالنبي  وتوسلهم بالعباس ومما لاشك فيه أن التوسلين من نوع واحد وإذا ثبت أن توسلهم بالنبي  إنما كان بدعائه فلا بد أن يكون المقصود بتوسلهم بالعباس توسل بدعائه لا بجاهه ومكانته.
2- بينت الروايات الأخرى المقصود بتوسل عمر بالعباس حيث فسرت ذلك ونقلت دعاء العباس استجابة لعمر حين طلبه مما يدل أنه طلب الدعاء منه كما ذكر ذلك الحافظ بن حجر في فتح الباري.
3- أن لفظ الحديث كما في قول أنس    هو: " أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب.... " ولفظ الاستسقاء يدل على طلب السقيا من الله فهذا يدل على أن المقصود به الدعاء.
4- لو كان توسل عمر إنما هو بذات العباس وجاهه لما ترك عمر التوسل بالنبي  بهذا المعنى وعدول عمر عن التوسل بذات النبي  إلى التوسل بدعاء العباس دليل على أن عمر والصحابة لا يرون التوسل بذات النبي  وعلى هذا جرى عمل السلف من بعدهم.
قول المصنف: [ يدعوهم ويسألهم الشفاعة ].
المسألة السادسة: الشفاعة وما يتعلق بها.
الشفاعة لغة: اسم من شفع يشفع إذا جعل الشيء اثنين، والشفع ضد الوتر.
واصطلاحاً: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة.
ومقصود المؤلف هنا الشفاعة المتعلقة بالآخرة: كطلب المغفرة والتجاوز عن الذنوب وهي على نوعين: ـ
النوع الأول: الشفاعة الخاصة،وهي التي تكون للرسول  وتكون كذلك لأناس معينين يشفع لهم،وهي ثلاثة أقسام: ـ
الأولى: الشفاعة الكبرى.
وهي خاصة بالنبي  وذلك عندما يؤخر الله  محاسبة العباد فيأتي الناس إلى الأنبياء وكل واحد منهم يقول: ( نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري ) حتى تصل إلى نبينا محمد ، وعلى جميع الأنبياء أزكى الصلاة وأتم التسليم، فيقوم فيشفع للناس عند ربه .
ويدل على ذلك: حديث أبي هريرة    المتفق عليه الطويل وساق فيه حال الناس وإتيانهم الأنبياء حتى يأتون محمداً  فيشفع لهم بعدما يقع ساجداً تحت العرش.
وأيضاً روى ابن عمر : " أن الناس يصيرون يوم القيامة جُثاً، كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي  فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود " رواه البخاري.
الثانية: الشفاعة لأهل الجنة في دخول الجنة.
ويدل على هذا: حديث أنس بن مالك  قال: قال رسول الله : " آتي باب الجنة يوم القيامة فاستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك " رواه مسلم.
الثالثة: شفاعة الرسول لعمه أبي طالب.
ويدل على هذا: حديث أبي سعيد الخدري  أن رسول الله  ذُكر عنده عمه أبو طالب فقال: " لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه "
وفي رواية: " ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار " متفق عليه، فالشفاعة له أن يخفف عنه العذاب لا أن يخرج من النار لأنه مات كافراً.
النوع الثاني: الشفاعة العامة.
وهي تكون للرسول  ولجميع المؤمنين، وهي خمسة أقسام: ـ
الأولى: الشفاعة لأناس من أهل الإيمان قد استحقوا الجنة أن يزدادوا رفعة ودرجات في الجنة.
مثال ذلك: ما ثبت عن النبي  أنه دعا لأبي سلمة فقال: " اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين " رواه مسلم، وقد يستدل لهذه الشفاعة ما سيأتي في أدلة القسم الثاني.
الثانية: الشفاعة لأناس قد استحقوا النار في أن لا يدخلوها.
وقد يستدل لها: بما جاء في صحيح مسلم من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله : " ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه ".
ووجه الدلالة: أن هذا الحديث عام يدخل فيه كل رجل صلّى عليه هذا العدد بهذه الصفة ويدخل في هذا العموم من استوجب النار فلم يدخلها لشفاعة هؤلاء المؤمنين.
الثالثة: الشفاعة لأناس قد دخلوا النار أن يخرجوا منها.
ويدل عليها: ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي  قال: " فو الذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون. فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقاً كثيراً... فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط " رواه مسلم.  
وأيضاً يستدل لها: بحديث عمران بن حصين أن النبي  قال: " يخرج قوم من النار بشفاعة محمد ، فيدخلون الجنة يسّمون الجهنميين " رواه البخاري.
الرابعة: الشفاعة في قوم تساوت حسناتهم مع سيئاتهم حتى يدخلوا الجنة، وقد يستدل لهذه الشفاعة بحديث ابن عباس عند مسلم وسبق في الشفاعة الثانية.
الخامسة: الشفاعة في دخول من لا حساب عليهم الجنة من الباب الأيمن.
ويدل عليها: حديث أبي هريرة قال: أتي رسول الله  يوماً بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه ـ فذكر الحديث إلى أن قال ـ " فيقال يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب " متفق عليه، وقيل أن هذه خاصة بالنبي .
فأصبح عدد الشفاعات جميعاً ثمان شفاعات.
والنوع الثاني من الشفاعة وهي الشفاعة العامة لها من شروط:
1- رضا الله عن المشفوع له.
ويدل عليه: قوله تعالى: " وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى " [الأنبياء: 28].
2- رضا الله عن الشافع.
ويدل عليه: قوله تعالى: " إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى " [النجم: 26].
3- إذن الله للشافع أن يشفع.
ويدل عليه: قوله تعالى: " مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ " [البقرة: 255]. وأيضاً الآية السابقة.
4- أن لا يكون الشافع من اللعانين.
ويدل عليه: ما رواه مسلم عن أبي الدرداء مرفوعاً: " إن اللعانين لا يكونوا شفعاء ولا شهداء يوم القيامة " رواه مسلم.
* ومقصود المؤلف في الشفاعة في هذا الناقض: أن الطلب من المخلوقين بعد وفاتهم أن يشفعوا عند الله وجعلهم واسطة بينهم وبين الله تعالى محرم وشرك، لما في ذلك من وصفهم بصفات الخالق سبحانه لأن من صفاته سبحانه أنه هو الحي الذي لا يموت.

المسألة السابعة: الأعمال الموجبة لشفاعة النبي .
- قول (لا اله إلا الله ) خالصة من القلب: 
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة قال: "ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: (لا اله إلا الله) خالصاً من قلبه" رواه البخاري.
- قول الذكر الوارد بعد الأذان:
عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : "من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، إلا حلت له الشفاعة "رواه البخاري.
- الصبر على جدب المدينة و لأواءها:
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله : " لا يثبت أحد على لأواء المدينة وجدبها إلا كنتُ له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة" رواه مسلم.
- الموت في المدينة:
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله  قال: " من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها فإني أشفع لمن يموت بها" رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني.
يشفع النبيون والملائكة والشهداء والصالحون على قدر مراتبهم ومقاماتهم عند ربهم فالشهيد مثلاً يشفع في سبعين من أهل بيته كما ورد عند أبي داود وابن حبان.


المسألة الثامنة: الشفاعة المتعلقة بالدنيا.
وهي التي بوسع العباد القيام بها كطلب مال أو نكاح أو أي منفعة.
قال الشوكاني: " وأما التشفع بالمخلوق، فلا خلاف بين المسلمين أنه يجوز كطلب الشفاعة من المخلوقين فيما يقدرون عليه من أمور الدنيا " [ انظر الدر النضيد: ص16 ].
وهذه الشفاعة في أمور الدنيا سواءً سميت شفاعة أو ( واسطة ) كما هو المصطلح الشائع عند الناس اليوم فإنها لابد لها من شرطين: ـ
الشرط الأول: أن تكون في شيء مباح.
ويدل على ذلك: قوله تعالى: " وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى " [المائدة: 2].
أما إذا كانت في شيء محرم فإن هذه الشفاعة لا تجوز لقوله تعالى: " وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ " [المائدة: 2].
مثال ذلك: كأن يشفع شخص لآخر وجب عليه حدّ من حدود الله أن لا يقام عليه الحد فيتوسط له عند القاضي أو السلطان، وفي الحديث عن عائشة: " أن قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله؟ فكلم رسول الله فقال: أتشفع في حدّ من حدود الله؟ ثم قام فخطب فقال: يا أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها " رواه البخاري.
الشرط الثاني: أن لا يكون فيها تعدّ وتجاوز وظلم لأناس آخرين.
فإذا تحقق الشرطان فالسنة أن يشفع الإنسان لأخيه لقوله : " اشفعوا فتؤجروا وليقض الله على لسان رسوله ما شاء " رواه البخاري.
أما إذا كانت الشفاعة الدنيوية فيها هضم لحقوق أناس آخرين وتعدّ عليهم فإن هذا من الظلم وتكون هذه الشفاعة محرمة لعموم الأدلة التي تحذر من الظلم وهضم حقوق الآخرين وهي كثيرة مستفيضة. 

المسألة التاسعة: الشفاعة في الكتاب والسنة تنقسم إلى قسمين: ـ
الأولى: شفاعة منفية.
وهي التي تُطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، وهي شفاعة مردودة نفاها الله وأبطلها.
ويدل على ذلك: قوله تعالى: " فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ " [المدّثر: 48].
وقوله تعالى: " فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ " [الشعراء: 100-101].
الثانية: شفاعة مثبتة.
   
وهي التي تُطلب من الله وحده، وهي التي أذن الله فيها وهي لأهل الإيمان والتوحيد خاصة، وهي شفاعة مقبولة بالشروط السابقة في شروط الشفاعة العامة وقد سبقت بأدلتها فلتراجع.
قال المصنف: [ يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم ].
المسألة العاشرة: التوكل.
تعريفه: 
التوكل لغة: إظهار العجز والاعتماد على الغير.
وشرعاً: هو الاعتماد على الله سبحانه وتعالى في حصول المطلوب ودفع المكروه مع الثقة به وفعل الأسباب المأذون فيها.
وعلى هذا التعريف.
ـ فمن جعل أكثر اعتماده على الأسباب نقص توكله على الله، ويكون قادحاً في كفاية الله، فكأنه جعل السبب وحده هو العمدة فيما يصبوا إليه من حصول المطلوب وزوال المكروه.
ـ ومن جعل أكثر اعتماده على الله ملغياً للأسباب فقد طعن في حكمة الله، لأن الله جعل لكل شيء سببا، فمن اعتمد على الله اعتماداً مجرداً كان قادحاً في حكمة الله، لأن الله حكيم يربط الأسباب بمسبباتها. [ انظر القول المفيد لشيخنا ابن عثيمين 2/228 ].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى( 1/137 ): " ومع علم المؤمن أن الله رب كل شيء ومليكه، فإنه لا ينكر ما خلقه الله من الأسباب، كما جعل المطر سبباً لإنبات النبات، قال تعالى: " وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ " [البقرة: 164]، وكما جعل الشمس والقمر سبباً لما يخلقه بهما، وكما جعل الشفاعة والدعاء سبباً لما يقضيه بذلك، مثل صلاة المؤمنين على جنازة الميت، فإن ذلك من الأسباب التي يرحمه الله بها، ويثيب عليها المصلين عليه، لكن ينبغي أن يعرف في الأسباب ثلاثة أمور:
أحدهما: أن السبب المعين لا يستقل بالمطلوب، بل لابد معه من أسباب أخر، ومع هذا فلها موانع، فإن لم يكمل الله الأسباب، ويدفع الموانع لم يحصل المقصود، وهو سبحانه ما شاء كان وإن لم يشأ الناس، وما شاء الناس لا يكون إلا أن يشاء الله.
الثاني: أنه لا يجوز أن يعتقد أن الشيء سبب إلا بعلم، فمن أثبت شيئاً سبباً بلا علم أو يخالف الشرع كان مبطلاً، مثل من يظن أن النذر سبب في دفع البلاء وحصول النعماء، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي  أنه نهى عن النذر، وقال: " إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل ".
الثالث: أن الأعمال الدينية لا يجوز أن يتخذ منها شيء سبباً، إلا أن تكون مشروعة؛ فإن العبادات مبناها على التوقيف، فلا يجوز للإنسان أن يشرك بالله فيدعو غيره، وإن ظن أن ذلك سبب في حصول بعض أغراضه، وكذلك لا يُعبد الله بالبدع المخالفة للشريعة، وإن ظن ذلك، فإن الشياطين قد تعين الإنسان على بعض مقاصده إذا أشرك، وقد يحصل بالكفر والفسوق والعصيان بعض أغراض الإنسان، فلا يحل له ذلك إذ المفسدة الحاصلة بذلك أعظم من المصلحة الحاصلة به؛ إذ الرسول  بُعث بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، فما أمر الله به فمصلحته راجحة، وما نهى عنه فمفسدته راجحة ".
وقال ابن القيم في المدارج: " فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان، ولجميع أعمال الإسلام، وأن منزلته منها كمنزلة الرأس من الجسد، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن، فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته إلا على ساق التوكل ".










 
الناقض الثالث:
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: [ من لم يُكفّر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر ].
الشـرح
المسألة الأولى: المقصود بهذا الناقض.
أن من حكم الله  بكفره من اليهود والنصارى والمشركين والمرتدين وغيرهم ممن جاءت الأدلة في بيان كفره، يجب على المسلم أن يقطع بكفرهم ولا يشك في ذلك وهذا من لوازم التوحيد فلا يكفي للمسلم أن يؤمن بالله بل لابد أن يكفر بالطاغوت أيضاً فيكفر بما يعبد من دون الله تعالى قال تعالى: " فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا " [البقرة: 256] فإذا آمن بالله وحده وكفر بما يعبد من دون الله كان على ملة التوحيد ملة إبراهيم الحنيفية عندها لا يشك في كفر من حكم الله  بكفره فيكفرهم مظهراً في ذلك حكم الله فيهم فإن لم يعتقد ذلك فهو مثلهم، فمن لم يكفر المشركين أو أهل الكتاب أو شك في كفرهم مع وضوح حالهم فهو كافر بالله وبكتابه وبرسوله محمد ، مرتكب ناقضاً من نواقض الإسلام، بإجماع المسلمين، فلا بد للمسلم أن يكفرهم ويجزم بكفرهم من غير شك وهذه عقيدة، والعقيدة لا تقبل المساومة.
قال القاضي عياض في ( الشفا ): ( 2/1071 ): " ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام، واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك ".

المسألة الثانية: ( أو صحح مذهبهم ).
سبق في المسألة السابقة أن من لم يكفر المشركين على اختلاف أصنافهم بعد أن ظهر له حالهم سواءً من أشرك مع الله فعبد الأحجار أو الأشجار أو الأصنام أو القبور والأضرحة حتى ولو قال: لا إله إلا الله محمداً رسول الله لأن الشرك يبطل الشهادتين ويفسد التوحيد وأن من كانت هذه حالهم يجب تكفيرهم سواءً كانوا من العرب أو العجم وسواءً كانوا من اليهود أو النصارى وأن من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم فقد كفر لأنه تساوى عنده الإيمان والكفر، إلا أن أشد منه جرماً من صحح مذهب المشركين واستحسن ما هم عليه من الكفر والطغيان وهذا كافر بإجماع المسلمين وتصحيح مذاهب المشركين مما عمت به البلوى اليوم وطمت نسأل الله السلامة والعافية وما أكثر من يصحح مذاهب المشركين ويدافع عنهم خصوصاً اليهود والنصارى كالدعاوى القائمة اليوم التي تنادي بوحدة الأديان الثلاثة: الإسلام واليهودية والنصرانية ويقولون كلها أديان صحيحة وأن لا عداوة بين أهل الإسلام وغيرهم من الملل الكفرية، وأن من يبين هذا الناقض للناس ويوضحه فيه تشدد ومتسبب في نشر العداوة والبغضاء بين الشعوب والأمم وهم بقولهم هذا شعاراتهم هذه يهدمون الإسلام ويثلمونهم وهو ردّة وكفر صريح، وكذلك الذين ينعقون بحرية الأديان وأن من أحب أن يتدين باليهودية أو النصرانية أو بالإسلام فليختر ما شاء وهي دعوة ينادي بها شرذمة خبيثة في واقعنا اليوم يقال لهم العلمانية الذين ينكرون الأديان ويعتمدون على الحياة المادية مريدين بذلك إماتة الدين في النفوس بحجة التقريب بين العقائد ونبذ الخلاف وتقرير الإنسانية وهم بذلك يهدمون العقيدة، وعقيدة الولاء والبراء على وجه الخصوص عقيدة الحب والبغض في الله التي امتدح الله بها نبينا إبراهيم  قال تعالى: " قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ " [الممتحنة: 4] وهذه هي الحنيفية ملة إبراهيم : " وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ " [البقرة: 130].
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب: " وصفة الكفر بالطاغوت: أن تعتقد بطلان عبادة غير الله، وتتركها، وتبغضها، وتكفر أهلها، وتعاديهم ".
ومن صحح مذاهب المشركين يكون موالياً لهم فضلاً عن أن يكفرهم فهذا كافر بإجماع المسلمين لأن الإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله.

المسألة الثالثة: ما حكم تفضيل بعض الأديان على بعض كأن يقول: هؤلاء أحسن من الوثنيين لأنهم أصحاب دين؟
قال الشيخ صالح الفوزان ـ حفظه الله ـ: فيجب على المسلم أن يعتقد كفر الكفار أيّاً كانوا، كل من أشرك بالله ودعا غير الله بأي نوع من أنواع الشرك الأكبر فيجب تكفيره بالحكم عليه بالكفر ولا يجوز الشك في كفره، ولا يجوز تصحيح ما هو عليه من الكفر فيقال هذا صاحب دين، هذا أحسن من الوثنيين فالكفر ملة واحدة.
نقول: من لم يؤمن بمحمد  ولم يتبعه فهو كافر مهما كان، هذه عقيدة يجب على المسلم أن يعتقدها لئلا يخرج من الإسلام وهو لا يدري، فيخرج من الإسلام بعدم تكفير الكفار أو تصحيح مذهبهم، بأن يصحح ما عليه اليهود أو يصحح ما عليه النصارى ويقول: هم من أصحاب الأديان بل هناك من ينتسب إلى الدعوة ويقول: إخواننا المسيحيون " أ ـ هـ، [ انظر شرح نواقض الإسلام صـ 82-83 ].

المسالة الرابعة: الكفار في هذا الناقض صنفان.
نقول ملخص العمل بهذا الناقض أن الكفار فيه على صنفين: ـ
الصنف الأول: أن يكون كافراً أصلياً لا خلاف في كفره كاليهود والنصارى والبوذيين وغيرهم ممن لم يكن مسلماً في الأصل فهؤلاء من لم يكفرهم أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم فهو كافر خارج من ملة الإسلام بذلك.
قال شيخنا ابن عثيمين: " وذلك لأن اليهود والنصارى كفرهم الله  في كتابه، قال تعالى: " وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ " [التوبة: 30-31] فدل ذلك على أنهم مشركون، وبين الله تعالى في آيات أخرى ما هو صريح في كفرهم فقال: " لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ " [المائدة: 17] وقال: " َّلقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ " [المائدة: 73] فمن أنكر كفر اليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا بمحمد  وكذبوه، فقد كذب الله ، وتكذيب الله كفر ومن شك في كفرهم فلا شك في كفره هو " [ انظر فتاوى وأحكام الداخلين في الإسلام ص 42 ].
الصنف الثاني: أن يكون مسلماً في الأصل ثم ارتكب ناقضاً يخرجه من الإسلام وهو يزعم أنه باقٍ على إسلامه، فهذا على قسمين: ـ
القسم الأول: أن يكون ما ارتكبه ناقضاً من النواقض الصريحة التي هي محل إجماع عند أئمة الإسلام كمن استهزأ بالنبي  أو سبّه أو كأن يجحد شيئاً معلوماً من دين الإسلام بالضرورة فإن الممتنع من تكفير هذا لا يخلو من حالين: ـ
الحال الأولى: أن ينكر كون ما وقع فيه هذا المرتكب لهذا الناقض ناقضاً من نواقض الإسلام فيقول ليس بناقض مخالفاً بذلك إجماع أئمة الدين فهذا الممتنع عن التكفير حكمه حكم هذا المرتكب لهذا الناقض بعد أن تقام عليه الحجة ويوضّح له الحال.
وقد ذكر شيخ الإسلام حكم من لم يكفر المشرك الكافر سواء كان كافراً أصلياً كاليهود والنصارى، أو من ثبت كفره يقيناً كالباطنية مثلاً فقال: " من شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام فهو كافر كمن يشك في كفر اليهود والنصارى والمشركين " [ انظر الفتاوى 2/368 ].
وقال أيضاً: فمن زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول الله  إلا نفراً قليلاً، أو أنهم فسقوا عامتهم قال: " فهذا لاريب أيضاً في كفره، لأنه لا مكذب لما نصه القرآن في غير موضع من الرضى عنهم والثناء عليهم، بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين ". [ أنظر الصارم المسلول صـ 591-592 ].
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب فيمن ثبت كفره يقيناً وكذلك من كان كافراً أصلياً: " فإن كان شاكاً في كفرهم أو جاهلاً بكفرهم بينت له الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله  على كفرهم، فإن شك بعد ذلك وتردد فإنه كافر بإجماع العلماء، على من شك في كفر الكافر فهو كافر " [ انظر رسالة أوثق عرى الإيمان صـ 61 ].
الحال الثانية: أن يكون هذا الممتنع من التكفير مُقِرّاً بأن ما وقع فيه هذا المرتكب للناقض ناقضاً من نواقض الإسلام لكن يمنعه من تكفيره احتمال ورود العذر عليه بعدم انتفاء الموانع وانطباق الشروط، فهذا لا يكفر إذا امتنع عن تكفيره بسبب ورود العذر.
القسم الثاني: أن يكون ما ارتكبه من النواقض التي هي محل خلاف عند أئمة الدين كترك الصلاة أو ترك الزكاة أو الصيام أو الحج مثلاً فإن الممتنع عن تكفيره أو المتوقف لا يُكفّر أيضاً.
المسألة الخامسة: من شك في كفرهم فقد كفر، وهل الوسوسة في هذا الباب من الشك؟
الوسوسة باب من أبواب الشيطان ليفسد على المسلم ما هو عليه من خير وإن أشد ما يحرص عليه الشيطان أن يوسوس للعبد في عقيدته ولذلك جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي  قال: " يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته ".
فالوسوسة وحديث النفس لا تُعّد من الشك لأنها تحدث بغير اختيار الإنسان وأما الشك فهو باختياره وعلمه، فالذي ابتلي بالوسوسة في هذا الباب مثلاً إذا استعاذ وكره ما خطر في باله وحدثته به نفسه ووسوس له الشيطان به كان ذلك صريح الإيمان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى( 14/108 ): " فالوسوسة هي ما يهجم على القلب بغير اختيار الإنسان، فإذا كرهه العبد ونفاه كانت كراهته صريح الإيمان ".

