شرح كتاب الزكاة

هذا شرح كتاب الزكاة للشيخ "عبدالله بن حمود الفريح" بين فيه جملة من أحكام الزكاة، ووجوبها، وشروطها، وأركانها، وما يتعلق بها من أحكام، وعلى من تجب الزكاة، ومتى تسقط الزكاة، ومسائل في صرف الزكاة وأحكامها، وباب في زكاة الفطر، وصدقة التطوع.

 

 شرح كتاب الزكاة

عبد الله حمود الفريح

 

 

 

كتاب الزكاة
باب في بيان شروط وجوب الزكاة وما يتعلق بها
فيه سبعُ مسائل:
المسألة الأولى: شروط وجوب الزكاة خمسة:
وهذه الشروط هي أيضًا عند المذهب، وهي كما يلي:
"الشرط الأول: الحرية":
ونُخرِج بهذا الشرطِ العبدَ، فلا تجب الزكاةُ على العبد؛ لأنه لا مال له، فمالُه لسيِّده.
ويدل على ذلك:
1- حديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنه - أن النبي  قال: ((من ابتاع عبدًا وله مال، فمالُه للذي باعه، إلا أن يشترط المبتاع)) .
2- إجماع العلماء على أنْ ليس على العبد زكاةٌ، ونقل الإجماعَ ابنُ هبيرة .
الشرط الثاني: الإسلام:
ونُخرِج بهذا الشرط الكافرَ، فلا تجب عليه، ولا تُقبل منه لو فعَلَها، وسواء كان هذا الكافر كافرًا أصليًّا أو مرتدًّا، دلَّ على ذلك الكتابُ والسنة والإجماع والنظر، وهي كما يلي:
1- قوله - تعالى -: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ﴾ [التوبة: 54].
2- حديث ابن عباس - رضي الله عنه - في بعث معاذ إلى اليمن، وفيه أن النبي  قال له: ((فليكن أولَ ما تَدْعوهم إليه شهادةُ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله... فإن هم أجابوك لذلك، فأخبِرْهم أن الله افترض عليهم صدقةً تُؤخَذ من أغنيائهم، فتردُّ على فقرائهم)) .
ووجه الدلالة: أنه أمرهم بالتوحيد قبل الزكاة، فجعل الإسلامَ شرطًا لوجوب الزكاة.
3- إجماع العلماء على أن الإسلام شرطٌ لوجوب الزكاة، ونقل الإجماعَ ابنُ هبيرة .
4- ومن حيثُ النظرُ، فإن الزكاة عبادةٌ، والكافرُ ليس من أهل العبادات.
وهذا باعتبار الأداء؛ أي: إن الكافر من حيث وجوبُ أداء الزكاة، لا تجب عليه، ولا تُقبَل منه لو أدَّاها، وأما باعتبار العقوبة، فإنه سيُعاقَب على ترْكها، وتقدَّم في أول كتاب الصلاة أن الكافر يُعاقَب في الآخرة على ترْكه لفروع الشريعة؛ لأنه مخاطب بها، ويدل على ذلك: قوله - تعالى -: ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ﴾ [المدثر: 42 - 45].
ووجه الدلالة: أنهم ذَكَروا سببًا لعقوبتهم، وهو تركُهم لفروعٍ من الشريعة، كالصلاة، وإطعام المسكين.
الشرط الثالث: مِلْك النصاب:
ونُخرج بهذا الشرط مَن كان عنده مالٌ يَبْلُغ النِّصابَ ولكنه لا يملِكه، وكذلك نخرج من كان عنده مال يملكه ولكنه لم يبلغ النصاب.
والنصاب: هو القَدْر الذي إذا بلغه المالُ، وجبتْ فيه الزكاةُ، وسيأتي بيان الأنصبة، وهي تختلف باختلاف المال.
مثال ذلك: سيأتينا أن نصاب الذهب عشرون دينارًا، فمَن مَلَكَ هذا النصابَ، وجبتْ عليه الزكاةُ فيه، ولكن لو ملك تسعةَ عشرَ دينارًا، فلا زكاة عليه؛ لأنه لم يبلغ النصاب.
مثال آخر: سيأتينا أن نصاب الغنم السائمة أربعون شاة، فمن ملك أربعين شاة، وجبتْ عليه الزكاة فيه، ولكن لو ملك تسعًا وثلاثين شاة، فلا زكاة عليه؛ لأنه لم يبلغ النصاب، فمِلكُ النصاب شرطٌ لوجوب الزكاة.
ويدل على ذلك:   
1- حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي  قال: ((ليس فيما دون خمسة أَوْسُقٍ صدقةٌ، ولا فيما دون خمس أَوَاقٍ صدقة، ولا فيما دون خمس ذَوْدٍ صدقة)) .
ووجه الدلالة: أن ما دون خمسة أوسق، أو خمس أواقٍ، أو خمس ذود، ليس فيه زكاة؛ لأنه دون النصاب، والمقصود بالصدقة الزكاة.
2- إجماع العلماء على أن ملك النصاب شرطٌ لوجوب الزكاة، ونقل الإجماع ابن هبيرة .
إذًا هذا الشرط مكوَّن من أمرين: أن يكون مالكًا لهذا المال؛ أي: مستقرًّا في ملكه، وسيأتي بيانه، وأن يكون هذا المال بلغ النصاب، فإذا لم يبلغ النصاب، فلا زكاة فيه كما تقدم في المثالين، وكذلك إذا لم يكن مالكًا لهذا المال، فلا زكاة فيه؛ ولذا فإن هناك أموالاً لا مالك لها، فلا زكاة فيها، ومثال ذلك:
أ- أموال الدولة التي تجمع من الزكوات أو الضرائب، وكذا الأموال التي في بيت مال المسلمين، لا زكاة فيها؛ لعدم المالك المعيَّن لها؛ لأنها ملك لجميع الأمة، ومنهم المستحقون كالفقراء وغيرهم.
ب- أموال المؤسسات الخيرية التي تكون للمشاريع الدعوية، وكذلك الأموال الموقوفة على جهة عامة، كالفقراء، والمساجد، والمدارس، وسائر الجهات الخيرية، فالصحيح أنه لا زكاة فيها؛ لعدم المالك المعيَّن لها .
ج- المال الحرام لا زكاة فيه، كالمال الذي يحصل عليه الإنسان من سرقةٍ، أو غصبٍ، أو رشوةٍ، أو ربًا، أو غشٍّ، وكذا مَن أخَذَ أموالَ الناس بالباطل، أو نحو ذلك؛ لأنها ليست في ملكه في الأصل، وهي محرَّمة عليه، ويجب عليه أن يُعيدَها لأصحابها؛ لأنها أموال لا يملكها، فلما كانت غير مملوكة له، لم يَصحَّ أن يزكيَها، وكذا حُلي المرأة المحرم، فإنه لا زكاة فيه بإجماع العلماء، وسيأتي بيانه عند الحديث عن مسألة زكاة الحلي.
فالمال المحرَّم لا زكاة فيه؛ لقول النبي : ((لا تُقبل صلاةٌ بغير طُهُور، ولا صدقةٌ من غُلُول)) ، والغلول الأخْذ من مال الغنيمة قبل القسمة وهذا محرَّم، ولقول النبي : ((إن الله طيِّبٌ لا يقبل إلا طيبًا)) .
الشرط الرابع: استقرار الملك:
ونُخرِج بهذا الشرط من كان عنده مالٌ لكنه ليس في ملكه كما تقدم بيانه، مثل أموال الزكوات والضرائب التي تجمعها الدولة، وكذا أموال المؤسسات الخيرية؛ لأن هذه الأموال لا مالك لها معيَّن، فهنا الملك لم يستقرَّ، ومعنى استقرار الملك: أي أن ملكه لهذا المال تامٌّ، ويتصرف فيه حسب اختياره، فلا يتعلَّق بهذا المالِ حقٌّ لغيره.
ويدل على اشتراط استقرار الملك:
1- قوله - تعالى -: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ﴾ [التوبة: 103].
ووجه الدلالة: أن الله - تعالى - أضاف الأموالَ إلى أصحابها، ولا تكون لهم إلا إذا ملكوها ملكًا تامًّا مستقرًّا.
2- إجماع العلماء على أن استقرار الملك شرط لوجوب الزكاة، ونقل الإجماعَ ابنُ هبيرة .
3- من حيث النظر، فإن بذْل الزكاة فيه تمليكُ المال لمستحقِّه من الفقراء وغيرهم، فإذا لم يكن صاحب الزكاة مالكًا لهذا المال ملْكًا تامًّا، فإنه لن يستطيع تمليكَ غيره من مستحقي الزكاة عند بذْلها، إذًا تمامُ الملك واستقراره من شروط وجوب الزكاة، ولا يكون المال مستقرًّا، وفي تمام ملكه، إلا إذا ملك صاحبُه تمامَ التصرف في الحال وفي المستقبل، أما إذا كان المال ليس في ملكه حالاً، أو أنه عرضة للسقوط في المستقبل، فإنه لا تجب فيه الزكاة، كـ مال المُكَاتَب.
والمكاتب: هو العبد الذي يتَّفق مع سيده بأن يدفع لسيده مالاً، على أن يكون العبد بعدها حرًّا، فلو اتَّفقا على مبلغٍ، فإن هذا المبلغ الذي عند العبد ليس فيه زكاة، ولو مضتْ عليه سنة؛ لأن العبد يملك تعجيز نفسه، فيقول لسيده: لا أستطيع أن أوفي، وإذا لم يستطع الوفاء، سقط عنه المال، فهذا المال لا زكاة فيه؛ لأنه عرضه للسقوط.
وكذا الحبوب والثمار، لا تجب فيها الزكاةُ حتى يبدو صلاحُها، فلا يكفي أن تكون على رؤوس الشجر، وإنما لا بد من صلاحها، وحينئذٍ تستقر في ملكه، وأما قبل ذلك فلا، كأن تكون على رؤوس الشجر أو الزرع، فتأتيها آفةٌ تتلفها قبل صلاحِها من غير تفريط من صاحبها، فلا زكاة فيها؛ لأن ملكه لم يستقرَّ على هذا الشيء.
الشرط الخامس: مضي الحول:
أي: إنه لا تجب الزكاة في المال إلا إذا مضتْ عليه سنة كاملة، وهناك أشياء تستثنى من هذا الشرط ستأتي.
إذًا لا بد في المال - حتى تجب فيه الزكاة - أن يمضي عليه حولٌ.
ويدل على ذلك:
1- حديث عائشةَ - رضي الله عنها - مرفوعًا: ((لا زكاة في مال، حتى يحول عليه الحول)) .
2- حُكي الإجماع على اشتراط مضي الحول لوجوب الزكاة، نقل هذا الإجماعَ ابن هبيرة ، وخالف هذا الإجماعَ داودُ الظاهري، والصواب اشتراط ذلك.
3- يؤيد اشتراطَ مضي الحول أن النبي  لم يكن يبعث السُّعاة لجمع الزكاة إلا كل عام، وهذا يدل على اشتراط الحول.
وهناك أشياء لا يشترط لها مضي الحول، فتستثنى مما سبق، وهي:
1- المعُشَّر:
وهي الأموال التي يجب فيها العُشْر أو نصف العشر، وهي الخارج من الأرض من الحبوب والثمار، فإنها لا يشترط لإخراج زكاتها مضيُّ الحول؛ بل متى ما بدا صلاحها وحُصِدت، وجبت فيها الزكاة، ولو كان ذلك في أربعة أشهر أو ستة، ويدل على ذلك: قوله - تعالى -: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام: 141].
2- نتاج السائمة:
السائمة: هي بهيمة الأنعام (الإبل والبقر والغنم) التي تَرْعَى الحول أو أكثره فيما أنبتَه الله - عز وجل - أما ما نزرعه نحن ونُعلفه إياها، فلا تُعَدُّ به سائمة، فإذا كانت ترعى فيما أنبته الله سنةً كاملة، أو ثمانية أشهر أو سبعة، ففيها الزكاة، أما إذا كانت ترعى ستة أشهر، ونعلفها ستة أشهر فأكثر، فلا زكاة فيها؛ لأنها ليست سائمة، وهذا إذا كانت مُتخذة للدَّر والنسل لا للتجارة، وسيأتي بيان ذلك في بابه - بإذن الله.
ونتاج السائمة: أولادها، فلا يشترط في هذه الأولاد أن يمضي عليها حولٌ كامل، ما دام أن أصلها (وهي أمهاتها) مضى عليها حول؛ لأن حولها حولُ أصلها.
فمثلاً: لو أن رجلاً عنده تسعون شاة، وقبل أن يتم الحول بشهرين نتجتْ (أي: ولدت) ثلاثون منها ثلاثين شاة، هذه الثلاثون تسمى نتاجًا لتلك السائمة، فإذا ضممناها مع التسعين، صار عندنا مائة وعشرون شاة، فإذا جاء عامل الصدقة، فإنه يأخذ من صاحب هذه الماشية زكاةَ مائة وعشرين شاة، مع أنه لم يمرَّ على الثلاثين إلا شهران؛ لأنه لا يشترط فيها مضي الحول، فحولُها حولُ أصلها.
ويدل على ذلك:
1- أن النبي  كان يبعث السُّعاة لجباية الزكاة، فيأخذون الزكاة مما يجدونه عند صاحبها، ولا يسألون عما وُلد أثناء الحول، مع أن في المواشي صغارًا وكبارًا.
2- أنه صحَّ عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - إتباع المولود بأصله في الحول، فصح ذلك عن عمر .
تنبيه: لو أن رجلاً عنده ثلاثون شاة، وقبل حَوَلانِ الحول بشهرين ولدتْ عشرٌ منهن عشرَ شياهٍ، فصارت أربعين شاة، فهنا يبدأ الحول من ولادة العشر شياه؛ لأن الثلاثين شاة ليس فيها زكاة في الأصل، حيث إن نصاب الغنم يبدأ من أربعين، وهي من قبلُ لم تبلغ النصاب، وحينما ولدت عشر شياه صارت أربعين شاة، فهنا كمل النصاب، فيبدأ من كماله حتى يمضي عليه حولٌ كاملٌ، وهذا معنى قول صاحب "الزاد": "وإلا فمن كماله"، وكذا يقال في ربح التجارة فيمن كان رأسُ ماله دون النصاب.

3- ربح التجارة:
وربح التجارة لا يشترط له مضي الحول؛ فالتاجر إذا حال على ماله الأصليِّ حولٌ كاملٌ، فإنه يخرج زكاته وزكاة ما معه من أرباح، ولو لم يمض على هذه الأرباح حولٌ كاملٌ؛ لأنها تتبع أصلها.
فمثلاً: لو أن رجلاً له أرض اشتراها بخمسين ألفًا، وقبل تمام السنة بشهر ارتفع سعرُها فصارت تساوي مائة ألف، فهو في هذه الصورة ربح خمسين ألفًا، هذا الربح لا يحتاج أن يحول عليه الحول؛ لأنه فرع عن الأصل، فيزكي عن مائة ألف.
ويدل على ذلك:
1 - أن المسلمين منذ القدم حين يخرجون زكاة أموالهم لا يحذفون ربح التِّجارة، وإنَّما يخرجون زكاة رأس المال، وما معه من الأرباح، ولو لم يَمض على الأرباح حولٌ كامل.
2 - لأنَّ ربح التجارة فرع، والفَرْع يتبع أصله، ولا يفرد بحكم وحْدَه.
فائدة: لو أن رجلاً جاءه مالٌ ولكنَّه ليس ربحًا للتجارة التي عنده، وإنَّما جاءه من إرث أو هبة أو راتب ونحوه، فإنَّه لا يضمه إلى رأس مال تِجارته التي عنده، وإنَّما لهذا المال حولٌ مستقلٌّ - على القول الراجح والله أعلم - وهو قول المذهب فإذا مضى عليه الحولُ زكَّّّّّاه، وكذلك لو جاءته غنم، ولكنها ليست نتاجًا للسائمة التي عنده، وإنَّما جاءته عن طريق شراء أو إرث أو هبة، فإن لها حولاً مستقلاًّ على الصحيح، وهو قول المذهب، فلا تضم إلى ما عنده من النِّتاج، فإذا مضى عليها الحول زكَّاها، فلو أنَّ عنده أربعين شاة، وقبل حَوَلاَنِ الحولِ بشهرين اشترى مائة وعشرين شاة، فإن هذه المائة والعشرين حولها مستقلٌّ عن الأربعين، وعلى هذا يكون المال المستفاد على قسمين:
1 - أن يكون فرعًا عن أصل كأن يكون نتاجًا لسائمة أو ربحًا لتجارة، فهذا حوله حول أصله.
2 - ألاَّ يكون كذلك، فليس نتاجًا لسائمة، ولا ربحًا لتجارة، ولكنه من نفس جنس المال الذي عنده، فهذا له حول مُستقل عن الذي عنده.
- إذًا يستفاد مما تقدَّم أنَّ الأصل في زكاة كلِّ شيء أن يَمضي عليه حولٌ كاملٌ إلا في ثلاثة أشياء:
1 - المعشَّرات: وهي الخارج من الأرض من الحبوب والثِّمار.
2 - نتاج السائمة.
3 - ربح التجارة.
فهذه لا يشترط أن يحول عليها حولٌ كاملٌ، وأضاف أهلُ العلم إلى هذه الثلاثة:
1- الرِّكاز: وهو ما وُجد من دفن الجاهليَّة - وسيأتي الحديث عنه - فهذا لا يشترط له حولٌ، وليس له نصاب معيَّن، بل يزكيه بمجرد وجوده، فيخرج الخُمُس - أي: ما يعادل 20% - لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المتَّفق عليه أن النبي  قال: ((وفي الرِّكاز الخُمُس)).
2 - العسل: قالوا لا يشترط له مُضِي الحول، وإنَّما يُزَكَّى مباشرة كالحبوب والثمار إذا حُصِدت، والصواب أنَّه لا زكاةَ في العسل إلا أن تكون مُتَّخذة للتِّجارة؛ لأنَّه لا يصح في زكاة العسل حديث، وسيأتي الكلام عليها بإذن الله.
1 - الأشياء المعدَّة للأجرة: قالوا لا يشترط مضي الحول عليها، وإنَّما تجب بقبض المال، فإذا قَبَضَ قيمة تأجير البيت مثلاً، أخرج زكاتها أوَّل ما يقبض، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، والصَّواب أنه ليس في هذا المال زكاة إلاَّ إذا حال عليه الحول .
2 - المعادن: وهو ما يستخرج من الأرض من المعادن، وسيأتي بيانه في آخر باب زكاة الحبوب والثِّمار.
إذًا تبيَّن من المسألة الأولى أنَّ شروط وجوب الزَّكاة خمسة:
- اثنان يتعلقان بالمُزكِّي، وهما: الحرية، والإسلام.
- وثلاثة تتعلق بالمال المُزكَّى، وهي: ملك النِّصاب، واستقراره، ومضي الحول.
وكل هذه الشُّروط الخمسة نقل الإجماع عليها ابنُ هبيرة في "الإفصاح" كما تقدم.
فإن قيل: أليس العقل والبلوغ من شُرُوط الزَّكاة أيضًا، فنخرج المجنون والصَّغير فيما لو ورثا مالاً كثيرًا على سبيل المثال، أم أنه يجب في مالهما الزكاة؟
المذهب وهو القول الراجح والله أعلم: أنَّه يَجب في مالهما الزَّكاة، وهو قول جمهور العلماء.
ويدل على ذلك:
1- عموم الأدلة كقوله - تعالى -: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم﴾ [التوبة: 103]، وحديث ابن عباس - رضي الله عنه - في بعث معاذ إلى اليمن، فإنَّ النبي  قال: ((فأخبرهم أنَّ الله افترض عليهم صَدَقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم))؛ متفق عليه.
وهذا يشمل الصَّغير والكبير والمجنون والعاقل؛ لعموم الخطاب.
2 - أنَّ هذا هو حكم جمع من الصَّحابة، ولا يُعلم لهم مُخالف فمن ذلك:
ما ثَبَتَ عن عمر - رضي الله عنه - أنَّه قال: "ابتغوا في أموال اليتامى؛ لا تأكلها الصدقة" .
وأيضًا ورد ذلك عن علي وعائشة وابن عمر وجابر بن عبدالله - رضي الله عنهم أجمعين - كما في مصنف ابن أبي شيبة (4/24)، وسنن البيهقي (4/107)، والمحلى لابن حزم (5/208).
ووجه الدلالة: أنَّ البالغ لا يسمى يتيمًا، وإنَّما اليتيم هو الصَّبِي.
والقول الثاني: أنَّه لا يجب في مالهما الزَّكاة وهو قول الأحناف.
واستدلوا بحديث عائشة مرفوعًا: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق)) .
ونوقش هذا الاستدلال بأنَّ هذا الاستدلال يكون في العبادات التي لا تعلُّقَ لها بحق الغير، كالصلاة مثلاً، أمَّا العبادات التي لها تعلق بحق الغير كالزَّكاة، فإنَّها حق يُبذل لأهل الزكاة من الفقراء وغيرهم، فلا ينظر فيها إلى المكلَّف، وإنَّما إلى المال نفسه، وأيضًا لأنَّ وجوب الزَّكاة عليهما هي فتوى الصَّحابة ولا مُخالف، لهم فلا بُدَّ من القول بذلك والله أعلم.
المسألة الثانية: زكاة من له أو عليه دَيْن.
هذه المسألة لها قسمان: الأول زكاة من له دين عند أحد، والثاني: زكاة من عليه دَيْن لأحد، وقد عبَّر صاحبُ الزاد عن هاتين المسألتين بقوله: "ومن كان له دين أو حق من صداق وغيره على مَلِيءٍ أو غيره، أدَّى زكاته إذا قبضه لما مضى، ولا زكاةَ في مال مَنْ عليه دَيْن ينقص النِّصاب، ولو كان المال ظاهرًا".
ومسألةُ زكاةِ الدين، سواء له أم عليه - من المسائل المهمة جدًّا، لا سيما في وقتنا الحاضر؛ حيثُ كَثُرَت الحاجة للديون فمن دائن - وهو المعطي للمال - ومن مَدِين - وهو الآخذ له - وهي مسألة اختلف فيها أهل العلم اختلافًا كثيرًا، فتعدَّدت الأقوال فيها، وذلك لأنه لم يرد نص من الكتاب أو السنة يفصل زكاة الديون.
 - والدَّيْن لغة: اسم لكل شيء غائب، فكل ما لم يحضر يُسمى دَيْنًا .
وفي الاصطلاح: اسمٌ لمال واجب في الذِّمَّة من قرض، أو ثمن مبيع، أو منفعة عقد، كالمهر أو لشيء أتلفه، أو استأجره وغير ذلك.
ومما تقدَّم من تعريف الدَّين تبيَّن أنَّ القرض هو أحد أسبابِ الدَّين، وليس كل دين لا بد أن يكون قرضًا، فالدَّين أعم من القرض.
أولاً: زكاة الدائن؛ أي: زكاة من له دَيْن عند أحد.
فالمذهب: أنَّه يَجب أداء زكاة كل مال قبضه لما مضى عليه من السنين.
فعَلَى قول المذهب يَجب أداء زكاة ما مضى إذا قبضه، سواء كان الذي عليه الدين ملتزمًا في دَيْنه كأن يسدِّد ما عليه بعد سنة واحدة، أم كان مماطلاً ولم يسدِّد إلا بعد عشر سنين، فالمذهب يقول على الدَّائن أن يخرج زكاة كل مال يقبضه لما مضى عليه من السنوات.
مثال ذلك: رجل أجَّر بيتًا لمدة سنة أو باعه على آخر بـ (200.000) ريال، فإذا التزم المشتري وسدَّد ما عليه بعد سنة، فعلى البائع أن يخرج زكاتها، فيخرج ربع العشر وهي (5000) ريال، ولو قُدِّر أن هذا المشتري مماطل، فلم يسدِّد قيمة البيع إلا بعد خمس سنوات، فإن البائع سيخرج زكاة كل سنة مَضَت فسيخرج زكاة خمس سنوات، وهي (25.000) ريال؛ لأنَّ كل سنة زكاتها (5000) ريال.
مثال آخر: رجل تزوَّج امرأة على صداق (مهر)، قدره (20.000) ريال، ولم يعطها المهر إلاَّ بعد عشر سنين من زواجها، فعلى الزوجة أن تخرج زكاة هذا المهر لعشر سنين مضت فتخرج (5000) ريال؛ لأنَّ كل سنة زكاتها (500) ريال، هذا هو قول المذهب.
إذًا؛ خلاصة قول المذهب: أنَّ الدَّائن يدفع زكاة كل سنة مضت إذا قبض المال، سواء كان هذا الدَّين مرجوًّا؛ أي: على غني باذل، أو كان هذا الدين غير مرجو؛ أي: على غني مماطل، أو جاحد، أو على فقير مُعسر.
وقالوا: إنَّ للدائن أن يُخرج زكاة كل سنة في عامها مع ماله الذي عنده، وهذا أفضل؛ لتبرأ الذِّمَّة، وله أن يؤخرها حتَّى يقبض المال، فيزكي عن جميع السنوات، وهذه رخصة، فالأولى فضيلة، والثانية رخصة.


واستدلوا:
1 - بعموم الأدلة في وجوب الزَّكاة كل سنة، كقوله - تعالى -: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ﴾ [التوبة: 103]، وحديث ابن عباس في بعث معاذ إلى اليمن، فإنَّ النبي  قال: ((فأخبرهم أنَّ الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم))؛ متفق عليه.
2 - بما ورد عن بعض الصَّحابة من آثار كما سيأتي.
والأظهر - والله أعلم - أنَّه يفرق بين الدَّين المرجو؛ أي: يرجو وجوده كأن يكون على غني باذل كما تقدم - وبين الدين غير المرجو؛ أي: لا يرجو وجوده كأنْ يكون على غني مماطل أو جاحد، أو على فقير معسر كما تقدم.
- فأمَّا الدين المرجو: فتجب الزَّكاة فيه عن كل سنة، وتقدَّم أن هذا قول المذهب، وبه قال جمهور العلماء.
ويدل على ذلك ما استدل به المذهب:
1 - عموم الأدلة التي فيها الأمر بأداء الزكاة.
2 - وبما ورد من آثار الصَّحابة في إيجاب الزَّكاة، فقد ورد عن عمر وعثمان وجابر وابن عمر، كما في الأموال لأبي عبيدة (ص434)، وأيضًا روي عن علي كما في الأموال لأبي عبيدة (ص436)، وسنن البيهقي (4/150)، ومصنف عبدالرزاق (4/100).
3 - أنَّ الدين المرجو كالمال الذي في اليد؛ لأنَّه سيتمكن منه، فالصحيح فيه ما قاله المذهب وهو أنَّه يؤدي زكاة كل سنة، وله أن يخرج زكاة كل سنة في عامها، وهذا أبرأ للذمة، وله أن يزكي إذا قبض لما مضى من السنين.
 - وأمَّا الدين غير المرجو، كأن يكون المَدِين مماطلاً أو جاحدَ مالِ الدائن أو يكون فقيرًا معسرًا.
فقيل: إنَّه يزكي لكل سنة مضت إذا قبض ماله، وهذا قول المذهب كما تقدم بأدلته.
وقيل: يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة فقط، وبه قال الإمام مالك وهو رواية في مذهب أحمد، وهو اختيار الإمام محمد بن عبدالوهاب، كما في "حاشية العنقري على الروض" (1/361)، واختاره الشيخ محمد بن إبراهيم في فتاويه (4/20)، واختاره ابن باز في فتاويه (14/189)، وابن عثيمين في فتاويه (18/24)، ودليلهم: القياس على الثِّمار التي يجب إخراج زكاتها عند حصدها، فقالوا: إنَّ هذا الدين يشبه الثمرة التي لا تزكَّى إلا إذا حُصدت، فكذلك هذا الدين غير المرجو إذا جاء، فإنَّه يزكيه لسنة واحدة فقط.
ونوقش هذا التعليل بأنَّه ليس في زكاة الأموال إلا أن تجب فيه الزَّكاة لكل سنة، أو أنه ليس فيه زكاة أبدًا، والقول بأنَّ عليه أنْ يُزكي لسنة واحدة ليس عليه دليل؛ لأنَّ المال له حكم واحد في الشرع، إمَّا أن يزكى لكل سنة وإمَّا ليس فيه زكاة، وأمَّا التفريق بين السنة الأخيرة، فيخرج عليها الزكاة، وما قبلها من السنوات لا يخرج عليها، فليس عليه دليل.
 - قال أبو عبيد في كتاب الأموال (ص440): "فأمَّا زكاة عام واحد، فلا نعرف لها وجهًا".
وقال عنه ابن عبدالبر في الاستذكار (3/163): "وليس لهذا المذهب في النَّظر كبير حظ".
والقول الثالث: إنَّه لا تجب فيه زكاة، وهو قول الأحناف، ورواية في مذهب أحمد، واختاره شيخُ الإسلام ابن تيميَّة.
وعلَّلوا ذلك بأنَّ هذا المال لا يُمكن أن ينتفعَ به، ولا يتصرف فيه، فهو كالمعدوم وهذا القول له وجاهة وقوة، وأمَّا من استدل لوجوب الزَّكاة بما ورد من آثار الصَّحابة، فقد جاءت آثار أخرى للصَّحابة أن ليس في الدين زكاة، فقد ورد عن عائشة وابن عمر وغيرهما ومن التابعين عكرمة وعطاء ، فتعارضت أقوال السلف، فلا يكون فيها حجة.
فعلى هذا القول إذا قبض الدَّائن من مَدِينه ماله، فإنَّه لا زكاة فيه إلاَّ أنْ يَحولَ على هذا المال حولٌ كامل بعد القبض، ففيه زكاة السنة التي حال فيها، وأمَّا حين يقبض المال فلا، وهذا القول هو الذي صدر عن قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن زكاة الديون ، وذكر في القرار أنَّه لا يوجد نص في الكتاب ولا السنة يفصل زكاة الديون، وما ورد من آثار الصحابة والتابعين تعددت فيه وجهات النظر، ثم قرر المجمع ما يلي:
أولاً: تجب زكاة الدَّين على الدَّين عن كل سنة إذا كان المدين مليئًا باذلاً.
ثانيًا: تجب الزكاة على رب الدَّين بعد دوران الحول من يوم القبض إذا كان المدين معسرًا أو مماطلاً.
وما ذكره أصحاب المجمع الفقهي هو ملخص المسألة، ولو زكَّى صاحب الدَّين المال لسنة واحدة فقط بعد ما يقبضه من المدين المعسر أو المماطل، كان ذلك أحوط وأبرأ لذمته والله أعلم، وأمَّا من حيث الترجيح، فالأظهر والله أعلم القول الثالث، وأنَّه ليس عليه زكاة حتَّى يحولَ على المال الذي قبضه حولٌ كاملٌ.
فائدة: ومثل الدين الذي على معسر أو مماطل: المال المغصوب أو المسروق أو المال الموروث والمجهول ونحوها في الحكم.
ثانيًا: زكاة المَدِين؛ أي: زكاة من عليه دين لأحد.
وقبل ذكر هذه المسألة لا بد من التفريق بين الأموال الظاهرة والأموال الباطنة عند الفقهاء.
فالظاهرة: ما لا يُمكن إخفاؤه، وهي الزُّروع والثمار والمواشي.
والأموال الباطنة: ما يُمكن إخفاؤه، كالذَّهب والفِضَّة، ويلحق بهما الأوراق النقدية؛ لأنَّها كلها أثمان.
فمن كانت عند مزرعة وثمار أو مواشٍ، فهذا ماله ظاهر لا يُمكنه إخفاؤه، يشاهده الناس ووالي الصدقات، بخلاف من عنده ذهب أو فضة، فهو مال باطن.
واختلفوا في عروض التِّجارة، فمن نظر إلى قيمتها، جعلها أموالاً باطنة؛ لأنَّها أثمان، وهذا قول جمهور العلماء، ومن نظر إلى كونها لا تخفى على النَّاس كما هو واقع اليوم: محلات تجارية مرخصة، جعلها أموالاً باطنة، والفرق بين الباطنة والظاهرة أنَّ الظاهرة كان النبي  يبعث لها السُّعاة؛ ليأخذوا الزكاة من أصحاب الأموال الظاهرة والمواشي والزُّروع؛ لأنَّها لا تخفى على السَّاعي وعلى الناس، وتتعلق بها قلوب الفقراء بخلاف الأموال الباطنة، فلم يكُن النبي  يرسل من يأخذ زكاتها؛ لأنَّه لا يعرف مَنْ عنده مال ممن ليس عنده، فيخرجها صاحبُ المال من دون أن يأتيه أحد، وعروض التِّجارة الأظهر - والله أعلم - أنَّها من الأموال الباطنة؛ لأن المراد منها القيمة لا الأعيان - أو البضاعة - الظاهرة للناس، فالقيمة هي المرادة، وهي التي يخرج منها الزَّكاة والقيمة باطنة، فربَّما وجدت مَنْ ظَاهِرُ بضاعته الغِنَى، وحقيقة أمره من الرِّبْح الإفلاس، وأيضًا فتجارة الصحابة والسَّلف سابقًا ظاهرة للناس، ولم يرد أنه  كان يرسل إليهم السُّعاة لأخذ زكاتهم.
يتلخص مما مضى أن الأموال قسمان:
1 - أموال ظاهرة: وهي الزروع والثمار والمواشي.
2 - أموال باطنة: وهي الذهب والفضة وعروض التِّجارة، وهذا التقسيم هو قول جمهور العلماء.
واختاره من المحققين شيخ الإسلام ابن تيميَّة وتلميذه ابن القيم .
- فائدة هذا التقسيم في مسألتنا:
أنَّ مَن يرى وجوبَ الزَّكاة على من عليه دين، استدل بأخذ السُّعاة الذين بَعَثَهم النبي  من أصحاب الأموال الظَّاهرة، ولم يكونوا يسألونهم هل عليهم دين أو لا؟ فقالوا لا تأثير للدين في الزكاة، ومنهم من فرق بين مَنْ عنده أموال ظاهرة، فلا يَمنع دينه الزَّكاة، ومن عنده أموال باطنة، فيمنع دينه الزكاة، ومنهم من جعل الدَّيْن يمنع الزكاة، سواء في الأموال الباطنة والظاهرة، فهذه ثلاثة أقوال ستأتي.
 - ما معنى قول الفقهاء أنَّ الدين يمنع الزكاة؟
المعنى: أنَّ المسلم إذا أراد أن يخرج الزَّكاة وعليه دَيْن، فإنه يَخصم مقدار هذا الدين من المال الذي في يده الذي سيخرج زكاته، ثم ينظر في الباقي إنْ كان دون النِّصاب، فلا زكاة عليه، وإن كان لا يبقى في يده شيء بعد خَصْم الدَّين، فلا زكاة عليه أيضًا، وإن كان الباقي يبلغ نصابًا، فإنَّه يخرج زكاة الباقي فقط، إذًا المقصود هل الدين يؤثر في الزكاة أو لا؟ هذا هو موطن الخلاف.
- الخلاف في المسألة:
القول الأول: إنَّ الدَّين يؤثر في الزَّكاة مطلقًا، سواء كانت أمواله ظاهرة أم باطنة، وهذا قول المذهب .
مثال ذلك: رجل عنده (10.000) ريال، وعليه دَيْن (5.000) ريال، فإنه يخصم قيمة هذا الدين من رأس ماله، وهو(10.000) ريال، فيتبقى عنده (5.000) ريال، فيخرج زكاتها، ولكن لو كان عليه دين (9900) تسعة آلاف وتسعمائة ريال، فإنه بعد خصم الدين يتبقى عنده مائة ريال، فلا زكاةَ عليه؛ لأنَّ المائة لا تبلغ نصاب الزَّكاة كما سيأتي، وهذا المثال في الأموال الباطنة.
مثال آخر: رجل عنده (42) شاة، وعليه دَيْن (2000) ريال، ومثلاً قيمة الشاة الواحدة (500) ريال [الصواب: 1000 ريال؛ حتى يصح المثال]، فلو خصم الدَّين الذي عليه، لتبقى عنده (40) شاة، فيخرج زكاتها، ولكن لو كان عليه دين (4000) ريال، فإنه بعد خصم الدين سيكون عنده (38) شاة، وهذه ليس فيها زكاة؛ لأنَّ نصاب الغنم كما سيأتي أربعون شاة وما دون ذلك فلا زكاة فيه، وبناءً على هذا المثال فلا زكاة على صاحب الدَّين هنا، وهذا المثال على الأموال الظاهرة، هذا هو قول المذهب: إنَّ الدين يؤثر في الزكاة مطلقًا.
واستدلوا:
1 - بما ورد عن السائب بن يزيد - رضي الله عنه - أنَّ عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال وهو يخطب: "هذا شهر زكاتكم، فمن عليه دَيْن فليؤدِّه، ثم ليُزكِّ بقية ماله"؛ رواه مالك في موطئه (1/253)، وابن أبي شيبة في مصنفه (3/194)، والبيهقي في سننه (4/148).
قال ابن حجر: "إسناده صحيح، وهو موقوف" ، وصححه الألباني في الإرواء (3/260)، ووجه الدلالة: "أنَّ عثمان - رضي الله عنه - لم يأمر بإخراج الزَّكاة عن المؤدَّى في الدين، بل أمر بإخراج ما تبقى من المال بعد خَصْم الدين منه، وعثمان بن عفان من الخلفاء الرَّاشدين الذين أمرنا باتِّباع أمرهم.
ومن أهل العلم من ناقش هذا الاستدلال بأنَّ عثمان - رضي الله عنه - أمرهم بأداء الديون قبل مَجيء وقت الزَّكاة، فلا يصلح أن يستدلَّ لمن جاء وقت زكاته وعليه دَيْن، ولكن هذا القول بعيد؛ لأن ألفاظ الحديث تدل على أنه أمَرَ مَنْ عنده دين وحلَّت زكاته أن يَخصم الدين من ماله ثم يزكي.
2 - قالوا: من حيث التعليل والنظر، فإن الزكاة إنَّما وجبت لمواساة المحتاجين، والذي عليه الدَّيْن محتاج لقضاء دَينه، كحاجة من يحتاج لمواساة أو أشد، وليس من الحكمة أنْ يسد حاجة غيره ويُعطِّل حاجته.
ونوقش: بأنَّ العلَّة من الزَّكاة ليس المواساة فقط، وإنَّما هذه عِلَّة وجيهة استنبطها العلماء، وللزَّكاة علل أخرى أهمها ما ذكره الله - عزَّ وجلَّ - في كتابه، وهي تطهير للمال وصاحب المال، فقال - تعالى -: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ [التوبة: 103].
هذان الدليلان أبرز استدلالات أصحاب هذا القَول، وأقواها الدليل الأول، ولهم أدلة أخرى وما تقدَّم أشهرها وأقواها.
القول الثاني: إنَّ الدَّين لا يؤثر في الزكاة مطلقًا، وهو رواية في المذهب، واختار هذا القول الشيخ ابن باز في فتاواه (14/178)، وشيخنا ابن عثيمين في فتاواه (18/36).
واستدلوا:
1 - بعمومات الأدلة الدالة على وجوب الزَّكاة؛ حيث إنَّها لم تفرق بين مَنْ عليه دَين ومَنْ ليس عليه دين، كقوله - تعالى -: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ [التوبة: 103]، وحديث ابن عباس - رضي الله عنه - في بعث معاذ إلى اليمن وفيه: ((فأخبرهم أنَّ الله افترض عليهم صدقة تُؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم))؛ متفق عليه.
وحديث أنس - رضي الله عنه - مرفوعًا وفيه: ((وفي الرِّقَّة في كل مائتي درهم ربع العشر))؛ رواه البخاري، والرقة هي الفضة، وهي من الأموال الباطنة، وعموم الحديث يدخل فيه المدين وغيره، وهو كل مَن ملك نصابًا تجب فيه الزكاة.
ونوقش هذا الاستدلال بأنَّ المدين ملكه للمال ملك ناقص، فما معه من قدر الدين حقٌّ للدائن، وأيضًا هذه الأدلة العامَّة التي استدلوا بها هي فيمن توفرت فيه الشُّروط، ومنها تمام الملك واستقراره، وأيضًا هذه العمومات مَخصوصة بما جاء في أدلة أصحاب القول الأوَّل، ومنها أثر عثمان؛ حيث أمر مَنْ عليه دَيْن أنْ يقضي دينه، ويخرج زكاة ما بقي، وهذا دليل أخص من هذه العمومات، والخاص مقدَّم على العام.
2 - استدلوا بأنَّ النبي  كان يُرسل العُمَّال الذين يقبضون الزَّكاة من أصحاب الأموال الظاهرة كالمواشي والثِّمار، ولا يأمرهم أن يستفسروا من أصحابها أعليهم ديون أم لا؟ مع أنَّ أهلَ الثمار عليهم ديون؛ لأنَّ من عادتهم أنَّهم كانوا يسلفون في الثِّمار السنة والسنتين.
ونُوقش هذا الاستدلال بأنَّ عدم استفصال العمال ممن عليه الزكاة ليس دليلاً؛ لأنَّ الأصل هو براءة الذِّمة من الديون، ومَنْ عليه دين فيستخبر عن نفسه.
ولأصحاب هذا القول أدلة أخرى، وهذان الدليلان أشهرها وأقواها.
والقول الثالث: فرَّقوا بين الأموال الظاهرة، فلا يؤثر فيها الدين، وبين الأموال الباطنة، فيؤثر فيها الدين، وهذا القول رواية في المذْهَب وهو اختيار الشيخ عبدالرحمن السعدي.
واستدلوا:
1 - بما تقدم من إرسال النَّبي  للعمال؛ ليأخذوا من أصحاب الأموال الظاهرة أهل المواشي والثِّمار، ولم يكونوا يستفصلون أعليهم ديون أم لا؟
2 - قالوا: لأنَّ تعلُّق الزَّكاة بالأموال الظاهرة آكد من الباطنة، وذلك لظهورها وتعلُّق الفقراء بها.
وهذان الدليلان أقوى أدلتهم وأشهرها.
ونوقش هذان الدليلان بأنَّ عدم استفصال السُّعاة من أهل الأموال الظَّاهرة، وأخذهم للمال مُباشرة يدُلُّ على أنَّ الزكاة تتعلق بالمال، ولا فرق في هذا بين الأموال الظاهرة والباطنة، ولأنَّ الدَّين أمر مخفي يستوي فيه المال الظاهر والباطن، وأمَّا قولهم: لأن قلوب الفقراء تتعلق بالأموال الظاهرة؛ لظهورها بخلاف الأموال الباطنة؛ لخفائها، فالجواب أنَّ الخفاء والظهور لا ينضبط، فصاحب عروض التِّجارة الذي له محلات تجارية أشد ظهورًا للفقراء من صاحب الغنم الذي تنحَّى بها خارج البلدة، وسكن عندها من البدو وغيرهم.
وبعد استعراض الأقوال، فإنَّ القول الأول وهو أنَّ للدين تأثيرًا في الزكاة قول وجيه وقوي؛ وذلك لأن أثر عثمان في الأمر بقضاء الدين ثم أداء الزكاة - مما بَقِيَ قويًّا في الدلالة؛ قال ابن قدامة في "المغني" (4/164) عن قول عثمان: "وقد قال ذلك بمحضر من الصحابة، فلم ينكروه عليه، فدل على اتفاقهم عليه".
 - قال ابن رشد: "والأشبه بغرض الشارع إسقاط الزَّكاة عن المدين" .
