أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير- ط: التفاسير - المجلد السابع

يوجد طبعة أخرى في نفس الصفحة طبعة مكتبة العلوم والحكم بالمدينة المنورة
http://www.islamland.com/arb/books/view/13460

هذا تفسير موجز لكتاب الله تعالى القرآن الكريم وضعه الإمام "أبو بكر جابر الجزائري" مراعياً فيه حاجة المسلمين اليوم إلى فهم كلام الله تعالى الذي هو مصدر شريعتهم وسبيل هدايتهم هو عصمتهم من الأهواء وشفاؤهم من الأدواء، قال تعالى "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين".

هذا ونظراً لليقظة الإسلامية اليوم فقد عكف المصنف إلى وضع تفسيره هذا محاولاً الجمع فيه بين المعنى المراد من كلام الله، وبين اللفظ القريب من فهم المسلم اليوم. حيث بين فيه العقيدة السلفية المنجية، والأحكام الفقهية الضرورية، هادفاً من وراء هذا التفسير تربية ملكة التقوى في النفوس، بتحبيب الفضائل وتبغيض الرذائل، والحثّ على أداء الفرائض واتقاء المحارم، مع التجمل بالأخلاق القرآنية والتحلي بالآداب الربانية.

وبالعودة لمضمون هذا التفسير نجد أنه جاء متميزاً بالميزات التالية: أولاً: الوسطية بين الاختصار المخل والتطويل الممل، ثانياً: اتباع منهج السلف في العقائد والأسماء والصفات، ثالثاً: الالتزام بعدم الخروج عن المذاهب الأربعة في الأحكام الفقهية، رابعاً: إخلاؤه من الإسرائيليات صحيحها وسقيمها، إلا ما لا بد منه لفهم الآية الكريمة وكان مما تجوز روايته لحديث، خامساً: إغفال الخلافات التقسيمية، سادساً: الالتزام بما رجحه ابن جرير الطبري في تفسيره عند اختلاف المفسرين في معنى الآية، سابعاً: إخلاء الكتاب في المسائل النحوية والبلاغية والشواهد العربية، ثامناً: عدم التعرض للقراءات إلا نادراً حيث يتوقف معنى الآية على ذلك، واقتصار الأحاديث على الصحيح والحسن منها، تاسعاً: خلو التفسير من ذكر الأقوال وإن كثرت والالتزام بالمعنى الراجح الذي عليه جمهور المفسرين من السلف الصالح.

وقد جعل المؤلف الكتاب دروساً منظمة منسقة. فقد يجعل الآية الواحدة أو الآيتين أو الأكثر درساً فيشرح كلماتها ثم يبين معانيها ويذكر هدايتها المقصودة منها للاعتقاد والعمل. وجعل الآيات مشكولة على قراءة حفص.

http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



الكتاب : أيسر التفاسير
المؤلف : أبو بكر الجزائري
مصدر الكتاب : موقع التفاسير
http://www.altafsir.com
[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]

 

وقوله تعالى { إن في ذلك لآية لكل عبد منيب } أي إن في ذلك المذكور من إحاطة السماء والأرض وقدرة الله على خسف من شاء خسف الأرض بهم وإسقاط كِسَفٍ من السماء من شاء ذلك لهم ىية . وعلامة بارزة على قدرة الله على إهلاك من شاء ممن كفروا بالله وبرسوله وكذبوا بلقائه . وكون المذكور ىية لكل عبد منيب دون غيره لأن المنيب هو الرجاع إلى ربه كلما أذنب آب لخشيته من ربه فالخائف الخاشى هو الذي يجد الآية واضحة أمامه في إحاطة الأرض والسماء بالإِنسان وقدرة الله على خسف الرض به أو إسقاط السماء كسفاً عليه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات : 1- بيان ما كان المشركون عليه من استهزاء وتكذيب وسخرية بالنبي صلى الله عليه وسلم .
2- تقرير البعث وأن المكذبين به محكوم عليهم بالعذاب فيه .
3- لفت الأنظار غلى قدرة الله تعالى المحيطة بالإِنسان ليخشى الله تعالى ويرهبه فيؤمن به ويعبده ويوحده .
4- فضل الإِنابة إلى الله وشرف المنيب . والإِنابة الرجوع إلى التوبة بعد الذنب والمعصية ، والمنيب الذي رجع في كل شيء إلى ربه تعالى .
(3/313)
________________________________________
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
شرح الكلمات :
{ ولقد آتينا داود منا فضلاً } : أي نبوة وملكاً .
{ يا جبال أوِّبى معه } : أي وقلنا يا جبال أوِّبى معه أي رجعى معه بالتسبيح .
{ والطير } : أي والطير تسبح ايضاً معه .
{ وألنَّا له الحديد } : أي جعلناه له في اللين كالعجينة يعجنها كما يشاء .
{ أن اعمل سابغات } : أي دروعاً طويلة تستر المقاتل وتقيه ضرب السيف .
{ وقدر في السرد } : أي اجعل المسمار مناسبا للحلقة ، فلا يكن غليظاً ولا دقيقاً ، اي اجعل المسامير مقدرة على قدر الحلق لما يترتب على عدم المناسبة من فساد الدرع وعدم الانتفاع بها .
{ ولسليمان الريح غدوها شهر : أي وسخرنا لسليمان الريح غدوها أي سيرها من الغداة ورواحها شهر } إلى منتصف النهار مسيرة شهر ورواحها من منتصف النهار إلى الليل شهر كذلك اي مسافة شهر .
{ واسلنا له عين القطر } : أي وأسلنا له عين النحاس .
{ ومن يزغ منهم } : أي ومن يعدل عن طاعة سليمان فلم يطعه نذقه من عذاب السعير .
{ من محاريب } : جمع محراب المقصورة تكون إلى جوار المسجد للتعبد فيها .
{ وجفان كالجواب } : أي وقصاع في الكبر كالحياض التي حول الابار يجبى إليها الماء .
{ وقدور راسيات } : أي وقدور كبار ثابتات على الأثافى لكبرها لا تحول .
{ إلا دابة الأرض } : أي الأرضة .
{ تأكل منسأتة } : أي عصاه بلغة الحبشة .
{ فلما خر } : أي سقط على الأرض ميتاً .
{ تبينت الجن } : أي انكشف لها فعرفت .
{ في العذاب المهين } : وهو خدمة سليمان في الأعمال الشاقة .
معنى الآيات :
يذكر تعالى في هذا السياق الكريم مظاهر قدرته وإنعامه على عباده المؤمنين ترغيباً في طاعته وترهيباً من معصيته فيقول : { ولقد آتينا داود منا فضلاً } وهو النبوة والزبور « كتاب » والملك . وقلنا للجبال { أوِّبى مع سليمان } اي ارجعي صوت تسبيحه والطير أمرناها كذلك فكان إذا سبح ردد تسبيحه الجبال والطير . وهذا تسخيرٌ لا يقدر عليه إلا الله . وقوله : { وألنَّا له الحديد } وهذا امتنان آخر وهو تسخير الحديد له وتليينه حتى لكأنه عجينة يتصرف فيها كما شاء ، وقلنا له اعمل درعا طويلة سابغاتٍ تشتتر بها في الحرب ، ( وقدر في السرد ) وقوله { واعملوا صالحاً } أي اعملوا بطاعتي وترك معصيتي فأدوا الفرائض والواجبات واتركوا الاثم والمحرمات . وقوله : { إني بما تعملون بصير } فيه وعدٌ ووعيد إذ العلم بالأعمال يستلزم الثواب عليها إن كانت صالحة والعقاب عليها إن كانت فاسدة .
وقوله تعالى : { ولسليمان الريح } أي سخرنا لسليمان بن داود الريح { غُدُّوها شهر ورواحها شهر } اي تقطع مسافة شهر في الصباح ، وأخرى في المساء اي من منتصف النهار إلى الليل فتقطع مسيرة شهرين في يوم واحد ، وذلك أنه كان لسليمان مركب من خشب يحمل فيه الرجال والعتاد وترفعه الجان من الأرض فإذا ارتفع جاءت عاصفة فتحملها ثم تتحول إلى رخاء فيوجه سليمان السفينة حيث شاء بكل ما تحمله وينزل بها كسفينة فضاء تماماً .
(3/314)
________________________________________
وقوله تعالى { وأسلنا له عين القطر } وهو النحاس فكما ألان لداود الحديد للصناعة أجرى لسليمان عين النحاس لصناعته فيصنع ما شاء من آلات وأدوات النحاس .
وقوله تعالى { ومن الجن } اي وسخرنا من الجن من يعمل بين يديه أي أمامه وتحت رقابته يعمل له ما يريد عمله من أمور الدنيا . وذلك بإذن ربِّه تعالى القادر علىتسخير ما يشاء لمن يشاء . وقوله { ومن يزغ منهم } اي ومن يعدل من الجن { عن أمرنا } اي عما أمرناهم بعمله وكلفناهم به { نذقه من عذاب السعير } وذلك يوم القيامة . وقوله { يعملون له ما يشاء } بيان لما في قوله { من يعمل بين يديه } من محاريب قصور أو بيوت تكون ملاصقة للمسجد للتعبد فيها ، وتماثيل اي صور من نحاس أو خشب إذ لم تكن محرمة في شريعتهم وجفان جمع جفنة وهي القصعة الكبيرة تتسع لعشرة من الأكلة ، كالجواب أي في الكبر والجابية حوض يفرغ فيه ماء البئر ثم يسقى به الزرع أو قدور راسيات اي ويعملون له قدوراً ضخمة لا تتحول بل تبقى دائماً موضوعة على الأثافي ويطبخ فيها وهي في مكانها وذلك لكبرها ومعنى راسيات ثابتات على الأثافي .
وقوله تعالى { اعملوا } اي قلنا لهم اعملوا ىل داود شكراً اي اعملوا الصالحات شكراً لله تعالى على هذا الإِفضال والإِنعام اي أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا ربكم في أمره ونهيه يكن ذلك منكم شكراً لله على نعمه . روى أنه لما أمروا بهذا المر قال داود عليه السلام لآلِهِ ايكم يكفيني النهار فإنى أكفيكم الليل فصلوا لله شكراً فما شئت أن ترى في مسجدكم راكعاً أو ساجداً في اية ساعة من ليل أو نهار إلا رايت . ويكفى شاهداً أن سليمان مات وهو قائم يصلى في المحراب . وقوله تعالى { وقليل من عبادي الشكور } هذا إخبار بواقع وصدق الله العظيم الشاكرون لله على نعمه قليل وفي كل زمان ومكان وذلك لإِستيلاء الغفلة على القلوب من جهة ولجهل الناس بربهم وإنعامه من جهة أخرى .
وقوله تعالى في الآية ( 14 ) { فلما قضينا عليه الموت } اي توفيناه : ما دلهم على موته الا دابة في الأرض اي الأرضة المعروفة تاكل منسأته فلما أكلتها خر على الأرض ، وذلك أنه سأل ربّه أن يعمى خبر موته عن الجن ، حتى يعلم الناس أن الجن لا يعلمون الغيب كما هم يدعون ، فمات وهو متكئ على عصاه يصلى في محرابه ، والجن يعملون لا يدرون بموته فلما مضت مدة من الزمن وأكلت الأرضة المنسأة وخر سليمان على الأرض علمت الجن أ ، هم لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا بموت سليمان ولما أقاموا مدة طويلة في الخدمة والعمل اشلاق وهم لا يدرون . هذا معنى قوله تعالى { فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خرّ تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب } -كما كان يدعى بعضهم- { وما لبثوا في العذاب المهين } اي الذي كان سليمان يصبه عليهم لعصيانهم وتمردهم على الطاعة .
(3/315)
________________________________________
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان إكرام الله تعالى لآل داود وما وهب داود وسليمان من الآيات .
2- فضيلة صنع السلاح وآلات الحرب لغرض الجهاد في سبيل الله .
3- مركبة سليمان سبقت صنع الطائرات الحالية بآلاف السنين .
4- شرع من قبلنا شرعٌ لنا إلا ما خصّه الدليل كتحريم الصور والتماثيل علينا ولم تحرم عندهم .
5- وجوب الشكر على النعم ، وأهم ما يكون به الشكر الصلاة والإِكثار منها .
6- تقرير أن علم الغيب لله وحده .
(3/316)
________________________________________
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
شرح الكلمات :
{ لقد كان لسبأ في مسكنهم } : أي لقد كان لقبيلة سبأ اليمانية في مسكنهم .
{ آية } : أي علامة على قدرة الله وهى جنتان عن يمين وشمال .
{ بلدة طيبة ورب غفور } : أي طيبة المناخ بعيدة عن الأوباء وأسبابها ، والله رب غفور .
{ فأعرضوا } : أي عن شكر الله وعبادته .
{ سبيل العرم } : أي سد السيل العرم .
{ ذواتى أُكل خمط وأثلٍ } : أي صاحبتي أُكل مُر بشعٍ وشجر الثل .
{ ذلك } : أي التبديل جزيناهم بكفرهم .
{ القرى التي باركنا فيها } : هي قرى الشام مبارك فيها .
{ قرىً ظاهرة } : أي متواصلة من اليمن إلى الشام .
{ وقدرنا فيها السير } : أي المسافات بينها مقدرة بحيث يقيلون في قرية ويبيتون في أخرى .
{ فجعلناهم أحاديث } : أي لمن جاء بعدهم أي أهلكناهم ولم يبق منهم إلا ذكرهم متداولا بين الناس .
{ ومزقناهم كل ممزق } : أي فرقناهم في البلاد كل التفرق .
{ إن في ذلك لآيات } : أي إن في ذلك المذكور من النعم وسلبها لعبراً .
{ لكل صبار شكور } : أي صبار على الطاعات وعن المعاصى شكور على النعم .
معنى الآيات :
لما ذكر تعالى إنعامه على آل داود وشكرهم له وأخبر أنه قليل من عباده من يشكر إنعامه عليه ذكر أولاد سبأ وأنه أنعم عليهم بنعم عظيمة وأنهم ما شكروها فأنزل بهم نقمته وسلبهم نعمته وذلك جزاء لكل كفور . فقال تعالى { لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال } أي لقد كان لأولاد سبأ وهم الأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار ، ومن أنمار جنعم وبجيلة ومن أولاد سبأ أربعة سكنوا في الشام وهم لخم وجدام وغسان ، وعاملة وأبوهم سبأ هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان . وقوله تعالى { في مسكنهم } أي في مساكنهم { آية } أي علامة على قدرة الله وإفضاله على عباده وهي جنتان عن يمين وشمال الوادى أي جنتان عن يمين الوادى وأخرى عن مشاله كلها فواكه وخضر ، تسقى بماء سد مأرب . كلوا من رزق ربكم أي قلنا لهم كلوا من رزق ربكم واشكروا له أي هذا الإِنعام بالإِيمان به وبرسله وطاعته وطاعة رسله .
وقوله { بلدة طيبة } أي هذه بلدة طيبة وهي صنعاء اليمن مناخها طيب وتربتها طيبة لا يوجد بها وباء ولا هوام ولا حشرات كالعقارب ونحوها ، { ورب غفور } يغفر ذنوبكم متى أذنبتم وتبتم واستغفرتم . ولكن أَبْطَرْتُهم هذه النعم فكفروها ولم يشكروا كما قال تعالى { فأعرضوا } بأن كذبوا رسل الله إليهم وعصوا الله ورسله فانتقم الله منهم لإِعراضهم وعدم شكرهم كما هى سنته في عباده . قال تعالى { فأرسلنا عليهم سيل العرم } وذلك بأن خرب السد ، وذهبت المياه وماتت الأشجار وأمْحَلَتْ الأرض ، وتبدلت قال تعالى : { وبدلناهم بجنتهم جنتين ذواتى أُكل خمط } أي مُرٍ بشع وهو شجر الأراك وأثل وهو الطرفاء ، وشيء من سدر قليل .
(3/317)
________________________________________
هذا جزاء من أعرض عن ذكر الله وفسق عن أمره وخرج عن طاعته . قال تعالى { ذلك } أي الجزاء { جزيناهم بما كفروا } بسبب كفرهم وقوله : { وهل نجازى الا الكفور } أي وهل نجازى بمثل هذا الجزاء وهو تحويل النعمة إلى نقمة غير الكفور .
وقوله تعالى : { وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها } وهي مدن الشام { قرى ظاهرة } أي مدناً ظاهرة على المرتفعات من الأرض ، وذلك من صنعاء عاصمتهم إلى الشام قرابة أربعة آلاف وسبعمائة قرية أي مدينة ، وقوله { وقدرنا فيها السير } أي يجعل المسافات بين كل مدينة ومدينة متقاربة بحيث يخرج المسافر بلا زاد من ماء أو طعام فلا يقيل إلا في مدينة ويخرج بعد القيلولة فلا ينام إلا في مدينة أخرى حتى يصل إلى الشام أو إلى المدينة التي يريد . وهذا كان لهم قبل هدم السد وتفرقهم وقوله تعالى : { وسيروا فيها ليالي وأياما آمنين } اي وقلنا لهم سيروا بين تلك المدن الليالي والأيام ذوات العدد آمنين من كل ما يخاف . وما كان منهم الا أنهم بطروا النعمة وقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم . أي حملهم بطر النعمة على أن سألوا ربهم بلسان حالهم أو قالهم أن يباعد بين مسافات أسفارهم بإزالة تلك المدن حتى يحملوا الزاد ويركبوا الخيول ويذوقوا طعم التعب وهذا في الواقع هو حسد من الأغنياء للفقراء الذين لا طاقة لهم على السفر في المسافات البعيدة بدون زاد ولا رواحل . قال تعالى { وظلموا أنفسهم } إذ بإعراضهم وحسدهم وبطرهم النعمة كانوا قد ظلموا أنفسهم فعُرِّضوا لعذاب الحرمان في الدنيا وعذاب النار في الآخرة ، وقوله تعالى { فجعلناهم أحاديث } أي لمن بعدهم يروون أخبارهم ويقصون قصصهم بعد أن هلكوا وبادوا . وقوله تعالى { ومزقناهم كل ممزق } أي فرقناهم في البلاد كل تفريق بحيث لا يرجى لهم عودُ اتصال أبداً فذهب الأوس والخزرج إلى يثرب « المدينة النبوية » وهم الأنصار ، وذهب غسان إلى الشام ، والازد إلىعُمان ، وخزاعة إلى تهامة وأصبحوا مضرب المثل يقال : ذهبوا شذر مذر . وتفرقوا أيادي سبأ ، أي مذاهب سبأ وطرقها . وقوله تعالى { إن في ذلك لآيات } أي إن في إنعام الله على أبناء سبأ ثم في نقمته عليهم لما بطروا النعمة وكفروا الطاعة لعبراً يعتبر بها كل صبور على الطاعات فِعلاً وعن المعاصي تركاً ، { شكور } أي كثير الشكر على النعم . اللهم اجعلنا لك من الشاكرين .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- التحذير من الإِعراض عن دين الله فإنه متى حصل لأُمة نزلت بها النقم وسلبها الله النعم .
وكم هذه الحال مشاهدة هنا وهناك لا بين الأُمم والشعوب فحسب بل حتى بين الأفراد .
2- التحذير من كفر النعم بالاسراف فيها وصرفها في غير مرضاة الله واهبها عز وجل .
3- خطر الحسد وانه داء لا دواء له ، والعياذ بالله يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب .
4- فضيلة الصبر والشكر وعلو شأن الصبور الشكور .
(3/318)
________________________________________
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
شرح الكلمات :
{ ولقد صدق عليهم إبليس ظنه } : أي صدَقَ ظن إبليس فيهم أنه يستطيع إغواءهم .
{ فاتبعوه } : في الكفر والضلال والإِضلال .
{ إلا فريقا منهم } : أي من بني آدم وهم المؤمنون المسلمون فإنهم لم يتبعوه وخاب ظنه فيهم زاده الله خيبة إلى يوم القيامة .
{ وما كان له عليهم من سلطان } : أي ولم يكن لإبليس من تسليط منا عليهم لا بعصا ولا سيف وإنما هو التزيين والإِغراء بالشهوات .
{ إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة : أي لكن أذنَّا له في إغوائهم -إن استطاع- بالتزيين والإِغاء ممن هو منها في شك } لنعلم علم ظهور من يؤمن ويعمل صالحاً ممن يكفر ويعمل سوءاً .
{ وربك على كل شيء حفيظ } : أي وربك يا محمد على كل شيء حفيظ وسيجزى الناس بما كسبوا .
{ قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله } : أي أنهم شركاء لله في ألوهيته .
{ لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض } : أي ملكاً استقلالياً لا يشاركهم الله فيه .
{ وما لهم فيها من شرك } : أي وليس لهم من شركة في السموات ولا في الأرض .
{ وما له منهم من ظهير } : أي وليس لله تعالى من شركائكم الذين تدعونهم من معين على شيء .
{ ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } : أي ولا تنفع الشفاعة أحداً عنده حتى يأذن هو له بها .
{ حتى إذا فزع عن قلوبهم } : أي ذهب الفزع والخوف عنهم بسماع كلم الرب تعالى .
{ قالوا : ماذا قال ربكم؟ } : أي قال بعضهم لبعض استبشاراً ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق اي في الشفاعة .
{ وهو العليُّ الكبير } : العلي فوق كل شيء علوّ ذات وقهر وهو الكبير المتعالي الذي كل شيء دونه .
معنى الآيات :
لما ذكر تعالى ما حدث لسبأ من تقلبات وكان عامل ذلك هو تزيين الشيطان وإغواؤه أخبر تعالى عن حال الناس كل الناس فقال { لقد صدق عليهم إبليس ظنَّه } اي فيهم لما علم ضعفهم أمام الشهوات فاستعمل تزيينها كسلاح لحربهم { فاتبعوه } فيما دعاهم إليه من الشرك والإِسراف والمعاصي { إلا فريقاً من المؤمنين } وهم المؤمنون الصادقون في إيمانهم الذين أسلموا لله وجوههم وهم عباد الله الذين ليس للشيطان عليهم سبيل لإِغوائهم فإنهم لم يتبعوه . هذا ما دلت عليه الاية ( 20 ) وقوله تعالى : { وما كان له } أي للشيطان { عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك } اي قوة مادية ولا معنوية من حجج وبراهين ، وإنما أذن له في التحريش والوسواس والتزيين وهذا الإِذن لعلة وهي ظهور حال الناس ليعلم من يؤمن بالآخرة وما فيها من جنات ونيران ، وقد حفت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات فالمؤمنون بالآخرة يتحملون مشاق التكاليف فينهضون بها ويتجنبون الشهوات فينجون من النار ويدخلون الجنة ، والذين لا يؤمنون بالآخرة لاينهضون بواجب ولا يتجنبون حراماً فيخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة وذلك هو الخسران المبين .
(3/319)
________________________________________
وقوله تعالى { وربك على كل شيء حفيظ } فهو يحصى أعمال عباده من خير وشر ويحاسبهم عليها ويجزيهم بها .
وقوله تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله } اي قل يا رسولنا بعد هذا العرض والبيان الشافي الذي تقدم في هذا السياق للمشركين من قومك ما دمتم مصرين على الشرك بحجة أن شركاءكم ينفعُون ويصرون وأنهم يشفعون لكم يوم تبعثون ادعوهم غير أن الحقيقة التي يجب أن تسمعوها وتعلموها -وأنتم بعد ذلك وما ترون وتهوون- هي أن الذين تدعونهم من دون الله وجعلتموهم لله شركاء لا يملكون مثقال ذرة اي وزن ذرة في السموات ولا في الأرض لا يملكونها استقلالا ولا ميلكونها شركة مع الله المالك الحق ، وهو معنى قوله تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض } { وما لهم فيهما } أي في السموات والأرض من شرك بمعنى شركة ولو بأدْنى نسبة . وشيء آخر وهو أن شركاءكم الذين تدعونهم ليس لله تعالى منهم من ظهير أي معين حتى لا يقال بحكم حاجة الرب إليه ندعوه فيشفع لنا عنده ، وشيء آخر هو أن اشلفاعة عند الله لا تتم لأحد ولا تحصل له إلا إذا رضى الله تعالى بالشفاعة لمن أريد الشفاعة له ، وبعد أن يأذن ايضا لمن اراد أن يشفع . فلم يبق إذاً أي طمع في شفاعة آلهتكم لكم لا في الدنيا ولا في الآخرة إذاً فكيف تصح عبادتهم وهم لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا يشفعون لأحد في الدنيا ولا الآخرة . وقوله تعالى { حتى إذا فزع عن قلوبهم } إلى آخره بيان لكيفية الشفاعة يوم القيامة وهي أن الشافع المأذون له في الشفاعة عندما يسأل الله تعالى فيجيبه الرب تعالى فيصاب بخوف وفزع شديد { حتى إذا فزع عن قلوبهم } اي زال ذلك الفزع والخوف قالوا لبعضهم البعض ماذا قال ربكم؟ فيقولون مستبشرين قالوا : الحق أي أذن لنا في الشفاعة وهو العليّ الكبير أي العلى فوق خلقه بذاته وقهره وسلطانه الكبير الذي ليس كمثله شيءٌ سبحانه لا إله إلا هو ولا ربّ سواه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان أن إبليس صدق ظنه في بني آدم وأنهم سيتبعونه ويغويهم .
2- تقرير التوحيد وأ ، ه لا غله إلا الله ولا يستحق العبادة سواه .
3- بيان بطلان دعاء غير الله إذ المدعو كائنا من كان لا يملك مثقال ذرة في الكون لا بالاستقلال ولا بالشركة ، وليس لله تعالى من ظهير اي ولا معينين يمكن التوسل بهم ، وأخيراً والشفاعة لا تتم إلا بإِذنه ولمن رضى له بها . ولذلك بطل دعاء غير الله ومن دعا غير الله من ملك أو نبي أو وليَّ أو غيرهم فقد ضل الطريق وأشرك بالله في أعظم عبادة وهى الدعاء ، والعياذ بالله تعالى .
(3/320)
________________________________________
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
شرح الكلمات :
{ قل من يرزقكم من السموات والأرض } : من السموات بإنزال المطر ومن الأرض بإنبات الزروع .
{ قل الله } : أي إن لم يجيبوا فأجب أنت فقل الله ، إذ لا جواب عندهم سواه .
{ وإنا وإياكم لعلى هدى أو فى : وأخبرهم بأنكم أنتم أيها المشركون أو إيانا ضلال مبين } لعلى هدى أو في ضلال مبين ، وقطعا فالموحدون هم الذين على هدى والمشركون هم في الضلال المبين ، وإنما شككهم تلطفاً بهم لعلهم يفكرون فيهتدون .
{ قل لا تسألون عما أجرمنا } : أي أنكم لا تسألون عن ذنوبنا .
{ ولا نُسال عما تعملون } : أي ولا نُسأل نحن عما تعملون . وهذا تلطفاً بهم ايضاً ليراجعوا أمرهم ، ولا يحملهم الكلام على العناد .
{ قل يجمع ربُّنا ثم يفتح بيننا بالحق } : أي قل لهم سيجمع بيننا ربُّنا يوم القيامة ويفصل بيننا بالحق وهذا أيضا تلطق بهم وهو الحق .
{ قل أروني الذين الحقتم به : أي قل لهؤلاء المشركين أروني شركاءكم الذين شركاء } عبدتموهم مع الله فإن أروه إياهم أصناماً لا تسمع ولا تبصر قامت الحجة عليهم . وقال لهم أتعبدون ما تنحتون وتتركون الله الذي خلقكم وما تعملون؟! .
{ كلا بل هو الله العزيز الحكيم } : كلا : لن تكون الصنام أهلا للعبادة بل المعبود الحق الواجب العبادة هو الله العزيز الحكيم .
{ كافة للناس } : أي لجميع الناس أي عربهم وعجمهم .
{ بشيراً ونذيراً } : بشيراً للمؤمنين بالجنة ، ونذيراً للكافرين بعذاب النار .
{ قل لكم ميعاد يوم } : هو يوم القيامة .
معنى الآيات :
ما زال السياق في تبكيت المشركين وإقامة الحجج عليهم بتقرير التوحيد وإبطال التنديد فقال تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم سل قومك مبكتا لهم : { قل من يرزقكم من السموات والأرض } بإنزال الأمطار وإرسال الرياح لواقح وإنبات النباتات والزروع والثمار وتوفير الحيوان للحم واللبن ومشتقاته؟ وإن تلعثموا في الجواب أو ترددوا خوف الهزيمة العقلية فأجب أنت قائلاً الله . إذ ليس من جواب عندهم سواه .
وقوله { وإنا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين } هذا أسلوب التشكيك وحكمته التلطف بالخصم المعاند حتى لا يلج في العناد ولا يفكر في الأمر الذي يجادل فيه ، وإلاّ فالرسول والمؤمنون هم الذين على هدىً ، والمشركون هم الذين في ضلال مبين وهو أمر مسلم لدى طرفي النزاع . وقوله تعهالى { قل لا تُسالون عما أجرمنا ولا نُسال عما تعملون } وهذا أيضاً من باب التلطف مع الخصم المعاند لتهدأ عاصفة عناده ويراجع نفسه عله يثوب إلى رشده ويعود إلى صوابه . فقوله : { لا تُسألون عما أجرمنا } هو حق فإنهم لا يسألون عن ذنوب الرسول والمؤمنين ، ولكن الرسول والمؤمنين لا ذنب لهم وإنما هو من باب التلطق في الخطاب ، وأما المشركون فإن لهم أعمالاً من لاشرك والباطل سيجزون بها والرسول والمؤمنون قطعاً لا يُسالون عنها ولا يؤاخذون بها ما داموا قد بلغوا ونصحوا .
(3/321)
________________________________________
وقوله : { قل يجمع بيننا ربُّنا } اي يوم القيامة { ثم يفتح بيننا } اي يحكم ويفصل بيننا { بالحق وهو الفتاح } اي الحاكم العليم بأحوال خلقه فأحكامه ستكون عادلة لعلمه بما يحكم فيه ظاهراً وباطناً . وفي هذا جذب لهم بلطف ودون عنف ليقروا بالبعث الآخر الذي ينكرونه بشدة . وقوله { قل أروني الذين ألحقتم به شركاء } اي قل يا رسولنا لهؤلاء المشركين أروني آلهتكم التي اشركوتموها بالله والحقتموها به وقلتم في تلبيتكم : لبيك لبيك لا شريك لك . الا شريكاً هو لك تملكه وما ملك . وهكذا يتحداهم رسول الله بإذن الله أن يروه شركاء لله حقيقة يسمعون ويبصرون ينفعون ويضرون ولما كان من غير الممكن الإِتيان بهم غير اصنام وتماثيل زجرهم بعنف لعلهم يستفيقون من غفلتهم فقال : { كلا ، بل هو الله العزيز الحكيم } أي ليست تلك الأصنام بآلهة تعبد مع الله بل المعبود الحق الواجب العبادة هو الله رب العالمين وغله الولين والآخرين { العزيز } اي الغالب على أمره ومراده الحكيم في تدبير خلقه وشؤون عباده .
وقوله : { وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً } أي لم نرسلك يا رسولنا لمهمة غير البشارة والنذارة فلذا لا يحزنك إعراضهم وعدم استجابتهم فبشر من آمن بك واتبعك فيما جئت به ، وأنذر من كفر بك ولم يتابعك على الهدى الذي تدعو اليه .
وقوله : { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } فيه تعزية للرسول ايضاً إذ الواقع أن أكثر الناس لا يعلمون إذ لو علموا لما ترددوا في عبادة الله وتوحيده والتقرب إليه طمعا فيما عنده وخوفاً مما لديه .
وقوله : { ويقولون } أي أهل مكة من منكري البعث والجزاء { متى هذا الوعد } أي العذاب الذي تهددنا وتخوفنا بنزوله بنا إن كنتم أيها المؤمنون صادقين فيما تقولون لنا وتعدونا به . وهنا أمر الله تعالى رسوله أن يرد على استهزائهم وتكذيبهم بقوله : { قل لكم ميعاد } يوم معين عندنا محدد لا تستأخرون عنه ساعة لو طلبتم ذلك لتتوبوا وتستغفروا ولا تستقدمون اخرى لو طلبتم تعجيله إذ الأمر مبرم مُحكمٌ لا يقبل النقص ولا الزيادة ولا التبديل ولا التغيير .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- مشروعية التلطف مع الخصم فسحاً له في مجال التفكير لعله يثوب إلى رشده .
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء وتنويع الأسلوب الدعوى في ذلك .
3- تقرير عقيدة النبوة المحمدية ، وعموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة .
4- يوم القيامة مقرر الساعة واليوم فلا يصح تقديمه ولا تأخيره بحال .
(3/322)
________________________________________
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
شرح الكلمات :
{ ولا بالذي بين يديه } : أي من الكتب السابقة وهي التوراة والإِنجيل .
{ يرجع بعضهم إلى بعض القول } : أي يقول الاتباع كذا ويرد عليهم المتبوعون بكذا وهو المبيّن في الآيات .
{ أنحن صددناكم عن الهدى } : أي ينكر المستكبرون وهم المتبوعون أن يكونوا صدوا التابعين لهم عن الهدى بعد إذْ جاءهم بواسطة رسوله .
{ بل كنتم مجرمين } : أي ظلمة فاسدين مفسدين .
{ بل مكر الليل والنهار } : أي ليس الأمر كما ادعيتم بل مكركم بنا بالليل والنهار هو الذي جعلنا نكفر بالله .
{ ونجعل له أنداداً } : أي شركاء نعبدهم معه فننادُّه بهم .
{ وأسروا الندامة } : أي اخفوها إذ لا فائدة منها أو أظهروها أي أظهروا الندم إذ أسر الندامة له معنيان أخفى وأظهر .
{ وجعلنا الاغلال في أعناق } : أي وجعلنا الأغلال جمع غل حديدة تجعل في عنق المجرم .
{ هل يجزون إلا ما كانوا يعملون } : أي ما يجزون إلا ما كانوا يعملون .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد والبعث والجزاء فيخبر تعالى فيقول : { وقال الذين كفروا } اي من مشركي مكة قالوا للرسول والمؤمنين لن نؤمن بهذا القرآن الذي أنزل على محمد ، ولا بالذي أنزل على من تقدمه من الأنبياء كالتوراة والإِنجيل ، وذلك لما احتُجَّ عليهم بتقرير التوراة والإِنجيل للتوحيد والنُّبوات والبعث والجزاء قالوا لن نُؤمن بالجميع عناداً ومكابرة .
وجحوداً وظلما . ولازم هذا أنهم ظلمة معاندون ومن باب دعوتهم غلى الهدى ستعرض الآيات لهم حالهم يوم القيامة فيقول تعالى لرسوله وهم يسمعون { ولو ترى } يا رسولنا { إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول } أي يتحاورون متلاومين . يقول الذين استُعفوا وهم الفقراء المرءوسون الذين كانوا أتباعاً لكبرائهم وأغنيائهم ، يقولون للذين استكبروا عليهم في الدنيا : لولا أنتم اي صرفتموها عن الإِيمان واتباع الرسول لكنا مؤمنين فيرد عليهم الكبراء بما أخبر تعالى عنهم في قوله : { قال الذين استكبروا للذين استضعفوا : أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم } اي ما صددناكم أبداً بل كنتم مجرمين اصحاب إجرام وفساد ويرد عليهم المستضعفون قائلين بما أخبر تعالى به عنهم { وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار } أي بل مكركم بنا في الليل والنهار إذ تأمروننا ان نكفر بالله ونجعل له أنداداً . قال تعالى { واسروا الندامة } أي أخفوها لما رأوا العذاب . قال تعالى : { وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا } أش شدت ايديهم غلى أعناقهم بالأغلال وهي جمع غل حديدة يشد بها المجرم ، ثم أدخلوا الجحيم إذ كانوا في موقف خارج منهم ، وقوله تعالى : { هل يجزون إلا ما كانوا يعملون } اي ما يُجْزَونَ غلا ما كانوا يعملون فالجزاء بحسب العمل إن كان خيراً فخير وإن كان شراً فشرن وكانت أعمالهم كلها شرّاً وظلماً وباطلاً .
(3/323)
________________________________________
هذا وجواب لولا في أول السياق محذوف يُقدر بمثل : لرايت أمراً فظيعاً واكتُفي بالعرض لموقفهم عن ذكره فإنه أتم وأشمل .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تشابه حال الظلمة والمجرمين فالعرب المشركون كانوا يركنون إلى أهل الكتاب يحتجون بما عندهم على الرسول والمؤمنين . ولما وجدوا التوراة والإِنجيل يقرران عقيدة البعث والجزاء والنبوة تبرأوا منهما وقالوا لن نؤمن بالقرآن ولا بالتوراة والإِنجيل .
واليهود كانوا يحتجون بالتوراة على المسلمين ولما وجدوا التوراة تقرر ما يقرره القرآن تركوا الاحتجاج بالتوراة وأخذوا يحتجون بالسحر كما تقدم في البقرة في قول الله تعالى { ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان } 2- تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرض كامل لموقف من مواقف يوم القيامة ، ومشهد من مشاهده .
3- بطلان احتجاج الناس بعمل العلماء أو الحكماء وأشراف الناس اذا كان غير موافق لشرع الله تعالى وما جاء به رسله من الحق والدين الصحيح .
(3/324)
________________________________________
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
شرح الكلمات :
{ الا قال مترفوها } : أي رؤساؤها المنعمون فيها من أهل المال والجاه .
{ نحن أكثر أموالاً وأولاداً } : أي من المؤمنين .
{ يبسط الرزق لمن يشاء } : امتحاناً أيشكر العبد أم يكفر .
{ ويقدر } : أي يضيق ابتلاء أيصبر المرء أم يسخط .
{ ولكن أكثر الناس لا يعلمون } : أي الحكمة في التوسعة على البعض والتضييق على البعض .
{ تقربكم عندنا زلفي } : أي قربى بمعنى تقريباً .
{ إلا من آمن وعمل صالحا } : أي لكن من آمن وعمل صالحاً هو الذي تقربه تقريباً .
{ وهم في الغرفات آمنون } : أي من المرض والموت وكل مكروه .
{ والذين سعوا في آياتنا } : أي عملوا على إبطال القرآن والإِيمان به وتحكيمه .
{ معاجزين } : أي مقدرين عجزنا وأنهم يفوقوننا فلم نعاقبهم .
{ وما أنفقتم من شيء } : أي من مال في الخير .
{ وهو خير الرازقين } : أي المعطين الرزق . أما خلق الرزق فهو لله تعالى وحده .
معنى الآيات :
قوله تعالى : روما أرسلنا في قرية من نذير } هذا شروع في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان حال من سبق من الأمم وما واجهت به رسلها فقال تعالى { وما أرسلنا في قرية } أي مدينة من المدن { من نذير إِلا قال مترفوها } أي أهل المال والثروة المتنعمون بألوان المطاعم والمشارب والملابس والمراكب .
قالوا لرسل الله { إنا بما ارسلتم به كافرون } فردوا بذلك دعوتهم . { وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً } فاعتزوا بقوتهم ، { وما نحن بمعذبين } كذبوا بالبعث والجزاء كما أن كلامهم مُشعر بأنهم مغترون بأن ما أعطاهم الله من مال وولد كان لرضاه عنهم وعدم سخطه عليهم . وقوله تعالى { قل ان ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } اي قل يا نبينا لأولئك المغترين بأن ما لديهم منمال وولد ناجم عن رضا الله عنهم قل لهم إن ربي جل جلاله يبسط الرزق لمن يشاء امتحاناً له لا لرضى عنه ولا لبغض له ، كما أنه يضيق الرزق على من يشاء ابتلاء له لا لبغضه ولا لمحبته ، { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ومن بينهم مشركو قريش لا يعلمون أن بسط الرزق كتضييقه عائد إلىتربية الناس بالسراء والضراء امتحاناً وابتلاء . وقوله تعالى : { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى } يخبر تعالى المشركين المغترين بالمال والولد يقول لهم وما أموالكم ولا أولادكم بالحال التي تقربكم منا وتجعلنا نرضى عنكم وندنيكم منا زلفى أي قربى . { إلا من آمن وعمل صالحاً } أي لكن من فعلوا الواجبات والمندوبات { فأولئك } أي المذكورون لهم جزاء الضعف ، اي جزاء تضاعف لهم حسناتهم فيه ، الحسنة بعشر أمثالها غلى سبعمائة ، وذلك بسبب عملهم الصالحات { وهم في الغرفات } أي غرفات الجنة آمنون من الموت ومن كل مكروه ومنغص لسعادتهم .
وقوله تعالى : { والذين يسعون في آياتنا معاجزين } يخبر تعالى أن الذين يعملون بجد وحرص في إبطال آياتنا وإطفاء نور هدايتنا في كتابنا وقلوب عبادنا المؤمنين ويظنون أنهم معجزون لنا أي فائتوننا لا ندركهم ولا نعاقبهم هؤلاء المغرورون في العذاب محضرون أي كأنك بهم وهم محضرون في جهنم يعذبون فيها أبداً .
(3/325)
________________________________________
فقوله تعالى : { قل إن ربي } اي قل يا رسولنا مرة أخرى تقريراً لهذه الحقيقة العلمية التي خفيت على الناس وجهلها قومك وهي أن الله يبسط الرزق لمن يشاء امتحاناً لا حباً فيه ولا بغضاً له . وإنما امتحاناً له هل يشكر أو يكفر فإن شكر زدناه وأكرمناه وان كفر سلبناه ما أعطيناه وعذبناه ، { ويقدر له } اي لمن شاء من عباده ابتلاء له لا بغضا له ولا حبا فيه . وإنما لننظر هل يصبر على الابتلاء أو يسخط ويضجر فنزيد في بلائه وشقائه . . وقوله تعالى : { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين } في هذا دعوة إلى الإِنفاق في سبيل الله وتشجيع عليه بإِعلام الناس أن الإِنفاق لا ينقص المال والبخل به لا يزيده فان التوسعة كالتضييق لحكمة فلا البخل يزيد في المال ولا الإنفاق في سبيل الله ينقص منه . وختم هذا بوعده الصادق وهو أن من انفق في سبيل الله شيئاً أخلفه اللهعليه وهو تعالى خير من قيل إنه يرزق ووصف به .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان سنة الله في الأُمم والشعوب وأنهم ما أتاهم من رسول إلا كفر به الأغنياء والكبراء .
2- بيان اغترار المترفين بما آتاهم الله من مال وولد ظانين ان ذلك من رضا الله تعالى عليهم .
3- بيان الحكمة في التوسعة على بعض والتضييق على بعض ، وانها الامتحان والابتلاء فلا تدل على حبِّ الله ولا على بغضه للعبد .
4- بيان ما يقرب إلى الله ويدنى منه وهو الإِيمان والعمل الصالح ومن ذلك الإِنفاق في سبيل الله لا كثرة المال والولد كما يظن المغرورون المفتنون بالمال والولد .
5- بيان حكم الله فيمن يحارب الإِسلام ويريد إِبطاله وأنه محضر في جهنم لا محالة .
6- بيان وعد الله تعالى بالخلف لكل من أنفق في سبيله مالاً .
(3/326)
________________________________________
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)
شرح الكلمات :
{ ويوم نحشرهم جميعا } : أي واذكر يوم نحشرهم جميعاً أي جميع المشركين .
{ أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } : أي يقول تعالى هذا للملائكة تقريعاً للمشركين وتوبيخاً لهم .
{ قالوا سبحانك } : أي قالت الملائكة سبحانك أي تقديساً لك عن الشرك وتنزيهاً .
{ أنت ولينا من دونهم } : أي لا موالاة بيننا وبينهم أي يتبرأوا منهم .
{ بل كانوا يعبدون الجن } : أي الشياطين التي كانت تتمثل لهم فيحسبونها ملاكئة فيطيعونها فتلك عبادتهم لها .
{ فاليوم لا يمك بعضكم لبعض } : أي لا يملك المعبودون للعابدين .
{ نفعاً ولا ضراً } : أي لا يملكون نفعهم فينفعونهم ولا ضرهم فيضرونهم .
{ ونقول للذين ظلموا } : أي اشركوا غير الله في عبادته من الملائكة والأنبياء أو الأولياء والصالحين .
{ عذاب النار التي كنتم بها : أي كنتم في الدنيا تكذبون بالبعث والجزاء وهو الجنة أو النار .
تكذبون } معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء والتوحيد . قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم واذكر { يوم نحشرهم } اي المشركين { جميعاً } فلم نبق منهم أحداً ، ثم نقول للملائكة وهم أمامهم تقريراً للمشركين وتأنيباً : { أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } فتتبرأ الملائكة من ذلك وينزهون الله تعالى عنه الشرك فيقولون : { سبحانك } اي تنزيهاً لك عن الشرك وتقديساً رأنت ولينا من دونهم } أما هم فلا ولاية بيننا وبينهم { بل كانوا يعبدون الجن } أي الشياطين { أكثرهم بهم مؤمنون } أي مصدقون فأطاعوهم في عبادة الأصنام وعصوك وعصوا رسلك فلم يعبدوك ولم يطيعوا رسلك .