المسألة السادسة: ما حكم من يقول إن اليهود والنصارى إخواننا في الإيمان؟
من قال إن اليهود والنصارى إخواننا في الإيمان كما يوجد في بعض القنوات الفضائية فإنه يكفر بذلك، فإن كان جاهلاً ثم بين له الحق وأصر على ذلك فإنه يكفر أيضاً، لابد له من توبة إلى الله . [ انظر شرح نواقض الإسلام للفوزان  صـ 96 ].

المسألة السابعة: ينبني على تكفير الكفار أحكام كثيرة نذكر منها مايلي: ـ
أولاً: يجب بغض الكفار ومعاداتهم وعدم موالاتهم حتى ولو كانوا من أقرب الناس إلى المسلم.
ويدل على ذلك: قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ " إلى أن قال: " قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ "[الممتحنة: 1-4].
وقوله تعالى: " لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ " [المجادلة: 22]، والآيات في باب الموالاة والمعادات كثيرة.
ومنها كما سبق قوله تعالى: " فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ " [البقرة: 256].
وسبق قول الإمام محمد بن عبد الوهاب: " وصفة الكفر بالطاغوت: أن تعتقد بطلان عبادة غير الله، وتتركها، وتبغضها، وتكفر أهلها، وتعاديهم "
ثانياً: مما ينبني على تكفير الكافر أنه إذا مات المشرك والكافر فإن المسلم لا يتولى جنازته ولا يدفن في مقابر المسلمين لأن المسلم لا يتولى جنازة الكافر فلا يغسله ولا يكفنه ولا يحمل جنازته ولا يشيعها ولا يحضر دفنها.
ويدل على ذلك: قوله تعالى: " وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ " [التوبة: 84].

فائدة: يجوز عيادة المريض من الكفار من أجل دعوته للإسلام.
ويدل على ذلك: 1- ما جاء في صحيح البخاري وسنن أبي داود من حديث أنس بن مالك  أن النبي  عاد يهودياً مريضاً ودعاه إلى الإسلام فأسلم اليهودي وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ومات على الإسلام.
2- ما جاء في الصحيحين من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه " أن النبي  عاد عمه أبا طالب في مرض موته وقال: يا عم قل لا إله إلا الله " ولكنه رغب عن الإسلام وأبى أن يموت إلا على ملة عبد المطلب.

ثالثاً: المسلم لا يرث الكافر والكافر لا يرث المسلم، لأن الله قطع الصلة بينهما. ويدل على ذلك: ما جاء في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد أن النبي  قال: " لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم " فالكفر من موانع الإرث عند أهل العلم.
رابعاً: لا يجوز أن يزوّج الكافر من مسلمة لئلا يفتنها في دينها ولئلا تكون تحت سلطانه.
ويدل على ذلك:
 1- قوله تعالى:"وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ " [البقرة: 221].
2- قوله تعالى: " فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ " [الممتحنة: 10].

فائدة: أما المسلم فيجوز له أن يتزوج الكتابية اليهودية والنصرانية بشرط أن تكون عفيفة في عرضها، لأن الكافرة هنا تحت سيطرة الرجل المسلم فربما تُسلم على يديه فالسلطان هنا للمسلم، أما إذا تزوج الكافر المسلمة فهذا لا يجوز لأن السلطان والقوامة تكون للكافر على المسلمة والله  يقول: " وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً " [النساء: 141]، فيجوز للمسلم أن يتزوج الكتابية بشرط أن تكون عفيفة العرض.
ويدل على ذلك: قوله تعالى. " وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ " [المائدة: 5]، والمحصنات أي العفيفات، أما غير الكتابية من ملل الكفر الأخرى كالوثنية والمرتدة ونحوها فلا يجوز لأن النص ورد في الكتابية فقط.
خامساً: من الأحكام المترتبة على تكفير الكفار وجوب الهجرة على المسلم من بلادهم، فالمسلم الذي لا يقدر على إظهار دينه يجب أن يهاجر إلى بلاد المسلمين كما هاجر النبي  وأصحابه فراراً بدينهم، وهذا إذا كان المسلم يقدر على الهجرة لأن الذي لا يستطيع الهجرة معذور في ذلك.
ويدل على ذلك:
 1- قوله تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ " [النساء: 97] وهؤلاء الذين تركوا الهجرة.
 ثم قال تعالى عنهم: " قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً " [النساء: 97-99].
2- ما رواه أبو داود والترمذي من حديث جرير أن النبي  قال: " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين " قالوا: يا رسول الله لِمَ؟ قال: " لا تراءى نارهما " والصحيح أن هذا الحديث معلول أعلّه الترمذي بالإرسال ونقله عن شيخه البخاري، إلا أن لهذا الحديث من الشواهد ما يعتضد بها بل نقل أهل العلم أن له أكثر من عشرين شاهداً منها ما رواه النسائي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي  قال: " لا يقبل الله من مشرك بعدما أسلم عملاً أو يفارق المشركين إلى المسلمين " وغيرها من الشواهد وأيضاً تشهد له الآيات المحكمات في هذا الجانب.

سادساً: مما يترتب على تكفير الكفار عدم بداءة المشركين والكفار بالسلام.
ويدل على ذلك: حديث أبي هريرة عن النبي  قال:" لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام " رواه مسلم.
سابعاً: لا يُصَدَّرون في المجالس ولا يفسح لهم الطريق.
ويدل على ذلك: حديث أبي هريرة السابق عن النبي  قال: " لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه " رواه مسلم.
والمقصود بالاضطرار إلى أضيق الطريق النهي عن التوسعة لهم على وجه التكريم والاحترام فلا يفسح لهم ويقدّمون في المرور كما يفسح للمسلم وليس المقصود بالحديث أنهم يمنعون من المرور بل يتركون ليأتوا من جوانب الطريق إهانة لهم.
ثامناً: عدم تمكينهم من دخول الحرم المكي.
ويدل على ذلك: قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " [التوبة: 28].
ولذلك جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة  أن النبي  أرسل عليَّاً في موسم الحج ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.
تاسعاً: يجب أن يخرجوا من جزيرة العرب ويتولى ذلك ولي الأمر لأن جزيرة العرب منبع الرسالة والدعوة فلا يجوز أن يبقى فيها دين غير دين الإسلام فلا يمكنون من سكنى جزيرة العرب بصفة دائمة ( أما إذا قدموا جزيرة العرب لا على وجه الاستقرار لمهمة من المهمات لا يحسنها غيرهم فلا مانع من ذلك ـ كما سيأتي في المسألة الثامنة بإذن الله ـ وإنما الممنوع أن يمكنوا من الاستقرار والتملك في جزيرة العرب ).
ويدل على ذلك:
 1- حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي  قال: " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب " متفق عليه.
2- حديث عمر بن الخطاب أن النبي  قال: " لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً " رواه مسلم.

فائدة: الذين دخلوا من الكفار في جزيرة العرب دخولاً مؤقتاً لمهمة من المهمات لا يمكنون من إظهار شعائرهم وبناء كنائسهم في بلاد المسلمين ولا يظهرون كفرهم في بلاد المسلمين أيضاً فينصبوا الصليب أو يدقوا الناقوس بل يقصرون عبادتهم وشعائرهم بينهم في أماكن إقامتهم المؤقتة وهذا ليس خاصاً باليهود والنصارى بل كل مشرك كعبدة القبور مثلاً لا يمكنون من بناء الأضرحة أو المساجد على القبور بل يجب على ولي أمر المسلمين هدم هذه الأضرحة لأن كل مشرك لا يمكّن من إظهار شركه في بلاد المسلمين.
عاشراً: ومما يترتب على تكفير الكافرين عدم الثناء عليهم ومدحهم لأنهم أعداء الله ورسوله  والله تعالى ذمهم فلا يجوز مدحهم بل لابد أن نذمهم لكفرهم بالله .
الحادي عشر: تحريم التشبه بهم في لباسهم وعوائدهم الخاصة والتشبه بهم في عباداتهم أشد وأفظع لأن التشبه بهم في الظاهر يدل على محبتهم في الباطن فالمسلم لابد أن يعتز بدينه ولا يتشبه في الكفار.
ويدل على ذلك: قول النبي : " من تشبه بقوم فهو منهم " رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني. [ انظر شرح نواقض الإسلام للفوزان صـ 84 بتصرف يسير وإضافة ].

المسألة الثامنة: أحكام يجوز التعامل فيها مع الكفار مع تكفيرهم.
هناك أحكام يجوز مزاولتها مع الكفار لأنها ليست من الموالاة أو المحبة لهم وإنما هي من الأمور المباحة والمنافع المشتركة فمنها مايلي: ـ
أولاً: يجوز أن نتعامل مع الكفار بالتجارة فنبيع ونشتري معهم.
بشرط ألا يكون البيع والشراء في شيء حرام كلحم الخنزير أو يفضي إلى محرم كبيعهم السلاح في وقت الفتنة بحيث قد يستعملونه ضد المسلمين ولا يجوز بيع الصلبان والتماثيل لهم ولا بطاقات أعيادهم وما ليس محرماً فالأصل جواز البيع والشراء معهم.
ويدل على ذلك: عموم قوله تعالى: " وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ " [البقرة: 275].
ثانياً: يجوز أن نستفيد من خبراتهم ونستأجرهم للقيام بأعمال ليس عند المسلمين من يقوم بها بشرط ألا نمكنهم من أسرارنا وبطانة أمرنا بأن نجعلهم وزراء أو مستشارين.
ويدل على ذلك: ما جاء في صحيح البخاري من حديث عائشة أن النبي  استأجر كافراً يدله على الطريق في سفر الهجرة فاستأجر عبد الله بن أريقط ليدله على الطريق لأنه كان هادياً خريتاً.
ثالثاً: يجوز أن نعقد معهم المعاهدات إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين أو أن المسلمين لا يستطيعون قتال الكفار فتجوز مصالحتهم دفعاً لشرهم وضررهم حتى تكون لهم منعة.
ويدل على ذلك:
ما جاء في صحيح البخاري من حديث المسور مخرمة ومروان ومصالحة النبي  للمشركين في صلح الحديبية.
قال ابن القيم في زاد المعاد (3/126 ): " فصالح ـ أي النبي  ـ يهود المدينة، وكتب بينهم وبينه كتاب أمن، وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة " وقال صـ 140: " وصالح قريشاً على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين، على أن من جاءه منهم مسلماً ردّه إليهم، ومن جاءهم من عنده لا يردّنه إليه " وقال صـ 143: " وكذلك صالح أهل خيبر لما ظهر عليهم على أن يجليهم منها، ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله الصفراء والبيضاء، والحلقة وهي السلاح.... "
رابعاً: يجوز أن نكافئهم إذا أحسنوا إلينا وليس هذا من باب المحبة بل من باب المكافأة.
ويدل على ذلك: قوله تعالى: " لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ " [الممتحنة: 8].
فالولد المسلم يجب عليه أن يبر والده الكافر لقوله تعالى: " وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ " [لقمان: 14-15 ] فيبره من غير أن يحبه لأن الله قال: " لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ " [المجادلة: 22] وأيضاً مما يشهد لذلك ما جاء في الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم عندما قدمت عليها أمها وهي مشركة فجاءت رسول الله  فقالت له: إن أمي جاءت وهي راغبة ـ أي راغبة في الصلة ـ أفاصلها؟ قال: نعم، صلي أمك " [ نفس المرجع السابق صـ 93 مع تصرف يسير وإضافة ].






 
الناقض الرابع:   
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: [ من اعتقد أن هدي غير النبي  أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، وكالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه ].
الشـرح

المسألة الأولى: ما يجب أن يعتقده المسلم في هدي النبي .
يجب أن يعتقد المسلم أن قول النبي  وفعله وتقريره وحي من الله تعالى بواسطة جبريل قال تعالى: " وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى " [النجم: 3-4] فالنبي  لا يقول شيئاً في التشريع إلا ما أوحاه الله إليه، ولذلك السلف رحمهم الله يسمون القرآن والسنة ( الوحيين )، وقال الشافعي رحمه الله: " السنة وحي يتلى " وهدي نبينا محمد  خير الهدي فقد روى مسلم في صحيحه حديث جابر بن عبد الله أن النبي  كان يقول في خطبة الجمعة: " أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد  ".
والقرآن والسنة وحيان نسخا كل شريعة سابقة وهما أسهل وأصلح شريعة تُقتفى، فقد روى البخاري في الأدب المفرد وعلقه في صحيحه بصيغة الجزم حديث ابن عباس قال: قيل لرسول الله: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: " الحنيفية السمحة " وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح ( 1/94 ) ومن نعم الله عز وجل على أمتنا أن أكمل لها الدين فلا نقص فيه وذلك بواسطة محمد  فقال جلّ من قائل عليما: " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً " [المائدة: 3] فمن أراد غير هذه الملة خسر ولن يقبل منه ما أراد قال تعالى: " وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ " [آل عمران: 85] وعليه فلا بد أن يعتقد المسلم في هدي النبي  ما سلف بأن قول النبي  وفعله وتقريره وحي من الله تعالى وأنه خير الهدي ومن اعتقد أن غير هدي النبي  خير من هدي النبي  وأكمل فقد خرج من ملة الإسلام كما سيأتي.

قال المصنف: [ من اعتقد أن هدي غير النبي أكمل من هديه ].
المسالة الثانية: من اعتقد أن هدي غير النبي أكمل من هديه فقد كفر.
من اعتقد أن هدي غير الرسول أكمل وأحسن من هدي الرسول وحكمه فهو كافر خارج من ملة الإسلام وهو مراد المصنف في هذا الناقض فهو كافر من وجهين: ـ
أولاً: أنه كذب بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله بأن الدين والطريقة التي جاء بها الرسول  أفضل وأحسن الطرق، وأنه لا يسع أحداً من الناس الخروج عن هذه الطريقة إلى غيرها من الطرق والشرائع قال تعالى: " إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً " [الإسراء: 9] وأيضاً ما رواه مسلم من حديث جابر ابن عبد الله السابق: كان رسول الله  إذا خطب يقول: " أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد  ".
ثانياً: أن في ذلك انتقاصاً للخالق  وتفضيل المخلوق وحكمه على الخالق وحكمه تعالى عن ذلك علواً كبيرا والله سبحانه وتعالى يقول: " وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ " [المائدة: 50] ويدخل في هذا الناقض من يزعم أن حكم الرسول  لا يصلح لهذا الزمان وتطوره ومستجداته.
يقول الشيخ محمد بن إبراهيم: " من اعتقد أن حكم غير الرسول  أحسن من حكمه وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس من الحكم بينهم عند التنازع، إما مطلقاً، أو بالنسبة إلى ما استجد من الحوادث التي نشأت عن تطور الزمان وتغير الأحوال، فلا ريب أنه كفر، لتفضيله أحكام المخلوقين التي هي محض زبالة الأذهان، وصرف نحالة الأفكار على حكم الحكيم الحميد " [ انظر رسالة تحكيم القوانين صـ 14 ].

المسألة الثالثة: الحكم بما أنزل الله.
   إن مما يجب على المسلمين حكاماً ومحكومين أن يحكموا ويتحاكموا بما أنزل الله على رسوله ، لأن النبي  مبلغ عن الله ، فحكمه  حكم صادر عن الله قال تعالى: " إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ "
[ النساء105]، وقال تعالى: "وَأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله " [المائدة49]، فنبينا محمد  إنما يحكم بحكم الله وبما أراه الله عزوجل ولم يقل بما رأيت أنت بل قال بما أراك الله، وعلى هذا يجب على المسلمين أن يحكموا ويتحاكموا بما أنزل الله في كل شيء من أمور دينهم ودنياهم قال تعالى: " فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ " [النساء: 59]، وتأمل النكرة في قوله تعالى: " شيء "حيث جاءت في سياق الشرط وهو قوله: "فَإِن تَنَازَعْتُمْ"وهذا يفيد العموم أي في كل شيء تنازعتم فيه.
وقال تعالى: " فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً " [النساء: 65] فالله  نفى الإيمان نفياً مؤكداً بتكرار النفي وبالقسم حيث قال " فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ " وذلك حتى يأتوا بالشرط الأول وهو تحكيم الرسول  ولم يكتفِ بهذا الشرط بل لابد من الشروط الأخرى فشروط الإيمان هنا ثلاثة: ـ
1- أن يحكموا رسول الله  "فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ " وصيغة اسم الموصول هنا من صيغ العموم.
2- أن لا يجدوا في أنفسهم حرجاً، أي ضيقاً فلابد أن تتسع صدورهم لما قضى وحكم به.
3- أن يُسَلِّموا لحكمه أتم التسليم وهو التسليم المطلق وأكد ذلك بالمصدر فقال (تَسْلِيماً ) فلابد للمسلم أن يحكم بما أنزل الله  وأن يخشى ضد ذلك ولله در العلامة ابن القيم حيث قال:
والله ما خوفي الذنـوب فـإنها          لعلى سبيل العفو والغفران.
لكنما أخشى انسلاخ القلب عن         تحكيم هذا الوحي والقرآن.
ورضا بآراء الـرجال وخرْصِها          لا كان ذاك بمنـة المنان.

المسألة الرابعة: الحكم بغير ما أنزل الله .
إن الإعراض عن حكم الله  وتحكيم غير ما أنزل الله سواء كان من القوانين الوضعية أو الشرائع السماوية المحرفة كاليهودية والنصرانية كفر أكبر مخرج من ملة الإسلام، وأن الحاكم بغير ما أنزل الله كافر، وهل كفره كفر أكبر مخرج من الملة على الإطلاق؟
نقول أن هذه المسألة تنقسم إلى قسمين: ـ
القسم الأول: كفر الاعتقاد: وهو كفر مخرج من الملة وهو مراد المصنف في هذا الناقض حيث ابتدأ هذا الناقض بقوله:
( من اعتقد ) وهذا الكفر وهو كفر الاعتقاد له أنواع: ـ
الأول: أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله حكم الله سبحانه وتعالى ورسوله.
وهذا كفر أكبر مخرج من الملة باتفاق العلماء كأن يكذب أو ينكر الحاكم أن هذا حكم الله .
قال تعالى: " وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ " [النمل: 14].
وقال تعالى: " فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ " [الأنعام: 33] وسواءً كان جحوده أصلاً من أصول الدين أو فرعاً من فروعه المجمع عليه أو أنكر حرفاً مما جاء به رسول الله  قطعياً، فإنه كافر كفراً يخرجه من ملة الإسلام.
الثاني: أن يعتقد الحاكم بغير ما أنزل الله أن حكم غير الرسول  أحسن من حكمه وأتم وأشمل.
فهذا كافر كفراً أكبر يخرجه من ملة الإسلام بلا شك وسبق أن مثل هذا كافر من وجهين: أن فيه تكذيباً لله ورسوله وأيضاً انتقاص للخالق سبحانه وقد قال الله تعالى: " وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ " [المائدة: 50].
ومع شديد الأسف ظهر في هذه الأزمان من نُخر في قلبه وعقيدته وزيّن له الشيطان بأن حكم الله الذي أنزله على رسوله لا يصلح مع ما استجد من الحوادث التي نشأت عن تطور الزمان، وتغير الأحوال ففضل أحكام المخلوقين على حكم أحسن الحاكمين سبحانه وهذا لا ريب في كفره ومروقه من ملة الدين، فما من قضية كائنة إلا وحكمها في كتاب الله وسنة رسوله  نصاً أو ظاهراً أو استنباطاً أو غير ذلك علم ذلك من علمه وجهله من جهله.
الثالث: أن يعتقد الحاكم أن حكم غير الله ورسوله مثل حكم الله .
فهو لا يعتقد أن حكم غير الله أحسن من حكم الله، ولكنه يعتقد أنه مثله، فهذا أيضاً لاشك في كفره كفراً أكبر يخرجه من ملة الإسلام لما في ذلك من تسوية المخلوق بالخالق جلّ شأنه كيف وقد قال تعالى: " فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ " [النحل: 74] وقال: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " [الشورى: 11] وقال: " هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً " [مريم: 65] وقال: " فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ " [البقرة: 22].
الرابع: أن يعتقد الحاكم جواز الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه وتعالى.
وهذا هو الاستحلال وهو كفر أكبر مخرج من الملة باتفاق العلماء.
الخامس: إيجاد المحاكم الوضعية التي مراجعها القانون الوضعي.
كالقانون الفرنسي أو الأمريكي أو البريطاني أو غيرها من مذاهب الكفار، فهو أيضأ كفر أكبر بل من أعظم وأظهر الصور والأنواع معاندة للشرع ومشاقة لله ورسوله.
السادس: ما يحكم به بعض رؤساء العشائر و القبائل من البوادي معرضين عن حكم الله.
فيحكمون ما ورثوه من حكايات آبائهم وأجدادهم وعادتهم التي يسمونها ( سلومهم ) معرضين بذلك عن حكم الله تعالى. [ انظر في الصورة السابقة رسالة تحكيم القوانين للشيخ محمد بن إبراهيم صـ 13 بتصرف ].
السابع: أن يحكم الحاكم بغير ما أنزل الله على أنه حكم لله فيبدل في دين الله.
وهذا أيضاً كفر أكبر مخرج من ملة الإسلام بإجماع العلماء قال تعالى: " أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ " [الشورى: 21] فالحاكم بمثل هذا جمع بين التشريع وزعمه أن هذا من الدين وهذا يسمى تبديلاً.