إلا أن هناك أمورًا وشروطًا لا بد من مراعاتها وهي ما يلي:
1 - أن يكون الدَّيْنُ حالاًّ لا مؤجلاً:
مثال ذلك: رجل عليه مائة ألف ريال بأقساط سنويَّة كل سنة عشرة آلاف، فإن الدين المعتبر الذي يؤثر في الزَّكاة هو ما حلَّ سداده، وهو عشرة آلاف، فيخصمها مما عنده من المال، وأمَّا ما تبقى من أقساطه، وهي تسعون ألفًا، فهذه مُؤجَّلة لا تأثير لها في الزكاة، فإذا كان عنده من المال خمسون ألفًا، فإنَّه يخصم منها عشرة آلاف قدر الدين، ويخرج زكاة أربعين ألفًا.
2 - ألاَّ يكون عنده شيء زائد يسدد به دينه، فليس عنده إلاَّ ماله الذي سيزكيه وحاجاته الأصلية.
مثال ذلك: رجل عنده سيارة زائدة غير سيارته الأصلية، وعنده مال وقدره أربعون ألفًا، وعليه دين وقدره عشرة آلاف فإنه يزكي الأربعين ألفًا، ولا يخصم منها قدر الدين؛ لأن هذا الرجل عنده شيء غير ماله يسدد به دينه، وهو سيارته الزائدة، فيبيعها ويسدد دينه.
وذلك لأنَّ عدم اعتبار الأشياء الزَّائدة يُؤدي إلى الاستغراق في الدَّين في أمور كمالية ليست من حاجة الإنسان الأصليَّة، وتكون مقدَّمة على حقِّ الله، وهو فرض الزكاة؟! فربَّما تجد مَنْ عنده سيارات زائدة وعقارات زائدة واستراحات، وعليه أقساط منها، ثم يقول: إنَّ ديني يؤثر في زكاتي.
ولأن قيمة الأشياء الزائدة أولى بسداد الدَّين من المال الذي فيه حق الزَّكاة، فيأخذ من أمواله الزائدة ما يسد دينه، وهذا الشرط الثاني نص عليه المرداوي من الحنابلة .
هذا هو الخلاف في المسألة، ولا شكَّ أن الأحوط للمسلم والأبرأ لذمته أن يبادر في قضاء دينه الذي حلَّ، ثم يزكي ما بقي، فهذا فيه براءة لذمَّته من الدَّين، واحتياطٌ في باب الزكاة، وتطبيق لما أمر به عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أصحابه.
 - قال شيخنا ابن عثيمين في "الممتع" (6/32): "وأما أثر عثمان - رضي الله عنه - فإننا نُسَلِّم أنَّه إذا كان على الإنسان دين حال، وقام بالواجب وهو أداؤه، فليس عليه زكاة؛ لأنَّه سيؤدي من ماله، وسَبْقُ الدين يقتضي أن يُقدَّم في الوفاء على الزَّكاة؛ لأن الزكاة لا تجب إلا إذا تم الحول، والدين سابق، فكان لسبقه أحق بالتقديم من الزكاة، ونحن نقول لمن اتَّقى الله، وأوفى ما عليه: لا زكاة عليك إلاَّ فيما بقي، أمَّا إذا لم يوف ما عليه، وماطل لينتفع بالمال، فإنَّه لا يدخل فيما جاء عن عثمان - رضي الله عنه - فعليه زكاته".
فائدة: قد يكون الدَّيْن ليس لآدمي، وإنَّما في حقٍّ وجب عليه لله كالكفَّارة، فإنَّها تدخل ضمن الدين، وهو قول المذهب أيضًا؛ لحديث ابن عباس - رضي الله عنه - مرفوعًا، وفيه: ((دين الله أحق بالوفاء))؛ متفق عليه.
مثال ذلك: رجل عنده مال يريد أنْ يزكيه وعليه كفَّارة ظهار أو قتل، أو كفارة يمين، فإن هذه الكفارة حكمها حكم الدين في التأثير في الزَّكاة بما تقدم من خلاف، فلو كان عنده ثلاثة آلاف ريال، وعليه كفارة يمين والإطعام في كفارة اليمين يكلف مثلاً مائة ريال، فإنه يخصم قيمة الكفارة من ماله، فيخرج زكاة ألفين وتسعمائة ريالِِِِِِِِ.
المسألة الثالثة: ينعقد الحول بصغير الماشية حين ملكها إذا كملت نصابًا.
مثال ذلك: رجل عنده ثلاثون رأسًا من الأغنام، وفي شهر محرم ولدت عشر منهن عشر شياه، فصارت أربعين رأسًا - ومعلوم أن نصاب الغنم يبدأ من أربعين ومن كان عنده دون ذلك فلا زكاة عليه - ونقول لصاحب هذه الشياه أنَّه بدأ الحول من حين ملكه لأربعين شاة، ولو كان بعضها صغارًا، فإن الحول ينعقد بها على القول الصَّحيح وهو قول المذهب خلافًا لمن قال: إنَّ هذه الشياه لا ينعقد بها الحول حتى تبلغ سنًّا معينة.
ويدل على ذلك: عموم حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - الطويل، وفيه: إنَّ النبي  قال: ((في أربعين شاة شاة))؛ رواه البخاري، ولم يحدد النبي  سنًّا معينة، بل في كل أربعين شاة نخرج للزكاة شاة واحدة، وسواء كانت هذه الأربعين صغيرة أو كبيرة.
تنبيه: سيأتينا - بإذن الله - في الباب القادم زكاة بهيمة الأنعام، وأنَّ من شرطها أنْ تكون سائمة؛ أي: ترعى الحول أو أكثره، فإذا كانت هذه الصِّغار ليست سائمة كأن تتغذى باللبن فقط، فلا ينعقد بها الحول، وهو قول المذهب أيضًا، ليس لأنَّها صغيرة، وإنَّما لأنَّها غير سائمة.
المسألة الرابعة: ينقطع الحول في أمور منها:
وهذه الأشياء التي تقطع الحول هي اختيار المذهب أيضًا.
أولاً: لو نقص النِّصاب في أثناء الحول:
مثال ذلك: رجل يملك خمسًا من الإبل - ومعلوم أن نصاب الإبل خمس - كما سيأتي - وفي أثناء الحول بعد سبعة أشهر مثلاً ماتت واحدةٌ من الإبل، فهنا نقص النِّصاب وصار عنده أربع من الإبل، فلا زكاة فيها، فإذا اكتمل النِّصاب بأنِ اشترى واحدة فيما بعد، فإنَّه يستأنف فيبدأ الحول من جديد.
مثال آخر: لو فرضنا أنَّ نصابَ النُّقود ألف ريال، وبعد ثلاثة أشهر اشترى بمائة ريال، فإنَّ الحول انقطع حينئذ، فإذا ملك ما يكمل به النِّصاب فيما بعد، فإنه يستأنف حولاً جديدًا.
ثانيًا: لو باع النصاب أثناء الحول:
مثال ذلك: رجل عنده (40) شاة سائمة، وبعد تسعة أشهر من الحول باع شاة واحدة، فإنَّ الحول انقطع حينئذ، فإذا ملك ما يكمل به النِّصاب بأن اشترى شاة فيما بعد، فإنَّه يستأنف حولاً جديدًا.
ثالثًا: لو أبدل النِّصاب بغير جنسه أثناء الحول:
والإبدال بيع في حقيقته، فلو أبدل أربعين شاةً بخمس من الإبل، فهذا بيعٌ فهو اشترى الإبل بالشياه، وسيأتينا في تعريف البيع: "أنَّه مبادلة مال..."، وصاحب "الزاد" ذكر البيع والإبدال، ولا شك أنه يريد المغايرة والتفريق، فيعمل البيع على النُّقود، والإبدال بغير النقود؛ ولذا قال رحمه الله: "بغير جنسه".
مثال الإبدال: رجل عنده (40) شاة، وبعد خمسة أشهر أبدلها بخمسة من الإبل، فإن الحول انقطع حينئذ، فيستأنف حولاً جديدًا.
مثال آخر: رجل عنده (20) دينارًا من ذهب، وبعد عشرة أشهر أبدلها بـ (200) درهم من الفضة، فهل ينقطع فيستأنف، أو أنَّه يبني على حوله؟
المذهب: أنَّه يبني على الحول فلا ينقطع؛ لأنَّهم يرون أنَّ الذهب والفضة من جنس واحد، فالجنس عندهم لم يختلف.
والقول الراجح - والله أعلم -: أن الحول ينقطع؛ لاختلاف الجنس، وهو اختيار شيخنا ابن عثيمين في "الممتع"، (6/40)، وسيأتي في باب زكاة النقدين أن الذهب والفضة لا يكمِّل أحدهما الآخر في النِّصاب؛ لاختلاف الجنس بخلاف أصحاب المذهب الذين قالوا: إذا كان الذهب دون النصاب وعنده من الفضة ما يكمل به نصاب الذهب، ففيه الزكاة، والعكس كذلك، والصواب غير ذلك كما سيأتي.
ويدل على ذلك: أنَّ النبي  جعلهما جنسين مُختلفين كما في حديث عبادة بن الصامت مرفوعًا: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة... فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كَيف شئتم إذا كان يدًا بيد))؛ رواه مسلم (1587).
 - إذًا من خلال ما تقدَّم عرفنا أنَّه إذا أُبدل بغير جنسه، فإنَّه يستأنف حولاً جديدًا، ولا يبني على الحول السَّابق، فالغنم والبقر هذان جنسان مُختلفان، وكذا الذَّهب والفضة على الصَّحيح جنسان مُختلفان، والاختلاف في الجنس هنا حقيقة، فالغنم حقيقته تختلف عن البقر، وقد يكون الاختلاف في الجنس ليس حقيقة، وإنَّما حكمًا؛ أي: في حكم المختلف.
مثال ذلك: رجل عنده (40) رأسًا من الأغنام السَّائمة، فأبدلها بعد خمسة أشهر بنصاب عروض التِّجارة - وسيأتي أنَّ لبهيمة الأنعام المتَّخذة للدَّر والنَّسل نصابًا، وهو: أربعون من الأغنام وما دونها، فليس فيه زكاة، وأنَّ لعروض التِّجارة نصابًا آخر وبابًا يختلف عن باب زكاة بهيمة الأنعام، وعُرُوض التجارة؛ أي: يتاجر بالأغنام، فيبيع ويشتري، فقد يكون عنده دون الأربعين من الأغنام، ومع ذلك فيها زكاة؛ وذلك إذا كانت عروض تجارة - كما سيأتي بيانه في بابه - وهذا الرجل أَبدل، فانتقل من نصاب إلى نصاب، فيستأنف حولاً جديدًا مع أنَّ الانتقال من أغنام لأغنام، ولكن الاختلاف في النِّصاب من بهيمة الأنعام السَّائمة إلى عُرُوض التِّجارة، فصار في حكم المختلف.
ولذا فإنَّ عروض التِّجارة بابها واحد وجنسها واحد؛ لأنَّ زكاتَها تخرج قيمة، وليس من جنس عروض التِّجارة، فصاحب الأغنام الذي يبيع ويشتري لا يَخرج في الزكاة شاة، وإنَّما نقودًا كما سيأتي، وعليه فإذا أبدل ذهبًا بفِضَّة أثناء الحول، فلا يستأنف حولاً جديدًا إذا كانت عروض تجارة، بل يبني على حوله السابق؛ لأنَّ هذه المبادلة على سبيل التجارة كالذين يتعاملون بالعملات، فيشترون مثلاً بالريال السعودي جنيهًا مصريًّا أو درهمًا إماراتيًّا، فإن هذه المبادلة لا تقطع الحول.
والخلاصة: أنَّه إذا أبدل جنسًا بغيره، فإنه يستأنف حولاً جديدًا إلا في عروض التجارة كما سبق.
مسألة: ما الحكم لو فعل واحدًا من الأسباب الثلاثة السابقة التي ينقطع بها الحول ليفر من الزكاة؟
مثال ذلك: شخص عنده (40) شاة سائمة، وقبل تمام الحول بشهر، ذَبَح واحدة؛ لتكون ناقصة عن النِّصاب فلا يزكي، أو باع واحدة، أو أبدلها بخمس من الإبل، وفعل ذلك كله؛ ليفر من الزكاة، فما حكمه؟
الجواب: أنه تجب في حقِّه الزكاة بعد تمام الحول، فلا ينقطع وهو قول المذهب أيضًا.
والتعليل: لأنه فعل ذلك؛ ليتحايل على الشَّرع، فيعاقب بضد قصده؛ لأنَّ التحايل على إسقاط الواجب لا يسقطه، كما أن التحايُل على الحرام لا يبيحه؛ لقول النبي : ((لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا مَحارمَ الله بأدنى الحيل))؛ أخرجه ابن بطة في "إبطال الحيل" (24).
وجوَّد إسناده شيخُ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (3/123).
ولأنَّ العبرة في الأفعال بالمقاصد؛ لقول النبي : ((إنَّما الأعمال بالنيات، وإنَّما لكل امرئ ما نوى))؛ متفق عليه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه.
فالتحايل على إسقاط الواجب لا يسقطه كما في هذا المثال، وكمن يُطَلِّق امرأته وهو في مرض الموت؛ حتَّى لا ترث، فهنا لا يسقط الواجب فترث، وكذلك التحايل على فعل المحرم لا يُبيحه، وهذه قاعدة الحيل.
مسألة أخرى: لو أبدل النصاب بجنسه، فإن الحول لا ينقطع، وبه قال المذهب أيضًا.
مثال ذلك: رجل عنده ذهب يبلغ النِّصاب وقبل تَمام الحول بشهرين أبدله بذهب آخر، فإن الحول لا ينقطع؛ لأنَّه أبدله بجنسه، فيبني على حوله السابق.
مثال آخر: رجل عنده ثلاثون من البقر، وقبل تَمام الحول باعها بثلاثين من البقر أخرى، فإن الحول لا ينقطع، فيبني على حوله؛ لاتِّفاق الجنس.
إذًا ملخص المسألة أن يقال:
أولاً: أنَّ من نقص نصابه أو باع منه أو أبدله بغير جنسه أثناء الحول، فإنه يستأنف حولاً جديدًا، وإن فعل ذلك فرارًا من الزكاة، فإنه لا يستأنف، بل يبني على حوله.
ثانيًا: أن إبدال النصاب بغيره ينقسم أقسامًا:
1 - أنْ يبدل نصابًا بغير جنسه، فإنَّه يستأنف حولاً جديدًا إلاَّ في عروض التجارة كما سيأتي، مثاله: خمسًا من الإبل بثلاثين بقرة، أو ذهبًا بفضة على القول الصحيح.
2 - أن يبدل نصابًا بغير جنسه، وكلاهما عروض تجارة، فإنه يبني على حوله الأول، مثاله: كأن يتاجر بثلاثين رأسًا من الأغنام، فأبدلها بخمس من الإبل؛ ليتاجر بها أيضًا، فيبيع ويشتري.
3 - أن يبدل نصابًا ليس عروضَ تجارة بنصاب آخر عروض تجارة، سواء من جنسه أم من غير جنسه، فإنه يستأنف حولاً جديدًا، مثاله: كأن يكون عنده ثلاثون بقرة سائمة، أو أربعون شاة سائمة مُتَّخذة للدَّرِّ والنسل، فأبدلها بثلاثين شاة عروض تجارة.
4 - أن يبدل نصابًا بآخر من جنسه، فإنه يبني على حوله الأول، مثاله: كأن يبدل ذهبًا بذهب أو إبلاً سائمة بإبل سائمة.
5 - أن يبدل نصابًا بغير جنسه؛ ليفر من الزَّكاة، فإنَّه يبني على حوله الأوَّل، مثاله: كأن يبدل ثلاثين من البقر بأربعين شاة؛ ليفر من الزكاة.
المسألة الخامسة: هل تتعلق الزكاة بالذمة أو بعين المال؟
فائدة الخلاف: لو أن رجلاً عنده (40) شاة، فحال عليها حولان، ولم يخرج الزكاة، فمن علَّق الزَّكاة بالذمة، أوجب عليه شاتين لكل حول شاة، ومن علَّقها بعين المال، أوجب عليه شاة واحدة؛ لأنَّه لو أخرج عن الحول الأول شاة من أربعين، لصار عنده (39) شاة، وهذه دون النصاب، فلا تجب عليه الزكاة للحول الثاني، وفي هذا إشكال.
وإشكال آخر: لو قلنا: إنَّها تتعلق بعين المال يترتب عليه أنَّ صاحب المال لا يجوز له أنْ يبيع من هذه الشياه أو يهبها؛ لأن عين هذا المال فيه الزكاة؛ وكذا لو أراد أن يخرج زكاتها، فلا يجوز أن يشتري من السوق شاة؛ ليخرجها زكاة عن الأربعين التي عنده؛ لأنه لا بد أن يخرجها من عين المال، فيخرجها من التي عنده، والواقع اليوم أنَّ صاحب المال يتصرف في ماله بيعًا وشراءً وهبة، ويجوز له أنْ يشتري غير ما عنده؛ لتكون هي الزكاة.
إشكال آخر: لو قلنا: إنَّها متعلقة بعين المال، لو تلف هذا المال بعد مضي الحول، فلا شيء عليه؛ لأنَّ عين المال تلف إن كان من غير تفريط، ولو قلنا: إنَّها متعلقة بالذمة، لوجبت عليه الزَّكاة مع أنَّ الأظهر أنه ليس عليه زكاة؛ لأنَّه غير متعدٍّ ولا مفرط، وهناك إشكالات ومسائل أخرى تنبني على هذا الخلاف ذكرها ابن رجب في "القواعد" بتفريعات فريدة يحسن الرُّجوع إليها والاستفاد منها ، والآن نذكر الخلاف بعد معرفة فائدته.
للمذهب روايتان قيل: إنَّها تتعلق بالذِّمة.
وعلَّلوا ذلك: بأنه لو تلف المال بعد وجوب الزَّكاة، لوجبت على صاحب المال الزكاة؛ لأنَّها في ذمته.
وقيل: إنَّها تتعلق بالمال.
واستدلوا: بقوله - تعالى -: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بها﴾ [التوبة: 103]، ولقول النبي : ((فأعلمهم أنَّ الله افترض عليهم صدقة في أموالهم))؛ متفق عليه من حديث ابن عباس - رضي الله عنه.
وهاتان الروايتان في مذهب الإمام أحمد .
والقول الثالث: إنَّ الزكاة محلها عين المال ولها تعلق بالذِّمة، وهذا القول هو الذي ذكره صاحب الزاد، وهو قول يجمع بين الأمرين، وهو الأظهر - والله أعلم - فيصح أن يبيع المال أو يهبه ويتصرف فيه؛ لأن هذا التعلُّق بالمال ليس تعلقًا كاملاً، ويضمن الزكاة؛ لانشغال ذمته بها.
تنبيه: يستثنى من هذه المسألة عروض التجارة، فإن الزكاة لا تجب في عينها، بل في قيمتها، فمن يتاجر بمحلات مواد غذائيَّة لن يخرج الزكاة مما فيها كالسكر والشاي والأرز ونحوها، بل يُخرجها قيمة، وكذا من يُتاجر بالأغنام أو الأراضي، فما دام أنَّها عروض تجارة، فإن زكاتها في قيمتها.
المسألة السادسة: لا يشترط في وجوب الزَّكاة التمكن من أدائها، ولا بقاء المال، والمقصود أنَّ التمكن من أداء الزكاة وبقاء المال ليسا من شروط وجوب الزكاة.
أولاً: التمكن من أداء الزكاة:
المذهب وهو القول الرَّاجح والله أعلم: أنه لا يشترط لإيجاب الزَّكاة على المسلم أن يتمكن من أدائها، فمثلاً: تقدم أنَّ الزكاة تجب في الدَّيْن مع أنَّ الدائن لا يتمكن من أداء الزَّكاة، ولكن الزَّكاة واجبة في حقه، لكن إخراج الزَّكاة لا يجب إلا بعد التمكن من الأداء، وبهذا نعرف أن هناك فرقًا بين وجوب الزَّكاة وبين وجوب إخراج الزَّكاة، فالأول يجب وإن لم يتمكَّن، والثاني لا يجب إلا بعد التمكن.
والتعليل: أنَّ هذا كسائر العبادات، فالصَّوم واجب على الحائض؛ أي: في ذمتها، ولكن لا يَجب فعله إلا إذا تمكنت بعد الطهر وكذلك المريض، وكذلك النائم في وجوب الصلاة.
ثانيًا: بقاء المال:
المذهب: أنه لا يشترط في وجوب الزَّكاة بقاء المال، بمعنى أنه لو تلف المال بعد مضي الحول ووجوب الزكاة فيه، يجب عليه أنْ يخرج زكاة هذا المال؛ لأنه لا يشترط أن يكون باقيًا عنده، سواء تلف هذا المال بتفريط منه أم لم يفرط؛ لأنَّه صار المال بعد مضي الحول كالدَّيْن عليه، وهذا يجعله متعلقًا بالذمة.
والقول الراجح - والله أعلم -: التفريق بين المفرِّط في إتلافه، فيجب عليه أداء الزكاة ولا يشترط بقاء المال، وبين الغير مفرِّط فلا تجب عليه الزَّكاة، وهذا القول رواية في المذهب.
والتعليل: لأنَّ المال بعد مضي الحَوْل ووجوب الزكاة كالأمانة عنده، والأمانة إذا تلفت من غير تفريطٍ ولا تعدٍّ لا يضمنها باتِّفاق العلماء، وإذا فرَّط فإنه يضمن، وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميَّة واختيار شيخنا ابن عثيمين.
المسألة السابعة: الزكاة تخرج من تركة الميت كالدَّين:
مثاله: شخص مات وترك مالاً مضى عليه الحول ولم يُزَكِّ، فإن الزَّكاة تخرج من ماله قبل إنفاذ الوصية وتقسيم الإرث، ومعلومٌ أنَّ الديون تدفع لأصحابها قبل الوصية والإرث والزكاة دين، وهذا قول المذهب وهو القول الراجح والله أعلم.
ويدل على ذلك: حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أنَّ امرأةً سألت النبي  أنَّ أمَّها نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، فقال لها رسول الله : ((أرأيت لو كان على أمِّك دين أكنت قاضيته؟))، قالت: نعم، قال: ((اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء)) ؛ فدل هذا على أن دين الله كدين الآدمي في القضاء.
وظاهر كلام صاحب الزَّاد أنَّه لا فرق بين كون الميت أخَّر زكاته متعمدًا، فمنعها بخلاً أو لا، فإنَّها تبرأ ذمته إذا أخرجها الورثة، وهذا قول المذهب .
والقول الثاني: أنه يُفَرَّق بين من أَخَّر زكاته عمدًا ومات على ذلك، فإنها لا تبرأ ذمته، فلا ينفعه إخراج الورثة لزكاته، وهو اختيار الإمام ابن القيم في "بدائع الفوائد"، (3/104).
وعلَّل ذلك: بأن هذا الميت أصرَّ على عدم الإخراج، فكيف ينفعه إخراج غيره لزكاته، وقال: إنَّ نصوصَ الكتاب والسنة وقواعد الشرع تدل على هذا.
ورجح شيخنا ابن عثيمين قول ابن القيم وأنَّها لا تبرأ ذمته، ولا تنفعه عند الله، وأنَّها تخرج من تركته؛ لتعلق حق أهل الزكاة بها .
فائدة: لو مات شخص وعليه دين لآدمي وزكاة، فأيهما يقدَّم؟
مثاله: مات شخص عنده (1000) ريال، وعليه دين قدره (1000) ريال، وزكاة قدرها (1000) فأيهما يقدم؟
قيل: يقدم دين الآدمي؛ لأنه مبنيٌّ على المشاحة، وقيل: يقدم حق الله؛ لأن النبي  قال: ((فالله أحق بالوفاء)).
والصواب: أنَّهما يتحاصَّان؛ أي: لكل حق حصته؛ أي: نصيبه، فيعطى صاحب الدين (500)، وتدفع (500) للزكاة، وهذا قول المذهب وهو الأظهر - والله أعلم - وهو اختيار شيخنا ابن عثيمين ، وأمَّا حديث ابن عباس، فالمراد فيه بيان أنه كما أن دين الآدمي يجب أن يُقضى، فكذلك دين الله من باب أولى.
باب زكاة بهيمة الأنعام
فيه ست مسائل:
بهيمة الأنعام: هي الإبل والبقر والغنم فقط، والإبل سواء كانت عِرابًا - وهي الإبل الملس حسنة الألوان - أو كانت بخاتي - وهي خلاف العراب غليظة ذات سنامين - والبقر يدخل فيها الجواميس؛ لأنَّها من أنواع البقر، بل نقل ابن تيمية عن ابن المنذر أنه حكى الإجماع على دخول الجواميس ، والغنم تشمل الضأن والماعز.
هذه الأنواع الثلاثة الإبل والبقر والغنم هي التي تجب فيها الزكاة وما سواها، فلا تجب كالظباء وغيرها.
وهذه الأنواع الثلاثة تسمَّى بهيمة الأنعام سميت بهيمة؛ لانبهام صوتها وخفائه وعدم إيضاحه، وبدأ صاحب الزاد بزكاة بهيمة الأنعام؛ اقتداءً بالنبي  وأصحابه كما في كتاب أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - الذي كتبه لأنس - رضي الله عنه - وفيه فريضة النبي  للزكاة، والحديث في صحيح البخاري.
وبدأ ببيان زكاة الإبل؛ اقتداء بالنبي  كما في كتاب أبي بكر، فأول ما فيه زكاة الإبل، وأيضًا لأنَّها أشرف المال عند العرب وأكثره وأعظمه قيمة وجسمًا.
المسألة الأولى: دل على وجوب الزكاة في بهيمة الأنعام السنة والإجماع.
فمن السنة: حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - في الكتاب الذي كتبه أبو بكر؛ لبيان فريضة النبي  للزكاة وفيه: "هذه فريضة الصَّدقة التي فرضها النبي  على المسلمين..." ؛ وفيه ذكر الإبل والغنم، وأمَّا البقر فجاءت في حديث معاذ بن جبل كما سيأتي.
وأمَّا الإجماع: فقد قال ابن المنذر في كتاب "الإجماع"، (ص: 46): "وأجمعوا على وجوب الصدقة في الإبل والبقر والغنم".
المسألة الثانية: شروط وجوب الزكاة في بهيمة الأنعام:
بهيمة الأنعام تجب فيها الزكاة إذا توفرت فيها ثلاثة شروط، وهي:
1 - أن تكون مُعدَّة للدرِّ والنسل.
فنُخرج بهيمة الأنعام المعُدَّة للركوب أو العمل أو التأجير، فلا زكاة فيها، فالإبل التي يركبونها ويسافرون عليها، وكذا الإبل والبقر التي يعملون عليها، فيسقون ويجلبون الماء بها، وكذا التي اتَّخذوها للتأجير، كل ذلك لا زكاة فيه، وإن بلغت نصابًا، وكانت سائمة، وإنَّما تخرج الزكاة من أجرتها إذا حال عليها الحول.
وكذلك نُخرج بهيمة الأنعام التي اتَّخذت للتجارة، فهذه زكاتها زكاة عروض التجارة كما سيأتي.
فائدة: اختلف في العوامل هل تجب فيها الزكاة؟ والعوامل هي الإبل والبقر تكون عند أحدهم، فيؤجرها لنقل البضائع بين البلدان وفيها، أو يؤجرها لجلب الماء من البئر إلى الزرع ونحوها، والصواب أنَّه ليس فيها زكاة، ولو بلغت نصابًا، وكانت سائمة، ولكن أجرتها إذا حال على القيمة حولٌ أخرج زكاته، والقول بأنَّ العوامل ليس فيها زكاة هو قول الجمهور خلافًا لمالك - رحمه الله - "وأما حديث علي - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((ليس في البقر العوامل صدقة))؛ رواه أبو داود وابن أبي شيبة وعبدالرزاق والبيهقي، فهو حديث ضعيف ضعَّفه الشيخ الألباني في ضعيف الجامع برقم: 4905، وقد قال في "السلسلة الضعيفة": إنه ضعيف جدًّا.
2- أن تكون سائمة الحول أو أكثره.
ومعنى سائمة؛ أي: التي ترعى فيما أنبته الله - عزَّ وجل - ولم يكن للآدمي فيه عمل، فإذا كانت بهيمة الأنعام تأكل مما نزرعه أو نشتريه فنعلفها إياه، فلا تعدُّ به سائمة، فبهيمة الأنعام التي وضعت في مكان وصاحبها هو الذي يأتي لها بالطعام، فهذه لا تسمى سائمة، ولا بد أن تكون سائمة الحول؛ أي: السنة كاملة، أو أكثره، فإذا كانت تأكل مما أنبته الله سنة كاملة أو سبعة أشهر، ففيها زكاة، وأمَّا إذا كانت ترعى فيما أنبته الله ستَّة أشهر فأقل، فلا زكاة فيها؛ لأنَّها لا تعد سائمة لا الحول ولا أكثره، وهذا من رحمة الله؛ حيثُ لم يوجب عليهم الزكاة؛ لأنَّهم تكلفوا بإعلافها.
واشتراط كونها سائمة هو قول جمهور العلماء خلافًا لمالك - رحمه الله - وقولنا: "سائمة"، نخرج المعلوفة كما تقدم.
ويدل على اشتراط كونها سائمة:
1 - حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - الطويل في كتاب أبي بكر وفيه: "وفي الغنم في سائمتها"؛ رواه البخاري.
2 - حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعًا: ((في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون))؛ رواه أبو داود (1575)، والنسائي (2444)، وصححه الإمام أحمد وابن عبدالهادي في "التنقيح" (2/1491).
تنبيه: وكذا نخرج من هذا الشرط بهيمة الأنعام المُعَدَّة للتجارة، فهذه لا يشترط أن تكون سائمة، فإنَّ فيها زكاةَ عروض التِّجارة كما سيأتي في بابه، فإذا كانت عند رجل إبلٌ أو غنمٌ أو بقرٌ يبيع ويشتري فيها؛ ليتاجر ويربح، فهذه زكاتها زكاة عروض التِّجارة، ولا يشترط فيها نصابًا، ولا أن تكون سائمة، ودائمًا في كل بيان لأحكام الزَّكاة على طالب العلم أن يتصور أن عروض التِّجارة لها باب خاص أيًّا كانت هذه التِّجارة في بهيمة الأنعام أو السيارات أو الأقمشة أو المواد الغذائية أو غيرها مما اتُّخِذَ تجارة ففيه زكاة عروض التجارة كما سيأتي.
3 - أن تبلغ النصاب المعتبر شرعًا:
فإذا كانت بهيمة الأنعام اتُّخِذَت للدَّرِّ والنَّسْل، وكانت سائمة؛ لكي تجب فيها الزكاة لا بُدَّ من بلوغ النصاب المعتبر، فملك النصاب شرط بالإجماع كما تقدم، وسيأتي بيان النصاب لكل من الإبل والبقر والغنم، ومدار بيان نصاب الماشية على حديثين حديث أنس - رضي الله عنه - في كتاب أبي بكر له، وحديث ابن عمر كما سيأتي وذكر ذلك النووي في "المجموع"، (5/382).
المسألة الثالثة: زكاة الإبل:
 - من كان عنده (25) من الإبل، ففيها بنت مَخاض.
بنت مَخاض: بفتح الميم، وهي ما تمَّ لها سنة من الإبل، وسميت بذلك؛ لأنَّ أمها في الغالب تكون حاملاً، والماخض: هي الحامل وهذه ابنة لها، فسميت بنت مخاض، وليس شرطًا أن تكون أمها ماخضًا، وإنَّما ذكر ذلك تعريفًا لها؛ لكونه غالب أحوالها.
فمن كان عنده (25) من الإبل، فيخرج زكاتها بنت مَخاض.
ويدل على ذلك:
1 - حديث أنس - رضي الله عنه - في كتاب أبي بكر كما عند البخاري، وفيه: "فإذا بلغت خمسًا وعشرين إلى خمس وثلاثين، ففيها بنت مخاض أنثى"؛ رواه البخاري.
2 - الإجماع ونقله ابن هبيرة في "الإفصاح"، (1/196).
- في كل (5) من الإبل شاة، فإذا بلغت (25)، ففيها بنت مخاض.
الشاة: لفظ يُطلق على الذَّكر والأنثى من الأغنام، سواء كانت من الضأن أم من الماعز، وهي من الضأن ما له ستة أشهر، ومن الماعز ما له سنة، وأوجب الشَّارع الحكيم زكاة الإبل هنا تخرج من الأغنام ولم تخرج من الإبل، مع أن زكاة كل مال تخرج من جنسه؛ نظرًا لقلة الإبل، وكونها مالاً عظيمًا عند صاحبها، فمن كان عنده (5) من الإبل، فإن زكاتها شاة واحدة، فإذا كان عنده (10) من الإبل، ففيها شاتان، فإذا كان عنده (15) من الإبل، ففيها ثلاث شياه، فإذا كان عنده (20) من الإبل، ففيها أربع شياه، فإذا كان عنده (25) من الإبل، ففيها بنت مخاض كما سبق.
ويدل على ذلك:
1 - حديث أبي بكر - رضي الله عنه - الذي كتبه لأنس وفيه: "وفيما دونها من الغنم في كل خمس شاة"؛ أي: فيما دون خمس وعشرين من الإبل يخرج من الغنم في كل (5) من الإبل شاة.
2 - الإجماع على ذلك كما نقله ابن المنذر في كتابه "الإجماع" (ص46)، ونقله ابن هبيرة في "الإفصاح" (1/196).
فائدة: ما بين الفريضتين ليس فيه شيء، ويُسمَّى عند العلماء: وَقْص، بفتح الواو وإسكان القاف، فمثلاً من كان عنده (8) من الإبل، فهذا يخرج في زكاته شاة، فهو ومَنْ عنده (5) من الإبل سواء في إخراج الزكاة، مع أنَّه زاد عليه بثلاثة من الإبل، ولكن لا شيء فيها وتسمى (وقصًا)، وكذا من عنده (23) من الإبل، فإنَّ زكاته أربع شياه مثل مَنْ عنده (20) من الإبل وهكذا.
 - ومن كان عنده دون الخمس من الإبل كأن يَملك أربعًا من الإبل، فلا زكاة عليه.
ويدل على ذلك: حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - مرفوعًا: "ليس فيما دون خمس ذود صدقة"؛ متَّفق عليه.
 - مسألتان:
الأولى: من كان عنده (25) من الإبل، ففيها بنت مخاض كما سبق، فلو أخرج (5) شياه بدلاً عنها، فلا تُجزئ، ولكن من كان عنده عشرون من الإبل، فأخرج عنها بنت مخاض فهل تجزئه؟ والفرق بينهما أنَّ الأول أخرج أقل من الزَّكاة المطلوبة، والثاني صاحب العشرين أخرج أعلى من الزكاة المطلوبة.
اختلف فيمن كان عنده (20)، وأراد أن يخرج بنت مخاض، فقيل: لا يُجزئه؛ لأنه خلاف النص الوارد.
وقيل: يجزئه؛ لأنَّه إذا كان صاحب (25) من الإبل تجزئه فما دونه من باب أَوْلَى، وكذلك لو أخرج بنت لبون أجزأه، وهذا اختيار شيخنا ابن عثيمين في "الممتع" (6/54)؛ لأن المقصود هو التخفيف على صاحب الماشية، فإذا أخرج أعلى فهو بالخيار.
الثانية: من كان عنده (25) من الإبل ولم يجد بنت مخاض، فإنه يجزئه ابن لبون ذكر بالإجماع.
ويدل على ذلك: حديث أنس - رضي الله عنه -: "فإذا بلغت خمسًا وعشرين إلى خمس وثلاثين، ففيها بنت مخاض، فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون ذكر".
وابن لبون: هو الذي له سنتان، ولا بد أن يكون ذكرًا لدلالة النص عليه، وهذا من المواضع التي يجوز فيها إخراج الذَّكر.
 - من كان عنده (36 إلى 45) من الإبل، ففيها بنت لبون.
ويفهم من هذا أن من عنده (25) إلى (35) من الإبل، ففيها بنت مخاض، وعليه فما بين خمس وعشرين وست وثلاثين يسمى وَقْصًا، فإذا بلغت (36)، ففيها بنت لبون.
وبنت لبون: هي ما تمَّ لها سنتان، وسميت بذلك؛ لأن أمها غالبًا قد ولدت، فهي ذات لبن، وليس ذلك شرطًا.
ويدل على ذلك حديث أنس - رضي الله عنه - وفيه: "فإذا بلغت ستًّا وثلاثين إلى ست وأربعين، ففيها بنت لبون أنثى".
وعلى ذلك فما بين الستِّ والثلاثين والست والأربعين يسمى وَقْصًا، وكل وقص ليس فيه شيء، وهو خاص ببهيمة الأنعام، وذلك رفقًا بصاحبها؛ لأنَّها تحتاج إلى مؤونة كثيرة من رَعْي وسَقْي وحَلْب وغير ذلك.
 - من كان عنده (46 إلى 60) من الإبل، ففيها حِقَّة.
والحِقَّة: هي الأنثى من الإبل التي تمَّ لها ثلاث سنوات.
وسميت حِقِّة؛ لأنَّها استحقت أن يطرقها الفحل كما في الحديث، أو لأنَّها استحقت أن يُحمل عليها البضائع والمتاع.
ويدل على ذلك حديث أنس - رضي الله عنه - وفيه: "فإذا بلغت ستًّا وأربعين إلى ستين، ففيها حِقِّةٌ طَرُوقَةُ الجمل".
والوَقْصُ ما بين ست وأربعين وإحدى وستين.
 - من كان عنده (61 إلى 75) من الإبل، ففيها جَذَعة.
والجَذَعَة: هي ما تَمَّ لها أربع سنوات، وسميت جذعة؛ لأنَّها تُجْذِع إذا سقط سِنُّها.
وهذا السن هو أعلى سن يَجب في الزكاة؛ لأنَّه غاية الكمال والدَّرِّ والنسل والقوة.
ويدل على ذلك حديث أنس - رضي الله عنه - وفيه: "فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين، ففيها جذعة".
والوَقْص ما بين الإحدى وستين والست وسبعين، ولا تجب الجذعة إلاَّ في هذا الموضع، بخلاف بنت اللبون والحِقَّة، فإنَّها تجب فيما سيأتي.
 - من كان عنده (76 إلى 90) من الإبل، ففيها بنتا لبون.
فلا بُدَّ أن يكونا بنتا لبون، فلو أخرج بنت لبون وابن لبون لم يُجزئ، لا بد من الأنثى؛ لأن الأنثى أغلى ثمنًا، وأنفع للناس دَرًّا ونسلاً.
ويدل على ذلك حديث أنس - رضي الله عنه - وفيه: "فإذا بلغت ستًّا وسبعين إلى تسعين، ففيها بنتا لبون"، والوقص ما بين الست والسبعين والإحدى والتسعين.
 - من كان عنده (91 إلى 120) من الإبل، ففيها حقتان.
ويدل على ذلك حديث أنس - رضي الله عنه - وفيه: "فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة، ففيها حقتان طروقتا الجمل"، والوَقْص ما بين الإحدى وتسعين والمائة وواحد وعشرين.
فائدة: كل ما مضى من بيان الأنصبة في الإبل، وبيان القدر الواجب في إخراج الزَّكاة انعقد عليه الإجماع، كما نقله ابن المنذر في كتاب الإجماع (ص 46)، والنَّووي في "المجموع"، (5/400، 418)، ودلَّ عليه حديث أنس - رضي الله عنه - عند البخاري، وملخص ما مضى في بيان الأنصبة والقدر الواجب على وفق ما يلي:
النصاب من الإبل    القدر الواجب فيه
5 – 9    شاة واحدة
10 – 14    شاتان
15 - 19    ثلاث شياه
20 - 24    أربع شياه
25 - 35    بنت مخاض
36 - 45    بنت لبون
46 - 60    حقة
61 - 75    جذعة
76 - 90    بنتا لبون
91 - 120    حقتان
 - من كان عنده (121 فما فوق)، ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة.
 ويدل على ذلك حديث أنس - رضي الله عنه - وفيه: "فإذا زادت على عشرين ومائة، ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حِقَّة"، والمقصود في حساب ذلك إذا كانت الإبل (121 فما فوق)، نقسمها وننظر كم تَحمل العدد (أربعين)؟ فنجعل فيه بنت لبون، وكم تحمل العدد (خمسين)؟ فنجعل فيه حِقَّة، بشرط ألا يكون المتبقي بعد القسمة عشرة فأكثر.
مثال ذلك: رجل عنده (123) من الإبل لو أردنا قسمتها، لوجدنا أنها تحمل (40) ثلاث مرات والباقي ثلاثة، إذًا فيها ثلاث بنات لبون.
مثال آخر: رجل عنده (135) من الإبل لو أردنا قسمتها، لوجدنا أنَّها تحمل (40) مرتين، و(50) مرة واحدة، والمتبقي خمسة، إذًا فيها بنتا لبون وحِقَّة واحدة، بينما لو قسمنا هذا العدد على (40) ثلاث مرات، لتبقى خمسة عشر إذًا القسمة خاطئة.
ويقول أهل العلم: إذا قسمت فتبقى معك عشرة فأكثر، فاعلم أن القسمة خاطئة.
إذا تبقى أقل من عشرة، فهو وقص لا شيء فيه، والقِسْمة صحيحة على أن في كل (40) بنت لبون، وفي كل (50) حقة.
وبناء على هذا تكون القسمة وفق ما يلي:
النصاب من الإبل    القدر الواجب فيه
121 - 129    ثلاث بنات لبون
130 - 139    حقة وبنتا لبون
140 - 149    حقتان وبنت لبون
150 – 159    ثلاث حقَّات
160 – 169    أربع بنات لبون
170 - 179    حقة وثلاث بنات لبون
180 - 189    حقتان وبنتا لبون
190 - 199    ثلاث حقات وبنت لبون
200 - 209    خمس بنات لبون أو أربع حقات
وكلما زدت عشرًا، تغيَّر الفرض الواجب، وأهم شيء ألا يكون المتبقي بعد القسمة عشرة فما فوق، فإذا تبقى كذلك، فإن القسمة خاطئة.
 - مَنْ وجبت عليه سن محددة، ولم يجد إلا أعلى أو أنزل منها:
 مثال ذلك: رجل وجبت عليه بنت لبون وليست عنده، وعنده بنت مخاض أنزل منها، فإنه يدفع بنت المخاض، ويدفع معها جبرانًا، وإذا لم يكن عنده بنت لبون وعنده حقة أعلى منها، فإنَّه يدفع الحقة، ويأخذ من عامل الزكاة الذي يبعثه ولي الأمر، يأخذ منه جبرانًا فهو بالخيار.
والجبران: شاتان أو عشرون درهمًا، كل شاة بعشرة دراهم، هذا في عهد النبي  فإمَّا أن يكون فرضه أقل من الواجب عليه، فيدفع لعامل الزكاة جبرانًا شاتين أو عشرين درهمًا، وإما أن يكون الذي عنده أعلى من الواجب عليه، فيدفع له عامل الزكاة جبرانًا شاتين أو عشرين درهمًا، وهذا القول هو القول الراجح، وهو قول المذهب والشافعية.
ويدل على ذلك حديث أنس - رضي الله عنه - في كتاب أبي بكر - رضي الله عنه -: "من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة، وعنده حقة، فإنَّها تقبل منه الحقة، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا أو عشرين درهمًا، ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وعنده الجذعة، فإنَّها تقبل منه الجذعة، ويعطيه المصَّدِّق عشرين درهمًا أو شاتين..."؛ رواه البخاري (1453).