وقوله تعالى { فاليوم لا يملك بعضكم لبعضكم نفعاً ولا ضراً } اي يقال لهم هذا القول تيئيساً وإيلاساً أي قطعاً لرجائهم في أن يشفعوا لهم . وقوله تعالى { ونقول للذين ظلموا } وهم المشركون { ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون } أي كنتم تكذبون بها في الدنيا فذوقوا اليوم عذابها . والعياذ بالله من عذاب النار .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير لعقيدة البعث والجزاء بذكر بعض أحوالها .
2- أن من كانوا يعبدون الملائكة والأنبياء والصالحين إنما كانوا يعبدون الشياطين إذ هي التي زينت لهم الشرك . أما الملائكة والأنبياء والأولياء فلم يرضوا بذلك منهم فضلا عن أن يأمروهم به .
3- بيان توبيخ أهل النار بتكذيبهم في الدنيا بالآخرة وكفرهم بوجود نار يعذبون بها يوم القيامة .
(3/327)
________________________________________
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
شرح الكلمات :
{ آياتنا بيّنات } : أي آيات القرآن الكريم واضحات ظاهرة المعنى بيّنة الدلالة .
{ قالوا ما هذا الا رجل } : أي ما محمد إلا رجل من الرجال .
{ يريد أن يصدكم عما : أي يريد أن يصرفكم عن عبادتكم لآلهتكم التي كان يعبدها كان يعبد آباؤكم } آباؤكم من قبل .
{ إلا إفك مفترى } : أي إلا كذب مختلق مزور .
{ وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم } : أي قالوا للقرآن لما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم .
{ إن هذا الا سحر مبين } : أي ما هذا أي القرآن الا سحر مبين أي محمد ساحر والقرآن سحر .
{ من كتب يدرسونها } : اي يقرأونها فأباحت لهم الشرك وأذنت لهم فيه .
{ وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير } : أي ولم نرسل إليهم قبلك من رسول فدعاهم إلى الشرك .
{ وما بلغوا معشار ما آتيناهم } : أي ولم يبلغ أولئك الأمم الذين أهلكناهم معشار ما آتينا هؤلاء من الحجج والبينات .
{ فكيف كان نكير } : أي فكيف كان إنكارى عليهم بالعقوبة والإهلاك والجواب كان واقعاً موقعه لم يخطئه بحال .
معنى الآيات :
ما زال السياق في عرض مواقف المشركين المخزية والتنديد بهم والوعيد الشديد لهم . قال تعالى { وإذا تتلى عليهم } أي مشركي قريش وكفارها { آياتنا بينات } أي يتلوها رسولنا واضحات الدلالة بينات المعاني فيما تدعو إليه من الحق وتندد به من الباطل ، كان جوابهم أن قالوا : ما هذا إلا رجلٌ يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم . أي ما محمد غلا رجل أي ليس بملكٍ يريد أن يصدكم اي يصرفكم عما كان آباؤكم من الأوثان والأحجار . فسبحان الله أين يذهب بعقول المشركين أما يخجلون لما يقولون عما كان يعبد ىباؤكم من الأصنام والأوثان ، إنه يصدكم حقاً عن عبادة الأوثان ولكن إلى عبادة الرحمن . وقالوا ايضا ما أخبر تعالى به عنهم في قوله : { وقالوا : ما هذا إلا إفك } أو كذب { افتراه } أي اختلقه وتخرصه من نفسه أي قالوا في القرآن وما يحمل من تشريع وهدى ونور قالوا فيه إنه كذبه محمد لى الله عليه وسلم سبحان الله ما أشد سخف هؤلاء المشركين : وقالوا ايضا ما أخبر تعالى به عنهم في قوله { وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين } أي قالوا في الرسول وما جاءهم به من الدعوة إلى التوحيد والإِصلاح { إن هذا } اي ما هذا إلا سحر مبين ، وذلك لما رأوا من تاثير الرسول والقرآن في نفوسهم إذ كان يحرك نفوسهم ويهزها هزاً .
بعدبعد هذا العرض لمواقف المشركين قال تعالى : { وما آتيناهم } اي مشركي قريش رمن كتب يدرسونها } أي أصروا على الشرك وما أعطيناهم من كتب يقرأونها فوجدوا فيها الإِذن بالشرك أو مشروعيته فتمسكوا به ، { وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير } أي رسول فأجاز لهم الشرك أو سنة لهم فهم على سنته ، اللهم لا ذا ولا ذاك .
(3/328)
________________________________________
فكيف إذاً هذا الإِصرار على الشرك وهو باطل لم ينزل به كتاب ولم يبعث به رسول .
وقوله تعالى : { وكذب الذين من قبلهم } أي من الأمم البائدة { ولم يبلغوا } أي ولم يبلغ هؤلاء من القوة معشار ما كان لأولئك الأقوام الهالكين ، ومع ذلك أهلكناهم ، فكيف كان نكيرى أي كيف كان إنكارى عليهم الشرك وتكذيب رسلى بإبادتهم واستئصالهم . أما يخاف هؤلاء الضعفاء أن تحل بهم عقوبتنا فنهلكهم عن آخرهم كما أهلكنا من قبلهم ولما لم يرد الله إبادتهم بعد أن استوجبها بالتكذيب لرسوله والإِصرار على الشرك والكفر قال لرسوله قل لهم { إنما أعظكم بواحدة } أي بخصله واحدة وهي أن تقوموا لله أي متجردين من الهوى والتعصب { مثنى } ، أي اثنين أثنين ، { وفرادي } أي واحداً واحداً ، ثم تتفكروا في حياة محمد صلى الله عليه وسلم وموافقة الخيرِّة معكم وبعده عن كل أذى وشر وفساد فإنكم تعلمون يقيناً أنه ما بصاحبكم محمد من جنّة ولا جنون إن هو إلا نذير لكم بين يدي شديد ، أي ما هو صلى الله عليه وسلم إلا نذير لكم أمام عذاب شديد قد ينزل بكم وهو مشفق عليكم في ذلك خائف لا يريده لكم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان عناد المشركين وسخف عقولهم وهبوطهم الفكرى .
2- ضعف كفار قريش وتشددهم وعتوهم إذا قيسوا بالأمم السابقة فإنهم لا يملكون من القوة نسبة واحد إلى ألف إذ المعشار هو عشر عشر العشر .
3- تقرير النبوة المحمدية واثباتها وذلك ينفى الجنّة عنه صلى الله عليه وسلم وإثبات أنه نذير .
(3/329)
________________________________________
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
شرح الكلمات :
{ قل إن ربي يقذف بالحق } : أي يلقى بالوحي الحق إلى أنبيائه . ويقذف الباطل بالحق أيضا فيدمغه .
{ وما يبدئ الباطل وما يعيد } : أي وما يبدى الباطل الذي هو الكفر ، وما يعيد أي إنه لا أثر له .
{ فإنما أضل على نفسي } : أي إثم ضلالي على نفسي لا يحاسب ولا يعاقب به غيري .
{ إنه سميع قريب } : أي سميع لما أقول لكم قريب غير بعيد فلا يتعذر عليه مجازاة أحد من خلقه .
{ إذ فزعوا فلافوت } : أي إذ فزعوا للبعث أي خافوا ونفروا فلا فوت لهم منا بل هم في قبضتنا .
{ وأثنى لهم التناوش من مكان : أي لما شاهدوا العذاب قالوا آمنا بالقرآن وكيف لهم ذلك وهم بعيد } بعيدون إنهم في الآخرة والإِيمان في الدنيا .
( التناوش ) التنازل من مكان بعيد .
{ كما فعل باشياعهم من قبل } : أي فعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم من أمم الكفر والباطل .
{ في شك مريب } : أي في شك بالغ من نفوسهم فأصبحوا به مضطربين لا يطمئنون إلى شيء أبداً .
معنى الآيات :
لما لج المشركون في الخصومة والعناد ودعاهم الله تعالى إلى أمثل حل وهو أن يقوموا متجردين لله تعالى من الهوى والتعصب يقوموا اثنين اثنين أو واحداً واحداً لأن الجماعة من شأنها أن تختلف مع الآراء ثم يتفكروا في حياة الرسول وما دعاهم إليه من الهدى والحق فإنكم تعلمون أنه ليس كما تهمتموه بالجنون وإنما هو نذير لكم بين يدي عذاب شديد يخاف وقوعه بكم ونزوله عليكم هنا أمره تعالى أن يقول لهم وكوني نذيراً لكم مما أخاف عليكم لا أسألكم على إنذاري لكم أجراً { إن أجرى الا على الله وهو على كل شيء شهيد } أي مطلع عليّ عالم بصدقي ويجزيني على إنذاري لكم إذ كلفني به فقمت به طاعة له . وقوله تعالى { قل ان ربي يقذف بالحق } اي قل لهم يا رسولنا إن ربي يقذف بالحق أن يلقى بالوحي على من يشاء من عباده { علام الغيوب } أي وهو علام الغيوب يعلم من هو أهل للوحي غليه والإِرسال فيوحى إليه ويرسله كما أوحى إليّ وارسلني غليكم نذيراً وبشيراً . وقوله تعالى : رقل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد } أي قل لهم يار سولنا جاء الحق وهو الإِسلام الدين الحق ، فلم يبق الباطل الذي هو الشرك والكفر مكان ولا مجال ، وما يبدئ الباطل وما يعيد؟ اي أ ، ه كما لا يبدئ لا يعيد فهو ذاهب لا اثر له أبداص وقوله : { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي } اي أعلمهم بأنك إن ضللت فيما أنت قائم عليه تدعو غليه فإنما عائد ضلالك عليك لا عليهم ، وإن اهتديت فهدايتك بفضل ما يوحى غليك من ربك من الهدى والنور { إنه سميع قريب } سميع لأقوالك وأقوال غيرك غير بعيد فيتعذر عليه مجازاة عباده صاحب الإِحسان بالإِحسان وصاحب السوء بالسوء .
(3/330)
________________________________________
وقوله تعالى : { ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب } اي لرأيت أمراً قطعياً يقول تعالى لرسوله ولو ترى إذ فزع المشركون في ساحات فصل القضاء يوم القيامة فزعوا من شدة الهول والخوف وقد أُخذوا من مكان قريب والقوا في جهنم لرأيت أمراً فظيعاً في غاية الفظاعة . وقوله { فلا فوت لهم } لا يفوتون الله تعالى ولا يهربون من قبضته . وقوله تعالى : { وقالوا آمنا به } أي قالوا بعد ما بُعثوا وفزعوا من هول القيامة قالوا آمنا به أي بالله وكتابه ولقائه ورسوله ، قال تعالى { وأنى لهم التناوش } اي التناول للإِيمان من مكان بعيد إذ هم في الآخرة والإِيمان كان في الدنيا فكيف يتناولونه بهذه السهولة ويقبل منهم وينجون من العذاب هذا بعيد جداً ولن يكون أبداً وقد كفروا به من قبل أي لا سيما وأ ، هم قد عُرض عليهم الإِيمان وهم قادرون عليه فرفضوه فكيف يمكنون منه الآن . وقوله { ويقذفون بالغيب من مكان بعيد } اي وها هم اليوم في الدنيا يقذفون بالغيب محمداً صلى الله عليه وسلم بقواصم الظهر مرة يقولون كاذب ومرة ساحر ومرة شاعر وأخرى مجنون وكل هذا رجما بالغيب لا شبهة لهم فيه ولا أدنى ريبة تدعوهم غليه وأخيرا قال تعالى : { وحيل بينهم وبين ما يشتهون } وهو الإِيمان الموجب للنجاة كما فعل بأشياعهم أي اشباههم وأنصارهم من أهل الكفر والتكذيب لما جاءهم العذاب قالوا آمنا ولم ينفعهم غيمانهم وأهلكوا فألقوا في الجحيم ، وقوله { إنهم كانوا في شك مريب } أي مشركو قريش وكفارها أخبر تعالى أنهم كانوا في الدنيا في شك من توحيدنا ونبينا ولقائنا مريب اي موقع لهم في الريب والاضطراب فلم يؤمنوا فماتوا على الكفر والشرك وهذا جزاء من يموت على الشرك والكفر .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- دعوة الله تعالى ينبغى أن لا يأخذ الداعى عليها أجراً ، ويحتسب أجره على الله عز وجل .
2- بيان صدق الله تعالى في قوله جاء الحق وما يبدي الباطل وما يعيد إذ ما هو إلاَّ سُنيَّات والإسلام ضارب بجرانه في الجزيرة فلا دين فيها إلا الإِسلام .
3- الإِيمان الاضطراري لا ينفع صاحبه كإِيمان من رأى العذاب .
4- الشك كفر ولا إِيمان مع رؤية العذاب .
(3/331)
________________________________________
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
شرح الكلمات :
{ الحمد لله } : أي قولوا الحمد لله فإنه واجب الحمد ومقتضى الحمد ما ذكر بعد .
{ فاطر السموات والأرض } : أي خالقهما على غير مثال سابق .
{ جاعل الملائكة رسلا } : أي جعل منهم رسلا إلى الأنبياء كجبريل عليه السلام .
{ أولى أجنحة } : أي ذوى أجنحة جمع جناح كجناح الطائر .
{ يزيد في الخلق ما يشاء } : أي يزيد على الثلاثة ما يشاء فإن لجبريل ستمائة جناح .
{ وما يمسك } : أي الله من الرحمة فلا أحد يرسلها غيره سبحانه وتعالى .
{ وهو العزيز الحكيم } : أي الغالب على أمره الحكيم في تدبيره وصنعه .
{ اذكروا نعمة الله عليكم } : أي اذكروا نعمه تعالى عليكم في خلقكم ورزقكم وتأمينكم في حرمكم .
{ هل من خالق غير الله يرزقكم } : أي لا خالق لكم غير الله ولا رازق لكم يرزقكم .
{ من السماء والأرض؟ } : أي بإِنزال المطر من السماء وإنبات الزروع في الأرض .
{ لا إله إلا هو } : أي لا معبود بحق إلا هو إذاً فاعبدوه ووحدوه .
{ فأنى تؤفكون } : أي كيف تصرفون عن توحيده مع اعترافكم بأنه وحده الخالق الرازق .
معنى الآيات :
قوله تعالى { الحمد لله فاطر السموات والأرض } أي الشكر الكامل والحمد التام لله استحقاقاً ، والكلام خَرَجَ مَخْرج الخبر ومعناه الإِنشاء أي قولوا الحمد لله . واشكروه كما هو أيضاً إخبار منه تعالى بأن الحمد له ولا مستحقه غيره ومقتضى حمده . فطره السموات والأرض أي خلقه لهما على غير مثال سابق ولا نموذج حاكاه في خلقهما . وجعله الملائكة رسلاً إلى الأنبياء وإلى من يشاء من عباده بالإِلهام والرؤيا الصالحة . وقوله { أولي أجنحة } صفة للملائكة أي اصحاب أجنحة مثنى أي اثنين اثنين ، وثلاث أي ثلاثة ثلاثة ورباع اي أربعة أربعة . وقوله { يزيد في الخلق } اي خلق الأجنحة ما يشاء فقد خلق لجبريل عليه السلام ستمائة جناح كما أخبر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحاح ويزيد في خلق ما يشاء من مخلوقاته وهو على كل شيء قدير .
وقوله تعالى { ما يفتح الله لناس من رحمة فلا ممسك لها } يخبر تعالى أن مفاتيح كل شيء بيده فما يفتحُ للنا سمن ارزاق وخيرات وبركات لا يمكن لأحد من خلقه أن يمسكها دونه وما يمسك من ذلك فلا يستطيع أحد من خلقه أن يرسله ، وهو وحده العزيز الغالب على أمره ومراده فلا مانع لما أعطى ولا راد لما قضى الحكيم في صنعه وتدبير خلقه . وقوله تعالى : { يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم } هذا نداؤه تعالى لأهل مكة من قريش يأمرهم بعده بأن يذكروا نعمه تعالى عليهم حيث خلقهم ووسع أرزاقهم وجعل لهم حرماً آمناً والناس يتخطفون من حولهم خائفون يأمرهم بذكر نعمه لأنهم إذا ذكروها شكروها بالإِيمان به وتوحيده . وقوله { هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض؟ } والجواب لا أحد إذ لا خالق إلا هو ولا رازق سواه فهو الذي خلقهم ومن السماء والأرض رزقهم .
(3/332)
________________________________________
السماء تُمطر والأرض تنبت بأمره . إذاً فلا إله إلا هو اي لا معبود بحق إلا هو فكيف إذاً تصرفون عن الحق بعد معرفته إن حالكم لعجب . هذا ما دل علي قوله تعالى { هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون } .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- وجوب حمد الله تعالى وشكره على إنعامه .
2- تقرير الرسالة والنبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم بإخباره أنه جاعل الملائكة رسلاً .
3- وجوب اللجوء إلى الله تعالى في طلب الخير ودفع الضر فإنه بيده خزائن كل شيء .
4- وجوب ذكر النعم ليكون ذلك حافزاً على شكرها بطاعة الله ورسوله .
5- تقرير التوحيد بالأدلة العقلية التي لا ترد .
6- العجب من حال المشركين يقرون بانفراد الله تعالى بخلقهم ورزقهم ويعبدون معه غيره .
(3/333)
________________________________________
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
شرح الكلمات :
{ وإن يكذبوك } : أي يا رسولنا فيما جئت به من التوحيد وعقيدة البعث والجزاء ولم يؤمنوا بك .
{ فقد كذبت رسل من قبلك } : أي فلست وحدك كذبت إذاً فلا تأس ولا تحزن واصبر كما صبر من قبلك .
{ وإلى الله ترجع الأمور } : وسوف يجزى المكذبين بتكذيبهم والصابرين بصبرهم .
{ ولا يغرنكم بالله الغرور } : أي ولا يغرنكم بالله اي حلمه وإمهاله الغرور أي الشيطان .
{ فاتخذوه عدواً } : أي فلا تطيعوه ولا تقبلوا ما يغركم به وأطيعوا ربكم عز وجل .
{ إنما يدعو حزبه } : أي أتباعه في الباطل والكفر والشر والفساد .
{ ليكونوا من اصحاب السعير } : أي ليؤول أمرهم إلى أن يكونوا من أصحاب النار المستعرة .
{ لهم مغفرة وأجر كبير } : أي لهم مغفرة لذنوبهم وأجر كبير في الجنة وذلك إِيمانهم وعملهم الصالحات .
معنى الآيات :
لما أقام تعالى الحجة على المشركين في الآيات السابقة قال لرسوله صلى الله عليه وسلم { وإن يكذبوك } بعدما أقمت عليهم الحجة فلست وحدك المكذِّب فقد كذبت قبلك رسل كثيرون جاءوا أقوامهم بالبينات والزبر وصبروا إذاً فاصبر كما صبروا { وإلى الله ترجع الأمور } وسوف يقضى بينك وبينهم بالحق فينصرك في الدنيا ويخذلهم ، ويرحمك في الآخرة ويعذبهم .
وقوله { يا ايها الناس إن وعد الله حق } أي يا أهل مكة وكل مغرور من الناس بالحياة الدنيا إعملوا أن وعد الله بالبعث والجزاء حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا بطول أعماركم وصحة أبدانكم وسعة ارزاقكم ، فإن ذلك زائل عنكم لا محالة { ولا يغرنكم بالله } اي حلمه وإمهاله { الغرور } وهو الشيطان حيث يتخذ من حلم الله تعالى عليكم وامهاله لكم طريقاً غلى إغوائكم وإفسادكم بما يحملكم عليه من تأخير التوبة والإِصرار على المعاصى ، والاستمرار عليها { إن الشيطان لكم عدو } بالغ العداوة ظاهرها فاتخذوه أنتم عدواً كذلك فلا تطيعوه ولا تستجيبوا لندائه ، { إنما يدعو حزبه } اي أتباعه { ليكونوا من أصحاب السعير } أي النار المستعرة ، إنه يريد أن تكونوا معه في الجحيم . إذ هو محكوم عليه بها أزلاً وقوله تعالى : { الذين كفروا لهم عذاب شديد } اي في الآخرة ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات { لهم مغفرة } أي لذنوبهم { وأجر كبير } هو الجنة وما فيها من النعيم المقيم . هذا حكم الله في عباده وقراره فيهم : وهم فريقان مؤمن صالح وكافر فاسد ولكل جزاء عادل .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ويدخل فيها كل دعاة الحق إذا كُذِّبوا وأُوذوا فعليهم أن يصبروا .
2- تقرير البعث والجزاء المتضمن له وعد الله الحق .
3- التحذير من الاغترار بالدنيا أي من طول العمر وسعة الرزق وسلامة البدن .
4- التحذير من الشيطان ووجوب الاعتراف بعداوته ومعاملته معاملة العدو فلا يقبل كلامه ولا يستجاب لندائه ولا يخدع بتزيينه للقبيح والشر .
5- بيان جزاء أولياء الرحمن أعداء الشيطان ، وجزاء أعداء الرحمن أولياء الشيطان .
(3/334)
________________________________________
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
شرح الكلمات :
{ أفمن زين له سوء عمله } : أي قبيح عمله من الشر والمعاصى .
{ فرآه حسناً } : أي رآه حسناً زيناً لا قبح فيه .
{ فلا تذهب نفسك عليهم } : أي على أولئك الذين زين لهم الشيطان قبيح أعمالهم .
{ حسرات } : أي لا تُهلِك نفسك بالتحسر عليهم لكفرهم .
{ إن الله عليم بما يصنعون } : وسيجزيهم بصنيعهم الباطل .
{ فتثير سحاباً } : أي تزعجه وتحركه بشدة فيجتمع ويسير .
{ فسقناه إلى بلد ميت } : أي لا نبات به .
{ فأحيينا به الأرض } : أي بالنبات والعشب والكلأ والزرع .
{ كذلك النشور } : أي البعث والحياة الثانية .
{ فلله العزة جميعاً } : أي فليطلب العزة بطاعة الله فإنها لا تنال إلا بذلك .
{ إليه يصعد الكلم الطيب } : أي إلى الله تعالى يصعد الكلم الطيب وهو سبحان الله والحمد لله والله أكبر .
{ والعمل الصالح يرفعه } : أي أداء الفرائض وفعل النوافل يرفع إلى الله الكلم الطيب .
{ يمكرون السيئات } : أي يعملونها ويكسبونها .
{ ومكر أولئك هو يبور } : أي عملهم هو الذي يفسد ويبطل .
{ خلقكم من تراب } : أي أصلكم وهو آدم .
{ ثم من نطفة } : أي من ماء الرجل وماء المرأة وذلك كل ذُريِّة آدم .
{ ثم جعلكم أزواجاً } : أي ذكراً وأنثى .
{ وما تحمل من أُنثى } : أي ما تحمل من جنين ولا تضعه إلا بإذنه .
{ وما يعمر من معمر } : أي وما يطول من عُمر ذي عُمر طويل إلا في كتاب .
{ ولا ينقص من عمره } : أي بأن يجعل أقل وأقصر من العمر الطويل إلا في كتاب .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تقوية روح الرسول صلى الله عليه وسلم والشد من عزمه أمام تقلبات المشركين وعنادهم ومكرهم فقال تعالى : { افمن زيِّن له سوءُ عمله فرآه حسناً } أي افمن زين له الشيطان ونفسه وهو قبيح عمله وهو الشرك والمعاصى فرآه حسناً كمن هداه الله فهو على نور من ربّه يرى الحسنة حسنة والسيئة سيئة والجواب : لا ، لا . وقوله تعالى : { فإن الله يضل من يشاء ويهدى من يشاء } يضل بعدله وحسب سننه في الإِضلال من يشاء من عباده ، ويهدى بفضله من يشاء هدايته إذاً فلا تذهب نفسك أيها الرسول على عدم هدايتهم حسرات فتهلك نفسك تحسُّراً على عدم هدايتهم . وقوله { إن الله عليم بما يصنعون } فلذا لا داعى غلى الحزن والغمّ ما دام الله تعالى وهو ربهم قد أحصى أعمالهم وسيجزيهم بها وقوله تعالى { والله الذي ارسل الرياح فتثير سحاباً } اي تزعجه وتحركه . { فسقناه إلى بلد ميّت } اي لا نبات ولا زرع به { فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور } أي كما أن الله تعالى ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها كذلك يحي الموتى إذ بعد فناء العالم ينزل الله تعالى من تحت العرش ماء فينبت الإِنسان من عظم يقال له عَجُبُ فيتم خلقه ، ثم يرسل الله تعالى الأرواح فتدخل كل روح في جسدها فلا تخطئ روح جسدها .
(3/335)
________________________________________
وهكذا كما تتم عملية إحياء الأرض بالنبات تتم عملية إحياء الأموات ويساقون إلى المحشر ويجزى كل نفس بما كسبت والله سريع الحساب .
وقوله تعالى { من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً } فلْيَطلُبْها من الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله فإن العزة لله جميعاً فالعزيز من أعزه الله والذليل من أَذَله الله ، إنهم كانوا يطلبون العزة بالأصنام فاعلموا أن من يريد العزة فليطلبها من مالكها أما الذي لا يملك العزة فكيف يعطيها لغيره إن فاقد الشيء لا يعطيه . وقوله { إليه يصعد الكلم الطيب } أي غلى الله يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه إلى الله تعالى فإذا كان قول بدون عمل فإنه لا يرفع إلى الله تعالى ولا يثيب عليه ، وقد ندد الله تعالى بالذين يقولون ولا يعملون فقال { كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون } . وقوله { والذين يمكرون السيئات } اي يعملونها وهي الشرك والمعاصى { لهم عذاب شديد } هذا جزاؤهم ، { ومكر أولئك هو يبور } أي ومكر الذين يعملون السيئيات { هو يبور } اي يفسد ويبطل .
وقوله تعالى { والله خلقكم من تراب } اي خلق أصلنا من تراب وهو آدم ، ثم خلقنا نحن ذريته من نطفة وهي ماء الرجل وماء المرأة ، { ثم جعلكم أزواجاً } اي ذكراً وأنثى . هذه مظاهر القدرة الإِلهية الموجبة لعبادته وتوحيده والمقتضية للبعث والجزاء ، وقوله { وما تحمل من أُنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر } اي يزداد في عمره ، ولا ينقص من عمره فلا يزاد فيه إلا في كتاب وهو كتاب المقادير . هذا مظهر من مظاهر العلم ، وبالعلم والقدرة هو قادر على إحياء الموتى وبعث الناس للحساب والجزاء . ولذا قال تعالى { إن ذلك } اي المذكور من الخلق والتدبير ووجوده في كتاب المقادير على الله يسير أي سهل لا صعوبة فيه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- التحذير من اتباع الهوى والاستجابة للشيطان فان ذلك يؤدى بالعبد إلى أن يصبح يرى الأعمال القبيحة حسنة ويومها يحرم هداية الله فلا يهتدى أبداً وهذا ينتج عن الإِدمان على المعاصى والذنوب .
2- عملية إحياء الأرض بعد موتها دليل واضح على بعث الناس أحياءً بعد موتهم .
3- مطلب العزة مطلب غال ، وهو طاعة الله ورسوله ولا يعز أحد عزاً حقيقياً بدون طاعة الله ورسوله .
4- علم الله المتجلى في الخلق والتدبير يُضاف إليه قدرته تعالى التي لا يعجزها شيء بهما يتم الخلق والبعث والجزاء .
5- تقرير البعث والجزاء وتقرير كتاب المقادير وهو اللوح المحفوظ .
(3/336)
________________________________________
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
شرح الكلمات :
{ عذب فرات } : أي شديد العذوبة .
{ وهذا ملح أجاج } : أي شديد الملوحة .
{ ومن كل تأكلون } : أي ومن كل منهما .
{ لحماً طريا } : أي السمك .
{ حلية تلبسونها } : أي اللؤلؤ والمرجان .
{ مواخر } : أي تمخر الماء وتشقه عند جريانها في البحر .
{ لتبتغوا من فضله } : أي لتطلبوا الرزق بالتجارة من فضل الله تعالى .
{ ولعلكم تشكرون } : أي رجاء أن تشكروا الله تعالى على ما رزقكم .
{ يولج الليل في النهار } : أي يدخل الليل في النهار فيزيد .
{ ويولج النهار في الليل } : أي يدخل النهار في الليل فيزيد .
{ وسخر الشمس والقمر } : أي ذللهما .
{ كل يجري لأجل مسمى } : أي في فلكه إلى يوم القيامة .
{ والذين تدعون } : أي تعبدون بالدعاء وغيره من العبادات وهم الصنام .
{ ما يملكون من قطمير } : أي من لفافة النواة التي تكون عليه وهي بيضاء رقيقة .
{ ولو سمعوا } : أي فرضاً ما استجابوا لكم .
{ يكفرون بشرككم } : أي يتبرأون منكم ومن عبادتكم إياهم .
{ ولا يُنبئك مثل خبير } : اي لا ينبئك اي بأحوال الدارين مثلى فإني خبير بذلك عليم .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمة تدبيره لخلقه وهي مظاهر موجبة لله العبادة وحده دون غيره ، ومقتضيه للبعث الذي أنكره المشركون قال تعالى { وما يستوى البحران } اي لا يتعادلان . { هذا عذب فرات سائغ شرابه } اي ماؤه عذب شديد العذوبة { وهذا ملح أجاج } اي ماؤه شديد الملوحة لمرارته مع ملوحته ، فهل يستوي الحق والباطل هل تستوي عبادة الأصنام مع عبادة الرحمن؟ والجواب لا . وقوله : { ومن كل تأكلون } أي ومن كل من البحرين العذب والملح تأكلون لحماً طرياً وهو السمك { وتستخرجون حلية تلبسونها } اي اللؤلؤ والمرجان .
وهي حلية يتحلى بها النساء للرجال ، وقوله { وترى الفلك فيه مواخر } اي وترى ايها السامع لهذا الخطاب { الفلك } أي السفن مواخر في البحر تمخر عباب البحر وتشق ماءه غادية رائحة تحمل الرجال والأموال ، سخرها وسخر البحر { لتبتغوا من فضله } اي الرزق بالتجارة ، { ولعلكم تشكرون } أي سخر لكم البحر لتبتغوا من فضله ورجاء أَن تشكروا . لم يقل لتشكروا كما قال لتبتغوا لأن الابتغاء حاصل من كل راكب ، وأما الشكر فليس كذلك بل من الناس من يشكر ومنهم من لا يشكر ، ولذا جاء بأداة الرجاء وهي لعل وقوله { يولج الليل في النهار } أي يدخل جزءاً من الليل في النهار فيطول ، ويقصر الليل { ويولج النهار في الليل } أي يدخل جزءاً منه في الليل فيطول كما أنه يدخل النهار في الليل ، والليل في النهار بالكلية فإنه إذا جاء أحدهما ذهب الآخر ويشهد له قوله تعالى { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } ولازمه نسلخ منه الليل ، فإذا الليل ليل والنهار نهار .
وقوله { سخر الشمس والقمر } اي ذللهما فما يسيران الدهر كله بلا كلل ولا ملل لصالح العباد إذ بهما كان الليل والنهار ، وبهما تعرف السنون والحساب وقوله { كل يجرى } أي كل منهما يجرى { إلى أجل مسى } أي إلى وقت محدد وهو يوم القيامة .
(3/337)
________________________________________
ولما عرف تعالى نفسه بمظاهر القدرة قدرته وعلمه وحكمته ولطفه ورحمته قال للناس { ذلكم الله ربكم له الملك } اي بعد أن أقام الحجة وأظهر الدليل لم يبق إلا الإِعلان عن الحقيقة التي يتنكر لها الكافرون فأعلنها بقوله { ذلكم } ذو الصفات العظام والجلالب والإِكرام هو الله ربكم الذي لا رب لكم سواه له الملك ، وليس لغيره فلا يصح طلب شيء من غيره ، إذ الملك كله لله وحده ، وأما الذين تدعون من دونه أي تعبدونهم من دونه وهي الأصنام والأوثان وغيرها من الملائكة والأنبياء والأولياء فإنهم لا يملكون من قطمير فضلا عن غيره تمرة فما فوقها لأن الذي لا يملك قطميراً -وهو القشرة الرقيقة على النواة -لا يملك بعيراً .
وقوله { إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم } نعم لا يسمعون لأنهم جمادات وأصنام من حجارة فكيف يسمعون وعلى فرض لو أنهم سمعوا ما استجابوا لداعيهم لعدم قدرتهم على الاستجابة وقوله تعالى { ويوم القيامة يكفرون بشرككم } فهم إذاً محنة لكم في الدنيا تنحتونهم وتحمونهم وتعبدونهم ويوم القيامة يكونون أعداء لكم وخُصُوماً فيتبرءون من شرككم إياهم في عبادة الله ، فتقوم عليكم الحجة بسببهم فما الحاجة إذاً إلى الإِصرار على عبادتهم وحمايتهم والدفاع عنهم وقوله تعالى { ولا ينبئك } ايها السامع { مثل خبير } وهو الله تعالى فالخبير أصدق من ينبئ واصح من يقول فالله هو العليم الخبير وما أخبر به عن الآلهة في الدنيا والآخرة في الدنيا عن عجزها وعدم غناها وفي الآخرة عن براءتها وكفرها بعبادة عابديها . فهو الحق الذي لا مرية فيه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير ربوبية الله المستلزمة لأُلوهيته .
2- بيان مظاهر القدرة والعلم والحكمة وبها تقرر ربوبيته تعالى وألوهيته لعباده .
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر يوم القيامة وبراءة الآلهة من عابديها .
4- بيان عجز الآلهة عن نفع عابديها في الدنيا وفي الآخرة .
5- تقرير صفات الكمال لله تعالى من الملك والقدرة والعلم ، والخبرة التامة الكاملة وبكل شيء .
(3/338)
________________________________________
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
شرح الكلمات :
{ أنتم الفقراء إلى الله } : أي المحتاجون إليه في كل حال .
{ والله هو الغني الحميد } : أي الغني عنكم أيها الناس وعن سائر خلقه ، المحمود بأفعاله وأقواله وحسن تدبيره فكل الخلائق تحمده لحاجتها إليه وغناه عنها .
{ ويأت بخلق جديد } : أي بدلا عنكم .
{ وما ذلك على الله بعزيز } : أي بشديد ممتنع بل هو سهل جائز الوقوع .
{ ولا تزر وازرة وزر أخرى } : أي في حكم الله وقضائه بين عباده أنّ النفس المذنبة الحاملة لذنبها لا تحمل وزر أي ذنب نفس أخرى بل كل وازرة تحمل وزرها وحدها .
{ ولا تدع مثقلة } : أي بأوزارها حتى لمم تقدر على المشي أو الحركة .
{ لا يحمل منه شيء } : أي لا تجد من يستجيب لها ويحمل عنها بعض ذنبها حتى لو دعت ابنها أو أباها أو أمها فضلا عن غيرهم ، وبهذا حكم الله سبحانه وتعالى .
{ يخشون ربهم بالغيب } : أي لأنهم ما رأواه بأعينهم .
{ ومن تزكى } : أي طهَّر نفسه من الشرك والمعاصي .
{ فإنما يتزكَّى لنفسه } : أي صلاحه واستقامته على دين ثمرتها عائدة عليه .
معنى الآيات :
بعد تلك الأدلة والحجج التي سبقت في الآيات السابقة وكلها مقررة ربوبية الله تعالى وألوهيته وموجبة توحيده وعبادته نادى تعالى الناس بقوله { يا أيها الناس } ليعلمهم بأنه وان خلقهم لعبادته وأمرهم بها وتوعد باليم العذاب لمن تركها ولم يكن ذلك لفقر منه إليها ولا لحاجة به غليهم فقال { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ، والله هو الغني الحميد } إن عبادة الناس لربهم تعود عليهم فيكملون عليها في أخلاقهم وأرواحهم ويسعدون عليها في دنياهم وآخرتهم أما الله جل جلاله فلا تنفعه طاعة ولا تضره معصية . وهو الغنى عن كل ما سواه { الحميد } أي المحمود بنعمه فكل نعمة بالعباد موجبة له الحمد والشكر . وقوله { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد } وهذا دليل غناه؛ وافتقارهم كما هو دليل قدرته وعلمه ، وقوله : { وما ذلك على الله بعزيز } اي اذهابهم والإِتيان بخلق جديد غيرهم ليس بالأمر العزيز الممتنع ولا بالصعب المتعذر بل هو اليسير السهل عليه تعالى .
وقوله تعالى { ولا تزر وازرة وزر أخرى } هذا مظهر عدالته تعالى فهو مع قجرته وقهره لعباده ذو عدل فيهم فلا يؤاخذ بغير جرم ، ولا يحمل وزر نفس نفساً أخرى لم تذنب ولم تزر بل كل نفس تؤخذ بذنبها إن كانت مذنبة هذه عدالته تتجلى لعباده يوم يعرضون عليه في يوم كله هول وفزع يدل عليه قوله { وان تدع مثقلة } اي بذنوبها { إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان } من تدعوه { ذا قربى } كالولد والبنت . وقوله تعالى : { إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة } اي انما تنذر يا رسولنا ويقبل إنذارك وينتفع به من يخشون ربهم ويخافون عذابه بالغيب وأقاموا الصلاة ، أما غيرهم من أهل الكفر والعناد والجحود فإنهم لا يقبلون إنذارك ولا ينتفعون به لظلمة جهلهم وكفرهم وقساوة قلوبهم ، ومع هذا فأ ، ذر ولا عليك في ذلك شيء فإن من تزكَّى بالإِيمان والعمل الصالح مع ترك الشرك والمعاصي فإنما يتزكَّى لنفسه لا لك ولا لنا ، ومن ابى فعليه إباؤه ، وإلينا مصير الكل وسنجزى كلاً بما سكب من خير وشر .
(3/339)
________________________________________
هذا ما دل عليه قوله تعالى : { إنما تنذر الذين يخشون ربهم وأقاموا الصلاة ، ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير }
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان فقر العباد إلى ربهم وحاجتهم إليه وإِزالة فقرهم وسد حاجتهم يكون باللجوء إليه والاطراح بين يديه يعبدونه ويسألونه .
2- بيان عدالة الله تعالى يوم القيامة .
3- بيان صعوبة الموقف في عرصات القيامة لا سيما عند وضع الميزان ووزن الأعمال .
4- بيان أن الإِنذار والتخويف من عذاب الله لا ينتفع به غير المؤمنين الصالحين .
5- تقرير عقيدة البعث والجزاء يوم القيامة .
6- تقرير حقيقة وهي أن من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها .
(3/340)
________________________________________
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27)
شرح الكلمات :
{ وما يستوى الأعمى والبصير } : أي لا يستويان فكذلك الكافر والمؤمن لا يستويان .
{ ولا الظلمات ولا النور } : أي لا يستويان فكذلك الكفر والإِيمان لا يستويان .
{ ولا الظل ولا الحرور } : أي لا يستويان فكذلك الجنة والنار لا يستويان .
{ وما يستوى الأحياء ولا الأموات } : فكذلك لا يستوى المؤمنون والكافرون .
{ وما أنت بمسمع من في القبور } : أي فكذلك لا تسمع الكافر فإنهم كالأموات .
{ إن أنت إلا نذير } : ما أنت إلا منذر فلا تملك أكثر من الإِنذار .
{ إنا أرسلناك بالحق } : أي بالدين الحق والهدى والكتاب .
{ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } : أي سلف فيها نبيُّ ينذرها .
{ جاءتهم رسلهم بالبينات } : أي بالحجج والأدلة الواضحة .
{ وبالزبر وبالكتاب المنير } : أي وبالصحف كصحف إبراهيم وبالكتاب المنير كالتوراة والإِنجيل .
{ فكيف كان نكير } : أي فكيف كان إنكارى عليهم بالعقوبة والإِهلاك والجواب هو واقع موقعه والحمد لله .
معنى الآيات :
لمّا تقدم في السياق الكريم أن إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينتفع به غلا المؤمن المقيم للصلاة وإن الكافر المكذب الجاحد لا ينتفع به ذكر تعالى هنا مثلا للكافر والمؤمن وانهما لا يستويان فقال { وما يستوى الأعمى والبصير } فالأعمى الكافر والبصير المؤمن وهما لا يستويان في عقل ولا شرع { ولا الظلمات ولا النور } أي ولا تستوى الظلمات ولا النور كما لا يستوى الكفر والإِيمان ولا الظل ولا الحرور ، فبرودة الجو ، لا تستوى مع حرارته فكذلك الجنّة لا تستوى مع النار ، وقوله { وما يستوى الأحياء ولا الأموات } أي ولا المؤمنون مع الكافرين كذلك وقوله تعالى { إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور } هذا شروع في تسلية الرسول صلى الله عليه سولم من أجل ما يجد في نفسه من إعراض قومه وعدم استجابتهم لدعوته ، فأخبره ربه بأنه تعالى قادر على أن يسمع من يشاء إسماعه وذلك لقدرته علىخلقه أما أنت أيها الرسول فإنك لا تسمع الأموات وإنما تسمع الأحياء ، والكفار شأ ، هم شأن الأموات في القبور فلا تقدر على اسماعهم . ولا يحزنك ذلك فإنك ما أنت إلا نذير ، والنذير ينذر ولا يُسأل عمن أجابه ومن لم يجبه .
وقوله تعالى { إنا ارسلناك بالحق بشيراً ونذيراً } بهذا الخبر يقرر تعالى رسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه أرسله بالهدى ودين الحق بشيراً لمن آمن به واتبع هداه بالجنة ، ونذيراً لمن كفر به وعصاه بالنار . وقوله { وإن من أُمة إلا خلا فيها نذير } ، يخبر تعالى أن رسوله محمداً ليس الرسول الوحيد الذي ارسل في أمة بل إنه ما من أمة من الأمم إلا مضى فيها نذير ، فلا يكون غرساله عجباً لكفار قريش إذ هذه سنة الله تعالى في عباده يرسل إليهم من يهديهم غلى نجاتهم وسعادتهم ثم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم معزياً له مسلياً { وإن يكذبوك } فلم يكونوا أول من كذب فقد كذب الذين من قبلهم { جاءتهم رسلهم بالبينات والزبر والكتاب المنير } أي جاءتهم رسلهم بالحجج القواطع والبراهين السواطع ، والمعجزات الخوارق ، وبالصحف والكتب المنيرة لسبيل الهداية وطريق النجاة والفلاح .
(3/341)
________________________________________
ومنهم من آمن ومنهم من كذب وكفر وبعد إمهال وإنظار دَلَّ عليه العطف بثم أخذ الذين كفروا بعذاب ملائم لكفر الكافرين . { فكيف كان نكير } اي فكيف كان إنكارى عليهم بالعقوبة الشديدة والإِهلاك التام إنه كان واقعاً موقعه ، موافيا لطالبه بكفره وعناده .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- استحسان ضرب الأمثال للكشف عن الحال وزيادة البيان .
2- الكفار عمى لا بصيرة لهم ، وأموات لا حياة فيهم ، والدليل عدم انتفاعهم بحياتهم ولا بأسماعهم ولا أبصارهم .
3- تقرير نُبوَّة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وتأكيد رسالته .
4- تسلية الدعاة ليتدرّعوا بالصبر ويلتزموا الثبات .
5- بيان سنة الله في المكذبين الكافرين وهي أخذهم عند حلول أجلهم .
(3/342)
________________________________________
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
شرح الكلمات :
{ ثمرات مختلفا ألوانها } : أي كأحمر وأخضر وأصفر وأزرق وغيره .
{ ومن الجبال جدد } : أي طرق في الجبال إذ الجدة الطريق ومنه جادة الطريق .
{ بيض وحمر مختلف ألوانه } : أي طرق وخطط في الجبال ذوات ألوان كالجبال أيضا .
{ وغرابيب سود } : منها الأبيص والأصفر والأسود الغربيب .
{ ومن الناس والدواب والأنعام } : فمنها أبيض وهذا أحمر وهذا أسود .
{ مختلف ألوانه كذلك } : أي كاختلاف الثمار والجبال والطرق فيها .
{ إنما يخشى الله من عباده : أي العالمين بجلاله وكماله ، إذ الخشية متوقفة على معرفة العلماء } : المخشيّ .
{ يتلون كتاب الله } : أي يقرأونه تعبداً به .
{ تجارة لن تبور } : أي لن تهلك لون تضيع بدون ثواب عليها .
{ غفور شكور } : أي غفور لذنوب عباده التائبين شكور لأعمالهم الصالحة .
معنى الآيات :
هذا السياق الكريم { الم تر أن الله أنزل من السماء ماء } في بيان تفاوت المخلوقات واختلافاتها فمن مؤمن إلى كافر ، ومن صالح إلى فاسد ومن ابيض إلى أحمر أو اسود وابتدأه تعالى بخطاب رسوله مقرراً له بقوله { الم تر } أي الم تبصر بعينك أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ما بين تمر أصفر وآخر أحمر ، وآخر اسود وهذا واضح في التمر والعنب والفواكه والخضر ، ومن الجبال كذلك . فإن فيها جدد اي خطط حمراء وصفراء وبيضاء وسوداء والجبال نفسها كذلك ، ومن الناس والدواب والأنعام ففي جميعها الأبيض والأسود والأحمر والأصفر كما في جدد الجبال نفسها وكما في الثمار . ولما كان هذا لا يدركه إلا المفكرون ولا يجنى منه العبرة إلا العالمون قال تعالى { إنما يخشى الله من عباده العلماء } وأهل مكة جهال لا يفكرون ولا يهتدون فلا غرابة إذا لم يشخوا الله تعالى ولم يوحدوه وذلك لجهلهم وعدم تفكيرهم .