القسم الثاني: كفر العمل: وهو أن يكون الحاكم بغير ما أنزل الله يعتقد أن حكم الله ورسوله هو الحق الذي لابد من اتباعه، ولكنه حكم بغير ما أنزل الله لهوى أو شهوة كرشوة أو انتقام فغير حكم الله ووضع حكماً من عنده، مع اعترافه على نفسه بالخطأ والعصيان ومخالفة أمر الرحمن ومجانبة الهدى، فمثل هذه الصورة مما كثر فيها الخلاف، هل كفره كفراً أكبر مخرج من الملة أم لا؟
قال الشيخ محمد بن إبراهيم في رسالة تحكيم القوانين صـ 13: " وأما القسم الثاني من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله، وهو الذي لا يخرج من الملة، فقد تقدم أثر ابن عباس ـ رضي الله عنهما لقول الله : " وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ " [المائدة: 44] قد شمل ذلك القسم وذلك في قوله  للآية: " كفر دون كفر " وقوله أيضاً: " ليس بالكفر الذي تذهبون إليه " وذلك أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله مع اعتقاد أن حكم الله ورسوله هو الحق واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى، وهذا إن لم يخرجه كفره عن الملة فإنه معصية عظمى أكبر من أكبر الكبائر، كالزنا وشرب الخمر والسرقة واليمين الغموس، وغيرها، فإن معصية سماها الله في كتابه كفراً، أعظم من معصية لم يسمها كفراً "
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله في قضية التكفير بين أهل السنة وفرق الضلال صـ 72-73: " من حكم بغير ما أنزل الله فلا يخرج عن أربعة أمور: ـ
1- من قال: أنا أحكم بهذا ـ يعني القانون الوضعي ـ لأنه أفضل من الشريعة الإسلامية فهو كافر كفراً أكبر.
2- ومن قال: أنا أحكم بهذا، لأنه مثل الشريعة الإسلامية، فالحكم بهذا جائز وبالشريعة جائز، فهو كافر كفراً أكبر.
3- ومن قال: أنا أحكم بهذا، والحكم بالشريعة الإسلامية أفضل، لكن الحكم بغير ما أنزل الله جائز، فهو كافر كفراً أكبر.
4- ومن قال: أنا أحكم بهذا، وهو يعتقد أن الحكم بغير ما أنزل الله لا يجوز، ويقول: الحكم بالشريعة أفضل، ولا يجوز الحكم بغيرها، ولكنه متساهل، أو يفعل هذا لأمر صادر من حكامه فهو كافر كفراً أصغر لا يخرج من الملة، ويعتبر من أكبر الكبائر "
القول الثاني من حكم بغير ما أنزل هوىً وشهوة مع اعتقاده أن الحكم بما أنزل الله هو الحق وهو أحسنها وأحكمها والذي يجب أن يُصار إليه بأنه كافر كفراً أصغر لا يخرجه من الملة مال إلى هذا القول الشيخ ناصر الدين الألباني وأيضاً شيخنا ابن عثيمين في فتاوى العقيدة صـ 128.
فائدة: من خلال ما سبق استدل أصحاب هذا القول بتفسير ترجمان القرآن الصحابي الجليل ابن عباس  والصحابة هم خير من يفسر القرآن لأنهم عاصروا التنزيل واستقوا من النبي الكريم وابن عباس رضي الله عنهما إمام في هذا الباب فقد أخرج ابن أبي حاتم والحاكم في ( المستدرك ) والبيهقي في ( السنن ) والمروزي في ( تعظيم قدر الصلاة ) وابن عبد البر في ( التمهيد ) عن هشام بن حجير عن طاووس عن ابن عباس في قوله تعالى: " وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ " [المائدة: 44] قال: " كفر دون كفر ". وهذا الأثر ضعيف لأن فيه هشام بن حجير ضعفه أحمد وضعفه ابن معين جداً، وقال ابن عيينة: لم نكن نأخذ عن هشام بن حجير مالا نجده عند غيره، وذكره العقيلي في الضعفاء، إلا أنه يسنده ما روي في معناه موقوفاً على طاووس بسند صحيح كما أخرجه الطبراني في تفسيره، وأيضاً روي معناه عن ابن عباس رواه عنه علي ابن أبي طلحة في صحيفته عن ابن عباس، وعلي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس ولكن يروي من صحيفتة بواسطة من وثق أقوال ابن عباس كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير.
وحملوا ما رواه ابن جرير في تفسيره: " وعبد الرزاق في ( مصنفه ) من حديث معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن قوله: " وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ " [المائدة: 44] قال ابن عباس: " هي به كفر " حملوا هذا التفسير عن ابن عباس على المعنى الأول وهو الكفر الأصغر وغيرهم حمله على الكفر الأكبر.
وأثر ابن عباس الأول الذي فيه هشام بن حجير، وتفسير ابن عباس " كفر دون كفر " استدل به ابن تيمية وابن القيم مما يدل على أنهما لا يضعفانه وأنه مقبول عندهما، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد إثبات هذا الأثر عن ابن عباس وتلامذته: " وقد أتبعهم على ذلك أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة " [ الإيمان صـ 244 ط المكتب الإسلامي ] وكل واحد من الفريقين تمسك بفهم لأثر ابن عباس ونظر في السند وشواهد الحديث ومن هنا نشأ الخلاف في هذه المسألة هل هو كفر أكبر مخرج من الملة أم أنه كفر أصغر لا يخرج من الملة.
وقال شيخنا ابن عثيمين في تعليقه على ( فتنة التكفير للشيخ الألباني ) صـ 24-25: " فيكفينا أن علماء كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم تلقوه بالقبول، ويتكلمون به وينقلونه، فالأثر صحيح، ثم هب أن الأمر كما قلتم أنه لا يصح عن ابن عباس فلدينا نصوص أخرى تدل على أن الكفر قد يطلق ولا يراد به الكفر المخرج عن الملة كما في الآية المذكورة، وكما في قوله : " اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت " وهذه لا تخرج عن الملة بلا إشكال ".
وقال أيضاً في فتاوى العقيدة صـ 131: " وهذه المسألة أعني مسألة الحكم بغير ما أنزل الله من المسائل الكبرى التي ابتلي بها حكّام هذا الزمان، فعلى المرء أن لا يتسرع في الحكم عليهم بما لا يستحقونه حتى يتبين له الحق لأن المسألة خطيرة.... كما أن على المرء الذي آتاه الله العلم أن يبينه لهؤلاء الحكام لتقوم الحجة عليهم وتبين المحجة، فيهلك من هلك عن بينة، ويحي من حي عن بينة،ولا يحقرن نفسه عن بيانه، ولا يهابن أحداً فيه فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. والله ولي التوفيق".

المسألة الخامسة: قوله تعالى:" وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ " وورودها بالظلم والفسق كيف توجيهها.
قال ابن عثيمين في فتاوى العقيدة صـ 128: قوله تعالى:" وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ " [المائدة: 44]، " وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" [المائدة: 45]، "وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" [المائدة: 47] وهل هذه الأوصاف الثلاثة تتنزل على موصوف واحد؟..... فنقول:
1- من لم يحكم بما أنزل الله استخفافاً به أو احتقاراً له أو اعتقاداً أن غيره أصلح منه وأنفع للخلق فهو كافر كفراً مخرج عن الملة.
2- ومن لم يحكم بما أنزل الله وهو لم يستخف به ولم يحتقره ولم يعتقد أن غيره أصلح منه وأنفع للخلق وإنما حكم بغيره تسلطاً على المحكوم وانتقاماً منه لنفسه أو نحو ذلك، فهذا ظالم وليس بكافر، وتختلف مراتب ظلمه بحسب المحكوم به ووسائل الحكم.
3- ومن لم يحكم بما أنزل الله لا استخفافاً بحكم الله ولا احتقاراً ولا اعتقاداً أن غيره أصلح وأنفع للخلق وإنما حكم بغيره محاباة للمحكوم له أو مراعاة لرشوة أو غيرها من عرض الدنيا فهذا فاسق وليس بكافر وتختلف مراتب فسقه بحسب المحكوم به ووسائل الحكم ".
وأجابت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في فتوى رقم ( 7541 ) وهذا نص الفتوى: ـ
س: من لم يحكم بما أنزل الله هل هو مسلم أم كافر كفراً أكبر، وتقبل منه أعماله؟
ج: قال تعالى: " وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ " [المائدة: 44] وقال تعالى: " وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ " [المائدة: 45] وقال تعالى: " وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ " [المائدة: 47] لكن إن استحل ذلك واعتقده جائزاً فهو كفر أكبر، وظلم أكبر، وفسق أكبر يخرج من الملة، أما إن فعل ذلك من أجل الرشوة أو مقصد آخر وهو يعتقد تحريم ذلك، فإنه آثم يعتبر كافراً كفراً أصغر، وفاسقاً فسقاً أصغر لا يخرجه من الملة، كما أوضح ذلك أهل العلم في تفسير الآيات المذكورة.
عضو:                       نائب رئيس اللجنة:                         الرئيس:
عبدالله الغديان               عبد الرزاق عفيفي                 عبد العزيز بن عبد الله باز

المسألة السادسة: المحكوم بغير ما أنزل الله هل يكفر بذلك؟
كأن يتحاكم شخص إلى غير ما أنزل الله فهذا يسمى محكوماً بتلك القوانين الطاغوتية الوضعية فهذا كفره متعلق بقبوله لغير شريعة الله، ورضاه بها، إضافة إلى ذلك فإن متابعة هذا المحكوم وقبوله لغير الشريعة من خلال تحاكمه إلى غير ما أنزل الله تعالى، وأيضاً هذا الذي تحاكم إلى غير ما أنزل الله قد يكون ممتنعاً عن قبول حكم الله وحده، أو مجّوزاً للحكم بالطاغوت وقد أمر أن يكفر به، أو مفضلاً لحكم الطاغوت على حكم الله تعالى، أو مسوياً بينهما، قال تعالى: " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً " [النساء: 60-61]  [ انظر نواقض الإيمان القولية والعملية صـ 332 ].
ولعل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية يوضح هذه المسألة على قوله تعالى: " اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ " [التوبة: 31].
يقول ابن تيمية في معنى هذه الآية: ـ
" هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين: ـ
أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله، فيتبعونهم على التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله إتباعا لرؤسائهم، مع علمهم أنهم خالفوا الرسل، فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركاً ـ وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم ـ فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين، واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله مشركاً مثل هؤلاء.
والثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتاً لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم، ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب كما ثبت في الصحيح عن النبي  أنه قال: " إنما الطاعة في المعروف " " [ انظر مجموع الفتاوى 7/70 ].
* كذا موجود في الفتاوى وهو غلط مطبعي والصواب " بتحريم الحرام وتحليل الحلال "
وقال الشيخ ابن عثيمين في فتاوى العقيدة صـ 131: " إتباع العلماء أو الأمراء في تحليل ما حرم الله أو العكس ينقسم إلى ثلاثة أقسام: ـ
القسم الأول: أن يتابعهم في ذلك راضياً بقولهم مقدماً له ساخطاً لحكم الله، فهو كافر لأنه كره ما أنزل الله، وكراهة ما أنزل الله كفر لقوله تعالى: " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ " [محمد: 9] ولا تحبط الأعمال إلا بالكفر فكل من كره ما أنزل الله فهو كافر.
القسم الثاني: أن يتابعهم في ذلك راضياً بحكم الله وعالماً بأنه أمثل وأصلح للعباد والبلاد، ولكن لهوى في نفسه تابعهم في ذلك فهذا لا يكفر ولكنه فاسق. فإن قيل: لماذا لا يكفر؟ أجيب: بأنه لم يرفض حكم الله ولكنه رضي وخالفه لهوى في نفسه فهو كسائر أهل المعاصي.
القسم الثالث: أن يتابعهم جهلاً يظن أن ذلك حكم الله فينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يمكنه معرفة الحق بنفسه فهو مفرّط أو مقصّر فهو آثم، لأن الله أمر بسؤال أهل العلم عند عدم العلم.
القسم الثاني: أن يكون جاهلاً ولا يمكنه معرفة الحق بنفسه فيتابعهم بغرض التقليد يظن أن هذا هو الحق فلا شيء عليه، لأنه فعل ما أمر به وكان معذوراً بذلك "

قول المصنف: " كالذين يفضلون حكم الطواغيت ".

المسألة السابعة: من هم الطواغيت؟
الطاغوت مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، وأجمع ما قيل في تعريف الطاغوت ما ذكره ابن القيم رحمه الله بأنه: " ما تجاوز به العبد حده من متبوع، أو معبود، أو مطاع " فالمتبوع مثل: الكهان، والسحرة وعلماء السوء حين ينزلون فوق منزلتهم التي جعلها الله لهم. والمعبود مثل: الأصنام.
والمطاع مثل: الأمراء الخارجين عن طاعة الله، فإذا اتخذهم الإنسان أرباباً، يحل ما حرم الله من أجل تحليلهم له، ويحرم ما أحل الله من أجل تحريمهم له، فهؤلاء طواغيت، والفاعل تابع للطاغوت. [ انظر القول المفيد 1/30 ].
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الأصول الثلاثة صـ 15: " والطواغيت كثيرة ورؤوسهم خمسة: إبليس لعنه الله، ومن عبد وهو راض، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه، ومن ادعى شيئاً من علن الغيب، ومن حكم بغير ما أنزل الله، والدليل قوله تعالى: " لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " [البقرة: 256].
فمن فضل حكم طاغوت من الطواغيت على حكم الله عز وجل ورسوله فقد مرق من ملة الإسلام.

 
الناقض الخامس:
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب: [ من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول  ولو عمل به فقد كفر لقوله تعالى: " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ " [محمد: 9] ].
الشـرح

المسألة الأولى: معنى هذا الناقض.
أن من أبغض شيئاً مما جاء به النبي  فقد كفر بالله تعالى وهو نوع من أنواع النفاق الإعتقادي الأكبر الذي يخرج صاحبه من ملة الإسلام، وصاحبه في الدرك الأسفل من النار، ووجه تكفيره أنه بكرهه لما شرع الله وأنزله على عباده انتقاص لما شرعه الله وكلف به عباده، واعتقاد أن ما شرعه الله ليس فيه السعادة والنجاة والهدى،
وبغض وكراهية الحق من صفات الكافرين، قال تعالى: " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ " [محمد: 9]، فالله  أحبط أعمالهم، وجعلها هباءً منثوراً بسبب كراهيتهم ما أنزل الله على رسوله، وكل من كره ما أنزل الله فعمله حابط وإن عمل بما كره قال تعالى: " ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ " [محمد: 28] وقال تعالى مبينا أن كره ما أنزل الله من صفات الكفار الظاهرة: " بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ " [المؤمنون: 70] وقد وصف الله المنافقين بهذه الصفة فقال تعالى: " وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ " [التوبة: 54]. ووصف كرههم للجهاد بسبب ما في قلوبهم من النفاق فقال: " فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ " [التوبة: 81]، وقد عدّه الشيخ محمد بن عبد الوهاب من أنواع النفاق الاعتقادي فقال: " فأما النفاق الاعتقادي فهو ستة أنواع: تكذيب الرسول ، أو تكذيب بعض ما جاء به الرسول ، أو بغض الرسول ، أو بغض ما جاء به الرسول ، أو المسرة بانخفاض دين الرسول ، أو الكراهية بانتصار دين الرسول ، فهذه الأنواع الستة صاحبها من أهل الدرك الأسفل من النار " [ انظر مجموعة التوحيد 1/10 ونحوه لشيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 28/434 ].

المسألة الثانية: من أمثلة هذا الناقض.
ما يقوله كثير من الكتاب الملحدين وغيرهم من منافقي هذا الزمان من العلمانيين والليبراليين ومن اغتر بأقوالهم وكتاباتهم المسمومة والموسومة بالخبث والكيد لهذا الدين بسبب تلك الرضاعة الفاسدة من ألبان الغرب وأفكارهم وكيدهم وبذلهم الغالي والنفيس لهدم هذا الدين فأصبحوا ينعقون بأقوال ومقالات دسيسة وربما تكون ظاهرة تبين وتوضح لكل عاقل لبيب كرههم لهذا الدين فمن ذلك على سبيل المثال لا على سبيل الحصر ما يلي: " 
* كرههم لأن تكون دية المرأة على نصف دية الرجل، أو كرههم أن تكون شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد، فهم بهذا مبغضون لقول النبي  كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري: " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن " فتراهم يطعنون في هذا الحديث بحجة أن العقل والواقع يخالفه أو يصرفه عن ظاهره مما يبين بغضهم لما جاء به النبي  القائل أيضاً في حديث ابن عمر عند مسلم " أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل فهذا نقصان العقل " ومن أمثلة ذلك أيضاً:
* كراهتهم لتعدد الزوجات ومحاربتهم لذلك الحكم بشتى الوسائل وهم بذلك يحاربون الله ورسوله.
* كراهتهم لما أنزل الله من الحدود كحد السرقة وجلد شارب الخمر وقتل القاتل عمداً ونحو ذلك فهذه الأمثلة وغيرها من الأمثلة التي تبين كره المتفوهين بها لما أنزل الله كفراً أكبر مخرج من ملة الإسلام ومحبط للأعمال قال تعالى: " وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ " [محمد: 8-9] فسماهم الله كفاراً والسبب أنهم كرهوا ما أنزل الله والنتيجة أحبط أعمالهم، نسأل الله السلامة والعافية، بمثل هذه الأمثلة وغيرها تجرأ كثير ممن ينتسب للإسلام على كثير من أحكام الله وهدي نبيه تلميحاً أو تصريحاً بالكراهية لها بحجة مخالفتها للواقع والعقل أو أنها تصلح في زمان مضى دون هذا الزمان، أو غيرها من الحجج الشيطانية التي زين لهم الشيطان بها أعمالهم حتى خرجوا من ملة الإسلام.

المسألة الثالثة: من وقع في هذا الناقض لم يستكمل شروط ( لا إله إلا الله ).
وذلك أن من كره ما أنزل الله قد أخلّ ببعض شروط لا إله إلا الله وهذا من نواقض الإسلام وكرهه لما أنزل الله إخلال بشروط لا إله إلا الله من وجهين: ـ
الأول: أن فيه إخلالاً بشرط المحبة والتعظيم لله ، ومحبة أوامره، وأوامر رسول الله ، والمحبة من شروط لا إله إلا الله.
 الثاني: أن فيه تركاً للقبول والانقياد والتسليم، لأن ذلك من شروط لا إله إلا الله ولذلك كفّر العلماء من اتصف بهذه الصفة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " لأنه يعترف لله ورسوله بكل ما أخبر به ويصدق به المؤمنون، لكنه يكره ذلك ويبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده، ومشتهاه، ويقول: لا أقر بذلك ولا ألتزمه، وأبغض هذا الحق وأنفر عنه،...... وتكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، والقرآن مملوء من تكفير مثل هذا النوع "[ انظر الصارم المسلول صـ 522 ].

المسألة الرابعة: صور لا تعد من كره ما أنزل الله على رسوله.
هناك صور من الكره تحصل بين الناس في بعض الأحوال ليست من الكره لما أنزل الله وإنما هي من الكره الطبيعي ( الفطري ) مع اعتقاده أن ما شرع الله هو الحق والصواب الذي لابد أن يتبع فهو كره لا يقع على ذات التشريع وإنما هو كره لسبب آخر من الأسباب فمن صور ذلك ما يلي: ـ
* كره الزوجة أن يعدد عليها زوجها مع أن التعدد جاء به الشرع إلا أن كره الزوجة هنا لم يقع على ذات التشريع، والحكم العام في الإسلام وإنما كرهها لسبب خارج عن ذلك وهو أنها تكره أن تكون معها ضرة أخرى وقسيمة تشاركها في حياة زوجها.
* صورة أخرى: كره المتوضئ الوضوء في اليوم البارد، فهو لم يكره ذات التشريع وإنما كره الوضوء لسبب آخر وهو وجود المشقة، ولذلك جاء في حديث أبي هريرة عند مسلم أن النبي  قال: " ألا أدلكم على ما يمحوا الله به الخطايا ويرفع به الدرجات " وفيه " إسباغ الوضوء على المكاره ".
صورة أخرى: كراهة المقاتل للقتال ليست كراهة لذات التشريع وإنما لسبب آخر وهو ما جبلت عليه النفس من حب الدنيا وكراهية الموت مع إقراره بفضل القتال في الإسلام فهو لم يكره أمر الله، ولذلك قال تعالى: " كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ " [البقرة: 216] قال القرطبي: إنما كان الجهاد كرهاً لأن فيه إخراج المال ومفارقة الوطن والأهل، والتعرض بالجسد للشجاج والجراح وقطع الأطراف وذهاب النفس فكانت كراهيتهم لذلك لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى " [ انظر تفسير القرطبي 3/39 ].
* صورة أخرى: من وقع في شيء من المعاصي وهو مقر بذنبه لا يلزم من ارتكابه للحرام بغضه للتحريم، ولا من ترك الواجب بغض إيجابه، فمثلاً شارب الخمر أو مقترف الزنا وآكل الربا مع اعتقاده حرمة هذه الأشياء هو كسائر العصاة ولا يلزم من فعله للمحرم أنه أبغض تحريمه أو ترك الواجب أنه يبغض إيجابه، فمن الخطأ أن تجد من الناس من يقول لهم: لولا أنكم تبغضون ما جاء به محمد لما فعلتم هذه المنكرات.
ومن ألزمه بذلك فقد سلك مسلك الخوارج في تكفير مرتكب الكبيرة وتخليده في النار، والأدلة كثيرة التي تدل على أن مرتكب الكبيرة باقٍ على إسلامه لا يلزم من ارتكابه بغضه للتشريع ومن ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب  أن رجلاً على عهد النبي  كان اسمه عبدالله وكان يلقب حماراً وكان يضحك رسول الله  وكان النبي  قد جلده في الشراب فأتي به يوماً فجلد فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي : " لا تلعنوه فو الله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله ".
فالنبي  منع من لعنه فضلاً عن إلزامه بكره وبغض تحريم الخمر.
* صورة أخرى: عدم قبول إنكار المنكر أو الأمر بالمعروف لا يدل على بغض ما جاء به النبي ، فمثلاً عندما تبين لأحد من الناس منكراً من المنكرات فيرفض قبوله أو تأمر بالمعروف فيرفض قبوله فهذا لا يدل على أنه مبغض لما جاء به النبي  فهو لم يرفض الحق الذي جئت به لأنه حق وإنما رفضه لسوء تصرفك وطريقتك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدليل أنه لو جاءه شخص آخر وبيّن له نفس المنكر لقبل وانقاد له لحسن تصرفه.
والمقصود من هذه الصور إيضاح الفرق بين الكره الطبيعي ( الفطري ) وبين الكره المخرج من الملة، فأما الكره الطبيعي فمن علامته أن الكره موجود في الأصل سواءً علم أن الشريعة جاءت به أم لا فكرهه لم يقع على ذات التشريع وإنما لسبب من الأسباب كالمشقة في إسباغ الوضوء في الماء البارد، أو كراهة المرأة أن تكون لها ضرة وغيرها من الصور كما سبق.
وأما الكره المخرج من الملة فمن علامته أنه لا يكون إلا بعد العلم أنه من الشرع وأن الله أمر به فكرهه إنما هو لذات الشرع ولأن الله أمر به.
الناقض السادس:
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: [ من استهزأ بشيء من دين الرسول ، أو ثوابه، أو عقابه؛ كفر، والدليل قوله تعالى: " وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ " [التوبة: 65-66] ].
الشـرح