وهذا القدر الذي يأخذه المصدق أو يعطيه يسمى جبُرانًا، والجبران لا يدخل إلا في الإبل فقط، فهو خاص بها دون بقية بهيمة الأنعام؛ لأن النص إنَّما ورد في الإبل.
مسألة: العشرون درهمًا كانت تساوي على عهد النبي  شاتين، كل شاة بعشرة دراهم، وأما اليوم فالعشرون درهمًا لا تساوي شيئًا، فهل وضعها النبي  تعيينًا لا بد منها أو تقويمًا عن الشاتين.
الأظهر - والله أعلم - أنَّ العشرين درهمًا تقويمٌ مقابل الشاتين، وليس تعيينًا خلافًا للمذهب، فلو كانت قيمة الشَّاتين اليومَ مائتي درهم مثلاً، لوجب أن يعطيه مائتي درهم، ولا تكفي العشرون؛ لأنَّ النبي  جعلها مقابل الشاتين والله أعلم.
المسألة الرابعة: زكاة البقر:
- البقر: جمع بقرة، والبقرة تقع على الذَّكر والأنثى، وإنَّما دخلته الهاء على أنَّه واحد من الجنس - كما يقول الجوهري - والجمع بقرات، وهي مُشتقة من بقرت الشيء إذا شققته، فسميت البقرة بذلك؛ لأنَّها تبقر الأرض بالحرث، وتقدم أنَّه دل على وجوب الزَّكاة فيها السنة والإجماع إذا توفرت فيها الشروط.
- مَنْ كان عنده (30) من البقر، ففيها تبيع أو تبيعة.
نصاب البقر ثلاثون، وما دونها فليس فيه شيء، وهذا باتِّفاق الأئمة الأربعة، ودلت عليه السنة كما سيأتي.
والتَّبيع: هو الذكر من أولاد البقر تمَّ له سنة والأنثى تبيعة، وسمي بذلك؛ لأنَّه يتبع أمه في ذهابه ومجيئه ورعيه، فمن كان عنده (30) من البقر، فيخرج تبيعًا أو تبيعة، وسيأتي الدليل على ذلك.
- وفي إخراج التبيع دليلٌ على أنَّ الذكر يُجزئ في زكاة البقر، وهذا من المواضع التي يجزئ فيها إخراج الذَّكر.
- من كان عنده (40) من البقر، ففيها مُسِنَّة.
والمُسِنَّة: هي أنثى البقر التي تمَّ لها سنتان، فمن كان عنده أربعون من البقر، يخرج في زكاته مسنَّة، وعلى هذا ما بين الثلاثين والأربعين من البقر وَقْص لا شيء فيه.
ويدل على نصاب زكاة البقر: حديث معاذ - رضي الله عنه - قال: "بعثني النبي  إلى اليمن، وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعًا أو تبيعة، ومن كل أربعين مُسِنَّة"؛ رواه أحمد (5/230)، وأبو داود (1576)، والترمذي (623)، والنسائي (5/25)، وابن ماجه (1803).
وقال الترمذي: "حديث حسن"، وقال ابن عبدالبر في "التمهيد" (2/275): "وقد روي هذا عن معاذ بإسناد مُتَّصل صحيح ثابت".
- ثم في كل ثلاثين تبيعٌ أو تبيعةٌ وفي كل أربعين مُسِنَّةٌ.
ويدل على ذلك: حديث معاذ المتقدم.
وعليه فإن من عنده (30) يخرج تبيعًا أو تبيعة، ومَنْ عنده (40) يخرج مُسِنَّة، إلى (59) يخرج مُسنَّة، ومَنْ عنده (60) من البقر يخرج تبيعين أو تبيعتين، وما بعد الستين كلما زاد عشرة، فإنه يتغيَّر الواجب إخراجه، ففي السبعين مثلاً تبيعٌ ومسنة، وهكذا في كل ثلاثين تبيعٌ أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنةٌ، والحساب فيه كالحساب في الإبل في بنت اللبون والحقة، وهنا أيضًا يقال: بشرط ألا يتبقى عشرة فما فوق، فإن تبقَّى بعد القسمة عشرة فما فوق، فالحساب خاطئ، فلا بد أن يكون الوقص أقل من عشرة، وبناء على ذلك تكون القسمة وفق ما يلي:
النصاب من البقر    القدر الواجب فيه
30 – 39    تبيع
40 – 59    مسنة
60 - 69    تبيعان
70 – 79    تبيع ومسنة
80 - 89    مسنتان
90 – 99    ثلاث تبيعات
100 - 109    تبيعان ومسنة
110 – 119    مسنتان وتبيعة
120 - 129    أربع تبيعات أو ثلاث مسنات، يختار معطي الصدقة
وعلى هذا فقس، وفي التبيع يجوز إخراجها ذكرًا أو أنثى، ويجوز بعضها ذكرًا، وبعضها أنثى إذا كان عليه أكثر من تبيع، وكما تقدَّم أن هذا من المواضع التي يجوز فيها إخراج الذَّكر.
- والمواضع التي يجوز فيها إخراج الذكر هي:
1 - التبيع في الثلاثين من البقر، وهذا جاءت به السنة كما تقدم.
2 - ابن اللبون مكان بنت المخاض إن لم يكُن عنده بنت مخاض، وهذا جاءت به السنة أيضًا كما تقدم.
3 - إن كان النصاب عنده كله ذكورًا، قيل: إنه يخرج ذكرًا ولا يكلف بالأنثى، وقيل: بل يخرج ما جاءت به السنة وما عيَّنة الشارع، وهذا القول أحوط، كمن عنده ستة وثلاثون جملاً، فيجب فيه بنت لبون، فلا يجزئ ابن لبون.
4 - إذا رأى الساعي أن أخذ الذكر فيه مصلحة، قيل: يجزئ ذلك.
المسألة الخامسة: زكاة الغنم:
تقدَّم دلالة السنة والإجماع على وجوب زكاةِ الغنم إذا توفرت فيها الشُّروط.
 - مَنْ كان عنده (40) شاة، ففيها شاة واحدة.
والمقصود أن نصاب الغنم أربعون فما دونها ليس فيه زكاة، حتى تبلغ أربعين، ففيها شاة واحدة.
ويدل على ذلك حديث أنس - رضي الله عنه - وفيه: "وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين، ففيها شاة إلى عشرين ومائة"؛ رواه البخاري (1454).
 - مَنْ كان عنده (121) شاة، ففيها شاتان.
ويدل على ذلك حديث أنس - رضي الله عنه - وفيه: "فإذا زادت عن عشرين ومائة، ففيها شاتان إلى مائتين".
إذًا ما بين أربعين وواحد وعشرين ومائة وَقْص ليس فيه شيء، والذي بينهما (80) شاة، فليس فيها شيء، وهذا من تيسير الله، فمن كان عنده (40) شاة، أو (90) شاة، أو (110) من الشياه إلى (120) ليس في زكاتها إلاَّ شاة واحدة، فإذا بلغت (121) شاة، ففيها شاتان.
 - مَنْ كان عنده (201) من الشياه، ففيها ثلاث شياه.
ويدل على ذلك حديث أنس - رضي الله عنه - وفيه: "فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث....".
إذًا ما بين مائة وواحد وعشرين ومائتين وواحد (وقْص) ليس فيه شيء، وهو كالوقص الأول (80) ليس فيه شيء حتَّى تبلغ (201)، ففيها ثلاث شياه، وأيضًا الثلاثمائة فيها ثلاث شياه؛ للحديث السابق، ثم في كل مائة شاة.
 - مَنْ كان عنده (400) من الشياه، ففيها أربع شياه.
ويدل على ذلك حديث أنس - رضي الله عنه - وفيه: "فإن زادت واحدة، ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فإن زادت ففي كل مائة شاة".
أي: إنَّها إذا زادت عن مائتين وواحدة إلى ثلاثمائة، ففيها ثلاث شياه، ثم في كل مائة زيادة شاة، فيكون في (400) أربع شياه، فإن زادت مائة، زادت الفريضة واحدة، وهكذا فيكون ما بين (201) إلى (399) وَقْص، وهذا أكثر وقَصْ يوجد في الغنم، وبناءً على ذلك تكون القسمة وفق ما يلي:
النصاب من الغنم    القدر الواجب فيه
40 - 120    شاة
121 - 200    شاتان
201 - 399    ثلاث شياه
400 - 499    أربع شياه
500 - 599    خمس شياه
600 - 699    ست شياه، وهكذا في كل مائة شاة
المسألة السادسة: الخُلْطَة في بهيمة الأنعام تجعل المالين مالاً واحدًا.
الخُلطة: بضم الخاء، وهي لغةً: الشَّرِكَة.
وفي الاصطلاح: جَعْلُ المالين المختلطين كالمال الواحد في حكم الزَّكاة.
مثال ذلك: شخص له عشرون شاة، ولآخر معه عشرون شاة في مكان واحد، فأصبح العدد أربعين شاة، ففيها شاة؛ لأن هذا مال مختلط، فصار كالمال الواحد، ولكن لو كان للأوَّل عشرون وحْدَها، والآخر عشرون وَحْدَها، لم تجب فيها الزكاة؛ لعدم الخُلْطَة؛ لأن العشرين ليس فيها شيء.
والدليل على تأثير الخُلطة حديث أنس - رضي الله عنه - وفيه: "ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع؛ خشية الصدقة"، وسيأتي بيان ذلك.
- والخُلطة نوعان:
1 - خُلطة اشتراك، (وتسمى خُلطة أعيان أو خُلطة شيوع).
2 - خُلطة أوصاف (وتسمى خُلطة جوار).
أولاً: خُلطة الاشتراك:
وهي أن يشترك اثنان فأكثر في بهيمة الأنعام دون تميُّز بين ماليهما.
مثال ذلك: أن يرث رجلان مائة من الإبل، فهما متشاركان بملكهما لهذا المال، أو كأن يشتريا مائة من الإبل، أو يُوهب لهما مائة من الإبل، فهذه تسمَّى خُلطة اشتراك، ولا خلافَ في وجوب الزكاة في هذا المال، فهذا النوع من الخُلطة لا إشكالَ فيه، وهو موضع اتِّفاق بين العلماء.
فلو أن زيدًا وعمرًا اشتريا (80) شاة، ففي زكاتِها شاة واحدة ما دام أن مالهما مختلط، مع أنهما لو تفرقا، وأخذ كل واحد أربعين، لوجب على كل واحد شاة، فعن هذه الثمانين شاتان.
فهذا النوع من الخلطة لا خلاف فيه، والخلافُ في النوع الثاني.
ثانيًا: خلطة الأوصاف:
هي أنْ يشتركَ اثنان فأكثر في أوصاف محددة مع تميُّز مال كل واحد منهما، وسيأتي بيان الأوصاف.
مثال ذلك: زيد يملك خمسين من الإبل، وعمرو يملك خمسين وباجتماعها تكون مائة من الإبل، فلو اجتمعت في أوصاف كالمرعى، ومكان المبيت، وموضع الحلب، وغيرها من الأوصاف مما سيأتي، فإن هذه الخلطة تعتبر خلطة أوصاف، وليست خلطة أعيان.
وموضع التفريق بين الخلطتين: أنَّه في خُلطة الأعيان لا يُمكن تمييز المالين عن بعضهما، وأما خلطة الأوصاف، فيمكن ذلك.
مثال ذلك: لو أن زيدًا وعمرًا اشتركا في مائة بعير خلطة أوصاف، لزيد خمسون يعرفها، ولعمرٍ خمسون يعرفها، فلو ماتت إبل زيدٍ، فلا ضمان على عمرٍو؛ لأن المال يمكن تمييزه تحديدًا.
وأمَّا لو كانت خلطة أعيان، ومات خمسون من المائة، فالضمان عليهما جميعًا؛ لأن المال غير متميز، فالخسارة عليهما جميعًا.
وتقدم أن خلطة الأعيان مُؤثرة باتِّفاق العلماء، بخلاف خلطة الأوصاف، فجمهور العلماء أنها مؤثرة خلافًا للأحناف، والصواب أنَّها مؤثرة كما هو قول الجمهور بشروط:
الشرط الأول: أن يبلغ الخليطان نصابًا.
مثال ذلك: لزيد عشرون من الغنم وعمرو له عشرة من الغنم، فالمجموع ثلاثون، وهذا أقل من النصاب، فلا أثر للخلطة، وأمَّا لو كان لزيد عشرون وعمرو له عشرون أيضًا، فالمجموع أربعون، فالخلطة لها أثر؛ لأنَّ الخليطين بلغا النِّصاب.
الشرط الثاني: أن يكون الخليطان من أهل الزكاة.
مثال ذلك: لزيد عشرون شاة وهو (مسلم)، وعمرو له عشرون شاة وهو (كافر)، فلا تجب على زيد الزكاة؛ لأنَّه خالط من ليس من أهل الزكاة.
الشرط الثالث: أن يختلط المال كل الحول، وعليه فلو انفرد أحدهما في بعض الحول، فلا أثر للخلطة.
الشرط الرابع: ألا يكون الاختلاط من أجل الفرار من الزَّكاة.
مثال ذلك: زيد له (40) شاة، وعمرو له (40) شاة، وخالد له (40) شاة، فلو لم يختلطوا، لوجب على كل واحد منهم شاة؛ لأن في كل (40) شاة، فأرادوا أن يخلطوا المال؛ من أجل أن يفروا من الزَّكاة، ويقل القدر الواجب؛ لأن في (120) شاة واحدة، فلو فعلوا من أجل الفرار من الزَّكاة، فحينئذ لا أثر للخلطة، ويجب أن يخرجوا ثلاث شياه.
ويدل على ذلك حديث أنس - رضي الله عنه - المتقدم وفيه: "ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع؛ خشية الصدقة".
وكذلك العكس لا يجوز، فلو فرقوا المال من أجل الفرار من الصدقة، لم يفترق هذا المال في إيجاب الزكاة.
مثال ذلك: لزيدٍ (20) شاة، وعمرو له (20) شاة، وتوفرت في مالهما شروط الخلطة، فالأربعون فيها شاة، وقبل مجيء عامل الصدقة فرقا المال؛ فرارًا من الزكاة، فهذا لا يجوز.
مثال آخر: شخص عنده (40) شاة، وقبل مجيء عامل الصدقة فرقها؛ فرارًا من الصدقة.
فالشرط الرابع دليله حديث أنس - رضي الله عنه - والشرط الأول والثاني تقدم الاستدلال علهيما في أول كتاب الزَّكاة، وهما ملك النصاب والإسلام، والشرط الثالث؛ لأن المال لا يسمى مختلطًا حتى يمضي عليه الحول، فمُضِيُّ الحول شرط مُعْتَدٌّ به.
الشرط الخامس: أن تختلطا وتجتمعا في بعض الأوصاف.
واختلف الجمهور في تحديد هذه الأوصاف:
فالمذهب: لا بُدَّ من الاشتراك في خمسة أمور:
1 - في المُراح: بضم الميم وهو مكان المبيت والمأوى، فلا بد أن يكون مكان المبيت واحدًا.
2 - في المَحْلب: وهو مكان الحلب لا بد أن يكون واحدًا، فلو حُلبت غنم أحدهما في موضع غير الآخر لا تعدُّ خلطة.
3 - في المسرح؛ أي: يسرحن جميعًا، ويرجعن جميعًا.
4 - في المرعى؛ أي: يكون المرعى لهن جميعًا، فليس غنم أحدهما في جهة، والآخر في جهة أخرى.
5 - في الفحل: بأن يكون لهذه الغنم فحل واحد مشترك، فلا يختص بأحد المالين فحل دون الآخر.
فإذا توفرت هذه الأوصاف الخمسة، فالخلطة خلطة أوصاف، وهي حينئذ مؤثرة كأنَّها لرجل واحد.
والقول الثاني: أنَّه لا يلزم توفر جميع الأوصاف السابقة، والخلطة يرجع فيها إلى العُرف، فما عدَّه الناس في عُرفهم خلطة عُدَّ، واختاره ابن مفلح من الحنابلة.
واستدلوا: بعدم الدليل على الأوصاف السابقة والقاعدة "أن كل ما لم يأتِ في الشرع تحديده، فيرجع فيه إلى العرف"، وهذا القول أقوى والله أعلم.
فإذا توفرت الشروط الأربعة الأولى، ودَلَّ العرف على أنَّها خلطة مُعتد بها، كأن يكون الراعي واحد طيلة السنة وغيرها من أمور العُرف، فيحكم على المال أنه مختلط.
وما ورد من حديث فيه تحديد بأوصاف معينة، فهو ضعيف، ومن ذلك حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعًا: ((الخليطان ما اجتمعا على الحوض، والفحل، والراعي))؛ رواه الدارقطني (2/104)، وهو حديث ضعيف فيه عبدالله بن لهيعة، وضعفه ابن مفلح في الفروع (2/382)، ونقل عن الإمام أحمد أنَّه ضعفه ولم يره حديثًا، وقال ابن مفلح في الفروع: "وهذا الخبر ضعيف، فلهذا يتوجَّه العمل بالعرف في ذلك".
 - وتحت هذه المسألة عدة تنبيهات:
التنبيه الأول: إذا اختلط اثنان، وتوفرت فيهما شروط الخلطة، وأُخِذَ منهما الزكاة، فالزَّكاة بينهما على حسب ملكهما.
مثال ذلك: زيدٌ له (15) شاة، وعمرو له (30) شاة، فالمجموع (45) شاة، فيها شاة واحدة إذا أخذ عامل الزَّكاة، فزيد عليه ثلث وعمرو عليه ثلثان بحسب ملكهما.
ويدل على ذلك: حديث أنس - رضي الله عنه - وفيه: "وما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية".
التنبيه الثاني: الخلطة لا تؤثر في غير بهيمة الأنعام خلافًا للشافعيَّة، فلو اشترك مجموعة في مزرعة، وكان نصيب كل واحد من الحبوب أو الثِّمار لو جمع مع الآخر بلغ نصابًا، فلا زكاة فيه؛ لأن الخلطة لا تؤثر إلا في بهيمة الأنعام؛ لورود الدليل بها.
التنبيه الثالث: إذا كان المال لشخص واحد، فإنَّ تفرقته لا تؤثر فيه وهو قول جمهور العلماء.
مثال ذلك: زيدٌ له (20) شاة في الرِّياض، و(20) شاة في جدة، ولو اجتمعت لصارت (40) شاة، فيها شاة واحدة، ولكن المكان مُختلف، فهل تجب فيه الزكاة؟
فالمذهب: أنه لا زكاةَ عليه، ما دام أنَّه لم يفعل ذلك حيلة وفرارًا من الزَّكاة، وهذا من مفردات الحنابلة وجمهور العلماء: على أن فيه زكاة ما دام أن المال لشخص واحد، وهو الأظهر والله أعلم.
التنبيه الرابع: لو اختلط اثنان في ماشية، وأحدهما يريد بنصيبه عُرُوض التِّجارة، فيبيع ويشتري في غنمه، والآخر يريد الدَّرَّ والنَّسلَ، فهذه الخلطة غير مؤثرة؛ لاختلاف الزَّكاة، فعروض التجارة زكاتها بالقيمة، والآخر زكاته في نفس الماشية.
التنبيه الأخير: من يأخذ الصدقة من أصحاب الماشية، فإنه لا يأخذ أكرمها؛ أي: أنفسها، حتى لا يُضر بصاحبها، ولا يأخذ الرديء والمَعِيبَة؛ حتى لا يُضر بالفقراء ومستحقي الزكاة، ولكن يأخذ الوسط من ذلك.
ويدل على ذلك:
1 - حديث معاذ بن جبل المتفق عليه وفيه قال النبي : ((إياك وكرائم أموالهم))؛ أي: أنفس أموالهم.
2 - حديث أنس - رضي الله عنه - وفيه: "ولا يخرج في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، ولا تيس إلا أن يشاء المُصَّدِّق"، وأيضًا قوله - تعالى -: ﴿وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ﴾ [البقرة: 267].
باب زكاة الحبوب والثمار
 فيه إحدى عشرة مسألة:
المسألة الأولى: دل على وجوب زكاة الحبوب والثِّمار الكتاب والسنة والإجماع.
فمن الكتاب قوله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ﴾ [البقرة: 267]، وقوله - تعالى -: ﴿كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام: 141]، وكثير من السلف على أنَّ المراد بالحق هنا الزَّكاة المفروضة .
ومن السنة: حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ النبي  قال: ((فيما سقت السماء والعيون، أو كان عثريًّا - العشر، وفيما سُقِيَ بالنَّضح نصف العشر))؛ رواه البخاري (1483).
وحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي  قال: ((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة))؛ رواه البخاري (1405)، ومسلم (979)، وأمَّا الإجماع، فقد قال ابن المنذر في "الإجماع" (ص: 47)، "وأجمعوا على أن الصدقة واجبة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب".
الحبوب: هي ما يخرج من الزرع والبقول ونحوها، كالحنطة، والشعير، والأرز، والعدس، والحلب، والرشاد وغيرها.
والثمار: هي ما يخرج من الأشجار كالتمر، والعنب، والصنوبر وغيرها.
المسألة الثانية: ما تجب فيه الزكاة من الحبوب والثمار.
اختلف أهل العلم فيما تجب فيه الزكاة من الحبوب والثمار:
القول الأول: إنَّ الزكاة في الحبوب والثِّمار لا تَجب إلا في أربعة أصناف، وهي: الحنطة والشعير - وهما من الحبوب - والزبيب والتمر - وهما من الثمار - وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، واختار هذا القول الشوكاني في "نيل الأوطار" (8/93)، والألباني في "تمام المنة"، (ص: 369).
واستدلوا بحديث أبي موسى الأشعري ومعاذ أنَّ النبي  قال لهما: ((لا تأخُذا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة: الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر)) .
ونوقش هذا الاستدلال بأنَّ الحديث ضعفه بعضُ أهل العلم، ولو صَحَّ فإنَّه يُحمل على أن هذه الأصناف الأربعة هي الدَّارجة في زمن النبي  قوتًا للناس يأكلون منه، وليس المقصود الاقتصار عليها، وهذا هو قول جمهور العُلماء.
إذًا القول الثاني: إنَّ الزكاةَ تجب في غير الأربعة المذكورة في الحديث السابق، وهذا قول جمهور العلماء، فزادوا عليها أصنافًا أخرى، فنظروا إلى الصفات التي تجتمع في الأصناف السابقة وهي الاقتيات؛ أي: أن يكونَ الصنف قوتًا يأكله الناس، والكيل؛ أي: أنْ يكال، والادِّخار؛ أي: يمكن أن يدَّخره الفقير؛ أي: يُحفظ بطبيعته بلا وسيلة حافظة له كالثلاجات ونحوها.
مثلاً: الأرز تتوفر فيه الصفات السابقة، فهو قوت للناس، ويكال ويُمكن أن يدَّخره الفقير.
اختلف جمهور العلماء: أيُّ الصفات المؤثرة التي تجعل هذا الصنف من الحبوب والثِّمار فيه الزكاة؟ على أقوال أظهرها:
قول المذهب: وهو أنَّ الذي تجب فيه الزكاة هو ما جمع صِفَتين أو عِلَّتين، وهما الكيل والادِّخار.
ويدل على ذلك: أمَّا الكيل فيدل عليه حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة))؛ متفق عليه.
ووجه الدلالة: أن النبي  جعل النِّصاب خمسة أوسق، والوسق معيار كيلي كما سيأتي، فدل هذا على أن الكيلَ عِلَّة معتد بها.
وأما الادِّخار، فلأن النعمة به أبلغ وأكثر مواساة لمستحقي الزكاة، بخلاف الأشياء التي لا تُدَّخر، فهي تفسد إذا تأخرت، فمنافعها مؤقتة، وأيضًا لم يكن النبي  يأخذ الزكاة في الخضروات؛ لأنَّها لا تُدَّخر، واعتبار الادِّخار قال به جمهور العلماء.
وأما الاقتيات، فلا يشترط، ومما يدل على عدم اشتراطه حديث أبي سعيد المتقدم، فقد جاء في رواية مسلم: ((ليس فيما دون خمسة أوساق من حب ولا تمر صدقة))؛ ففي قوله: ((من حب)) ظاهره يشمل جميع الحبوب، ومن الحبوب أصنافٌ كثيرة ليست قوتًا للناس.
فالقول الراجح - والله أعلم -: أنَّه لا بد أن يدَّخر ويكال، واختار هذا القول الشيخ ابن باز وشيخنا ابن عثيمين في "الممتع" (6/69).
 - من الأصناف التي تكال وتُدَّخر: الحبوب عمومًا؛ لرواية مسلم السابقة، كالقمح والشعير، والذرة، والقهوة، والأرز، والعدس، والحبة السوداء، وغيرها، ومن الثمار التمر والزبيب والصنوبر وغيرها.
 - بناء على الكيل والادِّخار، فالخضروات والفواكه بأنواعها لا تجب فيها الزَّكاة خلافًا للأحناف، وكذلك البقول كالثَّوم والبصل والجزر، كل ذلك لا تجب فيه الزكاة.
المسألة الثالثة: نصاب الحبوب والثمار:
والمقصود ما القدر الذي إذا بلغته الحبوب والثمار وجبت فيه الزكاة؟ واشتراط بلوغ النصاب في الحبوب والثمار لا خلاف فيه بين العلماء.
 - ذكر صاحب الزاد أنَّ نصاب الحبوب والثمار ألف وستمائة رطل عراقي.
والرطل: بكسر الراء وفتحها هو آلة الوزن، والرطل يساوي ثمانية وعشرين درهمًا.
ومقدار (1600) رطل عراقي يساوي النصاب الوارد عن النبي  وهو خمسة أوسق؛ حيث قال : ((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة))، والوسق الواحد يساوي ستين صاعًا نبويًّا، وبناءً على ذلك، فإن (5) أوسق = 300 صاعٍ نبوي = 1600 رطل عراقي.
ولاحظ أن الرطل آلة وزن، بينما الوسق والصاع والمد معيار كيلي؛ أي: بالكيل، وإنَّما انتقل أهلُ العلم في حسابهم من الكيل، مع أنَّه وارد في السنة إلى الوزن؛ لأنَّ الوزن أثبت وأضبط؛ لأنَّ الكيل يختلف، فالأمداد تختلف من زمن لآخر، وكذلك الأصواع تختلف، فصاع النبي  يَختلف عن الصاع الموجود اليوم، واختلف في مقدار صاع النبي  ورجح شيخنا ابن عثيمين أن الصاع النبوي يساوي بالكيلو: كيلوَين وأربعين جرامًا من البُرِّ الجيد ، والمعتبر البر الجيد؛ لأنَّ الحبوب تختلف، فمهنا الثقيل كالحنطة والعدس، ومنها الخفيف كالشعير والذرة، فنظروا إلى المتوسط وهو البر، فجعلوه هو المعتبر.
وخلاصة الحساب في ذلك وفيه تفصيل غير ما سبق أن يقال:
الصاع النبوي = 2.40 كيلو جرام - على اختيار شيخنا ابن عثيمين - والوَسْق فيه ستون صاعًا، والنصاب: خمسة أوسق؛ إذًا 5 أوسق ×60 صاع = 300 صاع نبوي، و300 صاع ×2،40 = 612 كيلو جرام.
إذًا مَنْ كان عنده (612) كيلو جرام من الحبوب أو الثِّمار، وجبت عليه الزكاة، وسيأتي بيان مقدار ما يخرجه.
المسألة الرابعة: يُضم ثمر العام الواحد بعضه إلى بعض في تكميل النصاب:
مثال ذلك: رجل عنده مزرعة لها ثمر بعضه يُجنى أول موسم الصيف، والبعض الآخر في آخر الموسم، فإنَّه يضم الأول مع الثاني في تكميل النِّصاب ويخرج الزكاة.
مثال آخر: رجل عنده مزرعتان أنتجت الأولى (100) صاع من الثمر، وأنتجت الثانية (200) صاع، فإنه يضم ثمار المزرعتين ما دام أن الجنس واحد في عام واحد.
مثال آخر: رجل عنده حائط فيه نخل كثير بأنواع مُختلفة - سكري وبرحي وخلاص وغيرها من الأنواع - وبمجموعها تبلغ النِّصاب، وهو (300 صاع)، أو نقول بالكيلو (612 كيلو)، فيضم هذه الأنواع بعضها مع بعض ما دام أنَّها تدخل تحت جنس واحد، وهو التمر إذا كانت هذه الثمرة في عام واحد، فهذا هو القول الصحيح، وبه قال المذهب.
ويدل على ذلك: أنَّ النبي  كان يبعث السُّعاة لأخذ زكاة الثِّمار مع تنوُّع الجنس الواحد، ولم يرد أنَّ النبي  كان يفرق بين نوع وآخر في الجنس الواحد، ومن أمثلة ذلك التمر، فقد كان في المدينة أنواعٌ كثيرة من التُّمور ولم يرد أن النبي  يأمر السُّعاة بأن يفرقوا بين أنواعها.
 - وبناء على هذه المسألة:
 - لو اختلفت الأجناس، فإنها لا تُضم بعضها إلى بعض.
مثال ذلك: رجل عنده مزرعة فيها حبوب نصفها شعير ونصفها أرز، فإن هذه الحبوب لا يضم بعضها إلى بعض في تكميل النِّصاب؛ لاختلاف الأجناس، كما أن صاحب الماشية لا يضم الأغنام إلى الأبقار أو إلى الإبل، وعدم ضم الأجناس إذا اختلفت مما أجمع عليه العلماء.
قال المنذر في "الإجماع" (ص: 47): "وأجمعوا على ألا تضم النخل إلى الزبيب".
 - أيضًا لا يضم ثمر عام إلى عام آخر.
مثال ذلك: رجلٌ عنده مزرعة وجنى ثمارها في العام الأَوَّل، ولما جاء العام الثاني جنى ثمارها أيضًا، فلا يضم ثمرة العامين في تكميل النِّصاب، وإنَّما لكل عام نصابه، فإذا كان النصاب لا يكتمل إلا بضم ثمر العامين، فلا زكاة عليه.
المسألة الخامسة: لا بد أن يكون النصاب مملوكًا لصاحبه وقت وجوب الزكاة:
وهذا شرطٌ من شروط وجوب زكاة الثِّمار والحبوب، وهو أن يكون النِّصاب مملوكًا له في وقت وجوب الزَّكاة، وهو قول المذهب وبه قال جمهورُ العلماء، وعليه فإنَّ شروط الزكاة في الحبوب والثمار هي:
1- أن تكون ممَّا يُكال ويُدَّخر.
2- أن تبلغَ النِّصاب.
وهذان الشرطان تقدَّم توضيحهما.
3- أن يكون مملوكًا له وقتَ وجوب الزكاة.
ومتى وقت وجوب الزكاة في الحبوب والثمار؟
أمَّا الثمار فوقتُ وجوبه إذا بَدَا صلاحُ الثمرة، وذلك بأن تَحْمَرَّ أو تَصْفَرَّ، وهذا في التمر، وأمَّا غيره من الثِّمار فبُدُوُّ صلاحه أن ينضجَ ويَطيب أكلُه.
وأمَّا الحبوب فوقتُ وجوبه إذا اشتدَّ، فإذا اشتدت الحبَّة بأن قويت وصلبت وجبَ الزكاة فيها، وسيأتي بيانُ ذلك.
مثال ذلك: رجل اشترى مزرعة - ومعلوم أنَّ الثِّمار لا يجوز شراؤها إلاَّ بعد بدوِّ صلاحها - لو اشترى رجل مزرعةً بعد بدوِّ صلاح الثمار، أو بعد اشتداد الحبِّ في الزرع، فعلى مَن تكون الزكاة على البائع أو المشتري؟
لا شكَّ أنَّها على البائع؛ لأنَّها حين وقت وجوب زكاتها وهو بدوُّ الصلاح، أو اشتداد الحَبِّ كانت ملكًا للبائع، إلاَّ أن يشترطَ البائع على المشتري أن يُخرجَ الزكاة، فهذه مسألة أخرى، وله ذلك، والمسلمون عند شروطهم، فالأصل أنَّ الزكاة على البائع، وكذلك لو وَهَب رجلٌ أخًا له زرعًا بعدَما اشتدَّ حَبُّه فالزكاة على الواهب، وكذلك لو ورث رجل من أبيه ثمارًا بعد بدوِّ صلاحها، فإنَّ الزكاة لا تجب على الوراث، بل على الأب، فتؤخذ مِن تركتِه، أمَّا لو ورثها قبل بدوِّ صلاحها، فالزكاة على الوارث إذا بَدَا صلاحُها.
مثال آخر: لو أنَّ لقَّاطًا - واللقَّاط هو الذي يتتبَّع المزارع، ويلقط الثمر المتساقط، كالتَّمر من النخل، أو يلقط الحَبَّ المتساقط، كالسنبل من الزرع - فلو أنَّ لقَّاطًا بلغ ما لقطَه النِّصاب، فلا زكاة فيه؛ لأنَّه لم يكن مالكًا له حينما وجبتْ فيه الزكاة.
وكذلك لو قال لرجل: احصد بُستاني هذا، ولك ثُلثُ ما حصدتَه، فإن هذا الثلث لا زَكاةَ فيه، ولو بلغ نصابًا؛ لأنَّه لم يملكْه حين وجوب الزَّكاة.
مسألة: ما كان من مباح في الصحراء هل فيه زكاة إذا جُمع وبلغ نصابًا؟
المباح: هو ما أنبته الله - عزَّ وجلَّ - وليس لابن آدمَ عملٌ وكلفة فيه، فهو مباحٌ لجميع المسلمين أن يأخذوه، فلو أَخَذه الإنسان، وكان يبلغ النِّصاب، فلا زكاةَ فيه وهو قولُ المذهب أيضًا.
والتعليل: لأنَّه حين بَدَا صلاحُه، أو اشتدَّ حبُّه لم يكن في مُلْكِ مَنْ جَمَعه، وإنَّما هو مباحٌ لجميع المسلمين، فلا زكاةَ عليه فيه.
- وأيضًا لو كان هذا المباحُ نَبَت في أرضه أو بُستانه من غير كُلفة منه أو تقصُّد لإخراجه، فلا زكاةَ عليه، وهو قول المذهب، مع أنَّه أحقُّ به من غيره.
فائدة: ذكر صاحب الزاد أمثلةً على المباح من الحبوب التي يخرجها الله - عزَّ وجلَّ - وليس للإنسان فيها عملٌ أو كلفة، أو تقصد لإخراجها، مثل (البُطُم) وهي حَبَّة خضراء من فصيلة الفُستق، شجرتُها من أربعة إلى ثمانية أمتار، تَنبُت في الأراضي الجبليَّة، تؤكل في بلاد الشام؛ انظر: "المعجم الوسيط"، (ص: 61).
وذكر أيضًا (الزَّعْبَل) وهو شعير الجبل، وذكر أيضًا (بَزْر قَطُونا) وهي سنبلةُ الحشيش، وتُسمَّى (الرِّبلة)، كما ذكر شيخنُا ابن عثيمين عن بعض مشايخه (انظر الممتع 6/75)، والمقصود أنَّ صاحب الزاد ذَكَر هذه الأنواعَ من الحبوب كمِثال على المباح، وأنَّها لو جَمَع الإنسان نوعًا منها، وكان يبلغ نصابًا، فلا زكاة فيه؛ لأنَّه مباحٌ لم يملكه حين وقت وجوب زكاته.
المسألة السادسة: القدر الواجب إخراجه في زكاة الحبوب والثمار:
والمقصود أنَّه إذا كان عندَ الإنسان حبوبٌ أو ثمار بلغتِ النِّصاب فما القدر الواجب في إخراج الزكاة؟
الجواب: أنَّ هذا ينقسم إلى أقسام – وهذه الأقسام هي قول المذهب أيضًا -:
القسم الأول: أن تُسْقى الحبوب والثِّمار بلا مؤونةٍ، فالواجبُ فيها العُشْر.
وبلا مؤونة؛ أي: بلا كُلفة على صاحبها، كأن يكونَ الزرع بَعْلاً؛ أي: يشرب الماء بعروقه، ويُسمَّى عثريًا؛ لأنَّه يعثر على الماء بنفسه، أو كأن تسقيَه الأنهارُ والعيون أو الأمطار، فهذا الواجب فيه العشر؛ أي: واحد من عشرة.
ويدلُّ على ذلك: حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ النبي  قال: ((فيما سَقَتِ السماءُ والعيون أو كان عثريًا، العُشْر))؛ رواه البخاري (1483)، وعند أبي داود: ((أو كان بَعْلاً، ففيه العُشر)).
مثال ذلك: رجل عنده مزرعة لا يَتعب في سقيها؛ لأنَّ الأمطار تسقيها أو العيون، وحينما جَنَى ما تخرجه مزرعتُه صار عنده ألف كيلو من البُر، فمقدار ما يخرجه العُشر، وهو مائة كيلو.
إذًا؛ نقسمه على عشرة، فنخرج العشر.
القسم الثاني: أن تُسقى بمؤونة، فالواجب فيها نِصفُ العشر.
كأن يحتاجَ الزَّرع في سقايته إلى كُلفة، بأن تجلب الدواب كالحمير أو الإبل الماء، وتجرُّه من البِئر، وتُسمَّى السواني سابقًا، فهذه كُلفة تحتاج إلى نفقة للسَّقي، ومثله ما يقوم مقامَ السانية من الآلات الحديثة اليومَ التي تَنقل الماء إلى الزروع، وتحتاج إلى نفقة الكهرباء والوقود، والصيانة ونحوها، فهذه تُعتبر سُقْيا بمؤونة، فيجب في إخراجِ زَكاتِها نِصفُ العُشْر، وهذا من لُطفِ الشارع، حيث خفَّف على العِباد مقدارَ الزكاة بحسب ما بذلوه لسقي هذه الزُّروع.
ويدل على ذلك:
1- حديث جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - أنَّه سمع رسول الله  يقول: ((فيما سَقتِ الأنهارُ والغيم العُشور، وفيما سُقي بالسانية نِصفُ العُشْر))؛ رواه مسلم (981).
2- حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ النبي  قال: ((فيما سقتِ السَّماء والعيون أو كان عثريًا العُشر، وما سُقِي بالنضح نِصفُ العُشْر))؛ رواه البخاري، والنضح: هو السقي بالسواني، وما يقوم مقامَها من (المكائن) ونحوها.
مثال ذلك: رجلٌ عندَه مزرعةٌ لا تُسقى إلا (بمكائن) تَجلِب لها الماء، وحينما جَنَى ما تخرجه مزرعتُه، صار عندَه ألف كيلو من البُر، فمقدار ما يُخرجه نِصفُ العُشر، وهو خمسون كيلو، إذًا نقسمه على عشرة، ونخرج نِصفَ العشر.
فائدة: حفْر البئر، أو حفر السواقي وفتحها؛ لكي يجريَ الماء من النَّهر إلى مزرعته هذه كُلفة لا تأثيرَ لها؛ لأنَّها من جِنس حرْث الأرض وهي كلفة لا تتكرَّر مع الأعوام، والكُلفة المؤثِّرة، أو المعتبرة هي ما كانت في نفْس السَّقي المتكرِّر.
القسم الثالث: أن تُسقى نصف المدَّة بمؤونة، ونِصفُها الآخر بلا مؤونة، فالواجب ثلاثةُ أرباع العُشْر.
مثال ذلك: رجلٌ عنده مزرعة تُسقى نصف المدة (بمكائن) ونحوها، ونصف المدَّة تسقيها الأمطار، وحينما جَنَى ما تُخرجه، صار عنده ألف كيلو من البُر، فمقدار ما يخرجه ثلاثةُ أرباع العشر، وهو خمسة وسبعون كيلو، إذًا نقسم الألف على عشرة، ونخرج ثلاثة أرباع العُشْر.
والتعليل: أنَّ نصفَ المدَّة تجب فيها نصفُ العُشْر، وهو ما كان بمؤونة، ونِصفُها الآخرُ تجب فيه العُشْر، ومحصِّلة الواجبين في المدَّة كاملة ثلاثةُ أرباع العشر؛ انظر: "فتاوى اللجنة الدائمة"، (9/234)، برقم (962).
القسم الرابع: أن يتفاوت السقيُ، أو لم يمكن ضبطُ مدَّة المؤونة من غيرها، فالمعتبر الأكثر نفعًا.
مثال ذلك: رجل عنده مزرعةٌ، وتارة يحتاج لمؤونة في سقيها، وتارة أخرى لا يحتاج إلى مؤونة، ولكنَّه لم يستطعْ ضبطَ المدَّة في المؤونة من غيرها؛ لأنَّ المدَّة متفاوتة، فالعِبرة بالأكثر نفعًا للزَّرْع، فإذا كان الزَّرْع ينتفع أكثرَ إذا سقتْه السماء والعيون، ففيه العُشْر، وإذا كان ينتفع أكثرَ إذا سُقِي بمؤونة، ففيه نِصفُ العُشْر، وإن جُهل الأكثر نفعًا، فيرجع فيه لِمَا هو أحوط وأبرأ للذِّمَّة؛ وهو العُشر.
ولأنَّ الأصل في الحبوب والثِّمار وجوبُ العُشر، وإنَّما خُفِّف إلى النصف؛ لأنَّه يُسقَى بمؤونة.
هذا ملخَّص المقدار الواجب إخراجُه إذا بلغ نصابًا، وتقدَّم أنَّ الزكاة لا تجب في الثِّمار إلاَّ إذا بدا صلاحُها، وفي الحبوب إذا اشتدَّتْ بأن قويت وتصلَّبت.
المسألة السابعة: المذهب أن الثمرة أو الحب لو تلف بعد وضْعه في البَيْدر، فعلى صاحبها الضمان مطلقًا:
البيدر: بفتح الباء وإسكان الياء، وهو موضعٌ تُجمَّع فيه الثمار؛ لتشميسها وتيبيسها، وتجمع فيه الحبوب لتداس وتُصفَّى، وهو مكان فسيح، ويُسمَّى البيدر عند أهل الشام، ويسمَّى الجرين عندَ أهل مصر والعراق.
فالمذهب: يفرقون بين وقتِ وجوب الزكاة، وبين وقت استقرار الزَّكاة، فوقت الوجوب كما سبق إذا بدَا صلاحُ الحبوب والثِّمار، وهو في زُروعِه وأشجاره، ووقت استقرار الوجوب إذا قُطِف وحُصد، وعادة أهل الزِّراعة أن يضعوه في البيدر أوَّلَ ما يقطفونه ويحصدونه، فالمذهب يقولون: إنَّه إذا وُضِع في البيدر، ثم تَلِف، فإنَّ على مالكها الضمانَ، بأن يُخرِج الزَّكاة، سواء كان متعديًا ومفرطًا، أو لم يكن كذلك، فعليه الضمان مطلقًا.
وعلَّلوا ذلك: بأنَّه استقرَّ في ذمته أول ما وُضِع في البيدر، فصارت كالدَّين عليه واللهُ - عزَّ وجلَّ - يقول ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام: 141].
- وهذه المسألة تهمُّ أصحاب المزارع، وهي: متى يضمن إذا تلفت الحبوب والثمار ومتى لا يضمن؟
والجواب: أنَّ هذه المسألة لها ثلاثُ حالات:
الأولى: أن يكون التَّلَف قبل وجوب الزكاة؛ أي: قبل اشتداد الحَبِّ وصلاح الثمرة، فلا شيءَ على المالك.
مثال ذلك: رجل عنده مزرعةٌ، وتعمَّد حصْدَ الزَّرع قبلَ اشتداده، أو قطعَ الثمر قبلَ بدوِّ صلاحه، أو أحرق مزرعتَه لشيء أراده، فهذا لا ضمانَ عليه بلا إشكال؛ لأنَّه لم يأتِ وقت الوجوب، بشرط ألاَّ يكون فَعَل ذلك فِرارًا من الزكاة، فإنَّه يضمن وتقدَّمت القاعدة "أنَّ التحايل في إسقاط الواجب لا يُسقِطه".