وقوله تعالى في ختام السياق : { إن الله عزيز غفور } كشف عن حقيقة ينبغى أن يعرفها أهل مكة المصرون على الكفر والتكذيب وهي أن الله قادر على أخذهم والبطش بهم فإنه عزيز لا يمانع فيما يريده وغفور لذنوب التائبين من عباده ومهما كانت ذنوبهم إلا فليتب أهل مكة فإن توبتهم خير لهم من إصرارهم على الشرك والكفر والتكذيب إذ في التوبة نجاة ، وفي الإِصرار هلاك .
وقوله تعالى : { إن الذين يتلون كتاب الله } وهم المؤمنون { وأقاموا الصلاة } أدوها أداء وافيا لا نقص فيه { وانفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية } الزكاة والصدقات بحسب الأحوال والظروف سراً أحياناً ولاعنية أحياناً أخرى . يُخبر تعالى عنهم بعدما وصفهم بما شرفهم به من صفات أنهم يرجون تجارة لن تبور أي لن تهلك ولن تخسر وذلك يوم القيامة وقوله { ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور } أيْ هداهم لذلك ووفقهم غليه تعالى ليوفيهم أُجورهم ويزيدهم من فضله . وعلة ذلك أنه غفور لعباده المؤمنين التائبين فيغفر ذنوبهم ويدخلهم جنته شكور لطاعاتهم وصالح أعمالهم فلذا يضاعف لهم أجورهم ويزيدهم من فضله وله الحمد والمنة .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان مظاهر القدرة والعلم الإِلهي في اختلاف الألوان والطباع والذوات .
2- العلم سبيل الخشية فمن لا علم له بالله فلا خشية له إنما يخشى الله من عباده العلماء .
3- فضل تلاوة القرآن الكريم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصدقات .
4- في وصف الله تعالى بالغفور والشكور ترغيب للمذنبين أن يتوبوا ، وللعاملين أن يزيدوا .
(3/343)
________________________________________
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
شرح الكلمات :
{ من الكتاب } : أي القرآن الكريم .
{ مصدقا لما بين يديه } : أي من الكتب السابقة كالتوراة والإِنجيل .
{ ثم أورثنا الكتاب } : أي الكتب التي سبقت القرآن إذ محصلها في القرآن الكريم .
{ الذين اصطفينا } : أي اخترنا المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
{ فمنهم ظالم لنفسه } : بارتكاب الذنوب .
{ ومنهم مقتصد } : مؤدٍ للفرائض مجتنب للكبائر .
{ ومنهم سابق بالخيرات } : مؤدٍ للفرائض والنوافل مجتنب للكبائر والصغائر .
{ بإذن الله } : أي بتوفيقه وهدايته .
{ ذلك } : أي إيرائهم الكتاب هو الفضل الكبير .
{ ولؤلؤاً } : أي أساور من لؤلؤ مرصع بالذهب .
{ أحلنا دار المقامة } : أي الإِقامة وهي جنات عدن .
{ لا يمسنا فيها نصب } : أي تعب .
{ ولا يمسنا فيها لغوب } : أي إعياء من التعب ، وذلك لعدم التكليف فيها .
معنى الآيات :
قوله تعالى { والذي أوحينا إليك من الكتاب } اي القرآن الكريم هو { الحق } اي الواجب عليك وعلى أمتك العمل به لا ما سبقه من الكتب كالتوراة والإِنجيل ، { مصدقاً لما بين يديه } اي أمامه من الكتب السابقة ، وقوله { إن الله بعباده لخبير بصير } فهو تعالى يعلم أن الكتب السابقة لم تصبح تحمل هداية الله لعباده لما داخلها من التحريف والتغيير فلذا مع علمه بحاجة البشرية إلى وحي سليم يقدم غليها فتكمل وتسعد عليه متى آمنت به وأخذته نوراً تمشى به في حياتها المادية هذه أرسلك وأوحى إليك هذا الكتاب الكريم وأوجب عليك وعلى أمتك العمل به .
وقوله تعالى : { ثم أوحينا الذين اصطفينا من عبادنا } يخبر تعالى أنه أورث أمة الإِسلام الكتاب السابق إذ كل ما في التوراة والإِنجيل من حق وهدى قد حواه القرآن الكريم فأُمه القرآن قد ورَّثها الله تعالى كل الكتاب الأول . وقوله تعالى : { فمنهم ظالم لنفسه } بالتقصير في العمل وارتكاب بعض الكبائر ، { ومنهم مقتصد } وهو المؤدى للفرائض المجتنب للكبائر ، { ومنهم سابق للخيرات بإذن الله } وهو المؤدى للفرائض والنوافل المجتنب للكبائر والصغائر .
وقوله : { ذلك } اي الإِيراث للكتاب هو الفضل الإِلهي الكبير وهو { جنات عدن يدخلونها يوم القيامة يحلون فيها من اساور } جمع سوار ما يجعل في اليد { من ذهب ولؤلؤا } أي أساور من لؤلؤ ، ولباسهم فيها حرير .
وقوله : { وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } اي كل الحزن فلا حزن يصيبهم إذ لا موت في الجنة ولا فراق ولا خوف ولا هَمَّ ولا كرب فمِنْ أين يأتي الحزن . وقولهم { إن ربنا لغفور شكور } قالوا هذا لأنه تعالى غفر للظالم وشكر للمقتصد عمله فأدخل الجميع الجنة فهو الغفور الشكور حقاً حقاً .
وقولهم : { الذي أحلَّنا دار المقامة } اي الإِقامة من فضله هذا ثناء منهم على الله تعالى بإفضاله عليهم ، وقولهم { لا يمسنا فيها نصب } اي تعب { ولا يمسنا فيها لغوب } أي إعياء من التعب وصف لدار السلام وهي الجنة الخالية من النصب واللغوب جعلنا الله من أهلها .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وجوب العمل بالقرآن الكريم عقائد وعبادات وآداباً وأخلاقاً وقضاء وحكماً .
2- بيان شرف هذه الأمة ، وأنها الأمة المرحومة فكل من دخل الإِسلام بصدق وأدى الفرائض واجتنب المحارم فهو ناج فائز ومن قصر وظلم نفسه بارتكاب الكبائر ومات ولم يشرك بالله شيئاً فهو آثيل إلى دخول الجنة راجع إليها بإذن الله .
3- بيان نعيم أهل الجنة وحلية أهلها وهي الأساور من الذهب واللؤلؤ .
(3/344)
________________________________________
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)
شرح الكلمات :
{ لا يقضى عليهم } : أي بالموت فيموتوا ويستريحوا .
{ كذلك نجزى كل كفور } : أي كذلك الجزاء نجزى كل كفور بنا وبآياتنا ولقاءنا .
{ وهم يصطرخون فيها } : أي يصبحون بأعلى اصواتهم يطلبون الخروج منها .
{ يقولون } : أي فرض عويلهم وصراخهم ربنا أخرجنا أي منها نعمل صالحاً .
{ أو لم نعمركم ما يتذكر فيه } : أي وقتا يتذكر فيه من تذكر .
{ وجاءكم النذير } : أي الرسول فلم تجيبوا وأصررتم على الشرك والمعاصى .
{ إنه عليم بذات الصدور } : أي بما في القلوب من إصرار على الكفر ولو عاش الكافر طوال الحياة .
{ خلائف في الأرض } : يخلف بعضكم بعضاً . والخلائف جمع خليفة وهو من يخلف غيره .
{ فعليه كفره } : أي وبال كفره .
{ إلا مقتاً } : أي إلا غضباً شديداً عليه من الله عز وجل .
{ إلا خساراً } : أي في الآخرة إذ يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة .
معنى الآيات :
بعدما ذكر تعالى جزاء أهل الإِيمان والعمل الصالح ذكر جزاء أهل الكفر والمعاصى فقال : { والذين كفروا } اي بالله وآياته ولقائه { لهم نار جهنم } اي جزاء لهم { لا يقضى عليهم } أي بالموت فيموتوا حتى يستريحوا ولا يخفف عنهم من عذابها ولا طرفة عين . وقوله تعالى { كذلك } اي الجزاء { نجزى كل كفور } اي مبالغ في الكفر مكثر منه . وقوله : { وهم يصطرخون فيها } أي في جهنم اي يصرخون بأعلى أصواتهم في بكاء وعويل يقولون : { بنا أخرجنا } أي من النار ورُدنا إلى الحياة الدنيا { نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل } أي من الشرك والمعاصى .
فيقال لهم : { أو لم نعمركم } اي أتطلبون الخروج من النار لتعملوا صالحاً ولم نعمركم اي نطل أعماركم بحيث يتذكر فيها من يريد أن يتذكر وجاءكم النذير فلم تجيبوه واصررتم على الشرك والمعاصى ، إذاً فذوقوا عذاب النار { فما للظالمين } اي الذين ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصى فمن نصير ينصرهم فيخرجهم من النار . وقوله تعالى : { إن الله عالم الغيب السموات والأرض } اي كل ما غاب في السموات والأرض { إنه عليم بذات الصدور } ومن ذلك أنه عليم بما في قلوبكم وما كنتم مصرين عليه من الشرك والشر والفساد ولو عشتم الدهر كله .
وقوله تعالى : { هو الذي جعلكم خلائف الأرض } اي يخلف بعضكم بعضاً وفي ذلك ما يمكّن من العظة والاعتبار إذ العاقل من اعتبر بغيره فقد هلكت قبلكم أمم بذنوبهم فلم لا تتعظون بهم وقد خلفتموهم وجئتم بعدهم إذاً فلا عذر لكم ابداً .
وبعد هذا البيان فمن كفر فعليه كفره هو الذي يتحمل جزاءه ، ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم { الا مقتاً } اي بعداً عن الرحمة وبغضاً شديداً ، { ولا يزيد الكافرين } اي المصرين على الكفر كفرهم { إلا خساراً } اي هلاكاً في الآخرة .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان مُرّ العذاب وأليمه الذي هو جزاء الكافرين .
2- الإِعذار لمن بلّغه الله من العمر أربعين سنة .
3- الكافر يعذب أبداً لعلم الله تعالى به وأ ، ه لو عاش آلاف السنين ما أقلع عن كفره ولا حاول أن يتوب منه فلذا يعذب أبداً .
4- في كون البشرية أجيالاً يذهب وآخر يأتي مجال للعظة والعبرة والعاقل من اعتبر بغيره .
5- الاستمرار على الكفر لا يزيد صاحبه إلا بعداً عن الرحمة ومقتاً عند الله تعالى والمقت اشد الغضب .
(3/345)
________________________________________
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
شرح الكلمات :
{ قل ارأيتم } : أي أخبروني .
{ تدعون من دون الله } : أي تعبدون من غير الله وهى الأصنام .
{ أرونى ماذا خلقوا } : أي اخبروني ماذا خلقوا من الأرض أي أيّ جزء منها خلقوه .
{ أم لهم شرك } : أي أم لهم شركة في خلق السموات .
{ إلا غروراً } : أي باطلاً إذْ قالوا إنها آلهتنا تشفع لنا عند الله يوم القيامة وتقربنا إلى الله زلفى .
{ يمسك السموات والأرض أن تزولا } : أي يمنعها من الزوال .
{ إن أمسكهما من أحد من بعده } : أي ولو زالتا ما أمسكهما أحد من بعده لعجزه عن ذلك .
{ إنه كان حليما غفوراً } : أي حليماً لا يعجل بالعقوبة غفوراً لمن ندم واستغفر .
{ لئن جاءهم نذير } : أى رسول .
{ من احدى الأمم } : أي اليهود والنصارى .
{ فلما جاءهم نذير } : أي محمد صلى الله عليه وسلم .
{ ما زادهم إلا نفوراً } : أي مجيئه إلا تباعاداً عن الهدى ونفرة منه .
{ ومكر السيئ } : أي الشرك والمعاصى .
{ ولا يحيق المكر السيئ } : أي ولا يحيط إلا بأهله العاملين له .
{ سنة الأولين } : أي سنة الله فيهم وهي تعذيبهم بكفرهم وإصرارهم عليه .
{ ولن تجد لسنة الله تبديلا } : أي فلا يبدل العذاب بغيره .
{ ولن تجد لسنة الله تحويلا } : أي تحويل العذاب عن مستحقه إلى غير مستحقه .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد وإبطال التنديد فقال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم قل للمشركين من قومك : { أرأيتم شركاءكم الذين تدعون } أي تعبدون من دون الله أخبروني : ماذا خلقوا من الأرض حتى استحقوا العبادة مع الله فعبدتموهم معه؟ أم لهم شرك في السموات بأن خلقوا جزءاً وملكوه بالشركة . والجواب قطعاً لم يخلقوا شيئاً من الأرض وليس لهم في خلق السموات شركة ايضاً إذاً فكيف عبدتموهم مع الله؟ وقوله تعالى : { أم آتيناهم } اى أم آتينا هؤلاء المشركين كتاباً يبيح لهم الشرك ويأذن لهم فيه فهم لذلك على بينة بصحة الشرك .
والجواب ومن اين لهم هذا الكتاب الذي يبيح الشرك؟ بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضاً { إلا غروراً } أي باطلاً إذْ الحقيقة أن المشركين لم يكن لهم كتاب يحتجون به على صحة الشرك ، وإنما هو أن الظالمين وهم المشركون ما يعد بعضهم بعضا وهو أن الآلهة ستشفع لنا وتقربنا إلى الله زلفى غلا غروراً وباطلاً فالرؤساء غرَّروا بالمرء وسين وكذبوا عليهم بأن الآلهة تشفع لهم عند الله وتقربهم منه زلفى فلهذا عبدوها من دون الله وقوله تعالى : { إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا } يخبر تعالى عن عظيم قدرته ولطفه بعباده ، ورحمته بهم وهي أنه تعالى يمسك السموات السبع والأرض أن تزولا أي تتحول عن أماكنهما ، إذْ لو زالتا لخرب العالم في لحظات ، وقوله : { ولئن زالتا } اي ولو زالتا { إن أمسكهما من أحد من بعده } اي لا يقدر على ذلك إلا هو سبحانه وتعالى ، وقوله إنه كان حليماً غفوراً إذ حلمه هو الذي غرَّ الناس فعصوه ، ولم يطيعوه ، واشركوا به ولم يوحدوه ومغفرته هي التي دعت الناس إلى التوبة غليه ، والإِنابة إلى توحيده وعبادته .
(3/346)
________________________________________
وقوله تعالى في الآية الثالثة من هذا السياق ( 42 ) { وأقسموا بالله جهد ايمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن اهدى من إحدى الأمم } يخبر تعالى عن المشركين العرب بأنهم في يوم من الأيام كانوا يحلفون بالله جهد ايمانهم أي غاية اجتهادهم فيها لئن جاءهم رسول يرشدهم ويعلمهم لكانوا أهدى اي أعظم هداية من إحدى الطائفتين اليهود والنصارى . هكذا كانوا يحلفون ولما جاءهم نذير اي الرسول وهو محمد صلى الله عليه وسلم ما زادهم مجيئه { إلا نفوراً } اي بعداً عن الدين ونفرة منه ، واستكباراً في الأرض ، ومكر السيئ الذي هو عمل الشرك والظلم والمعاصى .
وقوله تعالى { ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله } إخبار منه تعالى بحقية يجهلها الناس وهي أن عاقبة المكر السيئ تعود على الماكرين بأسْوأ العقاب واشد العذاب وقوله تعالى : { فهل ينظرون } اي ينتظرون وهم مصرون على المكر السيئ وهو الشرك ومحاربة الرسول وأذية المؤمنين . إلا سنة الأولين وهي إهلاك الماكرين الظالمين { ولن تجد لسنة الله } أيها الرسول { تبديلا } بأن يتبدل العذاب بغيره بالرحمة مثلا { ولن تجد لسنة الله تحويلا } بأن يتحول العذاب عن مستحقه غلى غير مستحقه إذاً فليعاجل قومك الوقت بالتوبة وإلا فهُم عرضة لأن تمضى فيهم سنة الله بعذابهم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير التوحيد وإبطال الشرك والتنديد .
2- بيان أن المشركين لا دليل لهم على صحة الشرك لا من عقل ولا من كتاب .
3- بيان قدرة الله ولطفه بعباده ورحمته بهم في إمساك السموات والأرض عن الزوال .
4- بيان كذب المشركين ، ورجوعهم عما كانوا يتقاولونه بينهم من أنه لو أُرسل غليهم رسولاً لكانوا أهدى من اليهود أو النصارى .
5- تقرير حقيقة وهي أن المكر السيئ عائد على أهله لا على غيرهم وفي هذا يُرى أن ثلاثة على أهلها رواجع ، وهي المكر السيئ ، والبغْي ، والنَّكث لقوله تعالى { إنما بغيكم على أنفسكم } وقوله { ومن نكث فإنما ينكث على نفسه } وقوله { ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله } .
(3/347)
________________________________________
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
شرح الكلمات :
{ وكانوا أشد منهم قوة } : أي وأهلكهم الله تعالى بتكذيبهم رسلهم .
{ وما كان الله ليعجزه من شيء } : أي ليسبقه ويفوته فلم يتمكن منه .
{ إنه كان عليماً قديرا } : أي عليماً بالأشياء كلها قديراً عليها كلها .
{ بما كسبوا } : أي من الذنوب والمعاصى .
{ ما ترك على ظهرها } : أي ظهر الأرض من دابة أي نسمة تدب على الأرض وهي كل ذي روح .
{ إلى أجل مسمى } : أي يوم القيامة .
{ فإن الله كان بعباده بصيراً } : فيحاسبهم ويجزيهم بحسب كسبهم خيراً كان أو شراً .
معنى الآيات :
لما هدد الله تعالى المشركين بإمضاء سنته فيهم وهي تعذيب وإهلاك المكذبين إذا أصروا على التكذيب ولم يتوبوا . قال { أو لم يسيروا } أي المشركون المكذبون لرسولنا { في الأرض } شمالاً أو جنوباً { فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } كقوم صالح وقوم هود ، إنها كانت دماراً وخساراً { وكانوا أشد منهم قوة } اي من هؤلاء المشركين اليوم قوة وقوله تعالى { وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض } أي لم يكن يعجز الله شيء فيفوت الله ويهرب منه ولا يقدر عليه بل إنه غالب لكل شيء وقاهر له وقوله : { إنه كان عليماً قديراً } تقرير لقدرته وعجز كل شيء أمامه ، فإن العليم القدير لا يعجزه شيء بالاختفاء والتستر ، ولا بالمقاومة والهرب .
وقوله تعالى { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة } وهي الآية الأخيرة من هذا السياق ( 45 ) أي ولو كان الله يؤاخذ الناس بذنوبهم فكلُّ من أذنب ذنباً انتقم منه فأهلكه ما ترك على ظهر الأرض من نسمة ذات روح تدب على وجه الأرض ، ولكنه يؤخر الظالمين { إلى أجل مسمى } أي معين الوقت محدده إن كان في الدنيا ففي الدنيا ، وإن كان يوم القيامة ففي القيامة . وقوله { فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيراً } يخبر بأنه إذا جاء أجل الظالمين فإنه تعالى بصير بهم لا يخفى عليه منهم أحد فيهلكم ولا يبقى منهم أحداً لكامل علمه وعظيم قدرته ، الا فليتق الله الظالمون .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- مشروعية السير في الأرض للعبرة لا للتنزه واللهو واللعب .
2- بيان أن الله لا يعجزه شيء وذلك لعلمه وقدرته وهي حال توجب الترهيب منه تعالى والإِنابة إليه .
3- حرمة استعجال العذاب فإِن لكل شيء أجلا ووقتاً معيناً لايتم قبله فلا معنى للاستعجال بحال .
(3/348)
________________________________________
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
شرح الكلمات :
{ يس } : هذا أحد الحروف المقطعة يكتب هكذا يس ، ويقرأ هكذا ياسِينْ والله أعلم بمراده به .
{ والقرآن الحكيم } : أي ذي الحكمة إذ وضع القرآن كل شيء في موضعه فهو لذلك حكيم ومحكم أيضاً بعجيب النظم وبديع المعاني .
{ إنك لمن المرسلين } : أي يا محمد من جملة الرسل الذين أرسلناهم إلى أقوامهم .
{ على صراط مستقيم } : أي طريق مستقيم الذي هو الإِسلام .
{ تنزيل العزيز الرحيم } : أي القرآن تنزيل العزيز في انتقامه ممن كفر به الرحيم بمن تاب إِليه .
{ ما أنذر آباؤهم } : أي لم ينذر آباؤهم إذ لم يأتهم رسول من فترة طويلة .
{ فهم غافلون } : أي لا يدرون عاقبة ما هم فيه من الكفر والضلال ، ولا يعرفون ما ينجيهم من ذلك وهو الإِيمان وصالح الأعمال .
{ لقد حق القول على أكثرهم } : أي وجب عليهم العذاب فلذا هم لا يؤمنون .
{ إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } : أي جعلنا ايديهم مشدودة إلى أعناقهم بالأغلال .
{ فهي إلى الأذقان } : أي أيديهم مجموعة إلى أذقناهم ، والأذقان جمع ذقن وهو مجمع اللحيين .
{ فهم مقمحون } : أي رافعو رؤوسهم لا يستطيعون خفضها ، فلذا لا يكسبون بأيديهم خيراً ، ولا يذعنون برؤوسهم إلى حق .
{ فأغشيناهم فهم لا يبصرون } : أي جعلنا على أبصارهم غشاوة فهم لذلك لا يبصرون .
{ وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم : أي استوى إنذارك لهم وعدمه في عدم إيمانهم .
تنذرهم لا يؤمنون }
{ من اتبع الذكر } : أي القرآن .
{ وأجر كريم } : أي بالجنة دار النعيم والسلام .
{ إنا نحن نحي الموتى } : أي نحن ربّ العزة نحيى الموتى للبعث والجزاء .
{ ونكتب ما قدموا وآثارهم } : أي ما عملوه من خير وشر لنحاسبهم ، وآثارهم أي خطاهم إلى المساجد وما استنَّ به أحد من بعدهم .
{ في إمام مبين } : أي في اللوح المحفوظ .
معنى الآيات :
{ يس } الله أعلم بمراده به { والقرآن الحكيم } أي المحكم نظماً ومعنىً وذي الحكمة الذي يضع كل شيء في موضعه أقسم تعالى بالقرآن الحكيم على أن محمد صلى الله عليه وسلم نبياً رسولاً فقال { والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم } الذي هو الإِسلام . وقوله { تنزيل العزيز الرحيم } أي هذا القرآن هو تنزيل الله { العزيز } في الانتقام ممن كفر به وكذب رسوله { الرحيم } بأوليائه وصالحى عباده . وقوله { لتنذر قوماً وما أُنذر آباؤهم } أي أرسلناك وأنزلنا إليك الكتاب لأجل أن تنذر قوماً ما أنذر آباؤهم من فترة طويلة وهم مشركو العرب إذ لم يأتهم رسول من بعد إسماعيل عليه السلام { فهم غافلون } اي لا يدرون عاقبة ما هم عليه من الشرك والشر والفساد ، ومعنى تنذرهم تخوفهم عذاب الله تعالى المترتب على الشرك والمعاصى .
وقوله تعالى { لقد حق القول على أكثرهم } اي أكثر خصوم النبي صلى الله عليه وسلم من كفار قريش كأبي جهل حق عليهم القول الذي قوله تعالى
(3/349)
________________________________________
{ لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } فوجب لهم العذاب فلذا هم لا يؤمنون إذ لو آمنوا لما عذبوا ، وعدم إيمانهم لم يكن مفروضاً عليهم وإنما هو باختيارهم وحرية إرادتهم إذ لو كان جبراً لما استحقوا العذاب عليه . وقوله تعالى { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي } أي ايديهم { إلى الأذقان } مشدودة بالأغلال { فهم مقمحون } أي رافعوا رؤوسهم لا يستطيعون خفضها ، وهذا تمثيل لحالهم في عدم مدّ أيديهم للإِنفاق في الخير ، وعدم إذعان رؤوسهم لقبول الحق وقوله { وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً } وهذا تمثيل آخر لحالهم وهي أنهم زيّنت لهم الحياة الدنيا فأصبحوا لا يرون غيرها فهو سد أمامهم ومانع لهم من الإِيمان وترك الشرك والمعاصى ، وصورت لهم الآخرة بصورة باطلة مستحيلة الوقوع فكان ذلك سداً من خلفهم فهم لذلك لا يتوبون ولا يذكرون لعدم خوفهم من عذاب الآخرة وقوله تعالى { وأغشيناهم } هذا مبالغة في إضلالهم فجعل على أعينهم غشاوة من كره الرسول صلى الله عليه وسلم وبغض ما جاء فهم لذلك عمى لا يبصرون . وقوله تعالى { وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } هذا إخبار منه تعالى بأن هذه المجموعة من خصوم الرسول صلى الله عليه وسلم من أكابر مجرمى مكة استوى فيهم الإِنذار النّبويّ وعدمه فهم لا يؤمنون فكأن الله تعالى يقول لرسوله إن هؤلاء العتاة من خصومك إنذارك لهم لا ينفعهم فأنذر الذين ينفعهم إنذارك ودع من سواهم وهو قوله تعالى { إنما تنذر من اتبع الذكر } أي القرآن { وخشي الرحمن بالغيب } أي خافه فلم يعصه وهو لا يراه ، كما لم يعصه عندما يخلو بنفسه ولا يراه غيره فمثل هذا بشره بمغفرة منا لذنوبه وأجر كريم على صالح عمله وهو الجنة دار المتقين وقوله تعالى : { إنا نحن نحى الموتى } أي للبعث والجزاء { ونكتب ما قدموا } أي أولئك الأموات أيام حياتهم من خير وشر ، { وآثارهم } أي ونكتب ىثارهم وهو ما اسْتُنَّ به من سننهم الحسنة أو السيئة . { وكل شيء } اي من أعمال العبادة وغيرها { في إمام مبين } وهو اللوح المحفوظ ، وسنجزى كلاً بما عمل . وفي هذا الخطاب تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير النبوة المحمدية وتأكيد رسالته صلى الله عليه وسلم .
2- بيان الحكمة من إرسال الرسول وإنزال الكتاب الكريم .
3- بيان أن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم بعث على فترة من الرسل .
4- بيان أن حب الدنيا والإقبال عليها والإعراض عن الآخرة وعدم الالتفات إليها يضعان الإِنسان بين حاجزين لا يستطيع تجاوزهما والتخلص منهما .
5- بيان أن الذنوب تفيد صاحبها وتحول بينه وبين فعل الخير أو قبول الحق .
6- بيان أن من سن سنة حسنة أو سيئة يعمل بها بعده يجزى بها كما يجزى على عمله الذي باشره بيده .
7- تقرير عقيدة القضاء والقدر وأن كل شيء في كتاب المقادير المعبر عنه بالإِمام . ومعنى المبين أي ان ما كتب فه بيّن واضح لا يجهل منه شيء .
(3/350)
________________________________________
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
شرح الكلمات :
{ واضرب لهم مثلا } : أي واجعل مثلا .
{ أصحاب القرية } : أي انطاكية عاصمة بلا يقال لها العواصم بأرض الروم .
{ إذ جاءها المرسلون } : أي رسل عيسى عليه السلام .
{ فعززنا بثالث } : أي قوينا أمر الرسولين ودعوتهما برسول ثالث وهو حبيب بن النجار .
{ وما علينا إلا البلاغ المبين } : أي التبليغ الظاهر البين بالأدلة الواضحة وهي إبراء الأكمه والأبرص والمريض وإحياء الموتى .
{ إنَّا تطيرنا بكم } : أي تشاءمنا بكم وذلك لانقطاع المطر عنا بسببكم .
{ قالوا طائركم معكم } : أي شؤمكم معكم وهو كفركم بربكم .
{ أئن ذكرتم } : أي وعظتم وخوفتم تطيرتم وهذا توبيخ لهم .
{ بل أنتم قوم مسرفون } : أي متجاوزون للحد في الشرك والكفر .
معنى الآيات :
قوله تعالى : { واضرب لهم مثلا } أي واضرب أيها الرسول لقومك المصرين على الشرك والتكذيب لك ولما جئتهم به من الهدى ودين الحق { مثلا أصحاب القرية } فإن حالهم في التكذيب والغُلوَّ في الكفر والعناد كحال هؤلاء . إذ جاءها المرسلون وهم رسل عيسى عليه السلام إذ بعث برسولين ثم لما آذوهما بالضرب والسجن بعث بشمعون الصَّفي رأس الحواريين تعزيزاً لموقفهما كما قال تعالى { فكذبوهما فعززنا بثالث } ، فقالوا لأهل أنطاكية { إنا إليكم مرسولن } من قبل عيسى عليه السلام ندعوكم إلى عبادة الرحمن وترك عبادة الأوثان { فقالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون } أي ما أنتم إلا تكذبون علينا في دعواكم أنكم رسل إلينا فقال الرسل { ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون } فواجهوا شك القوم فيهم بما يدفع الشك من القسم وتأكيد الخبر بالجملة الاسمية ولام التوكيد فقالوا : { ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين } أي البيِّن الواضح فإن قبلتم ما دعوناكم إليه فذلك حظكم من الخير والنجاة وإن أبيتم فذلك حظكم من الهلاك والخسار . ورد أهل أنطاكية على الرسل قائلين : { إنا تطيرنا بكم } أي تشاءمنا بكم حيث انقطع عنا المطر بسببكم فرد عليهم المرسلون بقولهم { طائركم معكم } أي شؤمكم في كفركم وتكذيبكم ، ولذا حبس الله المطر عليكم . ثم قالوا لهم موبخين لهم : { أئن ذكرتم } أي وعظتم وخُوِّفتم بالله لعلكم تتقون تطيَّرتُم . بل أنتم أيها القوم { مسرفون } أي متجاوزون الحد في الكفر والشرك والعدوان .
من هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- استحسان ضرب المثل وهو تصوير حالة غريبة بحالة أخرى مثل كما هنا في قصة حبيب بن النجار .
2- تشابه حال الكفار في التكذيب والإِصرار في كل زمان ومكان .
3- لجوء أهل الكفر بعد إقامة الحجة عليهم إلى التهديد والوعيد .
4- حرمة التطير والتشاؤم في الإِسلام .
(3/351)
________________________________________
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
شرح الكلمات :
{ وجاء رجلٌ } : أي جاء حبيب بن النجار صاحب يس .
{ من أقصى المدينة } : أي من أقصا دور المدينة وهي أنطاكيا العاصمة .
{ يسعى } : أي يشتد مسرعاً لما بلغه أن أهل البلد عزموا على قتل رسل عيسى الثلاثة .
{ قال يا قوم اتبعوا المرسلين } : أي رسل عيسى عليه السلام .
{ اتبعوا من لا يسألكم أجراً } : اتبعوا من لا يطلبكم أجراً على إبلاغ دعوة الحق .
{ وهم مهتدون } : أي الرسل إنهم علي هداية من ربهم ما هم بكذابين .
{ فطرني } : أي خلقني .
{ إن يردن الرحمن بضر } : أي بمرض ونحوه .
{ ولا ينقذون } : أي مما أراد الله لي من ضر في جسمي وغيره .
{ إنى إذاً لفي ضلال مبين } : أي إني إذا اتخذت من دون الله آلهة أعبدها لفى ضلال مبين .
{ إني آمنت بربكم فاسمعون } : اي صارح قومه بهذا القول وقتلوه .
{ قيل ادخل الجنة } : قالت له الملائكة عند الموت ادخل الجنة .
{ يا ليت قومي يعلمون } : قال هذا لما شاهد مقعه في الجنة .
{ بما غفر لي ربي وجعلني : وهو الإِيمان والتوحيد والصبر على ذلك .
من المكرمين }
معنى الآيات :
ما زال السياق في مَثَلِ أصحاب القرية إنه بعد أن تعزز موقف الرسل الثلاة وأعطاهم الله من الكرامات ما أبرأوا به المرضى بل وأحيوا الموتى بإذن الله وأصبح لهم أتباع مؤمنون غضب رؤساء البلاد وأرادوا أن يبطشوا بالرسل ، وبلغ ذلك حبيب بن النجار وكان شيخاً مؤمناً موحداً يسكن في طرف المدينة الأقصى فجاء يشتد سعيا على قدميه فأمر ونهى وصارح القوم بإيمانه وتوحيده فقتلوه رفْساً بأرجلهم قال تعالى { وجاء من أقصى المدينة } -أنطاكية- { رجل يسعى } أي يمشى بسرعة لما بلغه أن أهل البلاد قد عزموا على قتل الرسل الثلاثة وما إن وصل إلى الجماهير الهائجة حتى قال بأعلى صوته : { يا قوم اتبعوا المرسلين } وسأل الرسل هل طلبتم على إبلاغكم دعوة عيسى أجراً قالوا لا . فقال { اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون } فاتبعوهم تهتدوا بهدايتهم . وقال له القوم وأنت تعبد الله مثلهم ولا تعبد آلهتنا؟ فقال : { وما لى لا أعبد الذي فطرني } أي وأي شيء يجعلني لا أعبده وهو خلقني { وإليه ترجعون } اي بعد موتكم فيحاسبكم ويجزيكم بعملكم . ثم اغتنم الفرصة ليدعو إلى ربّه فقال مستفهماً { أأتخذ من دونه آلهة } أي أصناماً وأوثاناً لا تسمع ولا تبصر { إن يُرِدن الرحمن بضرٍّ لا تغن عني شفاعتهم شيئاً } وإن قل ولا ينقذون مما أراده بي من ضر ونحوه { إني إذاُ لفي ضلال مبين } أي إني إذا أنا عبدت هذه الأصنام التي لا تنفع ولا تضر لفي ضلال مبين واضح لا يحتاج غلى دليل عليه . ورفع صوته مبلغاً { إني آمنت بربكم } اي بخالقكم ورازقكم ومالك أمركم دون هذه الأصنام والأوثان { فاسمعون } وهنا وثبوا عليه فقتلوه .
(3/352)
________________________________________
ولما قيل له ادخل الجنة ورأى نعيمها ذكر قومه ناصحاً لهم فقال : { يا ليت قومي يعلمون } { بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين } أي يعلمون بما غفر له وجعله من المكرمين وهو الإِيمان والتوحيد حتي يؤمنوا يوحدوا فنصح قومه حيّاً وميتاً وهذا شأن المسلم الحسن الإِسلام والمؤمن الصادق الإِيمان ينصح ولا يغش ويرشد ولا يضل ومهما قالوا له وفيه ومهما عاملوه به من شدة وقسوة حتى الموت قتلاً .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان كرامة حبيب بن النجار الذي نصح قومه حياً وميتاً .
2- بيان ما يلاقي دعة التوحيد والدين الحق في كل زمان ومكان من شدائد وأهوال .
3- وجوب إبلاغ دعوة الحق والتنديد بالشرك ومهما كان العذاب قاسياً .
4- بشرى المؤمن عند الموت لا سيما الشهيد فإنه يرى الجنة رأي العين .
(3/353)
________________________________________
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
شرح الكلمات :
{ وما أنزلنا على قومه } : أي على قوم حبيب بن النجار وهم أهل أنطاكية .
{ من بعده } : أي من بعد موته .
{ من جند من السماء } : أي من الملائكة لإهلاكهم .
{ وما كنا منزلين } : أي الملائكة لإِهلاك الأمم التي استوجبت الهلاك .
{ إن كانت إلا صيحة واحدة } : أي ما هي إلا صيحة واحدة هي صيحة جبريل عليه السلام .
{ فإذا هم خامدون } : أي ساكتون لا حراك لهم ميتون .
{ يا حسرة على العباد } : أي يا حسرة العباد هذا أوان حضورك فاحضرى وهذا غاية التألم . والعباد هم المكذبون للرسل الكافرون بتوحيد الله .
{ ما يأتيهم من رسول إلا كانوا : هذا سبب التحسُّر عليهم .
به يستهزئون } { ألم يروا كم أهلكنا قبلهم : أي ألم ير أهل مكة المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم .
من القرون } { وإن كل لما جميع لدينا : أي وإن كل الخلائق إلا لدينا محضرون يوم القيامة محضرون } لحسابهم ومجازاتهم .
معنى الآيات :
قوله تعالى { وما أنزلنا على قومه } أي قوم حبيب بن النجار { من بعده } أي بعد موته { من جند من السماء } للانتقام من قومه الذين قتلوه لأنه أنكر عليهم الشرك ودعاهم إلى التوحيد وما كُنا منزلين إذ لا حاجة تدعو إلى ذلك . إن كانت إلا صيحة واحدة من جبريل عليه السلام فإذا هم خامدون اي هلكى ساكنون ميتون لا حراك لهم ولا حياة فيهم وقوله تعالى { يا حسرة على العباد } أي يا حسرة العباد على أنفسهم احضري ايتها الحسرة هذا أوان حضورك { ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون } هذا موجب الحسرة ومقتضيها وهو استهزاؤهم بالرسل . وقوله تعالى { ألم يروا } أي أهل مكة { كم أهلكنا قبلهم من القرون } أي الم يعلموا القرون الكثيرة التي أهلكناها قبلهم كقوم نوح وعاد وثمود واصحاب مدين ، { أنهم إليهم لا يرجعون } فيكون هذا هادياً لهم واعظاً فيؤمنوا ويوحدوا فينجوا من العذاب ويسعدوا . وقوله تعالى { وإن كلٌ } أي من الأمم الهالكة وغيرها من سائر العباد { لما جميع لدينا محضرون } اي إلا لدينا محضرون لفصل القضاء يوم القيامة فينجو المؤمنون ويهلك الكافرون .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- مظاهر قدرة الله تعالى في إهلاك أهل أنطاكية بصيحة واحدة .
2- إبداء التحسر على العباد من أنفسهم إذ هم الظالمون المكذبون فالحسرة منهم وعليهم .
3- حرمة التسهزاء بما هو من حرمات الله تعالى التي يجب تعظيمها .
4- طلب العبرة من أخبار الماضين وأحوالهم ، والعاقل من اعتبر بغيره .
5- تقرير المعاد والحساب والجزاء .
(3/354)
________________________________________
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
شرح الكلمات :
{ وآية لهم الأرض الميتة } : أي على صحة البعث ووجوده لا محالة .
{ أحييناها } : بإِنزال المطر عليها فأصبحت حيّة بالنبات والزروع .
{ وجعلنا فيها جنات } : أي بساتين .
{ وما عملته أيديهم } : أي لم تصنعه أيديهم وإنما هو صنع الله وخلقه .
{ أفا يشكرون } : أي أفيرون هذه النعم ولا يشكرونها إنه موقف مخز منهم .
{ سبحان الذي خلق الأزواج كلها } : اي تنزيها وتقديسا لله الذي خلق الصناف كلها .
{ من أنفسهم } : أي الذكور والإِناث .
{ ومما لا يعلمون } : من المخلوقات كالتي في السموات وتحت الأرضين .
معنى الآيات :
لما تقدم في الآيات قبل هذه تقرير عقيدة البعث والجزاء في قوله وإن كلٌ لما جيمع لدينا محضرون ذكر هنا الدليل العقلي على صحة إمكان البعث فقال { وآية لهم } اي على صحة البعث الأرض الميتة التي أصابها المحل فلا نبات فيها ولا زرع أحييناها بالمطر فأنبتت من كل زوج بهيج فهذه آية أي علامة كبرى وحجة واضحة على إمكان البعث إذ الخليفة تموت ولم يبق إلا الله تعالى { كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإِكرام } ثم ينزل الله تعالى ماء من تحت العرش فتحيا البشرية على طريقة الأرض الميتة ينزل عليها المطر فتحيا بالنبات . وهذه المرة تحيا بالبشر إذ يُركب خلقهم من عظم يقال له عجب الذنب هو في بطن الأرض لا يتحلل ومنه يركب الخلق كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح . هذا معنى قوله تعالى في الاستدلال على البعث { وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً } أي حبّ البُر فمنه اي من ذلك يأكلون الخبز . وقوله { وجعلنا فيها } أي في الأرض الميتة جنات اي بساتين من نخيل وأعناب ، وفجرنا فيها من العيون اي عيون الماء ، هذه مظاهر القدرة والعلم الإِلهي وكلها تشهد بصحة البعث وإمكانه وأن الله تعالى قادر عليه وعلى مثله . وقوله تعالى { لياكلوا من ثمره } اي من ثمر المذكور من النخل والعنب وغيره . وقوله { وما عملته أيديهم } أي لم تخلقه ولم تكونه ايديهم بل يد الله هي التي خلقته افلا يشكرون يوبخهم على عدم شكره تعالى على ما أنعم به عليهم من نعمة الغذاء . وقوله تعالى { سبحان الذي خلق الأزواج كلها } اي تنزيها وتقديساً لله الذي خلق الأزواج كلها { مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون } يقدس تعالى نفسه وينزهها عن العجز عن إعادة الخلق ويُذكر بآيات القدرة والعلم وهي نظام الزوجية إذ كل المخلوقات أزواج أي أصناف من ذكر وأنثى فالنباتات على سائر اختلافها ذكر وأنثى والناس كذلك وما هو غائب عنا في السموات وفي بطن الأرض أزواج كذلك ولا وِتْرَ اي لا فرد إلا الله تعالى فقد تنزه عن صفات الخلائق ، ومنها كان للحياة الدنيا نوع آخر هو لها كالزوج وهي الحياة الآخرة فهذا دليل عقلي من أقوى الأدلة على الحياة الثانية .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء التي هي القوة الدافعة للإِنسان على فعل الخيرات وترك الشرور والمنكرات .
2- دليل نظام الزوجيّة وهو ىية على أن القرآن وخي الله وكلامه إذ قرر القرآن نظام الزوجية قبل معرفة الناس لهذا النظام في الذرة وغيرها في القرن العشرين .
3- وجوب شكر الله تعالى بالإِيمان وبطاعته وطاعة رسوله على نعمه ومنها نعمة الإِيجاد ونعمة الإِمداد أي بالغذاء والماء والهواء .
(3/355)
________________________________________
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
شرح الكلمات :
{ وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } : وآية لهم على إمكان البعث الليل نسلخ منه النهار اي نزيل والنهار عن الليل فإِذا هم مظلمون .
{ لمستقر لها } : أي مكان لها لا تتجاوزه .
{ ذلك تقدير العزيز العليم } : أي جريها في فلكها تقدير أي تقنين العزيز في ملكه العليم بكل خلقه .
{ والقمر قدرناه منازل } : وآية أخرى هي تقدير منازل القمر التي هي ثمان وعشرون منزلة .
{ حتى عاد كالعرجون القديم } : أي حتى رجع عكود العذق الذي أصله في النخلة وآخره في الشماريخ وهو أصفر دقيق مقوس كالقمر لما يكون في آخر الشهر .
{ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك : اي لا يصح للشمس ولا يسهل عليها أن تدرك القمر } القمر فيجتمعان في الليل .
{ ولا الليل سابق النهار } : أي بأن يأتي قبل انقضائه .
{ وكل في فلك يسبحون } : أي كل من الشمس والقمر والنجوم السيارة في فلك يسبحون أي يسيرون والفلك دائرة مستديرة كفلكه المغزل وهو مجرى النيرين والكواكب السيارة .
معنى الآيات : ما زال السياق في البرهنة على إمكان البعث ووقوعه لا محالة فقال تعالى { وآية } أي علامة لهم أخرى على قدرة الله على البعث { الليل نسلخ منه النهار } أي نفصل عنه النهار بمعنى نزيله عنه فإِذا هم في الليل مظلمون اي داخلون في ظلام فهذه آية على قدرة الله على البعث وقوله { والشمس تجري لمستقر لها } اي تجري في فلكها منه تبتدئ سيرها وغليه سيرها وذلك مستقرها ، ولها مستقر آخر وهو نهاية الحياة الدنيا ، وإنها لتسجد كل يوم تحت العرش وتستأذن باستئناف دورانها فيأذن لها كما صح بذلك الخبر عن سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم وكونها تحت العرش فلا غرابة فيه فالكون كله تحت العرش وكونها تستأذن فيؤذن لها لا غرابة فيه إذا كانت النملة تدبر أمر حياتها بإِذن ربّها وتقول وتفكر وتعمل فالشمس أحرى بذلك وأنها تنطق بنطقها الخاص وتستأذن ويؤذن لها وقوله تعالى { ذلك تقدير العزيز } أي الغالب على مراده العليم بكل خلقه ، وتقدير سير الشمس في فلكها بالثانية وتقطع فيه ملايين الأميال أمر عجب ونظام سيرها طوال الحياة فلا يختل بدقيقة ولا يرتفع مستواها شبراً ولا ينخفض شبرا إذ يترتب على ذلك خراب العالم الأرضي كل ذلك لا يقدر عليه غلا الله ، اليس المبدع هذا الإِبداع في الخلق والتدبير قادر على إحياء من خلق وأمات؟ بلى ، إن الله على كل شيء قدير . وقوله تعالى { والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم } هذه آية أخرى على إمكان البعث وحتميته والقمر كوكب منير يدور حول الأرض يتنقل في منازله الثمانية والعشرين منزلة بدقة فائقة وحساب دقيق ليعرف بذلك سكان الأرض عدد السنين والحساب إذ لولاه لما عرف يوم ولا اسبوع ولا شهر ولا سنة ولا قرن .