المسألة الأولى: معنى الاستهزاء والأدلة على كفر صاحبه.
الاستهزاء: هو انتقاص الرب جل وعلا والسخرية منه، أو انتقاص الرسول  والسخرية منه، أو انتقاص لشيء من الدين والسخرية منه، والمستهزئ بما سبق كافر بدلالة الكتاب والسنة والإجماع.
أولا ً: الأدلة من الكتاب:
1- قال ابن تيمية في الصارم المسلول ( 2/85 ): منها قوله تعالى: " وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فإنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّم" [التوبة: 62-63] فعلم أن إيذاء رسول الله  محادة لله ورسوله؛ لأن ذكر الإيذاء هو الذي اقتضى ذكر المحادة، فيجب أن يكون داخلاً فيه، ولولا ذلك لم يكن الكلام مؤتلفاً إذا أمكن أن يقال: إنه ليس بمحاد، ودل ذلك على أن الإيذاء والمحادة كفر لأنه أخبر أنه له نار جهنم خالداً فيها، ولم يقل ( هي جزاؤه ) وبين الكلامين فرق..... فيكون المؤذي لرسول الله  كافراً عدواً لله ورسوله، محارباً لله ورسوله " وأيضاً بهذه الآية استدل القاضي عياض في كتابه الشفا ( صـ 94 ).
2- قال ابن تيمية في الصارم المسلول ( 2/70 ): " قول سبحانه: " يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ (66) " وهذا نص في أن الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر، فالسبب المقصود بطريق الأولى، وقد دلت هذه الآية على أن كل من تنقص رسول الله  جاداً أو هازلاً فقد كفر " وأيضاً بهذه الآية استدل القاضي عياض في كتابه الشفا ( صـ 947 ).
ثانياً: ومن السنة.
1- ما رواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي برزة قال: " كنت عند أبي بكر رضي الله عنه فتغيض على رجل، فاشتد عليه، فقلت تأذن لي يا خليفة رسول الله أضرب عنقه قال: فأذهبت كلمتي غضبه، فقام فدخل، فأرسل إلي، فقال: ما الذي قلت آنفاً؟ قلت: ائذن لي أضرب عنقه. قال: أكنت فاعلاً ولو أمرتك؟ قلت: نعم؟ قال: لا والله ما كانت لبشر بعد رسول الله  ".
قال ابن تيمية في الصارم المسلول على شاتم الرسول  ( 1/192 ): " رواه أبو داود في سننه بإسناد صحيح عن عبد الله بن مطرف عن أبي برزة ".
وقال القاضي عياض في ( الشفا ) صـ2/954: " قال القاضي أبو محمد بن نصر: ولم يخالف عليه أحد، فاستدل الأئمة بهذا الحديث على قتل من أغضب النبي  بكل ماأغضبه أو آذاه أو سبه ".
2- ما رواه ابن جرير وغيره من حديث زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطوناً ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المسجد: كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله فبلغ ذلك رسول الله ونزل القرآن فقال عبد الله بن عمر: أنا رأيته متعلقاً. بحقب ناقة رسول الله تنكبه الحجارة وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله  يقول: " قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ " [التوبة: 65-66].
فقد حكم الله  بكفرهم، وقطع بعدم عذرهم مع قولهم معتذرين " ِإنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ " فقال الله تعالى لهم: " لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ".
ثالثاً:الإجماع.
قال القاضي عياض في ( الشفاء ) صـ1/932ـ: " اعلم ـ وفقنا الله وإياك ـ أن جميع من سب النبي  أو عابه أو ألحق به نقصاً في نفسه أو نسبه أو دينه، أو خصلة من خصاله، أو عرض به أو شبهه بشيء على طريق السب له أو الإزراء عليه، أو التصغير لشأنه أو الغض منه، والعيب له، فهو ساب له، والحكم فيه حكم الساب يقتل كما نبينه، ولا نستثني فصلاً من فصول هذا الباب على المقصد، ولا نمتري فيه تصريحاً كان أو تلويحاً. وكذلك من لعنه أو دعا عليه، أو تمنى مضرة له، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهجر، ومنكر من القول وزور، أو عيّره بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه.
وهذا كله إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى وهلم جراً.... ولا نعلم خلافاً في استباحة دمه بين علماء الأمصار وسلف الأمة، وقد ذكر غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره ".
وقال ص926 في المجلد الأول: " وأجمعت الأمة على قتل منتقصه من المسلمين وسابه، قال الله تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً " [الأحزاب: 57].
وقال ابن تيمية في الصارم المسلول 2/15: " وقال الإمام إسحاق بن راهويه أحد الأئمة الأعلام: أجمع المسلمون على أن من سب الله، أو سب رسوله  أو دفع شيئاً مما أنزل الله ، أو قتل نبياً من أنبياء الله ، أنه كافر بذلك وإن كان مقراً بكل ما أنزل الله ـ ثم قال ـ وتحرير القول فيها: أن الساب إن كان مسلماً فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم ".
هذه الأدلة وغيرها من نقولات أهل العلم لإجماع الأمة تدل على أن من استهزئ بالله أو برسوله أو بشيء من الدين فقد كفر وخرج عن ملة الإسلام وإن كان المستهزئ مازحاً أو هازلاً أو زعم أنه لم يقصد بقوله حقيقة ما قال.
قال ابن تيمية عند قوله تعالى: " أكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ " في مجموع الفتاوى ( 7/273 ): " دل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفراً، بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر، فبين أن الاستهزاء بالله ورسوله يكفر به صاحبه بعد إيمانه، فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف، ففعلوا هذا المحرم الذي عرفوا أنه محرم ولكن لم يظنوه كفراً وكان كفراً كفروا به، فإنهم لم يعتقدوا جوازه ".

المسألة الثانية: الاستهزاء على نوعين.
النوع الأول: الاستهزاء الصريح.
ومن أمثلته ما نزلت فيه الآية، وهو قولهم: " ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء " أو نحو ذلك من الأقوال الصريحة من أقوال المستهزئين كقول بعضهم: دينكم هذا دين خامس، أو دين أخرق.
النوع الثاني: الاستهزاء غير الصريح.
وهو النوع الذي قد يكثر رواده من حيث لا يشعرون، وأمثلته: الرمز بالعين أو الغمز باليد استهزاءً أو مد الشفة أو إخراج اللسان عند تلاوة القرآن أو سنة النبي  أو عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو عند شعائر الله.
والفرق بين الاستهزاء الصريح وغير الصريح ( المحتمل ) هو أن الصريح يكون كلاماً كفرياً أكبر مباشرة، بخلاف المحتمل فإنه إن أراد الاحتمال الكفري صار كلامه أو فعله كفراً أكبر وإلا لم يكن كفرياً، والضابط في معرفة السب اللغة والشرع فإن لم يكن فالمرجع فيه عرف الناس.
قال ابن تيمية في الصارم المسلول( 3/1009 ): " وإذا لم يكن للسب حد معروف في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى عرف الناس، فما كان في العرف سباً للنبي  فهو الذي يجب أن ينزل عليه كلام الصحابة والعلماء، وما لا فلا ".
المسألة الثالثة: الاستهزاء بالدين من علامات الكفار والمنافقين.
قال الله تعالى عن الكفار: " وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً * إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً " [الفرقان: 41-42].
وأيضاً من علامات المنافقين الخاصة قال تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) " [ المطففين ].
وقال عنهم أيضاً: " الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " [التوبة: 79].

المسألة الرابعة: من سب رسول الله  فهو كافر يجب قتله.
سواءً كان هذا الساب مسلماً في الأصل أو كان ذمياً فإنه يجب قتله، فالمسلم خرج من دائرة الإسلام بذلك والذمي انتقض عهده بذلك.
ومن الأدلة على ذلك:
1- حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن أعمى كانت له أمُّ ولدٍ تشتم النبي وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي  وتشتمه، فأخذ المغول فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فلما أصبح ذكر ذلك للنبي ، فجمع الناس فقال: " أنْشُدُ رجلاً فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام " قال: فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتدلدل، حتى قعد بين يدي النبي  فقال: يا رسول الله أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثلُ اللؤلؤتين. وكانت بي رفيقة، فلما كانت البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليه حتى قتلتها فقال النبي : " ألا اشهدوا أن دمها هدر " رواه أبو داود والنسائي.
[ المغول: سيف رقيق له قفاً يكون غمده كالسوط، والمشمل: هو السيف القصير، سمي بذلك لأنه يشتمل عليه الرجل، أي يغطيه بثوبه ].
قال الخطابي: فيه بيان أن ساب النبي  يقتل، وذلك أن السب منها لرسول الله  ارتداد عن الدين، وهذا دليل على أنه اعتقد أنها مسلمة، وليس في الحديث دليل على ذلك، بل الظاهر أنها كانت كافرة، وكان العهد لها بملك المسلم إياها؛ فإن رقيق المسلمين ممن يجوز استرقاقه لهم حكم أهل الذمة، وهم أشد في ذلك من المعاهدين...... ولو كانت مرتدة منتقلة إلى غير الإسلام لم يقرها سيدها على ذلك أياماً طويلة، ولم يكتف بمجرد نهيها عن السب، بل يطلب منها تجديد الإسلام، لا سيما إن كان يطؤها فإن وطء المرتدة لا يجوز ".
2- حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله : " من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله؟ " فقام محمد بن مسلمة فقال: أنا يا رسول الله ـ في الحديث أنه قتله هو ومن معه نصرة للنبي  "الحديث متفق عليه.
قال ابن تيمية في الصارم المسلول: " والاستدلال بقتل كعب بن الأشرف من وجهين: ـ أحدهما: أنه كان معاهداً مهادناً، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم بالمغازي والسير، وهو عندهم من العلم العام الذي يستغنى فيه عن نقل الخاصة "
فهذان الحديثان دلاّ على أن من سبّ النبي  فإنه يقتل ولو كان ذمياً ومعاهداً فإنه ينتقض عهده بعد سبه ولا ذمة له أيضاً، والمسلم أيضاً يقتل من باب الأولى، ويدل عليه.
3- ما رواه أبو داود والنسائي وأحمد عن أبي برزة قال: " كنت عند أبي بكر  فتغيض على رجل، فاشتد عليه، فقلت: تأذن لي يا خليفة رسول الله أضرب عنقه قال: فأذهبت كلمتي غضبه. فقام فدخل، فأرسل إلي، فقال: ما الذي قلت آنفاً؟ قلت: ائذن لي أضرب عنقه. قال: أكنت فاعلاً ولو أمرتك؟ قلت: نعم. قال: لا والله ما كانت لبشر بعد رسول الله  ".
قال ابن تيمية في الصارم المسلول 1/192: " فقد تضمن الحديث خصيصتين لرسول الله : أحدهما: أنه يطاع في كل من أمر بقتله.
والثانية: أن له قتل من شتمه وأغلظ له ".
وكذلك من سبّ الله وسب دينه فهو كافر لابد من قتله.
قال ابن تيمية في الصارم المسلول( 2/15 ): " وقال الإمام إسحاق بن راهويه أحد الأئمة الأعلام: أجمع المسلمون على أن من سب الله، أو سب رسوله  أو دفع شيئاً مما أنزل الله عز وجل، أو قتل نبياً من أنبياء الله ، أنه كافر بذلك وإن كان مقراً بكل ما أنزل الله ـ ثم قال ـ وتحرير القول فيها: أن الساب إن كان مسلماً فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد تقدم ممن حكى الإجماع على ذلك من الأئمة مثل إسحاق بن راهويه وغيره، وإن كان ذمياً، فإنه يقتل أيضاً في مذهب مالك وأهل المدينة وسيأتي حكاية ألفاظهم، وهو مذهب أحمد وفقهاء الحديث وقد نص أحمد على ذلك في مواضع متعددة "
وقال في موضع آخر( 2/32 ): " والدلالة على انتقاض عهد الذمي بسب الله أو كتابه أو دينه أو رسوله، ووجوب قتله وقتل المسلم إذا أتى ذلك: الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين والاعتبار ".

* مسألة قبول توبة من سبَّ الله تعالى ومن سب رسوله  وهل يقتل بعد توبة؟
من المسائل التي جرى فيها الخلاف وبسط القول فيها شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الصارم المسلول على شاتم الرسول انظر في نفس الكتاب المواضيع التالية: ( 3/563، 3/575، 3/613، 3/645، 3/1017 ).
وقال شيخنا ابن عثيمين في القول المفيد ( 3/31 ): " إلا أن ساب الرسول  تقبل توبته ويجب قتله، بخلاف من سب الله، فإنها تقبل توبته ولا يقتل، لا لأن حق الله دون حق الرسول  بل لأن الله أخبرنا بعفوه عن حقه إذا تاب العبد إليه بأنه يغفر الذنوب جميعاً، أما ساب الرسول  فإنه يتعلق به أمران:
الأول: أمر شرعي لكونه رسول الله ، ومن هذا الوجه تقبل توبته إذا تاب.
والثاني: أمر شخصي لكونه من المرسلين، ومن هذا الوجه يجب قتله لحقه  ويقتل بعد توبته على أنه مسلم، فإذا قتل غسلناه وكفناه وصلينا عليه ودفناه مع المسلمين، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد ألف كتاباً في ذلك اسمه: ( الصارم المسلول في حكم قتل ساب الرسول ) أو ( الصارم المسلول على ساب الرسول )، وذلك لأنه استهان بحق الرسول ، وكذا لو قذفه فإنه يقتل ولا يجلد.
فإن قيل: أليس قد ثبت أن من الناس من سب الرسول  وقبل منه وأطلقه؟
أجيب: بلى هذا صحيح، لكن هذا في حياته ، وقد أسقط حقه، أما بعد موته فلا ندري، فننفذ ما نراه واجباً في حق من سبه .
فإن قيل: احتمال كونه يعفو عنه أو لا يعفو موجب للتوقف؟ أجيب: إنه لا يوجب التوقف لأن المفسدة حصلت بالسب، وارتفاع أثر هذا السب غير معلوم، والأصل بقاؤه.
فإن قيل: أليس الغالب أن الرسول  عفا عمن سبه؟
أجيب: بلى، وربما كان في حياة الرسول  إذا عفا قد تحصل المصلحة ويكون في ذلك تأليف، كما أنه  يعلم أعيان المنافقين ولم يقتلهم لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، لكن الآن لو علمنا أحداً بعينه من المنافقين لقتلناه. قال ابن القيم: إن عدم قتل المنافق المعلوم إنما هو في حياة الرسول  فقط.
* وهل لأحد من المسلمين أن يعفو عمن سب النبي ويقبل اعتذاره؟
ليس لأحد من المسلمين الحق في أن يطالب الذين يقعون في عرض النبي بالاعتذار أو يعفو عمن سب النبي  أو يقبل عذرهم، لأنه حق للنبي ، ونظير ذلك حقوق عامة الناس لا يتنازل عنها إلا صاحب الحق، فكيف بحق النبي  وإنما على المسلم أن يطالب بحق النبي لأن مقام النبي أعظم مقام والتعدي عليه أعظم من التعدي على غيره من البشر، ومسألة سب النبي  ومقامه الشريف من المسائل التي هي أصل في عقيدة كل مسلم، فلا يجوز الكلام عليها إلا بعلم ودليل عن الله أو عن رسوله  فهي مسألة شرعية عقدية مهمة للغاية ولا يوجد دليل من كتاب الله ولا من سنة رسول الله  أو قول صحابي أو تابعي أو إمام من أئمة الدين والهدى من السلف أو الخلف على العفو عمن سب النبي  أو قبول اعتذاره إذا اعتذر بل الثابت في الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين أنه يجب قتله سواءً كان مسلماً أو كافراً كما سبق.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول  (1/192) بعد حديث أبي برزة السابق: " فقد تضمن الحديث خصيصتين لرسول الله : إحداهما: أنه يطاع في كل من أمر بقتله.
والثانية: أن له قتل من شتمه وأغلظ له. وهذا  المعنى الثاني الذي كان له باق في حقه بعد موته، فكل من شتمه  وأغلظ في حقه كان قتله جائزاً، بل ذلك بعد موته أوكد و أوكد؛ لأن حرمته بعد موته أكمل، والتساهل في عرضه بعد موته غير ممكن. وهذا الحديث يفيد أن سبّه في الجملة يبيح القتل، ويستدل بعمومه على قتل الكافر والمسلم "
وقال: أيضا: الجواب الرابع: أن النبي  كان له أن يعفو عمن شتمه وسبه في حياته، وليس للأمة أن يعفو عن ذلك ومما ابتلي به المسلمون في العصور المتأخرة سب عباد الأوثان والأبقار وأحفاد القردة والخنازير للنبي ففي كل حين يظهر من هؤلاء من ينال من نبينا  و من دينه ودعوته إمّا بكلام ساقط أو برسومات ساخرة " قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ " ويجب أن يعلم كل مسلم أنّ نصرة النبي والذب عن عرضه وتوقيره وتعزيره حق عليه يجب أن ينافح عنه وله .
قال ابن تيمية في الصارم المسلول: " الوجه السادس: أنّ الله فرض علينا تعزير رسوله وتوقيره..... فلا يجوز أن نصالح أهل الذمة الذين يُسمعونا شتم نبينا ويظهروا ذلك، فإن تمكينهم من ذلك ترك للتعزير والتوقير، وهم يعلمون أنا لا نصالحهم على ذلك، بل الواجب علينا أن نكفَّهم عن ذلك ونزجرهم عنه بكل طريق، وعلى ذلك عاهدناهم، فإذا فعلوه فقد نقضوا الشرط الذي بيننا وبينهم "
وهذا فيمن كان بيننا وبينهم عهد فكيف بمن لا عهد له ولا ذمة، فيجب تطهير الأرض من إظهار سب رسول الله بحسب الإمكان.
نسأل الله أن ينتقم لرسول الله من كل من آذاه من أعداء الله.
فائدة: كان المسلمون إذا حاصروا عدوهم من الكفار، فامتنع الكفار حتى دب اليأس إلى المسلمين، فسب الكفار رسول الله فإنه يُفتح على المسلمين بسبب سب الكفار لرسول الله.
قال ابن تيمية في الصارم المسلول ( 2/233 ): " ونظير هذا ما حدثناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا، قالوا: كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنع علينا نكاد نيأس منه حتى إذا تعرض أهله لسب رسول الله  والوقيعة في عرضه، تعجلنا فتحه وتيسر ولم يكد يتأخر إلا يوماً أو يومين أو نحو ذلك، ثم يفتح المكان عنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا: حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم بما قالوه فيه. وهكذا حدثني بعض أصحابنا الثقات أن المسلمين من أهل المغرب حالهم مع النصارى كذلك، ومن سنة الله أن يعذب أعداءه تارة بعذاب من عنده، وتارة بأيدي عباده المؤمنين ".
وذكر نحو هذا الكلام ابن تيمية أيضاً في كتابه الجواب الصحيح ( 6/296 ).

المسألة الخامسة: قوله تعالى: " قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ".
فيها عدة مباحث " قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ " التوبة[ 65ـ66 ]

أولاً: سبب نزول هذه الآية ما تقدم ذكره وهو ما رواه ابن جرير الطبري في " تفسيره " ( 10/172 ) عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عبدالله بن عمر قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء. فقال رجل في المسجد: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله ، فبلغ ذلك رسول الله ، ونزل القرآن فقال عبدالله بن عمر: أنا رأيته متعلقاً بحقب ناقة رسول الله  تنكبه الحجارة وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله  يقول: " قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ "[ التوبة  65ـ66 ].
ثانياً: اختلف أهل العلم فيمن نزلت هذه الآية؟
القول الأول: أنها نزلت في المنافقين، وهذا المنقول عن السلف عند تفسير الآية كابن عباس وابن مسعود وقتادة ومجاهد وغيرهم، ورجحه ابن تيمية في الصارم المسلول في عدة مواضع ( 3/586،613،873 ) وابن عثيمين في آخر فتاوى العقيدة.
القول الثاني: أنها نزلت في أناس مسلمين وهو قول آخر لابن تيمية في كتاب ( الإيمان ) وبه قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في ( كشف الشبهات )و عبد الرحمن بن حسن في ( فتح المجيد)وهو قول آخر أيضا للشيخ ابن عثيمين في(شرح كتاب التوحيد ).
ثالثا: علي القول بأنها نزلت في المنافقين، لا يصح أن نقول أنها لا دلالة فيها على أن الاستهزاء كفر لأنها نزلت في المنافقين وهم كفار قبل وبعد الاستهزاء فهذا قول مردود لأن الله علّق التكفير بنطق الكلمة وقال: " قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ " وأيضاً لو كان التكفير من أجل النفاق وليس لأجل الاستهزاء لما أخرّ الله تكفيرهم إلى حصول الاستهزاء ولأنزل الله تكفيرهم من قبل فإن رسول الله يعلم أسماء المنافقين وأخبر بها حذيفة، مما يدل على أن الاستهزاء سبب من أسباب الكفر والخروج من ملة الإسلام.
رابعاً: قوله تعالى " إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً " تمسك بها من يقول بعدم كفر المستهزئ لأنه عُفي عن طائفة منهم، ولا دلالة في ذلك لأن كل المستهزئين أظهروا التوبة فمن صدق في توبته عفي عنه ومن لم يصدق لم يعف عنه ولم تقبل توبته كما ذكر ذلك السعدي في تفسيره، ذكر بعض المفسرين أن المعفو عنهم هم الذين استمعوا للأذى دون الذين تكلموا فيه فلم يعف عنهم.
وذكر ابن تيمية جواباً ثالثاً في الصارم المسلول ( 3/875 ) فقال: " أنه سبحانه أخبر أنه لابد أن يعذب طائفة من هؤلاء إن عفا عن طائفة، وهذا يدل على أن العذاب واقع بهم لا محالة، وليس فيه ما يدل علي وقوع العفو؛ لأن العفو معلق بحرف الشرط فهو محتمل، وأما العذاب فهو واقع بتقدير وقوع العفو وهو بتقدير عدمه أوقع، فعلم أنه لابد من التعذيب، إمّا عاماً أو خاصاً لهم ".

المسألة السادسة: الاستهزاء وسب الأنبياء كفر كسب نبينا محمد .
قال ابن تيمية في الصارم المسلول ( 3/1048 ): " والحكم في سب سائر الأنبياء كالحكم في سب نبينا، فمن سب نبيا مسمى باسمه من الأنبياء المعروفين كالمذكورين في القرآن أو موصوفاً بالنبوة، مثل أن يذكر حديثاً أن نبياً فعل كذا أو قال كذا، فيسب ذلك القائل أو الفاعل، مع العلم بأنه نبي، وإن لم يعلم من هو، أو يسب نوع الأنبياء على الإطلاق، فالحكم في هذا كما تقدم لأن الإيمان بهم أوجب عموماً، وواجب الإيمان خصوصاً بمن قصه الله علينا في كتابه، وسبهم كفر وردة إن كان مسلماً، ومحاربة إن كان من ذمي...... وإن كان أكثر كلام الفقهاء إنما فيه ذكر من سب نبينا، فإنما ذلك لمسيس الحاجة إليه، وأنه أوجب التصديق له والطاعة جملة وتفصيلاً، ولا ريب أن جرم سابه أعظم من جرم ساب غيره، كما أن حرمته أعظم من حرمة غيره ".