الثانية: أن يكون التلفُ بعد وجوب الزَّكاة، وقبلَ وضْعه في البيدر ونحوه:
فالمذهب وهو القول الراجح - والله أعلم -: أنَّه إذا كان ذلك بتَعدٍ أو تفريط، فعليه الضمان، وإذا كان بغير تعدٍّ أو تفريط، فلا ضمانَ عليه.
الثالثة: أن يكون التلف بعدَ جَعْله في البيدر ونحوه:
فالمذهب: أنَّ عليه الضمانَ مطلقًا، سواء تعدَّى وفرَّط، أو لم يتعدَّ أو يفرطْ، وسَبَق بيانُ تعليلهم.
والقول الراجح - والله أعلم -: أنَّه إذا كان بتعدٍّ أو تفريط، ضَمِن، وإن لم يتعدَّ أو يفرطْ، فلا ضمانَ عليه.
والتعليل: أنَّه بعد وجوب الزَّكاة عليه صار المحصول عنده كالأمانة في يدِ صاحب الثمرة، فيَدُ صاحب الثمرة حينئذ يدُ أمانة والقاعدة: "أنَّ يدَ الأمانة لا تضمن إلاَّ بتعدٍّ أو تفريط".
وبناءً على ذلك، لا حاجةَ لنا أن نقول: وُضِع في البيدر أو لا، والقول الراجح: أنَّه إذا جاء وقت وجوب زكاة الحبوب بأن اشتدَّت الثمار بأن صلحت ثم تلفت، فلا ضمانَ عليه إلاَّ إذا كان بتعدٍّ أو تفريط، سواء كان ذلك قبلَ وضْعه في البيدر أو بعدَه.
مثال ذلك: رجل بعد أن بدَا صلاحُ ثمر النَّخل، وبعد أن جعله في البيدر مع اهتمامه به وحراسته له جاءَه سارق فسرقه، وهو في ذلك غيرُ مهمل له ولا مفرِّط.
فالمذهب: أنَّه يضمن؛ لأنَّهم يَروْن وجوبَ ضمانه مطلقًا بعد وضعه في البيدر.
والقول الراجح - والله أعلم -: أنَّه لا يضمن؛ لأنَّه غير مفرِّط.
المسألة الثامنة: مسألة خَرْص الثمر:
ومسألة الخَرْص من المسائل التي لم يَذكُرْها صاحب الزاد، ويمكن توضيحها في النِّقاط التالية.
- تعريف الخرص:
الخرص: هو تقديرُ المحصول من التَّمْر أو العنب، وهو على أصول شَجرِه، وذلك من خبير بالخَرْص.
مثال ذلك: يأتي الخارص حين يبدوُ صلاحُ الثمر ويُقدِّر ما على النخل من الرطب تمرًا، وما على شجر العنب زبيبًا، فيطوف بالنخل أو شجر العنب، ويرى ثمرتَها، ثم يقول مثلاً: خَرْصُها ستةُ أوسق رطبًا، وتجيء خمسة أوسق يابسًا، ويقول في العنب: خَرْصُها عشرة أوسق عنبًا، وتجئ ثمانية أوسق زبيبًا، فيُقدِّر ذلك من غير وزن ولا كيل، بحسب خبرة الخارص، ولا بدَّ أن يكون خبيرًا ثقةً، ويكفي خارصٌ واحد، فإذا جَفَّت الثمار بأن صار التَّمر يابسًا، والعنب زبيبًا، أُخِذت منه الزكاة التي سبق خرصُها.
- لصاحب المال بعد الخرْص طريقتان:
الأولى: أن ينتظرَ إلى أن يجنيَ الثمرة، ثم يُخرج المقدارَ الذي حدَّده الخارص للزكاة، والباقي له.
الثانية: أن يُعيِّن بعد الخرْص شجرًا مفردًا يجعله لأهل الزَّكاة، وهو مقدار ما حُدِّد بعدَ الخرص، ويتصرَّف صاحب المال فيما بقي من الشَّجر.
- فائدة الخرص:
للخرْص فائدةٌ عظيمة، وهي: التوسعة على صاحب الثِّمار؛ لأنَّه بعد الخرص يستطيع معرفةَ ما يخرجه للزكاة، وحينئذ يتصرَّف في ثماره كيف يشاء قبلَ أن تبلغ غايتها في الصلاح، فهو قد عرف زكاتَها، فيتصرَّف فيما بقي، فيبيع ويتصدق ويُهدي، ولا شكَّ أنَّ في هذا توسعةً عليه، مع أنَّه يجوز لأهل الثمرة أن يأكلوا من ثِمارهم قبلَ أن تُخرص بما جَرَت العادة بأكله، ولا يُحتسب عليهم عندَ إخراج الزكاة على الصحيح.
- الخرص مشروع، فيُسنُّ للإمام أن يبعث الخارص وقتَ الخرْص:
ومشروعية الخرْص وأنَّه يُسنُّ للإمام أن يبعث الخارص وقتَ الخرص هو قول جمهور العلماء، خلافًا لأبي حنيفة الذي قال: إنَّه ظنٌّ وتخمين لا يلزم به حكم.
ويدل على ذلك:
1- حديث جابر - رضي الله عنه - قال: "أفاء الله على رسوله  خيبرَ، فأقرَّهم رسول الله  كما كانوا، وجَعلَها بينه وبينهم، فبعث عبدَالله بن رواحة، فخرصها عليهم"؛ رواه أبو داود (3414)، وأحمد (23/210)، والبيهقي (4/123)، وسنده قويٌّ، ورجاله ثقات، كما ذكر الألباني في "الإرواء"، إلاَّ أنَّ في سنده أبا الزبير، مُدلِّس، وقد عنعنه، ولكنَّه صرَّح بالتحديث في رواية لأحمد (8/387)، فالحديث يُحتجُّ به.
وللحديث شواهد:
منها: حديثُ أبي حُميد الساعدي في خرْص النبي  حديقةَ المرأة في طريقهم إلى تبوك، وأمْرِه لأصحابه أن يخرصوها، فخرصوها وخرصها رسول الله  عشرةَ أوسق، والحديث رواه البخاري (1481)، ومسلم (1392).
ومنها: بعث النبي  عبدالله بن رواحة إلى خبير ليخرصَ على اليهود نخيلَهم، كما ورد في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عندَ ابن ماجه (1820)، والخرص عَمِل به الصحابةُ أيضًا.
وله شواهد أخرى، لكنَّ فيها انقطاعًا، كحديث عائشة - رضي الله عنها - وحديث عتَّاب بن أَسِيد عند أبي داود.
- قال الخطَّابي في "معالم السنن" (2/212): "العمل بالخرْص ثابت.... وبقي الخرص يعمل به رسول الله  وعَمِل به أبو بكر وعمر، وعامَّة الصحابة على تجويزه..... فأمَّا قولهم: ظنٌّ وتخمين، فليس كذلك، بل اجتهاد في معرفة مقدار الثِّمار، وإدراكه بالخرْص الذي هو نوعٌ من المقادير والمعايير كما يُعلم ذلك بالمكاييل والموازين وإن كان بعضُها أحصرَ من بعض".
- ما هو وقت الخرص؟
وقت الخرْص حين يبدو صلاحُ الثَّمر؛ لأنَّ فائدةَ الخرص هو معرفةُ ما يجب بالزَّكاة والتَّوْسِعة على أصحاب الثَّمر أن يتصرَّفوا بثمرهم.
- ما هي الثمار التي تخرص؟
جمهور أهل العلم: أنَّه لا يُخرص إلاَّ التمر والعنب.
والدلالة على ذلك من وجهين:
1- أن الأحاديث الواردة في الخرْص جاءتْ في التمر والعنب.
2- أنَّ التمر والعِنب الحاجة داعيةٌ لأكلهما حالَ رطوبتهما قبلَ أن يجفَّ الرطب، ويصير العنب زبيبًا، وأمَّا الزروع وما فيها من الحبوب فلا تُخرص لعدم تحقُّق ما سبق فيها، ولصعوبة خرْصها بسبب تغطية الأوراق للحبوب التي فيها، وتراكبها على بعضها كالسنابل ونحوها.
- يُشرع للخارص أن يتركَ الثُّلث أو الرُّبع من الثَّمرة لصاحب الثمرة.
يُسنُّ للخارص أن يتركَ ثلثَ الثمرة أو رُبعَها للمالك، وهو قول المذهب.
ويدلُّ على ذلك:
حديث سهل بن أبي حثمة - رضي الله عنه - قال أمَرَنا رسول الله : ((إذا خَرصْتم فخذوا ودعوا الثُّلث، فإن لم تدعوا الثلث، فدعوا الرُّبع))؛ والحديث رواه أبو داود (1605)، والترمذي (643)، والنسائي (5/42)، وأحمد (24/458)، وهو حديث ضعيف، في سنده عبدالرحمن بن مسعود بن نيار، قال عنه ابن القطَّان: لا يُعرف حالُه.
وللحديث شاهدٌ موقوف على عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - أنَّه بعث أبا حثمة الأنصاريَّ على خرْص أموال المسلمين"؛ رواه ابن حزم في المحلَّى، والحاكم (1/402).
وشاهدٌ عن سهل بن حثمة - رضي الله عنه - أنَّ مرْوان بعثه خارصًا للنخل، فخرص"؛ رواه ابن حزم في المحلى، وقال (5/260): "هذا فِعل عمر بن الخطَّاب وأبي حثمة وسهل؛ ثلاثة من الصحابة بحضرة الصحابة، لا مخالِف لهم يُعرف"، وتخيير الخارص بين الثُّلث والرُّبع راجعٌ إلى نظر الخارص حسبَ ما تقتضيه المصلحةُ من كثرة الثَّمرة وقلَّتِها، وحال أهل الثَّمرة، فيترك الثلث، فإن كان كثيرًا تَرَك الربع.
- واختلف في هذا الثلث أو الربع:
فقيل: يَترك الخارصُ ثلثَ أو ربع الثَّمرة، فلا يأخذ عليها زكاة.
والتعليل: رأفة بأصحاب الثَّمرة، وتوسعة عليهم؛ لأنهم يحتاجون إلى الأكْل هم وأضيافُهم، ويطعمون جيرانَهم وأقاربَهم، وأيضًا هذه الثمرة يكون فيها ثمرةٌ ساقطة، وثمرة ينتابها الطير، وأخرى يأكُل منها المارَّة، فلو أخذ الخارص كلَّ ذلك ولم يدع شيئًا لأضرَّ بهم، فتُراعى هذه الجوانبُ، فيدَع الثلث أو الربع من الثَّمرة لا يأخذ عليها الزَّكاة، وينظر في الباقي، فإن بلغ نصابًا، وإلاَّ فلا زكاةَ فيه.
وقيل: إنَّ الخارص بعدما يخرص ويقدِّر الخارجَ للزَّكاةِ، وهو العُشر أو نِصفُ العُشر، يترك من هذا العشر أو نصف العشر الثلثَ أو الربع؛ ليتولَّى أصحاب الثمرة توزيعَه بأنفسهم، فربَّما يكون لهم أقاربُ مستحقُّون، أو فقراء يعرفونهم فيعطونهم، وهذا ما اختاره شيخُنا ابن عثيمين في "الممتع" (6/90).
المسألة التاسعة: مَن استأجر أرضًا فزكاة ثمرتها على المستأجر لا على المالك:
مثال ذلك: رجلٌ استأجر أرضًا ليزرعَها أرزًا أو ذرة، فإذا أخرجتْ هذه الأرضُ، فزكاة الأرز أو الذُّرة على مالك الأرض أو على مستأجرها؟
المذهب: أنَّ الزكاة على المستأجِر لا على مالك الأرض، وهذا هو القول الراجح - والله أعلم - وبه قال جمهور العلماء.
والتعليل: لأنَّ المالك الحقيقيَّ للثمرة هو المستأجرُ لا مالك الأرض، والزكاة حقٌّ في الزَّرع لاحق في الأرض، والزَّرْع للمستأجر.
المسألة العاشرة: هل في العسل زكاة:
المذهب: أنَّه يجب في العسل زكاةٌ:
وقالوا: بأنَّ نِصاب العسل مائةٌ وستون رطلاً عراقيًا؛ أي: ما يساوي (62) كيلو، فإذا بلغ ذلك، فإنَّه يُخرج العُشر سواء أخذ العسل من ملكه؛ أي: النحل التي في أرْضه، أو من الأرض الموات التي ليست لأحدٍ، مثل مَن يأخذه من رؤوس الجبال أو الصحاري.
واستدلوا:
1- بأحاديثَ عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم – لا يثبتُ منها شيء.
2- ما ورد عن عمر - رضي الله عنه - أنَّه أمر بإخراج زكاة العسل"؛ رواه أبو عبيدة في الأموال (ص: 497).
والقول الثاني: أنَّه ليس في العسل زكاة، وبه قال جمهور العلماء، وهو الأظهر - والله أعلم.
واستدلوا:
1- بأنَّه لم يصحَّ في زكاة العسل شيء، كما نقل ذلك البخاري في "العلل الكبير"، ونقله العُقيلي "في الضعفاء" (2/309)، وقال: "إنما يصحُّ عن عمر مِن فِعله"، وكذا قال ابن حزم في "المحلى" (5/232)، وضعَّف ما ورد عن عمر أيضًا، أو أحدٍ من الصحابة، وكذا قال المناوي في "فيض القدير" (4/452)، قال: "لم يصحَّ فيه خبر"، وقال ابن مفلح في "الفروع" (2/450): "لأنَّه لم يثبت في الزَّكاة فيه خبرٌ ولا إجماع".
2- الأصل براءة الذِّمة حتى يقوم دليلٌ على وجوب الزكاة فيه، ولا دليل على ذلك.
تنبيه: يُستثنى من ذلك إذا كان العسل عُروضَ تجارة، فهذه زكاتُه زكاة عُروض التجارة، فإذا قُدِّر أنَّ شخصًا يبيع ويشتري ويُتاجر في العسل، فهذا فيه زكاةٌ، ليس لأنَّه عسلاً، ولكن لأنَّه عروض تجارة.
المسألة الحادية عشرة: الركاز.
الرِّكاز: هو ما وُجِد من مدفون الجاهلية.
وعليه فليس كلُّ مدفون يُسمَّى ركازًا، بل لا بدَّ من أن يكون من دِفن - بكسر الدال؛ أي: مدفونهم - الجاهلية؛ أي: ما قبل الإسلام، كأن تكون عليه علاماتُ الجاهلية، كالنقود التي عليها علامة أنَّها قبل الإسلام، كتاريخ أو أسماء ملوكهم، وصورهم وصلبانهم وصور أصنامهم، ونحو ذلك.
- ولا يُشترط للرِّكاز نصاب يبلغه، ولا يُشترط مضيُّ الحول، وإنَّما يخرج الخمس أوَّلَ ما يحصل عليه؛ أي: ما يعادل 20%، لعدم الكُلفة في الحصول عليه.
ويدلُّ على ذلك: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبي  قال: ((وفي الرِّكاز الخُمس))؛ رواه البخاري (1499)، ومسلم (1710).
مسألة: اختلف في هذا الخُمس هل يُعتبر زكاة، أو فيئًا فيقسم كما يقسم الفيء؟ على قولين:
وهذا الخِلاف مبنيٌّ على (أل) التعريف في لفظة (الخمس) في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - هل هي لبيان الحقيقة، أو للعهد؟
القول الأول: أنَّ المقصود بالخمس زكاة الرِّكاز، وعليه فـ(أل) لبيان الحقيقة، وإذا اعتبرناها زكاةً، فهي أعلى ما يجب في الأموال الزكويَّة؛ لأنَّ غيرها إمَّا رُبع أو نِصف العشر، أو العُشر كاملاً، أو ما هو دون الخمس كالشَّاة في أربعين شاة، وإذا قلْنا: إنَّها زكاةٌ فلا تؤخذ من كافر؛ لأنَّ الزكاة لا تُقبل منه كما سبق.
وأيضًا لا يُشترط فيها نِصاب - كما تقدَّم - فتؤخذ في قليلِه وكثيره، وأيضًا تشمل كل ما هو من دِفن الجاهلية.
والقول الثاني: أنَّه فيء وليس زكاة، وبه قال جمهور العلماء، وهو قول المذهب، واختاره شيخُنا ابن عثيمين في "الممتع" (6/89).
وعليه تكون (أل) للعهد الذهني؛ يعني: الخمس المعهود في قول الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ [الأنفال: 41]، والمقصود به خمسُ الغنيمة الذي يكون فيئًا، والفيء هو ما يُؤخذ من الغنيمة، ويُصرَف في مصالِح المسلمين، فيُجعل في ميزانية الدولة العامَّة، وعليه فلا فرْق أن يكون واجدُه مسلمًا أو كافرًا، وهذا القول هو الأظهر - والله أعلم.
ويدلُّ على ذلك:
1- عموم حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - فليس فيه أنَّ الخمس زكاة.
2- ولأنَّه مالُ كافر وُجِد في الإسلام، فأشبه الغنيمة.
3- ولأنَّه يخالف المعهود في باب الزكاة، كونه ليس له نصابًا، ولا يشمل مالاً مُعيَّنًا، بل في كل مدفون الجاهلية، وكون القدرِ الواجب فيه - وهو الخمس - قدرًا عاليًا عن الأموال الزكويَّة الأخرى، وعليه فالرِّكاز يصرف في مصالح المسلمين، ولا يُشترط أن يصرف في أصناف الزَّكاة الثمانية.
- من وجد ركازًا ليس عليه علامةُ الكفر أو أنَّه من الجاهلية، فحكمُه حكم اللقطة، فيردَّه لصاحبه إنْ عَرَفه، وإلاَّ يعرِّفه سنةً، فإن جاء صاحبه وإلاَّ فهو له.
وعليه فإن الركاز لا يخلو من ثلاث أحوال:
الأولى: أن يكون عليه علامةُ الجاهلية، فهذا ركاز فيه الخمس.
الثانية: أن يكون عليه علامةُ الإسلام كآيةٍ أو حديث أو أسماء لملوك المسلمين، ونحو ذلك، فهذا حُكمُه حُكم اللُّقَطة.
الثالثة: ألاَّ يكون عليه علامةٌ، فحُكمه حُكم اللقطة أيضًا.
فائدة: اختلف في المعادن هل فيها زكاة؟
المعادن: هي ما يُستخرج من الأرض من الأشياء التي تكون فيها كالذَّهب والفِضة، والرصاص والنحاس، والحديد ونحوها.
فأمَّا الذهب والفضة، فبالاتفاق أنَّ فيهما زكاة، واختلف في الباقي:
والأظهر والله أعلم: أنَّ فيها زكاة، وبه قال جمهور العلماء، بل حَكَى النوويُّ في "المجموع" (6/75) الإجماعَ على ذلك.
ويدل على ذلك: عموم قوله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ﴾ [البقرة: 267].
قال القرطبي: "يعني النبات، والمعادن، والرِّكاز"؛ انظر "الجامع لأحكام القرآن" (3/321).
وجمهورُ العلماء أنَّ فيه ربعَ العشر قياسًا على النقدين الذَّهب والفضة؛ لأنهما معدنان.
وبناءً على ذلك قالوا: إنَّ نصاب المعادن نصابُ الذهب أو الفضة، فإذا أخرج من المعادن كالحديد مثلاً ما يساوي نصابَ الذَّهب 85 غرامًا، أو نصاب الفِضة 595 غرامًا، ففيه زكاة، فيخرج ربع العُشر، وهو قول المذهب.
 

باب زكاة النقدين

فيه سبع مسائل:
النقدان: مُثنَّى نَقْد، ونقد الشيء تمييزه وإظهار زيفه، وكشْف حاله؛ ولذا سُمِّي الذهب والفِضة بالنقدين، أو لأنَّ النقد هو الإعطاء، ومنقود؛ أي: مُعطى.
فالمراد بالنقدين الذَّهب والفِضة، ويدخل فيهما ما كان عوضًا عنها كالأوراق النقدية اليوم. المسألة الأولى:
 دلَّ على وجوب زكاة الذَّهب والفِضة الكتابُ والسُّنة والإجماع:
 فمِن الكتاب قوله - تعالى -: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [التوبة: 34].
ومن السُّنة حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله  قال: ((ما مِن صاحب ذهب ولا فِضة لا يؤدِّي منها حقَّها إلاَّ إذا كان يوم القيامة صُفِحت له صفائحُ من نار، فأُحْمِي عليها في نار جهنَّم، فيُكوى بها جنبُه وجبينُه وظهرُه، كلَّما بردت أُعيدتْ له في يومٍ كان مقدارُه خمسين ألف سَنَة، حتى يُقضَى بين العباد، فيرى سبيلَه إمَّا إلى الجنَّة، وإمَّا إلى النار))، وفي رواية: ((ما مِن صاحب كَنْز لا يؤدِّي زكاتَه إلاَّ أُحمي عليه في نار جهنم...))؛ رواه مسلم.
ونقل ابن المنذر الإجماع على ذلك في كتابه "الإجماع" (ص: 48).
المسألة الثانية:
 نصاب الذهب والفضة:
أولاً: نصاب الذهب: لم يصحَّ عن النبي  حديثٌ في تحديد نصاب الذهب، ولكنِ انعقد إجماعُ العلماء على أنَّ نصاب الذهب عشرون مثقالاً، ولا زكاة فيما دون ذلك، ونقل الإجماعَ على ذلك غيرُ واحد من السلف؛ [انظر الإجماع لابن المنذر (ص: 48)، وانظر التمهيد لابن عبدالبر (20/145)، وانظر شرح مسلم للنووي (7/53،49،48)، وانظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام (25/12)].
إذًا؛ دليل نصاب الذَّهب إجماع العلماء على أنَّ مَنْ عنده (20 مثقالاً)، ففيه زكاة، وخالف في ذلك الحسن البصري من السَّلف، فقال: أربعين - كما نقل ذلك ابن المنذر.
- كم تساوي العشرون مثقالاً؟ العلماء يُحدِّدون ويقدرون المثقال بحَبِّ الشعير، فيقولون بأن المثقال:72 حبَّة شعير معتدلة، لم تقشَّر، وقُطع من طرفيها ما دقَّ وطال.
واختلف في (72 حبة شعير) كما تساوي بالجرام؟ أي: إن المثقال الواحد كم يساوي جرامًا؟
فقيل: (3،5) جرامات، وعليه فنصاب الذهب 3،5×20=70جرامًا
وقيل (3،60) جرامًا، وعليه فنصاب الذهب 3،60×20=72جرامًا
وقيل): 4،25) جرامًا، وعليه فنصاب الذهب 4،25×20=85 جرامًا
وهذا القول الأخير هو اختيار الشيخ ابن عثيمين، وعليه فإنَّ 20 مثقالاً = 85 جرامًا من الذهب الخالص.
قال شيخُنا ابن عثيمين في "الممتع" (6/97): "وقد حررتُ نصاب الذهب فبلغ خمسة وثمانين جرامًا من الذهب الخالص"؛ [وانظر "كتاب الزكاة" (ص: 91) للدكتور عبدالله الطيار، و"فقه الزكاة" (1/260) للدكتور القرضاوي، فقد قدراه بـ (85) جرامًا].
إذًا مَن كان عنده (85) جرامًا من الذَّهب الخالص، فقد بلغ النِّصاب فعليه الزكاة، ومَن كان دون ذلك، فلا زكاة عليه، وهذا في الذهب الخالص الذي يُسمِّيه الناس اليوم (عيار 24)، وفي أيدي الناس من الذهب غير الخالص الذي يكون مخلوطًا بموادَّ إضافية كعيار (21)، وعيار (18)، وسيأتي أنَّ النِّصاب به يختلف.
ثانيًا: نصاب الفضة:
نصاب الفضة: مئتا درهم، ويدل على ذلك:
1- حديث أنس - رضي الله عنه - في كتاب أبي بكر، وفيه: "وفي الرِّقَة إذا بلغتْ مائتي درهم ربع العشر"؛ رواه البخاري، والرِّقَة: هي الفضة.
وهذا النِّصاب مقدَّر بالعدد (200) درهم، وهي تساوي بالوزن (خمس أواق).
لحديث أبي سعيد- رضي الله عنه - مرفوعًا: ((ليس فيما دون خمس أواقٍ من الوَرِق صدقة))؛ متفق عليه، والورق هو الفِضَّة.
2- انعقد الإجماعُ على أنَّ نصاب الفضَّة (200) درهم.
والمئتا درهم تساوي مائةَ وأربعين مثقالاً، وبه قال جمهورُ العلماء؛ لأنَّهم يَعتبرون بالوزن مستدلِّين بحديث أبي سعيد، وفيه: ((خمس أواق))، والأواق من آلات الوزن، وشيخ الإسلام يرى أنَّ العبرةَ بالعدد مستدلاًّ بحديث أنس - رضي الله عنه - وفيه ((مائتي درهم))، وهذا عدد.
- وكم تساوي المائة والأربعون مثقالاً؟
بناءً على أنَّ المثقال الواحد يساوي (4،25) جرامًا، فنصاب الفِضَّة 4،25×140= 595 جرامًا.
وهو اختيار شيخنا ابن عثيمين؛ [انظر "الممتع" (6/9) و"مجموع فتاواه" (18/93)، و"مجالس رمضان" (ص: 77)، وهو اختيار الدكتور القرضاوي في "فقه الزكاة" (1/260)].
إذًا مَن كان عنده (595) جرامًا من الفِضَّة، فقد بلغ النصاب، وعليه الزكاة، ومن كان دون ذلك فلا زكاةَ عليه.
ثالثًا: الأوراق النقدية:
الأوراق النقدية اليومَ من الرِّيالات والجنيهات وغيرهما من العملات التي تقوم مقامَ الذَّهب والفضة لا شكَّ أنَّ فيها زكاة؛ لأنَّ البدل له حُكم المبدل، ولكن الخلاف: هل تُقدَّر الأوراق النقدية بنصابِ الذَّهب أو بنصاب الفضَّة؟
فقيل: تقدر بنصاب الذهب.
والتعليل: لأن الذهب قيمة ثابتةٌ غالبًا، وعليه فمَن عنده مال يريد أن يعرف هل بلغ نصابًا أم لا؟ يسأل مَن يبيع الذهب كم يساوي غرام الذهب، فينظر هل ما عنده من الأوراق النقدية يبلغ قيمة (85) غرامًا من الذهب أم لا؟ فإن كان يبلغ فعليه زكاة، وإلاَّ فلا زكاةَ عليه.
وقيل: تُقدَّر بنصاب الفضَّة.
والتعليل: لأن نصاب الفضة مجمعٌ عليه وثابتٌ في السُّنة الصحيحة.
وعليه مَن كان عنده مال يريد أن يعرف هل بلغ نصابًا أم لا؛ ينظر كم يساوي غرام الفضة اليوم.
والأظهر والله أعلم: أنه يُنظر أيُّهما أحظُّ للفقراء، فيقدَّر النصاب به لأنَّه هو الأنفع للفقراء.
مثال ذلك: رجل عنده (600) ريال وسأل عن غرام الذهب فقيل له: إنَّ الغرام الواحد
يساوي (20ريال)، وسأل عن غرام الفِضة، فقيل له: إنَّ الغرام الواحد يساوي ريالاً واحدًا
فبتقدير الذهب يُساوي ما معه (30) غرامًا من الذهب، وبتقدير الفِضة يساوي (600) غرام فضة، فهو بتقدير الفِضة يُخرج زكاة، وبتقدير الذَّهب لا يُخرج.
والأحظُّ للفقراء اليوم الفضة، ولا سيِّما عندنا في المملكة - فغرام الذهب اليوم بستين ريال تقريبًا، ولو اعتبرنا نصابَ الذهب لكان فيه إضرارٌ بالفقراء، وعليه نقول 85×60=5100 ريال، فمن كان عنده دون (5100) فلا زكاة عليه، ولا شكَّ أنَّ في هذا إضرارًا بالفقراء.
ولو اعتبرناها بالفضَّة لكان أحظَّ لهم، ولوجبت الزكاة على أكبرِ عدد من المسلمين، ولو قُدِّر أنه في بلد من البلدان الأحظ للفقراء هو التقدير بالذهب لقُدِّر به.
فائدة: لا تجب الزَّكاة في الذَّهب والفضَّة عمومًا حتى يبلغ النصاب، فلو كان الذهب أو الفضة مخلوطين بغيرهما كنُحاس أو جواهرَ ولآلئ، فإنَّها لا تحتسب في تكميل النِّصاب، سواء كان مغشوشين أو خُلطَا عمدًا، فلا بدَّ أن يكون خالصَين من الشوائب في بلوغ النصاب، وعليه فإنَّ الذهب الموجود في أيدي الناس اليوم يختلف باختلاف عياره، فالذهب الخالص هو ما كان عياره (24)، وما كان دون ذلك في عياره فهو مخلوط، وكلَّما قلَّ عياره فهو يعني كثرةَ المواد المضافة، وهذه الموادُّ المضافة لا يصحُّ اعتبارها من جملة نصاب الذهب، ولا بدَّ من مراعاة ذلك عند الفتوى، فإذًا سيختلف النصاب باختلاف عياره تبعًا للعمليات الحسابية التالية:
1- ما كان عياره (24) 85 x 24 ÷ 24 = 85 غرامًا، وهذا هو نِصاب الذهب الخالص الذي عليه تجري المسائل.
2- ما كان عياره (21) 85 x 24 ÷ 21 = 97.14 غرامًا، فهذا هو النِّصاب المعتبر في الذهب إذا كان عيارُه (21).
3- ما كان عياره (18) 85 x 24 ÷ 18 = 113.33 غرامًا.
4- ما كان عياره (16) 85 x 24 ÷ 16 = 127.5 غرامًا.
وهكذا في حساب كلِّ ذهب إذا اختلف عيارُه على الطريقة السابقة؛ انظر "فقه زكاة الحلي" للصبيحي (ص: 24 - 25).
قال النووي في "المجموع" (5/467): "إذا كان له ذهبٌ أو فضة مغشوشة، فلا زكاةَ فيها حتى يبلغ خالصُها نصابًا".
المسألة الثالثة: القدر الواجب في زكاة الذهب والفضة:
مَن كان عنده من الذَّهب ما يبلغ (85 غرامًا) فأكثر، ومن الفضة (595 غرامًا) فأكثر، فإنَّه يخرج القدرَ الواجب في الزكاة، وهو رُبع العُشْر وهذا بإجماع العلماء؛ [انظر شرح النووي لصحيح مسلم (7/54)، وانظر السلسبيل للبليهي (1/293)].
ولحديث أنس - رضي الله عنه - في كتاب أبي بكر وفيه: "وفي الرِّقَة ربع العُشر"؛ رواه البخاري.
وربع العشر هو ما يساوي (2.5) بالمائة يقسم ما عنده على مائة، ثم يضربه في (2.5)، وأسهل منه طريقة، أن يقسم ما عنده من المال الزكويِّ على أربعين، وما خرج فهو القدرُ الواجب إخراجُه في الزكاة.
وكذلك الأوراقُ النقدية فالواجبُ فيها رُبُع العُشْر، فيقسم ما عنده من مال على أربعين، وذلك بعدَما ينظر هل بلغ ما عنده من المال النصابَ أم لا؟ على ما سبق بيانُه.
فإذا قلنا: إنَّ الأحظَّ للفقراء أن يقدَّر المال بنِصاب الفضَّة - كما هو معروف عندنا في المملكة، وربَّما في غالب البلدان - يكون حسابُ زكاة الأموال النقديَّة على خطوتين:
الخطوة الأولى: أن يستخرجَ نِصابَ المال.
فيسأل عن جِرام الفضَّة يسأل الصيارفةَ أو أصحابَ محلاَّتِ الذهب، فيقول: كم يُساوي جرام الفضَّة هذا اليوم؟ ثم يضرب العددَ الذي يقوله الصيارفةُ في نصاب الفضَّة (595)، والناتج من ذلك هو نِصاب المال الذي تَجبُ فيه الزكاة.
مثال ذلك: لو قيل له: إنَّ الغرام من الفضَّة يساوي نصفَ ريال، يكون الحساب كالآتي:
نصف ريال ×595=297،5ريالاً، فهذا هو النِّصاب، فمَن عنده هذا المال، فعليه زكاةٌ، ومن كان دون ذلك، فلا زكاةَ عليه.
مثال آخر: لو قيل له: إنَّ الغرام من الفضة يساوي ريالين، يكون الحساب كالآتي:
2×595=1190، فمَن كان عنده هذا المال، فعليه الزكاةُ، وإلاَّ فلا زكاةَ عليه.
الخطوة الثانية: أن يُخرِج رُبُع العُشْر:
وذلك بعدَما يتحقَّق أنَّ ما معه من المال بَلَغ النِّصاب، عندها يُخرِج المقدارَ الواجب في الزكاة، وهو رُبُع العُشْر ما يساوي (2.5) بالمائة، وتقدَّم أنَّ أسهل طريقةٍ أن يَقسِم ما معه من المال على أربعين.
مثال ذلك: رجلٌ عندَه عشرة آلاف يُريد أن يخرج زكاتَها، فلو فرضْنا أنَّ عشرة آلاف تبلغ النِّصاب، يكون الحساب كالآتي:
10000÷40= (250ريال) هذه قيمة زكاته.
المسألة الرابعة: هل يضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب؟
المذهب: أنَّه يُضمُّ نصابُ الذهب إلى الفضة، ونصابُ الفضة إلى الذهب في تكميل النِّصاب.
والتعليل: لأنَّ مقصود الذهب والفضة واحدٌ، فكلُّ واحد منهما يُقصد به الشراءُ، فهما قيمة للأشياء، فيُكمِّل أحدُهما نِصابَ الآخَر.
مثال ذلك: لو أنَّ عندك نصفَ نصاب الذهب (عشرة مثاقيل)، وهي تساوي مائة دِرهم مثلاً، وعندك نصف نصاب الفضَّة (مائة درهم)، لوجبتْ عليك الزكاة على قول المذهب؛ لأنَّه يُضمُّ أحدُهما إلى الآخَر، وبِضمِّهما يكون عنده مائتا درهم.
والقول الثاني: أنه لا يُضم أحدُهما إلى الآخر، وهو القول الراجح، والله أعلم.
ويدلُّ على ذلك:
1- حديثُ أبي سعيد - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((ليس فيما دون خمسة أواق صدقة)).
ووجه الدلالة: أنَّ مَنْ عنده دون الخمس أواق من الفضَّة، فليس عليه زكاةٌ، سواء كان عندَه من الذهب ما يكمل به أو لا؛ لأنَّ الحديث عامٌّ فيمَن عندَه ما يكمل به، ومَن ليس عنده.
وكذا يُقال في العكس لو نقص نِصابُ الذهب، فإنَّه لا يكمل به من الفضَّة.
2- أنَّه يجوز التفاضلُ عند مبادلتهما إذا كان يدًا بيد، ممَّا يدلُّ على أنَّهما جِنسان مختلفان؛ إذ لو كانا جنسًا واحدًا لَمَا جاز التفاضُل بينهما؛ أي: زيادة أحدهما على الآخر، عندَ المبادلة؛ لأنَّه يُعتبر رِبًا، ويدلُّ على جواز التفاضل حديثُ عُبادةَ بن الصامت - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((الذهبُ بالذهب، والفضَّة بالفضة.... فإذا اختلفتْ هذه الأجناسُ، فبِيعوا كيف شِئتم إذا كان يدًا بيد))؛ رواه مسلم (1587).
3- التعليل بأنَّ المقصود من الذهب والفضة واحد، تعليلٌ لا يجعل المالَين مالاً واحدًا، فهذا البُرُّ لا يُضم إلى الشَّعير، مع أنَّ مقصودهما واحد، وهو القوت، فكذلك يُقال في الذهب والفِضَّة، فلا يُضمُّ أحدُهما إلى الآخر.
مسألة: تضمُّ قيمة عروض التجارة إلى الذهب أو إلى الفضة:
مثال ذلك: رجلٌ عنده نصف نصاب الفضَّة (مائة درهم)، وعنده عُروض تجارة - محلاَّت أقمشة أو مواد غذائية مثلاً - وأخرج قيمتَها فإذا هي تساوي (مائة درهم)، فهنا نضمُّ قيمةَ عروض التِّجارة إلى نِصاب الفضَّة، ونخرج زكاته.
مثال آخر: رجل عنده (50 غرامًا) من الذهب، وعنده محلٌّ تجاري فيه ما يساوي (35) غرامًا من الذهب، فهنا نضم قيمةَ عروض التجارة إلى نِصاب الذهب، ونُخرج زكاته.
وهذا قول المذهب، بل لا خِلافَ بين أهل العِلم في ذلك، قال ابن قدامة في "المغني" (4/210): "لا أعلم فيه خلافًا"؛ أي: لا خلافَ في ضمِّ قيمة عروض التجارة إلى نصاب الذهب أو الفضة.
والتعليل: لأنَّ قيمة عروض التجارة تُقدَّر بنصاب الذهب أو الفضة حسبَ الأحظِّ للفقراء، كما تقدَّم في حساب الأوراق النقدية، فلمَّا كانت قيمة عروض التجارة تُقدَّر بنصاب الذهب أو الفضة صارتْ مع أحدهما كالجنس الواحد.
المسألة الخامسة: ما يُباح للرجل من التحلي بالذهب والفضة:
وفائدة ذِكْر هذه المسألة في كتاب الزكاة تَعلُّقُها بمسألة زكاة الحليِّ المستعمل، فإذا عَرَف الرجل، وكذلك المرأةُ ما يُباح لهما من التحلِّي، واقتنيا الذهبَ والفضَّة، فإنَّ هناك مسألةً تترتَّب على ذلك، وهي زكاةُ هذا الذهب والفضة.
القسم الأول: ما يُباح للرِّجال من الذهب والفضَّة.
أولاً: ما يُباح للرِّجال من الفضَّة.
المذهب: أنَّه يُباح للرجل من الفضَّة عدَّةُ أمور منها: ما ذكره صاحب الزاد، وهي:
أ‌-    الخاتم: وهذا جائز بإجماع العُلماء كما نقله النووي في "المجموع" (4/444)، وشيخ الإسلام في "الفتاوى" (25/63)، ويدلُّ على ذلك حديثُ ابن عمر: "أنَّ النبي  اتَّخذ خاتمًا من وَرِق"؛ رواه البخاري (7/51)، ومسلم (54، 55)،
ب‌-    وغيرهما، والوَرِق: بكسر الراء، وقد تُسكَّن، وهي الفضَّة؛ انظر: "النهاية" مادة: ورق.
فائدة: اشترط بعضُهم - ومنهم الكاساني من الحنفية - ألاَّ يزيدَ وزن الفضَّة في الخاتم عن مثقال، فإن زاد فهو مُحرَّم، مستدلاًّ بحديث بُريدةَ مرفوعًا: ((اتَّخِذْه من ورق، ولا تُتمَّه مثقالاً))؛ والحديث رواه أبو داود، والترمذي وضعفه، في سنده عبدالله بن مسلم، قال عنه أبو حاتم: يُكتب حديثُه، ولا يُحتجُّ به؛ انظر: "تهذيب السنن" للخطابي (6/115)، والصواب: أنَّه لا يُشترط ذلك.
ب- قبيعة السيف: القبيعة: هي المِقْبَض، والتحليةُ بالفضَّة تكون في طَرَف مقبض السيف.
ج- حلية المِنْطَقة: وهي ما يُشدُّ في الوسط مِن حزام ونحوه، ويُسمَّى (الحياصة)، فيجوز للرَّجل أن يُزيِّن المنطقة بالفضَّة.
هذا ما ذَكَره صاحبُ الزاد، ويُضاف إليها على قول المذهب من الآلات السَّيف والرمح وأطراف السهام والدروع والخوذة - وهي ما يجعله المحارِب على رأسه ليَقيَه - والران - وهي شيء يُلبس تحتَ الخفِّ كالخف - ونحوها.
واستدلوا:
- بحديثِ ابن عمرَ المتقدِّم في اتخاذ النبي  خاتمًا مِن وَرِق.
- تحلية بعض الصحابة سيوفَهم بالفضَّة، منهم عمر بن الخطَّاب- رضي الله عنه - كما جاء في مصنَّف عبدالرزاق (9665)، وابن أبي شيبة (5235)، والبيهقي (4/143): "أنَّ ابن عمر - رضي الله عنه - قال: "إنَّ سَيفَ عمر بن الخطاب كان محلًّى بالفضَّة".
وأيضًا ما رواه البخاري: أنَّ عروة بن الزبير قال: "كان سيفُ الزُّبير محلًّى بفضَّة"، قال هشام بن عروة: "وكان سيف عروةَ محلًّى بفضَّة".
- ولِمَا في تحلية آلات الحرْب من إغاظة للأعداء؛ ولذلك جاز لبسُ الحرير والخيلاء في الحرْب، وكلُّ شيء فيه إغاظة الأعداء فإنَّه عملٌ صالح، وفيه ثواب قال – تعالى - ﴿وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ﴾ [التوبة: 120].
والقول الثاني: أنَّ الفضَّة مباحة للرَّجل مطلقً،ا لا تختصُّ بأشياء معيَّنة، سواء كانتِ الفضَّة قليلة أو كثيرة، من دون إسراف، ولا تشبُّه بالنِّساء، كالسوار والقِلادة، فإنَّه حينئذٍ حرام لعِلَّة التشبُّه.
وهذا القول روايةٌ عن الإمام أحمد، واختاره شيخُ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (21/87)، وابن حزم في "المحلىَّ" (10/86)، والصنعاني في "سبل السلام" (1/28)، والشوكاني في "السيل الجرار" (4/121،) وشيخنا ابن عثيمين في "الممتع" (6/107).
واستدلوا:
1- بما استدلَّ به أصحابُ القول الأول من اتِّخاذ النبي  خاتمًا من وَرِق، كما في حديث ابن عمر، وبتحلية بعضِ الصحابة سيوفَهم بالفضة كما سبق.
ووجه الدلالة: أنَّ النبي  أباح الفضَّة مفردةً كالخاتم، أو تابعةً لغيرها كحلية السيف، فيُباح ما في معنى هذه الأشياء.
2 - حديث أم سلمة: "أنَّها اتَّخذت جُلْجُلاً من فضَّة فيه شَعرٌ من شَعْر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم"؛ رواه البخاري.
والجُلْجُل: هو الإناء الصغير.
3- عدم وجودِ نصٍّ صحيح صريح في تحريم لِباس الفضَّة على الرِّجال، بل ورد نصٌّ يدلُّ على أنَّ الأصلَ فيه الحِلُّ والجواز، وهو حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها لعبًا))؛ رواه أحمد، وأبو داود، وقال المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/273): "إسناده صحيح".
وهذا القول هو الراجح - والله أعلم - وأنَّه يجوز للرجل الفضَّة مطلقًا، إلاَّ أن يكون في ذلك إسرافٌ أو تشبُّه بالنِّساء أو الكفرة، فالفضة للرِّجال الأصلُ فيها الجواز مطلقًا، فيجوز للرجل لبسُ الخاتم أو الساعة، أو النظَّارات، ونحوها من الفضَّة على القول الراجح.
وأمَّا المذهب: فاستدلوا بتحريم ذلك بأنَّه وَردَ تحريم الأكْل والشُّرْب في آنية الفضَّة والذهب، فحرم لبسهما.