(3/356)
________________________________________
فالقمر يبدأ هلالا صغيرا ويأخذ في الظهور فيكبر بظهوره شيئا فشيئا حتى يصبح في نصف الشهر بدرا كاملا ، ثم يأخذ في الأفول والاضمحلال بنظام عجب حتى يصبح في آخر الشهر كالعرجون القديم اي كعود العرجون أصفر دقيق مقوس كل ذلك لفائدة الإِنسان الذي يعيش على سطح هذه الأرض أليس هذا آية كبرى على قدرة الله العزيز العليم على إعادة الحياة لحكمة الحساب والجزاء؟ بلى إنها لآية كبرى فقوله { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر } اي لا يسهل على الشمس ولا يصح منها أن تدرك القمر فيذهب نوره بل لكل سيره فلا يلتقيان إلا نادراً في جزء معين من الأفق فيحصل خسوف القمر وكسوف الشمس . وقوله رولا الليل سابق النهار } بل كل من الليل والنهار يسير في خط مرسوم لا يتعداه فلذا لا يسبق الليل النهار ولا النهار الليل فلا يختلطان غلا بدخول جزء من هذا في هذا وجزء من ذاك في ذا وهو معنى { يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل } وقوله { وكل في فلك يسبحون } اي كل واحد مون الشمس والقمر والكواكب السيارة في فلك يسبحون فلذا لا يقع فيها خلط ولا ارتطام بعضها ببعض إلى نهاية الحياة فيقع ذلك ويخرب الكون .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- إقامة الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة على إمكان البعث ووقوعه حتما .
2- ذكر القرآن لأمور الفلك التي لم يعرف عنها الناس اليوم إلا جزء يسير آية عظمى على أنه وحي الله وأن من أوحي إليه هو رسول الله قطعا .
3- ما ذكره القرآن عن الكون العلوي من الوضوح بحيث يعرفه الفلاح والراعي كالعالم المتبحر والأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب وذلك لتقوم الحجة على الناس إن هم لم يؤمنوا بالله ولم يوحدوه في عبادته ويخلصوا له في طاعته وطاعة رسوله .
(3/357)
________________________________________
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46)
شرح الكلمات :
{ وآية لهم } : أي وعلامة لهم على قدرتنا على البعث .
{ أنا حملنا ذريتهم } : أي ذريّات قوم نوح الذين أهلكناهم بالطوفان . نجينا ذريّتهم لأنهم مؤمنون موحدون وأغرقنا آباءهم لأنهم مشركون .
{ في الفلك المشحون } : أي في سفينة نوح المملوءة بالأزواج من كل صنف .
{ وخلقنا لهم من مثله } : أي من مثل فلك نوح ما يركبون .
{ فلا صريخ لهم } : أي مغيث ينجيهم فيكف صراخهم .
{ ومتاعا إلى حين } : أي وتمتيعاً لهم بالطعام والشراب إلى نهاية آجالهم .
{ اتقوا ما بين أيديكم } : أي من عذاب الدنيا اي بالإِيمان والاستقامة .
{ وما خلفكم } : أي من عذاب الآخرة إذا اصررتم على الكفر والتكذيب .
{ وما تأتيهم من آية } : أي وما تأتيهم من آية أو من حجة من حجج القرآن وبيّنة من بيناته الدالة على توحيد الله وصدق الرسول إلا كانوا عنها معرضين غير ملتفتين إليها ولا مبالين .
معنى الآيات :
ما زال السياق في عرض الآيات الكونيّة للدلالة على البعث والتوحيد والنبوّة فقال تعالى { وآية لهم } أي أخرى غير ما سبق { أنا حملنا ذريّتهم في الفلك المشحون } اي حملنا ذريّة قوم نوح المؤمنين فأنجيناهم بإِيمانهم وتوحيدهم وأغرقنا المشركين فهي آية واضحة عن رضا الله تعالى عن المؤمنين الموحدين وسخطه على الكافرين المشركين المكذبين إن في هذا الإِنجاء للموحدين والإِغراق للمشركين ىيو عبرة لو كان مشركو قريش في مكة يفقهون . وقوله تعالى { وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } وهذه آية اخرى ايضا وهي أن الله أنجى الموحدين في فلك لم يسبق له مثيل ثم خلق لهم مثله ما يركبون إلى يوم القيامة ولو شاء عدم ذلك لما كان لهم فلك إلى يوم القيامة وآية أخرى { وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم } وهي قدرته تعالى على إغراق ركاب السفن الكافرين وإن فعلنا لم يجدوا صارخا ولا مغيثا يغيثهم وينجيهم من الغرق رإلا رحمة مناؤ اللهم إلا رحمتنا فإنها تنالهم فتنجيهم ليتمتعوا في حياتهم بما كانوا يتمتعون به غلى حين حضور آجالهم المحدودة لهم . وقوله تعالى { وإذا قيل لهم اتقوا ما بين ايديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون } اي وإذا قيل لهؤلاء المكذبين بآيات الله المعرضين عن دينه المشركين به اتقوا ما بين أيديكم من العذاب حيث موجبه قائم وهو كفركم وعنادكم ، وما خلفكم من عذاب الآخرة إذ مقتضيه موجود وهو الشرك والتكذيب رجاء أن ترحموا فلا تعذبوا أعرضوا كأنهم لم يسمعوا . وقوله { وما تأتيهم من آية من آيات } كلام ربهم القرآن الكريم تحمل الحجج والبراهين على صحة ما يدعون غليه من الإِيمان والتوحيد إلا كانوا عنها معرضين تمام الإِعراض كأن قلوبهم قُدت من حجر والعياذ بالله تعالى .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان فضل الله على البشرية في إنجاء ذريّة قوم نوح الكافرين ومنهم كان البشر وإلا لو أغرق الله الجميع المؤمنين الذريّة والكافرين الاباء لم يبق في الأرض أحد .
2- حماية الله تعالى للعباد ورعايته لهم وإلاّ لهلكوا أجميعن ولكن أين شكرهم؟
3- بيان إضرار كفار قيرش وعنادهم الأمر الذي لم يسبق له مثيل .
4- الإِشارة بالمثلية في قوله { من مثله } إلى تنوع السفن من البوارج والغواصات والطربيدات الحربية .
(3/358)
________________________________________
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
شرح الكلمات :
{ وإذا قيل لهم انفقوا } : أي وإذا قال فقراء المؤمنين في مكة للأغنياء الكافرين انفقوا علينا .
{ مما رزقكم الله } : أي من المال .
{ أنطعم من لو يشاء الله أطعمه } : أي قالوا للمؤمنين استهزاء بهم أنطعم من لو يشاء الله أطعمه .
{ إن أنتم إلا في ضلال مبين } : أي ما أنتم أيها الفقراء إلا في ضلال مبين في اعتقادكم الذي أنتم عليه .
{ متى هذا الوعد } : أي البعث الآخر إن كنتم صادقين فيه .
{ ما ينظرون إلا صيحة واحدة } : أي ما ينتظرون غلا صيحة واحدة وهي نفخة إسرافيل .
{ تأخذهم وهم يخصمون } : أي تأخذهم الصيحة وهم يتخاصمون في البيع والشراء والأكل والشرب إذ تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون .
{ فلا يستطيعون توصية } : أي فلا يقدر أحدهم أن يوصي وصيّة .
{ ولا إلى أهلهم يرجعون } : بل يهلكون في أماكنهم من الأسواق والمزارع والمصانع أو المقاهي والملاهي .
{ فإذا هم من الأجداث } : أي القبور إلى ربهم ينسلون اي يخرجون بسرعة .
{ قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا } : أي قال الكفار : من بعثنا من قبورنا؟
{ هذا ما وعد الرحمن } : أي هذا ما وعد به الرحمن وصدق المرسلون أي فيما أخبروا به .
معنى الآيات :
قوله تعالى { وإذا قيل لهم } أي وإذا قيل لأولئك المشركين المكذبين الملاحدة والقائل هم المؤمنون فقد روي أن أبا بكر الصديق كان يطعم مساكين المسلمين فلقيه أبو جهل فقال يا أبا بكر أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء؟ قال : نعم . قال : فما باله لا يطعمهم؟ قال ابتلى قوماً بالفقر وقوماً بالغنى وأمر الفقراء بالصبر ، وأمر الأغنياء بالإِعطاء ، فقال أبو جهل ، والله يا أبا بكر إن أنت إلا في ضلال مبين . أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء ، وهو لا يطعمهم ثم تطعمهم أنت فنزلت هذه الآية وبهذه الرواية اتضح معنى الآية الكريمة { وإذا قيل لهم } اي للكفار { انفقوا مما رزقكم الله } على المساكين { قال الذين كفروا للذين آمنوا } الآمرين لهم بالإِنفاق { أنطعم من لو يشاء الله أطعمه } قالوا هذا استهزاء وكفروا { إن أنتم } أي ما أنتم أيها المسلمون { إلا في ضلال مبين } أي إلا في ذهاب عن الحق وجور عن الرشد مبين لمن تأمله وتدبّر فيه .
وقوله { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } اي ويقول أولئك الملاحدة المكذبون بالبعث استهزاء واستعجالا : متى هذا الوعد الذي تعدوننا به أيها المسلمون إن كنتم صادقين في دعواكم .
قال تعالى { ما ينظرون إلا صيحة واحدة } وهي نفخة اسرافيل في الصور وهي نفخة الفناء { تأخذهم وهم يخصمون } أي يختصمون في اسواقهم يبيعون ويشترون ، وفي مجالسهم العامة والخاصة إذ تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون قال تعالى { فلا يستطيعون توصية } يوصى بها أحدهم لابنه أو أخيه ، ولا إلى أهلهم أي منازلهم وأزواجهم وأولادهم يرجعون بل يصعقون في أماكنهم .
(3/359)
________________________________________
وقوله تعالى { ونفخ في الصور } اي صور إسرافيل وهو قرن ويقال له البوق أيضاً نفخة البعث من القبور أحياء فإذا هم من الأجداث جمع جدث وهو القبر ينسلون أي ماشين مسرعين إلى ربهم لفصل القضاء والحكم بينهم فيما اختلفوا فيه في هذه الدنيا من غيمان وكفر وإحسان وغساءة وعدل وظلم . قالوا يا ويلنا أي نادوا ويلهم وهلاكهم لما شاهدوا من أهوال الموقف { من بعثنا من مرقدنا } وأجابهم المؤمنون بقولهم { هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون } إذ واعدنا الله بلقائه وأخبرتنا الرسل به وبتفاصيله وقوله تعالى { إن كانت إلا صيحة واحدة فإِذا هم جميع لدينا محضرون } اي ما هي إلا صيحة واحدة لإِسرافيل فإِذا الكل واقف بين يدي الله تعالى ليحاسب ويجزي قال تعالى { فاليوم لا تظلم نفس شيئا } أي في هذا اليوم الذي وقفت الخليفة فيه بين يدي ربها لا تظلم نفس شيئاً لا بنقص حسنة من حسناتها ولا بزيادة سيئة على سيئاتها .
ولا تجزون أيها العباد إلا ما كنتم تعملون من خير وشر .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان علو الكافرين وطغيانهم وسخريتهم واستهزائهم ، وذلك لظلمة الكفر على قلوبهم .
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر مبادئها ونهاياتها .
3- الساعة لا تأتي إلا بغتة .
4- الانقلاب الكوني الذي يحدث لعظمه اختلفت آراء أهل العلم في تحديد النفخات فيه . والظاهر أنها أربع الأولى نفخة الفناء والثانية نفخة البعث والثالثة نفخة الفزع والصعق والرابعة نفخة القيام بين يدي رب العالمين .
5- تقرير العدل الإِلهي يوم الحساب والجزاء ليطمئن كل عامل على أ ، ه يجزى بعمله لا غير .
(3/360)
________________________________________
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
شرح الكلمات :
{ في شغل فاكهون } : أي أهل الجنة في شغل عما فيه أهل النار من عذاب وشقاء .
وشغلهم الشاغل لهم هو النعيم المقيم في دار السلام .
{ فاكهون } : أي ناعمون بالتلذذ بالنعم وذلك لطيب العيش .
{ على الأرائك } : أي الأسِرَّة ذات الحجلة .
{ ولهم ما يدعون } : أي ما يتمنون ويطلبون .
{ سلام قولا من رب رحيم } : أي سلام بالقول منربّ رحيم أي يسلم عليهم ربهم سبحانه وتعالى .
معنى الآيات :
ما إن حضروا بين يدي الله سبحانه وتعالى للحساب والجزاء حتى أعلن عما يلي : إن اصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون اي إنهم في شغل عما فيه أصحاب النار إنهم في شغل بالنعيم المقيم فاكهون أي ناعمون بالتلذذ بألوان المطاعم والمشارب والحور العين إنهم وأزواجهم في ظلال الجنة على الأرائك أي الأسرة ذات الحجلة متكئون . لهم فيها أي في دار السلام فاكهة من كل زوج ولون ونوع ولهم ما يدعون أي ما يتمنون ويطلبون ، وأعظم من ذاك سلام الربّ تعالى عليهم سلام قولا من ربّ رحيم أي سلام من الله بالقول لا بغيره من أنواع السلامة والسلام . فقد روى البغوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ يسطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإِذ الربّ عز وجل قد اشرف عليهم من فوقهم السلام عليكم يا أهل الجنة . فذلك قوله تعالى سلام قولا من ربّ رحيم فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم » .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير المعاد .
2- بيان نعيم الجنة .
3- سلام الله تعالى على أهل الجنة ونظرهم إلى وجهه الكريم .
(3/361)
________________________________________
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)
شرح الكلمات :
{ وامتازوا اليوم أيها المجرمون } : أي انفردوا عن المؤمنين وانحازوا علىجهة وسيروا ايها الصالحون إلى الجنة .
{ ألم أعهد إليكم } : أي الم أوصِكُم بترك عبادة الشيطان وهي طاعته .
{ وأن اعبدوني } : أي وبأن تعبدوني وحدي وذلك في كتبي وعلى ألسنة رسلي .
{ هذا صراط مستقيم } : أي بترك عبادة الشيطان والقيام بطاعة الرحمن . هو الإِسلام الموصل إلى دار السلام .
{ ولقد اضل منكم جبلا كثيرا } : أي ولقد أضل الشيطان منكم يا بني آدم خلقا كثيرا .
{ أفلم تكونوا تعقلون } : أي اطعتموه فلم تكونوا تعقلون عداوته لكم .
{ هذه جهنم التي كنتم بها تكذبون } : أي تقول لهم الملائكة هذه جهنم . . . الخ .
{ اليوم نختم على أفواههم } : أي عندما يقولون : والله ربنا ما كنا مشركين .
{ ولو نشاء لطمسنا على أعينهم } : أي ولو أردنا طمس أعين هؤلاء المشركين المجرمين لفعلنا ، ولكنا لم نشأ ذلك رحمة منّا .
{ فاستبقوا الصراط } : أي فابتدروا الطريق كعادتهم فكيف يبصرون .
{ ولو نشاء لمسخناهم على : أي بدلنا خلقهم حجارة أو قدرة أو خنازير في امكنتهم التي مكانتهم } هم فيها فلا يستطيعون مضيّا ولا يرجعون .
{ ومن نعمره ننكسه في الخلق } : أي ومن نطل عمره ننكسه في الخلق فيكون بعد قوته ضعيفا عاجزاً .
{ أفلا يعقلون } : أي أن القادر على ما ذكرنا لكم قادر على بعثكم بعد موتكم .
: فتؤمنون وتوحدون فتنجون من العذاب وتسعدون .
معنى الآيات :
قوله تعالى { وامتازوا اليوم أيها المجرمون } أي يأمر تعالى المجرمين وهم الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك وارتكاب المعاصي فأفسدوها يأمرهم بأن يتميّزوا عن المؤمنين فينفردوا وحدهم ويسار بأهل الجنة غلى الجنة ، ثم يوبخ تعالى المجرمين أهل النار بقوله { الم أعهد إليكم } موصياً إياكم على ألسنة رسلي وفي كتبي بأن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين ، وبأن تعبدوني وحدي ، ولا تعبدوا الشيطان معي فتشركوه في عبادتي هذا صراط مستقيم اي ترك عبادة الشيطان والقيام بعبادة الرحمن هذا هو الإِسلام الصراط المستقيم الذي لا ينتهي بالسالكين إلا إلى باب دار السلام . وقوله { ولقد أضل منكم جبلا } اي خلقا كثيرا هذا من كلام الله الموبخ به للمجرمين . وقوله { أفلم تكونوا تعقلون } وهذا تقريع وتوبيخ ايضا أي اطعتموه وهو عدوكم وعصيتموني وأنا ربكم فلم تكونوا تعقلون عداوة الشيطان لكم ، وواجب عبادتى عليكم لأني خلقتكم ورزقتكم وكلأتكم الليل والنهار إذاً فهذه جهنم التي كنتم بها تكذبون اصلوها أي احترقوا بها بما كنتم تكفرون بالله وآياته ولقائه وتكذبون رسله . وقوله تعالى { اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد ارجلهم بما كانوا يكسبون } هذا يحدث لما يعرضون على ربهم فيعرض عليهم أعمالهم فينكرون فعندئذ يختم الله على افواههم فلا يستطيعون الكلام وتنطق باقي جوارحهم وتشهد أرجلهم فينكرون بما كانوا يكسبون قوله تعالى { ولو نشاء لطمسنا على أعينهم } فأعميناهم { فاستبقوا الصراط } اي ابتدروا الطريق كعادتهم فأنى يبصرون الطريق وقد طمس على أعينهم فلا مقلة فيها ولا حاجب ، ولكن الله لم يشأ ذلك لرحمته وحلمه على عباده ، وقوله { لو نشاء لمسخناهم على مكانتهم } اي ولو نشاء مسخ هؤلاء المجرمين من المشركين لمسخناهم في أماكنهم من منازلهم فلا يستطيعون مضيا في الطريق ولا رجوع إلى خلف اي لا ذهاباً ولا غياباً ، وقوله تعالى { ومن نعمرّه ننكسه في الخلق أفلا يعقلون } فنرده رأسا على عقب فكما كان طفلا ينمو شيئا فشيئا في قواه العقلية والبدنية حتى شب واكتهل فكذلك ننكسه في خلقه فيأخذ يضعف في قواه العقلية والبدنيّة يوما فيوما حتى يصبح اضعف عقلا وبدنا منه وهو طفل .
(3/362)
________________________________________
وقوله افلا تعقلون أيها المكذبون المجرمون أن القادر على هذا وغيره وعلى كل شيء يريده قادر على أن يحييكم بعد موتكم ويبعثكم من قبوركم ويحاسبكم ويجزيكم بأعمالكم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير المعاد وبيان مواقف منه .
2- تأكيد عداوة الشيطان للإِنسان .
3- عجز الإِنسان يوم القيامة عن كتمان شيء من سيء أعماله وفاسدها .
4- التحذير من عقوبة الله في الدنيا بالمسخ ونحوه .
5- مظاهر قدرة الله تعالى في رد الإِنسان بعد القوة إلى حالة الضعف الأولى .
(3/363)
________________________________________
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
شرح الكلمات :
{ وما علمناه الشعر } : أي وما علمنا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم فما هو بشاعر .
{ وما ينبغي له } : أي وما يصلح له ولا يصح منه .
{ إن هو إلا ذكر وقرآن مبين } : أي ليس كما يقول المشركون من أن القرآن شعر ما هو أي القرآن الذي يقرأ محمد صلى الله عليه وسلم إلاَّ ذكر اي عظة وقرآن مبين لا يشك من يسمعه أنه ليس بشعر لما يظهر من الحقائق العلميّة .
{ لينذر من كان حياً } : أي يعقل ما يخاطب به وهم المؤمنون .
{ ويحق القول على الكافرين } : أي ويحق القول بالعذاب على الكافرين لأنهم ميتون لا يقبلون النذارة .
{ أنعاما فهم لها مالكون } : الأنعام هي الإِبل والبقر والغنم .
{ وذللناها لهم } : أي سخرناها لهم وجعلناهم قاهرين لها يتصرفون فيها .
{ فمنها ركوبهم ومنها يأكلون } : أي من بعضها يركبون وهي الإِبل ومنها يأكلون اي ومن جميعها يأكلون .
{ ولهم فيها منافع ومشارب } : المنافع كالصوف والوبر والشعر ، والمشارب الألبان . { أفلا يشكرون } : أي يوبخهم على عدم شكرهم الله تعالى على شهذه النعم بالإِيمان والطاعة .
{ واتخذوا من دون الله آلهة } : أي أصناماً يعبدونها زعما منهم أ ، ها تنصرهم بشفاعتها لهم عند الله .
{ لا يستطيعون نصرهم } : أي لا نقدر تلك الأصنام على نصرهم بدفع العذاب عنهم .
{ وهم لهم جند محضرون } : أي لا يقدرون على نصرتهم والحال أنهم أي المشركين جند محضرون . لتلك الآلهة ينصرونها من أن يمسها بسوء فبدل أن تنصرهم هم ينصرونها كجند معبئون لنصرتها .
{ فلا يحزنك قولهم } : أي إنك لست مرسلاً وإنك شاعر وكاهن ومفتر .
{ إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون } : أي انهم ما يقولون ذلك إلا حسداً وهم يعلمون أنك رسول الله وما جئت به هو الحق وسوف نجزيهم بتكذيبهم لك وكفرهم بنا وبلقائنا وديننا الحق .
معنى الآيات :
قوله تعالى { وما علمناه الشعر } ردّ على المشركين الذين قالوا في القرآن شعر وفي الرسول شاعر فقال تعالى { وما علمناه } اي نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم { الشعر ، وما ينبغي له } أي لا يصح منه ولا يصلح له . { إن هو إلا ذكر } أي ما هو الذي يتلوه غلا ذكر يذكر به الله وعظة يتعظ به المؤمنون { وقرآن مبين } مبين للحق مظهر لمعالم الهدى أنزلناه على عبدنا ورسوله لينذر به من كان حياً اي القلب والضمير لإِيمانه وتقواه الله يحق أي به القول وهو العذاب على الكافرين لأنهم لا يهتدون به فيعيشون على الضلال ويموتون عليه فيجب لهم العذاب في الدار الآخرة . وقوله { أو لم يروا } اي أعمي أولئك المشركون ولم يروا مظاهر قدرتنا وإحساننا الموجبة لعبادتنا وهي { أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون } يتصرفون فيها تصرف المالك في ملكه ، والمراد بالأنعام الماشية من غبل وبقر وغنم وقوله { وذللناها لهم } اي سخرناها لهم بحيث يركبون ويحلبون ويحملون وينحرون ويذبحون ويأكلون ، ولولا هذا التسخير لما قدروا عليها أبداً .
(3/364)
________________________________________
وقوله { ولهم فيها منافع ومشارب } المنافع كالصوف والوبر والشعر { والمشارب } جمع مشرب وهي الألبان في ضروعها يحلبون منها ويشربون . وقوله { افلا يشكرون } يوبخهم على أكل النعم وعدم الشكر عليها ، وشكر الله عليها هو الإِيمان به وتوحيده في عبادته . وقوله { واتخذوا من دون الله آلهة } اي اتخذ أولئك المشركون آلهة هي أصنامهم التي يعبدونها لعلهم ينصرون أي رجاء نصرتها لهم وذلك بشفاعتها لهم عند الله تعالى كما يزعمون . قال تعالى في إبطال هذا الرجاء وقطعه عليهم { لا يستطيعون نصرهم } لأنهم اصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر وقوله { وهم لهم جند محضرون } اي والحال أن المشركين هم جند تلك الأصنام محضرون عندما يدافون عنها ويحمونها ويغضبون لها فكيف ينصرك من هو مفتقر إلى نصرتك . وقوله تعالى { فلا يحزنك قولهم } أي لا تحزن لما يقول قومك من أنك لست مرسلا ، وأنك شاعر وساحر وكاهن غلى غير ذلك من أقاويلهم ، { إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون } وسنجزيهم عن قولهم الباطل ونأخذهم بكذبهم وافترائهم عليك كما نحن نعلم أ ، هم ما قالوا الذي قالوا إلا حسداً لك ، وإلا فهم يعلمون أنك رسول الله وما أنت بالساحر ولا الشاعر ولا المجنون ، ولكن حملهم على ما يقولون الحسد والعناد والكبر .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير النبوة المحمدية وأن القرآن ذكر وليس شعر كما يقول المبطلون .
2- الحكمة من نزول القرآن هي أن ينذر به الرسول الأحياء من أهل الإِيمان .
3- بيان خطأ الذين يقرأون القرآن على الأموات ويتركون الأحياء لا يقرأونه عيهم وعظاً لهم وإرشاداً وتعليماً وتذكيراً .
4- وجوب ذكر النعم وشكرها بالاعتراف بها ، وصرفها في مرضاة واهبها وحمده عليها .
5- بيان سخف المشركين في عبادتهم أصناماً يرجون نصرها وهم جند معبأ لنصرتها من أن يمسها أحد بسوء .
(3/365)
________________________________________
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
شرح الكلمات :
{ أو لم ير الإنسان } : أي المنكر للبعث كالعاصي بن وائل السهمي ، وأبيّ بن خلف .
{ أنا خلقناه من نطفة } : أي من منيّ إلى أن صيرناه رجلا قويا .
{ فإذا هو خصيم مبين } : أي شديد الخصومة بيّنها في نفي البعث .
{ وضرب لنا مثلا } : أي في ذلك ، إذ أخذ عظما وفته أمام رسول الله وقال أيحيي ربك هذا؟
{ ونسى خلقه } : أي وأنه مخلوق من ماء مهين وأصبح رجلا يخاصم فالقادر على الخلق الأول قادر على الثاني .
{ من يحيي العظام وهي رميم } : أي وقد رمّت وبليت .
{ من الشجر الأخضر نارا } : أي من شجر المرخ والعفار يحك أحدهما على الآخر فتشتعل النار .
{ بقادر على أن يخلق مثلهم } : أي مثل الأناسي .
{ بلى } : أي قادر على ذلك إذ خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس .
{ إذا أراد شيئا } : أي خلق شيء وإيجاده .
{ بيده ملكوت } : أي ملك كل شيء ، زيدت التاء للمبالغة في كبر الملك واتساعه .
{ وإليه ترجعون } : أي تردون بعد الموت وذلك في الآخرة .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء تلك العقيدة التي يتوقف عليها غالباً هداية الإِنسان وإصلاحه فقال تعالى ردّا على العاصي بن وائل السهميّ وأبي بن خلف حيث جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم ففته وذراه وقال أتزعم يا محمد أن الله يبعث هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يميتك ثم يحيك ثم يحشرك غلى جهنم ونزلت هذه الآيات { أو لم ير الإِنسان } أي أينكر البعث وهو يعلم أنا خلقناه من نطفة أي من ماء مهين وسويناه رجلا فإِذا هو خصيم لنا أي مخاصم يرد علينا ويشرك بنا وينكر إحياءنا للأموات وبعثهم يوم القيامة فكيف يعمى هذا العمى ويجهل هذا الجهل القبيح ، إذ القادر على البدء قادر عقلا على الإِعادة وهي أهون عيله . وقوله { واضرب لنا } اي هذا المنكر للبعث مثلا أي جعل لنا مثلا وهو انكاره علينا قدرتنا على البعث حيث جعل إعادتنا للخلق أمرا عجبا وغريبا إذ قال { من يحيى العظام وهي رميم } أي قد رمّت وبليت . ونسى خلقه من ماء حقير وكيف جعله الله بشرا سويا يجادل ويخاصم فلو ذكر أصل نشأته لخجل أن ينكر إحياء العظام وهي بالية رميم؟ ولما قال من يحيى العظام وهي رميم؟ . .
وقوله تعالى { قل يحييها الذي أنشأها أول مرة } وهذا هو القياس العقلي الجلي الواضح إذ بالبداهة أن من أوجد شيئا من العدم قادر على إيجاد مثله . وقوله { وهو بكل خلق } أي مخلوق عليم فالعلم والقدرة إذا اجتمعا كان من السهل إيجاد ما أُعدم بعد أن كان موجوداً فأُعدم لا سيما أن الموجود من العدم هو المخبر بالإِعادة وبقدرته عليها .
(3/366)
________________________________________
هذا برهان قطعي وثاني برهان في قوله { الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإِذا أنتم منه توقدون } أي النار وتشعلونها ، ووجه الاستدلال أن البعث لو كان مستحيلا عقلا وما هو بمستحيل بل هو واجب الوقوع لكان على الله غير مستحيل لأن الله تعالى قد أوجد من المستحيل ممكنا وهو النار من الماء ، إذ الشجر الأخضر ماء سار في أغصان الشجرة . ومع هذا يوجد منها النار ، فكان هذا برهانا عقليا يسلم به العقلاء ولا ينازعون فيه ابدا ، وبرهان ثالث وهو في قوله { أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم؛؟ ووجه البرهنة فيه أننا ننظر إلى السموات السبع وما فيها من خلق عجيب وإلى الأرض وما فيها كذلك وننظر إلى الإنسان فنجده لا شيء إذا قوبل بالسموات والأرض فنحكم بأن من خلق السموات والأرض على عظمها قادر من باب أولى على خلق الإِنسان مرة اخرى بعد موته وبلاه وفنائه . ولذا اجاب تعالى عنسؤاله بنفسه فقال { بلى وهو الخلاق العليم } أي الخلاق لكل ما أراد خلقه العليم بكل مخلوقاته لا يخفى عليه شيء منها ، وبرهان رابع في قوله { إنما أمره إذا اراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } ووجه الاستدلال أن من كان شأ ، ه في إيجاد ما اراد إيجاده أن يقول له كن فهو يكون . لا يستنكر عليه عقلا أن يحيي الأموات بكلمة كونوا أحياء فيكونون كما طلب منهم .
وأخيرا ختم هذا الرد المقنع بتنزيه نفسه عن العجز فقال { فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء } أي ملك كل شيء { وإليه ترجعون } أحببتم أم كرهتم أيها الآدميون منكرين كنتم للبعث أم مقرين به مؤمنين .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بإيراد أربعة براهين قاطعة .
2- مشروعية استعمال العقليات في الحجج والمجادلة .
3- تنزيه الله تعالى عن العجز والنقص وعن الشريك والولد وسائر النقائص .
4- تقرير أن الله تعالى بيده وفي تصرفه وتحت قهره كل الملكوت فلذا لا يصح طلب شيء من غيره إذ هو المالك الحق وغيره لا ملك له .
(3/367)
________________________________________
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
شرح الكلمات :
{ والصافات صفا } : أي الملائكة تصف أنفسها في الصلاة وأجنحتها في الهواء .
{ فالزاجرات زجرا } : أي الملائكة تزجر السحاب أي تسوقه حيث يأذن الله .
{ فالتاليات ذكرا } : أي فالجماعات التاليات للقرآن ذكرا .
{ إن إلهكم لواحد } : أي إن إلهكم المعبود الحق لكم أيها الناس لواحد .
{ رب السموات والأرض وما : أي هو ربُّ السموات والأرض وما بينهما أي خالقهما ومالكهما بينهما } ومدبر الأمر فيهما .
{ ورب المشارق } : أي والمغارب وهي مشارق الشمس ومغاربها إذ للشمس كل يوم مشرق ومغرب .
{ وحفظاً من كل شيطان مارد } : أي وحفظناها حفظاً من كل شيطان مارد خارج عن الطاعة .
{ لا يسمعون إلى الملأ الأعلى } : أي لا يستمعون إلى الملائكة في السموات العلا .
{ ويقذفون من كل جانب دحوراً } : يُرمون بالشهب من كل جوانب السماء دحورا أي إبعاداً لهم .
{ عذاب واصب } : أي دائم لا يفارقهم .
{ إلا من خطف الخطفة } : أي اختطف الكلمة من الملائكة بسرعة وهرب .
{ فاتبعه شهاب ثاقب } : أي كوكب مضيء ثاقب يثقبه أو يحرقه أو يخلبه أي يفسده .
معنى الآيات :
قوله تعالى { والصافات صفا } هذا قسم إلهي يؤكد به تعالى إلهيته على عباده فقد أقسم بالصافات والزاجرات والتاليات ذكرا أي قرآنا ، وسواء قلنا اقسم بهذه المخلوقات إذ الله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه وإنما الممنوع أن يقسم العبد بغير ربّه تعالى . أو قلنا اقسم تعالى بنفسه اي وربّ الصافات الخ فالقسم حاصل من أجل تقرير التوحيد ، وهذا الإِقسام جار على عرف البشر في أنهم إذا أخبروا بشيء يشكون في صحته فيؤكد لهم المُخبر الخبر باليمين ليزيل الشك من نفوسهم . وقوله { إنَّ إلهكم لواحد } هو المقسم عليه وهو أن إله البشرية كلها واحد وهو الله خالقها ورازقها وليس لها من غله غيره ، وما عندها من آلهة فهي ىلهة باطلة ويكفي في بطلانها أنها اصنام وصور وتماثيل وصلبان لا تسمع ولا تبصر ، ولا تنفع ولا تضر . وقوله { ربّ السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق } تدليل على وحدانية الله تعالى إذ هو خالق السموات والأرض وما بينهما ومالكهما ومدبر الأمر فيهما ، وربّ المشارق ايضا والمغارب اي مشارق الشمس ومغاربها إذ كل يوم تشرق وتغرب في درجة معينة فالإله الحق هو الخالق للعوالم والمدبر لها لا الذي ينحته الرجل بيده ويقول هو إلهي زورا وباطلا . ألا فليتحرر المشركون من اسر الشيطان ويعبدوا الرحمن . وقوله تعالى { إنّا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب } هذه مظاهر القدرة والعالم والحكمة إنه وحده تعالى زين السماء الدنيا اي القريبة من الأرض بزينة هي الكواكب المشرقة المنيرة . وقوله { وحفظا من كل شيطان مارد } اي وحفظنا السماء حفظا تاما من كل شيطان عادٍ متمرد عن الطاعة . وقوله { لا يسمعون إلى الملأ الأعلى } أي لا يتسمعون إلى الملائكة في السماء حتى لا ينقلوا أخبار الغيب غلى أوليائهم من الكهان في الأرض .
(3/368)
________________________________________
وقوله { ويقذفون من كل جانب } اي ويرمى أولئك المردة من الشياطين من قبل الملائكة من كل جهة من جهات السماء دحورا أي لدحرهم وغبعادهم . وقوله تعالى { ولهم عذاب واصب } لأولئك المردة من الشياطين عذاب واصب موجع دائم وقوله { إلا من خطف الخطفة } أي اختطف الكلمة بسرعة { فأتبعه شهاب ثاقب } أي كوكب مضيئ فثقبه أو أحرقه أو خبله أي أفسده ، وبهذا حُمِيت السماء بالملائكة من دخول الشياطين إليها واستراق السمع . والحمد لله .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان أن الله تعالى يقسم ببعض مخلوقاته إما تنويها بعظمتها المقرر ضمنا لعظمة خالقها وإما بيانا لفضلها وإما لفتا لنظر العباد إلى ما فيها من الفوائد .
2- تقرير التوحيد وأنه لا إله إلا الله .
3- بيان الحكمة من وجود النجوم في السماء الدنيا .
4- بيان أن الشياطين حرموا من استراق السمع ، ولم يبق مجال لكذب الشياطين على الناس بعد أن منعوا من استراق السمع .
(3/369)
________________________________________
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)
شرح الكلمات :
{ فاستفتهم } : أي استخبر كفار مكة تقريرا وتوبيخا .
{ أهم أشد خلقا أم من خلقنا } : أي خلقهم في ذواتهم وإعادتهم بعد موتهم ، أم من خلق تعالى من الملائكة والسموات والأرض وما فيها من سائر المخلوقات .
{ من طين لازب } : أي يلصق باليد .
{ بل عجبت ويسخرون } : أي عجبت يا نبي الله من إنكارهم للبعث ، وهم يسخرون من دعوتك إلى الإِيمان به .
{ وإذا ذكروا لا يذكرون } : أي وإذا وعظوا لا يتعظون .
{ وإذا رأوا آية يستسخرون } : أي إذا رأوا حجة من الحجج التي تحمل الآيات القرآنية تقرر البعث والتوحيد والنبوة يسخرون اي يستهزئون .
{ قل نعم وأنتم داخرون } : أي قل لهم يا رسولنا نعم تبعثون وأنتم صاغرون أذلاء .
{ فإنما هي زجرة واحدة } : أي صيحة تزجرهم وهي نفخة إسرافيل في الصور النفخة الثانية .
{ هذا يوم الدين } : أي يوم الحساب والجزاء .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد والبعث والجزاء وقوله تعالى فاستفتهم اي استخبرهم واطلب جوابهم اي بقولك أنتم أشد خلقا اي في ذواتكم وفي إحيائكم بعد مماتكم أم من خلقه الله من الملائكة والسموات والأرض وما فيهما وما بينهما؟ والجواب معلوم وهو أن خلق غيرهم من العوالم أشد خلقاً إذاً فيكف ينكرون البعث بدعوى استحالة وجوده لصعوبته قال تعالى { إنا خلقناهم من طين لازب } اي خلقنا اباهم آدم من طين لازب أي لاصق يلصق باليد ثم خلقناهم بطريق التناسل أفيعجزنا إعادة خلقهم مرة أخرى والجواب لا . لا وقوله تعالى { بل عجبت } اي من تكذيبهم بالبعث لوضوح الأدلة على إمكانه ووجوب وجوده { ويسخرون } اي وهم يسخرون من ذلك أي يستهزئون من قولك بالبعث وإمكانه . وقوله تعالى { وإذا ذكروا } أي بالآيات لعلهم يذكرون فيؤمنون ويوحدون لا يذكرون لقساوة قلوبهم وظلمة ذنوبهم بالشرك والمعاصي . وقوله { وإذا رأوا آية يستسخرون } اي يسخرون ويستهزئون { وقالوا إن هذا إلا سحر مبين } أي ما هذا الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من القول والعمل إلا سحر مبين اي بَيّنٌ ظاهروهم في ذلك كاذبون قطعا للفرق بين السحر الذي هو تخيل باطل بينه وبين الحق الثابت عقلا ووحيا من دقائق الشرع وأصول الدين من الإِيمان بالله واليوم الآخر وقوله { أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون } هذا قول المكذبين من المشركين يقولونه متعجبين مستبعدين للبعث قال تعالى ردّا عليهم قل يا رسولنا لهم { نعم } تبعثون أحياء { وأنتم داخرون } اي صاغرون ذليليون وأمر إعادتكم لا يتطلب أكثر من أن ينفخ اسرافيل في الصور فإذا أنتم أحياء تخرجون من قبوركم { فإنما هي زجرة } اي صيحة { واحدة فإذا هم } قيام { ينظرون } ويقولوا أي عند قيامهم من قبورهم { يا ويلنا } اي يا هلاكنا احضر هذا أوان حضورك اي يدعون على أنفسهم بالهلاك لشدة ما شاهدوا من هول القيامة كقول أحدهم ياليتها كانت القاضية .
(3/370)
________________________________________
وقولهم هذا يوم الدين اعتراف منهم بالبعث والجزاء ولكن في وقت ما هو بنافع لهم الاعتراف فيه أي هذا يوم الحساب والجزاء فيقال لهم { هذا يوم الفصل } الذي يفصل الله تعالى فيه بين عباده فيما كانوا فيما يختلفون فيحكم بنيهم بالعدل ، وقوله تعالى { الذي كنتم به تكذبون } فيه توبيخ لهم أي هذا يوم البعث الذي كنتم تكذبون به وتقولون مستبعدين له أئذا امتنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أو أباؤنا الأولون أي وآباؤنا الأولون أيضا .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان أصل خلق الإِنسان وهو الطين اللازب أي اللاصق باليد .
2- بيان موقفين متضادين الرسول يعجب من كفر المشركين وتكذيبهم والمشركون يسخرون من دعوته إياهم إلى الإِيمان وعدم التكذيب بالله ولقائه .
3- تقرير البعث وبيان طريقة وقوعه .
4- عدم الانتفاع بالإِيمان عند معاينة العذاب .
(3/371)
________________________________________
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30)
شرح الكلمات :
{ احشروا الذين ظلموا } : أي أنفسهم بالشرك والمعاصي .
{ وأزواجهم } : أي قُرناءهم من الشياطين .
{ من دون الله } : أي من غير الله من الأوثان والأصنام .
{ فاهدوهم } : أي دلوهم وسوقوهم .
{ إلى صراط الجحيم } : أي إلى طريق النار .
{ وقفوهم إنهم مسؤولون } : أي احبسوهم عند الصراط إنهم مسؤولون عن جميع أقوالهم وأفعالهم .
{ مالكم لا تناصرون } : أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا توبيخا لهم .
{ إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } : أي عن يمين أحدنا تزينون له الباطل وتحسِّنون له الشر فتأمرونه بالشرك وتنهونه عن التوحيد .
{ قالوا بل لم تكونوا مؤمنين } : أي قال قرناؤهم من الجن ردّا عليهم بل لم تكونوا أساسا مؤمنين .
{ وما كان لنا عليكم من سلطان } : أي من حجة ولا قوة على حملكم على الشرك والشر والباطل .
{ بل كنتم قوما طاغين } : أي بل كنتم طغاة تعبدون غير الله وتجبرون الناس على ذلك .
معنى الآيات :
ما زال السياق في موقف عرصات القيامة إنهم بعد اعترافهم بأن هذا يوم الدين وردّ الله تعالى عليهم بقوله { هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون } يقول الجبار عز وجل { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم } اي احشروا الذين ظلموا بالشرك والمعاصي ، وقوله { وأزواجهم } أي قُرناءهم من الجن { وما كانوا يعبدون من دون الله } من الأصنام والأوثان . وقوله تعالى { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } يقول الله عز وجل فاهدوهم أي دلوهم إلى طريق النار .
ويقول { وقفوهم إنهم مسؤولون } ثم يسألون { ما لكم لا تناصرون } أي لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا . كيف ينصر بعضهم بعضا في مثل هذا الموقف الرهيب بل هم اليوم مستسلمون على المتبوعين يتساءلون أي يتلاومون كلّ يلقي بالمسؤولية على الآخر . فقال الأتباع من الإِنس لقرنائهم من الجن ما أخبر تعالى به عنهم { إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } أي والشمال أي توسوسون لنا فَتْحَسِّنُون لنا الشرك والشر بل تأمروننا به وتحضوننا عليه . فرد عليهم قرناؤهم بما أخبر تعالى به عنهم في قوله { قالوا بل لم تكونوا مؤمنين } اي ما كنتم مؤمنين فكفرناكم ولا صالحين فأفسدناكم ، ولا موحدين فحملناكم على الشرك . هذا أولا وثانيا ما كان لنا عليكم من سلطان أي من حجج قوية أقنعناكم بها ، ولا قدرة لنا أزهقناكم فاتبعتمونا ، بل كنتم أنتم قوما طاغين أي ظلمة متجاوزين الحد في الإِسراف والظلم والشر .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان صورة لموقف مومواقف عرصات القيامة .
2- بيان أن الأشباه في الكفر أو في الفجور أو في الفسق تحشر مع بعضها بعضا .
3- عدم جدوى براءة العابدين من المعبودين واحتجاج التابعين على المتبوعين .
(3/372)
________________________________________
فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)
شرح الكلمات :
{ فحق علينا قول ربنا } : أي وجب علينا العذاب .
{ إنا لذائقون } : أي العذاب نحن وأنتم .
{ فأغويناكم إنا كنا غاوين } : أي أضللناكم إنا كنّا ضالين .
{ فإنهم يومئذ } : أي يوم القيامة .
{ في العذاب مشتركون } : لأنهم كانوا في الغواية مشتركين .
{ إنا كذلك نفعل بالمجرمين } : كما عذبنا هؤلاء التابعين والمتبوعين نعذب التابعين والمتبوعين في كل ضلال وكفر وفسّاد .
{ إنهم كانوا إذا قيل لهم } : أي إن أولئك المشركين من عبدة الأوثان إذا قال لهم الرسول .
{ لا إله إلا الله يستكبرون } : أي قولوا لا إله إلا الله ولا تعبدا إلا الله يستكبرون ولا يقولون ولا يوحدون .
{ لشاعر مجنون } : يعنون محمد صلى الله عليه وسلم .