المسألة السابعة: الاستهزاء وسب أزواج النبي .
قال ابن تيمية في الصارم المسلول ( 3/1050ـ1054 ): " فأما من سب أزواج النبي  فقال القاضي أبو يعلي: من قذف عائشة بما برأها الله منه كفر بلا خلاف. وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد، وصرح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم، فروي عن مالك: من سب أبا بكر جلد، ومن سب عائشة قتل، قيل له: لم؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن، ولأن الله تعالى قال: " يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ " [النور: 17]....... وأما من سب غير عائشة من أزواجه  ففيه قولان: أحدهما أنه كسابّ غيرهن من الصحابة على ما سيأتي.
والثاني: وهو الأصح أن من قذف واحدة من أمهات المؤمنين فهو كقذف عائشة رضي الله عنها وقد تقدم معنى ذلك عن ابن عباس، وذلك لأن هذا فيه عار وغضاضة على رسول الله ، وأذى له أعظم من أذاه بنكاحهن بعده، وقد تقدم التنبيه على ذلك فيما مضى عند الكلام على قوله: " إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " الآية، والأمر فيه ظاهر. "

المسألة الثامنة: الاستهزاء وسب الملائكة.
قال القاضي عياض في الشفاء ( 2/119 ): " وحكم من سب سائر أنبياء الله تعالى وملائكته واستخف بهم أو كذبهم فيما أتوا به، أو أنكرهم وجحدهم، حكم نبينا  على مساق ما قدمناه، قال الله تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (150) أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً " [النساء 150-151 ] وقال تعالى " قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ " [البقرة: 136] وقال: " كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ " [البقرة: 285] قال مالك في كتاب ابن حبيب، ومحمد، وقال ابن القاسم وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ وسحنون فيمن شتم الأنبياء أو أحداً منهم أو تنقصه قتل ولم يستتب. ومن سبهم من أهل الذمة قتل إلا أن يسلم ".
قال ابن حزم في " الفصل " ( 3/299 ): " صح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى، أو بملك من الملائكة، أو بنبي من الأنبياء، أو بآية من القرآن، أو بفريضة من فرائض الدين، فهي كلها آيات لله تعالى، بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر ".

المسألة التاسعة: الاستهزاء وسب الصحابة .
جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد أن رسول الله  قال: " لا تسبوا، أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ".
والاستهزاء وسب الصحابة على أنواع: ـ
الأول: من استهزأ بهم عامة أو سبهم بالجملة أو اتهمهم بالنفاق والردة أو عمم ذلك عليهم إلا قليلاً منهم، فهذا كفر وردة بإجماع العلماء وقد حكى الإجماع على ذلك ابن حزم والقاضي أبو يعلى، والسمعاني وابن تيمية وابن كثير وغيرهم، لأنه أراد بذلك اتهام دينهم وصلاحهم وصحبتهم، وأيضاً هو مكذب للقرآن.
قال ابن تيمية: " وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله  إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر نفساً، أو أنهم فسقوا عامتهم، فهذا لاريب أيضاً في كفره، فإنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع من الرضى عنهم والثناء عليهم، بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين، فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق........... وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، ولهذا تجد عامة من ظهرت لله فيهم مثلات، وتواتر النقل بأن وجوههم تمسخ خنازير في المحيا والممات، وجمع العلماء ما بلغهم في ذلك، ومن صنف فيه الحافظ أبو عبدالله محمد بن عبدالواحد المقدسي كتابه في ( النهي عن سب الأصحاب وما جاء فيه من الإثم والعقاب ) ".
الثاني: أن يكون سبهم مصحوباً بأمر كفري فهذا كفر أيضاً.
قال ابن تيمية: " أما من اقترن بسبه دعوى أن علياً إله، أو أنه كان هو النبي وإنما غلط جبريل في الرسالة، فهذا لاشك في كفره، بل لاشك في كفر من توقف في تكفيره ".
الثالث: الاستهزاء ببعضهم وسبهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم فهذا محرم وليس بكفر كاتهام بعضهم بالجبن والبخل وقلة العلم ونحو ذلك ولكن قائل ذلك يستحق التفسيق والتعزير والزجر.
قال ابن تيمية: " وأما من سبهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم، مثل وصف بعضهم بالبخل أو الجبن أو قلة العلم أو عدم الزهد ونحو ذلك، فهذا الذي يستحق التأديب والتعزير، ولا يحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من العلماء ".

المسألة العاشرة: الاستهزاء بأهل العلم والصلاح على نوعين:
النوع الأول: الاستهزاء والسخرية بأشخاصهم.
كمن يستهزئ بأوصافهم الخَلْقية أو الخُلُقية، فهذا النوع محرم.
ويدل على ذلك: قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ " [الحجرات: 11].
النوع الثاني: الاستهزاء والسخرية بأهل العلم لأجل علمهم وبأهل الصلاح لأجل صلاحهم.
فهذا النوع كفر وردة عن دين الإسلام لأن استهزاءه بهم إنما هو من أجل الدين والعلم والصلاح الذي يحملونه لا على أشخاصهم وذواتهم. وهذا استهزاء بالإسلام ويستدل له بقوله تعالى: " قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ " [التوبة  65ـ66 ]. وتقدم بيان سبب نزول هذه الآية.
سئل الشيخ حمد بن عتيق عن معنى قول الفقهاء ( من قال يا فقيه بالتصغير يكفر ).
فكان من جوابه: " وأما قول القائل " فقيِّه "، أو " عوَيْلم "، أو " مطَيْويْع " ونحو ذلك، فإذا كان قصد القائل الهزل أو الاستهزاء بالفقه أو العلم أو الطاعة، فهذا كفر أيضاً، ينقل عن الملة، فيستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتداً " [ انظر الدرر السنية 10/428 ].
* سئل الشيخ ابن عثيمين في المجموع الثمين ( 1/65 ) عن بعض الناس الذين يسخرون بدين الله، ويستهزئون بهم ما حكمهم؟
فأجاب: " هؤلاء الذين يسخرون بالملتزمين  بدين الله المنفذين لأوامر الله فيهم نوع نفاق، فإن الله تعالى قال عن المنافقين: " الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " [التوبة: 79] ثم إن كانوا يستهزئون بهم من أجل ما هم عليه من الشرع، فإن استهزاءهم بهم استهزاء بالشريعة، والاستهزاء بالشريعة كفر. أما إذا كانوا يستهزئون يعنون أشخاصهم و زيهم بقطع النظر عمَّاهم عليه من اتباع السنة، فإنهم لا يكفرون بذلك، لأن الإنسان قد يستهزئ بالشخص نفسه بقطع النظر عن عمله وفعله، لكنه على خطر عظيم ".

المسألة الحادية عشرة: مجالسة من يسب ويستهزئ بدين الله.
من جالسهم وهو راضٍ باستهزائهم يضحك معهم ويمرح، فهو كافر مثلهم خارج من ملة الإسلام وإن لم يتفوه بما تفوهوا به فليحذر المسلم من مجالسة هؤلاء.
ويدل عليه: قوله تعالى: " وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً " [النساء: 140].
قال ابن كثير في تفسيره على هذه الآية: " أي أنكم إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم، ورضيتم بالجلوس معه في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ وينتقص بها، وأقررتموهم على ذلك، فقد شاركتموهم في الذي هم فيه ".
وقال الشيخ السعدي: " لأنكم رضيتم بكفرهم واستهزائهم، والراضي بالمعصية كالفاعل لها ".





 
الناقض السابع:
قال الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: [ السحر، ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به كفر، والدليل قول الله تعالى: " وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ " [البقرة: 102] ].
الشـرح
المسألة الأولى: تعريف السحر.
السحر لغة: ما خفي ولطف سببه، ومنه قول العرب في الشي إذا كان شديداً خفاؤه: " أخفى من السحر ".
ومنه يسمى السَحَر لآخر الليل، ولخفاء الأفعال فيه، والرئة تسمى سحراً وهي حمل الغذاء وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن، كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة: انتفخ سحره، أي انتفخت رئته من الخوف.
و السحر في الشرع ينقسم إلى قسمين:
الأول: عقد ورُقى، أي قراءات وطلاسم يتوصل بها الساحر إلى استخدام الشياطين فيما يريد به ضرر المسحور، ولكن قال الله تعالى: " وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ " [البقرة: 102].
الثاني: أدوية وعقاقير تؤثر على بدن المسحور وعقله وإرادته وميله، فتجده ينصرف ويميل، وهو ما يسمى بالصرف والعطف، فيعطفون الرجل على زوجته حتى يكون كالبهيمة تقوده كما تشاء،أو العكس فيصرفونه عنها.
إذن من السحر ما يكون شركاً وهو الأول ما كان باستخدام الشياطين ومنه ما يكون عدواناً و ظلماً وهو الثاني، ما يكون باستخدام الأدوية والعقاقير وكثرت تعريفات العلماء للسحر لكثرة أنواعه فقد قيل في تعريفه غير ما سبق.
قال الشنقيطي في أضواء البيان ( 4/444 ): " السحر في الاصطلاح لا يمكن حدّه بحدٍّ جامع مانع لكثرة الأنواع المختلفة الداخلة تحته، ولا يتحقق قدر مشترك بينها، يكون جامعاً لها مانعاً لغيرها، ومن هنا اختلفت عبارات العلماء في حدّه اختلافاً متبايناً ".

المسألة الثانية: هل للسحر حقيقة أم أنه ضرب من الخيال.
السحر له حقيقة عند جمهور أهل العلم وهو مذهب أهل السنة والجماعة.
قال النووي: " ويدل عليه الكتاب والسنة المشهورة " ومن الأدلة في ذلك:
1- قول الله تعالى: " وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ " [الفلق: 4].
ووجه الدلالة: أن الله أمر بالاستعاذة منه ولو لم يكن حقيقة لم يأمرنا بالاستعاذة منه.
والنفاثات: جمع نفاثة وهي التي تعقد العقد وتنفث فيها.
2- قوله تعالى: " فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ " [البقرة: 102].
ووجه الدلالة: من جهتين: أنه يُتعلَّم، والثانية: أنه سبب في التفريق بين المرء وزوجه وهذا يدل على أن له حقيقة.
3- ومن السنة: حديث عائشة في الصحيحين: " أن النبي  سُحر، حتى إنه ليُخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، وأنه قال لها ذات يوم: أتاني ملكان فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب. قال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم في مشط ومشاطه، وفي جف طلعة في بئر ذروان " ولما حلّ النبي السحر قال: " إن الله شفاني " والشفاء إنما يكون برفع العلة وزوال المرض مما يدل على أن له حقيقة.
قال ابن هبيرة في كتابه " الإشراف على مذاهب الإشراف ": " أجمعوا على أن السحر له حقيقة إلا أبا حنيفة فإنه قال: لا حقيقة له عنده ".
وخالف أهل السنة والجماعة في ذلك المعتزلةُ الذين قالوا أن السحر لا حقيقة له بل هو تخييلي، والحق كما سبق أن للسحر حقيقة، ومن السحر ما هو تخييلي.
فالسحر له نوعان باعتبار المسحور:
الأول: حقيقي، وسبقت أدلته.
والثاني: تخييلي.
وهو سحر الأعين يخيّل لمن ينظر إليه أنها تغيرت أو تحولت إلى كذا كأن يأتي الساحر بحشرات فيلقي عليها سحره فتصبح لمن ينظر إليها كأنها غنم ثم بعد قليل تعود إلى طبيعتها فهو سحر تخييلي لا حقيقة له وهو من جنس ما فعله فرعون مع موسى  لما جمع السحرة ليقابلوا موسى فعملوا سحراً تخييلاً.
ويدل على ذلك: قوله تعالى " فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ " [الأعراف: 116]. فلم يقل الله تعالى ( سحروا الناس ) وإنما قال ( سحروا أعين الناس ) وهذا هو السحر التخييلي.
2- قوله تعالى: " فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى " [طه: 66].
ولم يقل: تسعى على الحقيقة، بل يُخيّل إلى موسى ذلك.
فائدة: السحر معروف ومحرم في جميع الأديان.
قال سليمان بن عبد الله في تيسير العزيز الحميد " ص ( 386 ): " السحر محرم في جميع أديان الرسل عليهم السلام كما قال تعالى: " وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حيْثُ أَتَى ".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه النبوات ص ( 272 ): " اسم الساحر معروف في جميع الأمم " أ. هـ.
ويدل على ذلك: قوله تعالى: " كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ " [الذاريات: 52].

المسألة الثالثة: السحر يدخل في الشرك من جهتين: ـ
الأولى: ما فيه من استخدام الجن والشياطين، والتقرب إليهم من دون الله بما يريدونه، ليوصلوا الساحر إلى مبتغاه، والسحر من تعليم الشياطين كما قال تعالى: "  وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ " [البقرة: 102].
الثانية: لما فيه من ادعاء لعلم الغيب، ومما لاشك فيه أن في هذا منازعة لله  في خصوصياته: " قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ " [النمل: 65]
وادعاء علم الغيب شرك لما في ذلك من مشاركة الله في ذلك.
والسحر إن كان كذلك فهو كفر وشرك لما سبق، إلا أن هناك أنواعاً من السحر لا تدخل تحت هذا الباب فالسحر على قسمين:
الأول: شرك: وهو الذي يكون بواسطة الشياطين، يعبدهم ويتقرب إليهم ليسلطهم على المسحور.
الثاني: عدوان وظلم: وهو الذي يكون بواسطة الأدوية والعقاقير، لأذية الخلق وصدهم عما يريدون.
وعلى هذا التقسيم تبنى مسألة كفر الساحر.

المسألة الرابعة: هل يكفر الساحر أو لا يكفر؟
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: أن الساحر يكفر مطلقاً، وذهب إلى هذا القول أبو حنيفة ومالك وأحمد في رواية له وطائفة من السلف.
واستدلوا: بأدلة أقواها قوله تعالى: " وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ " [البقرة: 102].
ووجه الدلالة: أن الشياطين كفروا بتعليمهم الناس السحر، وأن الملكين لا يعلمان أحداً إلا أخبراه بأن تعلم السحر كفر فمن تعلم السحر كفر.

والقول الثاني: أنه يُستفصل من الساحر فإن كان وقع في مكفر من المكفرات كعبادة الشياطين وادعاء علم الغيب كفر وإلا لم يكفر، وهذا القول هو الأظهر والله أعلم وهو اختيار الشافعي وأحمد في رواية له وداود الظاهري، وهو اختيار شيخنا ابن عثيمين، فكفر الساحر ينبني على سحره الذي سحر به الناس، فإن كان من القسم الأول وهو عبادة الشياطين والتقرب إليهم أو بادعاء علم الغيب فهذا شرك فالساحر يكفر بهذا، وإن كان من القسم الثاني وهو ما كان باستخدام الأدوية والعقاقير فهذا عدوان وظلم دون الكفر، وما ورد من الأدلة في كفر الساحر فهي محمولة على ارتكابه مكفر من المكفرات التي تخرجه عن ملة الإسلام منها الآية السابقة " وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ " فقد أجاب الشافعي وغيره عن هذه الآية بأن أهل بابل كانوا يعتقدون التقرب إلى الكواكب السبع وأنها تفعل ما يُلتمس منها، وهذا مما لاشك فيه شرك أكبر مخرج عن ملة الإسلام.
قال الشافعي في كتابه الأم ( 1/256 ): " فيقال للساحر صف السحر الذي تسحر به، فإن كان ما يسحر به كلام كفر صريح استتيب منه، وإن كان ما يسحر به كلاماً لا يكون كفراً، وكان غير معروف ولم يضر به أحداً نهي عنه فإن عاد عزر، وإن كان يعلم أنه يضر به أحداً من غير قتل فعمد أن يعلمه عزر ".
قال الشنقيطي في أضواء البيان ( 4/456 ): " التحقيق في هذه المسألة هو التفصيل: فإن كان السحر مما يُعظم فيه غير الله، كالكواكب والجن وغير ذلك مما يؤدي إلى الكفر، فهو كفر بلا نزاع، ومن هذا النوع سحر هاروت وماروت المذكور في سورة البقرة، فإنه كفر بلا نزاع.... وإن كان السحر لا يقتضي الكفر كالاستعانة بخواص بعض الأشياء من دهانات وغيرها، فهو حرام حرمة شديدة، ولكنه لا يبلغ بصاحبه الكفر، وهذا هو التحقيق إن شاء الله في هذه المسألة التي اختلف فيها العلماء ".
وممن أطلق الكفر على الساحر المصنف رحمه الله في هذا الناقض وظاهر كلامه أن مراده القسم الأول وهو ما كان باستخدام الشياطين.

المسألة الخامسة: عقوبة الساحر.
عقوبة الساحر القتل، وقتل الساحر اختلف فيه العلماء، و الأظهر أنه يقتل و مما يدل أن الساحر يقتل ما يلي: ـ
1- ما رواه أحمد وأبو داود والبيهقي عن بجالة بن عبدة قال: " كتب عمر بن الخطاب: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر ".
2- وما رواه البيهقي عن نافع عن ابن عمر عن حفصة بنت عمر " أن جارية لها سحرتها فأقرت بالسحر، وأخرجته، فقتلتها، فبلغ ذلك عثمان  فغضب، فأتاه ابن عمر رضي الله عنهما فقال: جاريتها سحرتها أقرت بالسحر وأخرجته، قال: فكف عثمان ، قال: وكأنه إنما كان غضبه لقتلها إياها بغير أمره " وصححه الشيخ محمد بن عبدالوهاب في كتاب التوحيد.
3- ما رواه البيهقي في سننه والبخاري من وجه آخر في التاريخ " موقوفاً على جندب بن عبدالله أنه قال: " حد الساحر ضربة بالسيف " وأما المرفوع فلا يصح كما سيأتي بإذن الله تعالى.
قال الإمام أحمد بن حنبل: " صح عن ثلاثة من أصحاب النبي  في قتل الساحر "
فالصواب أنه يقتل لأن هذا حكم الصحابة كما سبق ولا يعلم لهم مخالف وقال النبي : " اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر " رواه أحمد والترمذي.
قال ابن قدامة في المغني ( 12/302 ): " وحد الساحر القتل. روي ذلك عن عمر وعثمان بن عفان وابن عمر وحفصة وجندب بن عبدالله وجندب بن كعب وقيس بن سعد وعمر بن عبدالعزيز وهو قول أبي حنيفة ومالك، ولم ير الشافعي عليه القتل بمجرد السحر. وهو قول ابن المنذر ورواية عن أحمد وقد ذكرناها فيما تقدم. ووجه ذلك: أن عائشة رضي الله عنها: ـ باعت مدبرة سحرتها، ولو وجب قتلها لما حل بيعها ولأن النبي  قال: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق " ولم يصدر منه أحد الثلاثة، فوجب أن لا يحل دمه، ولنا ما روى جندب بن عبدالله عن النبي  أنه قال: " حد الساحر ضربة بالسيف ".
قال ابن المنذر: رواه إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف، وروى سعيد وأبو داود في كتابيهما عن بجالة قال: كنت كاتباً لجزء ابن معاوية عم الأحنف بن قيس إذ جاءنا كتاب عمر قبل موته بسنة: اقتلوا كل ساحر. فقتلنا ثلاث سواحر في يوم. وهذا اشتهر فلم ينكر فكان إجماعاً. وقتلت حفصة جارية لها سحرتها. وقتل جندب بن كعب ساحراً كان يسحر بين يدي الوليد بن عقبة. ولأنه كافر فيقتل للخبر الذي رووه " أ ـ هـ.
وقال ابن تيمية في الفتاوى ( 28/346 ): " وكذلك قد قيل في قتل الساحر، فإن أكثر العلماء على أنه يقتل، وقد روي عن جندب  موقوفاً ومرفوعاً: " أن حد الساحر ضربة بالسيف " رواه الترمذي. وعن عمر وعثمان وحفصة وعبدالله بن عمر وغيرهم من الصحابة ـ  ـ قتله " أ ـ هـ.
فالأرجح والله أعلم كما سبق أن الساحر يقتل، فإن كان في سحره شيء من المكفرات يقتل لردته وإن كان في سحره دون الكفر فإنه يقتل دفعاً لأذاه وشره وكفاً لفساده ولا يلزم من قتله تكفيره. ويكفي بأن من حكم في قتله الخليفة عمر الفاروق ، وأما عدم قتل النبي للبيد بن الأعصم فقد أجاب عنه العلماء بأجوبة أحسنها: خشية إثارة الفتنة.
قال الشيخ ابن عثيمين في القول المفيد( 2/30 ): " والحاصل: أنه يجب أن نقتل السحرة سواء قلنا بكفرهم أو لم نقل، لأنهم يمرضون ويقتلون ويفرقون بين المرء وزوجه، وكذلك العكس، فقد يعطفون فيؤلفون بين الأعداء ويتوصلون إلى أغراضهم، فإن بعضهم قد يسحر أحداً ليعطفه إليه وينال مأربه منه، كما لو سحر امرأة ليبغي بها، ولأنهم كانوا يسعون في الأرض فساداً فكان واجباً على ولي الأمر قتلهم بدون استتابة ما دام أنه حد لضررهم وفظاعة أمرهم، فإن الحد لا يستتاب صاحبه متى قبض عليه، وجب أن ينفذ فيه الحد......... والقول بقتلهم موافق للقواعد الشرعية، لأن مثل هؤلاء إذا تركوا وشأنهم انتشر فسادهم في أرضهم وأرض غيرهم،وإذا قتلوا سلم الناس من شرهم،وارتدع الناس عن تعاطي السحر ".
فائدة: لا يصح في الأمر بقتل الساحر خبر مرفوع إلى النبي ، بل الثابت عن صحابته كما سبق، وأما ما رواه الترمذي في سننه والطبراني والدارقطني وغيرهم من حديث إسماعيل بن مسلم عن الحسن البصري عن جندب عن رسول الله  أنه قال: " حد الساحر ضربة بالسيف " فهو خبر لا يصح عن النبي  ضعفه الترمذي وصوّب وقفه على جندب وقال الترمذي في علله: " سألت محمداً عن هذا الحديث فقال: هذا لا شيء " وضعفه ابن عبد البر وغيره: وقال الترمذي: " لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، وإسماعيل بن مسلم المكي فالحديث ضعيف لاضطراب إسماعيل بن مسلم فيه فتارة يرسله وتارة يصله، وإسماعيل يُضعف، قال عنه أحمد " منكر الحديث " وقال ابن معين " ليس بشيء " وقال الذهبي " متفق على تضعيفه ".

المسألة السادسة: هل يستتاب الساحر أو أنه يُقتل بلا استتابة.
اختلف أهل العلم في قبول توبته على قولين: ـ
القول الأول: أنه لا يستتاب، وهو قول جمهور العلماء وهو المشهور عن أحمد ومالك.
ودليلهم: أن الصحابة لم يستتيبوا الساحر.
والقول الثاني: أنه يستتاب وهو اختيار الشافعي ورواية عن الإمام أحمد.
وعللوا ذلك: بأن ذنب الساحر لا يزيد على الشرك والمشرك يستتاب.
والأظهر والله أعلم: القول الأول وأن الساحر لا يستتاب، لعدم استتابة الصحابة له، ورجح هذا القول سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب في " تيسير العزيز الحميد وردّ على تعليل أصحاب القول الثاني بأن قياس الساحر على المشرك قياس لا يصح لأن الساحر أكثر فساداً منه، وأيضاً قياسه على الساحر الكتابي لا يصح لأن الإسلام يجبُّ ما قبله علماً بأن هذا في أحكام الدنيا، وأما فيما بينه وبين الله إن كان صادقاً قبلت توبته.