ونوقش هذا الاستدلال: بأنَّ باب اللِّباس أوسع من باب الآنية، وقد ورد حديثُ حذيفة المتفق عليه في تحريم الأكْل والشرب في آنية الذهب والفضة، وهذا في باب الآنية، وأمَّا باب اللِّباس فأوسع، ووجه ذلك أن التحلِّي بالذهب والفَّضة للنِّساء جائزٌ باتِّفاق العلماء، وكذا الفضَّة للرِّجال، فهي مباحة لعدمِ الدَّليل على التحريم، والتخصيصُ ببعض الأشياء كالتي في قول المذهب تخصيصٌ يحتاج إلى دليل، ولا دليلَ على ذلك، وأمَّا الذهب للرِّجال، فسيأتي الحديث عنه.
- فوائد في التختم بالفضة:
1- أن الأصل في التختم أنه جائز - كما سبق - وسُئل الإمام أحمد - كما في مسائل أبي داود - عن لبس الخاتم؟ فقال: "ليس به بأس، ولكن لا فضْل فيه" .
2- يُسن لبس الخاتم عند الحاجة إليه، كما فعل النبي  ويدل على ذلك حديث أنس - رضي الله عنه - وفيه: "أنَّ الملوكَ لا يقبلون إلا كتابًا مختومًا، فاتَّخذَ النبي  خاتمًا من فضة" .
3- الأفْضل أن يجعل فصُّ الخاتم مما يلي باطن الكف؛ ويدل على ذلك: حديث أنس - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله  لبس خاتم فضة في يمينه، فيه فصٌّ حبشي، كان يجعل فصه مما يلي كفه" .
4- يَجُوز أن يجعل الخاتم في يمينه أو يساره، فكلاهما وارِدٌ عن النبي  ويدل على اليمين حديث أنس - رضي الله عنه - السابق، وأما اليسار فقد جاء في حديث أنس - رضي الله عنه - أيضًا قال: كان خاتم النبي  في هذه، وأشار إلى الخنصر من يده اليُسرى" .
قال الألباني في "الإرواء": "وجُملة القول: إنه صحَّ عنه  التختُّم باليمين واليسار، فيحمل أنه  كان يفعل هذا تارة، وهذا تارة" .
5- أين يوضع الخاتم؟
الأفضل في الخنصر، ويكره في الوسطى والسبابة، ويباح في الإبهام والبنصر.
ويدل على أفضلية وضعه في الخنصر: حديث أنس المتقدِّم، ويدل على كراهة الوسطى والسبابة حديث علي: "نهاني رسول الله  أن أتختم في أصبعي هذه أو هذه، قال: فأومأ إلى الوسطى والتي تليها" ، وما بقي فالأصل فيه الإباحة، وهما الإبهام والبنصر.
وذكر ابن رجب عن طائفة من العلماء: أن الكراهة للرجال دون النساء .
6- لا يجوز لبس الدِّبلة، وهي عبارة عن خاتم يلبسه الزوجان بعد الخطوبة أو عقد القَرَان.
فلا يَجُوز لأمْرَيْن:
أ- لأنَّ فيه تشبُّهًا بالنصارى.
ب - لما فيها من اعتقادات باطلة، كأن يعتقد أنها من أسباب التآلُف والمحبَّة بين الزَّوْجَيْن، وهذا نوع من الشِّرك؛ لأنه بهذا جعل هذا الشيء سببًا للتآلُف والمحبة، ولم يثبت أنه سبب، لا شرعًا ولا حسًّا، ومن تَعَلَّق شيئًا وُكِلَ إليه، وربما صحب ذلك أحكام باطلة، كأن يعتقد أنه لو خلع الخاتم لفسخ النكاح بين الزوجين، فإن سلم المسلم من الأمر الثاني، فهو محرَّم للأمر الأول، وهو التشبُّه.
فائدة: الصحيح جواز التختُّم بالحديد للرجال؛ لحديث سهل بن سعد الساعدي: أنَّ النبي  قال: ((التمسْ ولو خاتمًا من حديد)) ، ولعدم الدليل الصحيح في النهْي عن ذلك .
ثانيًا: ما يُباح للرِّجال منَ الذهَب:
المذهب: وهو ما ذكره صاحب "الزاد": أنه يباح للرجال من الذهب أمران:
الأول: قبيعة السيف؛ ويدل على ذلك:
1-تحلية بعض الصحابة سيوفهم بذلك؛ منهم: سهل بن حُنَيْف، كما جاء في "مصنف ابن أبي شيبة": أن عثمان بن حكيم بن عباد بن حنيف، قال: "رأيت في قائم سيف سهل بن حُنَيْف مسمارًا من ذهب" .
2-لما في تحلية آلات الحرب من إغاظة للأعداء، وبيان ما للمسلمين من قدرة مالية فيغيظهم ذلك.
الثاني: ما دعت الضرورة لوضعه كأنف من ذهب، أوسن، أو رباط أسنان، ونحوها.
ويدل على ذلك:
1-أن عرفجة بن أسعد قُطع أنفه يوم الكلاب، فاتخذ أنفًا من فضة، فأنتن عليهم، فأمره النبي  فاتخذ أنفًا من ذهب .
2- ما ورد عن بعْض السلَف: أنهم شدوا أسنانهم بالذهب .
3- النصوص العامة التي تدل على رفْع الحَرَج، وأنَّ الضرورات تُبيح المحْظُورات.
هذا ما ذكره المذهب، وهو الصواب - والله أعلم - ويُضاف إلى ذلك، فيقال: إنَّ الذَّهَب للرجال على أقسام:
1- قبيعة السيف، وما فيه إغاظة للأعداء، فهذا جائز - كما تقدَّم.
2- ما دعتْ إليه الضرورة، وهذا جائز بلا خلاف.
3- وما سوى ذلك فهو محرَّم باتِّفاق العلماء، فلا يَجُوز للرجُل لبس الذَّهَب.
ويدل على ذلك:
أ-حديث ابن عباس - رضي الله عنه -: أن النبي  رأى رجلاً عليه خاتم من ذهب، فنزعه من يده وطرحه، وقال: ((يعمد أحدكم إلى جمرة من نار، فيضعها في يده)) .
ب- حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: أنَّ النبي  قال: ((أُحِلَّ الذهب والحرير لإناث أمتي، وحُرِّمَ على ذكورها)) .
- واختلَفَ العلماء في اليسير من الذهب إذا كان تابعًا لغيره، (كأن يكون خاتم فضة فيه يسير من ذهب، أو ساعة أو نظارة فيها يسير من ذهب، أو ثوب فيه خيط من ذهب ونحوه مما كان يسيرًا لكنه تابعٌ لغيره، اختلفوا في ذلك:
القول الأول: أنه محرم، ولو كان يسيرًا تابعًا، وبه قال جمهور العلماء، خلافًا للأحناف.
واستدلوا:
1- بحديثي ابن عباس وأبي موسى السابقين.
ونوقِش هذا الاستدلال: بأن هذين دليلان على ما كان ذهبًا على وجه الانفراد لا تابعًا لغيره.
2- حديث أسماء بنت يزيد: أنَّ النبي  قال: ((لا يصلح من الذهب شيء ولا بصيصة)) ، وبصيصة: أي بَريقًا أو لَمَعانًا.
والقول الثاني: أنه يَجُوز الذهب اليسير التابع، كما يجوز الحرير اليسير التابع أقل من أربعة أصابع كما تقدم في أول كتاب الصلاة، فقالوا: يجوز الذهب اليسير التابع إذا كان أربعة أصابع فأقل، وهذا القول لأبي حنيفة، وهو رواية في المذهب، واختارَهُ شيخ الإسلام ابن تيميَّة.
واستدلوا:
1- بحديث معاوية - رضي الله عنه -: أن رسول الله  نهى عن لبس الذهب إلا مقطعًا ، والمقطع: الشيء اليسير.
2- حديث المسْوَر بن مخرمة، وفيه: "فخرج - أي: رسول الله  وعليه قباء من ديباج مزرر بالذهب" .
وهذا الحديثُ قويُّ الدلالة على أنَّ اليسيرَ التابع منَ الذهب مُباح، كالزر في الثوب، وهذا القول هو الأظهر، والله أعلم، وحديث المسور بن مخرمة مُخَصص للأدلة العامة في تحريم الذهب على الرجال.
القسم الثاني: ما يُباح للنِّساء من الذهب والفضة:
يجوز للمرأة أن تلبسَ الذهَب والفضة باتِّفاق العلماء؛ ولحديث أبي موسى - رضي الله عنه - المتقدِّم: ((أُحلَّ الذهَب والحرير لإناث أمتي، وحُرِّم على ذكورها))، فتلبس المرأة ما جرت العادة بلبسه؛ كالقلادة، والخاتم، والسوار، والخلخال، وغيرها مما تلبسه النساء، ولو كان الذهب كثيرًا ما لم يصلْ ذلك إلى حد الإسراف.
المسألة السادسة: حكم زكاة الحلي المستعمَل:
وسواء استعملت المرأة الذهَب بنفسها، أو استعمل الذهب الذي لها غيرُها بأن أعارتْه لغيرها، فهذا كله يسمَّى استعمالاً، فهل تجب الزكاة في الحلي المستعمل ؟
القول الأول: وجوب الزكاة في الحلي المستعمل إذا بلغ نصابًا.
وهذا ما أفتى به ابن مسعود، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، ورواية عن أحمد ، واختاره الثوري والأوزاعي وابن حزم في "المحلى" ، ومنَ المتأخِّرين الصَّنْعاني في "سُبُل السلام" ، والشيخ ابن باز وشيخنا ابن عثيمين في مجموع فتاواه ، واستدلوا بأدلة عامة وأدلة خاصة:
- أدلتهم العامة:
1- عموم قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [التوبة: 34].
2- وعموم قول النبي  في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند مسلم: ((ما من صاحب ذهبٍ ولا فضةٍ، لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نارٍ، فأحمي عليها في نار جهنّم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنةٍ، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله، إمَّا إلى الجنَّة، وإمَّا إلى النَّار))، قيل: يا رسول اللّه، فالإبل؟ قال: ((ولا صاحب إبلٍ لا يؤدِّي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها... الحديث)).
ووجه الدلالة: أن عموم الآية والحديث يوجب الزكاة في جميع أنواع الذهب والفضة إذا بلغت نصابًا، ومن ذلك زكاة الحلي، ومَن قال بخروج الحلي المباح من هذا العموم، فليأتِ بالدليل، وأن المراد بالكنْز في الآية هو ما لم تؤد زكاته، وهذا مرويٌّ عن ابن عمر وجابر وغيرهما.
ونوقِشَ هذا الاستدلال بما يلي:-
أولاً: الآية لا تدل على وُجُوب زكاة الحلي المستعمل لأربعة وجوه:
1 - أنَّ هذه الآية لها منطوق ومفهوم، فمنطوقها يدل على تحريم اكتناز الذهب والفضة إذا لم تؤدَّ زكاتهما، ومفهومها يدل على أن الأشياء التي لا تعد كنزًا ليست مقصودة في هذه الآية، فلا يجب إنفاق شيء منها، وما أُعدَّ للُّبس والاستعمال؛ كالحلي، والخاتم، والأنف، وغيرها، لا تُعدُّ كنْزًا لا لغة ولا شرعًا؛ لأنها خرجتْ بالاستعمال عن كونِها كنْزًا.
2- أنَّ المراد بالمكْنوز من الذهب والفضة في الآية الدراهم والدنانير للأثر والنظر.
فأما الأثر: فإنَّ هذا التفسير هو المنْقول عن ابن مسعود - رضي الله عنه  - وأما النظر فلأن النقود هي التي تكنز وتنفق، وأما الحلي المستعمل فليس معدًّا للإنفاق، بل هو معدٌّ للزينة، والله - عز وجل - يقول ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [التوبة: 34].
3 - أن إدخال الحلي المستعمَل من الذهب في عموم الآية؛ لأنه كنز لم تؤدَّ زكاتُه؛ استدلالاً بقول ابن عمر وجابر - رضي الله عنهما - لا يصلح أن يكون حجة؛ لأنهما ممن يذهب إلى القول بعدم وجوبهما كما سيأتي، وهما أعلم الناس بدلالة قولهما، وهذا يدل على أنهما لا يقصدان دخول الحلي المستعمل في الكنز المراد بالآية، وإلاَّ لكان في رأيهما تناقُض، والأولى أن يقال: قولهما في تفسير الكنز في الآية عام، وفتياهما بعدم وجوب زكاة الحلي خاص، والخاص مقدَّم على العام.
4 - لو قلنا بالاستدلال بعُمُوم الآية على وجوب زكاة الحلي، فإنَّ هذا العُمُوم مخصوص بعَمَل جَمْع من الصحابة، وفتاواهم بعدم وجوب زكاة الحلي المستعمل، وهم أقرب الناس للتنزيل والأعلم بالتأويل، ولو كان الاستدلال صريحًا، أو فيه ما يدل على وجوب زكاة الحلي المستعمل، لما خالفوه بأعمالهم وأقوالهم، مما يدل على أنَّ الآية لا تكون دليلاً على وُجُوب زكاة الحلي المستعمَل.
ثانيًا: استدلالهم بعموم حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - غير متَّجه أيضًا لما يلي:
1 - أنَّ قوله : ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها... ))، الحق المطلوب تأديته في الحديث حق مُجمَل، والمجمل لا يجوز العمل به قبل بيانه، كما هو مُقَرَّر في القواعد الأصولية، وحينما نبحث عن بيان لما يجب إخراجه من زكاة الحلي المستعمل، لا نجد في السُّنَّةِ ما يُبَيِّن ذلك، والوارد في السُّنَّةِ مقدار ما يتعلَّق بالأثمان من الذهب (وهي الدنانير)، والفضة (وهي الورق)، والرِّقَة والدراهم، وأما الحلي فهو خارج عن هذا البيان؛ بدليل التفريق في الاتِّخاذ، فالحلي اتخذ للزينة والتحلِّي، لا للثمينة كما في أصْل الذهَب والفضة، إذًا الحلي خرجت هذا الأصل، وهذا التفريق جاءت به الشريعة من وجه آخر؛ حيث أبيح للرِّجال والنساء امتلاك الذهب والفضة بنيَّة الثمنية، أما امتلاكهما بنية الزينة، فيباح للنساء دون الرجال؛ لأنها خرجت من أصل الثمنية إلى أصل الألبسة والتحلي.
2 - أن هذا الحديث جاء فيه ذكر وجوب الحق في الإبل والبقر والغَنَم، والموجبون لزكاة الحلي لا يقولون بعموم الزكاة في الإبل، والبقر، والغنم، فهم يفرِّقون بين السائمة بأنها تجب فيها الزكاة، وبين المعلوفة بأنها لا تجب فيها الزكاة، فهم لا يقولون بوجوب الزكاة مطلقًا في الإبل والبقر والغنم، مع أن عموم الحديث يفيده؛ حيث لم يَرِد التفريق فيه، وكذلك يُقال في الذهَب والفضة، فلا يُقال بعموم الزكاة فيهما مطلقًا؛ استدلالاً بحديث أبي هريرة، فعمومه لا يصلح للاستدلال بوجوب الزكاة في كل ذهب وفضة، بما في ذلك الحلي، كما أن عموم الحديث لا يصلح للاستدلال بوجوب الزكاة في كل إبل وبقر وغنم.
3 - أنه ورد في الحديث بيان لحق من حقوق الإبل؛ فقال النبي : ((ومن حقها حلبها يوم وردها))، وفي حديث جابر عند مسلم قال في حق الإبل والبقر والغنم: ((إطراق فحلها وإعارة دلوها، ومنيحتها وحلبها على الماء، وحَمْل عليها في سبيل الله))، وهذا يدل على أن مفهوم الحق المراد في الحديث أعم من الزكاة المفروضة، بدلالة ما ورد في الحديث من الأشياء التي لا علاقة لها بالزكاة، وكذا يُقال في الذهب والفضة، فالحق المراد فيهما أعم من الزكاة، وليس فقط الزكاة، والتفريق بين الحقَّيْن يحتاج إلى دليل.
4 - لو قُلنا بالاستدلال بعُمُوم حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - على وُجُوب زكاة الحلي، فإن هذا العموم دخله التخصيص الذي دخل عموم الآية كما تقدَّم.
- أدلتهم الخاصَّة:
1 - حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخل عليَّ رسول الله  فرأى في يدي فتخات من ورق، فقال: ((ما هذا يا عائشة؟))، فقلت: صنعتهن لأتزين بهن يا رسول الله، قال: ((أفتؤدين زكاتهن؟))، فقلت: لا، فقال: ((هن حسبك من النار))؛ رواه أبو داود، والحاكم وصَحَّحَه.
2 - حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن امرأة أتت النبي  ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مَسكتان من ذهب، فقال لها: ((أتعطين زكاة هذا؟))، قالت: لا، قال: ((أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟)) فألقتهما؛ رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وقال ابن حجر في البلوغ: إسناده قوي.
3 - حديث أم سلمة - رضي الله عنها -: أنها كانت تلبس أوضاحًا من ذهب، فقالت: يا رسول الله، أكنز هو؟ فقال: ((إذا أديت زكاته، فليس بكنز))، رواه أبو داود، والدارقطني، والحاكم .
وجه الدلالة: أن هذه الأحاديث نص في وجوب زكاة الحلي إذا كان معدًّا للاستعمال، والاستدلال بها ظاهر الدلالة، فوجب المصير لهذا الحكم.
ونوقشت هذه الأحاديث بمناقشتين:
الأولى: نوقِشَتْ في سندها: حيث تكلَّم في إسنادها بعض العلماء - وهم جبال في الحديث - وقالوا: هي أحاديث لا تقوم بها حجة، وممن ضعفها وذكر أنه لا يصح في هذا الباب شيء، الشافعي في "المجموع" ، والترمذي في "جامعه" ، وابن العربي في "أحكام القرآن"، وابن حزْم في "المحلى" ، وابن رجب في "أحكام الخواتم" ، وابن الجوزي في "تنقيح التحقيق" ، وأبو حفص عمر الموصلي في "جنه المرتاب" ، وغيرهم .
الثانية: نوقِشَتْ هذه الأحاديث في متنها على القول بصحة سندها بما يلي:
1- أنَّ ما ذُكر في الأحاديث السابقة من المسكتين، وهما: السوران، والفتخان، والأوضاح، لا يبلغ النصاب كما نص على هذا الصنعاني في "سبل السلام" ، وتقدَّم أن نصاب الذهب (85) غرامًا.
2- أن هذه الأحاديث مجملة، فلم يأتِ فيها مقدار الزكاة الواجب إخراجه.
3 - ليس في الأحاديث اشتراط النِّصاب، فالنبي  لم يستفسر عن بلوغ النصاب.
4 - ليس في الأحاديث اشتراط مضي الحول، فالنبي  ألزم بالزكاة ولم يستفسر عن مضي الحول.
5- في حديث أم سلمة - رضي الله عنها - إشكالٌ في قوله: ((أوضاحًا من ذهب)) من حيث اللغة، فالأوضاح إنما هي نوع من أنواع حلي الفضة، وسميت بذلك لبياضها كما ذكر ابن الأثير في "النهاية".
والقول الثاني وهو قول المذهب: عدم وجوب الزكاة في الحلي المستعمل، وهذا قول جمهور علماء المسلمين من الصحابة والتابعين، فهو ثابت عن سبعة من الصحابة: جابر بن عبدالله، وعبدالله بن عمر، وأنس، وعبدالله بن مسعود، وعائشة، وأختها أسماء، وأسماء بنت عميس ، قال الإمام أحمد في رواية الأثرم: "فيه عن خمسة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم"، وليس لهذا الجمع من الصحابة مخالف إلا ما رُوي عن ابن مسعود في قول آخر له قال عنه الحافظ في "الدارية" : إسناده ضعيف جدًّا، وكذا رويت آثار أخرى لا تخلو من مقال.
قال الحسن البصري: "لا نعلم أحدًا من الخلفاء قال في الحلي زكاة"، وقال يحيى بن سعيد: سألت عمرة عن زكاة الحلي فقالت: "ما رأيتُ أحدًا يزكيه"، والأثران رواهما ابن أبي شيبة في المصنف ، وهو قول جمهور العلماء من الأئمة، فهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة، وهو قول ابن خزيمة في "صحيحه" ، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى" ، وابن القيم في "إعلام الموقعين" ، واختار هذا القول من المتأخرين الشيخ محمد بن عبدالوهاب في مؤلفاته في الفقه ، والشوكاني في "السيل الجرار" ، والشيخ محمد بن إبراهيم في فتاويه ، والشيخ عبدالله بن حميد، والشيخ السعدي، والبسام، وصالح الفوزان، وابن جبرين، وغيرهم.
واستدلوا بـ:
1- حديث زينب امرأة ابن مسعود، قالت: كنت في المسجد فرأيت النبي  فقال: ((تصدقن ولو من حليكن))؛ رواه البخاري.
ووجه الدلالة: قال ابن العربي في "عارضة الأحوذي" : "هذا الحديث الذي ذكره أبو عيسى، والذي ذكره البخاري يوجب بظاهره أنه لا زكاة في الحلي؛ لقوله للنساء: ((تصدقن ولو من حليكن))، ولو كانت الصدقة واجبة لما ضرب المثل به في صدقة التطوُّع".
2 - حديث جابر بن عبدالله - رضي الله عنه -: أن النبي  قال: ((ليس في الحلي زكاة))؛ رواه البيهقي، والديلمي.
ونوقِشَ هذا الاستدلال: بأنه معلول لأن في سنده (عافية بن أيوب)، قال عنه البيهقي: (مجهول)، لكن أبا زرعة سُئِل عنه فقال: (ليس به بأس)، وقال عنه ابن الجوزي في التحقيق: (ما عرفنا أحدًا طعن فيه)، وذكر الشنقيطي في "أضواء البيان" : أن من قال ثقة يقدَّم على قول من قال إنَّه مجهول؛ لأنه اطَّلع عليه، ومن حفظ حجة على مَن لم يحفظ، فالأخْذ بتوثيق بما فيه مقدَّم على غيره، وذكر الشيخ الألباني للحديث علة أخرى، وهي ضعف (إبراهيم بن أيوب) الراوي عن (عافية)، ناقلاً تضعيفه من كتاب "لسان الميزان" المطبوع، وذكر أنه لم يسبقه أحد إلى الطعن في هذا الحديث من قبل (إبراهيم بن أيوب)، وبيَّن الدكتور إبراهيم الصبيحي في فقه "زكاة الحلي" ، أنَّ هذا ناشئ من تصحيف وَقَع في نسخة المطبوع، بعد الرجوع إلى مخطوطتين لـ"لسان الميزان"، وبيَّن أن مَن يسمَّى بـ(إبراهيم بن أيوب) في كتب الرجال عددهم خمسة، وأن المقصود في حديث جابر هو (إبراهيم بن أيوب الحوارني الدمشقي) من العبَّاد، ولم يضعفه إلا أحمد بن محمد بن عثمان المقدسي دون تفسير لهذا الجرح، فاعتبره البعضُ حسنًا صالحًا للاعتبار.
3 - ما رواه مالك في "الموطأ": أن عائشة زوج النبي  كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها، لهنَّ حلي، فلا تخرج من حليهن الزكاة، واعتبر ابن حزم  أن هذه الرواية مروية من أصح طريق.
ووجه الدلالة: أن هذا عمل عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي  وحكم حليِّها لا يخفى على النبي  أمره، وتقدم أن هذا رأي جمع من الصحابة، ومنهم عبدالله بن عمر- رضي الله عنه - فإن أخته حفصة كانت زوج النبي  وحكم حُليِّها لا يخفى على النبي  ولا يخفى عليها حكم النبي  فيه.
4 - أن الزكاة فرضت في الأموال المعدَّة للنماء دون ما أعد للقنية والانتفاع، فلا تجب في الدُّور التي تُسكن، ولا في عبيد الخدمة، ولا في الثياب التي تُلبس، ولا في أثاث البيت ونحوه مما أُعدَّ للانتفاع به والاستعمال، والأصل فيه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة))، والحلي المستعمل أنما يدخل تحت هذا الأصل؛ لأنه لا ينمو بل ينقص، وما خرج عن الأموال النامية فلا زكاة فيه، وهذا الأصل لا يُخرج منه إلا بدليل ناقل.
5 - أنه لم يرد في الحلي دليل صحيح يوجب زكاته، والأصل براءة الذِّمَّة حتى يأتي دليل ناقل عن هذا الأصل، والعمومات لا تكفي للاستدلال على أنه تقدَّم الجواب عنها.
6 - أن الزكاة شعيرة من شعائر الإسلام وإيجابها في الحلي أمر تَعمُّ به البلوى، فلا يوجد بيت من بيوت المسلمين إلا وفيه ذلك، فكيف لم يأت فيه بيانٌ عامٌّ تتناقله الأمة، حتى لا يعلم به أقرب الصحابة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟! بل نُقل عنهم خلاف ذلك، ولم ينقل عن الخلفاء الراشدين من بعده أيضًا مع أنه أمر تعمُّ به البلوى .
وهذا القول هو الأظهر والله أعلم، ولا يخفى أن الاحتياط في هذه المسألة أفضل، وأن المرأة تخرج زكاة حليِّها إذا بلغ النصاب، واختار الشيخ محمد الأمين الشنقيطي القول الثاني وقال: "وإخراج زكاة الحلي أحوط" .
وقد أُلِّفَت في هذه المسألة كتبًا من أجودها وأمتعها كتاب الدكتور إبراهيم الصبيحي "فقه زكاة الحلي"، وكتاب للدكتور عبدالله الطيار "زكاة الحلي في الفقه الإسلامي"، وكتاب للشيخ فريح البهلال "امتنان العلي بعدم زكاة الحلي"، وكلهم رجَّحوا عدم وجوب الزكاة في الحلي المستعمل.
فائدة: إذا كان الحلي من الجواهر أو الياقوت، فلا زكاة فيه بإجماع العلماء، كما نقل ذلك ابن عبدالبر في "الاستذكار" .
المسألة السابعة: تجب زكاة الذهب في الحالات الآتية:
1- إذا أُعدَّ للكراء (أي للتأجير).
والتعليل: لأنه خرج بذلك من كونه مُعدًّا للاستعمال إلى كونه مُعدًّا للنماء والثمنية، فيرجع إلى الأصل وأنه تجب فيه الزكاة.
2- إذا كان مُعدًّا للنفقة.
والتعليل: لأنه خرج بذلك من كونه مُعدًّا للاستعمال إلى كونه مالاً يُدَّخر، يستفاد منه عند الحاجة إليه، كأن يكون عند امرأة ذهب اشترته أو أهدي إليها لا تريد أن تستعمله، وإنما تريد أن تدَّخره، فإذا احتاجت إلى شراء شيء باعت منه، واشترت بقيمته ما تريد، فهذا فيه زكاة؛ لأنه أشبه النقود، وهذا بإجماع العلماء.
3- إذا كان الذهب محرَّمًا.
كأن يكون على صورة روح؛ كفراشة، أو ثعبان، أو أي حيوان، أو كأن يكون ذهبًا فيه إسراف، أو كأن يكون ذهبًا مغصوبًا، أو ذهبًا عند رجل يلبسه، فهذا كله محرم، فتجب فيه الزكاة، وهذا باتفاق العلماء .
وهذه الحالات الثلاثة تجب فيها زكاة الذهب على قول المذهب أيضًا؛ لأنه خرج عن كونه معدًّا للاستعمال، أو لأنه استعمل استعمالاً محرمًا.

باب زكاة عروض التجارة
فيه خمس مسائل:
زكاة العروض:
العروض جمع عَرْض - بفتح العين وإسكان الراء - وعروض التجارة: هي كل ما أُعدَّ للبيع والشراء، بقصد الربح من السيارات، والمأكولات، والثياب، والعقارات، والحيوانات، والحلي، والجواهر، والكتب وغيرها من الأشياء التي يبسطها التاجر في متجره يريد الربح في بيعه وشرائه، ولما كان التاجر يريد الربح وجبت زكاة عروض التجارة في القيمة، لا في الأشياء المعروضة.
وسميتْ بهذا الاسم: لأن الأشياء فيها تُعرض لتباع وتشترى، وقيل: لأنها تعرض ثم تزول.
المسألة الأولى: زكاة عروض التجارة واجبة:
ويدلُّ على وجوبها:
1- من الكتاب: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ﴾ [البقرة: 267]، وعامة أهْل العلْم أنَّ المراد بهذه الآية زكاة العروض ، وبوَّب البخاري على هذه الآية: باب صدقة الكسب والتجارة.
2-وأما السنة: فلم يثبت عن النبي  حديث صحيح في وجوب زكاة عروض التجارة، والوارد من الأحاديث ضعيف، ومنها حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه -: أَمَرَنَا النبي  أن نخرج الصدقة مما نُعده للبيع؛ رواه أبو داود، وفي سنده ثلاثةٌ مجهولون، قال الذهبي في "الميزان" : هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم.
لكن هذا الحكم ورد عن الصحابة بآثار صحيحة، فقد ورد عن عمر عند ابن أبي شيبة، وعن ابن عمر عند البيهقي، وعن ابن عباس عند أبي عبيدة في "الأموال"، ولم يُعرف لهؤلاء الصحابة مخالف، فدل هذا على ثبوت وجوب الزكاة في عروض التجارة.
3- الإجماع: انعقد على وجوب الزكاة في عروض التجارة، ونقل الإجماع ابن المنذر في كتابه "الإجماع" .
4-مما يدل على وُجُوب الزكاة فيها أن هذه العروض المتخذة مالٌ يُقصد به التنمية، فأشبه الذهب والفضة والحرث والماشية.
- خالف في هذه المسألة الظاهرية، فقالوا بعدم وجوب الزكاة في عروض التجارة، وتقدم أنَّ الصواب وجوبها، وأشار الخطابي في "معالم السنن" : أن هذا الذي خالف فيه أهل الظاهر إنما جاء بعد انعقاد الإجماع على وُجُوب الزكاة في عروض التجارة.
المسألة الثانية: ماذا يشترط لوجوب زكاة عروض التجارة:
والمقصود الشروط الخاصة بعُرُوض التجارة، وأمَّا الشروط العامة كمضي الحول وبلوغ النصاب، فهذه شروط لا نحتاج إلى إعادتها؛ لأنها شروط في الأموال الزكوية عامة.
المذهب: أنه لا بد من شرطين لوجوب الزكاة في عروض التجارة وهما:
1- أن يملك عروض التجارة بفعله، كأن يشتريها أو تهدى له، ففي هذه الحالة ملكها بفعله، لأنها دخلت في ملكه باختياره، أما لو ملكها عن طريق الإرث، فلا يصلح أن تكون عروض تجارة؛ لأنه لم يملكها بفعله.
وعلَّلوا ذلك: بأنَّ الإرث ليس من طُرُق الكسب، والتجارة تتعلق بالكسب.
2 - أن يملكها بنية التجارة؛ أي: ينويها للبيع، فلو ملكها بفعله، ولم ينوها للبيع، لا تصلح أن تكون عروض تجارة، حتى لو لم ينوها إلا فيما بعد لا تصلح أن تكون عروض تجارة.
واستدلوا: بحديث: ((إنما الأعمال بالنيات))، فقالوا: "إن الزكاة عبادة، والعبادة يجب أن تقترن فيها النية من أول العبادة"، وعليه فلا بد أن تقترن نية التجارة بملك العروض.
إذًا على قول المذهب الحالات ثلاث:
الحال الأول: أن يملكها بفعله ناويًا بها التجارة، فهذه تكون عروض تجارة.
مثال ذلك: رجل اشترى أرضًا للتجارة، فهذه فيها زكاة عروض التجارة.
الحال الثانية: أن يملكها بغير فعله؛ كالميراث، وينويها للتجارة، فهذه لا تكون عروض تجارة.
مثال ذلك: رجل ورث من أبيه سيارات أو عقارات أو بضائع من أقمشة ونحوها، ثم نواها للتجارة، فهذه لا تكون عروض تجارة، لأنه لم يملكها بفعله، وإنما ملكها بغير اختياره عن طريق الإرث.
الحال الثالثة: أن يملكها بفعله بغير نيَّة التجارة، ثم ينويها للتجارة، فهذه لا تكون عروض تجارة.
مثال ذلك: رجل اشترى عقارات لا يريدها للتجارة، ثم بعد أشهر نواها للتجارة، فإنها لا تكون عروض تجارة، فليس فيها زكاة؛ لأن نية التجارة عند المذهب لا بد أن تكون مقترنة بملكه للعروض.
والقول الراجح - والله أعلم -: أنه لا يشترط أن يملكها بفعله، ولا يشترط أن تكون نية التجارة مقترِنة بملكه للعروض، بل لو نوى التجارة في أيِّ وقت وحال الحول على ذلك، وجب عليه إخراج زكاة عروض التجارة، وهذا القَوْل رواية في مذْهب الإمام أحمد.
ويدل على ذلك:
1 - حديث: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)).
ووجه الدلالة: أنه متى ما نوى التجارة، صارت هذه العروض عروض تجارة.
2 - عدم الدليل على اشتراط هذَيْن الشرطَيْن، والآثار الواردة عن الصحابة في عروض التجارة ليس فيها أي شرط، وعليه فكلُّ من ملك عروضًا ونوى بها التجارة، وجبت عليه الزكاة إذا حال عليه الحَوْل.
المسألة الثالثة: هل يجوز إخراج زكاة العروض من نفس العروض؟
اختلف أهل العلم: هل يجوز إخراج زكاة العروض من العروض؟ أو لا بد من القيمة؟
مثال ذلك: رجل عنده محل أقمشة وزكاته التي لا بد أن يخرجها ألفا ريال، هل يجوز له أن يخرج بقيمة الألفي ريال أقمشة أو لا بد من الألفي ريال؟
المذهب: أنه لا بد من القيمة، وهذا قول أحمد والشافعي، وقيل: إنه يجوز إخراجها من العروض، وهذا قول مالك وأبي حنيفة، وهو اختيار الشيخ السعدي في "المختارات الجلية" .
والأظهر - والله أعلم -: أنه لا بد من إخراج القيمة؛ لأنها هي المقصودة في عروض التجارة، إلا إذا علم التاجر أن الفقير بحاجة إلى عين السلعة فيجوز إخراجها من عروض التجارة، كأن يعلم التاجر أن هذا الفقير بحاجة إلى هذه الأقمشة والملابس، وهذا القول اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" .
والتعليل: لأنه بهذا الفعل تحصل المواساة للفقير، ويشهد لهذا قول معاذ لأهل اليمن: "ائتوني بخميس ولبيس، آخذه منكم مكان الصدقة، فإنه أهون عليكم وأنفع للمهاجرين بالمدينة" .
المسألة الرابعة: تُقوَّم عروض التجارة عند الحول بالأحظ لأهل الزكاة.
وهذا قول المذهب وهو الأظهر - والله أعلم -: أنه ينظر عند تقويم نصاب عروض التجارة الأحظ للفقراء.
مثال ذلك: تاجر يبيع الأقمشة، وبعدما حال عليه الحول قوَّم سلعته، فإذا هي تبلغ نصاب الفضة ولا تبلغ نصاب الذهب، فالمعتبَر حينئذ نصاب الفضة؛ لأنه الأحظ للفقراء، وإذا كان بالعكس كأن يكون نصاب الذهب هو الأحظ، فبلغت عروض التجارة نصاب الذهب ولم تبلغ نصاب الفضة، فالتقويم يكون بالذهب لأنه الأحظ، وكذلك لو بلغت عروض التجارة نصاب الذهب ونصاب الفضة فلم تنقص عنهما، فإنه يعتبر الأحظ والأكثر فائدة للفقير، ومعلوم أن في بلادنا اليوم الأحظ للفقراء تقويمه بنصاب الفضة.
تنبيه: المعتبر في قيمة العروض ما تساويه بعد الحول لا الأصل الذي اشتريت به.
مثال ذلك: رجل اشترى أرضًا ليتاجر بها، فاشتراها بخمسين ألفًا، وبعد مُضي الحول ارتَفَع سعرُها وأصبحتْ تساوي مائة ألف، فهذا يخرج زكاة مائة ألف، وليس المعتبر في ذلك قيمتها عند الشراء.
مثال آخر: رجل عنده محل تجاري فيه أوانٍ منزلية، اشتراها حين فتحه للمحل بثلاثين ألفًا، وبعد حَوَلاَن الحول تساوي خمسين ألفًا، فهنا يخرج زكاة خمسين ألفًا ولا عبرة لقيمة السلعة حين الشراء.
المسألة الخامسة: مَن اشترى عروضًا بأثمان أو بعروض بنى على حوله الأول:
وهذا قول المذهب، وهو الراجح - والله أعلم -: أنه يبني على حوله الأول، ولا يستأنف حولاً جديدًا.
مثال: مَن اشترى عروضًا بأثمان: رجل عنده في شهر رمضان مائة ألف ريال، وبعد مضي ستة أشهر اشترى بها سيارات ليتاجر بها، فالحول لا ينقطع فيزكي هذه العروض (وهي السيارات) في رمضان؛ لأنه يبني على حوله الأول.
والتعليل:
1- لأنَّ المقصود من عروض التجارة القيمة، وأما العروض (وهي السيارات في المثال السابق) فليست مقصودة.
2 - لأنَّ من شأن التجار تقليب الأموال والبضائع، فتارة يكون ما لديه بضاعة وتارة نقودًا، وهكذا تتقلب أمواله بين العروض والنقود، ولو اعتبرنا انقطاع الحول إذا صارت نقودًا وكذلك إذا صارت عروضًا، لم يتم حول التاجر إلا نادرًا جدًّا، ولا شك أن هذا غير مراد.
مثال: مَن اشترى عروضًا بعروض: رجل اشترى ثلاثين بعيرًا في شهر رمضان ليتاجر بها، وبعد مضي ستة أشهر اشترى بها خمسين شاة ليتاجر بها أيضًا، فالحول لا ينقطع فيزكي هذه العروض (وهي الشياه) في رمضان؛ لأنه يبني على حوله الأول للتعليل السابق، وتقدم بيان هذه المسألة في آخر الباب الأول تحت مسألة: مَنْ أبدل مالاً بمال آخر من جنسه، وتقدم أيضًا: أنه لو أبدل مالاً بمال آخر من غير جنسه أنه ينقطع الحول.
مثال ذلك: رجل عنده أربعون شاة سائمة ملكها في رمضان (ومعلوم أن هذه زكاتها زكاة بهيمة الأنعام)، وفي محرم اشترى بها عروض تجارة؛ كسيارة أرادها للتجارة، ففي هذه الحالة لا يبني على حوله الأول بل يستأنف حولاً جديدًا من محرم؛ لاختلاف الجنسين، وكذلك العكس لو كان عنده سيارة عروض تجارة، وبعد مضي ثمانية أشهر اشترى بها خمسة إبل سائمة لا للتجارة، فإنه يستأنف حولاً جديدًا.
- ونختم هذا الباب بهذه التنبيهات:
التنبيه الأول: تقدم أن عروض التجارة هي الأشياء المعدَّة والمعروضة للبيع والشراء لأجل الربح، أما الأشياء الثابتة التي لا تعرض للبيع كآلات النجارة، والحدادة، وغسيل الملابس ونحوها، فهذه لا تسمى عروض تجارة، فلا تقوَّم عند إخراج زكاة عروض التجارة؛ لأنها ليست منها، وإنما تشبه الأشياء التي يقتنيها الإنسان له، ولا يقصد بها النماء؛ كبيته، وسيارته، وعبده، وأثاث منزله، ونحو ذلك، فهذه الأمور ليس فيها زكاة بلا خلاف بين أهل العلم.
ويدل على ذلك: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي  قال: ((ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة))؛ متفق عليه، ففي هذا دليل على أن الأشياء التي يقتنيها الإنسان لنفسه ليس فيها زكاة، وكذلك الأشياء التي يستعملها لكي يحصِّل بها أجرة؛ كسيارات الأجرة، وسيارات النقل، وآلات النجارة والحدادة، وآلات المغاسل، ويدخل فيه بيوت الإيجار، ومحلات الإيجار كذلك - على القول الصحيح - فكلُّ هذه لا تُقوَّم عند إخراج زكاة عروض التجارة، ولكن ما يربحه من هذه الأشياء يخرج زكاته بعد مضي الحول عليه، فيخرج ربع العشر، أما إذا لم يحل على الربح الحول فلا زكاة فيه.
التنبيه الثاني: الأسهم المعدَّة للتداول والبيع والشراء، زكاتها زكاة عروض التجارة؛ لأنها من عروض التجارة التي يراد بها الربح، فتقدَّر قيمتها كلما حال عليها الحول، ويخرج من قيمتها ربع العشر، ولا عبرة بقيمتها عند الشراء، بل العبرة بقيمتها بعد الحول؛ سواء نقصت عن قيمة الشراء أو زادت .
التنبيه الثالث: الرواتب الشهرية التي يستلمها الموظفون لا تخلو من حالَيْن:
الحال الأولى: ألا يحول على هذا الراتب حولاً فهذا لا زكاة فيه، كأن يكون الموظف كلما أتاه راتبه نفد آخر الشهر، أو بعد ذلك قبل أن يحول عليه الحول.
الحال الثانية: أن يحول على هذا الراتب الحول، فهذا يجب أن يخرج زكاة كل مال حال عليه الحول.
فإذا استلم مرتبًا في شهر محرم، ومرَّت سنة على هذا الراتب، فإنه يخرج زكاته في محرم، وراتب صفر يخرج زكاته في صفر بعد سنة، وهكذا يخرج زكاة راتب كل شهر حال عليه الحول في شهره بعد سنة، ولا شك أن في هذا مشقة عليه، ودرءًا لهذه المشقة يجعل الزكاة في شهر واحد لجميع ما في رصيده من هذه الوظيفة، كأن يكون في شهر محرم إذا نزل راتب هذا الشهر زكَّى كل ما في رصيده من هذه الوظيفة، فيكون بالنسبة لمحرم قد حال عليه الحول، وبالنسبة لما بعده زكاة معجلة، ولا بأس بتعجيل الزكاة كما سيأتي .
التنبيه الرابع: مَن اشترى أرضًا وأراد أن يزكيها فإنه لا يخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أن يشتريها بنية التجارة - أي: ليتاجر بها لا ليسكنها بعد بنائها - ففيها زكاة، وزكاتها زكاة عروض التجارة، فإذا حال الحول قدَّر قيمتها وأخرج "ربع العشر".
الثانية: أن يشتريها ليسكنها بعد مدة، ولو طالت فهذه لا زكاة فيها أبدًا؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المتفق عليه أن النبي  قال: ((ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة)).
الثالثة: أن يشتريها للسكن، وبعد سنة أراد أن يعرضها للبيع، فإن ابتداء الحول من ابتداء الوقت الذي غيَّر فيه نيته للتجارة، فإذا حال الحول فإنه يزكيها زكاة عروض التجارة فيخرج "ربع العشر" .

باب زكاة الفطر
فيه اثنتا عشرة مسألة:
زكاة الفطر: هي الصَّدقة التي يُخرجها المسلم عن نفسه أو عن غيرِه في نهاية شهر رمضان، وهي صاع من قوت أهل البلد يَجب دفعه لطائفة مخصوصة، كما سيأتي بيانُه.
وسميت زكاة فطر، قيل: من باب إضافتها إلى سببِها وهو الفطر من رمضان، وقيل غير ذلك.
المسألة الأولى: حكم زكاة الفِطْر والحكمة منها:
زكاة الفطر واجبة بإجماع العلماء، ونقل الإجْماع ابن المنذر في كتاب "الإجماع" (ص 49).
ويدل على وجوبِها: حديث ابنِ عُمَر - رضي الله عنْه - قال: "فرض رسولُ الله  زكاة الفِطْر، صاعًا من تمر...."؛ والحديث متَّفق عليه.