{ بل جاء بالحق وصدق : أي بل جاء بلا إله إلا الله وهو الحق الذي جاءت به المرسلين } الرسل وقد صدّقهم فيما جاءوا به من قبله وهو التوحيد .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم فيما ذكر تعالى من تساؤلات الظالمين وما قاله الأتباع للمتبوعين وما قاله المتبوعين للاتباع فقوله تعالى { فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون } هذا قول المتبوعين لأتباعهم قالوا لهم فسبب غوايتنا وضلالنا وجب علينا العذاب إنا وأنتم لذائقوه لا محالة . وقالوا لهم أيضا معترفين بإغوائهم لهم فأغويناكم إنا كنا غاوين هذا قول الجن للإنس قال تعالى { فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون } وذلك لاشتراكهم في الشرك والشر والفساد . وقوله تعالى { إنا كذلك نفعل بالمجرمين } من سائر الأصناف كالزناة وأكلة الربا وسافكي الدماء فنعذب الصنف مع صنفه وهذا عائد إلى قوله احشروا الذين ظلموا وأزواجهم أي أشياعهم وأضرابهم وقوله تعالى { إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون } يخبر تعالى عن مشركي قريش أنهم كانوا في الدنيا إذا قال لهم رسول الله أو أحد المؤمنين قولوا لا إله إلا الله يستكبرون ويشمئزون ولا يقولونها بل ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون يعنون النبي محمد صلى الله عليه سولم يصفون القرآن بالشعر ومحمداً صلى الله عليه وسلم تاليه وقارئه بالشعر ولما يدعوهم إليه من الإِيمان بالبّعث والجزاء بالجنون والرسول في نظرهم مجنون . فرد تعالى عليهم بقوله { بل جاء بالحق } اي لم يمكن رسولنا بشاعر ولا مجنون بل جاء بالحق فأنكرتموه وكذبتم به تقليدا وعنادا فقلتم ما قلتم . وإنما هو قد جاء بالحق الذي هو لا إله إلا الله { وصدق المرسلين } الذين جاءوا قبله بكلمة لا إله إلا الله والدعوة إليها والحياة والموت عليها .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان هلاك الضال ومن اضله والغاوي ومن أغواه .
2- بيان ما كان يوجهه المشركون لرسول الله من التُّهم الباطلة وردّ الله تعالى عليها .
3- التعظيم من شأن لا إله إلا الله وانها دعوة كل الرسل التي سبقت النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
4- تقرير التوحيد والبعث والجزاء والنبوة المحمدية .
(3/373)
________________________________________
إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
شرح الكلمات :
{ وما تجزون إلا ما كنتم تعملون } : أي إلاّ جزاء ما كنتم تعملونه من الشرك والمعاصي .
{ إلا عباد الله المخلصين } : أي لكن عباد الله المخلصين اي العبادة لله وحده فإِنهم يجزون بأكثر أعمالهم إذ الحسنة بعشر أمثالها وأكثر .
{ لهم رزق معلوم } : أي في الجنة بكرة وعشيا .
{ فوكه } : أي طعامهم وشرابهم فيها للتلذذ به كما يتلذذ بالفواكه فليس هو لحفظ أجسامهم حية كما في الدنيا .
{ وهم فيها مكرمون } : أي لا تلحقهم فيها إهانة بل يقال لهم هنيئا بخلاف أهل النار يقال لهم ذوقوا عذاب النار بما كنتم تعملون .
{ من معين } : أي يجري على وجه الأرض كعيون الماء الجارية على الأرض .
{ لذةٍ للشاربين } : أي الخمرة موصوفة بأنها لذة للشاربين .
{ لا فيها غول } : أي ما يغتال عقولهم وأجسامهم فيهلكهم .
{ ولا هم عنها ينزفون } : أي لا يسكرون عنها أي بسببها كما هي خمر الدنيا .
{ قاصرات الطرف } : أي لا ينظرن إلى غير أزواجهن لحسنهم وجمالهم عندهن .
{ عين } : أي واسعات الأعين الواحدة عيناء .
{ بيض مكنون } : أي كأنهن بيض مكنون أي مستور لا يصله غُبار ولا غيره .
معنى الآيات :
قوله تعالى { إنكم لذائقوا العذاب الأليم ، وما تجزون إلا ما كنتم تعملون } هذا يقال لأهل النار وهم موقوفون يتساءلون ومن جملة ما يقال لهم عندئذ هذا القول فيخبرون بأ ، هم ذائقوا العذاب الأليم الموجع ، وأ ، هم ما يجزون إلا بما كانوا يعملون فلا يظلمون بالجزاء بل هو جزاء عادل السيئة بمثلها . وهنا استثنى تعالى جزاء عباده المؤمنين الذي استخلصهم لعبادته فعبدوه ووحدوه فإنهم يجزون بأكثر من أعمالهم فضلا منه عليهم وإحسانا إليهم فالحسنة بعشر أمثالها وبأكثر إلى سبعمائة وأكثر ، فقال { إلاَّ عباد الله المخلصين } وبيّن تعالى بعض جزائهم فقال { أولئك لهم رزق معلوم } أي يأكلونه بكرة وعشياً ، وقوله فواكه فيه إشارة غلى أنهم لا يأكلون ولا يشربون لحفظ أجسادهم من الموت والفناء ، وإنما يأكلون ما يأكلون ويشربون ما يشربون تلذذا بذلك لا لدفع غائلة الجوع كما في الدنيا . { وهم مكرمون } أي في الجنة حيث لا تلحقهم إهانة أبدا ، وقوله في جنات النعيم اضاف الجنة إلى النعيم مبالغة في وصفها بالنعيم حتى جعل الجنة جنّة النعيم فجعل للنعيم وهو النعيم جنة ، وأخبر أنهم متكئون فيها على سرر متقابلين ينظر بعضهم غلى بعض وهم في جلسات تنعم ، وأخبر عنهم أنهم في حال جلوسهم متقابلين ينظر بعضهم غلى بعض وهم في جلسات تنعم ، وأخبر عنهم أنهم في حال جلوسهم متقابلين يسقون بواسطة خدم من الملائكة خاص فقال { يطاف عليهم بكاس من معين } أي من خمر تجرى بها الأنهار كأنها عيون الماء ، ووصف الخمر بأنها بيضاء وأنها لذة عظيمة للشاربين لها ، وأنها لا فيها غول وهو ما يغتال أبدانهم كالصداع ووجع البطن فقال { لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون } أي لا يسكرون بها فتذهب بعقولهم .
(3/374)
________________________________________
وقوله { وعندهم قاصرات الطرف } يعني أن لهم نساء هنّ أزواج لهم ومعنى قاصرات الطرف أي على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم وذلك لحسنهم وجمالهم فلا تنظر الواحدة منهن إلا إلى زوجها . وقوله { عين } أي واسعات الأعين { كأنهن بيض مكنون } هذا وصف لنساء الجنة وأنهن بيض الأجسام بياضاً كبياض بيض النعام إذ هو أبيض مشرب بصفرة وهو من أحسن أنواع الجمال في النساء ومعنى { مكنون } مستور لا ينالهُ غبار ولا أي أذىً .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان عدالة الحق تبارك وتعالى في أنه يجزي السيئة بمثلها ولا يؤاخذ أحداً بغير كسبه في الحياة الدنيا .
2- بيان فضل الله تعالى إذ يجزي المؤمنين الحسنة بعشر أمثالها إلى أكثر من سبعمائة .
3- تقرير البعث وبيان بعض ما يجري فيه من قول وعمل .
4- وصف نعيم أهل الجنة طعاما وشرابا وجلوسا واستمتاعا .
(3/375)
________________________________________
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
شرح الكلمات :
{ فأقبل بعضهم على بعض } : أي أقبل أهل الجنة .
{ يتساءلون } : أي عما مرّ بهم في الدنيا وما جرى لهم فيها .
{ إني كان لي قرين } : أي كان لي صاحب ينكر البعث الآخر .
{ يقول لي أئنك لمن المصدقين } : أي يقول تبكيتاً لي وتوبيخاً أي بالبعث والجزاء .
{ أءنا لمدينون } : أي محاسبون ومجزيون بأعمالنا في الدنيا إنكاراً وتكذيباً .
{ هل أنتم مطلعون } : أي معي إلى النار لننظر حاله وما هو فيه من العذاب .
{ فاطلع فرآه في سواء الجحيم } : أي في وسط النار .
{ تالله إن كدت لتردين } : أي قال هذا تشميتاً به ، ومعنى تردين تهلكني .
{ لكنت من المحضرين } : أي المسوقين غلى جهنم المحضرين فيها .
{ أفما نحن بميتين } : أمخلدون فما نحن بميتين ، والاستفهام للتقرير أي نعم .
{ إلا موتتنا الأولى } : التي ماتوها في الدنيا .
{ لمثل هذا فليعمل العاملون } : أي لمثل هذا النعيم من الخرود في الجنة والنعم فيها فليعمل العاملون وذلك بكثرة الصالحات واجتناب السيئات .
معنى الآيات :
ما زال السياق في بيان نعيم أهل الجنة فقد قال بعضهملبعض بعد أن جلسوا على السرر متقابلين يتجاذبون أطراف الحديث متذكرين ما مرّ بهم من أحداث في الحياة الدنيا فقال أحدهم إنّي كان في الدنيا قرين أي صاحب يقول لي استهزاء وانكارا للبعث الآخر { أئنك لمن المصدقين } أي بالبعث والجزاء على الأعمال في الدنيا . ويقول ايضا مستبعدا منكراً { أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون } أي محاسبون ومجزيون . ثم قال ذلك القائل لبعض أهل مجلسه { هل أنتم مطلعون } أي معي على أهل النار لنرى صاحبي فيها ونسأله عن حاله فكأنهم أبوا عليه ذلك وأبوا أن يطلعوا أما هو فقد اطّلع فرآه في سواء الجحيم أي في وسطها ، وقال له ما أخبر تعالى به عنه في قوله { قال تالله } اي والله { إن كدت لتردين } أي تهلكني لما كنت تنكر عليّ الإِيمان بالبعث وتسخر مني وتشمت بي لإِيماني وعملي الصالح الذي كنت أرجو ثوابه وهو حاصل الآن وقال أيضا { ولولا نعمة ربيّ } عليّ بالعصمة والحفظ لكنت من المحضرين الآن في جهنم معك . ثم قال له { أفما نحن بميتين إلاّ موتتنا الأولى } والاستفهام تقريري فهو يقرره ليقول نعم مخلجون نحن في الجنة وأنتم في النار . ثم قال إن هذا أي الخلود في دار النعيم { لهو الفوز العظيم } إذ كان نجاة من النار وهي أعظم مرهوب مخوف ، ودخولا للجنة دار السلام والنعيم المقيم . قال تعالى { لمثل هذا } اي هذا الفوز العظيم بالنجاة من النار والخلود في دار الأبرار { فليعمل العاملون } أي فليواصلوا عملهم وليخلصوا فيه لله ربّ العالمين .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان عظمة الله تعالى في إقدار المؤمن على أن يتكلم مع من هو في وسط الجحيم ويرى صورته ويتخاطب معه ويفهم بعضهم بعضا ، والعرض التلفازي اليوم قد سهل إدراك هذه الحقيقة .
2- التحذير من قرناء السوء كالشباب الملحد وغيره .
3- بيان كيف كان المكذبون يسخرون من المؤمنين ويعدونهم متخلفين عقليّاً .
4- لا موت في الآخرة وإنما حياة ابدية في النعيم أو في الجحيم .
5- الحث على كثرة الأعمال الصالحة ، والبعد عن الأعمال الفاسدة .
(3/376)
________________________________________
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
شرح الكلمات :
{ أذلك خير نزلا } : أي ذلك المذكور لأهل الجنة خير نُزلاً وهو ما يعد للنازل من ضيف وغيره .
{ أم شجرة الزقوم } : المعدة لأهل النار وهي من أخبث الشجر طعما ومرارة . { إنا جعلناها فتنة للظالمين } : أي امتحانا واختبارا لهم في الدنيا وعذابا لهم في الآخرة .
{ تخرج في اصل الجحيم } : أي في قعر الجحيم وأغصانها في دركاتها .
{ طلعها كأنه رؤوس الشياطين } : أي ما يطلع من ثمرها أولاً كالحيات القبيحة المنظر .
{ إن لهم عليها لشوباً من حميم } : أي بعد اكلها يسقون ماء حميما فذلك الشوب أي الخلط .
{ إنهم الفوا آباءهم } : أي وجدوا آباءهم .
{ فهم على اثارهم يهرعون } : أي يسرعون مندفعين إلى اتباعهم بدون فكر ولا رويّة .
{ ولقد أرسلنا فيهم منذرين } : أي رسلا منذرين لهم من العذاب .
{ فانظر كيف كان عاقبة المنذرين } : إنها كانت عذاباً أليما لإِصرارهم على الكفر .
{ إلا عباد الله المخلصين } : فإِنهم نجوا من العذاب ولم يهلكوا .
معنى الآيات :
لما ذكر تعالى ما أعده لأهل الإِيمان به وطاعته وطاعة رسوله من النعيم المقيم في الجنة دار الأبرار قال أذلك المذكور من النعيم في الجنة خير نزلا ما يُعد من قرى للضيف النازل وغيره أم شجرة الزقوم ، أي ثمرها وهو ثمر سمج مرّ قبيح المنظر . ثم أخبر تعالى أنه جعلها فتنة للظالمين من كفار قريش إذ قالوا لما سمعوا بها كيف تنبت الشجرة في النار والنار تحرق الشجر ، فكذبوا بها فكان ذلك فتنة لهم . ثم وصفها بقوله { إنها شجرة تخرج من اصل الجحيم } أي في قعرها وتمتد فروعها في دركات النار . وقوله طلعها اي ما يطلع من ثمرها في قبح منظره { كأنه رؤوس الشياطين } لأنّ العرب تضرب المثل بالشيطان في القبح كما أن هناك حيات يسمونها بالشيطان قبيحة المنظر وقوله فإِنهم أي الظلمة المشركين لآكلون منها أي من شجرة الزقوم لشدة جوعهم فمالئون منها البطون اي بطونهم { ثم إن لهم عليها لشوباً من حميم } وذلك أنهم لما يأكلون يعطشون فيسقون من حميم فذلك الشوب من الحميم إذ الشوب الخلط والمزج يُقال شاب اللبن بالماء أي خلطه به وقوله { ثم إن مرجعهم لإِلى الجحيم } اي مردهم إلى الجحيم بعدما يأكلون ويشربون في مجالس خاصة بالأكل والشرب يردون إلى نار الجحيم .
وقوله تعالى { إنهم الفوا آباءهم ضالين } أي وجدوا آباءهم ضالين عن طريق الهدى والرشاد { فهم على آثارهم يهرعون } اي يهلولون مسرعين وراءهم يتبعونهم في الشرك والكفر والضلال وقوله تعالى { ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين } أي فليس هؤلاء أول من ضل { ولقد أرسلنا } اي في أولئك الضالين من الأقوام السالفين منذرين أي رسلا ينذرونهم فلم يؤمنوا فأهلكناهم فانظر كيف كان عاقبة المنذرين إنها كانت هلاكاً ودماراً للكافرين . وقوله تعالى { إلا عباد الله المخلصين } استثناء منه تعالى لعباده المؤمنين الصالحين وهم الذين استخلصهم لعبادته بذكره وشكره فآمنوا وأطاعوا فإِنه تعالى نجاهم وأهلك أعداءهم الكافرين المكذبين وفي الآية تهديد ووعيد لكفار قريش بما لا مزيد عليه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان أحسن الأساليب في الدعوة وهو الترهيب والترغيب .
2- تقرير البعث والجزاء بأسلوب العرض للأحداث التي تتم في اقيامة .
3- التنديد بالتباع في الضلال للآباء والأجداد وأهل البلاد .
4- إهلاك الله تعالى للظالمين وانجاؤه للمؤمنين عند الأخذ بالذنوب في الدنيا والآخرة .
(3/377)
________________________________________
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
شرح الكلمات :
{ ولقد نادانا نوح } : أي قال إني مغلوب فانتصر « من سورة القمر » .
{ فلنعم المجيبون } : أي له إذ نجيناه وأهلكنا الكافرين من قومه .
{ من الكرب العظيم } : أي عذاب الغرق بالطوفان .
{ وجعلنا ذريّته هم الباقين } : إذ عامة الناس كانوا من ذريّته سام ، وحام ويافث .
{ وتركنا عليه في الآخرين } : أي أبقينا عليه ثناء حسنا عند سائر الأمم والشعوب .
{ سلام على نوح في العالمين } : أي سلام منّا على نوح في العالمين أي في الناس أجمعين .
{ إنا كذلك نجزي المحسنين } : أي كما جزينا نوحاً بالذكر الحسن والسلام في العالمين نجزي المحسنين .
{ ثم أغرقنا الآخرين } : أي كفار قومه المشركين بعد إنجاء المؤمنين في السفينة .
معنى الآيات :
على إثر ذكره تعالى إهلاك المنذرين وإنجائه المؤمنين من عباده المخلصين ذكر قصة تاريخية لذلك وهي نوح وقومه حيث أنذر نوح قومه ولما جاء العذاب أنجى الله عباده المخلصين وأهلك المكذبين المنذرين فقال تعالى في ذكر هذه القصة الموجزة { ولقد نادانا نوح } أي دعانا لنصرته من قومه { فقال رب انصرني بما كذبون } { وقال إني مغلوب فانتصر } { فلنعم المجيبون } نحن له { ونجيناه وأهله } باستثناء امرأته وولده كنعان { من الكرب العظيم } وهو عذاب الغرق . وقوله { وجعلنا ذريّته هم الباقين } إلى يوم القيامة وهذا جزاء له على صبره في دعوته وإخلاصه وصدقه فيها إذ كل الناس اليوم من أولاده الثلاثة وهم سام وهو أبو العرب والروم وفارس ، وحام وهو أبو السودان ويافث وهو أبو الترك والخزر وهم التتار ضيقوا العيون ولهذا سموا الخزر من خزر العين وهو ضيقها وصغرها ، ويأجوج ومأجوج ، وقوله { وتركنا عليه في الآخرين } أي في أجيال البشرية التي أتت بعده وهو الذكر الحسن والثناء العطر المعبر عنه بقوله تعالى { سلام على نوح في العالمين } وقوله تعالى { إنا كذلك نجزي المحسنين } أي كما جزينا نوحا لإِيمانه وصبره وتقواه وصدقه ونصحه وإخلاصه نجزي المحسنين في إيمانهم وتقواهم وهذه بشرى للمؤمنين وقوله { إنه من عبادنا المؤمنين } ثناء عليه وبيان لعلة الإِكرام والإِنعام عليه .
ودعوة إلى الإِيمان بالترغيب فيه ، وقوله { ثم أغرقنا الآخرين } اي أغرقناهم بالطوفان بكفرهم وشركهم وتكذيبهم بعد أن أنجينا المؤمنين .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان إكرام الله لأوليائه ، وإهانته لإعدائه .
2- إجابة دعاء الصالحين لا سيما عندما يظلمون .
3- فضل الإِحسان وحسن عاقبة اهله .
4- فضل الإِيمان وكرامة أهله عند الله في الدنيا والآخرة .
5- قول سلام على نوح في العالمين إذا قاله المؤمن حين يمسي أو يصبح يحفظه الله تعالى في لسعة العقرب . وأصح منه قول : « أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق » لصحة الحديث في ذلك .
(3/378)
________________________________________
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)
شرح الكلمات :
{ وإن من شيعته لإِبراهيم } : وإن من أشياع نوح على ملته ومنهاجه إبراهيم الخليل عليهما السلام .
{ إذ جاء ربه بقلب سليم } : أي أتى ربّه بقلب سليم من الشرك والشك والالتفات إلى غير الرب سبحانه وتعالى .
{ إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون } ؟ : أي حين قال لأبيه وقومه المشركين أي شيء تعبدون؟
{ أئفكا آلهة دون الله تريدون؟ } : أي كذبا هو أسوأ الكذب تريدون آلهة غير الله؟
{ فما ظنكم برب العالمين } : أي شيء هو؟ أترون أنه لا يسخط عليكم ولا يعاقبكم فتعبدون غيره وهو ربكم ورب العالمين .
{ فنظر نظرة في النجوم } : أي إيهاماً لهم إذ كانوا يؤلهون النجوم .
{ فقال إني سقيم } : أي عليل أي ذو سقم وهو المرض والعلة .
{ فتولوا عنه مدبرين } : أي رجعوا غلى ما هم فيه وتركوه قابلين عذره .
{ فراغ إلى آلهتهم } : أي مال إليها خفية .
{ فراغ عليهم ضربا باليمين } : أي بقوة يمينه فكسرها بفأس وحطمها .
{ فأقبلوا إليه يزفُّون } : أي يمشون بقوة وسرعة .
{ ما تنحتون } : من الحجارة والأخشاب والمعادن كالذهب والفضة .
{ وما تعملون } : أي وخلق ما تعبدون من أصنام وكواكب .
{ فقالوا ابنوا له بنيانا } : واملأوه حطبا وأضرموا فيه النار فإِذا التهب ألقوه فيه .
{ فجعلناهم الأسفلين } : أي المقهورين الخائبين في كيدهم إذ نجّى الله إبراهيم .
معنى الآيات :
لما ذكر تعالى قصة نوح مقرراً بها لنصرة أوليائه وخذلان أعدائه ذكر قصة أخرى هي قصة إبراهيم وهي أكبر موعظة لكفار قريش لأنهم ينتمون غلى إبراهيم ويدعَّون أنهم على ملته وملة ولده إسماعيل فلذا أطال الحديث فيها فقال سبحانه وتعالى { وإن من شيعته لإبراهيم } أي وإن من اشياع نوح الذين هم على ملته ومنهجه إبراهيم خليل الرحمن { إذ جاء ربّه بقلب سليم } اي إذ أتى ربّه بقلب سليم من الشرك والشك والالتفات إلى غير الربّ تعالى في الوقت الذي قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون ، منكراً عليهم عبادة الصنام فلو كان في قلبه أدنى التفاتة إلى غيره طمعا أو خوفا ما أمكنه أن يقول الذي قال بل كان في تلك الساعة سليم القلب ليس فيه نظر لغير الله تعالى وقوله { أئفكا ىلهة دون الله تريدون } اي أكذباً هو أسوأ الكذب تريدون آلهة غير الله حيث جعلتموها بكذبكم بألسنتكم ىلهة وهي أحجار واصنام . وقوله { فما ظنكم بربّ العالمين } وقد عبدتم الكذب دونه إذ آلهتكم ما هي غلا كذب بحت . أترون أن الله لا يسخط عليكم ولا يعاقبكم؟ وقوله { فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم } هنا كلام محذوف دل عليه المقام وهو أن أهل البلد قد عزموا على الخروج إلى عيد لهم يقضونه خارج البلد ، فعرضوا عليه الخروج معهم فاعتذر بقوله إني سقيم أي ذو سقم بعد أن نظر في النجوم موهماً لهم أنه رأى ما دله على أنه سيصاب بسقم وهو مرض الطاعون وكان القوم منجمين ينظرون غلى النجوم فيدعون أنهم يعرفون بذلك الخير والشر الذي ينزل إلى الأرض بواسطة الكواكب فأوهمهم بذلك فتركوه خوفا من عدوى الطاعون ، أو تركوه قبولا لعذره هذا ما دل عليه قوله تعالى { فنظر نظرة في النجوم فقال إنس سقيم } { فتولوا عنه } أي لذلك ورجعوا إلى أمورهم وما هم عازمون عليه من الخروج إلى العيد خارج البلد وهو معنى فتولوا عنه مدبرين وهم\نا وقد خلا له المكان الذي فيه الآلهة من الحراس والعباد والزوار للآلهة في بهوها الخاص فنفذ ما حلف على تنفيذه في مناظرة كانت بينه وبين بعضهم إذ قال { تالله لأكيدن اصنامكم بعد أن تولوا مدبرين } وبدأ المهمة فقال للآلهة وأنواع الأطعمة أمامها تلك الأطعمة من الحلويات وغيرها التي يتركها المشركون لتباركها الالهة ثم يأكلونها رجاء بركتها { ألا تأكلون } عارضا عليها الأكل سخيرّة بها فلم تجبه ولم تأكل فقال لها { مالكم لا تنطقون } ثم انهال عليها ضرباً بفأس بيده اليمنى فكسرها وجعلها جذاذاً اي قطعاً متناثرة .
(3/379)
________________________________________
فلما رجعوا من عيدهم مساء وجاءوا بَهْو الالهة ليأخذوا الأطعمة وجدوا الآلهة مكسرة .
{ فأقبلوا غليه يزفون } أي مسرعين بأن طلبوا من رجالهم إحضاره على الفور فأحضروه وأخذوا يحاكمونه فقال في دفاعه { أتعبدون ما تنحتون } اي بايديكم من اصنام بعضها من حجر وبعض من خشب ومن فضة ومن ذهب أيضا ، { والله خلقكم وما تعملون } من كل عمل منأعمالكم فلم لا تعبدونه ، وتعبدون أصناما لا تنفع ولا تضر ، ولما غلبهم في الحجة وانهزموا أمامه اصدروا أمرهم بإِحراقه بالنار فقالوا { ابنوا له بنيانا } أي فرنا عظيما واملأوه حطبا وأضرموا فيه النار حتى إذا التهب فألقوه في جحيمه وهو معنى قوله تعالى { فقالوا ابنوه له بنياناً فألقوه في الجحيم } وقوله تعالى { فارادوا } أي بإِبراهيم { كيداً } أي شرا وذلك بعزمهم على إحراقه وتنفيذهم ما عزموا عليه { فجعلناهم الأسفلين } اي المتهورين المغلوبين إذ قال تالى للنار { كوني برداً وسلاماً على إبراهيم } فكانت فخرج منها إبراهيم ولم يُحرق سوى كتافيه الذي في يديه ورجليه وخيب الله سعي المشركين وأذلهم أمام إبراهيم وأخزاهم وهو معنى قوله تعالى { فجعلناهم الأخسرين } وقد جمع الله تعالى لهم بين الخسران في كل ما أملوه من عملهم والذي الذي ما فارقهم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- أصل الدين واحد فالإِسلام هو دين الله الذي تعبد به آدم فمن بعده إلى محمد صلى الله عليه وسلم .
2- كمال إبراهيم في سلامة قلبه من الالتفات إلى غير الله تعالى حتى إن جبريل قد عرض له وهو في طريقه إلى الجحيم الذي أعده له قومه فقال [ هل لك حاجة يا إبراهيم فقال أما إليك فلا ] .
3- من اقبح الكذب ادعاء أن غير الله يعبد مع الله تبركا به أو طلبا لشفاعته .
4- وجوب تغيير المنكر عند القدرة عليه .
5- بيان ابتلاء إبراهيم وأنه أُلقي في النار فصبر ، ولذا أكرمه ربّه بما سيأتي في السياق بيانه .
(3/380)
________________________________________
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
شرح الكلمات : { إني ذاهب إلى ربي سيهدين } : أي إني مهاجر إلى ربي سيهدين إلى مكان أعبده فيه فلا أمنع فيه من عبادته .
{ ربّ هب لي من الصالحين } : أي ولداً من الصالحين .
{ بغلام حليم } : أي ذي حلم وصبر كثير يولد له .
{ فلما بلغ معه السعي } : أي بلغ من العمر ما اصبح يقدر فيه على العمل كسبع سنين فأكثر .
{ فانظر ماذا ترى } : أي من الرأي الرشد .
{ من الصابرين } : أي على الذبح الذي أُمرت به .
{ فلما أسلما } : أي خضعا لأمر الله الولد والوالد وانقادا له .
{ وتله للجبين } : أي صرعه على جبينه بأن وضع جبينه على الأرض ولكل انسان جبينان أيمن وأيسر والجبهة بينهما .
{ قد صدقت الرؤيا } : أي بما عزمت عليه وفعلته من الخروج بالولد إلى منى وصرعه على الأرض وإمرار السكين على حلقه .
{ إن هذا لهو البلاء المبين } : أي الأمر بالذبح اختبار عظيم .
{ وفديناه بذبح عظيم } : أي كبش كبير .
{ وتركنا عليه في الآخرين } : أي أبقينا عليه ثناءً وذكراً حسنا فيمن جاء بعده من الناس .
{ وباركنا عليه وعلى اسحق } : أي وباركنا عليه بتكثير ذريته وذرية اسحق حتى إن عامة الأنبياء من ذريتهما .
معنى الآيات :
ما زال السياق في قصة إبراهيم الخليل إنه بعد أن أُلقي به في النار وخرج بحمد الله سالماً قرر الهجرة وترك البلاد ، وقال { إني ذاهب إلى ربي سيهدين } أي إني ذاهب إلى حيث أذن لي ربي بالهجرة إليه حيث أتمكن من عبادته فذهب إلى بلاد الشام ونزل أولا بحران من الشام ، وقوله سيهدين أي يثبتني بدوام هدايته لي . ودعا ربّه قائلا { ربّ هب لي من الصالحين } أي ارزقني أولاداً صالحين . فاستجاب الله تعالى له وذلك انه سافر في أرض القدس مع زوجته سارة وانتهى مصر ، وحدث أن وهب طاغية مصر جارية لسارة تسمى هاجر فوهبتها سارة لزوجها إبراهيم فتسراها فولدت له غلاماً هو إسماعيل وهو استجابة الله تعالى لإبراهيم في دعائه عند هجرته { رب هب لي من الصالحين } وهو قوله تعالى { فبشرناه بغلام حليم } . وقد أخذ سارة ما يأخذ النساء من الغيرة لما رأت جارية إبراهيم أنجبت له إسماعيل فأمر الله إبراهيم بأن يأخذها وطفلها إلى مكة إبعاداً لها عن سارة ليقل تألمها . وهناك بمكة رأى إبراهيم رؤيته ورؤيا الأنبياء وحي وقال لإسماعيل ما أخبر تعالى به في قوله ، { فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي } كابن سبع سنين فأكثر بمعنى أصبح قادرا على العمل معه { قال يا بنيّ إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى } أي استشارة ليرى رأيه في القبول أو الرفض فأجاب إسماعيل قائلا { يا ابت افعل ما تؤمر } أي ما يأمرك به ربك { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } وفعلا خرج به إبراهيم من حول البيت إلى منى وانتهى إلى مكان تجاوز به مكان الجمرات الثلاث وتله للجبين أي صرعه على جبينه بأن وضع جبينه على الأرض وأخذ المدية ووضعها على رقبته والتفت لأمر ما وإذا بكبش أملح والهاتف يقول اترك ذاك وخذ هذا فترك الولد وذبح الكبش وكانت آية .
(3/381)
________________________________________
وهو قوله تعالى { وفديناه بذبح عظيم } ، وقوله تعالى { وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين } أي الاختبار البيّن وبذلك تأهل للخلة وأصبح خليل الرحمن ، وقوله تعالى { وفديناه } أي اسماعيل { بذبح عظيم } أي بكبش عظيم . وهو الذي ذبحه إبراهيم وترك إسماعيل وقوله { وتركنا عليه في الآخرين } اي أبقينا عليه ثناء عاطرا وذكرا حسنا فيمن جاء بعده من الأمم والشعوب . { سلام على إبراهيم } اي سلام من الله على إبراهيم كذلك أي كذلك الجزاء الذي جزى به الله تعالى على إيمانه وهجرته وصبره وطاعته يجزي المحسنين وقوله { إنه من عبادنا المؤمنين } وفي هذا ثناء عاطر على المؤمنين ، وقوله { وبشرناه باسحاق نبيّاً من الصالحين } وهذا يوم جاءه الضيف من الملائكة وهم في طريقهم إلى المؤتفكات قرى قوم لوط ، وذلك بعد أن بلغ من العمر عتيا وامرأته سارة كذلك إذ قالت ساعة البشرى { أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً } وعجبا لمن يقول إن الذبيح اسحق وليس اسماعيل وقوله تعالى { وباركنا عليه وعلى اسحق } أي وباركنا عليه بتكثير ذريّته وذريّة اسحاق حتى إن عامة الأنبياء من بعدهما من ذريّتهما ، وقوله تعالى { ومن ذريّتهما } أي إبراهيم واسحق { محسن } أي مؤمن صالح { وظالم لنفسه } بالشرك والعاصي .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- فضل الهجرة في سبيل الله وأن أول هجرة كانت في الأرض هي هجرة إبراهيم من العراق إلى الشام .
2- بيان أن الذبيح هو إسماعيل وليس هو اسحق كما يقول البعض وكما يدعي اليهود .
3- وجوب بر الوالدين وطاعتهما في المعروف .
4- فضل إبراهيم وعلو مقامه وكرامته عند ربّه .
5- فضل الإِحسان وجزاء المحسنين .
(3/382)
________________________________________
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
شرح الكلمات :
{ ولقد مننا على موسى وهرون } : أي بالنبوة والرسالة .
{ ونجيناهم وقومهما } : أي بني اسرائيل .
{ من الكرب العظيم } : أي استعباد فرعون غياهم واضطهاده لهم .
{ ونصرناهم } : على فرعون وجنوده .
{ الكتاب المستبين } : أي التوراة الموضحة الأحكام والشرائع .
{ وهديناهما الصراط المستقيم } : أي الإِسلام لله ربّ العالمين .
{ وتركنا عليهما في الآخرين } : أي أبقينا عليهما في الآخرين ثناء حسنا .
{ سلام على موسى وهرون } : أي سلام منا على موسى وهرون .
{ إنا كذلك } : أي كما جزيناهما نجزي المحسنين منعبادنا المؤمنين .
{ إنهما من عبادنا المؤمنين } : أي جزيناهما بما جزيناهما به لإِيمانهما .
معنى الآيات :
ما زال السياق في ذكر إفضال الله وإنعامه على من يشاء من عباده فبعد ذكر إنعامه على إبراهيم وولده إسحق ذكر من ذريّتهما المحسنين موسى وهرون فقال تعالى { ولقد مننا على موسى وهرون } أي بالنبوة والرسالة ، { ونجيناهما وقومهما } اي بني اسرائيل { من الكرب العظيم } الذي هو استعباد فرعون والأقباط لهم واضطهادهم زمنا طويلا { ونصرناهم } أي على فرعون وملائه { فكانوا هم الغالبين } { وآتيناهما } أي أعطيناهما { الكتاب المستبين } وهو التوراة الواضحة الأحكام البيّن الشرائع لا خفاء فيها ولا غموض . { وهديناهما الصراط المستقيم } وهو الدين الصحيح الذي هو الإسلام دين الله الذي بعث به كافة رسله { وتركنا عليهما في الآخرين } أي وأبقينا عليهما الذكر الحسن والثناء العطر فيمن بعدهما رسلام على موسى وهرون } { إنا كذلك نجزي المحسنين } أي كما جزيناهما لإِحسانهما نجزي المحسنين { إنهما من عبادنا المؤمنين } فيه بيان لعلة ما وهبهما من الإنعام والإِفصال وهو الإِيمان المقتضي للإِسلام والإِحسان .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان إكرام الله تعالى لرسوليه موسى وهرون عليهما السلام .
2- بيان إنعام الله تعالى على بني اسرائيل بإِنجائهم من آل فرعون ونصرته لهم عليهم .
3- بيان أن الإِسلام دين سائر الأنبياء وليس خاصاً بأمة الإِسلام .
4- بيان فضل الإِحسان والإِيمان .
(3/383)
________________________________________
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
شرح الكلمات :
{ وإن إلياس لمن المرسلين } : إلياس هو أحد أنبياء بني إسرائيل من سبط هرون أرسله الله تعالى إلى أهل مدينة بعلبك بالشام .
{ أتدعون بعلا } : أي صنما يمسى بعلا .
{ وتذرون أحسن الخالقين } : أي وتتركون عبادة الله أحسن الخالقين .
{ فإنهم لمحضرون } : أي في النار .
{ إلا عباد الله المخلصين } : أي فإنهم نجوا من النار .
{ وتركنا عليه في الآخرين } : أي أبقينا عليه في الآخرين ذكرا حسنا .
{ سلام على إل ياسين } : أي سلام منا على إلياس .
معنى الآيات :
ما زال السياق في ذكر إنعام الله تعالى على بعض أنبيائه ورسله فقال تعالى { وإنّ إلياس لمن المرسلين } وهو من سبط هرون عليه السلام أحد أنبياء بني اسرائيل أخبر تعالى أنه من المرسلين أي اذكر إذ قال لقومه وهم أهل مدينة بعلبك وما حولها { ألا تتقون } أي الله تعالى بعبادته وترك عبادة غيره ، وهذا دليل على أنه رسول . وقوله عليه السلام { أتدعون بعلا } هذا إنكار منه لهم على عبادة نم كبير لهم يسمونه بعلا ، اي كيف تعبدون صنما بدعائه والعكوف عليه والذبح والنذر له ، وتتركون عبادة الله أحسن الخالقين ، الله ربكم ورب آبائكم الأولين . قال تعالى { فكذبوه } اي في أنه لا إله إلا الله { فماتوا وهم كافرون } فاحضروا في جهنم فهم من المحضرين فيها ، وقوله تالى { إلا عباد الله المخلصين } اي الموحدين فإنهم ليسوا في النار بل هم في الجنة . وقوله تعالى { وتركنا عليه في الآخرين } اي وأبقينا له ذكراً حسنا في الذين جاءوا من بعده من الناس . وقوله تعالى { سلام } أي منّا { على إِل ياسين } { إنا كذلك } أي كما جزينا إلياس لإِحسانه في طاعتنا { نجزي المحسنين } وقوله { إنه من عبادنا المؤمنين } أي استحق تكريمنا والجزاء الحسن لأنه منعبادنا المؤمنين .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير التوحيد ، والتنديد بالشرك .
2- هلاك المشركين ونجاة الموحدين يوم القيامة .
3- فضل الإِحسان ومجازاة أهله بحسن الجزاء .
4- فضل الإِيمان وأنه سبب كل خير وكمال .
(3/384)
________________________________________
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)
شرح الكلمات :
{ وإن لوطاً لمن المرسلين } : أي وإن لوطا وهو ابن هاران أخي إبراهيم الخليل لمن جملة الرسل ايضا .
{ إننجيناه وأهله أجميعن } : أي اذكر يا رسولنا ممن أنعمنا عليهم بالنبوة والرسالة لوطا إذ نجيناه وأهله أجمعين من عذاب مطر السوء .
{ إلا عجوزا في الغابرين } : أي إلا امرأته الكافرة هلكت في الغابرين أي الباقين في العذاب .
{ ثم دمرنا الآخرين } : أي أهلكنا الآخرين ممن عدا لوطاً والمؤمنين معه .
{ وإنكم لتمرون عليهم } : أي في أسفاركم إلى فلسطين وغزة ومصر بالليل والنهار .
{ أفلا تعقلون } : أي يا أهل مكة ما حل بهم فتعتبرون وتتعظون فتؤمنوا وتوحدوا .
معنى الآيات :
ما زال السياق في ذكر إنعام الله على من اصطفى من عباده فقال تعالى { وإن لوطاً } وهو ابن هاران أخي إبراهيم عليهما السلام { لمن المرسلين } اي لمن جُملة رسلنا { إذ نجيناه } اي اذكر إنعامنا عيه إذ نجيناه من العذاب وأهله أجميعن { إلا عجوزا في الغابرين } وهي امرأته إذ كانت مع الكافرين فبقيت معهم فهلكت بهلاكهك . وقوله تعالى { ثم دمرنا الآخرين } أي ممن عدا لوطاً ومن آمن به من قومه . وقوله { وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل } هذا خطاب لأهل مكة المشركين إذ كانوا يسافرون للتجارة إلى الشام وفلسطين ويمرون بالبحر الميت وهو مكان الهالكين من قوم لوط أصبح بعد الخسف بحراً ميتاً لا حياة فيه البتة . وقوله { أفلا تعقلون } توبيخ لهم وتقريع على عدم التفكر والتدبر إذ لو فكروا لعلموا أن الله تعالى أهلكهم لتكذيبهم برسولهم وكفرهم بما جاءهم به من الهدى والدين الحق ، وقد كذب هؤلاء فأي مانع يمنع من وقوع عذاب بهم كما وقع بقوم لوط من قبلهم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير نبوة لوط ورسالته .
2- بيان العبرة في إنجاء لوط والمؤمنين معه وإهلاك الكافرين المكذبين به .
3- بيان أن لا شفاعة تنفع ولو كان الشافع أقرب قريب إلا بعد أن يأذن الله للشافع وبعد رضائه عن المشفوع له .
4- وجوب التفكر والتعقل في الأحداث الكونية للاهتداء بذلك إلى معرفة سنن الله تعالى في الكون والحياة .
(3/385)
________________________________________
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
شرح الكلمات :
{ وإن يونس لمن المرسلين } : أي وإن يونس بن متى الملقب بذي النون لمن جُملة المرسلين .
{ إذ أبق إلى الفلك المشحون } : أي إذ هرب إلى السفينة المملوءة بالركاب .
{ فساهم فكان من المدحضين } : أي اقترع مع ركاب السفينة فكان من المغلوبين .
{ فالتقمه الحوت وهو مليم } : أي ابتلعه الحوت وهو آتٍ بما يلام عليه .
{ للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } : أي لكان بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة .
{ فنبذناه بالعراء } : أي فألقيناه في بطن الحوت بالعراء أي يوجه الأرض بالساحل .
{ وهو سقيم } : أي عليل كالفرخ المنتوف الريش .
{ شجرة من يقطين } : أي الدباء : القرع .
{ إلى مائة الف أو يزيدون } : أي أرسلناه إلى مائة ألف نسمة بل يزيدون بكذا الف .
{ فآمنوا فمتعاهم إلى حين } : أي فآمن قومه عند معاينة أمارات العذاب فأبقاهم الله إلى آجالهم .
معنى الآيات :
ما زال السياق في ذكر من أنعم الله تعالى عليهم بما شاء من وجوه الإِنعام . فقال عز وجل عطفا عما سبق { وإن يونس لمن المرسلين } أي وإن عبدنا يونس بن متى ذا النون لمن جُملة من مننّا عليهم بالنبوّة والرسالة . { إذ أبق } أي في الوقت الذي هرب من قومه لما لم يؤمنوا به وواعدهم العذاب وتأخر عنهم فاستعجل فهرب من المدينة وهي نينوي من أرض الموصل بالعراق ، فوصل الميناء فوجد سفينة مبحرة فركب وكانت حمولتها أكبر من طاقتها فوقفت في عرض البحر لا تتقدم ولا تتأخر فرأى رُبّان السفينة أنه لا بد من تقليل الشحنة وإلاّ غرق الجميع ، وشح كل راكب بنفسه فاقترعوا فكان يونس من المدحضين أي المغلوبين في القرعة فرموه في البحر فالتقمه حوته ، وهو مليم اي فاعل ما يلام عليه من فراره من دعوة قومه إلى الله لما ضاق صدره ولم يطق البقاء معهم .
وهذا معنى قوله تعالى { إذ ابق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم } . وقوله تعالى { فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه } أي بطن الحوت { إلى يوم يبعثون } أي يوم القيامة بأن يصير بطن الحوت قبراً له أي فلولا أن يونس كان من المسبحين أي المكثرين من الصلاة والذكر والدعاء والتسبيح قبل البلاء لما كان يُلهم قوله لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، ولما كان يستجاب له ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « تعرّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة » فإِن صوت يونس سمع تحت العرش فعرفه بعض الملائكة فذكروا ذلك لربهم تعالى فأخبرهم أنه عبده يونس ، وأنه كان من المكثرين الصلاة والذكر والدعاء قبل البلاء فلذا استجاب الله تعالى ونجاه من الغم ، وهو معنى قوله تعالى { فنبذناه بالعراء } أي بوجه الأرض العارية من الشجر وكل ظل وهو كالفرخ المنتوف الريش نضج لحمه من حرارة جوف الحوت وأنبت تعالى عليه شجرة من يقطين أي فرع تظلله بأوراقها الحررية الناعمة والتي لا ينزل بساحتها الذباب ، وسخر له أُروية « غزالة » فكانت تأتيه صباح مساء فتفشح عليه أي تفتح رجليها وتدني ضرعها منه فيرضع حتى يشبع إلى أن تماثل للشفاء وعاد إلى قومه فوجدهم مؤمنين لتوبة أحدثوها عند ظهور امارات العذاب فتاب الله عليهم .
(3/386)
________________________________________
وقوله تعالى { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } أي أرسلناه إلى قومه وهم أهل نينوي وكان تعدادهم مائة ألف وزيادة كذا ألفا فآمنوا أي بالله ربّا وبالإِسلام دينا وبيونس نبيا وتابوا بترك الشرك والكفر فجزيناهم على إيمانهم وتوبتهم بأن كشفنا عنهم العذاب الذي أظلهم ، ومتعناهم أي أبقينا عليهم يتمتعون بالحياة إلى نهاية آجالهم المحدودة لهم في كتاب المقادير .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير نبوة يونس ورسالته وضمن ذلك تقرير رسالة محمد صلى الله عليه وسلم .
2- مشروعية الركوب في السفن البحرية .
3- مشروعية الاقتراع لفض النزاع في قسمة الأشياء ونحوها .
4- فضل الصلاة والذكر والدعاء والتسبيح وعظيم نفعها عند الوقوع في البلاء .
5- تقرير مبدأ « تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة » .
6- بركة أكل اليقطين أي الدباء القرع إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكلها ويلتقطها من حافة القصعة .
7- فضل قوم يونس إذ آمنوا كلهم ولم تؤمن أمة بكاملها إلاّ هم .
(3/387)
________________________________________
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
شرح الكلمات :
{ فاستفتهم } : أي استخبر كفار مكة توبيخا لهم وتقريعاً .
{ ولهم البنون } : أي فيختصون بالأفضل الأشرف .
{ ليقولون ولد الله } : أي لقولهم الملائكة بنات الله .
{ اصطفى البنات } : أي اختار البنات على البنين .