المسألة السابعة: من أنواع السحر وما يلحق به.
" فمنها علم التنجيم، وهو أنواع: أعظمها ما يفعله عبدة النجوم ويعتقدونه في السبعة السيارة وغيرها، فقد بنوا بيوتاً لأجلها، وصوروا فيها تماثيل سموها بأسماء النجوم، وجعلوا لها مناسك وشرائع يعبدونها بكيفياتها.
ومنها ما يفعله من يكتب حروف ما يعرف بأبي جاد، ويجعل لكل منها قدراً من العدد معلوماً، ويجري على ذلك أسماء الآدميين والأزمنة والأمكنة وغيرها، ويجمع جمعاً معروفاً عنده، ويطرح منه طرحاً خاصاً، ويثبت إثباتاً خاصاً وينسب إلى الأبراج الإثني عشر المعروفة عند أهل الحساب، ثم يحكم على تلك القواعد بالسعود والنحوس وغيرها مما يوحيه إليه الشيطان
ومنها النظر في حركات الأفلاك ودورانها وطلوعها وغروبها واقترانها وافتراقها، معتقدين أن لكل نجم منها تأثيرات في كل حركاته منفرداً، وله تأثيرات أخر عند اقترانه بغيره في غلاء الأسعار ورخصها وهبوب الرياح وسكونها، ووقوع الكوائن والحوادث.
ومنها النظر في منازل القمر الثمانية والعشرين، مع اعتقاد التأثيرات في اقتران القمر بكل منها ومفارقته.
وكل هذه الأنواع اعتقاد صدقها محادة لله ولرسوله، وتكذيب بشرعه وتنزيله، واتباع لزخارف الشيطان ما أنزل الله بذلك من سلطان، والنجم مخلوق من المخلوقات مربوب مسخر مدبر كائن بعد أن لم يكن..... " [ انظر مختصر معارج القبول، للشيخ حافظ الحكمي ص 162 ].
" وكذلك لا يجوز استعمال السحر باسم الألعاب البهلوانية أو السيرك أو ما أشبه ذلك، كالذي يجر السيارة بشعره، أو أنه تمشي عليه السيارة ولا تضره، أو يطعن عينه بالأسياخ من الحديد ولا تضره، أو يطعن نفسه بالسكين، أو يأكل النار أمام الناس فهذا كله كذب وكله من السحر التخييلي، فلا يجوز عمله ولا الرضا به، ولا جلب أصحابه ليعملوها أمام المسلمين،لأنه منكر ظاهر يجب إنكاره والقضاء عليه وتطهير بلاد المسلمين منه"(انظر شرح نواقض الإسلام للشيخ صالح الفوزان صـ 152 ) 
" ومما يلحق بالسحر أيضا: العيافة والطرق والطيرة، لما جاء في قوله  : "العيافة والطرق والطيرة من الجبت " .
و الجبت هو السحر عند جمع من أهل العلم ـ كما سيأتي بيانه ـ
والمقصود بالعيافة: زجر الطير والحيوان، والاستدلال بأصواتها وحركاتها وسائر أحوالها على الحوداث، واستعلام ما غاب عنهم.
وأما الطرق فهو الخط في الأرض، وقال بعضهم: الضرب بالحصى، ويسمى علم الرمل حيث يستدلون بأشكال الرمل على أحوال المسألة حين السؤال.
والطيرة: التشاؤم، وأصله أن العرب في الجاهلية يعتمدون على الطير، فإذا خرج أحدهم لأمر، فإن رأى الطير طار يمنة تيمّن به واستمر، وإن رآه طار يسرة تشاءم به ورجع.
والجبت هو السحر.
قال الله تعالى: " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ " [النساء: 51].
والجبت هو السحر كما قال عمر بن الخطاب : " الجبت سحر والطاغوت الشيطان " .
وهكذا روي عن ابن عباس وأبي العالية و مجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير والشعبي والحسن والضحاك والسدي .
ووجه كون العيافة والطرق والطيرة سحراً، لما فيها من دعوى علم الغيب، ومنازعة الله تعالى في ربوبيته، فإن علم الغيب من صفات الربوبية التي أستأثر الله تعالى بها دون من سواه، إضافة إلى أن بعضهم يعتقد أن تلك الأشياء تنفع أو تضر بغير إذن الله تعالى ". [ انظر نواقض الإيمان القولية والعملية، للشيخ عبدالعزيز العبداللطيف ص 522 ].

المسألة الثامنة: تصديق الكاهن كفر.
روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي  أنه قال:" من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ".
قال الشيخ ابن عثيمين في القول المفيد( 2/60 ): " والعراف قيل هو الكاهن، وهو الذي يخبر عن المستقبل، وقيل:هو اسم عام للكاهن والمنجم والرمّال ونحوهم ممن يستدل على معرفة الغيب بمقدمات يستعملها، وهذا المعنى أعم، ويدل عليه الاشتقاق؛ إذ هو مشتق من المعرفة، فيشمل كل من تعاطى هذه الأمور وادعى بها المعرفة ".
قوله: " فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً ": ظاهر الحديث أنه مجرد سؤال يوجب عدم قبول صلاته أربعين يوماً، ولكنه ليس على إطلاقه، فسؤال العراف ونحوه ينقسم إلى أقسام:
القسم الأول: أن يسأله سؤالاً مجرداً، فهذا حرام لقول النبي : «مَنْ أَتَى عَرَّافاً فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً». رواه مسلم من حديث بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم،  فإثبات العقوبة على سؤاله يدل على تحريمه، إذ لا عقوبة إلا على فعل محرم.
القسم الثاني: أن يسأله فيصدقه، ويعتبر قوله، فهذا كفر لأن تصديقه في علم الغيب تكذيب للقرآن، حيث قال تعالى: " قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ "  [النمل: 65].
القسم الثالث: أن يسأله ليختبره: هل هو صادق أو كاذب، لا لأجل أن يأخذ بقوله، فهذا لا بأس به، ولا يدخل في الحديث، وقد سأل النبي  ابن صياد، فقال: " ماذا خبأت لك؟ قال: الدُّخ. فقال: اخسأ فلن تعدو قدرك " (1) فالنبي  سأله عن شيء أضمره له، لأجل أن يختبره، فأخبره به.
القسم الرابع: أن يسأله ليظهر عجزه وكذبه، فيمتحنه في أمور يتبن بها كذبه وعجزه، وهذا مطلوب، وقد يكون واجباً. وإبطال قول الكهنة لاشك أنه أمر مطلوب، وقد يكون واجباً، فصار السؤال هنا ليس على إطلاقه، بل يفصل فيه هذا التفصيل على حسب ما دلت عليه الأدلة الشرعية الأخرى " أ ـ هـ.

المسألة التاسعة: هل يدخل في الوعيد ما تبثه قنوات السحر الفضائية؟
مما ينبغي أن يعرفه المسلم أن إتيان الكهنة والسحر والعرافين المترتب عليه الحديث الذي في صحيح مسلم أن النبي  قال: " من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة " وكذلك تصديقهم وأنه كفر لا يشترط أن يقف فيه على باب الكاهن أو الساحر فيقطع المسافات إليه، بل إن الإتيان يتحقق بما انتشر في الوسائل الحديثة اليوم ومنه ما انتشر في المجلات بقراءة برج الحظ لمعرفة ما يستقبله من أخبار سعيدة أو منحوسة أو بقراءة الكف والفنجان أو بالاتصال عليهم، أو بمشاهدة ما تبثه القنوات الفضائية من السحر ومنها ما هو خاص بذلك فكل ذلك يدخل في الوعيد المتقدم، ولقد أفتى بدخول قنوات السحر في الوعيد.
مجموعة من المشايخ الفضلاء وهذا من بيانهم: ـ
" الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه........ أما بعد...
ما تبثه هذه القنوات من علم السحر والشعوذة والكهانة من أعظم المنكرات ومن أعظم الفساد، وإضلال الناس. وهي علوم تقوم على الكذب والدجل ودعوى علم الغيب بما يدعونه من النظر في النجوم والطوالع كما يقولون، أو مما يتلقونه من أصحابهم من شياطين الجن، وقد لا تكون لهم خبرة في هذه العلوم الشيطانية ولكنهم يدعونها كذباً وزوراً لكسب المال........ وثبت في صحيح مسلم أن النبي  قال: " من أتى كاهناً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً " وجاء في السنن: " من أتى كاهناً أو عرافاً فسأله عن شيء فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " وسواء ذهب السائل إليهم ببدنه أو اتصل عليهم بواسطة الهاتف الحكم واحد. وعلى هذا فيجب الحذر من مشاهدة هذه البرامج فمشاهدتها ولو لمجرد الفرجة حرام وأما الاتصال على أصحاب هذه البرامج لسؤالهم ففيه الوعيد المتقدم.......... " الخ.
الموقعون على هذا البيان المشايخ الفضلاء:
الشيخ العلامة: عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين.
والشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك.
والشيخ: عبدالعزيز بن عبدالله الراجحي.

المسألة العاشرة: حكم حل السحر بالسحر.
اختلف أهل العلم في حكم حل السحر بسحر مثله للضرورة على قولين:
القول الأول: جواز حل السحر بالسحر، وهو رواية في مذهب الحنابلة، وفهم عن الإمام أحمد أنه يجيز ذلك.
واستدلوا: 1- بورود ذلك عن بعض السلف ومن ذلك:
أ- قول ابن المسيب فيما علقه البخاري في صحيحه، قال رحمه الله: قال قتادة قلت لسعيد بن المسيب رجل به طب أو يؤخّذ عن امرأته: أيحل عنه أو ينشر قال لا بأس به إنما يريدون به الإصلاح فأما ما ينفع الناس فلم ينه عنه.
ب- عن عطاء الخرساني أنه سئل عن المؤخذ من أهله والمسحور نأتي نطلق عنه؟ قال: لا بأس بذلك إذا اضطر إليه. رواه ابن أبي شيبة في مصنفه.
2- قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات.
والقول الثاني: أنه لايجوز حل السحر بالسحر وأن الضرورة لا تبيحه وهو قول أكثر العلماء.
واستدلوا: 1- ما تقدم في المسألة الثامنة من أدلة تحريم إتيان الكهان وتصديقهم.
 2- حديث جابر رضي الله عنه وهو عند احمد وأبي داود أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن النشرة فقال: (هو من عمل الشيطان )، صححه ابن مفلح وحسن إسناده ابن حجر وصححه الألباني.
3- عن  أم سلمة: اشْتَكَتْ ابنَةٌ لي، فَنَبَذْتُ لَهَا في كُوزٍ، فَدَخَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَغْلِي، فقالَ: «مَا هذا»؟ فقالَتْ: إنَّ ابْنَتِي اشْتَكَتْ فَنَبَذْنَا لَهَا هذا، فقالَ: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكمْ في حَرَامٍ». رواه ابن حبان في صحيحه، (وانظر السلسلة الصحيحة 4 / 175)
4- أن الله لَم يجعل شفاء أمته فيما حرَّم عليها، والسِّحر مُحَرَّم بالإجماع، عن أبي الدرداء  قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ولا تَدَاوَوْا بِحرام) أخرجه أبو داود والبيهقي، وقال ابن مُفلح في « الآداب الشرعية » (2 / 336): (إسناده حسَن).
5- قال ابنُ مسعود في السكر: إنَّ الله لم يجعلْ شِفاءَكم فيما حرَّمَ عليكم. رواه البخاري.
6- الإجماع على أن الضرورة لا تبيح التداوي بشرك أو كفر.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " والمسلمون وإن تنازعوا في جواز التداوي بالمحرمات كالميتة والخنزير، فلا يتنازعون في أن الكفر والشرك لا يجوز التداوي به بحال " انتهى من "مجموع الفتاوى" (19/61).
وجاء في بيان اللجنة الدائمة بعد بيانهم لخطورة السحر وأنه لايجوز التداوي به ولو لضرورة وفيه: " وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن النشرة فقال (هي من عمل الشيطان) رواه الإمام أحمد وأبو داود بسند جيد، والنشرة هي: حل السحر عن المسحور والمراد بالنشرة الواردة في الحديث: النشرة التي يتعاطاها أهل الجاهلية وهي سؤال الساحر، ليحل السحر بسحر مثله، أما حله بالرقية والتعوذات الشرعية والأدوية المباحة فلا بأس بذلك، وكل ما ورد عن السلف في إجازة النشرة، فإنما يراد به النشرة المشروعة، وهي ما كان بالقرآن والأدعية المشروعة، والأدوية المباحة ولا يصح القول بجواز حل السحر بسحر مثله بناء على قاعدة الضرورات تبيح المحظورات، لأن من شرط هذه القاعدة، أن يكون المحظور أقل من الضرورة، كما قرره علماء الأصول، وحيث إن السحر كفر وشرك، فهو أعظم ضرراً، بدلالة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا بأس بالرقى ما لم يكن فيها شرك) أخرجه مسلم، والسحر يمكن علاجه بالأسباب المشروعة، فلا اضطرار لعلاجه بما هو كفر وشرك.
وبناءً على ما سبق فإنه يحرم الذهاب إلى السحرة مطلقاً، ولو بدعوى حل السحر. واللجنة إذ تنشر هذا لبيان وجه الحق في هذا الموضوع إبراء للذمة ونصحاً للأمة ". [ انظر مجلة الدعوة بعددها الصادر برقم ( 952054 ) ]
قال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: " قال بعض الحنابلة: يجوز الحل بسحر للضرورة 0 والقول الآخر أنه لا يحل، وهذا الثاني هو الصحيح....... والسحر حرام وكفر، أفيعمل الكفر لتحيا نفوس مريضة أو مصابة ! " انتهى من "فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم" (1/165) 0
وقال الشيخ محمد الأمين المختار الشنقيطي: " التحقيق الذي لا ينبغي العدول عنه في هذه المسألة: أن استخراج السحر إن كان بالقرآن كالمعوذتين، وآية الكرسي، ونحو ذلك مما تجوز الرقية به فلا مانع من ذلك، وإن كان بسحر أو ألفاظ أعجمية أو بما لا يفهم معناه، أو بنوع آخر مما لا يجوز فإنه ممنوع، وهذا واضح، وهو الصواب إن شاء الله تعالى كما ترى " انتهى من "أضواء البيان" (4/465) 0
وسئل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله عن حكم علاج السحر بالسحر عند الضرورة؟
فأجاب: "لا يجوز علاج السحر بالسحر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة فقال: ( هي من عمل الشيطان ). والنشرة هي حل السحر بالسحر؛ ولأن حلها بالسحر يتضمن دعوة الجن والاستعانة بهم، وهذا من الشرك الأكبر...........يظهر لكل مسلم شدة تحريم تعلم السحر وتعليمه، وكثرة ما فيه من الفساد والضرر، وأنه مع هذا كفر بعد الإيمان، وردة عن الإسلام، نعوذ بالله من ذلك 0 فالواجب الحذر من ذلك، وأن يكتفي المسلم بالعلاج الشرعي وبالأدوية المباحة بدلاً من العلاج بما حرمه الله عليه شرعاً، والله ولي التوفيق " انتهى. "مجلة الدعوة" – تاريخ 10 / 11 / 1414 هـ 0
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن هذا بقوله في " القول المفيد " (2/73): " ولكن على كل حال حتى ولو كان ابن المسيب، ومن فوق ابن المسيب ممن ليس قوله حجة يرى أنه جائز، فلا يلزم من ذلك أن يكون جائزاً في حكم الله حتى يعرض على الكتاب والسنة، وقد سُئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن النشرة، فقال: ( هي من عمل الشيطان ) " انتهى
وأما ما فهمه بعضهم من تجويز الإمام أحمد للنشرة أنه أجاز حل السحر بالسحر، وإنما كلامه رحمه الله في الرقية الشرعية المباحة.
قال الشيخ سليمان بن عبد الله في "تيسير العزيز الحميد" (419): "وكذلك ما روي عن الإمام أحمد من إجازة النشرة، فإنه محمول على ذلك -أي النشرة بالرقية الشرعية- وغلط من ظن أنه أجاز النشرة السحرية، وليس في كلامه ما يدل على ذلك، بل لما سئل عن الرجل يحل السحر قال: قد رخص فيه بعض الناس. قيل: إنه يجعل في الطنجير ماء ويغيب فيه، فنفض يده وقال: لا أدري ما هذا ! قيل له: أفترى أن يؤتى مثل هذا؟ قال: لا أدري ما هذا. وهذا صريح في النهي عن النشرة على الوجه المكروه، وكيف وهو الذي روى الحديث (أنها من عمل الشيطان)، لكن لما كان لفظ النشرة مشتركا بين الجائزة والتي من عمل الشيطان ورأوه قد أجاز النشرة ظنوا أنه قد أجاز التي من عمل الشيطان، وحاشاه من ذلك" انتهى.
ويضاف لما سبق أيضاً:
7- أننا بجواز ذلك نبيح تعلم السحر لمثل هذه الضرورات.
8- إننا بهذا القول نناقض حكمنا على الساحر فهو في اللحظة التي يكون فيها مطلوبا لإقامة الحد عليه بالقتل، يكون مرغوبا فيه يطلب منه الشفاء وفي هذا تناقض في توجه المسلم لهذا الساحر.
9- أنه يلزم من ذلك أننا نجعل الساحر محسنا متفضلا لابد من فتح المجال له والعيادات لأجل أن يفك هذه الكربة عن الناس، وهذا ما ينادي به السحرة فهم يسوِّقون لسحرهم بوجود فتاوى تبيح للمضطر التداوي عندهم.
10- أننا بتجويز هذا يعني أننا نقول: تعلم السحر فرض كفاية لأنه مما يحتاجه الناس اليوم، وله وجه جواز وهو الضرورة.

فائدة: سميت النُشْرَة بهذا الاسم؛ لأنه يُنشر بها عن المريض ويبعد عنه ما خامره من الداء ويُكشف ويزال عنه ما به من الأوجاع أو الأمراض أو الأسقام التي حصلت له بسبب هذا السحر، وهي تكون نشرة شرعية وذلك بالأوراد والرقية الشرعية، وتكون سحرية وهي حل السحر عن المسحور بسحر مثله.
وتقدم قول ابن القيم: (" النشرة " حل السحر عن المسحور، وهي نوعان: أحدهما: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، " وعليه يحمل قول الحسَـن - يعني: أنه لا يحل السحر إلاَّ ساحر - " فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور، والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة فهذا جائز)
وأختم بكلام نفيس لابن القيم  - رحمه الله – حيث قال: (وهنا سِرٌّ لطيف في كون المحرمات لا يُستشفى بها، فإنَّ شرطَ الشفاء بالدواء تلقِّيه بالقبول واعتقاد منفعته وما جعل الله فيه من بركة الشفاء، فإن النافع هو المبارك وأنفع الأشياء أبركها، والمبارك من الناس أينما كان هو الذي ينتفع به حيث حلَّ، ومعلوم أن اعتقاد المسلم تحريم هذه العين مِمَّا يَحُول بينه وبين اعتقاد بَرَكَتِها ومنفعتها وبين حُسْنِ ظنه بها، وتلقى طبعه لها بالقبول، بل كلما كان العبد أعظم إيماناً كان أكره لها وأسوأ اعتقاداً فيها، وطبعه أكره شيء لها؛ فإذا تناولها في هذه الحال كانت داء له لا دواء إلا أن يزول اعتقاد الخبث فيها وسوء الظن والكراهة لها بالمحبة، وهذا ينافي الإيمان، فلا يتناولها المؤمن قط إلا على وجـه داء) انتهى
                                                    [ انظر « زاد المعاد » (4 / 157).  ]





 
الناقض الثامن:
قال الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: " مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: " وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " [المائدة: 51]].                                                        الشـرح

المسألة الأولى: معنى هذا الناقض.
أراد المصنف رحمه الله أن يبيِّن أن مظاهرة الكفار على المسلمين، هي أن يكون المسلم ظهيراً ونصيراً وعوناً للكفار على المسلمين، فينضم إليهم ويذب عنهم بالمال والسلاح والبيان، وهذا كفر أكبر مخرج من ملة الإسلام، ومظاهرة المشركين نوع من أنواع الموالاة لهم، وهي خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين يستحق صاحبها سخط الله وأليم عذابه، قال تعالى: " تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) " [المائدة: 80-81 ].
وأيضاً جعل الله عز وجل من يتولى المشركين كحكمهم سواء، وهو ما استدل به المؤلف قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " [المائدة: 51].
ومظاهرة المشركين إخلال بعقيدة الولاء والبراء، فالولاء يكون للإيمان وأهله، والبراء يكون من الشرك وأهله، وعقيدة الولاء والبراء من أعظم أصول ملتنا ولذا كثرت النصوص من الكتاب والسنة في هذا الباب؛ لأن به يقوم بنيان الشريعة ويرتفع الإسلام وأهله وبضده تهدم الشريعة ويثلم الدين.
قال الشيخ حمد بن عتيق في " سبيل النجاة " ( ص 31 ): " فأما معاداة الكفار والمشركين فاعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أوجب ذلك، وأكد إيجابه، وحرّم موالاتهم وشدد فيها، حتى أنه ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده ".
والإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله ـ ذكر نوعاً واحداً من أنواع موالاة الكفار وهو مظاهرتهم ومناصرتهم، وإلا فالموالاة للمشركين تشمل عدة معان.

المسألة الثانية: موالاة الكفار
موالاة الكفار تختلف باختلاف الحال؛ فهي على مراتب؛ منها ما هو كفر وردَّة، ومنها ما هو دون ذلك، والحب في الله والبغض فيه وكذا الموالاة والمعاداة فيه من أوثق عرى الإيمان وروابطه، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله - r- لأبي ذر - -:"أيُّ عرى الإيمان أوثق؟"، قال: الله ورسوله أعلم، قال: "الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله" رواه أحمد وابن أبي شيبة، وقال الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1728،998): "فالحديث بمجموع طرقه يرتقي إلى درجة الحسن على الأقل - والله أعلم".
ولقد قسَّم بعض أهل العلم الموالاة إلى قسمين: (موالاة كبرى، وموالاة صغرى)، أو (تولي، وموالاة) أو (موالاة عامة مطلقة، وموالاة خاصة)، أو (الموالاة المطلقة، ومطلق الموالاة)، وكلها مصطلحات تجمع بين قسمين، فمنهم من يُعبِّر بهذا اللفظ، ومنهم بهذا، ومقصودهم في ذلك -رحمهم الله- هو التفريق بين الموالاة التي يكون صاحبها كافرًا مرتدًّا حلالَ الدم والمال، وبين ما دون ذلك مما لا يُخرِج من الملة، وبعض أهل العلم لم يقسم هذا التقسيم، وجعلها مراتب، منها ما هو مخرِج من الملة، ومنها ما هو كبيرة من الكبائر لا يكفر فاعلها إلا إذا استحلَّها؛ أي: اعتقد جوازها، وقالوا: إن التولي والموالاة لفظان لمعنى واحد، وهو قول جمهور المفسرين.
- قال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب: "مسمى الموالاة يقع على شُعب متفاوتة، منها ما يوجب الردة وذَهاب الإسلام بالكلية، ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات" ( انظر: "الدرر السنية"  7/159 )
وإليك هذه الأمثلة على الموالاة الكبرى وعلى الموالاة الصغرى:
الموالاة الصغرى تسميتها صغرى ليس لأنها من الصغائر؛ ولكن للتفريق بينها وبين الكبرى، وإلا فإن الموالاة الصغرى شأنُها عظيم - كما تقدَّم - فهو باب لا يُستهان به.
ومن أمثلتها: تصديرُ الكفار في المجالس، وزيارتُهم زيارةَ مؤانسة لا دعوة، وتهنئتُهم بأفراحهم الدنيوية، وإفساحُ الطريق لهم، وتوليتُهم على المسلمين، وجعلُهم رؤساء، ورفعُهم على المسلمين ونحوها.
والموالاة الكبرى: وهي الموالاة المخرجة من الملة، فهي كفر وردَّة، ولها صور، منها: مودتهم لأجْل دينهم وسلوكهم، والرضا بأعمالهم، وتمني انتصارهم على المسلمين، وعدم تكفيرهم أو التوقُّف في كفرهم والشك فيه، وتصحيح مذهبهم، والتشبُّه المطلَق بهم، ومظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، وتُسمَّى النصرة، وهي التي ذكرها المؤلف في هذا الناقض.