والحِكْمة من زكاة الفِطْر جاءت في حديث ابن عباس - رضِي الله عنْه - قال: "فرضَ رسولُ الله  زكاة الفِطْر طُهرةً للصَّائم من اللَّغو والرَّفث، وطُمعةً للمَساكين"؛ رواه أبو داود والنَّسائي وابنُ ماجه، وحسَّنه النَّووي في "المجموع" (6/ 126).
وفي الحديث حكمتان عظيمتان:
الأولى: تتعلَّق بالفرْد وهو الصَّائم، فتطهِّره من اللَّغو والرَّفَث، وما حصل منه من خلل وتقصير أثناءَ صيامِه، وتقدَّم أنَّ زكاة الفِطْر هي زكاةٌ للبدن.
الثَّانية: تتعلَّق بالمُجتمع، وهِي إطعام للمساكين ولا شكَّ أنَّ في هذا تعاطُفًا ومحبَّة بين المسلمين.
المسألة الثَّانية: على مَن تجِب زكاة الفِطْر؟
المذهب - وهو القول الرَّاجح والله أعلم -: أنَّ زكاة الفِطْر تَجِب بشرْطين:
الأوَّل: الإسلام.
فنُخْرِج مَن لم يكن مسلمًا، كاليهودي والنصراني والوثني وغيرهم.
ويدل على ذلك:
1- حديث ابن عمر - رضِي الله عنْه -: "فرض رسول الله  زكاة الفطر، صاعًا من تَمرٍ أو صاعًا من شَعيرٍ على الذَّكَر والأنثى، والحرِّ والعبدِ، والكبيرِ والصَّغير من المسلمين"؛ متَّفق عليه.
2- تقدَّم أنَّ من حِكَمِ زكاة الفِطْر أنَّ فيها تطهيرًا للعبْد من النَّقص والخلل، والكافِر ليس أهلاً للتَّطهير حتى يُسْلِمَ فيُطَهِّرهُ الإسلام.
الثَّاني: أن يملك ليلةَ العيد صاعًا زائدًا على قوتِه وقوت عياله وحوائجِه الأصليَّة، والمقْصود أن يكون غنيًّا، وضابط الغِنَى أن يكون عنده صاعٌ زائد عن قوته في يومه وليلتِه وقوت من يَمون من عياله، والقوت: هو ما يكفي البدن ويقوم به من الطَّعام، وزائدًا أيضًا عن حوائجه الأصليَّة.
والتَّعليل: لأنَّه بذلك يكون غنيًّا فيواسي غيره، فلو كان عندَه ما يأكلُه من القوت ليلة العيد ويومه له ولعياله، وعنده حوائجه الأصلية - كالفرُش والأواني والكهرباء والماء ونحوها - وزاد عنده مالٌ وجب عليه أن يخرج به زكاة الفطر.
وقوْل الفقهاء: حوائجه الأصليَّة، يدلُّ على أنَّه لو لَم يكن عنده إلاَّ قوته وقوت عياله ومتاع ليْس من حاجاته الأصلية، وجب عليْه أن يَبيع المتاع ليشتريَ بقيمته زكاة الفِطْر، وكذلك لو أنَّ عنده قوته وقوت عياله ومالاً زائدًا، وعليه نقْص في حوائجه الأصليَّة كالكهرباء ليسدِّد فاتورته مثلاً، وهذا المال الزَّائد إمَّا أن يشتري به ما يخرج به زكاة الفِطْر، وإمَّا أن يسدِّد به حاجتَه الأصلية فإنَّه يبدأ بحاجته الأصلية.
المسألة الثالثة: هل يمنع الدَّين زكاة الفطر؟
مثال ذلك: رجُلٌ عنده خمسة ريالات قيمة صاع وهذه الخمسة زائدةٌ عن قوته وقوت عياله وحوائجه الأصلية، ويطلبه شخص بخمسة ريالات فهل يمنع هذا الدَّين زكاة الفطر؟
المذهب: أنَّ الدَّين لا يمنع زكاة الفطر إلاَّ إذا طالبه صاحبُ الدَّين.
وعلَّلوا: بأنَّ هناك فرقًا بين زكاة المال التي يؤثِّر عليها الدَّين، وبين زكاة الفطر فلا يؤثِّر عليها الدَّين؛ لأنَّ زكاة المال تتعلَّق بالمال وزكاة الفِطْر تتعلَّق بالبدن فهي تتعلَّق بالذِّمَّة.
والأظهر - والله أعلم -: أنَّه إذا طولب بهذا الدَّين قبل غروب الشَّمس ليلة العيد فإنَّه يسدِّد الدَّين وتسقط عنه زكاة الفطر؛ لعدم قدرته، أمَّا إذا طولب بعد غروب الشَّمس فيجب أن يخرج زكاة الفِطْر؛ لأنَّه أدْركه وقت وجوب زكاة الفطر وهو غروب الشمس ليلة العيد وهو مقتدر.
المسألة الرَّابعة: يُخرج المسلم زكاةَ الفطر عن نفسه وعن الَّذين يلزمه إخراجها عنهم.
المذهب: أنَّه يَجب على المسلم أن يخرج زكاة الفطر عن نفسِه وعن مَنْ يمونه؛ أي: تلزمه نفقته من الأولاد والزَّوجة والأبويْن وكل مَن يمونه، فلو قُدِّر أنَّه تولَّى تربية أحد أو النفقة عليْه فإنَّها تلزمه فطرته، حتَّى لو تولَّى نفقةَ شخْصٍ في شهر رمضان كأن ينزل به ضيف من أوَّل شهر رمضان حتَّى آخره وجبت عليه زكاة الفطر عنه، إذًا كل مَن يمون أحدًا وجبت عليه زكاة فطره.
واستدلُّوا:
1- بحديث ابن عمر - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله  قال: "أدُّوا زكاة الفِطْر عمَّن تمونون"؛ رواه الدَّارقطني والبيهقي.
2- عن نافع مولى ابن عمر قال: "فكان ابن عمر يعطي عن الصَّغير والكبير حتَّى إن كان يعطي عن بنيَّ"؛ رواه البخاري، ورواه البيْهقي بلفظ: "كان يُخرج زكاة الفِطْر عن كل مَملوكٍ له في أرْضِه وعن كلِّ إنسانٍ يَعُوله مِن صغيرٍ أو كبير".
وقالوا: إن عجَز المسلم عن أداء زكاة بعض من يَمونه بدأ بنفسِه فأخرجها عن نفسه، ثمَّ يخرجها عن امرأتِه ثمَّ رقيقِه، ثمَّ أمِّه، ثمَّ أبيه، ثمَّ ولده، ثمَّ الأقرب من ورثتِه، فيُخْرِجها بِهذا التَّرتيب في الأولويَّة، فلو كان لا يَملك إلاَّ أربعة آصُع أخْرَج الصَّاع الأوَّل عن نفسه؛ لحديث جابر عند مسلمٍ أنَّ النَّبيَّ  قال: ((ابدأ بنفسِك فتصدَّق عليْها))، ويُخرج الصَّاع الثَّاني عن زوجتِه؛ وتقْديم الزَّوجة على الوالدَين لأنَّ الإنْفاق على الزَّوجة إنفاق معاوضة، عوضًا عن الاستمتاع، واجب في الإعسار والإيسار، وأمَّا النَّفقة على الوالدَين فهِي نفقة تبرُّع تَجب في الإيسار دون الإعسار، ويُخرج الصَّاع الثَّالث عن رقيقِه؛ لأنَّ نفقته تجب في الإعسار والإيسار أيضًا، ويُخْرِج الصَّاع الرَّابع عن أمِّه لأنَّها مقدَّمة في البرِّ على الأب، فإن كان عنده صاع خامس أخرجه عن أبيه، فإن كان عنده صاع سادس أخرجه عن ولدِه، فإن كان عنده أكثر من ولد أقْرع بينهم أيّهم يأخُذ الصَّاع، وإن كان عنده ما يكفيهم أخرج عن كل واحد صاعًا، هذه خلاصة قول المذهب.
وقالوا: إن المرأة الناشز لا يجب على زوجها إخراج زكاة فطرِها، والمرأة النَّاشز هي التي تعصي زوْجَها فيما وجب عليْها طاعةٌ فيه، ولا تُحْسن معاشرته فترتفِع عليه وتعصيه، والقول الثَّاني: أنَّ كلَّ مسلم يجب عليْه إخراج زكاة فطرِه بنفسه مادام قادرًا، فالرَّجل تجب عليه بنفسه، وعلى الزَّوجة بنفسها، وعلى الأبناء القادرين بأنفسهم، وعلى كل شخص بنفسه.
ويدل على ذلك: عموم حديث ابن عمر - رضي الله عنه -: "فرض رسولُ الله زكاةَ الفِطْر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعيرٍ على الذَّكر والأنثى، والحر والعبد، والكبير والصَّغير من المسلمين".
وهذا القَول هو الرَّاجح - والله أعلم - من حيث الوجوب، ولو تبرَّع ربُّ البيت أن يُخْرِجها عن الجميع فإنَّ هذا جائز، ولكن لا يجب عليه كما تقدَّم، ويستثنى من ذلك اثنان:
الأوَّل: الرَّقيق، فإنَّ زكاة فطره تجب على سيِّده، ويدل على ذلك: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله قال: ((ليس في العبد صدقةٌ إلاَّ صدقة الفطر))؛ رواه مسلم.
الثاني: الأولاد الصِّغار، والأولاد الصغار لا يخلو حالهم من حالين:
الحال الأولى: أن يكون لهم أموال فتجِب زكاة الفطر في أموالهم، الحال الثانية: ألا يكون لهم أموال فتجب على وليِّهم زكاة فطرهم فيخرجها عنهم؛ لورود ذلك عن الصَّحابة كابن عمر كما تقدَّم.
وأمَّا ما استدلَّ به المذهب: ((أدُّوا الفطرة عمَّن تمونون))، فحديث ضعيف؛ قال عنه البيهقي (4/161): "إسناده غير قوي".
فائدة: لو كان العبد لأكثر من شخصٍ هم شركاء فيه فالصَّاع واجبٌ على الشُّركاء بحسب ملكهم.
مثال ذلك: شخْصان اشتريا عبدًا بتسعة آلاف ريال، دفع الأوَّل ستَّة آلاف ريال، ودفع الثَّاني ثلاثة آلاف ريال، فإنَّ زكاة الفِطْر عن العبد تَجِب على الأوَّل ثُلُثي الصَّاع وعلى الثاني الثلث المتبقي.
فائدة أخرى: يستحبُّ إخراج زكاة الفطر عن الجنين، والجنين هو الحمل في بطن أمِّه، وهذا قول المذهب، واستدلُّوا بأنَّ عثمان بن عفَّان - رضي الله عنْه - "كان يعطي صدقة الفطر عن الجنين"؛ رواه ابن أبي شيبة، وهذا الأثر ضعيف لأنَّه من رواية حمَّاد الطويل عن عثمان، وحمَّاد لم يدْرِك عثمان، وضعَّفه الألباني في "الإرواء" (3/ 331).
وظاهر كلام صاحب "الزاد" أنَّه يُسنُّ إخراجها عن الجنين سواءٌ نفخت فيه الروح أو لم تنفخ فيه الروح، والصَّواب أنَّه لو قيل بالسنِّية لكانت في حق مَن نُفِخَت فيه الرُّوح دون غيره؛ لأنَّه حينئذٍ يحكم بأنَّه إنسان.
المسألة الخامسة: لو أخرج من تلزم غيرَه فطرتُه فإنَّها تُجزئ عنه وإن لم يأذن، وهذا قول المذهب
مثال ذلك: الزَّوجة تجب زكاة فطرها على زوجها - وهذا على قول المذهب - قالوا: لو أنَّ الزَّوجة أخرجت زكاة فطرها عن نفسِها من غير إذن زوجها، فإنَّها تجزئ عنها، وكذلك الابن لو أخْرَج زكاة الفِطْر عن نفسِه من غير إذن أبيه فإنَّها تجزئ، وتقدَّم أنَّ القول الرَّاجح - والله أعلم - أنَّ الزَّوجة تَجب زكاة فِطْرها عن نفسِها وكذلك الابن المقتدر.
ويُبْنَى على هذه مسألة: لو أَخْرج شخصٌ عن آخر لا تلزمه زكاة فطره من غير إذنِه، فهل تجزئه؟
مثال ذلك: زيد أخرج عن عمرو زكاة فِطْرِه ولم يستأذنْه، مع أنَّ زيدًا لا تلزمه زكاة فطرة عمرو.
المذهب: أنَّها لا تُجْزِئه حتَّى لو رضي المُخْرَج عنه وأذِن له.
وعلَّلوا ذلك: بأنَّ الَّذي أخرج الزَّكاة ليس مخاطبًا بإخراج زكاةِ غيرِه، فلا تلزمه ولا تجزئ لو أخرجها عنه.
والقول الثاني: أنَّها تجزئ إذا رضي الذي أُخرجت عنه، وهو عمرو في المثال السابق.
وهذه المسألة مبنيَّة على خلاف في مسألة (التصرُّف الفُضولي) أي التصرُّف للغير بغير إذْنِه، هل يبطل هذا التصرُّف مطلقًا أو لا يبطل إذا أذِن ورضي الغير.
والقول الرَّاجح - والله أعلم -: أنَّه لا يبطل إذا أذِن ورضي الغير، وبناءً عليْه فإنَّ الأظهر - والله أعلم - هو القول الثاني وأنَّ زكاة الفطر تجزئ إذا رضي مَن أخرجت عنه.
ويدل على ذلك: ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصَّة حفظ زكاة رمضان، قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: "وكلني رسول الله  بِحِفْظ زكاة رمضان فأتاني آتٍ فَجَعَل يَحْثُو من الطَّعام فأخذتُه، فقلت: لأرفعنَّك إلى رسول الله  قال: إني محتاج وعليَّ عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخلَّيت عنه"، الحديث، حتَّى فعل ذلك مع أبي هريرة - رضي الله عنه - ثلاث مرَّات، وأبو هريْرة - رضي الله عنه - يخلي سبيله، والنبي  في كلِّ مرَّة يقول له: ((ما فعل أسيرُك البارحة؟ أما إنَّه كذَبَك وسيعود))، وأخْبَره النبيُّ  أنَّ ذلك الأسير هو الشَّيطان.
ووجْه الدلالة: أنَّ أبا هريرة - رضي الله عنه - حينما جاء الشَّيطان وسرق من زكاة الفطْر أجازه ورضي النَّبي  بتصرُّف أبي هريرة - رضي الله عنه - مع أنَّ المأخوذ منه زكاة، وأبو هريرة لم يستأذن النَّبيَّ  بل تصرَّف من عند نفسه فأجازه النبي  مع أنَّ أبا هريرة - رضي الله عنه - ليس من مهمَّته التصرُّف؛ لأنه وكيل في الحفظ لا وكيل في التصرف.
المسألة السادسة: وقت وجوب زكاة الفطر
المذهب: أنَّ زكاة الفِطْر تَجبُ بِغُروب الشَّمس ليلة عيد الفِطْر، وهذا القول هو الأظْهر وهو قول جُمهور العلماء، خلافًا للأحناف الذين قالوا: تَجب بطلوع الفجر الثَّاني من يوم العيد.
ويدل على وجوبها بغروب الشَّمس ليلة العيد ما يلي:
1- حديث ابن عمر - رضي الله عنه -: "فرض رسول الله  زكاة الفِطْر من رمضان ..."؛ متَّفق عليه.
ووجه الدلالة: أنَّه أضاف الزَّكاة إلى الفِطْر من رمضان، وأوَّل فطر من جَميع شهر رمضان يكون بغروب الشَّمس ليلة العيد فوجب أن يتعلَّق به حكم الوجوب.
2- حديث ابن عبَّاس - رضِي الله عنْه - مرفوعًا: "فرض رسول الله  زكاة الفطر طُهْرةً للصَّائم من اللَّغو والرَّفث...."؛ والحديث رواه أبو داود وابن ماجه وصحَّحه الحاكم.
ووجه الدلالة: أنَّ زكاة الفطر من الحِكَم الَّتي شرعت من أجلها: تطْهير الصَّائم ممَّا حصل له أثناء صيامه من لغو ورفث، وهذا يكون عند تمام الصَّوم وتَمام الصَّوم يكون بغروب الشَّمس ليلة العيد.
وبناءً على هذه المسألة:
مَنْ أسلم بعد غروب الشَّمس ليلة العيد فلا فطرة عليه، وكذلك مَنْ ملك عبدًا بعد غروب الشَّمس ليلة العيد لا فطرة عليه، وكذلك من وُلِدَ له وَلَدٌ بعد غروب الشَّمس لا فطرة عليه، فكل هؤلاءِ لا يلزم وليَّهم إخراجُ زكاة الفطر عنهم.
والتعليل: لأنَّهم وقت وجوب زكاة الفِطْر لم يكونوا من أهلها.
وكذلك على قوْل المذْهب: لو تزوَّج امرأةً بأن عقد عليْها بعد غروب الشَّمس لا يلزم الزَّوج إخراج زكاة الفطر عن زوجته بل تُخْرِجها هي بنفسها، وتقدَّم القول الرَّاجح وأنَّها تخرجها عن نفسِها مطلقًا.
المسألة السابعة: لمن أراد إخراج زكاة الفطر ثلاثة أوقات:
الوقت الأول: وقت جواز، وهو قبل العيد بيوم أو يومين.
ودليله: حديث ابن عمر - رضي الله عنه - وفيه: "وكان ابن عمر يعطيها الذين يقبلونَها، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين"؛ رواه البخاري.
الوقْت الثَّاني: وقت استِحْباب: وهو قبل الخروج لصلاة العيد.
ودليله: حديث ابن عمر - رضِي الله عنْه - أنَّ النَّبي  "أمر أن تؤدَّى قبل خروج النَّاس إلى الصلاة"؛ متَّفق عليْه.
والوقت الثَّالث: وقت نَهْي: وهو بعد صلاة العيد.
فالمذهب: أنَّ إخراجها بعد صلاة العيد مكروه، وأنَّ إخْراجها بعد غروب الشَّمس يوم العيد محرَّم.
واستدلُّوا: بحديث ابن عمر - رضِي الله عنه - وفيه: "أغْنوهم عن الطَّواف في هذا اليوم"؛ رواه ابن عدي والدَّارقطني.
ووجه الدلالة: أنَّ النَّبيَّ  أمر بزكاة الفطر إغناءً للمساكين في أن يطْلبوا الطَّعام في يوم العيد فيكون عندهم ما يكون عند النَّاس من الطَّعام، ومَن دفعها بعد صلاة العيد فقد أغناهم عن الطَّواف فيه؛ لأنَّ يوم العيد ينتهي بغروب الشَّمس، وقالوا بالكراهة لأنَّ دفْعَها قبل الصَّلاة أعظم في إغْنائِهم من دفعها بعد الصَّلاة.
ونوقش هذا الاستدلال: بأنَّ الحديث ضعيف لأنَّ في سنده أبا معشر المدني، والحديث ضعَّفه ابن حجر في "بلوغ المرام" وضعَّفه غير واحد من أهْلِ العلم.
والقول الثاني: أنَّ إخراجها بعد صلاة العيد محرَّم، وهذا القولُ هو الرَّاجح والله أعلم.
ويدل على ذلك:-
1- حديث ابن عباس - رضي الله عنه - مرْفوعًا وفيه: ((مَن أدَّاها قبل الصَّلاة فهي زكاة مقبولة، ومَن أدَّاها بعد الصَّلاة فهي صدقة من الصَّدقات" رواه أبو داود وابنُ ماجه وصحَّحه الحاكم، وقوله ((فهي صدقة من الصدقات)) نصٌّ على أنَّها ليستْ زكاة فطر مقبولة، وإنَّما هي صدقة من عامَّة الصَّدقات فلا تُقْبل زكاة فطر.
2- حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أنَّ النَّبيَّ  "أمر أن تؤدَّى قبل خروج النَّاس إلى الصَّلاة"؛ متفق عليه.
ووجه الدلالة: أنَّه إذا أدَّاها بعد الصَّلاة فقد خالف أمر النبي  والأمر يقتضي الوجوب ومخالفته تقتضي التَّحريم.
3- أنَّ في أدائها بعد الصَّلاة تأخيرًا للعبادة عن وقتها.
- من أخَّر زكاة الفطر عن وقتها لا يخلو من حالين:-
الحال الأولى: أن يؤخِّرها من غير عذر، فلا شكَّ أنَّه يأْثَم، ولكن لو أخرجها هل تعتبر زكاة فطر؟
المذهب: أنَّها تكون منه زكاة فطر وهو قول أكثر أهل العلم.
والقول الثَّاني: أنَّها لا تكون زكاة فطر، بل هي صدقةٌ من الصَّدقات، وهو اختِيار شيْخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وهو الأظْهر والله أعلم، فلا يأخذ ثواب زكاة الفطر بل ثواب الصَّدقة.
قال ابن القيم في "زاد المعاد" (2/ 22): "وهذا هو الصَّواب وكان شيخنا يقوِّي ذلك وينصرُه".
ويدلُّ على ذلك: حديث ابن عبَّاس - رضِي الله عنه - المتقدِّم، وفيه: "ومَن أدَّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات".
الحال الثانية: أن يكون تأخيرُه لها بعُذْر كأن لا يجد أحدًا يعطيه زكاة الفطْر حتى خرج وقتها، أو كأن يضيع مالُه ولا يجده إلى بعد الوقت، أو كأن يوكل شخصًا في إخراج زكاة الفِطْر ثمَّ يتبيَّن له أنَّ وكيله لم يخرجها، وهذا من أكثر الأعْذار حدوثًا، أو كأن ينسى هو إخراجها، أو ينسى وكيلُه إخراجها، ونحو ذلك من الأعذار فهذا لا شك أنَّه يخرجها ولو بعد وقتها ولا إثم عليه، وهي زكاة فطر لأنَّه معذور بتأخيره.
المسألة الثامنة: ما القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر؟
يجب إخراج صاع واحد عن كلِّ شخص، وهذا باتِّفاق أهل العلم كما نقل ذلك ابنُ هبيرة في "الإفصاح" (1/ 221).
ويدل على ذلك: حديث ابن عمر - رضي الله عنه -: "فرَض رسولُ الله  زكاة الفطر، صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على الذكر والأنثى، والحر والعبد، والكبير والصغير من المسلمين"، وتقدم أن الصاع يساوي كيلوين وأربعين غرامًا، والمعتبر في ذلك وزن البر الجيد.
- اختلف أهل العلم في البُرِّ هل يجزئ فيه نصف الصَّاع؟
القول الأوَّل: أنَّه يُجزئ فيه نصف صاع، وهو قول أبي حنيفة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.
واستدلُّوا: بحديث أبي سعيد - رضي الله عنه -وفيه أنَّ معاوية خطب النَّاس فقال: "إني أرى مُدَّين من سمراء الشَّام تعدل صاعًا من التمر"، فأخذ الناس بذلك؛ متفق عليه.
ووجه الدلالة: أنَّ الصَّاع فيه أربعة أمداد، ونصفه يعادل مُدَّين، ومعاوية قال ذلك في جَمع من الصَّحابة وأخذ النَّاس باجتهاده.
والقول الثاني: أنَّه لا يجزئ في البر إلا صاعٌ مثل سائر الأطعِمة، فلا بدَّ من صاع، وبهذا قال جمهور العلماء، وهو اختِيار الشيخين ابن باز - في فتاوى نور على الدرب حلقة (29) السؤال (12) - وابن عثيمين في "الممتع" (6/ 181).
واستدلوا: بحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - السَّابق، قال: "كنَّا نخرج إذا كان فينا رسول الله  زكاة الفطر عن كلِّ صغير وكبير، حر أو مملوك، صاعًا من طعام أو صاعًا من أقط أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر أو صاعًا من زبيب، حتَّى قدم معاوية بن أبي سفيان...."؛ متَّفق عليه.
ووجه الدلالة: أنَّ أبا سعيد ذكر المقدار الذي كانوا يُخرجونه على عهد النَّبيِّ  فقال: "صاعًا من طعام" فذكر الصَّاع مجملاً في أيِّ طعام، ثم ذكر الصَّاع مفصَّلاً في الأصناف الأرْبعة المذْكورة في الحديث، والبر يدخل في عموم الطعام.
وأمَّا الاستدلال باجتهاد معاوية فقد أنكر ذلك أبو سعيد في آخر الحديث، وقال: "فأمَّا أنا فلا أزال أُخْرِجه كما كنت أخرجه أبدًا ما عشت"، وإذا اختلفتْ وتعارضتْ أقوال الصَّحابة لم يكن قول بعضهم أوْلى من بعض ويُنظر إلى دليل آخر، وبالنَّظر في أقوال النَّبيِّ  في زكاة الفطر فقد بيَّن النَّبيُّ  مقدار الطعام وأنَّه صاع، ويدخُل في عموم الطَّعام البُر.
وهذا القول هو الأرْجح والأحْوط، والله أعلم.
المسألة التاسعة: ما هي الأصناف التي يجوز إخراج زكاة الفطر منها؟
جاء في السنَّة بيان الأصناف التي تخرج في زكاة الفِطْر، وهي:
الأقط والشَّعير والتَّمر والزَّبيب كما في حديث أبي سعيد المتفق عليه ويضاف إليها البُّر كما في حديث أبي سعيد أيضًا، فهذه الأصناف الخمسة جاءت بها السنَّة.
وذكر صاحب الزَّاد أنه يجوز إخراج الدَّقيق والسويق من البر والشعير، أمَّا الدقيق فهو الحَب إذا طُحن ويسمِّيه البعض طحينًا، ولكن لا بدَّ من مراعاة أنَّ الحبَّ إذا طُحن تتفرَّق أجزاؤه، وعليْه إذا دُفع الدقيق فالمعْتَبر وزنه حينما كان حبًّا، فإذا دفع دقيقًا فإنَّه يزيد في الصاع قليلاً مكان ما تطاير منه بعد الطَّحن، وأمَّا السويق فهو الحب المحموس، وذلك بأن يحمس على النَّار ثمَّ يطحن ثم يُلت بالماء فيُقدَّم طعامًا، وكذلك يزاد في وزن السَّويق لتفرُّق أجزائه بعد الطَّحن.
- اختلف أهل العلم هل يجوز إخراج زكاة الفطر من غير هذه الأصناف الخمسة التي في حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -؟
القول الأوَّل: أنَّه لا يخرج زكاة الفطر إلاَّ فيما ورد فيه النَّص.
والقول الثاني: أنه لا يخرج إلاَّ ما ورد فيه النص إلاَّ إذا عُدمت هذه الأصناف الخمسة فإنَّه يخرج من كل حبٍّ أو تمر يقتات، وهذا قول المذهب.
والقول الثَّالث: أنَّه يجزئ كلّ طعام يعتبر قوتًا عند النَّاس حتَّى مع وجود الأصناف الخمسة، فيجزئ مثلاً: الفول والعدس والأرز واللَّحم واللَّبن وغيرها ممَّا يصلح قوتًا عند النَّاس، وهذا قول أكثر العلماء وهو الأظْهر والله أعلم.
والتَّعليل: لأنَّ زكاة الفطر شرعت مواساة للفقراء كسائر الصَّدقات فهي "طعمة للمساكين" كما في حديث ابن عباس، وإنَّما فرض النَّبيُّ  هذه الأصناف الَّتي في الحديث لأنَّها كانت قوتَ أهل المدينة، قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (25/ 68): "يخرج ما يقتاتُه، وإن لم يكن من هذه الأصناف، وهو قول أكثر العلماء كالشَّافعي وغيره، وهو أصحُّ الأقوال فإنَّ الأصل في الصدقات أنَّها تجب على وجه المواساة للفقراء، كما قال تعالى ﴿مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾ [المائدة: 89]، والنَّبيُّ  فرض زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير لأنَّ هذا كان قوت أهل المدينة، ولو كان هذا ليس قوتَهم بل يقتاتون غيره لم يكلِّفْهم أن يخرجوا مما لا يقتاتونه".
وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين" (3/ 12): "وهذه - أي الأصناف الخمسة - كانت غالب أقواتهم بالمدينة، فأمَّا أهل بلد أو محلَّة قوتهم غير ذلك فإنَّما عليهم صاع من قوتِهم، فإن كان قوتُهم غير الحبوب كاللَّبن واللَّحم والسَّمك أخرجوا فطرتَهم من قوتهم كائنًا ما كان، هذا قول جمهور العُلماء، وهو الصَّواب الَّذي لا يقال بغيره؛ إذ المقصود سدُّ خلَّة المساكين يوم العيد ومواساتهم من جِنْس ما يقتات أهل بلدِهم".
المسألة العاشرة: لا يخرج في زكاة الفطر المعيبَ من الطَّعام
وذلك كأن يخرج طعامًا قديمًا قد تغيَّر طعمه أو مبلولاً أو مسوِّسًا أو فيه دود ونحو ذلك من الآفات، فإن هذا لا يجزئ؛ لقولِه تعالى: ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ﴾ [البقرة: 267]، ولأنَّ نفع الفقير يقِلُّ مع المعيب وقد ينعدم.
فائدة: المذهب أنَّه لا يجزئ الخبز في زكاة الفِطْر.
وعلَّلوا ذلك: بأنَّه لا يكال ولا يقتات.
والقول الثاني: أنَّه يُجْزِئ إذا كان قوتًا ويمكن أن يكال إذا يبِس، وهذا القول هو الأظهر.
والتعليل: لأنَّ العبرة كونه قوتًا للبلد فإذا كان قوتًا لهم شُرِعتْ فيه المواساة وطعمة المساكين.
المسألة الحادية عشرة: هل يجوز إخراج زكاة الفطر نقودًا؟
اختلفَ أهلُ العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأوَّل: أنَّه يجوز إخراج زكاة الفطر قيمة، وهذا قول الأحْناف وروي هذا القول عن عمر بن عبدالعزيز والحسن البصري .
واستدلوا:
1- بِحديثِ ابن عمر - رضِي الله عنْه - الَّذي تقدَّم، وفيه: ((أغنوهم عن الطَّواف في هذا اليوم))، وقالوا: إنَّ إخراج القيمة في زكاة الفطر إغناء للمساكين عن السُّؤال يوم العيد، وتقدَّم أنَّ الحديث ضعيف لأنَّ في سنده أبا معشر نجيح السندي المدني.
2- قالوا: إنَّ حاجة الفقير إلى المال أكثر من حاجته إلى الطَّعام.
القول الثَّاني: أنَّه لا بدَّ من إخراجها طعامًا، وهذا هو قول جُمهور العلماء، وهو الأظْهر والله أعلم.
ويدلُّ على ذلك:
1- حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - وحديث ابن عمر في زكاة الفِطْر، وقد تقدَّما.
وفيهما أنَّ النَّبيَّ  فرض زكاة الفِطْر صاعًا من طعام، فعيَّنها بذلك، وإخراجها نقودًا مخالفةٌ لأمر النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم.
2- أنَّ إخراجها قيمةً مُخالفةٌ لعمل الصحابة - رضوان الله عليهم - حيث كانوا يُخرجونَها صاعًا من طعام.
3- أنَّ في إخراج زكاة الفِطْر قيمة إبدال لِحالها من كونِها شعيرةً من شعائر الإسلام الظَّاهرة إلى كونِها شعيرة خفيَّة .
5- أنَّ النُّقود كانت موجودة على عهد النبي  ومع ذلك أمر بإخراج الطَّعام، فلو كان دفع النقود جائزًا، لأمر به النبي  لأنَّ فيه سعة الاختِيار للمسكين إن شاء اشترى به طعامًا وإن شاء اشترى به شيئًا آخر، ومع ذلك لم يأمُر النبي ، وحبُّ الإنسان للمال أمر قد فُطِر عليه وأمر معلوم منذ عهد النبي  وزمن التَّشريع إلى وقتنا اليوم، والنصوص دالة على ذلك، ومع ذلك لم يأمر النبي  بدفْع المال عوضًا عن الطَّعام في زكاة الفِطْر.
واختار هذا القولَ الشيخ ابن باز - في فتاوى نور على الدرب الحلقة (417) السؤال (12) - وشيخنا ابن عثيمين في فتاواه (18/ 265).
المسألة الثانية عشرة: يَجوز أن يعطي زكاة الفِطْر لواحد
فيجوز أن يعطي الجماعةَ من النَّاس زكاة فِطْرِهم لواحدٍ ممَّن يستحقُّ زكاة الفِطْر، وكذلك يَجوز لِمَنْ أراد أن يخرج زكاة الفِطْر عن نفسه صاعًا أن يفرِّقَه بين اثنين أو ثلاثة ممَّن يستحقُّون زكاة الفطر، وهذا قول المذْهب وهو الرَّاجح، والله أعْلم.
والدليل: عدم الدَّليل على المنْع، والواجب أن يخرج المسلم صاعًا وقد فعل سواء فرَّقه أو أعطاه لواحد، ولكن إن فرقه ينبغي أن يُنَبِّه الفقير أنَّه بعض صاع حتَّى لا يخرجه الفقير عن نفسه فيما بعد وهو أقلُّ من صاع.
- ونَختم هذا الباب بهذه التنابيه:
التنبيه الأول: اختُلِفَ في زكاة الفطر هل تعطى لأصناف الزَّكاة الثَّمانية فتعطى المؤلَّفة قلوبُهم والعاملين عليها وبقيَّة الأصناف، أو أنَّها تصرف للفقراء فقط؟ على قولين:
المذهب: أنَّها تصرف في أصناف الزَّكاة الثَّمانية.
القول الثاني: أنَّها تصرف للفقراء ومَن يحتاج إليها، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية والشَّيخ ابن عثيمين في "الممتع" (6/ 184) وفي مجالس شهر رمضان (صـ140).
قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (25/ 73): "ولهذا أوجبها الله طعامًا، كما أوْجب الكفَّارة طعامًا، وعلى هذا القول فلا يُجزئ إطعامها إلاَّ لمن يستحق الكفَّارة، وهم الآخذون لحاجة أنفسهم فلا يعْطَى منها في المؤلَّفة قلوبهم ولا الرِّقاب ولا غير ذلك، وهذا القول أقوى في الدليل".
التنبيه الثاني: يجوز دفع زكاة الفطر لجمعيَّات البر المصرَّح بها من الدَّولة، وتُعتبر هذه الجمعيَّات نائبة عن الدَّولة والدَّولة نائبة عن الفقراء، وعليْه؛ فإذا وصلت زكاة الفِطْر إلى جمعيَّة البر في وقتها أجزأتْ وبرِئَت الذمَّة ولو لم تصْرِفْها الجمعيَّة للفقراء إلاَّ بعد العيد لمصلحة يرونَها في التأخير .
التنبيه الثَّالث: الصَّاع الموجود اليوم زائد على النبويِّ بالخمس وخمس الخمس، فهل يكره إخراج الزكاة به أو لا يكْره وتكون الزيادة صدقة؟ قيل: بالكراهة، لأنَّها عبادة مقدَّرة بقدر معيَّن، واختار الشَّيخ ابن عثيمين أنَّها لا تكره لأنَّها عبادة يغلب فيها جانب التموُّل والإطْعام فإذا زاد فلا بأس، لكن الزيادة لا تكون صدقة إلاَّ إذا نواها صدقة .
باب إخراج الزكاة
فيه سبعُ مسائل:
المقصود بهذا الباب إخراج زكاة المال من ذهبٍ وفضَّة، وسائمة بهيمة الأنعام، والخارج من الأرض، وعروض التجارة، وأمَّا زكاة الفِطْر فتقدَّم الحديث عن وقت إخْراجها وقدرها.
المسألة الأولى: يجب إخراج الزكاة على الفور إذا تمكن من ذلك
المذهب: أنَّه يَجِب إخراج الزَّكاة إذا جاء وقتُها على الفور، خلافًا لجمهور العلماء الَّذين قالوا على التراخي إلاَّ أن يغلب على ظنِّه أنَّه يموت قبل أدائها.
والأظهر - والله أعلم - قول المذْهب وأنها تجب على الفور إذا تمكن من ذلك.
ويدل على ذلك:
1- الأدلَّة التي فيها الأمر بإخراج الزَّكاة كقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 43] والأمر الأصل فيه الفورية.
2- حديث عقبة بن الحارث - رضي الله عنه - قال: صلَّى بنا رسولُ الله  العصْر فأسرع ثم دخل البيت فلم يلبث أن خرج، فقلت له أو قيل له: فقال: ((كنتُ خلفت في البيت تبرًا من الصَّدقة فكرهت أن أبيِّته فقسمته))؛ رواه البخاري.
3- أنَّ الزَّكاة تتعلَّق بها حاجة الفقير، وحاجة الفقير في الغالب فوريَّة وحالٌّ أجلها، وتأْخير الزَّكاة يُخلُّ بالمقصود وهو مواساة الفقير، وربَّما أدَّى إلى فوات المواساة.
- قول صاحب الزَّاد عن إخراج الزكاة: "يجب على الفوْر مع إمكانه" فيه دلالة على أنَّه إذا لم يتمكَّن فلا بأس بتأخيره للزَّكاة حتى يتمكَّن، كأن يكون ماله غائبًا أو كأن يكون ماله دَيْنًا، وقوله (إلاَّ لضرر) فيه دلالة على جواز تأخير الزَّكاة إذا كان هناك ضررٌ حتَّى يزول الضَّرر، كأن يخشى على نفسِه أو أهْله أو ماله لو أخرج الزَّكاة من لصوص في أن يُلحقوا به ضررًا أو بأهلِه بالقتل ونحوه، أو يسرقوا مالَه، فلا بأس أن يؤخِّر زكاته حتَّى يزول الضَّرر، ومن الضَّرر أن يخشى رجوع السَّاعي عليه مرَّة أُخْرى بحيث لو أخرج زكاتَه في وقت وجوبِها، كأن يخرجها من الماشية مثلاً في شهر رمضان، ويخشى أن يأتيه ساعي الزَّكاة بعد شهرين ويأخذ منه الزَّكاة مرَّة أخرى ولا يصدِّقه لو قال له إني أخرجتها في رمضان، فحينئذ يجوز له تأخير الزَّكاة إلى أن يأتي السُّعاة لأخذ الزكاة.
إذًا، الأعذار التي تُبيح للإنسان تأخير زكاته هي:
1- عدم التمكُّن من المال.
2- وجود الضَّرر.
3- وجود المصْلحة أو الحاجة في التَّأخير: وهذا العُذْر لم يذكُرْه صاحب الزاد ولكنَّه يضاف للعذرين السَّابقين، وذكره صاحب "الروض المربع" وهو قول في المذهب ولكنَّهم قيَّدوه بالتأخير اليسير.
فالصَّواب أنَّه يَجوز تأْخير الزَّكاة إذا كانت هناك مصْلحة للفقير، كأن تَحلّ زكاتُه في رمضان ويخرجها بعد شهرين لمصلحة توجد في ذلك الوقت، كأن يأتي فقير أشد فقرًا ممن عنده أو كأن يجعلها لقريب له مستحق لها يأتي من سفره بعد شهرين، أو كأن يدْخل فصل الشتاء بعد شهرين والنَّفقات قليلة في الشتاء فيدَّخرها لهذا الوقت كونه أحوج للنَّاس، أو غير ذلك من المصالح، ولكن بشرط أن يقيِّد هذه الزَّكاة إذا أخَّرها لتبرأ ذمَّته فيعزل زكاته ويكتب معها ورقة تُعَرِّف بها بأنَّها زكاة وحلَّت في شهر رمضان، ولأنَّ الإنسان لا يدري ما يعرض له.
المسألة الثانية: مانع الزَّكاة لا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يَمنعها جاحِدًا لوجوبها، فهذا لا شكَّ أنَّه يكفر إن كان عالمًا ليس جاهلاً بالحكم، وكفْرُه ممَّا أجمع عليه أهل العلم، ولو أدَّاها لا تنفعه ولا تقبل منه، لأنَّه جحد وجوب فريضة الله على عباده فهو مكذِّب لله ورسوله ولإجْماع المسلمين على فرضيَّتها، وتؤخذ منه الزَّكاة وإن كانت لا تقبل منه ولكن تؤخذ لأنه تعلَّق بِها حقُّ مستحقِّي الزكاة، ويُقتل لارتِداده عن الدين إلاَّ أن يتوب.
ويدل على ذلك:
1- حديث ابن عباس - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((مَن بدَّل دينه فاقتلوه))؛ رواه البخاري.
2- حديث ابن عمر - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((أُمِرْت أن أُقاتل النَّاس حتَّى يقولوا لا إلهَ إلاَّ الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله  ويُقيموا الصَّلاة ويؤتوا الزَّكاة))؛ متَّفق عليه.
الحال الثانية: أن يمنعها بخلاً.
أي إنَّه مُقرٌّ بوجوبها لكنَّه لم يدفعها بخلاً، فهذا تؤخذ منه قهرًا يأخُذها منه الإمام، واخُتلف هل يكفر بمنعِه للزَّكاة بخلاً على قولين:
أرجحُهُما أنَّه لا يكفر، وهو قول جمهور العلماء لحديث أبي هُرَيْرة عند مسلم أنَّ النَّبيَّ  حين ذكر عقوبة مانع الزَّكاة قال: ((فيرى سبيله إمَّا إلى الجنَّة وإمَّا إلى النَّار))، ووجه الدلالة: أنَّه لو كان كافرًا لم يكن له سبيل إلى الجنَّة وإنَّما كان سبيله إلى النَّار حتمًا، فلمَّا كان له سبيل إلى الجنَّة دلَّ هذا أنَّه لا يكفر لأنَّ الجنَّة لا يدخلها إلاَّ مسلم.
فالصَّحيح أنَّه لا يكفر وينبغي أن يأخذها الإمامُ منه إجبارًا ويُعزِّره على منْعِه للزَّكاة وبِهذا قال المذهب أيضًا، والمقصود بالتعْزير التَّأديب واختلفوا كيف يُعزَّر؟
فقيل: مع أخْذ الزَّكاة منه يؤخذ شطر ماله.
واستدلوا بحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جدِّه مرفوعًا: ((ومَن أعطاها مؤتجرًا بها فله أجرُها، ومَن منعها فإنَّا آخذوها وشطر ماله عَزَمَة من عزمات ربِّنا))؛ رواه أبو داود والنَّسائي واختلفوا هل يؤخذ شطْر مال الزَّكاة أو شطر مالِه كلِّه.
وقيل: إنَّه لا يؤخذ شطر ماله مع زكاة ماله وهذا قول جمهور العلماء.
وأمَّا حديث بهز بن حكيم فلا يعملون به للاختِلاف في ثبوته تبعًا لاختلافهم في بهز بن حكيم هل هو ممَّن يقبل حديثه أم لا؟ والَّذين يثبتون الحديثَ من الجُمْهور لا يَحتجُّون به؛ لأنَّ الصَّحابة لم يأخذوا ممَّن منع الزَّكاة شطر ماله، ونقل البيْهقي عن الشَّافعي أنَّه قال: "لا يثبت أهل العلم بالحديث أن تؤخذ الصَّدقة وشطْر إبِل الغالّ لصدقته، ولو ثبت لقلنا به" .
وقالوا أيضًا: إنَّ حرمة مال المسلِم من الأصول العظيمة الَّتي ثبتتْ بالأدلَّة وهذا الحديث مُخالف لهذه الأصول، والأظهر - والله أعلم - قول الجمهور أنَّه يعزَّر بغير أخْذ شطْر مالِه، وأنَّ الإمام يرْدعُه بما يراه مناسبًا، واختار هذا القول الصَّنعاني والشَّيخ عبدالعزيز بن باز، فإمَّا أن يُعزِّره الإمام بالضَّرب أو بالتَّوبيخ أو بالفصْل من الوظيفة أو بالسجن أو غيرها ممَّا يراه مناسبًا.