{ افلا تذكرون } : أي إن الله تعالى منزه عن الصاحبة والولد .
{ أم لكم سلطان مبين } : أي ألكم حجة واضحة على صحة ما تدعون .
{ فأتوا بكتابكم } : أي الذي تحتجون بما فيه ، ومن اين لكم ذلك .
{ وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا } : إذ قالوا الملائكة بنات الله .
{ ولقد علمت الجنة إنهم : أي في العذاب .
لمحضرون } { سبحان الله عما يصفون } : أي تنزيها لله تعالى عما يصفونه به من كون الملائكة بنات له .
{ إلا عباد الله المخلصين } : أي فإِنهم ينزهون ربهم ولا يصفونه بالنقائص كهؤلاء المشركين .
معنى الآيات :
بعد تقرير البعث والتوحيد والنبوة في السياق السابق بالأدلة والحجج والبراهين القاطعة أراد تعالى إبطال فرية من اسوأ الفرى التي عرفتها ديار الجزيرة وهي قول بعضهم إن الله تعالى قد اصهر إلى الجن فأنجب الملائكة وهم بنات الله ، وهذا لا شك انه من إيحاء الشيطان لإِغواء الإِنسان وإضلاله فقال تعالى لرسوله استفتهم اي استخبرهم موبخا لهم مقرّعا قائلا لهم { ألربك البنات ولهم البنون } ، أي أما تخجلون عندما تنسبون لكم الأسنى والأشرف وهو البنون ، وتجعلون لله الآخس والأدنى وهو البنات وقوله تعالى { أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون } أي حضروا يوم خلقنا الملائكة فعرفوا بذلك أنهم إناث ، والجواب لا إنهم لم يشهدوا خلقهم إذاً فلم يكذبون وقوله تعالى { ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون } اي ألا إن هؤلاء المشركين الضالين من كذبهم الذي عاشوا عليه واعتادوه يقولون ولد الله وذلك بقولهم الملائكة بنات الله ، وإنهم وربّ العزة لكاذبون في قيلهم هذا الذي هو صورة لإِفكهم الذي يعيشون عليه . وقوله تعالى { اصطفى البنات على البنين } هذا توبيخ لهم وتقريع اصطفى اي هل الله اختار البنات على البنين فلذا جعلهم إناثاً كما تزعمون . ما لكم كيف تحكمون هذا الحكم الباطل الفاسد .
أفلا تذكرون فتذكروا أن الله تعالى منزه عن الصاحبة والولد أم لكم سلطان مبين اي ألكم حجة قوية تثبت دعواكم والحجة القوية تكون بوحي من الله في كتاب أنزله يخبر فيه بما تقولون إذاً { فأتوا بكتابكم } الذي فيه ما تدعون { إن كنتم صادقين } في زعمكم .
ومن اين لكم الكتاب ، وقد كفرتم بكتابكم الذي نزل لهدايتكم وهو اقرآن الكريم . وهكذا ابطل الله هذه القرية بأقوى الحجج . وقوله تعالى : { وجعلوا بينه } اي بين الله تعالى { وبين الجنة نسباً } بقولهم اصهر الله تعالى إن الجن فتزوج سروات الجن إذ سالهم ابو بكر : من أمهات الملائكة فقالوا سروات الجن وقوله تعالى { ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون } اي في العذاب ، فكيف يكون لهم نسب ويعذبهم الله بالنار .
(3/388)
________________________________________
فالنسيب يكرم نسيبه لا يعذبه بالنار ، وبذلك بطلت هذه الفرية الممقوتة ، فنزه الله تعالى نفسه عن مثل هذه الترهات والأباطيل فقال { سبحان الله عما يصفون } . { إلا عباد الله المخلصين } أي فإنهم لا يصفون ربهم بمثل هذه النقائص التي هي من صفات العباد العجزة المفتقرين غلى الزوجة والولد أما ربّ كل شيء ومالكه وخالقه فلا يقبل العقل أن ينسب إليه الصاحبة والولد . فلذا عباد الله الذين استخلصهم لمعرفته والإِيمان به وعبادته لا يصفون ربهم جل جلاله بصفات المحدثين من خلق الله . ولا يكونون من المحضرين في النار .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- إبطال فرية بَني ملحان من العرب الذين زيّن لهم الشيطان فكرة الملائكة بنات الله ، ووجود نسب بين الله تعالى وبين الجن .
2- مشروعية دحض الباطل بأقوى الحجج وأصَحِّ البراهين .
3- الحجة الأقوى ما كانت من وحي الله في كتاب من كتبه التي أوحى بها إلى رسله .
(3/389)
________________________________________
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
شرح الكلمات :
{ وما تعبدون } : أي من الأصنام .
{ إلا من هو صال الجحيم } : أي مقدر له عذاب النار .
{ إلا له مقام معلوم } : أي مكان في السماء يعبد الله تعالى فيه لا يتعداه .
{ وإنا لنحن الصافون } : أي أقدامنا في الصلاة .
{ وإنا لنحن المسبحون } : أي المنزهون الله تعالى عما لا يليق به .
{ وإن كانوا ليقولون } : أي كفار مكة .
{ لو أن عندنا ذكرا } : أي كتابا من كتب الأمم السابقة .
{ فكفروا به } : أي بالكتاب الذي جاءهم وهو القرآن .
{ فسوف يعلمون } : أي عاقبة كفرهم إن لم يتوبوا فيؤمنوا ويوحدوا .
معنى الآيات :
ما زال السياق في إبطال باطل المشركين فقد قال لهم تعالى { فإِنكم وما تعبدون } من اصنام ايها المشركون . ما أنتم بمضلين أحدا إلا أحدا هو صال الجحيم حيث كتبنا عليه ذلك في كتاب المقادير فهو لا بد عامل بما يوجب له النار فهذا قد يفتتن بكم وبعبادتكم فيضل بضلالكم . وقوله تعالى { وما منا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون } هذا قول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم أخبره بأن الملائكة تصف في السماء للصلاة كما يصف المؤمنون من الناس في الصلاة ، وانهم من المسبحين لله الليل والنهار وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم « بأنه ما من موضع شبر في السماء إلا عليه ملك ساجداً أو قائم » وقوله تعالى { وإن كانوا ليقولون } اي مشركو العرب { لو أن عندنا ذكرا من الأولين } أي كتابا من كتب الأولين كالتوراة والإِنجيل ، لكنا عباد الله المخلصين أي لكنا عباداً لله تعالى نعبده ونوحده ولا نشرك به أحداً . فرد تعالى على قولهم هذا إذ هو مجرد تمنٍ كاذب بقوله فكفروا به أي فكفروا بالكتاب الذي جاءهم وهو القرآن الكريم . إذاً فسوف يعلمون عاقبة تكذيبهم إن لم يتوبوا وهو هلاكهم وخسرانهم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة القضاء والقدر إذ من كتب الله عليه النار فسوف يصلاها .
2- تقرير عبودية الملائكة وطاعتهم لله وأنهم لا يتجاوزون ما حد الله تعالى لهم .
3- فضل الصفوف في الصلاة وفضل تسويتها .
4- بيان كذب المشركين إذ كانوا يدعون أنهم لو أَنزل عليهم كتابٌ كما أنزل على من قبلهم لكانوا عباد الله المخلصين أي الذين يعبدونه ويخلصون له العبادة .
5- تهديد الله تعالى للمشركين على كذبهم بقوله فسوف يعلمون .
(3/390)
________________________________________
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
شرح الكلمات :
{ سبقت كلمتنا } : هي قوله تعالى لأغلبن أنا ورسلي .
{ وإن جندنا لهم الغالبون } : أي للكافرين بالحجة والنصرة .
{ فتولَّ عنهم حتى حين } : أي أعرض عنهم حتى تؤمر فيهم بالقتال .
{ وأبصرهم } : أي أنظرهم .
{ فإِذا نزل بساحتهم } : أي العذاب .
{ وتولَّ عنهم } : أي أعرض عنهم .
{ سبحان ربك } : أي تنزيها لربّك يا محمد .
{ عما يصفون } : أي تنزيها له عما يصفه به هؤلاء المشركون منالصاحبة والولد والشريك .
{ وسلام على المرسلين } : أي أَمَنَةٌ من الله لهم في الدنيا والآخرة .
{ والحمد لله رب : أي الثناء بالجميل خالص لله رب الثقلين الإِنس والجن على نصر أوليائه العالمين } وإهلاك أعدائه .
معنى الآيات :
لما ختم السياق الأول بتهديد الكافرين بقوله تعالى { فكفروا به فسوف يعلمون } أخبر تعالى رسوله بما يطمئنه على نصر الله تعالى له فقال { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين } وهي قوله { إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون } .
أي بالحجة والبرهان ، وبالرمح والسنان . وقوله { وتول عنهم حتى حين } يأمر رسوله أن يعرض عن المشركين من قومه حتى حين يأمره فيهم بأمر ، أو ينزل بهم بلاء أو باساً وقوله { وأبصرهم } أي أنظرهم فسوف يبصرون لا محالة ماينزل بهم من عذاب الله في الدنيا وفي الآخرة . وقوله تعالى { أفبعذابنا يستعجلون } ن ينكر تعالى عليهم استعجالهم العذاب الدال على سفههم وخفة أحلامهم إذ ما يستعجل العذاب إلا أحمق جاهل وعذاب من استعجلوا إنه عذاب الله!!
قال تعالى { فإِذا نزل بساحتهم } أي بفناء دارهم { فساء صباح المنذرين } أي بئس صباحهم من صباح إنه صباح هلاكهم ودمارهم ثم أمر تعالى مرة اخرى رسوله أن يتول عنهم وينتظر ما يحل بهم فقال { وتول عنهم حتى حين وأبصر فسوف يبصرون } وفي الآية من التهديد والوعيد لهؤلاء المشركين مالا يقادر قدره . وأخيرا نزه تعالى نفسه عما يصفه به المشركون من الولد والشريك وسلّم على المرسلين ، وحمد نفسه مشيرا إلى مقتضى الحمد وموجبه وهو كونه رب العالمين فقال { سبحان ربك } يا محمد { رب العزة } ومالكها يعز بها من يشاء ويذل من يشاء { عما يصفون } من الصاحبة والولد والشريك ، { وسلام } منا { على المرسلين } وأنت منهم { والحمد لله رب العالمين } على نصره أولياءه وإهلاكه أعداءه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير النبوة المحمدية .
2- وعد الله تعالى لرسوله بالنصر وقد أنجزه ما وعده والحمد لله .
3- استحباب ختم الدعاء أو الكلام بقراءة جملة { سبحان ربك ربّ العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين } لورود ذلك في السنة .
(3/391)
________________________________________
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
شرح الكلمات :
{ ص } : هذا أحد الحروف المقطعة يكتب ص ويقرأ صاج الله أعلم بمراده به .
{ والقرآن ذي الذكر } : أي أقسم بالقرآن ذي الذكر إذ به يذكر الله تعالى ما الأمر كما يقول هؤلاء الكافرون من أن النبي ساحر وشاعر وكاذب .
{ بل الذين كفروا في عزة وشقاق } : أي أهل مكة في عزة نفس وشقاق مع النبي والمؤمنين وعداوة فلذا قالوا في الرسول ما قالوا ، وإلا فهم يعلمون براءته مما قالوا فيه .
{ وكم أهلكنا قبلهم من قرن } : أي كثيرا من الأمم الماضية أهلكناهم .
{ فنادوا ولات حين مناص } : أي صرخوا واستغاثوا وليس الوقت وقت مهرب ولا نجاة .
{ وعجبوا } : أي وما اعتبر بهم أهل مكة وعجبوا أن جاءهم منذر منهم محمد صلى الله عليه وسلم .
{ قالوا ساحر كذاب } : أي لما يظهره من الخوارق ولما يسنده إلى الله تعالى من الإِرسال والإِنزال .
{ أجعل الآلهة إلهاً واحدا } : أي لما قال لهم قولوا لا إله إلا الله ، فقالوا كيف يسع الخلائق إله واحد؟
{ إن هذا لشيء عجاب } : أي جعل الالهة إلهاً واحدا أمر عجيب .
{ وانطلق الملأ منهم أن امشوا } : أي خرجوا من بيت أبي طالب حيث كانوا مجتمعين بالنبي صلى الله عليه وسلم وسمعوا منه قوله لهم قولوا لا إله إلا الله .
{ إن هذا لشيء يراد } : أي إن هذا المذكور من التوحيد لأمر يراد منّا تنفيذه .
{ في الملة الآخرة } : أي ملة عيسى عليه السلام .
{ إن هذا إلا اختلاق } : أي ما هذا إلا كذب مختلق .
{ أأنزل عليه الذكر من بيننا } : أي كيف يكون ذلك وليس هو بأكبر منا ولا أشرف .
{ بل هم في شك من ذكري } : أي بل هم في شك من القرآن والوحي ولذا قالوا في الرسول ما قالوا .
{ بل لما يذوقوا عذاب } : أي بل لم يذوقوا عذابي إذ لو ذاقوه لما كذبوا بل آمنوا ولا ينفعهم إيمان .
{ أم عندهم خزائن رحمة ربك } : أي من النبوة وغيرها فيعطوا منها من شاءوا ويحرموا من شاءوا .
{ أم لهم ملك السموات والأرض } : أي ليس لهم ذلك .
{ فليرتقوا في الأسباب } : أي الموصلة إلى السماء فيأتوا بالوحي فيخصوا به من شاءوا أو يمنعوا الوحي النازل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأنّى لهم ذلك .
{ جند ما هنالك مهزوم } : أي هم جند حقير في تكذيبهم لك مهزوم أمامك وفي بدر .
{ من الأحزاب } : أي من الأمم الماضية التي تحزبت على رسلها وأهلكها الله تعالى .
معنى الآيات :
قوله تعالى { ص والقرآن ذي الذكر } أمّا ص فإِنه أحد حروف الهجاء ومذهب السلف فيه أن يقال الله أعلم بمراده به إذ هو من امتشابه الذي يجب الإِيمان به ويوكل أمر معناه إلى من أنزله ، وقد ذكرنا غير ما مرة أن هذه الحروف قد افادت فائدتين فليطلبهما من شاء من القراء الكرام من السور المفتتحة بمثل هذه الحروف نحو طس ، ألم .
(3/392)
________________________________________
وأما قوله { والقرآن } هو كتاب الله هذه المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم { وذي الذكر } معناه التذكير إذ به يذكر الله تعالى والجملة قسم أقسم الله به فقال { والقرآن ذي الذكر } وجواب القسم محذوف تقديره ما الأمر كما يقول هؤلاء المشركون من أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم ساحر وشاعر وكاذب { بل الذين كفروا في عزة وشقاق } أي بل هم في عزة نفس وكبرياء وخلاف وعداوة مع النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون فحملهم ذلك على أن يقولوا في الرسول ما قالوا ، وإلاّ فهم يعلمون يقينا أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم أبعد الناس عن السحر والشعر والكذب والجنون . وقوله تعالى { كم أهلكنا قبلهم من قرن } اي كثيرا من الأمم الماضية أهلكناهها بتكذيبها لرسلها فلما جاءهم العذاب نادوا صارخين مستغيثين { ولات حين مناص } أي وليست الساعة ساعة نجاة ولا هرب ، فلم لا يعتبر مشركو مكة بمثل هؤلاء . لم يعتبروا { وعجبوا أن جاءهم منذر منهم } ينذرهم عذاب الله في الدنيا والآخرة وهو محمد صلى الله عليه وسلم . { وقال الكافرون } أي لم يعتبروا وعجبوا وقالوا فيه صلى الله عليه وسلم { ساحر كذاب } . { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب } أي عجيب أي كيف يسع العباد إله واحد إن هذا لأمر يتعجب منه غاية العجب ، لأنهم قاسوا الغائب وهو الله تعالى على الشاهد وهو الإِنسان الضعيف فوقعوا في أفحش خطأ وأقبحه .
وقوله تعالى { وانطلق الملأ منهم } وهم يقولون لبعضهم بعضا امشوا واصبروا على آلهتكم { إنَّ هذا لشيء يراد } أي منا إمضاؤه وتنفيذه . قالوا هذا وما بعده من القول لما اجتمعوا بالرسول صلى الله عليه وسلم في منزل عمه أبي طالب لمفاوضة الرسول في شأن دعوته فلما قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم « قولوا لا إله إلا الله » قاموا من المجلس وانطلقوا يمشون ويقولون ما أخبر تعالى به عنهم { انّ امشوا واصبروا على آلهتكم } أي على عبادتها فلا تتخلوا عنها { إن هذا } أي الدعوة إلى لا إله إلا الله لشيء كبير يراد منا إمضاؤه وتنفيذه لصالح غيرنا . ما سمعنا بهذا أي بالتوحيد في الملة الآخرة أي الدين الأخير وهو ما جاء به عيسى بن مريم عليه السلام . { إن هذا إلا اختلاق } أي ما هذا الذي يدعو إليه محمد إلا كذب اختلقه لم ينزل عليه ولم يُوحَ إليه . وواصلوا كلامهم قائلين { أأنزل عليه الذكر } أي القرآن { من بيننا } وليس هو بأكبرنا سنا ولا بأشرفنا نسباً . فكيف يكون هذا؟ وقوله تعالى { بل هم في شك من ذكري } أي لم يكن بالقوم جهل بصدق محمد في قوله وسلامة عقله ، وإنما حملهم على ذلك هو شكهم في القرآن وما ينزل به من الحق ويدعو إليه من الهدى ، وهذا أولاً وثانيا إنهم لما يذوقوا عذابي إذ لو ذاقوا عذاب الله على تكذيبهم ما كذبوا ، وسوف يذوقونه ولكن لا ينفعهم يؤمئذ تصديق ولا إيمان .
(3/393)
________________________________________
وقوله تعالى { أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب } أي بل أعندهم خزائن رحمة ربك يا رسولنا العزيز أي الغالب الوهاب أي الكثير العطاء من النبوة وغيرها وعندئذ لهم أن يعطوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ولكن فهل لهم من خزائن رحمة ربك شيء والجواب لا إذاً فلم ينكرون هبة الله لمحمد بالنبوة والوحي والرسالة . .
وقوله تعالى { أم لهم ملك السموات والأرض } أي بل ألهم ملك السموات والأرض وما بينهما؟
إذا كان هذا لهم { فليرتقبوا في الأسباب } سببا بعد سبب حتى ينتهوا إلى السماء السابعة ويمنعوا الوحي النازل على محمد صلى الله عليه وسلم من ربّه سبحانه وتعالى . ومن أين لهم ذلك وهم الضعفاء الحقيرون إنهم كما قال تعالى فيهم { جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب } أي جند حقير من جملة أحزاب الباطل والشر مهزوم هنالك ببدر ويوم الفتح بإذن الله .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- لله تعالى أن يقسم بما يشاء بخلاف العبد لا يقسم إلا بربّه تعالى .
2- بيان ما كان عليه المشركون من كبرياء وعداء للنبي صلى الله عليه وسلم .
3- بيان جهل المشركين في استنكارهم للا إله إلا الله محمد رسول الله .
4- تحدِّي الرب تعالى للمشركين إظهاراً لعجزهم ودعوته لهم إلى النزول إلى الحقِّ وقَبوله .
5- إخبار القرآن بالغيب وصدقه في ذلك .
6- ذم كلمة الأحزاب ومدلولها إذ لا تأتي الأحزاب بخير .
(3/394)
________________________________________
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
شرح الكلمات :
{ كذبت قبلهم } : أي قبل هؤلاء المشركين من قريش .
{ وفرعون ذو الأوتاد } : أي صاحب أوتاد اربعة يشد إليها من أراد تعذيبه .
{ وأصحاب الأيكة } : أي الغيضة وهم قوم شعيب .
{ إن كل إلا كذب الرسل } : أي ما كل واحد منهم إلا كذب الرسل ولم يصدقهم فيما دعوا إليه .
{ فحق عقاب } : أي وجبت عقوبتي عليهم .
{ صيحة واحدة } : هي نفخة اسرافيل في الصور نفخة .
{ مالها من فواق } : أي ليس لها من فتور ولا انقطاع حتى تهلك كل شيء .
{ عجل لنا قطنا } : أي صك أعمالنا لنرى ما اعددت لنا إذ القط الكتاب .
{ ذا الأيد } : أي القوة والشدة في طاعة الله تعالى .
{ إنه أواب } : أي رجاع إلى الله في أموره .
{ بالعشي والإِشراق } : أي بالمساء بعد العصر إلى الغروب والاشراق من طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى .
{ والطير محشورة له } : أي والطيور مجموعة .
{ وأتيناه الحكمة وفصل الخطاب } : أي وأعطينا داود الحكمة . وهي الإِصابة في الأمور والسداد فيها وفصل الخطاب . الفقة في القضاء ومن ذلك البيّنة على المُدَّعي واليمين على من أنكر .
معنى الآيات :
السياق الكريم في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتهديد المشركين علهم يتوبون إلى الله ويرجعون قال تعالى { كذبت قبلهم } أي قبل قومك يا محمد { قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد } أي صاحب الأوتاد التي كان يشد غليها من أراد تعذيبه ويعذبه كأعواد المشانق ، روثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة } أي الغيضة وهي الشجر الملتف وهم قوم شعيب ، { أولئك الأحزاب } أي الطوائف الكافرة الهالكة { إن كُلٌّ إلاَّ كذب الرسل } أي ما كل واحد منها غلا كذبت الرسل { فحق عقاب } أي وجب عقابي لهم فعاقبتهم ، وما ينظر هؤلاء من قومك { إلا صيحة واحدة مالها من فواق } أي من فتور ولا انقطاع حتى يهلك كل شيء ولا يبقى إلا وجه الله ذو الجلال والإِكرام . وقوله تعالى { وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب } قالوا هذا لما نزل { فأما من أوتي كتابه بيمينه } آيات من سورة الحاقة . قال غلاة الكافرين كأبي جهل وغيره استهزاء ، ربنا عجل لنا قطنا أي كتابنا لنرى ما فيه من حسنات وسيئات قبل يوم القيامة والحساب والجزاء وهم لا يؤمنون ببعث ولا جزاء ، وإنما قالوا هذا استهزاء وعنادا أو مكابرة فلذا قال تعالى لرسوله { اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد } اي القوة في دين الله { إنه أواب } أي رجاع إلى الله تعالى اذكره لتتأسى به في صبره وقوته في الحق وقوله تعالى { إنا سخرنا } الآيات بيان لإِنعام الله تعالى على داود لتعظم الرغبة في الاقتداء به ، والرغبة غلى الله تعالى فيما لديه من إفضالات { إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق } اي إذا سبح داود في المساء من بعد العصر إلى الغروب وفي الاشراق وهو وقت الضحى سبحت الجبال معه أي رددت تسبيحه كرامة له والطير محشورة أي وسخرنا الطير محشورة اي مجموعة تردد التسبيح معه ، وقوله { كل له أواب } أي كل من الجبال والطير أواب أي رجاع يسبح الله تعالى .
(3/395)
________________________________________
وقوله { وشددنا ملكه } اي قوينا ملك داود بمنحنا إياه كل أسباب القوة المادية والروحية . { وآتيناه الحكمة } وهي النبوة والإِصابة في الأمور والسداد فيها قولا كانت أو فعلا . { وفصل الخطاب } أي حسن القضاء والبصيرة فيه ، والبيان الشافي في كلامه . فبه اقتده يا رسولنا .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر على أذى قريش وتكذيبها وعنادها .
2- تهديد قريش إذا أصرت على التكذيب باشد أنواع العقوبات .
3- بيان استهزاء المشركين واستخفافهم بأخبار الله تعالى وشرائعه .
4- مشروعية الأسوة والاقتداء بالصالحين .
5- بيان ىية تسخير الله تعالى الجبال والطير لداود تسبح الله تعالى معه .
6- حسن صوت داود في قراءته وتسبيحه .
7- مشروعية صلاة الإشراق والضحى .
(3/396)
________________________________________
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)
شرح الكلمات :
{ هل أتاك } : الاستفهام هنا للتعجب أي حمل المخاطب على التعجب .
{ نبأ الخصم } : أي خبر الخصم الغريب في بابه العجيب في واقعه .
{ إذ تسوروا المحراب } : أي محراب مسجده إذ منعوا من الدخول من الباب فقصدوا سوره ونزلوا من أعلى السور .
{ بغى بعضنا على بعض } : أي تعدّى بعضنا على بعض .
{ فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط } : أي احكم بالعدل ولا تجر في حكمك .
{ واهدنا إلى سواء الصراط } : أي ارشدنا إلى العدل في قضيتنا هذه ولا تمل بنا إلى غير الحق .
{ إن هذا أخي } : أي على ديني في الإِسلام .
{ فقال اكفلنيها } : أي اجعلني كافلها بمعنى تنازل لي عنها وملكنيها .
{ وعزتي في الخطاب } : أي غلبني في الكلام الجدلي فأخذها مني .
{ لقد ظلمك بسؤال نعجتك } : أي بطلبه نعجتك وضمها إلى نعاجه .
{ من الخلطاء ليبغي بعضهم } : أي الشركاء يظلم بعضهم بعضا .
{ وظن داود أنما فتناه } : أي ايقن داود أنما فتنه ربه أي اختبره .
{ فاستغفر ربه وخر راكعا : أي طلب المغفرة من ربه بقوله استغفر الله وسقط ساجدا على وأناب } الأرض وأناب أي رجع تائبا إلى ربه .
{ وإن له عندنا لزلفى : أي وحسن مرجع عندنا وهي الجنة والدرجات العلا فيها .
وحسن مآب } معنى الآيات :
ما زال السياق في تسلية الرسول وحمله على الصبر على ما يعاني من كفار قريش من تطاول وأذى فقال له ربّه تعالى { هل أتاك } إلى آخر الآيات . وذلك أن داود عليه السلام ذكر مرة في نفسه ما اكرم الله تعالى به إبراهيم واسحق ويعقوب من حسن الثناء الباقي لهم في الناس ، فتمنى مثله فقيل له إنهم امتحنوا فصبر فسأل أن يبتلى كالذي ابتلوا به ويعطى كالذي أُعطوا إن هو صبر فاختبره الله تعالى بناء على رغبته فأرسل إليه ملكين في صورة رجلين فتسورا عليه المحراب كما يأتي تفصيله في الآيات وهو وقله تعالى { وهل أتاك } يا رسولنا نبأ الخصم وهما ملكان في صورة رجلين ، ولفظ الخصم يطلق على الواحد والأكثر كالعدو فيقال هذا خصمي وهؤلاء خصمي ، وهذا عدوي ، وهؤلاء عدوٌّ لي . وقوله { إذ تسوروا المحراب } اي طلعوا على سور المنزل الذي هو المحراب في عرف بني اسرائيل ولم يدخلوا من الباب لأن الحرس منعهم من ذلك ، لأن لداود وقتا ينقطع فيه للعبادة فلا يسمح بمقابلة أحد وقوله { إذ دخلوا على داود وهو في محرابه ففزع على بعض } اي اعتدى بعضنا على بعض جئنا نتحاكم إليك { فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط } أي لا تجر في الحكم { واهدنا إلى سواء الصراط } اي إلى وسط الطريق فلا تمل بنا عن الحق . ثم عرضنا عليه القضية فقال أحدهما وهو المظلوم عارضاً مظلمته { إن هذا أخي } أي في الإسلام { له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال لي أكفلنيها } أي ملكنيها أضمها إلى نعاجي ، { وعزني في الخطاب } أي وغلبني في الكلام والجدال وأخذها مني .
(3/397)
________________________________________
فقال داود على الفور وبدون أن يسمع من الخصم الثاني { لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه } وعلل لذلك بقوله { وإن كثيراً من الخلطاء } أي الشركاء في زرع أو ماشية أو تجارة { ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } وهم أهل الإِيمان والتقوى فإِنهم يسلمون من مثل هذه الاعتداءات ، { وقليل ما هم } أي وهم قليل جداً ، وهنا طار الملكان من بين يدي داود وعرجا إلى السماء فعلم عندئذ أنما فتنه ربّه كما رغب إليه وأ ، ه لم يصبر حيث قضى بدون أن يسمع من الخصم الثاني فكانت زلة صغيرة ارته أن ما ناله إبراهيم واسحق ويعقوب من الكمال كان نتيجة ابتلاء عظيم ، وهنا استغفر داود ربّه { وخر راكعا } يبكي ويطلب العفو وأناب إلى ربّه في أمره كله ، وذكر تعالى أنه قبل توبته وعفا عنه فقال تعالى { فغفرنا له ذلك وإن له عندنا الزلفى } أي لقُربه { وحسن مآب } أي مرجع وهو الدرجات العلا في دار الأبرار ، جعلنا الله تعالى من أهلها بفضله ورحمته .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- فائدة عرض مثل هذا القصص تقوية قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيت فؤاده وحمله على الصبر .
2- تقرير نبوة النبي صلى الله عليه وسلم إذ مثل هذا القصص لا يتأتّى له قصه غلا بوحي إلهي .
3- تقرير جواز تشكل الملائكة في صورة بني آدم .
4- حرمة غصدار القاضي أو الحاكم الحكم قبل أن يسمع الدعوى من الخصمين معاً إذ هذا محل الفتنة التي كانت لداود عليه السلام .
5- وجوب التوبة عند الوقوع في الذنب .
6- مشروعية السجود عند قراءة هذه الآية { وخرّ راكعاً وأناب } .
(3/398)
________________________________________
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
شرح الكلمات :
{ إنا جعلناك خليفة } : أي خلفت من سبقك تدبر أمر الناس بإِذننا .
{ ولا تتبع الهوى } : أي هوى النفس وهو ما تميل إليه مما تشتهيه .
{ فيضلك عن سبيل الله } : أي عن الطريق الموصل إلى رضوانه .
{ إن الذين يضلون عن سبيل الله } : أي يخطئون الطريق الموصل إلى رضوانه وهو الإِيمان والتقوى .
{ بما نسوا يوم الحساب } : أي بنسيانهم يوم القيامة فلم يتقوا الله تعالى .
{ باطلا } : أي عبثا لغير حكمة مقصودة من ذلك الخلق .
{ ذلك ظن الذين كفروا } : أي ظنٌّ أن السموات والأرض وما بينهما خلقت عبثا لا لحكمة مقصودة منها ظن الذين كفروا .
{ فويل للذين كفروا من النار } : أي من واد في النار بعيد غوره كريه ريحه لا يطاق .
{ مبارك } : أي لا تفارقه البركة يجدها قارئه والعامل به والحاكم بما فيه .
{ وليتذكر أولوا الألباب } : أي ليتعظ به اصحاب العقول الراجحة .
معنى الآيات :
ما زال السياق في ذكر قصة داود للعظة والاعتبار وتثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم فقال تعالى { يا داود } أي وقلنا له أي بعد توبته وقبولها يا داود { إنا جعلنا خليفة في الأرض } خلفت من قبلك من الأنبياء تدبر أمر الناس { فاحكم بين الناس بالحق } اي بالعدل الموافق لشرع الله ورضاه ، { ولا تتبع الهوى } وهو ما تهواه نفسك دون ما هو شرع الله ، { فيضلك } اي اتباع الهوى يضلك عن سبيل الله المفضي بالعباد إلى الإِسعاد والكمال وذلك أنّ الأحكام إذا كانت مطابقة للشريعة الإِلهية انتظمت بها مصالح العباد ونفعت العامة والخاصة أما إذا كانت على وفق الهوى وتحصيل مقاصد النفس للحاكم لا غير افضت غلى تخريب العالم بوقوع الهرج والمرج بين الناس وفي ذلك هلاك الحاكم والمحكومين ، وقوله تعالى { إن الذين يضلون عن سبيل الله } القائم على الإِيمان والتقوى وإقامة الشرع والعدل هؤلاء { لهم عذاب شديد في الدنيا والآخرة بما نسوا يوم الحساب } أي بسبب نسيانهم ليوم القيامة فتركوا العمل له وهو الإِيمان والتقوى التقوى التي هي فعل الأوامر الإِلهية واجتناب النواهي في العقيدة والقول والعمل . ، وقوله تعالى في الآية ( 27 ) { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا } ينفي تعالى ما يظنه المشركون وهو أن خلق الكون لم يكن لحكمة اقتضت خلقه وإيجاده وهي أن يعبد الله تعالى بذكره وشكره المتمثل في الإِيمان والتقوى . وقوله { ذلك ظن الذين كفروا } اي ظن أن الله خلق السماء والأرض وما بينهما لا لحكمة مقصودة وهي عبادة الله تعالى بما يشرع لعباده من العبادات القلبية والقولية والفعلية ظن الذين كفروا من كفار مكة وغيرهم . ثم توعدهم تعالى على كفرهم وظنهم الخاطئ الذي نتج عنه كفرهم وعصيانهم فقال { فويل للذين كفروا من النار } أي ويل للذين كفروا من واد في جهنم بعيد الغور كريه الريح .
(3/399)
________________________________________
وقوله تعالى في الآية ( 28 ) { ألم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } هذا أولاً ردٌّ لما زعمه المشركون من أنهم يعطون في الآخرة من النعيم مثل ما يعطى المؤمنون ، وثانيا ينفي تعالى أن يسوى بين من آمن به واتبع هداه فأطاعه في الأمر والنهي ، وبين من أفسد في الأرض بالشرك والمعاصي كما نفى أن يجعل المتقين الذين آمنوا واتقوا فتركوا الشرك والمعاصي كالفجار الذين فجروا أي خرجوا عن طاعة الله ورسوله فلم يؤمنوا ولم يوحدوا فعاشوا كفاراً فجاراً وماتوا على ذلك . أي فحاشا لله ربّ العالمين وأعدل العادلين وأحكم الحاكمين أن يسوي بين أهل الإِيمان والتقوى وبين أهل الشرك والمعاصي بل ينعم الأولين في دار النعيم ، ويعذب الآخرين في سواء الجحيم وقوله تعالى في الآية ( 29 ) { كتاب أنزلناه } أي هذا كتاب مبارك أنزلناه على رسولنا ليدبروا ىياته بمعنى يتأملون ويترووها بعقولهم فيحصلوا على هداية القلوب والعقول فيؤمنوا بالله ويعملوا بطاعته فينجوا ويسعدوا . وليذكّر أولوا الألباب أي وليتعظ بمواعظه وينزجر بزواجره أولو الألباب اي العقول السليمة ووصف الكتاب وهو القرآن بالبركة هو كما أخبر الله لا تفارق القرآن البركة وهي الخير الدائم فكل من قرأه متدبراً عرف الهدى ومن قرأه تقرباً حصل على القرب وفاز به ومن قرأه حاكماً عدل في حكمه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- وجوب الحكم بالعدل على كل من حكم ولا عدل في غير الشرع الإِلهي .
2- حرمة اتباع الهوى لما يفضي بالعبد غلى الهلاك والخسار .
3- تقرير البعث والجزاء .
4- إبطال ظن من يظن أن الحياة الدنيا خلقت عبثا وباطلا .
5- تنزيه الربّ تعالى عن العبث والظلم .
6- فضيلة العقول لمن استعملها في التدبر والتذكر .
7- بركة القرآن لا تفارقه ابداً وما طلبها أحد إلا وجدها .
(3/400)
________________________________________
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)
شرح الكلمات :
{ ووهبنا لداود سليمان } : أي ومن جملة هباتنا لداود الأواب أن وهبنا له سليمان ابنه .
{ نعم العبد إنه أواب } : أي سليمان اي رجاع إلى ربّه بالتوبة والإِنابة .
{ الصافنات الجياد } : أي الخيل الصافنات أي القائمة على ثلاث الجياد اي السوابق .
{ حب الخير } : أي حب الخيل عن ذكر ربي وهي صلاة العصر لإِنشغاله باستعراض الخيل للجهاد .
{ حتى توارت بالحجاب } : أي استترت الشمس في الأفق وتغطت عن أعين الناظرين .
{ ردوها علي } : أي ردوا الخيل التي استعرضتها آنفا فشغلتني عن ذكر ربّي .
{ فطفق مسحاً بالسوق } : أي فأخذ يمسح بسوق تلك الخيل واعناقها .
معنى الآيات :
ما زال السياق في ذكر إفضال الله على داود حيث قال { ووهبنا لداود سليمان نعم العبد } فذكر تعالى أنه وهبه سليمان وأثنى على سليمان بأنه نعم العبد لله ، وعلل لتلك الأفضليّة { إنه أواب } أي كثير الأوبة إلى الله تعالى ، وهي الرجوع إلى الله بذكره واستغفاره عند الغفلة والنسيان العارض للعبد ، وأشار تعالى إلى ذلك بقوله { إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد } اي الخيل القوية على السير التي إذا وقفت تأبى أن تقف على أربع كالحمير بل تقف على ثلاث وترفع الرابعة ، والجياد هي السريعة العدو ، وهذا العرض كان استعراضا منه لها إعداداً لغزو أراده فاستعرض خيله فانشغل بذلك عن صلاة العصر فلم يشعر إلا وقد غربت الشمس وهو معنى قوله تعالى .
{ حتى توارت } أي استترت الشمس { بالحجاب } اي بالأفق الذي حجبها عن أعين الناظرين .
فندم لذلك وقال { إني أحببت حبت الخير } أي الخيل { عن ذكر ربّي } وصلى العصر ، ثم عاد غلى إكمال الاستعراض فردها رجاله عليه فجعل يمسح بيده سوقها وأعناقها حتى أكمل استعراضها هذا وجه الأوبة التي وصف بها سليمان عليه السلام في قوله تعالى { إنه أواب } .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- الولد الصالح هبة إلهيّة لوالده فليشكر الله تعالى من وهب ذلك .
2- الثناء على العبد بالتوبة الفوريّة التي تعقب الذنب مباشرة .
3- جواز استعراض الحاكم القائد قواته تفقداً لها لما قد يحدثه فيها .
4- اطلاق لفظ الخير على الخيل فيه تقرير أن الخيل إذا ربطت في سبيل الله كان طعامها وشرابها حسنات لمن ربطها في سبيل الله كما في الحديث الصحيح « الخيل لثلاث . . . . . » .
- ربط الطائرات النفاثة في الحظائر اليوم والمدرعات وإعدادها للقتال في سبيل الله حل محل ربط الجياد من الخيل في سبيل الله .
(3/401)
________________________________________
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
شرح الكلمات :
{ ولقد فتنا سليمان } : أي ابتليناه .
{ والقينا على كرسيّه جسداً } : أي شق ولد ميت لا روح فيه .
{ ثم أناب } : أي رجع إلى ربه وتاب إليه من عدم استثنائه في يمينه .
{ وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من : أي أعطني ملكاً لا يكون لسواي من الناس .
بعدي } { فسخرنا له الريح } : أي استجبنا له فسخرنا له الريح تجري بأمره .
{ رخاء حيث أصاب } : أي لينة حيث أراد .
{ والشياطين كل بناء وغواص } : أي وسخرنا له الشياطين من الجن منهم البناء ومنهم الغواص في البحر .
{ مقرنين في الأصفاد } : أي مشدودين في الأصفاد أيديهم غلى أعناقهم في السجون المظلمة وذلك إذا تمردوا وعصوا أمراً من أوامره .
{ هذا عطاؤنا } : أي وقلنا له هذا عطاؤنا .
{ فامنن أو امسك } : أي أعط من شئت وما شئت وامنع كذلك .
{ بغير حساب } : أي مِنَّا لك .
{ وإن له عندنا لزلفى } : أي وإن لسليمان عندنا لقربة يوم القيامة .
{ وحسن مآب } : أي مرجع في الجنة في الدرجات العلا .
معنى الآيات :
ما زال السياق في ذكر إنعام الله على آل داود فقد أخبر تعالى هنا عما منّ به على سليمان فأخبر تعالى أنه ابتلاه كما ابتلى أباه داود وتاب سليمان كما تاب داود ولم يسقط ذلك من علو منزلتهما وشرف مقامهما قال تعالى في الآية ( 34 ) { ولقد فتنا سليمان } أي ابتليناه ، وذلك أنه كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال لأطأن الليل مائة جارية تلد كل جارية ولداً يصبح فارساً يقاتل في سبيل الله ، ولم يقل إن شاء الله أي لم يستثن ووطئ نساءه في تلك الليلة فعوقب لعدم استثنائه فلم يلدن إلا واحدة جاءت بولد مشلول بالشلل النصفي فلما وضعته أمه أتوا به إلى سليمان ووضعوه على كرسيه . وهو قوله تعالى { وألقينا على كرسيّه جسداً ثم أناب } سليمان إلى ربه فاستغفر وتاب فتاب الله عليه وقال { ربّ اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي } أي لا يكون مثله لسواي من الناس وتوسل إلى الله في قبول دعائه بقوله { إنك أنت الوهاب } فاستجاب الله تعالى له فسخر له الريح تجري بأمره حيث يريد لأنها تحمل بساطه أو سفينته الهوائية التي غدوها شهر ورواحها رخاء أي ليّنة حيث أصاب أي أراد ، كما سخر له شياطين الجن منهم البناء الذي يقوم بالبناء للدور والمصانع ومنهم الغواص في أعمال البحر لاستخراج اللآلي ، ومنهم من إذا عصاه وتمرد عليه جمع يديه إلى عنقه بصفدٍ ووضعه تحت الأرض . هذا ما جاء في قول الله تعالى { فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد } وقوله تعالى { هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب } أي أعطيناه ما طلب منا وقلنا له هذا اعطاؤنا لك فامنن أي أعط ما شئت لمن شئت وامنع ما شئت لمن شئت بغير حساب منا عليك .
(3/402)
________________________________________
وفوق هذا وإن لك عندنا يوم القيامة للقربة وحسن المرجع وهو قوله تعالى { وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب } .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير قول بعضهم حسنات الأبرار سيئات المقربين إذ عدم الاستثناء في قوله لأطأن الليلة مائة جارية الحديث عوقب به فلم تلد امرأة من المائة إلا واحدة وولدت طفلا مشلولا ، وعوقب به نبيُّنا صلى الله عليه وسلم فانقطع الوحي نصف شهر وأَكْرَبه ذلك لأنه لم يستثن عندما سئل عن ثلاث مسائل وقال غداً أجيبكم .
2- مشروعية التوبة من كل ذنب صغيرا كان أو كبيراً .
3- مشروعية التوسل إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى .
4- بيان إنعام الله تعالى على عبده سليمان .
5- بيان تسخير الله تعالى لسليمان الريح والجن وهذا لم يكن لأحد غيره من الناس .
(3/403)
________________________________________
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
شرح الكلمات :
{ واذكر عبدنا أيوب } : أي اذكر يا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عبدنا أيوب بن عيصو بن اسحق بن إبراهيم .
{ بنصب وعذاب } : أي بضرّ والم شديد نسب هذا للشيطان لكونه سببا وتأدُّبا مع الله تعالى .
{ اركض برجلك } : أي اضرب برجلك الأرض تنبع عين ماء .
{ هذا مغتسل بارد وشراب } : أي وقلنا له هذا ماء بارد تغتسل منه ، وتشرب فتشفى .
{ ضغثا } : أي حزمة من حشيش يابس .
{ ولا تحنث } : بترك ضربها .
{ نعم العبد } : أي أيوب عليه السلام .
{ إنه أواب } : أي رجاع إلى الله تعالى .
معنى الآيات :
ما زال السياق في ذكر قصص الأنبياء ليثبت به فؤاد نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم فقال تعالى له { واذكر عبدنا ايوب } وهو أيوب بن عيصو بن اسحق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام { إذ نادى ربّه } أي دعاه قائلاً { إنِّي مسني الشيطان بنُصْب وعذاب } أي ألم شديد ، وذلك بعد مرض شديد دام مدة تزيد على كذا سنة ، وقال في ضراعة أخرى ذكرت في سورة الأنبياء { ربّ اني مسّني الضر وأنت أرحم الراحمين } قال تعالى { فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم } وقوله { اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب } أي لما اراد الله كشف الضر عنه قال له اركض برجلك اي اضرب برجلك الأرض ينبع منها ماءٌ فاشرب منه واغتسل تشف ففعل فشفي كأن لم يكن به ضرٌ البتة . وقوله تعالى { ووهبنا له أهله ومثلهم معهم } أي عوضه الله تعالى عما فقد من أهل وولد ، وقوله { رحمة منا } أي كان ذلك التعويض لأيوب رحمة منّا وذكرى لأولي الألباب } أي عبرة لأولي القلوب الحيّة الواعية يعلمون بها أن الله قد يبتلي أحب عباده إليه ليرفعه بذلك درجات عالية ما كان ليصل إليها دون الابتلاء في ذات الله والصبر عليه . وقوله روخذ بيدك ضغثاً } أي قلنا له خذ بيدك ضغثاً أي حزمة من حشيش يابس واضرب به امرأتك ضربة واحدة إذ في الحزمة مائة عود وكان قد حلف أن يضرب امرأته مائة جلدة لما حصل منها من تقصير في يوم من ايام حياتهما ، فأفتاه ربُّه تعالى بما ذكر في هذه الآية . وقوله تعالى { إنا وجدناه صابراً } اي قد اختبرناه بالمرض وفقد الأهل والمال والولد فوجدناه صابرا ، وبذلك أثنى عليه بقوله { نعم العبد } أي أيوب { إنه أواب } رجاع إلى ربّه في كل أمره لا يعرف إلا الله .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من طريق هذا القصص الذي لا يتأتى إلا بالوحي الإِلهي .