- وموالاة الكفار تأتي على عدة معان وأنواع منها: ـ
1- النصرة والتأييد على المسلمين.
وهذا النوع من الموالاة منه مايخرج من الملة وهي الموالاة المطلقة، ومنها مادون ذلك، فإن عاونهم وظاهرهم على المسلمين مع محبة ماهم عليه من الكفر فلا شك أنه مارق من ملة الإسلام.                                                                قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي في تفسيره لقوله تعالى: " وَمنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأوُلَئِكَ هُمُ الْظَّالِمُوْنَ" [الممتحنة9]، قال: " وذلك الظلم يكون بحسب التولي، فإن كان تولياً تاماً، كان ذلك كفراً مخرجاً عن دائرة الإسلام، وتحت ذلك من المراتب ماهو غليظ وما هو دونه ".  وقال عند قوله تعالى: " وَمَنْ يَتَوَلّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنّهُ مِنْهُمْ" [المائدة51]،" إن التولي التام يوجب الانتقال إلى دينهم، والتولي القليل يدعو إلى الكثير، ثم يتدرج شيئاً فشيئاً حتى يكون العبد منهم "                                        وقبل ذلك قال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمان بن حسن: " فدخل حاطب في المخاطبة باسم الإيمان ووصفه به، وتناوله النهي بعمومه وله خصوص السبب الدال على إرادته مع أن في الآية الكريمة ما يشعر أن فعل حاطب نوع موالاة وأنه أبلغ إليهم بالمودة، فإن فاعل ذلك قد ضل سواء السبيل، لكن قوله : " صدقكم خلوا سبيله " ظاهر في أنه لا يكفر بذلك إذا كان مؤمنا بالله ورسوله غير شاكّ ولا مرتاب، وإنما فعل ذلك لغرض دنيوي ولو كفر لما قيل " خلوا سبيله "، لا يقال قوله  لعمر: " وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " هو المانع من تكفيره، لأنا نقول لو كفر لما بقي من حسناته ما يمنعه من لحاق الكفر وأحكامه، فإن الكفر يهدم ماقبله لقوله تعالى: " وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيْمَانِ فَقَدَ حَبِطَ عَمَلُه " وقوله تعالى: " وَلَو أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَاكَانُوا يَعْمَلُوْن " والكفر محبط للحسنات والإيمان بالإجماع فلا يظن هذا. وأما قوله: " وَمَنْ يَتَوَلّهُمْ فَإِنّهُ مِنْهُمْ "، وقوله: " لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله وَ الْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُوْلَهُ "، وقوله تعالى: " يَاأَيُّهَا الْذينَ ءاَمَنُواْ لاَ تَتْخِدُوا الذيْنَ اتَّخَدُوا دِيْنَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الّذيْن أُوْتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّار أَوْلِيَاءَ وّاتَّقُوا الله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنَ "، فقد فسرته السنة وقيدته وخصته بالموالاة المطلقة العامة، وأصل الموالاة هو الحبُّ والنصرة والصداقة ودون ذلك مراتب متعددة ولكل ذنب حظه وقسطه من الوعيد والذم، وهذا عند السلف الراسخين في العلم من الصحابة والتابعين معروف في هذا الباب وغيره " [انظر الدرر السنية (1/474)، وانظر الرسائل والمسائل النجدية(3/9-10) ].                                                                                         قال الشيخ عبد العزيز العبد اللطيف: " وأما مظاهرة الكفار على المسلمين، فالمقصود بها أن يكون أولئك أنصاراً وظهوراً وأعواناً للكفار ضد المسلمين، فينضمون إليهم، ويذبون عنهم بالمال والسنان والبيان، فهذا كفر يناقض الإيمان. وهذا ما يسميه بعض العلماء بـ(التولي)  ويجعلونه أخص من عموم الموالاة، كما هو عند بعض أئمة الدعوة السلفية في نجد مع أن جمهوراً من المفسرين يفسرون التولي بالموالاة، فعلى سبيل المثال: شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله تعالى في عدة مواضع من تفسيره يفسر معنى اتخاذ الكفار أولياء بمعنى جعلهم أولياء وهو بمعنى توليتهم، وإذا كان التولي بمعنى الموالاة فكما أن موالاة الكفار ذات شعب متفاوتة، منها ما يخرج من الملة كالموالاة المطلقة لهم، ومنها مادون ذلك...، فإن تولي الكفار مثل موالاتهم، فهناك التولي المطلق التام الذي يناقض الإيمان بالكلية، وهناك مراتب دون مراتب.... وتضمنت [رسالة الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك للشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب رحمهم الله تعالى] أكثر من عشرين دليلاً في النهي عن موالاة الكفار، فكان مما قاله رحمه الله: " قوله تعالى: " أَلَمْ تَرَ إِلَى الّدِينَ نَافَقُوا يَقُوْلُونَ لِإِخْوَانِهِم الّدِيْنَ كَفَرُوْا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكَمَ وَلَا نُطِيْعُ فِيْكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوْتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَادِبُوْنَ " [ الحشر: 11]، فإذا كان وعد المشركين في السر – بالدخول معهم ونصرتهم والخروج معهم إن جَلَوا- نفاقاً وكفراً وإن كان كذباً، فكيف بمن أظهر لهم ذلك صادقاً ودخل في طاعتهم، ودعا إليهم، ونصرهم وانقاد إليهم، وصار من جملتهم، وأعانهم بالمال والرأي؟ هذا مع أن المنافقين لم يفعلوا ذلك إلا خوفاً من الدوائر كما قال تعالى: " فَتَرَى الّدِيْنَ فِيْ قُلُوْبِهِم مَرَضٌ يُسَارِعُوْنَ فِيِْهِمْ يَقُوْلُوْنَ نَخْشَى أَنْ تُصِيْبَنَا دَائِرة " [المائدة:52]. [انظر نواقض الإيمان القولية والعملية صـ 381، 383].                                                                                                                                وهذا النوع من الموالاة وهو تأييد ونصرة الكافرين على المسلمين هو مراد الإمام محمد بن عبدالوهاب في هذا الناقض واستدل بقوله تعالى: " وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ " [المائدة: 51]، وتقدَّم بيان معنى هذا الناقض في المسألة الأولى، وأنه باب عظيم من تقحَّمه فقد خرج من الباب الأسمى والعروة الوثقى وتنكب عن الصراط المستقيم، فهو باب يخرج من ملة الإسلام، وعليه فتحرم موالاة الكافرين على المسلمين بالمال والنفس والرأي، وإن لم يقع في القلب مودتهم وحبهم.
قال ابن تيمية: " فمن قفز منهم إلى التتار كان أحق بالقتال من كثير من التتار، فإن التتار فيهم المكرَه وغير المكرَه، وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه متعددة " [ انظر مجموع الفتاوى(28/ 534و 28/ 530،531 ) ومجموع الفتاوى المصرية صـ (507، 508) ]
وقال ابن القيم في " أحكام أهل الذمة " (1/67): " قد حكم ـ الله ـ ولا أحسن من حكمه أن من تولى اليهود والنصارى فهو منهم " وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ " [المائدة: 51] فإذا كان أولياءهم منهم بنص القرآن كان لهم حكمهم ".
وقال ابن حزم في " المحلى " (11/35): " وصح أن قول الله تعالى: " وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ " [المائدة: 51] " إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار فقط، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين".
وقال الشيخ سلميان بن عبد الله آل الشيخ في مقدمة كتاب "الدلائل":" اعلم رحمك الله أن الإنسان إذا أظهر للمشركين الموافقة على دينهم خوفا منهم، ومداراة لهم، ومداهنة لدفع شرهم، فإنه كافر مثلهم، وإن كان يكره دينهم ويبغضهم ويحب الإسلام والمسلمين، هذا إذا لم يقع منه إلا ذلك، فكيف إذا كان في دار منعة واستدعى بهم ودخل في طاعتهم وأظهر الموافقة على دينهم الباطل وأعانهم عليه بالنصرة والمال ووالاهم وقطع الموالاة بينه وبين المسلمين، وصار من جنود القباب والشرك وأهلها بعد ما كان من جنود الإخلاص والتوحيد وأهله فإن هذا لا يشك مسلم أنه كافر من أشد الناس عداوة لله تعالى ورسوله ، ولا يستثنى من ذلك إلا المكرَه وهو: الذي يستولي عليه المشركون فيقولون له: اكفر أو افعل كذا وإلا فعلنا بك وقتلناك، أو يأخذونه فيعذبونه حتى يوافقهم فيجوز له الموافقة باللسان مع طمأنينة القلب بالإيمان.
وقد أجمع العلماء على أن من تكلم بالكفر هازلاً أنه يكفر، فكيف بمن أظهر الكفر خوفاً وطمعاً في الدنيا ".
وقال الشيخ عبدالله بن حميد " وأما التولي: فهو إكرامهم، والثناء عليهم، والنصرة لهم والمعاونة على المسلمين، والمعاشرة، وعدم البراءة منهم ظاهراً، فهذه ردة من فاعله، يجب أن تجري عليهم أحكام المرتدين، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة المقتدى بهم " [ انظر الدرر السنية 15/479 ].                                                               وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في [ أضواء البيان 2/111 ] بعد أن ذكر مجموعة من الآيات التي تنهى عن تولي الكفار: " ويفهم من ظواهر هذه الآيات أن من تولى الكفار عمداً واختياراً رغبة فيهم أنه كافر مثلهم ".
وقال الشيخ ابن باز في فتاواه ( 1/274 ): " وقد أجمع علماء الإسلام على أن من ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم عليهم بأي نوع من المساعدة فهو كافر مثلهم، كما قال سبحانه: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " [المائدة: 51].
2- محبة الكفار ومودتهم.
محبة ومودة الكفار نوع من أنواع موالاتهم ولو كان من دون إعانة لهم.
ونفى الله  الإيمان عمن أحب الكفار ولو لم يعنهم على المسلمين، فبمجرد مودته ومحبته لهم سبب في نفي الإيمان عنه قال تعالى: " لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ " [المجادلة: 22]، وقال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ (1) إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) " [ الممتحنة 1-4].
وسورة الممتحنة كلها في موضوع معاداة الكفار وعدم محبتهم.
ولله درُّ العلامة سليمان بن سمحان حيث قال: ـ
  فعاد الذي عادى لدين محمـد          ووال الذي والاه من كل مهتد
وأحبب لحب الله من كان مؤمناً          وأبغض لبغض الله أهل التمرد
وما الدين إلا الحب والبغض والولا        كذاك البرا من كل غاو ومعتد
[انظر الدرر السنية وتكلة الأبيات 1/ 583 ].
قال الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله نقلاً عن الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: " وأما المسألة الثالثة وهي ما يعذر به الرجل على موافقة المشركين وإظهار الطاعة لهم، فاعلم أن إظهار الموافقة للمشركين له ثلاث حالات: ـ
الحالة الأولى: أن يوافقهم في الظاهر والباطن فينقاد لهم بظاهره، ويميل إليهم ويوادّهم بباطنه، فهذا كافر خارج من الإسلام، سواء كان مكرها على ذلك أو لم يكن. وهو ممن قال الله فيهم: " مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ " [النحل: 106].
الحالة الثانية: أن يوافقهم ويميل إليهم في الباطن مع مخالفته لهم في الظاهر فهذا كافراً أيضاً، ولكن إذا عمل بالإسلام ظاهراً عصم ماله ودمه، وهو المنافق.
الحالة الثالثة: أن يوافقهم في الظاهر مع مخالفته لهم في الباطن وهو على وجهين: ـ
أن يفعل ذلك لكونه في سلطانهم مع ضربهم وتقييدهم له، ويهددونه بالقتل فيقولون له: إما أن توافقنا وتظهر الانقياد لنا، وإلا قتلناك، فإنه والحالة هذه يجوز له موافقتهم في الظاهر مع كون قلبه مطمئناً بالإيمان، كما جرى لعمار حين أنزل الله تعالى:" مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ " وكما قال تعالى " إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً " فالآيتان دلتا على الحكم كما نبه على ذلك ابن كثير في تفسير آية آل عمران...
الوجه الثاني: أن يوافقهم في الظاهر مع مخالفته لهم في الباطن وهو ليس في سلطانهم وإنما حمله على ذلك إما طمع في رياسة أو مال أو مشحة بوطن أو عيال، أو خوف مما يحدث في المآل فإنه في هذه الحال يكون مرتداً ولا تنفعه كراهيته لهم في الباطن، وهو ممن قال الله فيهم " ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ " أ.هـ
[ انظر مجموعة التوحيد ـ رسالة الشيخ حمد بن عتيق ص295-296 ].
3- اللحوق بديار الكفار اختياراً لهم ورغبة عن المسلمين.
قال ابن حزم في المحلى (13/138 ): " من لحق بدار الكفر والحرب مختاراً محارباً لمن يليه من المسلمين، فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام المرتد كلها من وجوب القتل عليه، متى قدر عليه ومن إباحة ماله، وانفساخ نكاحه، وغير ذلك؛ لأن رسول الله ، لم يبرأ من مسلم، وأما من فر إلى أرض الحرب لظلم خافه، ولم يحارب المسلمين، ولا أعانهم، ولم يجد في المسلمين من يجيره، فهذا لا شيء عليه لأنه مضطر مكره ".
بل بيّن الله جل وعلا أن من أقام بين المشركين ولم يتمكن من إقامة دينه وهو قادر على الهجرة فقد عرَّض نفسه للوعيد الشديد والعذاب الأليم ولو كان مبغضاً للكفار، محباً ومدافعاً عن المسلمين.
قال ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً " [النساء: 97].
قال ابن كثير: " هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع ".
وقبل ذلك قال ابن رشد في مقدماته ( 2/612-613 ): " فإذا وجب بالكتاب والسنة وإجماع الأمة على من أسلم ببلد الحرب أن يهاجر ويلحق بدار المسلمين، ولا يثوي بين المشركين، ويقيم بين أظهرهم لئلا تجري عليه أحكامهم، فكيف يباح لأحد الدخول إلى بلادهم حيث تجري علينا أحكامهم في تجارة أو غيرها، وقد كره مالك رحمه الله تعالى أن يسكن أحد ببلد يُسب فيه السلف فكيف ببلد يُكفر فيه بالرحمن، وتعبد فيه من دونه الأوثان، ولا تستقر نفس أحد على هذا إلا وهو مسلم سوء، مريض الإيمان ".
4- التشبه بالكفار.
من صور موالاة الكفار التشبه بهم وقد نهى النبي عن ذلك، فقد روى الإمام أحمد و أبو داود حديث ابن عمر قال: قال رسول الله : " من تشبه بقوم فهو منهم " وجوَّد إسناد هذا الحديث ابن تيميِّة، وقال:" وهذا الحديث أقل أحوله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله: " وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ " [المائدة: 51]، فقد يحمل هذا على التشبه المطلق، فإنه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك، وقد يحمل على أنه منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفراً، أو معصية، أو شعاراً لهم، كان حكمه كذلك، وبكل حال يقتضي تحريم التشبه " أ. هـ. [ انظر الاقتضاء (1/237،238 ) ]
والنبي  في حديث ابن عمر نهى عن التشبه بالكفار لكي يعتز المسلم بدنيه، وقال النبي  ذلك بعد ظهور الإسلام وقوة أهله وبعدما كان لهم منعة وقوة، أما من كان بدار كفر وخشي على نفسه الضرر إذا خالفهم في الزي الظاهر فجوّز بعض أهل العلم موافقتهم بزيهم الظاهر فقط اتقاء لشرهم وضررهم.
ومسألة التشبه بالكفار من المسائل التي عمت بها البلوى بين بعض أوساط المسلمين اليوم وخاصة على مستوى الشباب فكان لزاماً أن يتعلم المسلم الأمور التي ورد النهي فيها عن التشبه بالكفار وأحكام التشبه وسأفردها باختصار في المسألة القادمة بإذن الله تعالى.
5- إقامة المنظمات والمؤتمرات والملتقيات من أجل تقرير وحدة الأديان.                                                        وإزالة الفوارق العقدية وإسقاط الفوارق الأساسية والخلاف بين الأديان، من أعظم أنواع موالاة أهل الكفر التي تناقض الإيمان، فالدعوة إلى وحدة الأديان ردة ظاهرة عن دين الإسلام وتكذيب لنص القرآن بأن دين الإسلام هو الدين الكامل والذي أتم الله لنا به النعمة ورضيه لنا ديناً وهو الناسخ لما سبقه من الديانات التي اعتراها التبديل والتحريف كاليهودية والنصرانية، قال تعالى: " وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِِنْه " [آل عمران:85]. وعليه فلا يجوز أن ينادى بوحدة الأديان كدعاة العلمانية والليبرالية الذين يهدفون إلى إزالة الفوارق مع من سماهم الله أعداء لنا ويريدون هدم ديننا، ولا الدخول في مؤتمراتهم ومحافلهم بل يجب نبذهم وبيان أفكارهم الخبيثة نصرة للإسلام والمسلمين.                                           قال الشيخ بكر أبو زيد (في الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان ص36]: " وخلاصته أن دعوة المسلم إلى توحيد دين الإسلام مع غيره من الشرائع والأديان الدائرة بين التحريف والنسخ بشريعة الإسلام: ردة ظاهرة وكفر صريح، لما تعلنه من نقض جريء للإسلام أصلاً وفرعاً، واعتقاداً وعملاً، وهذا إجماع لا يجوز أن يكون محل خلاف بين أهل الإسلام ".   

المسألة الثالثة: أحكام التشبه بالكفار.
وهي مسألة مهمة أفردت الحديث عنها لأهميتها ولكثرة الوقوع فيها لاسيما في زماننا والله المستعان، والحديث عن هذه المسألة ينقسم إلى أربعة محاور أذكرها بإيجاز غير مخلٍّ بإذن الله تعالى:
أ- تعريف التشبه:
التشبه في اللغة: مصدر تَشَبَّهَ تَشَبُّهًا مثل تقدم تقدمًا، والمقصود المماثلة والمشابهة.
وفي الاصطلاح: هو تعمد المسلم مشابهة غيره من الكفار فيما هو من خصائصهم من عبادات أو عادات.
ب- الأدلة في النهي عن التشبه:
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الآيات في موضوع مخالفة الكفار قسمان:
1 – قسم بين أن مخالفتهم في عامة الأمور أصلح للمسلمين، وهذا تدل عليه جميع الآيات.
2 – وقسم بين أن مخالفتهم مطلوبة وواجبة شرعًا، وهذا تدل عليه بعض الآيات. [انظر الاقتضاء (1/91) ]
وورد في السنة أحاديث في هذا المعنى، ومن ذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: رأى رسول الله  عليَّ ثوبين معصفرين، فقال: (إن هذه ثياب الكفار فلا تلبسها) رواه مسلم، وعن ابن عمر قال: قال رسول الله : (خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب، وأرخوا اللحى) متفق عليه، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : (إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم) متفق عليه.
وعن أبي سعيد الخدري  قال: قال رسول الله : (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم) قيل: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: (فمن؟).
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله : (من تشبه بقوم فهو منهم) رواه أحمد وأبوداود.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " هذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم -أي الكفار- وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله تعالى ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم )"   [ انظر الاقتضاء (1/241) ]

ج –  الضابط في التشبه بالكفار
الضابط في موضوع التشبه هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية من أن كل فعل مأخوذ من الكفار مما هو من خصائص دينهم أو عاداتهم فهو تشبه ينهى عنه المسلم. كما نهى الرسول  عبد الله بن عمرو عن لبس المعصفر وقال: (إن هذه ثياب الكفار). [ انظر الاقتضاء (1/425). ]

د - التشبه بالكفار على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما يتعلق بالعقائد والعبادات والأعياد، فالنهي عن التشبه بهم فيها يقتضي التحريم، يصل إلى درجة الكفر إذا كان مع اعتقاد واستحسان لما هم عليه من الباطل، لأن  يتضمن المحبة والمودة، وهذا من نواقض الإسلام.
القسم الثاني: ما كان من قبيل العادات، فهو محرم أيضاً، لكنه لا يصل إلى درجة الكفر، والنبي  لما قال لابن عمرو: (إن هذه ثياب الكفار فلا تلبسها) لم يبين له أن هذا كفر، وهذا مقيد بعدم الاعتقاد.
القسم الثالث: ما كان من قبيل الأمور الدنيوية البحتة التي لا تمس العقيدة والأخلاق كالعلوم والصناعات ونحوها من التجارب ومكائد الحرب والقتال، ونحو ذلك، فلا بأس من الاستفادة منها ما لم يترتب عليها محظوراً أو تفضي إليه.
 الناقض التاسع
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى -:[ من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد – صلى الله عليه وسلم – كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى – عليه السلام – فهو كافر  ].