المسألة الثالثة: تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون
المذْهب وهو القول الرَّاجح والله أعلم: أنَّ الزَّكاة تَجِب في مال الصَّبيِّ والمجنون، فيجب على وليِّهما إخراج الزَّكاة، وهو قول جمهور العلماء، وتقدَّم بيان المسألة بالدَّليل في آخر المسألة الأولى من أوَّل باب في الزكاة.
المسألة الرابعة: لا بدَّ لإخراج الزَّكاة من نيَّة
وذلك لأنَّ الإنسان قد يُخرج المال على سبيل الزَّكاة وقد يخرجه على سبيل الصَّدقة المسنونة وقد يُخْرِجه على سبيل الهديَّة وغيرها، والذي يفرق بين هذه الأمور النية، فلا تجزئ الزكاة إلاَّ بنية بإجْماع العلماء.
ويدل على ذلك:
1- قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ﴾ [الروم: 39].
2- حديث عُمَر بن الخطَّاب - رضِي الله عنْه - مرفوعًا: ((إنَّما الأعمال بالنيَّات)).
3- الإجْماع كما تقدَّم.
قال ابن هبيرة في "الإفصاح" (1/ 210): "وأجْمعوا على أنَّ إخراج الزَّكاة لا يصحُّ إلا بنيَّة".
المسألة الخامسة: الأفضل أن يفرق المزكي ماله بنفسه
الأفضل أن يُباشر المزكِّي تفريق زكاته بنفسه، وبه قال المذهب أيضًا.
والتعليل:
1- ليُباشر أداء العبادة بنفسه لينال أجْرَ التَّعب في أدائِها.
2- ليستيقِن من وصول الزَّكاة إلى مستحقِّيها على الوجْه المطلوب؛ لأنَّه لو وكَّل غيرَه في تفريق الزَّكاة ربَّما وقع إخلالٌ من الوكيل فلا يُوصلها لمستحقِّيها، أو تَهاون أو تأخير، فالأفضل أن يفرقها بنفسه.
مسألة: هل الأفضل أن يظهر المزكي زكاته أو يخفيها؟
المذهب: أنَّه يسنُّ إظهارها؛ وعللوا ذلك: لكي تنتفي عنه التهمة في عدم إخراجها.
والقول الثاني: أنَّ الأفضل إخفاؤها؛ واستدلُّوا: بعمومات الأدلة التي تحث على إخفاء الصدقة كقوله تعالى: ﴿إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ﴾ [البقرة: 271].
والقول الثالث: أنَّ الأفضل إخفاؤها إلاَّ لمصلحة، فإن دعتِ المصلحة لإظهار الصَّدقة فالأفضل إظهارها، ومن ذلك مثلاً:
كأن يكون قدوةً يتأثَّر النَّاس بفعله إذا أظهرها، ولكن يُظهر من صدقته ما يكفي للاقتِداء به، وباقي ماله يُخْرجه سرًّا لأنَّ الأصل في الصَّدقة الواجبة والمستحبَّة الإسرار.
ويدلُّ على هذه المصلحة: حديث جرير بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: جاء ناسٌ من الأعْراب إلى رسول الله  عليْهِم الصُّوف، فرأى سوءَ حالِهم قد أصابتْهم حاجة، فحثَّ النَّاس على الصَّدقة فأبطؤوا عنْه حتَّى رُؤِي ذلك في وجهه، قال: ثمَّ إنَّ رجُلاً من الأنصار جاء بصُرَّة من وَرِق، ثمَّ جاء آخَر ثمَّ تتابعوا حتى عُرف السرور في وجهه، فقال رسولُ الله : ((مَن سنَّ في الإسلام سنَّة حسنة فعُمل بها بعده كُتِب له مِثْلُ أجْرِ مَن عمل بها ولا ينقص من أُجُورِهِم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنَّة سيِّئة فعمل بها بعده كُتِب عليْه مثل وِزْر مَن عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء))؛ رواه مسلم.
ووجه الدلالة: أنَّ النَّبيَّ  أثْنى على عمل الرَّجُل الَّذي جاء بصرَّة من ورِق واقتدى به النَّاس وتتابعت صدقاتُهم.
وكأن تكون المصلحة دفْع التُّهمة عن نفسه حين يُتَّهم بعدم إخراج زكاة ماله؛ فإنَّه حينئذٍ يُظْهِرها لينفِيَ التُّهمة عنه، وكل مصلحة ترجِّح إظهار الصَّدقة فإنَّه يظهرها حينئذٍ، أمَّا إذا لم تكن هناك مصلحة فالأفضل إخفاؤها.
والتعليل: للأدلَّة التي تحثُّ على إخفاء الصَّدقة ولأنَّه أبعد عن الرِّياء، ولأنَّه أستر لمن يأخذ الزَّكاة.
مسألة: هل يخبِر المزكِّي مَنْ يأخُذ الزكاة أنَّ هذه زكاة؟
القول الأوَّل: يُكْرَه إعلامه بأنَّها زكاة، وهذا قول المذهب.
والتعليل: لئلاَّ ينكسر قلب الفقير.
والأظهر والله أعلم: أنَّه لا يُعلمه بذلك للتَّعليل السَّابق، إلاَّ إذا كان هناك ما يمنع كأن يشكّ بأنَّ الآخذ ليس من أهل الزكاة فيخبره؛ ليكف عن قبولها لأنَّه ليس من مستحقِّيها، أو كأن يكون الآخذ من أهل الزَّكاة لكنَّه لا يقبل الزَّكاة ويتعفَّف عن قبولها فيُخْبَر بذلك.
مسألة أخرى: ما الذي يقوله المزكي عند دفع الزكاة وما الذي يقوله الآخذ لها؟
أوَّلاً: ما يقوله المزكي.
المذْهَب: أنَّه يسن للمزكِّي عند دفع الزَّكاة أن يقول: "اللَّهمَّ اجعلها مغنمًا ولا تجعلْها مغرمًا".
واستدلُّوا: بحديث أبي هريرة - رضي الله عنْه - مرْفوعًا: ((إذا أعطيتُم الزَّكاة فلا تنسوا ثوابها أن تقولوا: اللهمَّ اجعلها مغنمًا ولا تجعلها مغرمًا))؛ رواه ابن ماجه وهو حديث ضعيف الإسناد.
قال البوصيري في زوائد ابن ماجه (1797): "والبختري متَّفق على تضعيفه، والوليد مدلِّس"؛ وعليْه فلم يرِدْ شيءٌ في السنَّة يقوله المزكِّي.
ثانيًا: الآخذ للزَّكاة.
ذكر صاحب "الرَّوض" أنَّه من السنَّة أن يقول: "آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت وجعله لك طهورًا"، والصَّواب أنَّ هذا لم يرد، والوارد أن يصلِّي على المعطي فيقول: "اللَّهمَّ صلِّ عليْك".
ويدل على ذلك:
1- قوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [التوبة: 103].
2- حديث عبدالله بن أبي أوفى قال: كان النبي  إذا أتاه قومٌ بصدقتِهم قال: ((اللَّهُمَّ صلِّ على آل فلان))، فأتاه أبي بصدقته فقال: ((اللَّهمَّ صلِّ على آل أبي أوْفى))؛ رواه مسلم.
فيصلِّي عليْهم أو يدعو لهم بدعاء مناسب؛ لأنَّ معنى "وصلِّ عليهم" أي ادعُ لهم.
فائدة: كل شخص دُفعتْ له الزَّكاة يُسنُّ له أن يصلِّي على المزكِّي سواء مَنْ دفعت له الزَّكاة مستحقًّا للزكاة، أو وكيلاً في إيصال الزَّكاة لمستحقِّيها، فلو جاءك شخص وأوْكلك بدفع الزكاة لمستحقِّيها لأنَّه لا يعرف مستحقًّا للزَّكاة فإنَّك تدعو له بما ورد فتقول: "اللَّهمَّ صلِّ عليك، أو اللَّهمَّ صلِّ على فلان"، ويدل على ذلك فعل النبي  في حديث عبدالله بن أبي أوفى، فالنَّبيُّ  وكيل في إيصال زكاة أبي أوفى.
المسألة السادسة: الأفضل في إخراج الزكاة وحكم نقل الزكاة لبلد آخر.
المذهب في هذه المسألة يروْن: أن الأفضل أن يخرج المزكي زكاته في نفس البلد التي فيها ماله، فيوزِّعها على فقراء البلد ومستحقِّي الزَّكاة، ويجوز له أن يُخْرِجها في البلدان القريبة منْه الَّتي دون مسافة القصر.
والتَّعليل: لأنَّها في حكم البلَد التي يوجد فيها ماله فالمسافة متقاربة لا تُعدُّ سفرًا.
وأمَّا نقلها إلى بلدٍ له مسافة القصر أي يُعدُّ الذَّهاب لها سفرًا فلا يجوز، وهو قول جمهور العلماء خلافًا للأحناف الَّذين قالوا بالكراهة، والمذهب أنَّه لو نقلها لأجزأت مع الإثم.
واستدلُّوا بعدم جواز نقل الزكاة:
1- بِحديث معاذ - رضِي الله عنْه - مرفوعًا، وفيه ((أعْلِمْهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تُؤْخَذ من أغنيائِهم فتُرَدُّ على فقرائهم)).
ووجه الدلالة: أنَّ النَّبيَّ  أخبر أنَّها تؤخذ من أغنيائِهم فتردُّ على فقرائهم، أي فقراء البلد وهم أهل اليمن الذين بُعث إليْهم معاذ بن جبل.
2- أنَّ المقصود من الزَّكاة إغناء فقراء البلد، ولو نقلت الزَّكاة لبلد آخَر لصار فقراء ذلك البلد محتاجين لحرمانِهم منها.
3- أنَّ فقراء البلد تتعلَّق أطماعُهم بالمال الَّذي يروْنَه فينتظِرون زكاته، وأمَّا الأبعدون فلا يعرِفون عن ذلك المال شيئًا.
وبناءً على ما سبق فإنَّ قول المذهب أنَّه: لا يَجوز نقل الزكاة حتَّى لو نقلها لمن هو أحوج أو لقريبٍ له في بلدة أخرى فلا يجوز، وقالوا: لو نقلت الزَّكاة لبلد آخَر أجزأت عنه مع الإثم.
والتعليل: قالوا تُجْزِئ لأنَّه دفع الواجب إلى مستحقِّيها، لأنَّ التَّحريم ليس عائدًا على ذات العبادة وهو دفع الزَّكاة بل على نقْلها، فيأثم بنقلها.
هذا هو قول المذْهب وملخَّصه أنَّ إخراج الزَّكاة من حيث مكانه كما يلي:
1- أن يُخرجها في بلده فهذا هو الأفضل.
2- أن يخرجها إلى بلدٍ قريب من بلده دون مسافة السَّفر فهذا جائز.
3- أن يُخْرِجها إلى بلدٍ بعيدٍ عن بلده يُعدُّ الذَّهاب إليْه سفرًا، فهذا محرَّم وتُجْزئ لو أخرجها مع الإثم، واستثْنَوا من ذلك ألاَّ يَجد فقراء في بلده فيجوز له نقْلُها إلى أقرب البلاد إليْه لأنَّهم أوْلى من البعيدين، هذا هو قوْل المذهب في المسألة.
والقول الثَّاني - وهو الأرْجح والله أعلم -: أنَّه يجوز نقلها من بلد المال إلى بلد آخر لمصلحة راجِحة كقريب محتاج، أو طالب علم محتاج كأن يكون البلد البعيد أشدَّ حاجة وفاقةً من بلده، مثل بلدان المجاعات فيعطيها للمشاريع الإسلامية ونحوها، ورجَّح جواز نقْلها لمصلحة شيخ الإسلام ابن تيمية في "الاختيارات" صـ104) وقال: "وتحديد المنْع من نقْل الزَّكاة بمسافة القصْر ليس عليه دليل شرْعي، ويجوز نقْل الزَّكاة وما في حكمها لمصلحة شرعيَّة".
ويدل على جواز نقلها:-
1-عموم قول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ﴾ [التوبة: 60]، أي الفقراء ومساكين كل بلد.
2-حديث قبيصة بن مخارق الهلالي، وفيه قول النَّبيِّ : ((أقِم عندنا يا قبيصة حتَّى تأتينا الصَّدقة فنأمر لك بها))؛ رواه مسلم.
ووجْه الدلالة: أنَّ قبيصة - رضي الله عنه - ليْس من أهل البلد وسيرتحِل، والنبيُّ  أمره بالإقامة حتَّى يأخذ من الصَّدقة وبعدها سيرتَحِل بالصَّدقة.
3- حديث معاذ - رضِي الله عنْه - وفيه: ((تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم))، أي على فقراء المسلمين.
تنبيه: تبيَّن ممَّا تقدَّم أنَّ مسألة نقل زكاة المال مسألة ينبغي التنبُّه لها، فجمهور العُلماء على عدم جواز نقْلِها وتقدَّم أنَّ الصَّواب جوازُه لمصلحة تقتضي ذلك.
مسألة: إذا كان المزكِّي في بلد وماله في بلد آخر أين يُخرج زكاة ماله وزكاة فطره؟
المذهب: أنَّ زكاة المال يكون إخراجها في بلد المال، وزكاة الفطر يكون إخراجُها في البلد الذي هو فيها، وهذا القول هو الأظهر والله أعلم.
والتَّعليل:
1- لأن زكاة المال سببها المال فهو متعلِّق بها فتخرج الزَّكاة حيث وجد سبب الوجوب، ولأنَّ أنظار الفقراء تتعلَّق بالمال الذي يشاهدونه فناسب أن تخرج زكاة المال في بلد من تعلَّقت نفوسهم به.
2- وأمَّا زكاة الفِطْر فتخرج في البلد التي يوجد فيها الشَّخص لأنَّها تتعلَّق بالبدن، فتخرج حيث وجد سبب وجوبها.
والصَّواب أنَّ هذا ليس على سبيل الوجوب فيجوز نقْل زكاة المال وكذلك زكاة الفطر إلى بلدة أخرى إن كان هناك حاجة أو مصلحة، وهو اختيار شيخِنا ابن عثيمين .
المسألة السابعة: تعجيل الزكاة
يَجوز تعجيل الزَّكاة فيخرجها قبل وجوبِها لكن بشرط أن يكمل النصاب؛ لأنَّ كمال النِّصاب هو سبب الزكاة، وتمام الحول شرط، والقاعدة الفقهية أنَّ: تقديم الشيء على سببه مُلغى وعلى شرطه جائز .
مثال آخر لهذه القاعدة:
- تقديم الكفَّارة على الحِنْث (وهو قطع اليمين) فلو كفَّر عن يَمينه ثم قطع يمينه جاز له ذلك، لكن لو كفَّر عن يَمينِه قبل أن يَحلف فالكفَّارة لا تجزئ؛ لأنَّ الحلف سبب في الكفَّارة، وقطع اليمين شرط، وتقديم الشيء على سببه ملغى وعلى شرطه جائز.
ومثله تعجيل أداء الدَّين قبل حلوله.
- وفي هذه المسألة أيضًا يجوز تعجيل الزَّكاة قبل شرْطِها وهو تَمام الحوْل، ولا يجوز تعجيلها قبل سببها وهو كمال النِّصاب، وبهذا قال المذهب أيضًا وهو قول أكثر العلماء.
مثال ذلك: رجل عنده (40) شاة سائمة وزكاتُه تحل في ذي الحجَّة وأراد أن يعجِّلها فيُخْرِجها في رمضان، فإنَّه يَجوز له ذلك لأنَّ النصاب قد كمل، وهو قدَّم الزَّكاة على شرطها وهو تمام الحول وبعد سببها وهو كمال النِّصاب، لكن لو كان عند (39) شاة سائمة وأراد إخراج الزَّكاة فلا يصح لأنَّه لم يكمل النّصاب فلم يوجد السَّبب، وتقديم الشَّيء على سببه لا يصح.
مثال آخر: رجل عنده (200) درهم فضَّة وأراد أن يعجِّل زكاته قبل تمام الحوْل بِخَمسة أشهر فإنَّه يجوز له ذلك لأنَّ السَّبب موجود وهو كمال النّصاب، ولكن لو كان عنده (190) درهمًا وأراد تعجيل الزَّكاة فلا يصح، حتَّى لو قال أريد أن أزكِّي عن (200) درهم فلا يصح لأنَّه لم يوجد السبب وهو كمال النّصاب وتقديم الشَّيء على سببه لا يصح.
ويدل على جواز تعْجيل الزَّكاة:
حديث علي - رضي الله عنه - أنَّ العبَّاس "سأل النَّبيَّ  في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخَّص له في ذلك"؛ رواه الترمذي والحاكم وصحَّحه ووافقه الذهبي، والحديث رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد وأبو عبيدة في الأموال عن علي بلفظ: "أنَّ النَّبيَّ  تعجَّل من العبَّاس صدقة سنتين".
والحديث حسنه البغوي في "شرح السنة" (1577)، والألباني في "الإرواء" (3/ 346) وقال عنه الشَّيخ ابن باز: "هو حديث جيِّد لا بأس بإسناده "، ومن أهل العِلْم مَن أعلَّه لأنَّ في سنده حجيَّة بن عدي وهو رجُل فيه مقال.
فالمذهب: أنه يجوز تعجيل الزكاة لسنتين فقطْ وهو الأظهر - والله أعلم - لحديث عليٍّ المتقدم، وهل الأفضل أن تُعَجَّل زكاته؟
المذهب: أنه لا يستحبُّ تعجيل الزَّكاة.
والتعليل: لأنَّ إخراج الزَّكاة عند تمام الحول أرفق بالمالك، ولأنَّه ربَّما يتلف ماله أو ينقص النِّصاب قبل تمام الحول، وقول المذهب وجيه للتَّعليل السَّابق وخروجًا من الخلاف في حكم التَّعجيل، ولكن إن دعت الحاجة إلى التعجيل فالأفضل أن يُعجِّل زكاته، كوجود مجاعة أو حاجة تنزل بالمسلمين أو معونة مجاهدين أو حاجة قريب ونحو ذلك؛ لما في ذلك من سدِّ للحاجة وإنفاذ للمصلحة وتعجيل الإحسان في وقته.
فائدة: لو عجَّل زكاته لعام معين ثم نقص النِّصاب قبل تمام الحول فإنَّ ما أخرجه من تعجيل زكاته يعتبر صدقة تطوُّع، ولا تُجزئه عن عام آخر لأنَّه نواها لعام معيَّن، ولو عجَّل الزَّكاة ثمَّ زاد النِّصاب فإنَّ الزَّكاة تجب في هذه الزِّيادة التي لم يخرج زكاتها عند التعجيل .
مسألة: تقدم أنَّه لا بدَّ لإخراج الزَّكاة من نيَّة، ولو أخرج شخص عن آخر الزكاة وهو ولم يوكله فهل تجزئ الزكاة؟
المذهب: أنَّها لا تجزئ.
والتعليل: لأنَّ النيَّة لا بدَّ أن تكون ممَّن وجبت عليه الزَّكاة، لا من الدَّافع للزكاة، والذي دفع ليس وكيلاً عنه.
والقول الثاني: أنَّها تجزئ إذا رضي وأجاز مَن وجبت عليْه الزَّكاة.
واستدلُّوا: بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - حينما وكَّله النبي  بحفظ زكاة رمضان، والحديث رواه البخاري وتقدَّم ذِكْرُه، وفيه أنَّ النَّبيَّ  أجاز أبا هُرَيْرة في تصرُّفِه حينما جاء إليْه مَن يشكو فقره بعدما أخذ من مال الزَّكاة مع أنَّ أبا هريرة - رضي الله عنه -وكيلٌ في الحفظ وليس وكيلاً في التصرف، وقالوا: إنَّ نيَّة الدَّافع تكفي وكما صحَّت نيَّته لو كان وكيلاً فكذلك تصحُّ نيَّته قبل التَّوكيل، وهذا القول هو الأظْهر والأوَّل أحوط.
[من هنا عمل مبروك]
باب أهل الزكاة
فيه ثماني مسائل:
المسألة الأولى: أهل الزكاة ثمانية:
جاء ذكر هؤلاء الثمانية في قوله - تعالى -: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [التوبة: 60].
وقوله - تعالى -: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء...﴾ الآية أسلوب حصر، ومعنى الحصر عند الأصوليِّين: إثبات الحكم فيمن ذكر، ونفيه عمَّا عداه، وعليه فلا يجوز صرف الزَّكاة في غير الأصناف الثمانية، وهذا بإجماع العُلماء ولم يُخالف في ذلك إلا الحسن البصري - رحمه الله - فأجازها في وجوه الخير كلها، مستدلاً بالصنف السابع "في سبيل الله"، فقال: إنَّ هذا يدخل في وجوه البر كلها، وسيأتي أنَّ المقصود بهذا المجاهدون في سبيل الله، فالصَّواب أنَّه لا يجوز صرف الزكاة إلا في الأصناف الثمانية، فلا يجوز صرفها في المساجد، أو شق الطرق، وبناء الجسور، أو طباعة المصاحف وغيرها من وجوه البر ولو عظمت، ما دام أنَّها ليست من الأصناف الثمانية.
الأصناف الثمانية هم:
الأول: الفقراء.
الثاني: المساكين.
وتحت هذين الصنفين فوائد وأحكام:
أولاً: الفقير والمسكين صنفان في باب الزَّكاة، على خلاف فهم غالب الناس، فأكثر الناس على أنَّ المسكين والفقير شيء واحد، وكذلك في الأبواب الأخرى إذا أطلق لفظ المسكين وحْدَه، دَخَلَ معه الفقير، والعكس كذلك، فهما إذا افترقا في اللفظ، اجتمعا في المعنى، وإذا اجتمعا في اللفظ، افترقا في المعنى.
ثانيًا: الفقير أشد حاجة من المسكين.
ولذلك ابتدأ الله - عزَّ وجلَّ - بالفقير قبل المسكين، وهذا لأهميته على المسكين، فالفقير: هو من لا يَجد شيئًا، أو يجد بعضَ كفايته دون نصفها.
والمسكين: هو من يجد أكثر كفايته أو نصفها.
والغني: هو من وجد كفايته كاملة، فهذا قد استغنى عمَّا في أيدي الناس.
مثال ذلك: لو أن رجلاً موظفًا يتقاضى كل شهر (500) ريال، فإن دخله السنوي يكون ستة آلاف ريال.
- فإن كان مقدار ما ينفقه في السنة على نفسه وأهله عشرين ألفًا، فهذا يسمى فقيرًا؛ لأنه يجد أقل من نصف كفايته.
- وإن كان مقدار ما ينفقه في السنة عشرة آلاف، فهذا يسمى مسكينًا؛ لأنه يجد أكثر من نصف كفايته.
- وإن كان مقدار ما ينفقه في السنة اثني عشر ألفًا، فهذا يُسمَّى مسكينًا؛ لأنَّه يجد نصف كفايته.
- وإن كان مقدار ما ينفقه في السنة ثلاثة عشر ألفًا، فهذا يسمى فقيرًا؛ لأنَّه لا يجد إلا أقل من نصف كفايته.
- وإن كان مقدار ما ينفقه في السنة ستة آلاف كأن لا ينفق إلاَّ على نفسه، وليس لديه التزامات أخرى، فهذا يسمى غنيًّا.
ثالثًا: تقدير الكفاية:
- المعتبر في تقدير الكفاية هو العُرف، فقد يكون الإنسان في زمنٍ ترتفع فيه الأسعار، ولا شَكَّ أنَّ الكفاية ترتفع تبعًا لها، فيقدر ما عليه كفايته الآن.
- والكفاية ليس المقصود بها كفايته فقط، وإنَّما يدخل معه كفاية من يمونه إن كان يمون أحدًا، فقد يتقاضى الإنسان راتبًا جيِّدًا فيما لو أنفق على نفسه فقط، ولكنَّه مع نفقته لمن يمونه يكون مسكينًا أو فقيرًا، وليس المعتبر في الكفاية الأكل والشرب والسُّكْنَى والكسوة فقط، بل يشملُ الأشياء الأخرى التي تدعوه الحاجة لها، كالزَّواج أو الكتب؛ لكونه طالب علم يحتاج إليها .
- يرتفع الفقر والمسكنة إذا كان عند الإنسان ما يرفعهما، كأن يكون عنده وظيفة تدخل عليه مالاً فيه كفايته، أو عنده من ينفق عليه من أب أو ابن أو زوج وغيرهم ما يصل إلى كفايته، أو كأن تكون عنده أعيانٌ لو باعها وجد بها كفايته، ولكن هذه الأعيان لا تكون من حاجاته الأصليَّة كمسكنه وسيارته، فهذه لا يبيعها، أو كأن يكون قادرًا على التكسب، وتهيأ له ما يتكسب منه ونحو ذلك من الأشياء التي ترفع عنه ذلك.
- من كان قادرًا على التكسُّب، وليسَ عنده مال، وترك التكسب؛ تفرغًا لطلب العلم، فهذا يُعطى من الزَّكاة لنفقته؛ لأنَّ طلب العلم نوع من الجهاد في سبيل الله، ولأنَّه يفعل ما فيه مصلحة للمسلمين، بخلاف من أراد التفرُّغ للعبادة، وهو قادر على التكسب، فلا يعطى من الزكاة؛ لأن العبادة نفعها قاصر غير متعدٍّ كالعلم .
- يعطى الفقير والمسكين ما يُسدُّ به كفايتهما من النَّفقات الشرعية والحوائج الأصلية لمدة سنة على القول الصحيح، مثال ذلك: فقير أو مسكين يدخل عليه من وظيفته سنويًّا عشرة آلاف ريال، وكفايته في السنة عشرون ألفًا، فهذا يُعطى من الزَّكاة عشرة آلاف ريال تُضاف لما عنده من المال، فإذا لم يكُن له وظيفة، أو مال، أو أي دخل، يُعطى كفايته كاملة لمدة عام.
النفقات الشرعية مثل: الطعام والشراب واللباس والسكن، ويدخل فيه مهر الزواج.
والحوائج الأصلية مثل: الفرش، والآلات الكهربِيَّة، وأواني الطبخ، ونحوها.
تبيَّن مما تقدم أن المستحق للزكاة إذا كان فقيرًا أو مسكينًا هو أحد ثلاثة:
أولاً: مَنْ لا مال له ولا كسب أصلاً.
ثانيًا: مَنْ له مال أو كسب، ولكنَّه لا يبلغ نصف كفايته وكفاية أسرته.
ثالثًا: مَنْ له مال أو كسب يبلغ نصف كفايته وكفاية أسرته أو أكثر، لكنَّه لا يبلغ تمام الكفاية .
فإذا كان مما تقدَّم صرفت له الزكاة، أمَّا إذا وجد كفايته، فهو غني في باب الزكاة؛ لأنَّه استغنى عن الناس.
فتحرم عليه الزَّكاة حينئذ؛ لأنَّه ليس محتاجًا، فهو قد استغنى بما عنده.
ويدل على ذلك: حديث قبيصة بن مخارق - رضي الله عنه - أن النبي  قال له: ((إنَّ المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: ... رجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلَّت له المسألة حتَّى يصيب قوامًا من عيش أو سدادًا من عيش))؛ رواه مسلم؛ أي: حتى يصيب كفايته.
قال الخطابي: "قال مالك والشافعي: لا حدَّ للغنى معلوم، وإنَّما يعتبر حال الإنسان بوسعه وطاقته، فإذا اكتفى بما عنده، حرمت عليه الصدقة، وإذا احتاج حلَّت له" .
الثالث: العاملون عليها:
ومن الفوائد والأحكام تحت هذا الصنف:
أولاً: العاملون عليها: هم الذين يبعثهم ولي الأمر للزَّكاة؛ لجبايتها أو لحفظها أو لقسمتها، ويدخل معهم مَنْ لا يتم العمل إلاَّ بهم، كالكتبة والحاسبين والوزَّانين والكيَّالين، وكل من احتيج إليه لدخولهم في مسمى العاملين.
فجباتها: هم السُّعاة الذين يأخذون الزكاة من أهلها، وحفاظها: هم الذين يقومون بحفظها بعد جبايتها.
وقاسموها: هم من يقسمها في أهلها.
ثانيًا: مقدار ما يأخذه العامل من الزَّكاة:
المذهب وهو الصواب: أنه يُعطَى العامل من الزكاة على قدر أُجْرته كاملة - خلافًا لمن قال: يعطى الأقل من أجرته - فإن كانت أجرته ألفين أُعْطِيَ من الزكاة ألفين وهكذا.
ثالثًا: العامل على الزكاة لا بُدَّ أن يكون مبعوثًا من ولي الأمر، أو من يقوم مقامه من الدوائر الحكومية، أمَّا غيره فلا يسمى عاملاً عليها، فلو جاء تاجر، وأعطى رجلاً زكاته؛ ليوزعها في مصارفها، فلا يُعطى هذا الرجل من الزكاة؛ لأنه لا يسمى من العاملين عليها، بل يعطيه أجرته من غير الزكاة؛ لأنَّ العامل على الزكاة لا بُدَّ أن يبعثه ولي الأمر كما كان النبي  يبعث السعاة لجمع الزكاة ولا يُعتد بغيرهم.
رابعًا: العاملون على الزكاة يأخذون الزَّكاة ولو كانوا أغنياء، فلا يشترط أن يكونوا محتاجين، لأنَّهم أُعطُوا من الزكاة بنص القرآن؛ لكونهم عاملين على الزكاة لا لفقرهم وحاجتهم.
الرابع: المؤلفة قلوبهم:
وتحت هذا الصنف فوائد وأحكام:
أولاً: المؤلفة قلوبهم: جمع مؤلَّف، وهم الذين يُطلب تأليف قلوبهم لأجل الإسلام وهم على قسمين:
القسم الأول: مؤلفة قلوبهم من المسلمين.
القسم الثاني: مؤلفة قلوبهم من الكفار.
 - المؤلفة قلوبهم من الكفار على قسمين:
1 - من يُعطى لرجاء إسلامه، (ولا بد من قرائن تدل على رجاء إسلامه).
2 - من يُعطى لكف شره، ولو لم يُرجَ إسلامه.
 - والمؤلفة قلوبهم من المسلمين يدخل فيه ما كان فيه منفعة للإسلام وأهله، وهم على صور منها:
1 - من يُعطى رجاء قوة إيمانه.
وذلك كأن يكون حديث عهد بكفر، فيعطى ليقوى إيمانه، أو كأن يكون مسلمًا من قبل، لكنه ضعيف الإيمان فيُعطى.
2 - مَنْ يُعطى من المسلمين؛ ليُسْلِمَ نظراؤه أي أمثاله.
كما أُعطي عَدِيُّ بن حاتم بعدما أسلم وحَسُنَ إسلامه؛ وذلك ليتألف من هو على شاكلته، والذي أعطاه هو أبو بكر الصديق - رضي الله عنه.
3 - مَنْ يُعطى من المسلمين؛ لأنَّهم في حدود بلاد الأعداء، ويعطون لما يرجى من دفاعهم عمن وراءهم من المسلمين إذا هاجمهم العدو.
4 - مَنْ يُعطى من المسلمين؛ لأن له نفوذًا وتأثيرًا يستطيع معها أن يجمع الزَّكاة ويأخذها ممن يمنعها، فيستعان بمن لهم نفوذ بدلاً عن القتال؛ لأنَّه به يرتكب أخف الضررين، فيعطى هؤلاء الذين يجمعون الزكاة تأليفًا لقلوبهم.
ومن الأدلة على إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة:
1 - حديث أنس - رضي الله عنه - وفيه أن النبي  أعطى أناسًا من قريش؛ لأنَّهم حديثو عهد بالكفر، فأراد النبي  تأليف قلوبهم وتقوية إيمانهم فأعطاهم، فقال الأنصار: "يغفر الله لرسوله يُعطي قريشًا، ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله : ((فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم))".
2 - حديث سعيد بن المُسيِّب عن صفوان بن أمية قال: "أعطاني رسولُ الله  يوم حُنين، وإنَّه لأبغض الناس إليَّ، فما زال يعطيني حتَّى إنه لأحب الناس إلي" .
وكان صفوان بن أمية يوم حنين مشركًا، فأعطاه النبي  تأليفًا لقلبه رجاء إسلامه.
3 - حديث أنس - رضي الله عنه - وفيه "وكان - أي: النبي  لا يسأل شيئًا على الإسلام إلا أعطاه، فسأله رجل فأعطاه أشياء كثيرًا بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم، أسلموا فإنَّ محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة"؛ رواه أحمد، وفي هذا الحديث دليل أيضًا على إعطاء النبي  من يرجو إسلامه.
4 - حديث عمرو بن تغلب أن رسول الله أتي بمال أو سبي، فقسمه فأعطى رجالاً وترك رجالاً، فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فحمد الله، ثم أثنى عليه، ثم قال: ((أما بعد؛ فوالله، إني لأعطي الرجل وأدع الرجل، والذي أدع أحبُّ إلي من الذي أعطي، ولكني أعطي أقوامًا؛ لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع))؛ رواه البخاري.
5 - حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - أن عليًّا بعث إلى النبي  بِذُهَيْبَة في تربتها من اليمن، فقسمها بين أربعة نفر: الأقرع بن حابس، وعيينة بن بدر، وعلقمة بن علاثة، وزيد الخير، وفي الحديث قال: ((أتألفهم))؛ والحديث متفق عليه، وفي السنة أحاديث كثيرة غير ما تقدم.
ثانيًا: هل يشترط فيمن يراد تأليف قلبه أن يكون سيدًا مطاعًا في قومه؟
المذهب: أنه يشترط فلا يعطى رجاء إسلامه أو لدفع شره إن كافرًا، أو لتقوية إيمان المسلم إلا إذا كان سيدًا مطاعًا في قومه واستدلوا:
1 - بأن النبي  إنَّما كان يعطي الكبراء والوجهاء في عشائرهم.
2 - قالوا: من لم يكُن من السَّادة المطاعين في قومهم لا يضر المسلمين عدم إسلامهم أو ضعف إيمانِهم، أو كان كافرًا ظاهرًا شره للمسلمين وليس له منعة فهذا قد يحبس أو يقام عليه الحد ويكف شره.
والقول الثاني: أنه لا يشترط كونه سيدًا مطاعًا إلا مَنْ يعطى؛ لاتقاء شره وعداوته للمسلمين، فإنه يشترط أن يكون سيدًا مطاعًا؛ لأن غيره نستطيع ردَّ شره بالضرب أو الحبس أو إقامة الحدِّ، ولا حاجة في أن نؤلِّف قلبه مع الاستطاعة عليه، أما من رُجي إسلامه أو قوة إيمانه، فإنه يُعطى ولو لم يكن سيدًا مطاعًا، وهو اختيار شيخنا ابن عثيمين في "الممتع" (6/227).
ويدل على ذلك: حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أنه قال: يا رسول الله، أعط فلانًا فإنه مؤمن، فقال النبي  ((أَوَمسلم؟)) أقولها ثلاثًا، ويرددها عليَّ ثلاثًا: ((أو مسلم؟))، ثم قال: ((إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه؛ مخافة أن يكبه الله في النار))؛ متفق عليه.
ثالثًا: اخْتُلِف هل لا زال باقيًا سهم المؤلفة قلوبهم أو أنه انقطع بعد النبي - صلى الله عليه وسلم؟
القول الأول: أنَّه انقطع بعزِّ الإسلام وظهوره.
وعللوا ذلك:
1 - بأن إعطاء المؤلفة قلوبهم انقطع؛ لظهور المسلمين، وقوة شوكتهم، ولا حاجة للتأليف، والحكم يزول بزوال علته.
2 - أن الصحابة لم يعطوا المؤلفة قلوبهم، ومن ذلك أنه في عهد عمر وعثمان - رضي الله عنهما - تُرِكَ سهمُ المؤلفة قلوبهم.
والقول الثاني: أن سهمهم باقٍ لم ينقطع، وهذا قول المذهب، وبه قال جمهور العلماء.
واستدلوا:
1 - بأن آية المصارف وهي قوله - تعالى -: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ [التوبة: 60] - هي من آخر ما نزل.
2 - عموم الأحاديث التي في السنة، وتقدم بعض منها، وفيها تأليف النبي  لبعضهم، ولا دليل على نسخ هذا الحكم، وهذا القول هو الرَّاجح والله أعلم.
وأمَّا أن الصحابة كعمر وعثمان - رضي الله عنهم - لم يعطوا المؤلفة قلوبهم، فلعدم الحاجة إلى التأليف.
الخامس: وفي الرقاب
وتحت هذا الصنف فوائد وأحكام:
أولاً: الرقاب: جمع رقبة وهي العنق، والمراد هنا: فك الإنسان من الرق أو الأسر.
ثانيًا: الرقاب تشمل صنفين: العبيد والمكَاتَبين.
والمكاتَب: هو العبد الذي اشترى نفسه من سيده، ولفظه مأخوذ من الكتابة؛ لأن العقد يقع فيه الكتابة بين السيد والعبد، بأنْ يدفع العبد لسيده مالاً، وفي الغالب يكون على أقساط، فإذا بلغ السِّعر الذي اتفقا عليه - عَتَقَ العبد، فالمكاتَب يُعطى من الزكاة ما يَعْتِقُ به نفسه.
مثال ذلك: اشترى عبدٌ نفسه من سيده بعشرة آلاف على عشرة أشهر في كل شهر ألف، فإن كان بَقِيَ له سبعة أشهر - أي: سبعة آلاف - أُعطي هذا المكَاتب سبعة آلاف ليعتق نفسه.
وكذلك العبيد الذين ليسوا مكاتَبِين، فإنهم يُعتقون من الزكاة.
مثال ذلك: عبدٌ لا يعتقه سيده إلا بعشرة آلاف، فيُعطى من الزكاة ما يعتق بها رقبته أو يعطى سيده، فيعطى عشرة آلاف، لا سيما إذا كان عند سيد يؤذيه.
والعبيد والمكاتبون يدخلون في عموم قول الله - تعالى -: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾.
ثالثًا: أضاف بعضُ أهل العلم - وهو قول المذهب - صنفًا ثالثًا يدخل في عموم ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾، وهو فكاك الأسير، وهو الأظهر، والله أعلم وذلك لسببين:
1 - لأنَّ في ذلك فك رقبة من الأسر، وإذا جاز فك العبد من رِقِّ العبودية، ففك بدن الأسير أولى؛ لأنَّه أشد منه محنة وابتلاء، وربَّما يتعرض للقتل.
2 - أن في فكاك أسره دفعًا لحاجته وهذا يشابه دفع حاجة الفقير.
إذًا يدخل تحت قوله - تعالى -: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ ثلاثة: العبد، والمكاتب، والأسير.
رابعًا: لو أن رجلاً عنده عبدٌ وعليه زكاة، وأراد أنْ يعتقَ العبد مكان إخراج الزكاة، فإن هذا لا يُجزئ على الصحيح وهو قول المذهب.
والتعليل: لأنَّه في هذه الحالة تكون بمنزلة إسقاط الدَّين، بدلاً عن الزكاة، كأن يكون على الإنسان دين عند شخص فقير، فيسقط الدَّين عنه ويحسبه من الزكاة، وهذا لا يجوز وحُكِيَ الإجماع على ذلك كما سيأتي.
فائدة: قال الشيخ ابن عثيمين: "وكذلك الغريق إذا لم يجد من يخرجه إلاَّ بمال، فالظاهر أننا نعطيه من الزكاة؛ لأنَّه يشبه الأسير؛ لأن المسألة عند أهل العلم لا تختص بالأرقاء، فالظاهر أنَّها تشمل كلَّ ما فيه إنجاء" .
السادس: الغارمون:
وتحت هذا الصنف فوائد وأحكام:
أولاً: الغُرْمُ في اللغة: اللزوم، والغارم: من لحقه الغرم، وهو الإلزام بالمال وشبهه
ثانيًا: الغارم ينقسم قسمين:
1 - غارم لإصلاح ذات البَيْن، فهذا يُعطى من الزَّكاة مقدار غرمه، ولو كان غنيًّا.
2 - غارم لنفسه، فهذا يُعطى من الزكاة مقدار غرمه إذا لم يستطع الوفاء.
الأول: الغارم لإصلاح ذات البين:
كأن يقع بين جماعة تشاجر في دماء وأموال، ويَحتاج الإصلاح بينهم إلى تحمُّل مال، فيتوسط رجل بالصلح بينهم، ويلتزم في ذمته مالاً؛ ليطفئ نار العداوة، فهذا يسمى غارمًا لإصلاح ذات البين، فهذا يُعطى من الزَّكاة مقدار ما غرمه، والغارم لإصلاح ذات البين له صور:
الأولى: أن يتحمل في ذمَّته مقدار ما يصلح بين الطائفتين، فهذا يعطى من الزكاة.
الثانية: أن يستدين مالاً، ويدفعه للمتخاصمين، فهذا يعطى من الزكاة.
الثالثة: أن يكون ذا مال فيسد من ماله ما يصلح به بين الطائفتين، ففيه خلاف:
قيل: لا يعطى؛ لأنه لا يسمى غارمًا، فهو قد سدد من ماله.
وقيل: لا يعطى إلا إذا نوى الرُّجوع على أهل الزكاة فيعطى، أمَّا إن لم ينو الرجوع عليهم أو نوى التبرُّع، فلا يعطى؛ لأنه متبرع وشيء أخرجه لله لا يجوز له الرجوع فيه، واختاره ابن عثيمين .
الثاني: الغارم لنفسه:
كمن اقترض مالاً لأجل نفقة أو زواج، أو علاج، أو بناء مَسكن، أو شراء ما يحتاج إليه وعائلته من آلات وأوان وفرش ونحوها، أو أتلف شيئًا لغيره خطأ، أو نزلت به جائحة اجتاحت ماله، فلحقه ديون ونحو ذلك، فهذا يعطى من الزَّكاة ما يسد به غرمه بشرطين:
الشرط الأول: أن يكونَ بحاجة إلى أن يقضي دَيْنه؛ أي: ليس قادرًا على سداده بنقود عنده، أو مرتَّب، أو عروض تِجارة، أو عقار زائد، أو أشياء زائدة يستطيع بيعها وسداد دينه، ولذا عبَّر صاحب الزاد لهذا الشرط بقوله: "أو لنفسه مع الفقر"، ومعنى الفقر هنا العجز عن الوفاء، فهذا هو الذي يُعطى من الزكاة.
الشرط الثاني: أن يكون دينه في أمر مُباحٍ أو في محرم تاب منه، "وأشار إلى هذا صاحب الروض"، أمَّا من استدان في محرم لم يتُب منه، فلا يعطى من الزكاة؛ لأنَّ في ذلك إعانة على معصية كمن يستدين في قمار أو خمر أو آلات لهو أو ربا أو في أمر أسرف فيه ولم يتب منه؛ لأن الإسراف محرم.
فمن حقَّق هذين الشرطين، فهو الذي يعطى من الزكاة.
ثالثًا: هل يُقضى دَينُ الميت من الزكاة؟
القول الأول: أنه يُقضى دين الميت من الزَّكاة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى"، (25/80).
واستدلوا: بعموم الآية؛ حيث قال تعالى: ﴿وَالْغَارِمِينَ﴾، وهذا يشمل كل غارم حيًّا كان أو ميتًا.
والقول الثاني: أنه لا يُقضى عن الميت من الزَّكاة، وهذا قول المذهب واختاره شيخنا ابن عثيمين.