2- قد يبتلي الله تعالى من يحبه من عباده ليزيد في علوّ مقامه ورفعة شأنه .
3- فضل الصبر وعاقبته الحميدة في الدنيا والآخرة .
4- مشروعية الفتيا وهي خاصة بأهل الفقه والعلم .
5- وجوب الكفارة على من حنث في يمينه .
(3/404)
________________________________________
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)
شرح الكلمات :
{ واذكر عبدنا } : أي اذكر صبرهم على ما أصابهم فإِن لك يهم أسوة .
{ أولى الأيدي } : أي أصحاب القوى في العبادة .
{ والأبصار } : أي البصائر في الدين بمعرفة السرار والحكم .
{ بخالصة } : أي هي ذكر الدار الآخرة والعمل لها .
{ لمن المصطفين الأخيار } : أي من المختارين الأخيار جمع خيّر .
{ هذا ذكر } : أي لهم بالثناء الحسن الجميل هنا في الدنيا .
{ وان للمتقين } : أي هم وغيرهم من سائر المؤمنين والمؤمنات .
{ لحسن مآب } : أي مرجع أي عندما يرجعون إلى ربهم بالوفاة .
{ متكئين فيها } : أي على الأرائك .
{ يدعون فيها بفاكهة } : أي يطالبون فيها بفاكهة وذكر الفاكهة دون الطعام والشراب إيذاناً بأن طعامهم وشرابهم لمجرد التلذذ لا للتغذية كما في الدنيا .
{ قاصرات الطرف } : أي حابسات العيون على الأزواج فلا ينظرن إلى غيرهم .
{ أتراب } : أي أسنانهن متساوية وهي ثلاث وثلاثون سنة .
{ ماله من نفاد } : أي ليس له انقطاع أبدا .
معنى الآيات : ما زال السياق في ذكر الأنبياء وما أُكرموا به على صبرهم ليكون ذلك مثبتاً للنبي صلى الله عليه وسلم على دعوته والصبر عليها والتحمل في سبيل الوصول بها إلى غاياتها فقال تعالى له { واذكر } أي يا نبيّنا { عبادنا } لتتأسى بهم وهم { إبراهيم واسحق } وولده { يعقوب } حفيده { أولي } أي أصحاب { الأيدي } أي القوى في العبادة والطاعة { والأبصار } اي أبصار القلوب وذلك بالفقه في الدين ومعرفة أسرار التشريع ، وقوله تعالى { إنّا أخلصناهم } أي خصصناهم { بخالصة } اي بخاصة امتازوا بها هي ذكر الدار أي ذكر الدار الآخرة بالعمل لها والدعوة إليها بالإِيمان والتقوى ، وقوله { وإنهم عندنا لمن المصطفين } أي المختارين { الأخيار } جمع خيّر وهو المطبوع على الخير وقوله { واذكر } أي يا نبيّنا للائتساء { اسماعيل واليسع وذا الكفل } وقوله { وكل } اي من داود ومن ذكر بعده من الأنبياء كانوا من الأخيار ، وقوله { هذا ذكر } أي لهم بالثناء الحسن لهم في الدنيا ، { وان للمتقين } هم وغيرهم من المؤمنين والمؤمنات { لحسن مآب } اي مرجع وهو الجنة حيث يرجعون إلى الله تعالى بعد الموت ، وفسر ذلك المرجع بقوله { تعالى { جنات عدن } أي إقامة { مفتحة لهم الأبواب } { متكئين فيها } اي على الأرائك الأسرة بالحجلة ، { يدعون فيها } أي يُطالبون فيها { بفاكهة كثيرة وشراب } ولم يذكر الطعام إشارة إلى أن مآكلهم ومشاربهم لمجرد التلذذ لا للتغذي بها كما في الدنيا ، وقوله { وعندهم قاصرات الطرف } يخبر تعالى أن لأولئك المتقين في الجنة قاصرات الطرف اي نساء قاصرات الطرف أي حابسات له على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم من الأزواج وقوله { أتراب } أي في سن واحدة وهي ثلاث وثلاثون سنة . وقوله تعالى { هذا ما توعدون } اي يقال لهم هذا ما توعدون { ليوم الحساب } اي هذا المذكور من النعيم هو ما يعدكم به ربكم يوم القيامة . وقوله { إن هذا لرزقنا ماله من نفاد } اي ليس له انقطاع ولا فناء .
هداية الآيات :
من هداية الآيات : 1- فضيلة القوة في العبادة والبصيرة في الدين وفي الحديث « المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير » .
2- فضل ذكر الدار الآخرة وتذكرها دائماً لأنها تساعد على الطاعة .
3- فضل التقوى وأهلها وبيان ما أعد لهم يوم الحساب .
4- نعيم الآخرة لا ينفد كأهلها لا يموتون ولا يهرمون .
5- فضيلة الائتساء بالصالحين والاقتداء في الخير بهم وهم اولوا القوة في العبادة والبصيرة في الدين .
(3/405)
________________________________________
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
شرح الكلمات :
{ هذا } : أي المذكور للمتقين .
{ وإن للطاغين } : أي الذين طغوا في الكفر والشر والفساد .
{ لشر مآب } : أي جهنم يصلونها .
{ فبئس المهاد } : أي الفراش الذي مهدوه لأنفسهم في الدنيا بالشرك والمعاصي .
{ هذا فليذوقوه } : أي العذاب المفهوم مما بعده فليذوقوه .
{ حميم } : أي ماء حار محرق .
{ وغساق } : أي قيح وصديد يسيل من لحوم وفروج الزناة في النار .
{ وآخر من شكله أزواج } : اي وعذاب آخر كالحميم والغساق أصناف .
{ هذا فوج مقتحم معكم } : أي يقال لهم عند دخولهم النار هذا فوج مقتحم معكم .
{ لا مرحبا بهم } : أي لا سعة عليهم ولا راحة لهم إنهم صالو النار .
{ قالوا أي الأتباع للطاغين } : بل أنتم لامرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا .
{ قالوا ربنا من قدم لنا هذا } : أي الأتباع أي من كان سببا في عذابنا هذا في جهنم فزده عذابا .
{ وقالوا ما لنا لا نرى رجالا } : أي قال الطاغون وهم في النار مالنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار في الدنيا يعنون فقراء المسلمين كبلال وعمار وصهيب .
{ اتخذناهم سخريا } : أي كنا نسخر منهم في الدنيا .
{ أم زاغت عنهم الأبصار } : أي امفقودون هم أم زاغت عنهم الأبصار؟ فلم نرهم .
{ إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } : أي إن ذلك المذكور لأهل النار لحق ثابت وهو تخاصم أهل النار .
معنى الآيات :
بعد ذكر نعيم أهل الإِيمان والتقوى ناسب ذكر شقاء أهل الكفر والفجور وهو أسلوب الترهيب والترغيب الذي امتاز به القرآن الكريم في هداية العباد . فقال تعالى { هذا } أي ما تقدم ذكره من نعيم أهل السعادة { وإن للطاغين } وهم المشركون الظلمة كأبي جهل وعتبة بن معيط والعاص بن وائل { لشر مآب } أي لأسوأ مرجع وأقبحه وهو { جهنم يصلونها وبئس المهاد } هي يمهدها الظالمون لأنفسهم . وقوله تعالى { هذا فليذوقوه حميم وغساق } أي هذا حميم وغساق فليذوقوه والحميم الماء الحار المحرق والغساق ما سال من جلود ولحوم وفروج الزناة من أهل النار كالقيح والصديد وقوله { وآخر من شكله } اي وعذاب آخر من شكل الأول { أزواج } أي أصناف عديدة وقوله تعالى { هذا فوج مقتحم معكم } اي يقال عند دخولهم النار هذا فوج اي فريق مقتحم معكم النار ، فيقول الطاغون { لا مرحباً بهم } أي لا سعة ولا راحة لهم { إنهم صالو النار } أي داخلوها محترقون بحرها ولهبها ، فيرد الأتباع عليهم قائلين { بل أنتم لا مرحبا بكم } أي لا سعة ولا راحة { أنتم قدمتموه لنا } إذ كنتم تأمروننا بالشرك والكفر والفجور قال تعالى { فبئس القرار } أي الذي انتهى إليه الطاغون وأتباعهم في النار ، وقالوا ايضا ما أخبر تعالى به عنهم في قوله { قالوا ربنا من قدم لنا هذا } أي العذاب { فزده عذابا ضعفا في النار } أي يا ربنا ضاعف لهم العذاب مرتين لأنهم هم الذين قدموه لنا يوم كانوا يدعوننا إلى الشرك والباطل ويحضوننا عليه .
(3/406)
________________________________________
وقوله تعالى { وقالوا } أي الطغاة { ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار } بيننا { اتخذناهم } في الدنيا { سخريا } نسخر منهم يعنون فقراء المسلمين كبلال وعمّار وصهيب وخبيب ، أمفقودون هم { أم زاغت عنهم } أبصارنا فلم نرهم ، قال تعالى { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } أي إن ذلك الكلام الذي دار بين أهل النار حق وصدق هو تخاصم أهل النار فاسمعوه ايها المشركون اليوم آيات تتلى وغداً يوم الحساب حقائق تشاهدوه وغصص تتجرع وحسرات تمزق الأكباد والقلوب .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- ذم الطغيان وهو مجاوزة الحد في الظلم والكفر وبيان جزاء أهله يوم القيامة .
2- بيان ما يجري من خصام بين أهل النار للعظة والاعتبار .
3- شكوى الأتباع ممن اتبعوهم في الضلال ومطالبتهم بمضاعفة العذاب لهم .
4- تذكر أهل النار فقراء المسلمين الذين كانوا يعدونهم متخلفين ورجعيين لأنهم كانوا لا يأتون الفجور والشرور مثلهم .
(3/407)
________________________________________
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)
شرح الكلمات :
{ قل } : أي يا رسولنا لمشركي قومك أي مخوفاً من عذاب الله .
{ وما من إله إلا الله الواحد القهار } : أي وليس هناك من إله قط إلا الله الواحد القهار .
{ العزيز الغفار } : أي الغالب الذي لا يمانع في مراده الغفار للتائبين من عباده .
{ قل هو نبأ عظيم } : أي قل يا رسولنا لكفار مكة القرآن نبأ عظيم وخبر جسيم .
{ أنتم عنه معرضون } : لا ترغبون في سماعه ولا في تدبر معانيه .
{ بالملأ الأعلى } : أي بالملائكة عندما شوورُوا في خلق آدم .
{ إذ قال ربك للملائكة } : أي اذكر لهم تدليلا على انه يوحى إليك القرآن إذ قال ربك للملائكة .
{ خالق بشرا من طين } : أي خالق آدم من مادة الطين وقيل فيه بشر لبدُوُّ بشرته .
{ من روحي } : الروح جسم لطيف يسري في الجسم سريان النار في الفحم أو الماء في الشجر أو الكهرباء في الأسلاك .
{ إلا إبليس } : أي لم يسجد .
{ استكبر } : عن السجود لآدم كبراً وحسداً له .
معنى الآيات :
بعد كل ذلك العرض للقصص ولما في الجنة والنار وما تقرر به من التوحيد والنبوة والبعث والجزاء أمر تعالى رسوله أن يقول لمشركي قريش { إنما أنا منذر } أي مخوف من عذاب الله الواجب لكل من كفر به وكذب بآياته ولقاه وترك عبادته وعبد الشيطان عدوه ، كما أخبركم مقررا أنه ليس هناك من إله قط إلا الله الواحد في ذاته وصفاته وربوبيته وعبادته القهار لكل قاهر والجبار لكل جبار رب السموات والأرض وما بينهما أي مالك لها متصرف فيها دون شريك له في ذلك . العزيز الانتقام ممن كفر به وعصاه الغفار لمن أناب إليه واتبع هداه . وقوله تعالى { قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون } أي يأمر تعالى رسوله أن يقول للمشركين من أهل مكة هو أي القرآن وما حواه من تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجزاء وعرض القصص والأحداث ووصف الجنة والنار نبأ عظيم أي خبر ذو شأن عظيم أنتم عنه معرضون تأبون سماعه والإِيمان به والاهتداء بهديه . بدعوى أني اختلقته وافتريته وهي حجة داحضة وأدلتكم في ذلك واهية . كيف يكون ما اتلوه عليكم من القرآن افتراء منّي عليكم وعلى الله ربي وربكم . وانه ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون عندما قال الله للملائكة { إني خالق بشراً من طين } وقال { أني جاعل في الأرض خليفة } فقال الملائكة { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } كيف عرفت أنا هذا وحدثت به لو لم يكن وحياً من الله أوحاه إليَّ . يا قوم إنه ما يوحى إليَّ إلا انما أنا نذير مبين أي بيَّن النذارة . فلم يوح إليَّ الأمر بالتسلط عليكم وأخذكم بالشدة لأستعبدكم وتكونوا خولا لي وخدماً لا ، لا . إنما يوحى إليَّ لتقرير حقيقة واحدة وهي أني نذير لكم ولغيركم من عذاب الله المعدّ لمن كفر به و أشرك في عبادته ، وفسق عن طاعته .
(3/408)
________________________________________
وقوله تعالى في الآية ( 71 ) { إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين } هو آدم عليه السلام { فإِذا سويته } أي أتممت خلقه { ونفخت فيه من روحي } فحييى وصار بشراً سوياً { فقعوا له ساجدين } أي خروا على الأرض ساجدين له طاعة لأمرنا وتحيّة لعبدنا ، { فسجد الملائكة كلهم أجمعون } سواء من كان منهم في السموات أو في الأرض { إلا إبليس } استكبر عن السجود لآدم لزعمه الكاذب أنه خير منه لكونه من النار وآدم من طين ، ولحسده أيضا حيث فضله وفٌُضِّل عليه ، وكان بذلك الكبر الحسد من الكافرين إذ جحد معلوما من طاعة الله بالضرورة وكيف وهو يتلقى الخطاب من الله تعالى بلا واسطة .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير التوحيد بأدلته .
2- تقرير النبوة والوحي بشواهده من نبأ الملأ الأعلى .
3- عداوة إبليس لآدم وأن الحامل عليها الحسد والكبر وهما من شر صفات العبد .
4- تقرير أن من القياس وما هو شر وباطل كقياس إبليس إذ قاس النار على التراب فرأى أن النار أفضل فهلك بذلك ، إذ التراب أفضل النار تحرق والتراب يحيي ، وشتان ما بين الموت والحياة .
(3/409)
________________________________________
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
شرح الكلمات :
{ لما خلقت بيديّ } : أي للذي خلقته بيديَّ وهو آدم فدل ذلك على شرفه .
{ استكبرت أم كنت من العالين } : استكبرت الآن أم كنت من قبل من العالين المتكبرين والاستفهام للتوبيخ . والتقريع لإِبليس .
{ فاخرج منها } : أي من الجنة .
{ فإِنك رجيم } : أي مرجوم مطرود .
{ وأن عليك لعنتي إلى يوم الدين } : أي طرده من الجنة وألحقه لعنة وهي الطرد من الرحمة إلى يوم الدين أي الجزاء وهو يوم القيامة .
{ قال رب فانظرني } : أي أخر موتي وأبق عليَّ حيَّا إلى يوم يبعثون أي الناس .
{ إلى يوم الوقت المعلوم } : أي إلى النفخة الأولى وهي نفخة الموت والفناء .
{ إلا عبادك منهم المخلصين } : أي الذين استخلصتهم للإِيمان بك وعبادتك ومجاورتك في الجنة .
{ قل ما أسألكم عليه من أجر } : لا اسألكم على البلاغ أجراً تعطونه لي .
{ وما أنا من المتكلفين } : أي المتقولين القرآن ومات أنذركم به من تلقاء نفسي .
{ إن هو إلا ذكر للعالمين } : أي ما أتلوه من القرآن وما أقوله من الهدى إلا ذكر للعالمين .
{ ولتعلمن نبأه بعد حين } : أي ولتعلمن أيها المكذبون نبأ القرآن الذي أنبأ به من الوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين بعد حين .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في ذكر ما دار بين الربّ تعالى وعدوه إبليس من حديث في الملأ الأعلى إذ قال تعالى بعد ان امتنع إبليس من السجود لآدم { يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقتُ بيديَّ } اي أيُّ شيء جعلك تمتنع من السجود لآدم وقد أمرتك بذلك { استكبرت } أي الآن { أم كنت } من قبل { من العالين } أي المستكبرين ، وهذا الاستفهام من الله تعالى توبيخ لإِبليس وتقريع له . وأجابه إبليس بما أخبر تعالى به عنه في قوله { قال أنا خيرٌ منه خلقتني من نار وخلقته من طين } فاستعمل اللعين القياس الفاسد المردود عند أرباب العقول ، إذ النار لم تكن أبداً خيرا من الطين ، النار تحرق ونهايتها رماد ، والطين لا يحرق ومنه سائر أنواع المغذيات التي بها الحياة الحبوب والثمار والفواكه والخضر واللحوم وحسبه أنه أصل الإِنسان ومادة خلقته . فأيُّ شرف للنّار أعظم لو كان اللعين يعقل . وها قال تعالى له { فاخرج منها } أي من الجنة { فإِنك رجيم } أي مطرود مبعد لا ينبغي أن تبقى في رحمة الله ، { وأن عليك لعنتي } لا تفارقك على مدى الحياة وهي بُعد من رحمتي طوال الحياة .
وهنا قال اللعين لما آيس من الرحمة { بّ فانظرني } اي ابق عليَّ حياً لا تمتني { إلى يوم يبعثون } حتى يتمكن من إغواء بني آدم ولا يموت إذا ماتوا في النفخة الأولى فلا يذوق هو الموت وعلم الله ما أضمره في نفسه فرد عليه بقوله { فإنك من المنظرين } اي الممهلين المبقى على حياتهم { إلى يوم الوقت المعلوم } وهو النفخة الأولى حتى يموت مع سائر الخلائق ولما علم اللعين أنه أنظر قال في صفاقة وجه ووقاحة قول مقسماً بعزة الله { فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين } فاستثنى اللعين عباد الله المؤمنين المتبقين الذين استخلصهم الله لطاعته وجواره في دار كرامته .
(3/410)
________________________________________
وهنا قال تعالى ردا على اللعين { قال فالحق } أي أنا الحق { والحق أقول } { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم } اي من الإِنس والجن أجمعين . وإلى هنا انتهى ما دار من خصومة في الملأ الأعلى ، وكيف عرف محمد صلى الله عليه وسلم هذا وأخبر به لولا انه وحي يوحى إليه . وهنا قال تعالى لرسوله قل لقومك المكذبين برسالتك { ما اسألكم عليه } أي على البلاغ { من أجر وما أنا من المتكلفين } الذين يتقولون على الله ويقولون ما لم يقل { إن هو } أي القرآن { إلا ذكر للعالمين } من الإِنس والجن يذكرون به فيؤمنون ويهتدون { ولتعلمن نبأه بعد حين } اي ولتعرفن صدق ما أخبر به من وعد ووعيد وصلاحية ما تضمنه من تشريع بعد حين ، وقد عرف بعضهم ذلك يوم بدر ، ويوم الفتح ، ويوم موته .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- ذم الكبر والحسد وحرمتهما وبيان جزائهما .
2- مشروعية القياس إن كان قياس صحيحا ، وبيان اخطار القياس الفاسد .
3- مشروعية القسم بالله وبصفاته وأسمائه .
4- بيان أن من كتب إلله سعادتهم لا يقوى الشيطان على اغوائهم وإضلالهم .
5- لا يجوز أخذ الأجرة على بيان الحق والدين .
6- ذم التكلُّف المفضي إلى الكذب والتقول على الله وعلى الرسول والمؤمنين .
7- ظهر مصداق ما أخبر به القرآن بعد حين قصير وطويل .
(3/411)
________________________________________
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)
شرح الكلمات :
{ تنزيل الكتاب } : أي القرآن من الله .
{ العزيز الحكيم } : أي العزيز في مُلكه وانتقامه الحكيم في صنعه وتدبير خلقه .
{ مخلصا له الدين } : أي مفرداً إياه بالعبادة فلا تشرك بعبادته أحداً .
{ لله الدين الخالص } : أي له وحده خالص العبادة لا يشاركه في ذلك احد سواه .
{ أولياء } : أي شركاء وهي الأصنام .
{ ليقربونا إلى الله زلفى } : أي تقريباً وتشفع لنا عند الله .
{ من هو كاذب كفار } : أي كاذب أي على الله كفار بعبادته غير الله تعالى .
{ سبحانه } : أي تنزيها له عن الولد والشريك .
{ هو الله الواحد القهار } : أي المعبود الحق الواحد الذي لا شريك له في ملكه وسلطانه القهار لخلقه .
معنى الآيات :
تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم يخبر تعالى أن تنزيل القرآن كان منه سبحانه وتعالى وهو العزيز في انتقامه من أعدائه الحكيم في تدبير خلقه . ولم يكن عن غيره بحال من الأحوال وقوله تعالى { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق } يخبر تعالى رسوله بقوله { إنا أنزلنا إليك الكتاب } أي القرآن العظيم { بالحق } في كل ما جاء فيه ودعا إليه من العقائد والعبادات والأحكام وعليه { فاعبد الله مخلصاً له الدين } في كل ما جاء فيه ودعا إليه من العقائد والعبادات والأحكام وعليه { فاعبد الله مخلصاً له الدين } أي العبادة فلا تعبد معه غيره فإِن العبادة لا تصلح لغيره أبداً { ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء } اي شركاء يعبدونهم ويقولون { ما نعبدهم إلاَّ ليقربونا إلى الله زلفى } أي تقريبا ويشفعوا لنا عند الله في قضاء حوائجنا هؤلاء يحكم الله بينهم في ما هم فيه مختلفون مع المؤمنين الموحدين وذلك يوم القيامة وسيجزي بعدله كلا بما يستحقه من إنعام وتكريم أو شقاء وتعذيب . وقوله تعالى { إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار } يخبر تعالى بحرمان أناس من هدايته وهم الذين توغلوا في الفساد فكذبوا على الله تعالى وعلى عباده وأصبح الكذب وصفاً لازما لهم ، وكفروا وبالغوا في الكفر بالله وآياته ورسوله ولقائه فأصبح الكفر وصفاً ثابتاً لهم ، ‘ذ هذه سنته في حرمان العبد من الهداية ليمضي فيه حكم الله باشقائه وتعذيبه يوم القيامة . وقوله تعالى { لو أراد الله أن يتخذ ولداً } كما يزعم المشركون الذين قالوا الملائكة بنات الله ، وكما قال النصارى المسيح ابن الله ، وكما قال اليهود عزير بن الله ، ولو أراد الله أن يكون له ولدٌ لاصطفى واختار مما يخلق ما يشاء ، ولا يتركهم ينسبون إليه الولد افتراء عليه وكذبا ، ولكنه تعالى منزه عن صفات المحدثين وافتقار المخلوقين إذ هو الله ذو الألوهية على سائر خلقه الواحد الذي لا شريك له في ملكه وسلطانه وحكمه القهار لسائر خلقه فسبحانه لا إله غيره ولا رب سواه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير النبوة المحمدية .
2- تقرير التوحيد .
3- بطلان الشرك والتنديد بالمشركين .
4- تقرير البعث والجزاء يوم القيامة .
(3/412)
________________________________________
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
شرح الكلمات :
{ خلق السموات والأرض بالحق } : أي من أجل أن يذكر ويشكر لا من أجل اللهو العبث .
{ يكور الليل على النهار } : أي يدخل أحدهما في الآخرة فإِذا جاء الليل ذهب النهار والعكس كذلك .
{ وسخر الشمس والقمر } : أي ذللهما فلا يزالان يدوران في فلكيهما إلى نهاية الحياة وبدورتهما تتم مصالح سكان الأرض .
{ خلقكم من نفس واحدة } : هي آدم عليه السلام .
{ ثم جعل منها زوجها } : هي حواء خلقها الله تعالى من ضلع آدم الأيسر .
{ وأنزل لكم من الأنعام } : أي أنزل المطر فأنبت العشب فخلق الأنعام فهذا وجه لإِنزالها .
{ ثمانية أزواج } : أي من الإِبل اثنين ومن البقر اثنين ومن الضأن اثنين ومن المعز اثنين .
{ يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق } : أي أطواراً أطواراً بعد طور نطفة فعلقة فمضغة .
{ في ظلمات ثلاث } : أي ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة .
{ ولا تزر وازرة وزر أُخرى } : أي لا تحمل نفس ذات وزر وزر نفس أخرى .
{ إنه عليم بذات الصدور } : أي ما يخفيه المرء في صدره وما يسره في ضميره .
معنى الآيات : هذه الآيات الكريمة في تقرير التوحيد بذكر الأدلة والبراهين التي لا تدع للشك مجالاً في نفوس العقلاء فقال تعالى في الاية ( 5 ) { خلق السموات والأرض } أي أوجدهما خلقا على غير مثال سابق وخلقهما بالحق لغايات سامية شريفة وليس للباطل والعبث ومن تلك الغايات أن يعبد فيها فيذكر ويشكر . وقوله { يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل } اي يغشى هذا هذا فيغطيه به ويستره كأنما لفَّه عليه وغشاه به وهذا برهان ثان فالأول برهان الخلق للسموات والأرض وبرهان ثالث في قوله { وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى } يدوران في فلكيهما إلى قيام الساعة وفي ذلك من الفوائد والمصالح للعباد مالا يقادر قدره من ذلك معرفة عدد السنين والحساب . وقوله { ألا هو العزيز الغفار } إعلان وتنبيه بأنه تعالى عزيز في بطشه وانتقامه من أعدائه غفّار لعباده التائبين غليه . وقوله تعالى في الآية ( 6 ) { خلقكم من نفس واحدة } هي آدم عليه السلام فقد صح أنه لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ذرّيته وأشهدهم على أنفسهم ، ولهذا جاء العطف بثم { إذ قال خلقكم من نفس واحدة ثم خلق منها زوجها } اي بعد أن مسح على ظهر آدم وأخرج ذرّيته من ظهره وأشهدهم على أنفسهم خلق حواء من ضلعه اليسر ، وهذا برهان وآخر في قوله { وأنزل لكم من الأنعام } وهي الإِبل والبقر والغنم ضأن وماعز وهي ذكر وأنثى فالذكر زوج والأنثى زوج فهي ثمانية أزواج وجائز أن يكون أصل هذه الأنعام قد أنزله من السماء كما أنزل آدم وحواء من السماء ، وجائز أن يكون أنزل الماء فنبت العشب وتكونت هذه الأنعام من ذلك فالأصل الإِنزال من السماء وتدرج الخلق كان في الأرض .
(3/413)
________________________________________
وبرهان رابع في قوله { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق } أي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً ثم نكسو العظام لحماً فإِذا هو إنسان كامل وقوله { في ظلمات ثلاث } هي ظلمة بطن الأم ، ثم ظلمة الرحم ، ثم ظلمة المشيمة ، وهي غشاء يكون للولد وفي الحيوان يقال له السَّلي وقوله بعد ذكر هذه البراهين قال { ذلكم الله ربكم } أي خالقكم ومعبودكم { الحق له الملك لا إله إلا هو } أي لا معبود إلا هو إذ لا تصلح العبادة إلاّ له { فأنى تصرفون } أي كيف تصرفون عن الحق إلى الباطل ، وعن الهدى إلى الضلال إن أمركم عجبٌ . وقوله في الآية ( 7 ) { إن تكفروا فإِن الله غنيٌّ عنكم } أي بعد أن بيّن بالأدلة القاطعة وجوب الإِيمان به ووجوب عباجته ، وأنه الرب الحق وإِله الحق أعلم عباده أن كفرهم به لا يضره ابدا لأنه غنيٌ عنهم وعن سائر خلقه إلا أنه لرحمته بعباده لا يرضى لهم الكفر لما يسببه لهم من شقاء وخسران ، كما انهم إن آمنوا وشكروا يرضه لهم فيثبتهم أحسن ثواب ويجزيهم أحسن جزاء . وقلوه { ولا تزر وازرة وزر أخرى } هذا مظهر من مظاهر عدله بين عباده وهو أن نفسا ذات وزر أي ذنب لا تحمل وزر أي ذنب نفس أخرى بل كل نفس تحمل وزرها وتتحمل تبعته ونتائجه وحدها . وقوله تعالى { ثم إلى ربكم مرجعكم } اي بعد الموت { فينبئكم بما كنتم تعملون } أي فيخبركم بأعمالكم خفيها وجليها صغيرها وكبيرها { إنه عليم بذات الصدور } فضلا عما كان عملا ظاهراً غير باطن ويجزيكم بذلك الخير بمثله والشر بمثله . فهذا ربكم الحق وإلهكم الصدق فآمنوا به ووحدوه ولا تشركوا به وأطيعوه ولا تعصوه تنجوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة . ولا يهلك على الله إلا هالك .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان آيات الله في الكون وإيرادها أدلة على التوحيد .
2- بيان إفضال الله تعالى على العباد في خلقهم ورزقهم .
3- بيان أن الكفر أعجب من الإِيمان إِذ أدلة الإِيمان لا تعد كثرة وأما الكفر فلا دليل عليه البتة ومع هذا أكثر الناس كافرون .
4- بيان غنى الله تعالى عن خلقه وافتقار الخلق إليه .
5- بيان عدالة الله تعالى يوم القيامة وتقريرها .
6- بيان إحاطة علم الله بالخلق وعلمه بأفعالهم وأحوالهم ظاهراً وباطناً .
(3/414)
________________________________________
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
شرح الكلمات :
{ وإذا مس الإِنسان } : الإِنسان أي المشرك .
{ ضر } : أي مرض أو خوف غرق ونحوه من كل مكروه لا يقدر على دفعه .
{ دعا ربه منيباً إليه } : أي سال ربّه كشف ما أصابه من ضر راجعاً إليه معرضا عمن سواه .
{ إذا خوله نعمة منه } : أي أعطاه نعمة منه بأن كشف ما به من ضر .
{ نسى ما كان يدعو غليه منقبل } : أي ترك ما كان يتضرع إليه من قبل وهو الله سبحانه وتعالى .
{ وجعل لله أنداداً } : أي شركاء .
{ ليضل عن سبيله } : أي ليضل نفسه وغيره عن الإِسلام .
{ قل تمتع بكفرك قليلا } : أي قل يا نبيّنا لهذا الكافر الضال المضل تهديداً تمتع بكفرك بقية أجلك .
{ إنك من أصحاب النار } : أي أهلها المتأهلين لها بخبث نفوسهم وظلمة أرواحهم .
{ قانت آناء الليل } : أي مطيع لله آناء الليل اي ساعات الليل ساجداً وقائما في الصلاة .
{ إنما يتذكر أولوا الألباب } : أي يتعظ بما يسمع من الآيات أصحاب العقول النيِّرة .
معنى الآيات :
ما زال السياق في تقرير التوحيد وإبطال التنديد ، فقال تعالى مخبراً عن حال المشرك بربه المتخذ له أنداداً يعبدها معه { وإذ مسّ الإِنسان ضرّ دعا ربّه منيبا إليه } أي سأل ربّه راجعا إليه رافعا إليه يديه يا رباه رباه سائلا تفريج ما به وكشف ما نزل به { ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل } حتى إذا فرَّج الله كربه ومجاه ، وترك دعاء الله ، وأقبل على عبادة غير الله ، { وجعل لله أنداداً } أي شركاء { ليضل } نفسه وغيره . وهنا أمر تعالى رسوله أن يقول له نيابة عن الله تعالى قل يا رسولنا لهذا المشرك الكافر تمتع بكفرك قليلا أي مدة بقية عمرك إنك من اصحاب النار ، هكذا هدده ربّه وخوفه بعاقبة أمر الشرك والتنديد لعله ينتهي فيتوب توبة صادقة ويرجع إلى الله رجوعاً حسناً جميلا . هذا ما دلت عليه الاية الأولى ( 8 ) أما الآية الثانية ( 9 ) فيقول تعالى { أمنَّ هو قانت } اي مطيع لله ورسوله في أمرهما ونهيهما { آناء الليل } أي ساعات الليل تراه ساجداً في صلاته أو قائماً يتلو آيات الله في صلاته ، وفي نفس الوقت هو يحذر عذاب الآخرة ويسأل الله تعالى في يقيه منه ، ويرجو رحمة ربّه وهي الجنة أن يجعله الله من أهلها أهذا خير أم ذلك الكافر الذي قيل له تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار ، والجواب معلوم للعقلاء وقوله تعالى { هل يستوى الذين يعلمون } محاب الله ومكارهه وهم يعملون على الإِتيان بمحابّ الله تقرباً إليه ، وعلى ترك مكارهه تحبُباً إليه ، هل يستوى هؤلاء العاملون مع الذين لا يعلمون ما يحب وما يكره فهم يتخبطون في الضلال تخبط الجاهلين؟ والجواب لا يستوون وإنما يتذكر بمثل هذا التزجيه الإِلهي والإِرشاد الرباني أصحاب الألباب أي العقول السليمة الراجحة .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير التوحيد وإبطال الشرك والتنديد .
2- الكشف عن داخلية الإِنسان قبل أن يؤمن ويُسلم وهو أنه إنسان متناقض لا خير فيه ولا رشد له ، فلا يرشد ولا يكمل إلا بالإِيمان والتوحيد .
3- بشرى الضالين عن سبيل الله المضلين عنه بالنار .
4- مقارنة بين القانت المطيع ، والعاصي المضل المبين ، وبين العالم والجاهل ، وتقرير افضلية المؤمن المطيع على الكافر العاصي . وأفضلية العالم بالله وبمحابة ومكارهه والجاهل بذلك .
5- فضل العالم على الجاهل لعمله ولولا العمل بالعلم لاستويا في الخسّة والانحطاط .
(3/415)
________________________________________
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)
شرح الكلمات :
{ اتقوا ربكم } : أي اجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بالإِيمان والتقوى .
{ للذين أحسنوا } : أي أحسنوا العبادة .
{ حسنة } : أي الجنة .
{ ارض الله واسعة } : أي فهاجروا فيها لتتمكنوا من عبادة الله إن منعتهم منها في دياركم .
{ أُمرت } : أي أمرني ربّي عز وجل .
{ مخلصا له الدين } : أي مفرداً إياه بالعبادة .
{ أول المسلمين } : أي أول من يسلم في هذه الأمة فينقاد لله تعالى والإِخلاص له فيها .
{ عذاب يوم عظيم } : أي عذاب يوم القيامة .
{ قل } : أي يا رسولنا للمشركين .
{ الله أعبد } : أي لا أعبد معه سواه .
{ مخلصا له ديني } : أي مفرداً إياه بطاعتي وانقيادي .
{ فاعبدوا ما شئتم } : أي إن أبيتم أيها المشركون عبادة الله وحده فاعبدوا ما شئتم من الأوثان فإِنكم خاسرون .
{ خسروا أنفسهم } : أي فحرموها الجنة وخلدوها في النار .
{ وأهليهم } : أي الحور العين اللائي كن لهم في الجنة لو آمنوا واتقوا بفعل الطاعات وترك المنهيات .
{ ظلل من النار } : أي دخان ولهب وحر من فوقهم ومن تحتهم .
{ ذلك } : أي المذكور من عذاب النار .
{ يا عباد فاتقون } : أي يا من أنا خالقهم ورازقهم ومالكهم وما يملكون فلذلك اتقون بالإِيمان والتقوى .
معنى الآيات :
لقد تضمنت هذه الآيات الخمس توجيهات وإرشادات ربَّانيَّة للمؤمنين والرسول صلى الله عليه وسلم ففي الآية الأولى ( 10 ) يأمر تعالى رسوله أن يقول للمؤمنين اتقوا ربكم اي اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية وذلك بطاعته وطاعة رسوله ، ويُعلمهم معللا أمره إياهم بالتقوى بأن للذين أحسنوا الطاعة المطلوبة منهم الجنة ، كما يعلمهم أنهم إذا لم يقدروا على الطاعة بين المشركين فليهاجروا إلى أرض يتمكنون فيها من طاعة الله ورسوله فيقول { وأرض الله واسعة } أي فهاجروا فيها ويشجعهم على الهجرة لآجل الطاعة فيقول { إنما يوفّى الصابرون } أي على الاغتراب والهجرة لأجل طاعة الله والرسول { أجرهم بغير حساب } أي بلا كيل ولا وزن ولا عد وذلك لأنه فوق ذلك . وفي الآية الثانية ( 11 ) والثالثة ( 12 ) يأمر تعالى رسوله موجها له بأن يقول للناس { أني أُمرت } أي أمرني ربي أن أعبد الله باعتقاد وقول وفعل ما يأمرني به وترك ما ينهاني عنه في ذلك مخلصا له الدين ، فلا أشرك في دين الله أحداً أي في عبادته أحداً ، كما أمرني أن أكون أول المسلمين في هذه الأمة أي أوّل من يسلم قلبه وجوارحه الظاهرة والباطنة لله تعالى وفي الآيات الرابعة ( 13 ) والخامسة ( 14 ) يأمر الله تعالى رسوله أن يقول للمشركين إني أخاف إن عصيت ربي ، فرضيت بعبادة غيره وأقررتها عذاب يوم عظيم كما يأمره أن يقول الله أعبدُ أي الله وحده لا شريك له اعبد حال كوني مخلصا له ديني . وأما أنتم أيها المشركون إن ابيتم التوحيد فاعبدوا ما شئتم من آلهة دونه تعالى ويأمره أن يقول لهم إن الخاسرين بحق ليسوا أولئك الذي يخسرون دنياهم فيفقدون الدار والبعير أو المار والأهل والولد بل هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، وذلك بتخليدهم في النار ، وبعدم وصولهم إلى الحور العين المعدة لهم في الجنة لو أنهم آمنوا واتقوا .
(3/416)
________________________________________
إلا ذلك أي هذا هو الخسران المبين ثم يوضح ذلك الخسران بالحال التالية وهي أن لهم وهم في النار من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل أي طبقات من فوقهم طبقة ومن تحتهم أخرى وكلها دخان ولهب وحر وأخيراً قوله تعالى { ذلك } أي المذكور من الخسران وعذاب الظلل يخوف الله تعالى به عباده المؤمنين ليواصلوا طاعتهم وصبرهم عليها فينجوا من النار ويظفروا بالجنان وقوله يا عباد فاتقون أي يا عبادي المؤمنين فاتقون ولا تعصون يحذرهم تعالى نفسه ، والله رءوف بالعباد .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان عناية الله تعالى برسوله والمؤمنين إذ أرشدهم إلى ما يكملهم ويسعدهم .
2- وجوب التقوى والصبر على الأذى في ذلك .
3- تقرير التوحيد بأن يعبد الله وحده .
4- فضل الإِسلام وشرف المسلمين .
5- تقرير البعث والجزاء بيان شيء من أهوال الآخرة وعذاب النار فيها .
6- كل خسران في الدنيا إذا قيس بخسران الآخرة لا يعد خسراناً أبداً .
(3/417)
________________________________________
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)
شرح الكلمات :
{ والذين اجتنبوا الطاغوت أن : أي تركوا عبادة الأصنام وغيرها مما يعبد من دون الله .
يعبدوها } { وأنابوا إلى الله } : لهم بالإِيمان به وعبادته وتوحيده فيها .
{ لهم البشرى } : أي بالجنة عند الموت وفي القبر وعند القيام من القبور .
{ فيتبعون أحسنه } : أي أوفاه وأكمله وأقربه إلى مرضاة الله تعالى .
{ أولوا الألباب } : أي العقول السليمة .
{ أفمن حق عليه كلمة العذاب } : أي وجب عليه العذاب بقول الله تعالى لأملأن جهنم .
{ أفأنت تنقذ من في النار } : أي تخلصه منها وتخرجه من عذابها .
{ لكن الذين اتقوا ربهم } : أي خافوه فآمنوا به وأطاعوه موحدين له في ذلك .
{ تجري من تحتها الأنهار } : أي من خلال قصورها وأشجارها .
{ وعد الله } : أي وعدهم الله تعالى وعداً فهو منجزه لهم .
معنى الآيات :
لما ذكر تعالى حال أهل النار من عبدة الوثان وأن لهم من فوقهم ظللا من النار ومن تحتهم ظللا ذكر تعال حال الذين اجتنبوا تلك الطواغيت فلم يعبدوها ، وما أعد لهم من النعيم المقيم فجمع بذلك بين الترهيب والترغيب المطلوب لهداية البشر وإصلاحهم فقال عز وجل { والذين اجتنبوا الطاغوت } اي أن يعبدوها وهي الأوثان وكل ما زين الشيطان عبادته ودعا الناس إلى عبادته واضافوا غلى اجتناب الطاغوت الإِنابة غلى الله تعالى بعبادته وتوحيده فيها هؤلاء لهم البشرى وهي في كتاب الله وعلى لسان رسول الله ويرونها عند نزول الموت وي القبر وفي الحشر وكل هذا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى { فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } يأمر تعالى رسوله أن يبشر صنفاً من عباده بما بشر به الذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا غلى الله وهم الذين يستمعون القول من قائله فيتبعون أحسن ما يسمعون ، ويتركون حسنه وسيئه معاً فهؤلاء لهم همم عالية ونفوس تواقة للخير والكمال شريفة فاستوجبوا بذلك البشرى على لسان رسول الله صلى الله عليه سولم والثناء الجميل من ربّ العالمين إذ قال تعالى فيهم { أولئك الذي هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب } فحسبهم كمالاً أن اثنى تعالى عليهم . اللهم اجعلني منهم ومن سأل لي وله ذلك . وقوله { افمن حق عليه كلمة العذاب } أي وجب له العذاب قضاءً وقدراً فأسرف يف الكفر والظلم والإِجرام والعدوام كأبي جهل والعاص بن وائل فأحاطت به خطيئاته فكان من اصحاب النار فهل تستطيع ايها الرسول انقاذه من النار وتخليصه منها؟ والجواب لا .
إذاً فهون على نفسك واتركهم لشأنهم وما خلقوا له وحكم به عليهم . وقوله تعالى { لكن الذين اتقوا } فآمنوا وعملوا الصالحات لهم غرف في الجنة من فوقها غرف وهي العلية تكون فوق الغرفة تجري من تحتها الأنهار من تحت القصور والأشجار انهار الماء واللبن والعسل والخمر .
(3/418)
________________________________________
وقوله { وعد الله } أي وعدهم الله تعالى بها وعداً حقاً فهو منجزه لهم إذ هو تعالى لا يخلف الميعاد .
هداية الايات :
من هداية الآيات :
1- كرامة زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي إذ هذه الآية تعنيهم فقد رفضوا عبادة الطاغوت في الجاهلية قبل الإِسلام ثم أنابوا إلى ربهم فصدقت الآية عليهم .
2- فضيلة أهل التمييز والوعي والإِدراك الذين يميزون بين ما يسمعون فيتبعون الأحسن ويتركون ما دونه من الحسن والسيء .
3- إعلام من الله تعالى أن من وجبت له النار أزلاً لا تمكن هدايته مهما بذل الداعي في هدايته وإصلاحه ما بذل .
4- بيان ما أعد الله تعالى لأهل الإِيمان والتقوى من نعيم الجنة وكرامة الله لأهلها .
(3/419)
________________________________________
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
شرح الكلمات :
{ فسلكه ينابيع في الأرض } : أي أدخله في الأرض فصار جاريا تحتها ينبع منها فكان بذلك ينابيع .
{ مختلفا أولانه } : أي ما بين أخضر وابيض وأحمر وأصفر وأنواعه من بر وشعير وذرة .
{ ثم يهيج فتراه مصفرا } : أي ييبس فتراه أيها الرائي بعد الخضرة مصفرا .
{ ثم يجعله حطاما } : أي فتاتا متكسرا .
{ إن في ذلك لذكرى } : أي إن في ذلك المذكور من إنزال الماء إلى أن يكون حطاما تذكيرا .
{ أفمن شرح الله صدره للإِسلام } : أي فاهتدى به كمن لم يشرح الله صدره فلم يهتد؟ .
{ فهو على نور من ربّه } : أي فهو يعيش في حياته على نور من ربّه وهو معرفة الله وشرائعه .
{ فويل للقاسية قلوبهم من ذكر : ويل كلمة عذاب للقاسية قلوبهم عن قبول القرآن فلم تؤمن به الله } ولم تعمل بما فيه .
{ أحسن الحديث كتاباً } : هو القرآن الكريم .
{ متشابهاً } : أي يشبه بعضه بعضا في النظم والحسن وصحة المعاني .
{ مثاني } : أي ثنّى فيه الوعد والوعيد كالقصص والأحكام .
{ تقشعر منه جلود الذين يخشون : أي ترتعد من جلود الذين يخشون ربهم وذلك عند ذكر ربهم } وعيده .
{ ثم تلين جلودهم وقلوبهم } : أي تطمئن وتلين .
{ إلى ذكر الله } : أي عند ذكر وعده لأهل الإِيمان والتقوى بالجنة وما فيها من نعيم مقيم .