الشـرح
المسألة الأولى: معنى هذا الناقض
أرسل الله تعالى محمداً – صلى الله عليه وسلم – للناس كافة رسالة عامة شملت ما قبلها من الرسالات فليس لأحد أن يخرج عن اتباع هذه الرسالة التي شملت في خطابها وعمت في تشريعها جميع الخلائق بعد صدورها، والأدلة تضافرت على بيان عموم الرسالة ومنها:
- قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً } [سبأ:28] 
- وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [الأعراف: 158] 
- وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [الفرقان:1]
- وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: (( فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً و مسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون )) رواه مسلم، وبنحوه في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما –
- وعن ابن مسعود – رضي الله عنه – خط لنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خطاً، ثم قال: (( هذا سبيل الله)) ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: (( هذه سبل متفرقة، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه،ثم قرأ: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ }أخرجه أحمد وأبوداود والحاكم وقال " صحيح الإسناد " فكل اتباع لغير شريعة محمد – صلى الله عليه وسلم – هو تنكب عن الطريق الصحيح والصراط المستقيم.
- وعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه النبي – صلى الله عليه وسلم – فغضب فقال: (( أمتهوكون فيها يا بن الخطاب !، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى – صلى الله عليه وسلم – كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني )) رواه أحمد
وهذا الحديث نص في بيان هذا الناقض وأنه لا أحد من الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد – صلى الله عليه وسلم –، والأدلة في بيان عموم الرسالة المحمدية وأنه لا يسع أحد الخروج عنها كثيرة.
وإجماع العلماء منعقد على أن من أنكر شيئاً من الأحكام في القرآن أو السنة الثابتة المعلومة بالضرورة كأن يستحل ما حرم الله تعالى فهو كافر فكيف بمن يرد رسالة محمد– صلى الله عليه وسلم – ويخرج عنها بحجة اتباع غيرها من الشرائع؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: " وبيان هذا أن من فعل المحارم مستحلاً لها فهو كافر بالاتفاق، فإنه ما آمن بالقرآن من استحل محارمه " [ انظر الصارم المسلول ( 3/ 971 ) ]
فلو قال لنا يهودي أنه يتبع شريعة موسى – عليه السلام – أو نصراني أنه يتبع شريعة عيسى – عليه السلام – وأنه كما أن كتابكم القرآن وحي من الله تعالى فكذلك كتابنا لقلنا له بل يجب عليك اتباع شريعة محمد– صلى الله عليه وسلم – ولا يسعك الخروج عنها لأنها رسالة لجميع الخلق إنسهم وجنهم، وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم –  قال: (( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار )) رواه مسلم.
ومن آمن بشريعة محمد – صلى الله عليه وسلم –  يلزمه الإيمان بعموم رسالته وما فيها من أمر ونهي ولا يسعه أن يخرج عن هدا الأصل وإلا لم ينفعه إيمانه وخرج عن ربقة الإسلام إلى الكفر وهذا ما أراد المصنف – رحمه الله – بيانه.

المسألة الثانية: احتجاج البعض بقصة الخضر وخروجه عن شريعة موسى – عليه السلام –
وهذه المسألة أشار إليها المصنف – رحمه الله – وأنه قد يحتج البعض بقصة الخضر مع موسى – عليه السلام – التي ذكرها الله تعالى في سورة الكهف والتي تصرف فيها الخضر بوقائع استغربها موسى – عليه السلام – وأنكرها عليه من خرق للسفينة، وقتل للغلام، وبناء للجدار، وبيَّن الخضر فيها أنه لم يفعل ذلك إلا بأمر من الله تعالى فقال:{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف82 ]، وفي الصحيحين من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما -  قال الخضر لموسى – عليه السلام -: " إنني على علم علمنيه الله ليس عندك، وإنك على علم علمك الله إياه ليس عندي "
استدل بهذه القصة من يظن أن من الأولياء من يسوغ له الخروج عن الشريعة النبوية، وهو اعتقاد موجود عند غلاة
الصوفية ونحوهم ممن يرفعون أئمتهم ويغلون في صفاتهم.
ووجه الدلالة: أن الخضر خرج عن متابعة موسى – عليه السلام -، قالوا فكذلك الولي له الخروج عن متابعة محمد – صلى الله عليه وسلم –." [ انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية ( 11/420، 422 ) ]
والرد على هذا الاحتجاج من عدة وجوه:-
أولاً: أن موسى – عليه السلام – كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل، ولم يكن مبعوثاً إلى الخضر فإن الأنبياء ومنهم موسى – عليه السلام – كانت رسالتهم خاصة إلا محمداً – صلى الله عليه وسلم –  فإن رسالته عامة ففي حديث جابر – رضي الله عنه – قال النبي– صلى الله عليه وسلم –: (( كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعث إلى الناس كافة )) متفق عليه، وتقدم حديث " فضلت على الأنبياء بست... وفيه "وأرسلت للخلق كافة ".
ثانياً: أن مافعله الخضر لم يكن مخالفاً لشريعة موسى – عليه السلام -، فموسى - عليه السلام – لم يكن علم بالأسباب التي تبيح تلك الوقائع التي فعلها الخضر، فلما بينها له وافقه على ذلك.
ثالثاً: أن ما فعله الخضر كان عن وحي من الله تعالى وأمره، لا مجرد خيال أو اجتهاد سوَّغ لنفسه الخروج عن الشريعة النبوية بتوهمات وخزعبلات ادعى بها أنه وصل إلى درجة يستغني بها عن متابعة الرسل كما يظن بعض أولياء الصوفية وأتباعهم حيث يعتقد عوامهم أن هؤلاء الأولياء تسقط عنهم التكاليف وأنهم وصلوا إلى الله فلا يحرم عليهم شيء والعياذ بالله والعبادة إنما هي للعوام عندهم فاستباح الأولياء الزنا واللواط والمحرمات بحجة عدم التكليف" [ انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية ( 2/ 81، 82 ) بتصرف ]
رابعاً: قال ابن تيمية – رحمه الله -: " ثبت بالأحاديث الصحيحة: أن المسيح عيسى بن مريم: إذا نزل من السماء، فإنه يكون متبعاً لشريعة محمد بن عبدالله – صلى الله عليه وسلم –.
فإذا كان – صلى الله عليه وسلم – يجب اتباعه ونصره على من يدركه من الأنبياء، فكيف بمن دونهم؟" [ انظر مجموع الفتاوى 11/ 418 ) ]
وتقدم قريباً حديث جابر – رضي الله عنه – وقول النبي– صلى الله عليه وسلم –  لعمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: (( والذي نفسي بيده لو أن موسى – صلى الله عليه وسلم – كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني ))
وفي بيان هذا الناقض قال شيخ الإسلام  - رحمه الله -: " فمن لم يؤمن بأن هذا رسول الله إلى جميع العالمين، وأنه يجب على جميع الخلق متابعته، وأن الحلال ما أحله والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، فهو كافر مثل هؤلاء المنافقين ونحوهم ممن يجوز الخروج عن دينه وشريعته وطاعته إما عموماً أو خصوصاً، ويعتقدون مع هذا أنهم من أولياء الله تعالى، وأن الخروج عن الشريعة المحمدية سائغ لهم، وكل هذا ضلال باطل " [ انظر جامع الرسائل ص ( 44 ).
وقال أيضاً: " ومن فضل أحد من المشايخ على النبي– صلى الله عليه وسلم –، أو اعتقد أن أحداً يستغني عن طاعة رسول الله– صلى الله عليه وسلم –، استتيب فإن تاب وإلا ضربت عنقه وكذلك من اعتقد أن أحداً من أولياء الله يكون مع محمد   كما كان الخضر مع موسى  فإنه يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه " [ انظر مجموع الفتاوى ( 3/422 ) ]
قال الشيخ صالح الفوزان – حفظه الله -: " ويدخل في هذا الناقض الذين يقولون: إن الشريعة إنما هي للزمان الماضي أما الوقت الحاضر فلا تصلح له الشريعة لأنها حدثت معاملات وجدّت أمور لا تتناولها الشريعة وهذا معناه أن الشريعة قاصرة عندهم وليست من حكيم حميد، فلا شك في كفر من يقول هذا المقال " [ انظر شرحه للنواقض ص ( 183 ) ]





 
الناقض العاشر
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى -:[ الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به والدليل قوله تعالى: { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون } ]

الشـرح

 المسألة الأولى: الإعراض عن دين الله علماً وعملاً ( معنى هذا الناقض ).
المصنف – رحمه الله – أراد أن يقرر في هذا الناقض مسألتين متلازمتين في الإعراض وهما تعلم دين الله تعالى والعمل به.
أولاً: الإعراض عن دين الله تعلماً.
والمراد بالإعراض الذي يكون ناقضا من نواقض الإسلام هو الإعراض  عن تعلم أصل الدين  الذي يكون المرء  به مسلماً، وأما من كان جاهلاً بتفاصيل الدين وفروعه فليس مقصوداً لأن من التفاصيل من لا يقوم به إلا العلماء وطلبة العلم.
سئل العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن عن الإعراض الذي يكون ناقضاً من نواقض الإسلام  فقال: " إن أحوال الناس تتفاوت تفاوتاً عظيماً، وتفاوتهم بحسب درجاتهم في الإيمان إذا كان أصل الإيمان موجوداً، والتفريط والشرك إنما هو فيما دون ذلك من الواجبات والمستحبات، وأما إذا عدم الأصل الذي يدخل به في الإسلام، وأعرض عن هذا بالكلية؛ فهذا كفر إعراض، فيه قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ } [الأعراف179 ], الآية وقوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [طه124]  الآية، قال العلامة سليمان بن سحمان: " فتبين من كلام الشيخ أن الإنسان لا يكفر إلا بالإعراض عن تعلم الأصل الذي يدخل به الإنسان في الإسلام لا بترك الواجبات والمستحبات " [ انظر الدرر السنية ( 10/472 – 473 ) ]

ثانياً: الإعراض عن دين الله عملاً.
والمراد به الإعراض الكلي عن جنس العمل كأن ينطق بالشهادتين ولا يعمل شيئاً من أعمال الجوارح مع قدرته فهذا كفر بالإجماع كما سيأتي بيانه.
أما من أعرض عن واجب من الواجبات في الدين فلم يعمل به فهذا إعراض جزئي لا يكون المرء – الذي معه أصل الإيمان – بترك ذلك العمل كافراً، هذا هو تقرير المسألة بشكل عام بغض  النظر عن نوعية العمل فمن الأعمال ما يكون تركه لوحده كفر كالصلاة على خلاف بين العلماء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: " فلا يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد – صلى الله عليه وسلم – " [ انظر مجموع الفتاوى ( 7/ 621 ) ]
وهاتان المسألتان متلازمتان أعني الإعراض عن دين الله علماً وعملاً فالعلم والعمل قرينان قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } [التوبة33 ] فالهدى هو العلم النافع ودين الحق هو العمل الصالح، ومن أعرض عن العلم بدين الله تعالى شابه النصارى، ومن أعرض عن العمل به شابه اليهود.
وبناءً على ما سبق فالإعراض ينقسم إلى قسمين:-
الأول: إعراض كلي.
وهو الإعراض عن تعلم أصل الدين أو عن جنس العمل فصاحب هذا الإعراض كافر خارج عن ملة الإسلام، وهذا هو الإعراض الذي أراده المصنف - رحمه الله –
الثاني: إعراض جزئي.
وهو الإعراض عن تعلم تفاصيل الدين وعن العمل ببعض الواجبات، فصاحب هذا الإعراض ناقص الإيمان مع بقاء أصله فهو لا يخرج بإعراضه عن الإسلام.
فالنوع الأول ينقص الإيمان وينفيه بالكلية، والنوع الثاني ينقص الإيمان لكنه لا ينفيه بالكلية. [ انظر نواقض الإيمان القولية والفعلية لعبد العزيز العبد اللطيف ص ( 345 ) ]

المسألة الثانية: الإعراض يختلف عن التكذيب.
لأن التكذيب هو عدم التصديق، أما الإعراض والتولي فهو عدم العلم والعمل، فقد يكون مؤمناً بصدق الرسالة لكنه معرض عنها علماً وعملاً قال تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } تأمل كيف أن الله أخبر أنه لم يصدَّق بل كذب، وأيضاً هو لم يصلِّ بل تولى وأعرض فجعل معنى الإعراض هو عدم العمل، والتولي عن طاعة الله كفر، قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } [آل عمران:32]
قال ابن كثير – رحمه الله -: " { فإن تولوا } أي تخالفوا عن أمره { فإن الله لايحب الكافرين } فدل على أن مخالفته في الطريق كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله ويتقرب إليه، حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل ورسول الله إلى جميع الثقلين " [ انظر تفسيره لهذه الآية من آل عمران آية ( 32 ) ]

المسألة الثالثة: هل يُعذر المعرض عن دين الله بجهله؟
المعرض عن دين الله تعالى لا يتعلمه ولا يعمل به، لا يعذر بجهله لأنه يستطيع رفعه بعدما بُيِّن له الحق، فالجاهل هو من لم يصله الحق ولم تبلغه الرسالة، وأما المعرض فهو من جاءه الحق ففرط به بإعراضه عنه.
قال ابن القيم – رحمه الله -: " كل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله فلابد أنه يقول يوم القيامة { يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ }
فإن قيل: فهل لهذا عذر في ضلاله إذا كان يحسب أنه على هدى، كما قال تعالى { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ }؟
قيل: لا عذر لهذا وأمثاله من أهل الضلال الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم -، ولو ظن أنه مهتد، فإنه مفرِّط بإعراضه عن اتباع داعي الهدى، فإذا ضل فإنما أُتي من تفريطه وإعراضه وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة وعجزه عن الوصول إليها، فذاك له حكم آخر.
والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول، وأما الثاني فإن الله لا يعذب أحداً إلا بعد إقامة الحجة عليه " [ انظر مفتاح دار السعادة  ( 1/ 43 ) ].

المسالة الرابعة: كيف الجمع بين أن ترك جنس العمل كفر مخرج من الملة وبين الأحاديث التي تدل على إخراج أناس من النار إلى الجنة وفي وصفهم أنهم لم يعملوا خيراً قط؟
تقدم أن ترك جنس العمل بأن لا يعمل شيئاً من أعمال الجوارح مطلقا مع قدرته على العمل ويكتفي فقط بنطق الشهادتين كفر وهذا بالإجماع، وحكى الإجماع كل من:-
الحميدي كما أخرجه الخلال في السنة [ انظر ( 3/586 ) رقم ( 1027 ) ]، والشافعي كما ذكره ابن تيمية [ انظر مجموع الفتاوى ( 7/ 209 ) ]، وأبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الإيمان [ انظر صفحة 18، 19 ] والآجري في كتاب الشريعة [ انظر 2/ 611 ]، وابن تيمية في مجموع الفتاوى [ انظر ( 14/ 120 ]
فإن قيل كيف الجمع بين هذا وبين الأحاديث التي فيها دخول أناس الجنة وهم لم يعملوا خيراً قط كحديث أبي سعيد – رضي الله عنه – الطويل في الشفاعة وفيه إخراج أقوام من النار لم يعملوا خيراً قط، والحديث رواه مسلم، وكذلك حديث أبي سعيد – رضي الله عنه – المتفق عليه في قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً ثم كمل المائة ثم أرشده عالم إلى التوبة و الهجرة واللحاق بأرض كذا وكذا ليعبد الله مع أناس صالحين هناك وفي الطريق وافته المنية وفي الحديث قالت ملائكة العذاب: (( إنه لم يعمل خيراً قط )) وفي الحديث أخذته ملائكة الرحمة، ونحوها من الأحاديث في هذا المعنى.
والجواب على هذه الأحاديث عدة أجوبة أختار منها جوابين:-
الأول: أن الاستدلال بهذه الأحاديث يرد عليها احتمال أن الذين أخرجوا من النار وأدخلوا الجنة بغير عمل، إنما هم من الأمم السابقة وليسوا من أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – إذ أن النار تجمع عصاة أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – وغيرهم لاسيما وقد جاء في حديث أبي سعيد – رضي الله عنه – في خروج العصاة من النار أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال الله عز وجل: (( شفعت الملائكة وشفع النبيون )) والاحتمال إذا ورد على الدليل بطل به الاستدلال، لاسيما إذا كان الاحتمال قوياً له حظ من النظر.
الثاني: أنه قد يكون المراد بهذه الأحاديث في قوله (( لم يعمل خيراً قط )) ليس نفي العمل كله، وإنما مع وجود أعمال أخرى، تأمل كيف أن الرجل الذي قتل المائة نفس تاب وهاجر إلى أرض يعبد الله تعالى بها.والتوبة والهجرة عملان صالحان عظيمان، ومع ذلك قالت عنه ملائكة العذاب (( إنه لم يعمل خيراً قط ))
وكذا في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – عند أحمد – رحمه الله – قال النبي – صلى الله عليه وسلم –: (( إن رجلاً لم يعمل خيراً قط، فكان يداين الناس فيقول لرسوله: خذ ما تيسر واترك ما عسر وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا )) وفي الحديث أن الله تجاوز عنه.
أنت ترى أنه قيل عنه لم يعمل خيراً قط مع أنه كان يصفح ويتجاوز عن المعسرين ولذا بوب ابن حبان في صحيحه [ ذكر البيان بأن هذا الرجل لم يعمل خيراً قط إلا التجاوز عن المعسرين ]  [ انظر كتاب التوحيد لابن خزيمة ( 2/ 732 ) ]
وهناك أجوبة أخرى ويبقى ترك العمل في هذه الأحاديث معناه خلاف، والإجماع متقدم كما تقدم على أن ترك جنس العمل كفر، وأما القول بأنه لايزال مؤمناً مع تركه جنس العمل فهو أصل اعتقاد المرجئة كما تعلم، فتنبه – رعاك الله –           قال ابن تيمية: " ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمناً إيماناً ثابتاً في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة ولا يصوم من رمضان ولا يؤدي الزكاة ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة لا مع إيمان صحيح" [ انظر مجموع الفتاوى ( 7/ 611 ) ]
ومما يدل على نفي الإيمان عمن لم يأت بالعمل وإن كان أتى بالقول، قوله تعالى: { ويقولون آمنا بالله وبالرسول ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين   }
قال ابن تيمية: " فنفي الإيمان عمن تولى بالعمل وإن كان قد أتى بالقول... ففي القرآن والسنة من نفي الإيمان عمن لم يأت بالعمل مواضع كثيرة " [ انظر مجموع الفتاوى ( 7/142 ) ]












 
خاتمة نواقض الإسلام:

قال الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله -: [ ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف، إلا المكره، وكلها من أعظم ما يكون خطراً، ومن أكثر ما يكون وقوعاً، فينبغي للمسلم أن يحذرها، ويخاف منها على نفسه
نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه، وصلى الله على محمد ]
الشرح
في هذه الخاتمة ذكر المصنف – رحمه الله –  عدة مسائل تقدم الكلام عليها في الشرح الذي تقدم نذكرها على وجه التعداد والإختصار:-

المسألة الأولى: أنه لا فرق في هذه النواقض بين الهازل والجاد.
فلا فرق في كل من يأت بناقض من نواقض الإسلام التي تقدمت بين الهازل والجاد، والهازل هو المازح وتقدم في شرح الناقض السادس الدليل على هذا وهو حديث زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما -  وفيه حينما رجعوا من غزوة تبوك قال رجل: " ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء" فبلغ ذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالوا " إنما كنا نخوض ونلعب فأنزل الله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } [التوبة:65] 
والحديث رواه ابن جرير وتقدم الإجماع على أن الهازل يكون في هذا كما هو الجاد فلا يعذر بمزحه.

المسألة الثانية: من أتى بالنواقض خوفاً فإنه يكفر لا يعذر أيضاً بخوفه.
فمن أتى بناقض من النواقض سواء كان قولاً أو فعلاً بسبب خوفه من نقص مال أو جاه أو مداهنة للكفار ونحو ذلك لم يحمله على ذلك إلا الخوف فإنه لا يعذر بذلك ويخرج عن ملة الإسلام ما لم يصل إلى حد الإكراه، فإن المكره يعذر، فهو الذي عذره الله تعالى بقوله: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النحل: 106]
وتقدم الكلام أن القلب ليس فيه إكراه ولذا قال: { وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ }
بقي الإكراه على العمل أو الكلام، وتقدم الكلام على مانع الإكراه معناه وأنواعه وشروطه في شرح هذه النواقض في المقدمة في المسألة الرابعة فراجعها.

المسألة الثالثة: أن هذه النواقض العشرة هي الأعظم خطراً والأكثر وقوعاً
ولعل هذا هو السبب في اختيار المصنف – رحمه الله – لهذه النواقض العشرة من بين نواقض الإسلامن وتقدم بيان ذلك في المسألة العاشرة من شرحنا في المقدمة وأن نواقض الإسلام أكثر من عشرة لكن الشيخ – رحمه الله – خص هذه العشرة لأنها الأعظم خطراً وأكثر وقوعاً.

المسألة الرابعة: ينبغي للمسلم أن يحذر الوقوع في هذه النواقض ويخاف على نفسه منها:
وتقدم بيان ذلك في المسألة الأولى من الناقض الأول
فيجب على المسلم أن يحذر الوقوع في هذه النواقض ولا يزكي نفسه بل يخاف من الوقوع فيها فإذا كان إمام الحنفاء إبراهيم – عليه السلام – الذي كسر الأصنام ودعا إلى التوحيد وألقى نفسه في النار من أجل كلمة التوحيد يخاف على نفسه وأهله من الشرك ويدعو ربه فيقول: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ } [إبراهيم: 35]
إذا كان هذا هو قول إمام الحنفاء فما دونه من الناس من باب أولى فينبغي عليك عبد الله أن تدعو ربك دوماً أن يحييك على العقيدة الصحيحة ويميتك عليها، وتستعيذ وتعتصم بالله من كل ما يدعو إلى ضلالة أو غضب الجبار سبحانه خاصة في هذه الأزمان أزمان الفتن، وكما ختم المصنف رحمه الله نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.


تم بحمد الله شرح نواقض الإسلام
وكان الفراغ منه يوم السبت
29/2/1431هـ.



 
نظم نواقض الإسلام لسعد بن عتيق

نظمها الشيخ العلامة: سعد بن حمد بن عتيق - رحمه الله -  المتوفى عام 1349هـ.
الحمد لله وصل ربِّ
     على النبي وآله والصحبِ
 
فهذه نواقض الإسلام
     الشرك مثل الذبح للأصنام
 
والجن والقبور ثم الثاني
     أن يجعل الشخص بلا برهان
 
وسائطاً يدعوهم ومن فعل
     ذا فهو ذو كفر بإجماع حصل
 
ثالثها من لم يكن معتقدا
     تكفير أهل الشرك أو ترددا
 
في كفرهم أو كان ممن يعتقد
     تصحيح مذهب لهم كفر وزد
 
رابعها من كان ذا اعتقادِ
     أن سوى هدى النبي الهادي
 
من هديه أكمل أو أنّ لمن
     سواه حكما في الورى أحسن
 
من أحكامه فكافر يلحق به
     في الكفر من أبغض ما جاء به
 
نبينا حتى ولو به عمل
     هذا هو الخامس إما أن تسل
 
عن سادس فكفِّر المستهزئ
     بديننا أو بالثواب استهزأ
 
أو بالعقاب سابع الأنواع قل
     السحر منه الصرف مع عطف عمل
 
فمن له يفعل أو ارتضاه
     فكافر وقد عصا مولاه
 
ثامنها في عدها من ظاهرا
     على ذوي الإسلام جنداً كافرا
 
تاسعها من قال أنه يسع
     شخصا من الأناسي أن لا يتبع
 
نبينا كالخضر إذ لم يتبع
     موسى ولم يعمل بماله شرع
 
عاشرها الإعراض عن دين الهدى
     والصدف عن منهاجه تعمدا
 
كحال من أعرض عن تعلمه
     ولم يكن ذا عمل بمُحكمه
 
وهذه الأنواع كفر كلها
     بكل حال جدها وهزلها
 
وسو بين خائف وغيره
     واستثن منهم مكرها لعذره
 
وختم قولي بالصلاة أبدا
     على النبي الهاشمي أحمدا
 
وبالسلام وجميع الآل
     وصحبه الغر وكل تالي