لعدة وجوه:
الأول: أنَّ الظاهر من إعطاء الغارم أن يزال عنه ذل الدين، والميت ليس كذلك.
والثاني: أن النبي  كان لا يَقضي ديونَ الأموات من الزكاة، فكان يُؤتى بالميت وعليه دين، فيسأل: هل ترك وفاء؟ فإن لم يترك لم يصلِّ عليه، وإن قالوا له وفاء صلَّى عليه، والحديث متفق عليه، حتَّى فتح الله عليه الفتوح، فكان يقضي الديون من الفيء.
والثالث: أنه لو فُتِح هذا الباب، لعُطِّل قضاء الديون عن كثير من الأحياء؛ لأن الناس يعطفون على الأموات.
والرابع: أن الميت لا يسمى غارمًا؛ لأن ذمته خربت بموته .
رابعًا: إسقاط الدين عن المعسر، واحتساب ذلك من الزكاة لا يجزئ بلا نزاع.
 - قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى"، (25/84): "وأمَّا إسقاط الدين على المعسر، فلا يجزئ عن زكاة العين بلا نزاع".
مثال ذلك: رجل عليه دَيْنٌ وهو فقير لا يستطيع السَّداد يسمى معسرًا، كأن يكون عليه خمسمائة ريال، والدَّائن له زكاته خمسمائة ريال، فقال: أريد أنْ أسقط دينك، وأحسبه من الزكاة، فأنت مستحق للزكاة، ولي دين عندك، فاحتسبه من الزكاة، فإن هذا لا يجزئ لسببين:
الأول: أن الزكاة أخذ للمال من صاحبه وإعطائه لمن يستحقه، ففي الزكاة أخذ وإيتاء؛ قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ﴾ [التوبة: 103]، وقال تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 43]، وهذه الصورة ليست كذلك.
الثاني: أن الغالب فيمن يسقط الدين من زكاته يكون قد أيس من حصول حقِّه، وهو بذلك أثرى ماله الذي عنده؛ حيثُ لم يأخذْ منه شيئًا لزكاته، وسلم من دفع الزكاة.
خامسًا: إن كان الغارم لنفسه حريصًا على سداد دَيْنه وثقة، أعطي الزكاة بيده، وإن كان يُخشى أن يضيعها، فلا يسد بها دينه، فلا يعطى، وإنَّما يُعطى غريمه .
السابع: وفي سبيل الله:
وتحت هذا الصنف فوائد وأحكام:
أولاً: أصل السبيل: الطريق، وسبيل الله: هو الطريق الموصل إلى مرضاته، وهو يشمل جميع الأعمال الصالحة، ثم غلب إطلاقه على الجهاد.
وقوله - تعالى -: ﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ في آية أصناف الزَّكاة المراد به الجهاد في سبيل الله، وهذا قول جماهير العلماء منهم الأئمة الأربعة.
وقيل: المراد به وجوه الخير كلها، وهو قول الحسن البصري - رحمه الله.
وبهذا القول يكون شاملاً لبناء المساجد، وإصلاح الطرق، وبناء المدارس، وطبع الكتب، وكل عمل يقرب إلى الله - جل وعلا - وهذا القول مرجوح، والصحيح أن المقصود في الآية الجهاد في سبيل الله وهو القتال؛ لإعلاء كلمة الله.
والتعليل: لأنَّه لو فسر بوجوه الخير، لم يكن لحصر الزَّكاة بالأصناف الثمانية في الآية فائدة، فالله - عزَّ وجل - يقول: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ﴾ الآية، وهذا الأسلوب هو أسلوب الحصر بـ(إنَّما)، والتفسير بأن في (سبيل الله) عام في كل وجوه الخير، يُلغي فائدة الحصر، فالصواب أنَّ المراد بها: الجهاد في سبيل الله.
ثانيًا: اخْتُلِف فيمن يصرف سهم (وفي سبيل الله):
فالمذهب: أن المراد بهم الغُزاة المتطوعة الذين ليس لهم ديوان؛ (أي: ليس لهم راتب)، فعلى قول المذهب لا تصرف الزكاة في شراء الأسلحة والآلات ونحوها.
والقول الثاني: أنها تصرف في الجهاد في سبيل وما يتعلق به من رواتب الجند، وشراء الأسلحة والآلات التي تستعمل في الحرب، وكل ما يعين على الجهاد في سبيل وهذا القول هو الأظهر والله أعلم.
ويدل على ذلك عموم قول الله - تعالى -: ﴿فِي سَبِيلِ﴾، وكل من وضع المال في الجهاد في سبيل الله دخل في عموم الآية، سواء صرفت في رواتب للمجاهدين، أم سلاح أم آلات ونحوها؛ لأنه قال: ﴿في سبيل الله﴾، و(في) تدل على الظرفية لا على التمليك، حتى نقول: إنَّها للمجاهدين فقط، بل كل ما يحتاجونه أيضًا في مصلحة الجهاد، والمذهب اشترطوا في المجاهدين أن يكونوا لا رواتب لهم، أمَّا مَنْ تصرف لهم رواتب من بيت مال المسلمين، فلا يُعْطَون من الزكاة، وهو الأظهر لكن إن كان المال الذي يأتيهم من بيت مال المسلمين لا يكفيهم، فإنَّهم يُعطون من الزكاة.
ثالثًا: المجاهدون في سبيل الله يعطون من الزكاة، ولو كانوا أغنياء، وهو قول المذهب أيضًا، بل هو قول جمهور العلماء؛ لأنَّ المجاهد إنَّما يأخذ الزكاة لمصلحة المسلمين لا لمصلحة نفسه، والقاعدة: "إنَّ كل من أخذ لمصلحة المسلمين من أصناف الزكاة، جاز له أن يأخذ الزكاة ولو كان غنيًّا"، مثل العامل على الصدقة، والغارم لإصلاح ذات البين.
الثامن: ابن السبيل:
وتحت هذا الصنف فوائد وأحكام:
أولاً: السبيل هو الطريق، وابن السبيل هو المسافر، وسمي بذلك لملازمته الطريق، فكأنه ابنًا لها، والمسافر الذي انقطع به السفر يُعطى من الزكاة ما يوصله إلى بلده، ولو كان غنيًّا في بلده؛ لأن المال الذي في بلده لا قُدرة له عليه، فوجوده كعدمه فهو منقطع عن ذلك المال.
ثانيًا: المنشئ للسفر من بلده وانقطع فيها لا يعطى من الزكاة وهو قول المذهب أيضًا.
والتعليل: لأنَّ المراد بابن السبيل هو مَن لازم الطريق، ثم انقطع وهذا لم يلازم الطريق فليس ابنًا لها.
وعليه فلو أنَّ إنسانًا في بلده، واحتاج للسفر، وليس معه مال، فإنه لا يعطى من الزكاة بوصفه ابن السبيل؛ لأنه ليس كذلك، ولكن لو كان سفره لضرورة كعلاج ونحوه، وليس عنده مال، فإنه يُعطى من الزكاة؛ لكونه فقيرًا لا لأنه ابن السبيل، فهو أعطي لعلَّة أخرى.
ثالثًا: ابن السبيل يُعطى من الزَّكاة ما يكمل به سفره، ويقضي مقصوده، ويرجع لأهله، وهو قول المذهب أيضًا.
مثال ذلك: رجل خرج من جدة إلى الرِّياض لحاجة له في الرياض، وأثناء طريقه انقطع وليس معه مال، فإنه يُعطى من الزكاة ما يوصله إلى الرياض، ويقضي مقصوده، ويعود إلى جدة.
رابعًا: ابن السبيل إذا كان لديه ما يتمكَّن معه من الحُصُول على المال، فلا يسمى منقطعًا، وعليه فلا يجوز أن يأخذ من الزَّكاة، كأن تضيع أو تسرق أمواله، وهو في بلدة أخرى، ولكن معه كبطاقات الصراف ونحوها مما يستطيع معها الحصول على المال، فهذا لا يدخل في مسمى ابن السبيل؛ لأنه لا يُعد منقطعًا.
المسألة الثانية: من كان ذا عيال أخذ ما يكفيهم:
أي: إنَّ المستحق للزكاة إن كان له عيال، والمقصود بالعيال مَنْ يعولهم من زوجات وأولاد وإخوة، فإن كان ذا عيال، فإنَّه يأخذ من الزكاة ما يكفيه، ويكفي عياله وبه قال المذهب.
مثال ذلك: فقير ذو عائلة كبيرة، ويَحتاج هو لنفسه في السنة عشرة آلاف ريال، لكن مع عائلته يحتاج مائة ألف ريال، فهذا يُعطى مائة ألف ريال، ما يكفيه ويكفى عائلته لسنة كاملة، وهو قول جمهور العلماء.
المسألة الثالثة: يجوز صرف الزكاة لصنف واحد من الأصناف الثمانية:
وفي المسألة خلاف:
فالقول الأول: أنه لا بُدَّ من تعميم الأصناف الثمانية، فمن كانت زكاته ثمانمائة ريال مثلاً، أَعْطى كل صنف مائة ريال.
واستدلوا بعموم الآية: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا...﴾ [التوبة: 60]، وقالوا: إنَّ الآية فيها إضافة الصدقات للأصناف الثمانية بلام التمليك، وذُكِرُوا بالواو التي تدل على الاشتراك، كما لو قلت: هذا المال لزيد وعمرو ومحمد وسالم، فإنَّك لن تعطي المال لواحد منهم؛ لأنَّ اللفظ يدل على اشتراكهم في ذلك.
والقول الثاني: أنه يجوز صرف الزكاة لصنف واحد، وهو قول المذهب وبه قال جمهور العلماء، وهو الأظهر والله أعلم.
ويدل على ذلك:
1- قول الله - تعالى -: ﴿وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ﴾ [البقرة: 271].
2- حديث معاذ - رضي الله عنه - وفيه قال النبي : ((أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم))؛ متفق عليه.
ووجه الدلالة: أنَّه لم يذكر في الدليلين السابقين إلا صنفًا واحدًا هو الفقراء، فدلَّ على جواز صرفها لصنف واحد، وأنَّ هذا هو المراد بالآية التي فيها أصناف الزَّكاة الثمانية، لا التعميم على جميع الأصناف.
ويكفي أن يُعْطِيَ رجلاً واحدًا من الصنف، فيُعْطِي زكاته فقيرًا واحدًا، ولا يلزم مجموعة فقراء.
المسألة الرابعة: يسن أن يدفع الزكاة إلى أقاربه الذين لا تلزمه نفقتهم.
فإذا كان القريب كالعمِّ والخال والعمة والخالة مستحقًا للزكاة، فإن السنة أن تدفع إليه الزكاة لا إلى غيره، وبهذا قال المذهب أيضًا.
ويدل على ذلك: حديث سلمان بن عامر عن النبي  قال: ((الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرَّحم ثنتان صدقة وصلة))؛ رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن، ويشترط ألا يكون هذا القريب ممن تلزمك نفقته، فإن كان ممن يلزمك الإنفاق عليهم، لم تجزئ دفع الزكاة إليهم.
والتعليل: لأنَّه إذا دفع إليهم الزكاة، اغتنوا بها فسقطت عنهم النَّفقة، فالزكاة واجبة والنفقة واجبة، وبهذه الحال قام الواجب الأول مقام الواجب الثاني، وهذا لا يجزئ والقاعدة في هذا: "أنَّه لا يجوز للإنسان أن يسقط بزكاته أو بكفارته واجبًا عليه"، وهذه قاعدة مفيدة.
مثال الزكاة: رجل عليه زكاة مقدارها ألف ريال وهو غني، وله أخ فقير تلزمه نفقته، فلا يجوز له أن يعطي أخاه من الزكاة؛ لأنَّه بذلك يُسقِط واجبًا عليه وهي النفقة.
مثال الكفَّارة: رجل عليه كفَّارة إطعام عشرة مساكين، ونزل عنده فقراء عددهم عشرة وهم أضياف عنده، والضيف يَجب إكرامه بغدائه وعشائه يومه وليلته، فلا يجوز له أن يطعمهم بنية الكفارة؛ لأنه بذلك يُسقِط واجبًا عليه وهو حق الضيافة لهم.
فائدة: الأب إذا كان فقيرًا والابن عاجزًا عن النفقة على أبيه، يجوز للابن أن يُعْطِيَ زكاته لأبيه.
والتعليل: لأنَّه بإعطائه الزكاة لم يسقط واجبًا عليه، فهو عاجز عن النفقة أصلاً، فبدلاً من أن تذهب هذه الزكاة للبعيد، ويبقى الأب محتاجًا، يعطيها أباه، ويدفع حاجة أبيه، وهو بهذا لم يسقط بزكاته واجبًا .
المسألة الخامسة: الذين لا يجوز دفع الزكاة لهم.
ذكر صاحب الزَّاد أصنافًا لا يجوز دفع الزكاة إليهم، بمعنى أنَّه لا يجوز إعطاؤهم الزكاة على قول المذهب وهم:
أولاً: الهاشمي.
والمراد به من كان من نسل هاشم بن عبدالمطلب، وهو الجد الثاني للنبي  فهؤلاء يقال لهم: آل محمد تحرم الزكاة عليهم.
 ويدل على ذلك:
1- حديث المطلب بن ربيعة قال النبي : ((إنَّ الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنَّما هي من أوساخ الناس))، وفي رواية: قال: ((إنَّ هذه الصدقات إنَّما هي أوساخ الناس، وإنَّها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)) .
2- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال النبي : ((كخ كخ))؛ ليطرحها، ثم قال: ((أَمَا شَعَرْتَ أنَّا لاَ نأكل الصدقة))"؛ متفق عليه، قال ابن هبيرة في "الإفصاح"، (1/230): "واتَّفقوا على أنَّ الصدقة المفروضة حرامٌ على بني هاشم، وهم خمسة بطون: آل العباس، وآل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وولد الحارث بن عبدالمطلب".
فائدة: معنى قوله: ((إنَّما هي أوساخ الناس))؛ أي: إنَّ الزَّكاة تطهير لأصحابه، والطهور يتَّسخ بما يطهره، والله - عز وجل - يقول: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ﴾ [التوبة: 103]، تبيَّن مما سبق أنَّ الهاشمي لا يَجوز له أنْ يأخذَ من الزكاة، وهذا باتِّفاق العُلماء كما تقدم، سواء كان هذا الهاشمي فقيرًا، أم مجاهدًا، أم مؤلفًا، أم مسكينًا، أم غارمًا – استثنى أهل العلم فيما لو مُنِع الهاشمي من الخمس، أو لم يوجد خمس، كما هو الحال في زماننا، فإنه يُعطى الهاشمي إذا كان فقيرًا من الزَّكاة؛ دفعًا للضرورة التي هو فيها، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ، وهذا القول هو الأظهر والله أعلم.
والخمس: المراد به الغنائم تقسم خمسة أسهم: أربعة أسهم للغانمين، والسهم الخامس هو الخمس يقسم خمسة أسهم: الأول: لله ورسوله يكون في مصالح المسلمين وهو ما يعرف بالفيء أو بيت المال، والثاني: لذي القربى وهم قرابة النبي  وهم بنو هاشم وبنو المطلب، والثالث: لليتامى، والرابع: للمساكين، والخامس: لابن السبيل.
فائدة: جمهور العُلماء على جواز أخْذِ الهاشمي من صدقة التطوع، وهو اختيار شيخنا ابن عثيمين في "الممتع"، (6/254).
والتعليل: لأنَّ صدقة التطوُّع كمال، وليست أوساخ الناس، إلاَّ النبي  فإنَّها لا تحل له فهو لا يأكل الصدقة واجبة كانت أو تطوعًا.
ثانيًا: المطَّلبي؛ أي: إنَّ بني المطلب لا تَحِلُّ لهم الزكاة أيضًا، وبنو المطلب ينتسبون إلى المطلب، وهو أخو هاشم وأبوهما عبدمناف وله أربعة أولاد: هاشم، والمطلب، ونوفل، وعبدشمس، فالمذهب: أنه لا يجوز دفع الزكاة للمطلبي.
واستدلوا: 1- بحديث جبير بن مطعم أن عثمان بن عفان (وهو من بني عبدشمس)، وجبير بن مطعم (وهو من بني نوفل) قالا: يا رسول الله، أعطيت بني المطلب وتركتنا ونحن وهم منك بمنزلة واحدة، قال: ((إنَّما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد)) .
فالنبي  أعطى بني المطلب من الخمس، فقالوا له ذلك القول، فكما أن بني هاشم وبني المطلب استووا في أحقيتهم للخمس، فكذلك يستوون في منعهم من الزَّكاة.
ونوقش هذا الاستدلال بأنَّ بني المطلب استحقوا الخمس؛ لأنَّهم ناصروا النبي  فاستحقاقهم للخمس من أجل النُّصرة، لا من أجل القرابة، فلا يدخلون تحت (آل محمد)؛ لأنَّه لو كان من أجل القرابة لأُعطي من الخمس بنو نوفل وبنو عبدشمس، والنصرة لا تقتضي حرمانهم من الزكاة.
والقول الثاني: إنَّهم لا يمنعون من الزَّكاة، وهو الراوية المشهورة في المذهب، وهذا القول هو الراجح والله أعلم.
والتعليل: لأنَّ بني المطلب ليسوا من آل محمد  فلا يمنعون من الزَّكاة، ولعموم الآية في مصارف الزَّكاة، ويدخل فيها بنو المطلب، وأمَّا تشريكهم في الخمس، فلأنَّهم ناصروا النبي  لا لقرابتهم كما تقدم.
فائدة: بناء على ما سبق فأبناء عبدمناف على ثلاثة أقسام:
1- لا تدفع لهم الزكاة، ويستحقون من خُمْس الخَمْس وهم بنو هاشم الذين هم آل النبي - صلى الله عليه وسلم.
2 - تدفع لهم الزكاة على القول الراجح، ويستحقون من خمس الخمس وهم بنو المطلب.
3 - تدفع لهم الزكاة، ولا يستحقون من خمس الخمس وهم بنو نوفل وبنو عبدشمس.
- ما لحكم في مواليهما؟
موالي بني هاشم وبني المطلب: هم العبيد الذين أعتقتهم بنو هاشم وبنو المطلب.
فالمذهب: أنَّ مواليهما يَمنعون من الزَّكاة.
واستدلوا: بحديث أبي رافع، وهو مولى رسول الله  أراد أن يخرج مع عامل الصدقة ليأخذ منها، فنهاه النبي  وقال: ((إن مولى القوم منهم)) .
والقول الثاني: إنَّ موالي بني هاشم يمنعون لحديث أبي رافع، وأما موالي بني المطلب فلا يمنعون؛ لأنَّه كما أنه يجوز لبني المطلب أخذ الزكاة على القول الراجح، فكذلك مواليهم من باب أولى، وهذا القول هو الأظهر والله أعلم، وهو المشهور من المذهب.
ثالثًا: الفقيرة تحت غنِيٍّ منفق:
لا يجوز للفقيرة أن تأخذ من الزكاة إذا كانت تحت غني منفق كزوج أو أب أو أي قريب؛ لأنَّه يَجب عليه أن ينفق عليها.
والتعليل: لأنَّها إذا كانت تحت غنِيٍّ منفق، فهي مستغنية بما ينفقه الغني عليها، فلا بُدَّ من شرطين لمنع الزكاة عنها:
1- أن تكون تحت غني، فلو كانت تحت فقير، أعطيت من الزكاة.
2 - أن يكون هذا الغني منفقًا، فلو كانت تحت غني ممسك؛ أي: بخيل، فإنَّها تُعْطَى من الزكاة؛ لأنَّها لم تستغن بمن تحتها، فهي لا زالت فقيرة تدخل تحت عموم قوله - تعالى -: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ...﴾ [التوبة: 60].
رابعًا: الأصل والفرع:
أي: لا يجوز للإنسان أنْ يدفع الزَّكاة لأصله وهم الآباء والأمهات وإن عَلَوْا، ولا يجوز أن يدفع الزكاة لفرعه وهم الأبناء والبنات وإن نزلوا وهذا قول المذهب.
وعليه فلا يجوز أن يدفع الزكاة لأبيه أو أمه أو أجداده وإن عَلَوا، وكذلك لا يجوز أن يدفع الزكاة لابنه أو بنته وأبنائهما وإن نزلوا.
وعللوا ذلك بأنَّ الأصل والفرع تجب النَّفقة عليهما بكل حال إذا كانوا فقراء وهو غني، فلا يعطيهم من الزكاة؛ لأنَّ دفع الزكاة إليهم تسقط واجبًا وهو النفقة، وبهذه الحال تكون فائدة الزَّكاة تعود إليه؛ لأنَّه بها وفَّر على نفسه حق النفقة.
فالمذهب: أنَّه لا يجوز دفع الزكاة إلى الأصل أو الفرع مطلقًا.
والأظهر والله أعلم: أن في المسألة تفصيلاً، وأن الأصول والفروع ينقسمون قسمين:
القسم الأول: مَنْ تلزمه نفقتهم، وهم على حالين:
الحال الأولى: أن يكون قادرًا على النَّفقة عليهم، فهؤلاء لا يجوزُ دفع الزَّكاة إليهم بإجماع العلماء .
والتعليل: لأنَّه بدفعه الزكاة لهم يسقط واجبًا عليه وهو النفقة عليهم.
الحال الثانية: أن يكون عاجزًا عن النَّفقة عليهم، فالأظهر - والله أعلم - جوازُ دفع الزكاة لهم.
والتعليل: لأنَّه بدفع الزكاة لهم لم يسقط واجبًا عليه كالنفقة، ولأنه لا دليل على عدم جواز دفع الزكاة إليهم.
مثال ذلك: رجل يتسلَّم راتبًا قدره ثلاثة آلاف لا يكفي إلا له ولأولاده، ولا يستطيع النفقة على أبيه، فهو إنْ أخرج زكاة ماله للبعيد، لم يستفد أبوه شيئًا، ويبقى معدومًا لا نفقةَ ولا زكاة، فله أن يُعطي أباه الزكاة؛ لأنَّه لم يسقط حقًّا واجبًا بدفعه الزكاة إليه، أمَّا إن كان قادرًا على النفقة على أبيه، فلا يجوز له أن يدفع الزكاة لأبيه بإجماع العلماء؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الاختيارات"، (ص104): "ويَجوز صرف الزكاة إلى الوالدين وإن علوا، وإلى الولد وإن سفل إذا كانوا فقراء وهو عاجز عن نفقتهم؛ لوجود المقتضى السالم عن المعارض المقاوم، وهو أحد القولين في مذهب أحمد".
والقسم الثاني: مَنْ لا تلزمه نفقتهم.
وذلك كأنْ يكون غير وارث له كابن البنت أو لأن ماله لا يتَّسع لنفقته.
فالمذهب: كما تقدم يرون عدم جواز دفع الزكاة لهم.
والأظهر والله أعلم: جواز دفع الزكاة لهم.
والتعليل: كما تقدم؛ لأنَّه بذلك لم يسقط واجبًا عليه كالنفقة، ولا دليل على عدم جواز دفع الزكاة إليه، بل دفع الزكاة إليهم أفضل لحديث سلمان بن عامر عن النبي  قال: ((الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة))؛ رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: "حسن".
والحديث عام يدخل فيه الصدقة الواجبة والمستحبة، خلافًا للمذهب الذي حملوه على الصدقة المستحبة.
مسألة: لو كان الأصل أو الفرع مستغنيًا بالنفقة كأن يكون ابنٌ ينفق عليه أبوه أو أب ينفق عليه ابنه، ففي هذه الحالة كما تقدم لا يجوز للابن أن يدفع لأبيه الزَّكاة؛ لأنه يسقط واجب النفقة، ولكن لو كان على الأب دَيْن لا يستطيع سداده، فهو يسمى غارمًا لنفسه، فهل يجوز للابن أن يؤدي دَيْن أبيه من الزكاة؟
الصواب: أنه يجوز له ذلك.
والتعليل: لأنَّه لا يجب على الابن سدادُ دَيْنِ الأب، فهو بدفعه الزكاة لم يسقط واجبًا عليه، وكذلك العكس يجوز للأب سداد دَيْنِ ابنه من الزكاة إن كان مستحقًّا؛ لأن سدادَ الدين لا يجب عليه، فهو لم يسقط واجبًا عليه بدفعه للزكاة، وتقدم أن القاعدة في ذلك "أنَّ الإنسانَ لا يجوز له أن يسقط بزكاته أو كفارته واجبًا عليه".
 - قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"، (25/92): "إذا كان على الولد دَيْن ولا وفاء له، جاز له أن يأخذ من زكاة أبيه في أظهر القولين في مذهب أحمد وغيره".
خامسًا: العبد:
فالعبد لا تدفع الزكاة إليه.
والتعليل:
1 - لأنه هو وماله لسيده، فلو أُعطي مالاً لم يملكه، وإنَّما يذهب لسيده.
2 - ولأنه تجب نفقته على سيده، فهو غني بغنى سيده.
 - يُستثى من ذلك المُكاتَب، فإنَّه يُعْطَى من الزَّكاة كما تقدم لدخوله في عموم قوله - تعالى -: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ [التوبة: 60]، واستثنى بعض العلماء إذا كان العبد من العاملين عليها، فإنَّه يعطى من الزكاة على عمالته؛ لأنَّه كالأجير في ذلك.
سادسًا: الزوج:
لا يصح للزوجة أن تدفع زكاتها لزوجها، وهذا قول المذهب، وهو قول جمهور العلماء.
وعلَّلوا ذلك: بقوة الصلة بينهما، فهو يشبه الفرع والأصل.
والقول الثاني: أنَّه يجوز للزوجة أن تدفع زكاتها لزوجها ما دام مستحقًّا، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد وهو الأظهر والله أعلم.
والتعليل:
1 - لأنَّ نفقة الزوج ليست واجبة على الزوجة، فهي لم تسقط واجبًا عليها بدفعها الزكاة لزوجها.
2 - لعدم الدليل على منع دفع الزكاة للزوج، وما دام فقيرًا، فالأصل أنه يدخل في عموم الآية: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ﴾ [التوبة: 60].
3 - حديث زينب امرأة ابن مسعود؛ حيث قالت: "يا نبي الله، إنَّك أمرت بالصدقة، وكان عندي حلي، فأردت أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود أنَّه هو وولده أحقُّ من تصدقت عليهم، فقال النبي : ((صَدَقَ ابن مسعود، زوجك وولدك أحقُّ من تصدقت به عليهم))؛ متفق عليه، وهذا لفظ البخاري، وفي لفظ مسلم: ((لهما أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة)).
ونوقش هذا الاستدلال: بأنه يحمل على صدقة التطوُّع وعلى هذا حمله المذهب.
ونوقشت هذه المناقشة: بأنَّه جاء في بعض الرِّوايات أنَّها قالت: "أتجزئ عني؟"، والإجزاء إنَّما يكون في الواجب، وأيضًا حينما سألت زينب لم يستفصل عن الصَّدقة التي تسأل عنها، هل هي واجبة أو مستحبة؟ فيبقى الحديث على عمومه يَحتمل الواجب والمستحب والقاعدة: "أنَّ ترك الاستفصال ينزل منزلة العموم"، وأيضًا لو حملنا هذا الحديث على الصدقة المستحبة، فلا دليلَ يَمنع من إعطاء الزوجة زكاتها لزوجها، فالأصل جواز ذلك لدخوله في عموم الفقراء.
تنبيه: ذكر أصحاب المذهب علةً أخرى لعدم جواز إعطاء الزوجة زوجها الزَّكاة، وهي أنَّها ستنتفع من الزَّكاة لو أعطتها لزوجها؛ لأنَّ الزوج سينفق على زوجته، ومن ذلك ما أخذه من الزكاة، وهذه العِلَّة علة وجيهة لها حظ من النظر؛ لأنَّ الإنسان لا يرجو بزكاته نفع نفسه، وعليه نقول: إنَّ الزوجة تعطي زوجَهَا الزَّكاة بشرط ألا تنتفع منه بهذه الزَّكاة، أو تسقط واجبًا، كأن تكون غنية وزوجها فقير وأبناؤها فقراء، فيجب عليها أنْ تنفقَ على أبنائها، أمَّا إذا أعطت الزَّوج؛ ليسدِّد ديونه أو يشتري ما يخصه كثوب ونحوه، أو لينفقها على أبناء من زوجته الأخرى، أو غيره مما لا تنتفع به، أو تسقط واجبًا، فلا بأس .
فائدة: أما إعطاء الزوج زوجته زكاته، كأن تكون الزوجة فقيرة.
فالمذهب: أنه لا يجوز.
وعلَّلوا ذلك:
1- بقوة الصلة بينهما، وهذا يشبه الفرع والأصل.
2- أن إعطاء الزَّوج زوجته زكاته يسقط حقًّا واجبًا على الزوج وهو النفقة.
والأظهر - والله أعلم -: أنه يجوز للزوج أن يعطي زوجته زكاته، بشرط ألا يُسقِط الحق الواجب عليه وهو النفقة، كأن يعطيها؛ لتسدد دينها، فسداد الدين لا يجب على الزوج، فهو لم يسقط حقًّا واجبًا عليه، أو يعطيها لتنفق على أولادها من زوج آخر، فلا بأس؛ لأنَّه لا يجب على الزَّوج أن ينفقَ عليهم، أمَّا إذا أعطاها لملبسها، أو لطعامها ونحوهما، فلا يجوز؛ لأنَّ هذه نفقة واجبة عليه لا يجزئ أن يجعل الزكاة مقامها.
المسألة السادسة: من تهاون في زكاته، فأعطاها من ظنه غير أهل لها، ثم تبيَّن له عكسه.
مثال ذلك: رجل أعطى زكاته رجلاً يظنه غنيًّا، ثم بعد ذلك تبيَّن له أنه فقير، فهل تجزئ زكاته؟
المذهب وهو الأظهر - والله أعلم -: أنَّها لا تجزئه زكاته.
والتعليل: لأنه دفع زكاته وهو يعتقد أنه وضعها في غير موضعها، فهو لم يؤدِّ العبادة على وجهها المطلوب، وحاله حال المتلاعب المتساهل؛ لأنه أعطى زكاته وهو يظنه غير أهل لهذه الزكاة.
 - وما حكم عكس هذه المسألة بأنْ يعطيها من يظنه أهلاً للزكاة، ثم تبيَّن له أنه ليس أهلاً لها.
مثال ذلك: رجل أعطى زكاته رجلاً آخر ادَّعى أنه ابن سبيل، كأن يأتيه، فيقول: انقطعت في سفري؛ بسبب سرقة نقودي ونحو ذلك، فأعطاه زكاته، ثم تبيَّن له بعد ذلك أنه ليس ابن سبيل، فهل تجزئه زكاته؟
المذهب: أنَّها لا تجزئه إلاَّ لغني ظنه فقيرًا، فعلى هذا القول لو وضعها في أي صورة من الصور ظنًّا منه أنَّه أهل للزكاة، ثم تبيَّن له خلاف ذلك، لم تجزئه زكاته، فيخرج غيرها إلا في صورة واحدة، فإنَّها تجزئه فيما لو أعطاها مَنْ يظنه فقيرًا، ثم تبيَّن له أنه غني فقالوا تجزئه.
وعللوا ذلك: بأنه لا يخفى حال من يستحق الزَّكاة في الغالب، وأمَّا استثناء صورة الغني، فلأن الفقر يخفى أمره في الغالب، ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وسيأتي قريبًا.
والقول الثاني: أنَّها تجزئه مطلقًا إن كان ذلك بعد الاجتهاد والتحرِّي، وهذا القول هو الأظهر - والله أعلم - وهو اختيار شيخنا ابن عثيمين .
أمثله ذلك:
- رجلٌ أعطى رجلاً يظنه غارمًا، فبان أنَّه غير غارم، وكان ذلك بعد التحرِّي، فإنَّها تجزئه.
- رجلُ أعطى رجلاً يظنه ابن سبيل، فبان أنَّه غير ابن سبيل، فإنَّها تجزئه بعد التحري.
- رجلٌ أعطى رجلاً يظنه فقيرًا، فبان أنَّه غني، فإنَّها تجزئه بعد التحري.
- رجلٌ أعطى رجلاً يظنه حرًّا مستحقًّا، فبان أنَّه عبد، فإنَّها تجزئه بعد التحرِّي.
- رجلٌ أعطى رجلاً يظنه مسلمًا، فبان كافرًا، فإنَّها تجزئه بعد التحرِّي، وغير ذلك من الصور، فإنَّها تجزئه إذا كان ذلك بعد التحري.
ويدل على ذلك:
1- عموم قول الله - تعالى -: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، وهو بتحريه واجتهاده اتقى الله ما استطاع.
2- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله : ((قال رجل: لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته، فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون تُصدِّق على سارق فقال: اللهم لك الحمد، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون: تُصدِّق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون تُصدِّق على غني، فقال: اللهم لك الحمد، على سارق، وعلى زانية، وعلى غني، فأُتِيَ فقيل له: أمَّا صدقتك على سارق، فلعله أن يستعفَّ عن سرقته، وأمَّا الزانية فلعلها أن تستعفَّ عن زناها، وأمَّا الغني فلعله يعتبر، فينفق مما أعطاه الله))؛ متفق عليه.
ووجه الدلالة: أن صدقته على الغني وهو حين أعطاه يظنه فقيرًا، قُبلت عند الله تعالى.
المسألة الثامنة: صدقة التطوع:
لما ذكر صاحب الزَّاد الصدقة الواجبة، سواء في المال كالزكاة أم في البدن كزكاة الفطر، ختم كتاب الزكاة بما يجبر ما يحصل في الصدقة الواجبة من خلل، وهي صدقة التطوع.
 - صدقة التطوع مستحبة:
والفقهاء منهم من يفرق بين المستحب وهو ما ثَبَتَ بالاجتهاد والقياس وبين المسنون وهو ما ثبت بالنص، ومنهم من يجعل المراد واحدًا كالحنابلة، فصدقة التطوع مسنونة، والأدلَّة من الكتاب والسنة على ذلك وفي بيان فضلها كثيرة منها:
1 - من الكتاب قوله - تعالى -: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 35].
 - قوله - تعالى -: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 261].
 - وقوله - تعالى -: ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ [الحديد: 18]، والآيات كثيرة.
2 - من السنة: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال النبي : ((ما تصدق أحد بصدقة من طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - إلاَّ أخذها الرحمن بيمينه - وإن كان تمرة - فتربو في كفِّ الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يُربي أحدُكم فَلُوَّه أو فصيله))؛ متفق عليه.
قال ابن حجر: "الصدقة نتاج العمل، وأحوج ما يكون النِّتاج إلى التربية إذا كان فطيمًا، فإذا أحسن العناية به، انتهى إلى حدِّ الكَمَال، وكذلك عمل ابن آدم - لا سيما الصدقة - فإنَّ العبدَ إذا تصدق من كسب طيب لا يزال نظر الله إليها يكسبها نعت الكمال، حتى تنتهي بالتضعيف إلى نصابٍ تقع المناسبة بينه وبين ما قدم، نسبة ما بين التمرة والجبل" .
- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: "قال النبي : ((قال الله - عز وجل -: يا ابنَ آدم، أَنْفِق أُنْفِق عليك))"؛ متفق عليه.
- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال النبي : ((ما نقصت صدقة من مال)) .
والأحاديث في فضلها والحث عليها كثيرة ليس هذا موطن بسطها.
 - صدقة التطوع لها وقتان:
الوقت الأول: وقت مطلق في جميع الأزمنة والأمكنة والأحوال، والأحاديث في فضل الصدقة والحث عليها مطلقة وهي كثيرة.
الوقت الثاني: وقت مقيَّدٌ وتتأكد في:
1 - المكان الفاضل: كمكَّة والمدينة.
والتعليل: لشرف المكان وهو الحرم.
2 - الزَّمان الفاضل: كرمضان، وعشر ذي الحجة.
ويدل على ذلك: حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله  أجود الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل..."؛ الحديث متفق عليه.
وحديث ابن عبَّاس - رضي الله عنه - قال النبي : ((ما من أيامٍ العملُ الصالح فيهنَّ أحب إلى الله من هذه الأيام العَشْرِ، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله، فقال: ولا الجهاد في سبيل الله إلاَّ رجلٌ خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء))؛ رواه البخاري.
1 - الأحوال الفاضلة: كشدة الحاجة كأيام البرد وأيام الجوع (المجاعات).
ويدل على ذلك قوله - تعالى -: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ [البلد: 14]، قال الشيخ السعدي: "أي: مجاعة شديدة، بأن يطعم وقت الحاجة، أشد الناس حاجة" .
ففي هذه المواضع الثلاثة تتأكد الصَّدقة، وما تقدم من أمثلة المواضع ليس هذا حصرها، وإنَّما هناك أزمان تتأكد فيها الصدقة، كوقتِ كسوف الشمس وخسوف القمر؛ لحديث عائشة مرفوعًا: ((إنَّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد، ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك، فادعوا وكبروا وتصدقوا وصلوا))؛ رواه البخاري.
وهناك أحوال تتأكد فيها غير شدة حاجة كحال الغزو؛ قال تعالى: ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 95]، وكحال الصحة والسعة؛ لأنَّ الإنسان حال الضيق والمرض والاضطرار يتصدق، وأمَّا حال السعة والصحة، فدواعي الصدقة أقل، وحب المال يطغى، جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رجلاً أتى رسول الله  فقال يا رسولَ الله، أيُّ الصدقة أعظم؟ قال: ((أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى))؛ متفق عليه.
والأمثلة كثيرة وليس هذا موضع بسطها.
فائدة نفسية: قال شيخنا ابن عثيمين في "الممتع"، (6/269): "مسألة: إذا تعارض شرف المكان وشرف الأحوال، فأيهما يقدم؟".
الجواب: يقدم شرف الأحوال؛ لأنَّ الصدقة إنَّما شرعت لدفع الحاجة، فالفضل فيها باعتبار الحاجات يتعلق بنفس العبادة، وقد سبق قاعدة مُفيدة في هذا الباب، وهي: "أن الفضل إذا كان يتعلق بذات العبادة، كانت مراعاته أَوْلَى من الفضل الذي يتعلق بزمانها أو مكانها" اهـ.
 - يسن أن يتصدق بالفاضل عن كفاية من يمونه.
أي: إنَّه إذا أراد أن يتصدق الإنسانُ، فإنَّه يتصدق بالزَّائد عن نفقته ونفقة من يمونهم، وعليه فإنَّه يبدأ بسد كفايته وكفاية من يمونهم ثم يتصدق، وهذه العبارة جاء بها صاحبُ الزاد؛ ليبيِّن أن المتصدق لا يقدم صدقته على نفقة من يمون.
ويدُلُّ على ذلك: حديث حكيم بن حزام أنَّ النبي  قال: ((اليد العُليا خير من اليد السُّفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصَّدقة عن ظهر غنى))؛ متفق عليه.
ووجه الدلالة: أنَّ النبي  قدَّم من تجب له النفقة وهم من يعولهم على الصدقة المستحبة؛ لأنَّ الواجب مقدم على المسنون، وبين النبي  أنَّ خير الصدقة عن ظهر غنى؛ أي: ما فضل من غناه.
 - وما الحكم لو قدَّم الصدقة على النفقة؛ أي: إنَّه تصدق بما ينقص النفقة؟
من تصدق وترك من يمونه بلا نفقة أو نقص نفقتهم، فإنَّه يأثم بذلك.
ويدُلُّ على ذلك: حديث عبدالله بن عمرو بن العاص أنَّ النبي  قال: ((كفى بالمرء إثمًا أنْ يضيع مَن يقوت))؛ رواه مسلم، ومن يقوت؛ أي: من يلزمه قوتهم، ويأثم؛ لأنَّه فرط في واجب، وهو إنقاصه من نفقة من يلزمه نفقتهم، ولا شَكَّ أن هذا من قلَّة الفقه أن يقدم التطوع، ويفرط في الواجب.
- وهل يجوز للإنسان أنْ يتصدَّق بكامل ماله؟
اختلف أهل في حكم التصدق بجميع المال:
أولاً: باتفاق الأئمة الأربعة أنَّه لا يجوز أن يتصدق بجميع ماله، ويترك مَن تجب عليه أنْ ينفق عليهم كأهله ومن يَمونه؛ لأنَّ نفقتهم واجبة عليه، فلا يقدَّم النفل على الفرض، ولما رواه مسلم أن النبي   قال: ((كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يملك قوته))، ولغيره من الأدلة الدَّالة على وجوب النفقة وإثم من ضيع هذا الواجب.
ثانيًا: ما زاد على نفقة مَن تجب عليه نفقتهم، فجمهور العُلماء أنَّ إمساكَ ما تحتاج إليه من المال أَوْلى من إخراج ماله كله في الصدقة إلاَّ بشرطين:
1- أن يكون ذا مكسب في المستقبل يرجوه.
2- أن يكون واثقًا من نفسه يحسن التوكُّل، والصبر على الفقر، والتعفف عن المسألة، فإذا توفَّر الشرطان:
قيل: باستحباب الصَّدقة بجميع المال، وهذا هو القول المصحح عند الشافعية، وظاهر كلام الموفق في المغني.
وقيل: بجواز ذلك، وهو المفهوم من مذهب المالكية والشافعية .
- تبيَّن مما تقدم أن من أراد أنْ يتصدق بجميع ماله الزَّائد عن نفقة من تجب عليه نفقته لا يمنع بشرطين تقدم ذكرها، واختاره شيخنا ابن عثيمين ، واختاره الشيخ ابن جبرين .
ويدل على ذلك:
1- ثناء الله - عزَّ وجلَّ - على الأنصار بإيثارهم؛ حيث قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9].
2- حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في قصة تصدُّق أبي بكر بجميع ماله، وقال حينما سأله النبي  : ((ما تركت لأهلك؟))، فقال: "تركت لهم الله ورسوله"، والحديث رواه أبو داود (1678)، والترمذي (3675)، وقال: حديث حسن صحيح.
3- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة الرجل الأنصاري الذي أخذ ضيف النبي   لبيته حينما قال: ((من يُضيف هذا؟))، فأخذه الأنصاري، وليس عنده من الطعام إلا طعامه ولأهله وصبيانه، فنوَّمت امرأته صبيانها وأكل الضيف، ولم يأكلا، فقال النبي   بعد ذلك: ((إن الله عجب من صنيعكما بضيفكما البارحة))، والحديث رواه البخاري (3798)، ومسلم (2054).
4- حديث كعب بن مالك - رضي الله عنه - في قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا، قال كعب - رضي الله عنه -: قلت: يا رسول الله، إنَّ من توبتي أن أنخلعَ من مالي صدقة إلى الله ورسوله، فقال رسول الله: ((أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك)) .
وظاهر هذه الأدلة أنَّهم لم يتركوا شيئًا لأهاليهم، والجواب عن ذلك أنَّ أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - والأنصار - رضي الله عنهم - في الآية تحقق فيهم الشَّرطان السابقان، فعندهم من التوكُّل والصبر الشيء العظيم، وأيضًا كانوا يؤملون نفقتهم في المستقبل؛ حيثُ كانوا يشتغلون فيبيعون ويشترون، وأمَّا الأنصاري فالضيافة عليه واجبة .
قال الشوكاني: "إنَّ التصدق بجميع المال يختلف باختلاف الأحوال، فمن كان قويًّا على ذلك يعلم من نفسه الصبر لم يُمنع، وعليه يتنزل فعل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وإيثار الأنصار على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن لم يكن كذلك فلا، وعليه يتنزل ((لا صدقة إلا عن ظهر غنًى))، وفي لفظ ((أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنًى)) .
تم بحمد الله الانتهاء من شرح كتاب الزَّكاة، ويليه كتاب الصيام، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.