معنى الآيات :
قوله تعالى { ألم تر } هذه الآية الكريمة تقرر التوحيد والبعث والجزاء بذكر مظاهر القدرة والعلم الإِلهيين ، وهما مقتضيان لوجود الله أولاً ثم وجوب الإِيمان به وبلقائه فقال تعالى مخاطبا رسوله { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء } وهو المطر { فسلكه ينابيع في الأرض } اي أدخله فيها واخرجه منها ينابيع بواسطة حفر وبدونه ، ثم يخرج به زرعاً من قمح وشعير وذرة وغيرها مختلفا ألوانه من أحمر وأبيض واصفر { ثم يهيج } حسب سنة الله تعالى في ذلك فيجف { فتراه مصفراً ثم يجعله حطاماً } أي فتاتا متكسراً كالتبن كل هذا يتم بقدرة الله وعلمه وتدبيره ففيه موعظة وذكرى لأولى القلوب الحيّة تهديهم إلى الإِيمان بالله وبآياته ولقائه ، وما يستتبع ذلك من الطاعة والتوحيد وقوله تعالى { افمن شرح الله صدره للإِسلام } أي وسع صدره وفسحه فقبل الإِسلام دينا فاعتقد عقائده وعمل بشرائعه فامتثل أوامره واجتنب نواهيه فهو يعيش على نور من ربه ومقابل هذا محذوف اكتفى بالأول عنه وتقديره كمن طبع الله على قلبه وجعل صدره حرجا ضيقا فلم يقبل الإِسلام ولم يدخل فيه ، وعاش على الكفر والشرك والمعاصي فهو يعيش على ظلمة الكفر ودخن الذنوب وعفن الفساد والشر . وقوله تعالى { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر } يتوعد الله تعالى بالعذاب أصحاب القلوب القاسية من سماع القرآن وهذه أسوأ حال العبد إذا كان يهلك بالدواء ويضل بالهدى فسماع القرآن الأصل فيه أن يلين القلوب الصالحة للحياة فإِذا كانت القلوب ميتة غير قابلة للحياة سماع القرآن زادها موتاص وقسوة ، ويدل على هذا قوله { أولئك في ضلال مبين } فهدايتهم متعذرة إذا كان الدواء يزيد في علتهم وآيات الهداية تزيد في ضلالتهم .
(3/420)
________________________________________
وقوله تعالى { الله نزّل أحسن الحديث } هذه الآية نزلت لما قال أصحاب الرسول يوماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا يا رسول الله فأنزل الله تعالى قوله { الله نزّل أحسن الحديث } وهو القرآن { كتاباً متشابهاً } أي يشبه بعضه بعضاً في حسن اللفظ وصحة المعاني { مثاني } اي يثني فيه الوعد والوعيد والأمر والنهي والقصص ، { تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم } أي عند سماع آيات الوعيد فيه { ثم تلين جلودهم } إذا سمعوا ىيات الوعد { وتطمئن قلوبهم } إذا سمعوا حججه وأدلته وقوله { إلى ذكر الله } اي القرآن وذكر الله بوعده ووعيده وأسمائه وصفاته ويشهد له قوله تعالى من سورة الرعد { ا بذكر الله تطمئن القلوب } وقوله تعالى { ذلك هدى الله يهدي به من يشاء } أي ذلك المذكور وهو القرآن الكريم هدى الله إذ هو الذي أنزله وجعله هادياً يهدي به من يشاء هدايته بمعنى يوفقه للإِيمان والعمل به وترك الشرك والمعاصي . وقوله { ومن يضلل الله فما له من هادٍ } لما سبق في علم الله ولوجود مانع من هدايته كالإِصرار والعناد والتقليد . فهذا ليس له منهاد يهديه بعد الله أبداً .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- مظاهر العلم والقدرة الإِلهية الموجبة للإِيمان به وبرسوله ولقائه .
2- بيان أن القلوب قلبان قلب قابل للهداية وآخر غير قابل لها .
3- بيان أن القرآن أحسن ما يحدث به المؤمن إذ أخباره كلها صدق وأحكامه كلها عدل .
4- فضيلة أهل الخشية من الله إذ هم الذين ينفعلون لسماع القرآن فترتعد فرائصهم عند سماع وعيده ، وتلين قلوبهم وجلودهم عند سماع وعده .
(3/421)
________________________________________
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)
شرح الكلمات :
{ افمن يتقى بوجهه سوء العذاب } : أي يتلقى العذاب بوجهه لا شيء يقيه منه كمن أمن .
{ سوء العذاب } : أقساه وأشده .
{ وقيل للظالمين } : أي المشركين في جهنم .
{ ذوقوا ما كنتم تكسبون } : أي جزاء كسبكم الشر والفساد .
{ كذب الذين من قبلهم } : أي من قبل أهل مكة .
{ فأتاهم العذاب من حيث : أي من حيث لا يدرون أنهم آتيهم منه . أو لا يشعرون } من حيث لا يخطر ببالهم .
{ فأذاقهم الله عذاب الخزي } : أي المسخ والذل والإِهانة .
{ ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا : أي لو كانوا يعلمون ذلك ما كذبوا ولا كفروا .
يعلمون } معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تقرير البعث والجزاء فقوله تعالى { أفمن يتقى بوجهه سوء العذاب } يوم القيامة إذ ليس له ما يتقي به العذاب لأن يديه مغلولتان إلى عنقه فهو يتلقى العذاب بوجهه وهو أشرف أعضائه أفهذا الذي يتلقى العذاب بل سوء العذاب كمن امن العذاب ودخل الجنة؟
والجواب لا يستويان . وقوله تعالى { وقيل للظالمين } اي المشركين وهم في النار يقول لهم زبانية جهنم توبيخاً لهم وتقريعاً ذوقوا ما كنتم تكسبون من أعمال الشرك والمعاصي هذا جزاؤه فذوقوه عذاباً أليما . وقوله تعالى { كذب الذين من قبلهم } اي كذب قبل أهل مكة أُمم وشعوب كذبوا رسلهم فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا وذلك كالذل والمسخ والقتل والأسر والسبي ولعذاب الآخرة أكبر من عذاب الدنيا وهم صائرون غليه لا محالة وقوله { لو كانوا يعلمون } أي لو كانوا يعلمون عنه علما يقينيا ما كذبوا رسلهم ولا كفروا بربهم . فهلكوا بجهلهم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير البعث والجزاء بذكر شيئ من أحوال يوم القيامة .
2- تهديد قيش على إصرارها على التكذيب للرسول وما جاءها به من الإِسلام .
3- العذاب على التكذيب والمعاصي منه الدنيوي ، ومنه الآخروي .
4- لو علم الناس عذاب الآخرة علما يقينا ما كذبوا ولا كفروا ولا ظلموا فالجهل هو سبب الهلاك والشقاء دائماً .
(3/422)
________________________________________
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
شرح الكلمات :
{ ولقد ضربنا للناس في هذا : أي جعلنا للعرب في هذا القرآن من كل مثل من الأمم القرآن من كل مثل } السابقة .
{ لعلهم يتذكرون } : أي يتعظون فينزجرون عما هم فيه من الشرك والتكذيب إلى الإِيمان والتوحيد .
{ قرآناً عربيا غير ذي عوج } : أي حال كون المثل المجعول قرآنا عربيا لا لبس فيه ولا اختلاف فلا عذر لهم في عدم فهمه وإدراك معناه وفهم مغزاه .
{ متشاكسون } : أي متنازعون لسوء أخلاقهم .
{ ورجلا سلما } : أي خالصا سالما لرجل لا شركة فيه لأحد .
{ هل يستويان مثلا } : الجواب لا الأول في تعب وحيرة والثاني في راحة وهدوء بال .
{ الحمد لله } : أي على ظهور الحق وبطلان الباطل .
{ إنك ميت } : أي مقضي عليك بالموت في وقته .
{ وإنهم ميتون } : أي كذلك محكوم عليهم به عند انقضاء آجالهم .
{ عند ربكم تختصمون } : أي تحتكمون إلى الله في ساحة فصل القضاء فيحكم الله بينكم .
{ فيما كنتم فيه تختلفون } : أي من الشرك والتوحيد والإِيمان والتكذيب .
معنى الآيات :
قوله تعالى { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون } يخبر تعالى بما من به على العرب لهدايتهم حيث جعل لهم في القرآن الكريم من أمثال الأمم السابقة في إيمانها وتكذيبها ، وصلاحها وفسادها ونجاتها وخسرانها وكل ذلك بقرآن عربي لا عوج فيه أي لا لبس ولا خفاء ولا اختلاف ، فعل ذلك لهم لعلهم يتذكرون اي يتعظون فيؤمنون ويوحدون فينجون من العذاب ويسعدون . وقوله تعالى { ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورلاً سلماً لرجلٍ هل يستويان } إلى آخر الآية ، هذا مثل من جملة الأمثال التي ضرب الله للناس لعلهم يتذكرون وهو مثل للمشرك الذي يعبد عدة آلهة . والموحد الذي لا يعبد غلا الله فالمشرك مثله رجل يملكه عدد من الرجال من ذوي الأخلاق الشرسة والطباع الجافة فهم يتنازعونه هذا يقول له تعالى والآخر يقول له اجلس والثالث يقول له قم فهو في حيرة من أمره لا راحة بدن ولا راحة ضمير ونفس . والموحد مثله رجل سلم اي خالص وسالم لرجل واحد آمره وناهيه واناهيه واحد هل يستويان أي الرجلان والجواب لا إذ بينهما كما بين الحرية والعبودية وأعظم وقوله تعالى { الحمد لله } اي الثناء بالجميل لله والشكر العظيم له سبحانه وتعالى على أنه رب واحد وإله واحد لا إله غيره ولا رب سواه . وقوله { بل أكثرهم لا يعلمون } أي بل أكثر المشركين لا يعلمون عدم تساوي الرجلين ، وذلك لجهلهلم وفساد عقولهم .
وقوله تعالى { إنك ميت وإنهم ميتون } نزلت لما استبطأ المشركوت موت الرسول صلى الله عليه وسلم أي لا شماتة في الموت إنك ستموت يا رسولنا ويموتون . وقوله تعالى { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } أي مؤمنكم وكافركم قويكم وضعيفكم تقفون بين يدي الله ويحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون من أمور الدين والدنيا معا .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- مشروعية ضرب الأمثال للمبالغة في الإِفهام والهداية لمن يراد هدايته .
2- بيان مثل المشرك والموحد ، فالمشرك في حيرة وتعب ، والموحد في راحة وهدوء بال .
3- تقرير أن كل نفس ذائقة الموت .
4- بيان أن خصومة ستكون يوم القيامة ويقضي الله تعالى فيها بالحق لأنه هو الحق .
(3/423)
________________________________________
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)
شرح الكلمات :
{ ومن أظلم ممن كذب على الله؟ } : أي بأن نسب إليه ما هو برئ منه كالزواج والولد والشريك .
{ وكذب بالصدق إذ جاءه } : أي بالقرآن والنبي والتوحيد والبعث والجزاء .
{ مثوى للكافرين } : أي مأوى ، ومكان إقامة ونزول .
{ والذي جاء بالصدق وصدَّق به } : محمد صلى الله عليه وسلم ، والذي صدق به أبو بكر وكل اصحاب رسول الله .
{ أولئك هم المتقون } : أي لعذاب الله بإِيمانهم وتقواهم بترك الشرك والمعاصي .
{ ذلك جزاء المحسنين } : أي المذكور من نعيم الجنة جزاء المحسنين في أعمالهم .
{ ليكفر الله عنهم اسوأ الذي عملوا } : أي ييسر الله لهم ذلك ويوفقهم إليه ليكفر عنهم ذنوبهم .
معنى الآيات :
يخبر تعالى عباده منذراً محذراً بأنه لا أظلم من أحد كذب على الله . فقال عنه ما لم يقل أو حرّم ولم يحرم أو أذن ولم يأذن ، أو شرع ولم يشرع ، أو كذب بالصدق وهو القرآن والنبي وما جاء به من الهدى ودين الحق أي فلا أحد أظلم ممن كان هذا حاله كذب على الله وكذب بالصدق .
وقوله تعالى : { أليس في جهنم مثوى للكافرين } ؟ هذا بيان لجزاء الكاذبين والمكذبين وهم الكافرون بسبب كذبهم على الله وتكذيبهم له فيخبر تعالى مقرراً أن جزاءهم الإِقامة الدائمة في جهنم . وقوله تعالى : { والذي جاء بالصدق وصدق به اولئك هم المتقون } هذا إخبار بفريق الفائزين من عباد الله وهم الصادقون في كل يخبرون به ، والمصدقون بما أوجب الله تعالى التصديق به ويدخل في هذا الفريق دخولا أولياً رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق ثم سائر الصحابة والمؤمنين إلى يوم الدين .
وقوله تعالى : { أولئك هم المتقون } يشير غليهم بأنهم اتقوا كل ما يغضب الله من الشرك والمعاصي ، وبذلك استوجبوا النجاة من النار ودخول الجنة المعبر عنه بقوله تعالى : { لهم ما يشاءون عند ربهم } من نعيم بعضه لم يخطر على بال أحد ، ولم تره عين أحد ولا تسمع به أذنه .
وقوله : { ذلك جزاء المحسنين } اي ذلك المذكور في قوله لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو جزاؤهم وجزاء المحسنين كلهم والمحسنون هم الذين أحسنوا الاعتقاد والقول والعمل وقوله تعالى : { ليكفر عنهم أسوأ الذي عملوا } اي من الذنوب والآثام والخطايا والسيئات اي وفقهم للإِحسان ويسره لهم ، ليكفر عنهم أسوأ الذي عملوا وسيئه ويجزيهم أجرهم على إيمانهم وتقواهم وإحسانهم في ذلك بأحسن ما كانوا يعملون وحسنه ايضا وإنما يضاعف لهم الأجر فتكون الحسنات الصغيرة كالكبيرة فاصبح الجزاء كله على الأحسن والذي كانوا يعملون هو كل ما شرعه الله تعالى لعباده وتعبدهم به من الإِيمان وسائر الطاعات والقربات .
هداية الآيات :
من هداية الآيات : 1- التنديد بالكذب على الله تعالى والتكذيب به ، وبما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم من الدين .
2- بيان جزاء الكاذبين على الله والمكذبين بما جاء به رسول الله عن الله من الشرع والدين .
3- الترغيب في الصِّدق في الاعتقادات والأقوال والأعمال .
4- فضل التقوى والإِحسان وبيان جزائهما عند الله تعالى يوم القيامة .
(3/424)
________________________________________
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)
شرح الكلمات :
{ أليس الله بكاف عبده؟ } : بلى هو كاف عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم كل ما يهمه .
{ ويخوفونك بالذين من دونه } : أي بالأصنام والأوثان أن تصيبك بما يسوءك ويضرك .
{ أليس الله بعزيز ذي انتقام } : بلى بل هو عزيز غالب على أمره صاحب انتقام شديد على من عَاداه .
{ ليقولن الله } : أي لوضوح البرهان وقوة الدليل وانقطاع الحجة .
{ قل أفرأيتم } : أي أخبروني .
{ هل هن ممسكات رحمته } : والجواب لا لا إذاً فقل حسبي الله ، ولا حاجة لي بغيره .
{ عملوا على مكانتكم } : أي على حالتكم التي أنتم من الكفر والعناد .
{ إني عامل } : أي على حالتي التي أنا عليها من الإِيمان والانقياد .
{ من يأتيه عذاب يخزيه } : أي في الدنيا بالقتل والأسر والجوع والقحط .
{ ويحل عليه عذاب مقيم } : أي وينزل عليه عذاب مقيم لا يبرح وهو عذاب النار بعد الموت .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الدفاع عن الرسول والرد على مناوئيه وخصومه الذين استبطأوا موته فرد الله تعالى عليهم بقولهم : { إنك ميت وإنهم ميتون } فلا شماتة إذاً في الموت وقوله : { أليس الله بكاف عبده } دال على أن القوم حاولوا قتله صلى الله عليه وسلم لما لم يمت بأجله وفعلا قد قرروا قتله وأعطوا الجوائز لمن يقتله ، ففي هذه الآية طمأن الله رسوله على أنهم لا يصلون إليه وأنه كافيه مؤامراتهم وتهديداتهم فقال عز وجل أليس الله بكاف عبده؟ والجواب بلى إذ الاستفهام تقريري كافيه كُلَّ ما يهمه ويسوءه وقوله : { ويخوفونك بالذين من دونه } اي ويخوفك يا رسولنا المشركون بما يعبدنا من دوننا من أصنام وأوثان بأن تصيبك بقتل أو خبل فلا يهمك ذلك فإن أوثانهم لا تضر ولا تنفع ولا تجلب ولا تدفع ، وقوله : { ومن يهد الله فما له من مضلْ ، وقد هداك ربك فليس لك من يضلك ابداً ، كما أن من أضله الله كقومك فليس له من هادٍ يهديه أبداً . وقوله تعالى : { أليس الله بعزيز ذي انتقام } بلى فهو إذاً سينتقم من أعدائه لأوليائه ان استمروا في أذاهم وكفرهم وعنادهم ، وقد فعل سبحانه وتعالى .
وقوله تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض } اي أوجدهما من غير مثال سابق رليقولن الله } فما دام اعترافهم لازماً بأن الله تعالى هو الخالق فلم عبادة غيره والإِصرار عليها مما أفضى بهم إلى أذية المؤمنين وشن الحرب عليهم وقوله : { قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله } أي من الصنام والأوثان أخبروني رإن أرادني الله بضرس } ما { هل هنَّ كاشفات ضره أو أراداني برحمة } صحة وعافية وغنى ونصر { هل هنَّ ممسكات رحمته } والجواب لا فإنها جماد لا تقدر على إعطاء ولا على إمساك إذاً فقل حسبي الله أعبده وأتوكل عليه إذ هو الذي يضر وينفع ويجلب الخير ويدفع السوء والشر .
(3/425)
________________________________________
وقوله { عليه يتوكل المتوكلون } أي على الله وحده يتوكل المتوكلون فيثقون في كفايته لهم فيفرضون أمورهم غليه ويتعلقون به . وينفضون أيديهم من غيره .
وقوله تعالى : { قل يا قوم اعملوا على مكانتكم } أي لما ابيتم إلا العناد مصرين على الشرك بعد ما قامت الحجج والأدلة القاطعة على بطلانه فاعملوا على مكانتكم أي حالتكم التي عليها من الشرك والعناد رإني عامل } أنا على حالتي من الإِيمان والتوحيد والانقياد . والنتيجة ستظهر فيما بعد لا محالة ويعلم المحق من المبطل ، والمُهتدي من الضال وهي قوله تعالى :
{ فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه } اي يذله ويكسر أنفه بالقتل والأسر والجوع والقحط وقد اصاب المشركين هذا في مكة وبدر . وقوله : { ويحل عليه عذاب مقيم } وهو عذاب النَّار في الآخرة نعوذ بالله من العذابين عذاب الخزي في الحياة الدنيا وعذاب النار في الدار الآخرة .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير كفاية الله وولايته لعباده المؤمنين وخاصة ساداتهم من الأنبياء والأولياء .
2- تقرير مقتضى الولاية وهو النقمة من أعدائه تعالى لأوليائه وإن طال الزمن .
3- تقرير التوحيد وإبطال التنديد .
4- مظاهر ربوبية الله الموجبة لألوهيته .
5- وجوب التوكل على الله واعتقاد كفايته لأوليائه .
6- تقرير إنجاز الله وعده لرسوله والمؤمنين .
(3/426)
________________________________________
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
شرح الكلمات :
{ إنا أنزلنا عليك الكتاب بالحق } : أي أنزلنا عليك يا رسولنا القرآن بالحق أي ملتبساً به .
{ وما أنت عليهم بوكيل } : أي ليس عليك أمر هدايتهم فتجبرهم على الإِيمان .
{ الله يتوفى الأنفس حين موتها } : أي ينهى حياة العباد بقبض أرواحهم عند نهاية آجالهم .
{ والتي لم تمت في منامها } : أي يتوفاها وقت النوم يحبسها عن التصرف كأنها شيء مقبوض .
{ فيمسك التي قضى عليها الموت } : أي يقبضها لحكمة بالموت عليها حال النوم .
{ ويرسل الأخرى إلى أجل : أي التي لم يحكم بموتها يرسلها فيعيش صاحبها غلى نهاية مسمى } أجله المعدود له .
{ إن في ذلك لآيات لقوم : أي في قبض الرواح وإرسالها ، والقدرة على ذلك دلائل يتفكرون } وبراهين على قدرة الله تعالى على البعث الذي أنكره المشركون .
{ أم اتخذوا من دون الله شفعاء } : أي أن كفار مكة لا يتفكرون ولو كانوا يتفكرون لما انكروا البعث ، ولا ما اتخذوا من دون الله شفعاء لوضوح بطلان ذلك .
{ قل أولو كانوا لا يملكون شيئاً } : أي قل لهم أيشفع لكم شركاؤكم ولو كانوا لا يملكون شيئاً ينكر عليهم دعواهم الشفاعة لهم وهي أصنام لا تملك ولا تعقل .
{ قل لله الشفاعة جميعا } : أي أخبرهم أن جميع الشفاعات لله وحده فشفاعة الأنبياء والشهداء والعلماء والأطفال مملوكة لله فلا يشفع أحد إلا بإذنه .
{ وإذا ذكر الله وحده اشمأزت } : أي وإذا ذكر الله وحده كقول الرسول صلى الله عليه وسلم « ا إلا إلا الله نفرت نفوس المشركين وانقبضت وظهر الغضب والسخط في وجوههم » .
{ وإذا ذكر الذين من دونه } : أي الأصنام والأوثان التي يعبدونها من دون الله تعالى .
{ إذا هم يستبشرون } : أي فرحون جذلون وذلك لافتنانهم بها ونسيانهم لحق الله تعالى وهو عبادته وحده مقابل خلقه ورزقه لهم .
معنى الآيات :
إن السياق الكريم كان في عرض الصراع الدائر بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقومه المشركين فدافع الله تعالى عن رسوله ودفع عنه كل اذى ومكروه وتوعد خصومه بالعذاب في الدنيا والآخرة وهنا يسليه ويصبره فيقول له { إنا أنزلنا عليك الكتاب } أي القرآن { للناس } اي لهداية الناس واصلاحهم { بالحق } اي ملتبساً بالحق ، فمن اهتدى بالقرآن فآمن وعمل صالحاً فعائد ذلك له حيث ينجو من النار ويدخل الجنة ، ومن ضل لعدم قبوله هداية القرآن فاصر على الشرك والمعاصي فإنما يضل على نفسه اي عائد ضلاله على نفسه إذ هو الذي يحرم الجنة ورضا الله تعالى ويُلقى في النار خالداً فيها وعليه غضب من الله لا يفارقه أبداً .
وقوله : { وما أنت عليهم بوكيل } اي لم يوكل إليك أمر هدايتهم فتجد نفسك في هم من ذلك إن عليك إلا البلاغ المبين إنك لم تكلف حفظ أعمالهم ومحاسبتهم عليها ، ولا أمر هدايتهم فتجيرهم على ذلك .
(3/427)
________________________________________
وقوله تعالى : في الآيى الثانية من هذا السياق ( 42 ) { الله يتوفى الأنفس } أي يقبض أرواحها { حين موتها } اي عند نهاية أجلها فيأمر تعالى ملك الموت فيخرج الروح بإذن الله ويقبضها ، { والتي لم تمت في منامها } أي يقبضها بمعنى يحبسها عن التصرف ، حال النوم ، فإن أراد موتها قبضها ولم يردها إلى جسدها ، وإن لم يرد وفاتها أرسلها فتعود غلى الجسد ويعيش صاحبها غلى الأجل المسمى له وهي نهاية عمره إن في ذلك القبض للروح والإِرسال والوفاة والإِحياء لآيات أي دلائل وحجج كلها قاضية بأن القادر على هعذا قادر على البعث والنشور الذي كذب به المشركون كما أن صاحب هذه القدرة العظيمة هو صاحب الحق المطلق في الطاعة والعبادة ولا تنبغي العبادة إلا له . وقوله { لقوم يتفكرون } وهم الأحياء بالإِيمان أما الأموات وهم الكافرون فلا يجدون في ذلك ىية ولا دليلاً وذلك لموتهم بالشرك والكفر .
وقوله تعالى : في الآية الثالثة ( 43 ) { أم اتخذوا من دون الله شفعاء } اي بل اتخذ المشركون الذين كان المفروض فيهم أن يهتدوا على الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة لو كانوا يتفكرون بدل أن يهتدوا غلى توحيد الله اتخذوا من دونه أوثانا سموها شفعاء يرجون شفاعتها لدى الله في قضاء حوائجهم . وذلك لجهلهم وسخف عقولهم . قال تعالى لرسوله : { قل أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون } أي قل لهم ايشفعون لكم ولو كانوا لا يملكون شيئاً من اسباب الشفاعة ومقتضياتها ولو كانوا لا يعقلون معنى الشفاعة ولا يفهمونه لأنهم اصنام وأحجار والاستفهام للتبكيت والتقريع . لو كان القوم يشعرون . ثم أمر تعالى رسوله أن يعلن عن الحقيقة وإن كانت عند المشركين مُرة { قل لله الشفاعة جميعا } اي جميع أنواع الشفاعة هي ملك لله مختصة به فلا يشفع أحد إلا بإذنه ، إذاً فاطلبوا الشفاعة من مالكها الذي له ملك السموات والأرض ، لا ممن مملوك له ، ولا يعقل حتى معنى الشفاعة ولا يفهمها وقوله ثم إليه ترجعون أي بعد الموت أحببتم أم كرهتم؟ فاتخذوا لكم بداً عنده بالإِيمان به وتوحيده في عبادته .
وقوله تعالى : { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة } هذا كشف عن حال المشركين ، وما هم عليه من الجهل والسفه إنهم إذا سمعوا لا إله إلا الله ينفرون وينقبضون ويظهر ذلك غضباً في وجوههم ، يكادون يسطون على من قال لا إله إلا الله ، وإذا ذكر الذين من دونه أي وإذا ذكر الأصنام التي يعبدونها من دون الله إذا هم يستبشرون فرحون مسرورون ، وهذا عائد إلى افتتانهم بأصنامهم ، ونسيانهم لحقوق ربهم عليهم وهي الإِيمان به وعبادته وحده مقابل ما خلقهم ورزقهم ودبر حياتهم ، ولكن أنى لأهل ظلمة النفس وانتكاس القلب أن يعوا ويفهموا؟ .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر والثبات في أصعب الظروف .
2- مظاهر قدرة الله في الموت والحياة مما يقتضي الإِيمان به وبلقائه وتوحيده .
3- إبطال حجة المشركين في عبادة الأوثان من أجل الشفاعة لهم إذ الشفاعة كلها لله .
4- بيان خطأ من يطلب الشفاعة من غير الله ، إذْ لا يملك الشفاعة إلا هو .
5- بيان سفه المشركين وضلالهم في غضبهم عند سماع التوحيد ، وفرحهم عند سماع الشرك .
(3/428)
________________________________________
قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)
شرح الكلمات :
{ قل اللهم فاطر السموات والأرض } : قل يا نبينا : يا الله يا خالق السموات والأرض .
{ عالم الغيب والشهادة } : أي يا عالم الغيب وهو كل ما غاب عن الأبصار والحواس والشهادة خلاف الغيب .
{ فيما كانوا فيه يختلفون } : أي من أمور الدين عقائد وعبادات .
{ ولو أن للذين ظلموا } : أي ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي .
{ وبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون } : أي وظهر لهم من عذاب الله ما لم يكونوا يظنونه .
{ وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } : وأحاط بهم العذاب الذي كانوا في الدنيا يستهزئون به .
معنى الآيات :
قوله تعالى : { قل اللهم } هذا إرشاد من الله تعالى لرسوله أن يفزع إليه بالدعاء والضراعة إذ استحكم الخلاف بينه وبين خصومه وضاق الصدر اي قل يا رسولنا يا الله { فاطر السموات والأرض } أي خالقها ، { عالم الغيب والشهادة } أي ما غاب عن الأبصار والحواس فلم يُدركْ ، والشهادة وهو ما رؤي بالأبصار وأدرك بالحواس { أنت تحكم بين عبادك } مؤمنهم وكافرهم { فيما كانوا فيه يختلفون } من الإِيمان بك وبلقائك وصفاتك وعبادتك ووعدك ووعيدك اهدني لما اختلفوا فيه من الحق باذنك إنك تهدي من تشاء غلى صراط مستقيم .
وقوله تعالى : { ولو أن للذين ظلموا } اي أنفسهم بالشرك وهو الظلم العظيم وبغشيان المعاصي والذنوب لو أن لهم عند معاينة العذاب يوم القيامة { ما في الأرض جميعاً } من أموال ونفائسها ومثله معه وقبل منهم الفداء { لافتدوا به من سوء العذاب } ولما تردَّدوا أبداً وهذا دالٌّ على شدَّة العذاب وأنه لا يطاق ولا يُحْتَمَل مع حرمانهم من الجنة ونعيمها .
وقوله تعالى : { وبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون } أي وظهر لهم أي لأولئك الذين إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم وإذا ذكرت الصنام فرحوا بذلك واستبشروا وبدا لهم من ألوان العذاب ما لم يكونوا يظنون ولا يحتسبون . وقوله تعالى : { وبدا لهم سيئات ما كسبوا } أي من الشرك والكفر والفسق والعصيان اي ظهر لهم وتجلى أمامهم فاشتد كربهم وعظم الأمر عندهم ، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون أي أحاط بهم وحدق عليهم العذاب الذي كانوا إذا ذكر لهم وعيداً وتخويفاً استزأوا به وسخروا منه وممن يذكرهم به ويخوفهم منه كالرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- مشروعية اللجوء إلى الله تعالى عند اشتداد الكرب وعظم الخلاف والدعاء بهذا الدعاء وهو « اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإِذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم » إذ ثبتت السنة به .
2- بيان عظم العذاب وشدته يوم القيامة وأن المرء لو يقبل منه فداء لافتدى منه بما في الأرض من أموال ومثله معه .
3- التحذير من الاستهزاء بأخبار الله تعالى ووعده ووعيده .
(3/429)
________________________________________
فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
شرح الكلمات :
{ فإذا مس الإِنسان ضر دعانا } : أي أصاب الإِنسان الكافر ضُر أي مرض وغيره مما يضره دعانا أي سأل كشف ضره .
{ ثم إذا خولناه نعمة منا } : ثم إذا خولناه أي أعطيناه نعمة منا من صحة أو مال وغيرهما .
{ قال إنما أوتيته على علم } : قال أي ذلك الكافر إنما أوتيت ذلك العطاء على علم من الله بأني استحقه .
{ بل هي فتنة } : أي تلك النعمة لم يعطها لأهليته لها ، وإنما أعطيها فتنةً واختباراً له .
{ ولكن أكثرهم لا يعلمون } : أي أن ما أعطوه من مال وصحة وعافية هو فتنة لهم وليس لرضا الله تعالى عنهم .
{ قد قالها الذين من قبلهم } : أي قال قولتهم من كان قبلهم كقارون فلم يلبثوا أن أخذوا فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون .
{ والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم } : أي والذين ظلموا بالشرك من هؤلاء اي من كفار قريش .
{ سيئات ما كسبوا } : أي كما أصاب من قبلهم وقد اصابهم قحط سبع سنين وقتلوا في بدر .
{ وما هم بمعجزين } : أي فائتين الله تعالى ولا غالبين له .
{ أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق } : أي أقالوا تلك المقالة ولم يعلموا أن الله يبسط الرزق .
{ لمن يشاء ويقدر } : أي يوسعه لمنيشاء امتحاناً ، ويضيقه ابتلاء .
{ إن في ذلك لايات لقوم يؤمنون } : أي إن في ذلك المذكور من التوسعة امتحاناً والتضييق ابتلاء لآيات أي علامات على قدرة الله وكمال تدبيره لأمور خلقه .
معنى الآيات :
ما زال السياق في بيان حيرة المشركين وفساد قلوبهم نتيجة كفرهم وجهلهم فقوله تعالى :
{ فإذا مس الإِنسان ضرٌّ دعانا } يعني ذاك الكافر الذي إذا ذكر الله وحده اشمأزَّت نفسه وإذا ذكرت الأوثان سُر وفرح واستبشر هذا الإِنسان إذا مسَّه ضرٌّ من مرض أو غيره مما يضر ولا يسر دعا ربَّه منيباً إليه ولم يشرك معه في هذه الحال أحداً لعلمه أن الأوثان لا تكشف ضراً ولا تعطي خيراً ، وإذا خوله الله تعالى نعمة من فضله ابتلاء له قال إنَّما أوتيت الذي أوتيت على علم من الله بأني أهل لذلك ، فأكذبه الله تعالى فقال بل هي فتنة ، ولكن أكثرهم أي أكثر المشركين لا يعلمون أن الله تعالى إذا أعطاهم إنما أعطاهم ليفتنهم لا لحبه لهم ولا لرضاً عنهم . والدليل على أن ذلك العطاء للمشركين فتنة لا غير أن قولتهم هذه قد قالها الذين من قبلهم كقارون وغيره فلم يلبثوا حتى أخذهم الله بذنوبهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون من أموال طائلة ، قال تعالى : فأصابهم سيئات ما كسبوا فلم يؤخذوا بدون ذنب بل أخذوا بذنوبهم وهو قوله تعالى فأصابهم سيئات ما كسبوا من الشرك والعناد والذين ظلموا من هؤلاء اي من كفار قريش سيصيبهم أيضاً سيئات ما كسبوا من الشرك والعناد والظلم ، وماهم بمعجزين لله فائتينه أبداً وكيف وقد أصابهم قحط سبع سنين وقتلوا واسروا في بدر والفتح .
(3/430)
________________________________________
وقوله تعالى أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر أي أقالوا مقالتهم تلك ولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء امتحاناً له ايشكر أم يكفر ويقدر أي يضيق على من يشاء ابتلاء له ايصبر أم يضجر ويسخط فلم يكن بسطه الرزق حباً في المبسوط له ، ولا التضييق كرهاً للمضيق عليه ، وإنما البسط كالتضييق لحكمة التربية والتدبير ، ولكن الكافرين لا يعلمون هذا فجهلهم بالحكم جعلهم يقولون الباطل ويعتقدونه أما المؤمنون فلا يقولون مقالتهم لعلمهم ونور قلوبهم فلذا هم يجدون الآيات في مثل هذا التدبير واضحة دالة على علم الله وحكمته وقدرته فيزدادون إيمانا ونوراً وبصيرة .
هداية الآيات :
1- بيان تتناقض أهل الكفر والجهل والضلال في كل حياتهم لأنهم يعيشون على ظلمة الجهل والكفر .
2- تقرير ما من مصيبة إلا بذنب جلي أو خفي كبير أو صغير .
3- بيان أن بسط الرزق وتضييقه على الأفراد أو الجماعات لا يعود إلى حُب الله للعبد أو كرهه له ، وإنما يعود لسنن التربية الإِلهية وحكم التدبير لشؤون الخلق .
4- أهل الإِيمان هم الذين ينتفعون بالآيات والدلائل لأنهم أحياء يبصرون ويعقلون أما أهل الكفر فهم أموات لا يرون الايات ولا يعقلونها .
5- تهديد الله تعالى للظالمين ووعيده الشديد بأنه سيصيبهم كما اصاب غيرهم جزاء ظلمهم وكسبهم الفاسد .
(3/431)
________________________________________
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)
شرح الكلمات :
{ يا عبادي الذين اسرفوا على أنفسهم } : أي أفرطوا في الجناية عليها بالإِسراف في المعاصي .
{ لا تقنطوا من رحمة الله } : أي لا تيأسوا من المغفرة لكم ودخول الجنة .
{ إن الله يغفر الذنوب جميعا } : أي ذنوب من اشرك وفسق إن هو تاب توبة نصوحا .
{ وأنيبوا إلى ربكم } : أي ارجعوا إليه بالإِيمان والطاعة .
{ وأسلموا له } : أي أخلصوا له أعمالكم .
{ واتبعوا أحسن من أنزل إليكم من : أي القرآن الكريم فأحلوا حلاله وحرموا حرامه .
ربكم } { أن تقول نفس يا حسرتى } : أي نفس الكافر والمجرم يا حسرتي أي ندامتي . { على ما فرطت في جنب الله } : أي في جانب حق الله فلم أطعه كما أطاعه غيري .
{ وإن كنت لمن الساخرين } : أي المستهزئين بدين الله تعالى وعباده المؤمنين .
{ لو أن لي كرة فأكون من : أي لو أن لي رجعة إلى الدنيا فأكون إذاً من المحسنين } المؤمنين الذين أحسنوا القصد والعمل .
{ بلى قد جاءتك آياتي } : أي ليس الأمر كما تزعم أنك تتمنَّى الهداية بل قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت .
معنى الآيات :
لقد صح أن أناسا كانوا قد اشركوا وقتلوا وزنوا فكبر عليهم ذلك وقالوا نبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يساله لنا هل لنا من توبة فإن قال : نعم ، وإلا بقينا على ما نحن عليه وقبل أن يصل رسولهم نزلت هذه الآية { قل يا عبادي الذين اسرفوا على أنفسهم } أي أفرطوا في ارتكاب الجرائم فكانوا بذلك مسرفين على أنفسهم { لا تقنطوا } اي لا تيأسوا { من رحمة الله } في أن يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم الجنة ، إن أنتم تبتم إليه وأنبتم { إن الله يغفر الذنوب جميعاً } لمن تاب منها فإنه تعالى لا يستعصي عليه ذنب فلا يقدر على مغفرته وعدم المؤاخذة عليه إنه هو الغفور الرحيم .
وقوله تعالى : { وأنيبوا إلى ربكم واسلموا له من قبل أن يأتيكم ثم لا تنصرون } أي أيها المذنبون المسرفون أنيبوا غلى ربكم أي ارجعوا إلى طاعته بفعل المأمور وترك المنهي وأسلموا له اي أخلصوا أعمالكم ظاهراً وباطناً مبادرين بذلك حلول العذاب قبل أن يحل بكم ثم لا تنصرون اي لا تقدرون على منعه منكم ولا دفعه عنكم .
{ واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } في هذا القرآن العظيم فامتثلوا الأمر واجتنبوا النهي وخذوا بالعزائم واتركوا الرخص مبادرين بذلك ايضا حلول العذاب قبل أن يحل بكم بغتة أي فجأة وأنتم لا تشعرون به ، بادروا بالتوبة والإِنابة والإِسلام الصادق ظرفاً تقول فيه النفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله اي يا حسرتي يا ندامتى الحاملة لي الغم والحزن احضري هذا وقت حضورك على تفريطي في جانب حق الله تعالى حيث ما عبدته حق عبادته فلا ذكرته ولا شكرت له { وإن كنت لمن الساخرين } اي المستهزئين بدينه وعباده المؤمنين يا له من اعتراف يودي بصاحبه في سواء الجحيم ، بادروا يا عباد الله هذا وذاك { أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لِى كرة } اي رجعة إلى الحياة الدنيا { فأكون من المحسنين } اي المؤمنين الذين أحسنوا النية والقصد والعمل .
(3/432)
________________________________________
قال تعالى : راداً على تمنياتهم الكاذبة { بلى } اي ليس الأمر كما زعمت أيها المتمني بقولك { لو أن الله هداني لكنت من المتقين } للشرك والمعاصي التي وقعت بها في جهنم بل جاءتك آياتي هادية لك مرشدة فكذبت بها واستكبرت عن العمل بما جاء فيها وكنت من الكافرين بذلك .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان فضل الله ورحمته على عباده بقبول توبة العبد إن تاب مهما كانت ذنوبه .
2- دعوة الله الرحيم إلى عباده المذنبين - بالإنابة إليه والإِسلام الخالص له .
3- تقرير البعث والجزاء بذكر ما يحدث فيه وما يجرى في ساحته من أهوال .
4- وجوب تعجيل التوبة والمبادرة بها قبل حلول العذاب في الدنيا أو الموت والموت أدهى وأمر حيث لا تقبل توبة بعد الموت أبداً .
5- الترغيب في الأخذ بالعزائم وترك الرخص لغير ضرورة .
6- إبطال مذهب الجبرية الذين يرون أنهم مجبورون على فعل المعاصي وغشيان الذنوب ، كقول أحدهم لو أن الله هداني لفعلت كذا أو تركت كذا .
7- فضل التقوى والإِحسان وفضل المتقين والمحسنين .
(3/433)
________________________________________
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
شرح الكلمات :
{ ويوم القيامة } : أي بأن يبعث الناس من قبورهم .
{ ترى الذين كذبوا على الله } : أي باتخاذ أولياء من دونه وبالقول الكاذب عليه سبحانه وتعالى .
{ وجوههم مسودة } : أي سوداء من الكرب والحزن وعلامة على أنهم من هل النار وأنهم ممن كذبوا على ربهم .
{ أليس في جهنم مثوى : أي أليس في جهنم مأوى ومستقر للمتكبرين؟ بلى إن لهم للمتكبرين } فيها لمثوى بئس هو من مثوى للمتكبرين عن عبادة الله تعالى .
{ وينجي الله الذين اتقوا } : أي ينجيهم من النار بسبب تقواهم للشرك والمعاصي .
{ بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا : أي بفوزهم بالجنة ونزولهم فيها لا يمسهم السوء اي العذاب هم يحزنون } ولا هم يحزنون لما نالهم من النعيم .
{ له مقاليد السموات والأرض } : أي مفاتيح خزائن السموات والأرض .
{ أولئك هم الخاسرون } : أي الخاسرون لأنفسهم وأهليهم يوم القيامة .
{ قل أفغير الله تأمروني أعبد } : قل يا رسولنا للذين طلبوا منك أن تعبد معهم آلهتهم أتأمروني بعبادة غير الله ، فهل تصلح العبادة لغيره وهو رب كل شيء وإلهه فما أسوأ فهمكم ايها الجاهلون .
{ لئن اشركت } : أي من باب الفرض لو اشركت بالله غيره في عبادته لحبط عملك ولكنت من الخاسرين .
{ بل الله فاعبد وكن من : أي بل أعبد الله وحده ، إذ لا يستحق العبادة إلاَّ هو وكن من الشاكرين } الشاكرين له على إنعامه عليك بالنبوة والرسالة والعصمة والهداية .
معنى الآيات :
لقد تقدم في السياق الأمر بتعجيل التوبة قبل الموت فيحصل الفوت ، وذلك لأن يوم القيامة يوم أهوال وتغير أحوال وفي الآيتين الآتيتين بيان ذلك قال تعالى : { ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله } بأن نسبوا غليه الولد والشريك والتحليل والتحريم وهو من ذلك براء هؤلاء { وجوههم مسودة } علامة أ ، هم كفروا وكذبوا وأنهم من أهل النار .
وقوله تعالى : { أليس في جهنم مثوى للمتكبرين } اي بلى في جهنم مأوى ومستقر للمتكبرين الذين تكبروا عن الإِيمان والعبادة . وقوله تعالى : { وينجي الله اي تلك حال وهذه أخرى وهي أن الله تعالى ينجي يوم القيامة الذين اتقوا الشرك والمعاصي بالإِيمان والطاعة هؤلاء بفوزهم بالجنة لا يمسهُّم السوء في عرصات القيامة ، ولا هم يحزنون على ما خلَّفوا وراءهم في الدنيا لأن ما نالهم من نعيم الجنة أنساهم ما تركوا وراءهم وقوله تعالى : { الله خالق كل شيء } أي ما من كائن سوى الله تعالى إلا وهو مخلوق والله خالقه { وهو على كل شئ وكيل } اي يم حافظ ، فسبحانه ما أعظم قدرته وما أوسع علمه فلذا وجبت له العبادة ولم تجز فضلا عن أن تجب لسواه .
وقوله تعالى : { له مقاليد السموات والأرض } اي له ملكا حقاً مفاتيح خزائن الرحمات والخيرات والبركات فهو يفتح ما يشاء ويمسك ما يشاء فلا يصح الطلب إلا منه ولا تجوز الرغبة إلا فيه وما عبد الناس الأوثان والصنام إلا رغبة ورهبة فلو علموا أن رهبتهم لا تكون إلا من الذي يقدر على كل شيء وأن رغبتهم لا تكون إلا في الذي بيده كل شيء لو علموا هذا ما عبدوا غير الله تعالى بحال .
(3/434)
________________________________________
وقوله تعالى { والذين كفروا بآيات الله } الحاوية لإِيمانه وصفاته وبيان محابه ومكارهه وحدوده وشرائعه ولذا من كفر بآيات الله فلم يؤمن بها ولم يعمل بما فيها خسر خسراناً مبيناً بحيث يخسر يوم القيامة نفسه وأهله ، وذلك هو الخسران المبين .
وقوله تعالى : { قل أفغير الله } الاية هذا ردَّ على المشركين الذين طلبوا من الرسول أن يعترف بىلهتهم ويرضى بها مقابل أن يعترفوا له بما جاء به ويدعو إليه فأمر تعالى أن يفاصلهم بقوله : { أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } لن يكون هذا مني أبداً كيف أعبد غير الله وهو ربي ومالك أمري وهو الذي كرمني بالعلم به وأوحى غليَّ شرائعه . فلتياسوا فإن مثل هذا لن يكون أبداً ، ووصفهم بالجهل لأن جهلهم بالله وعظمته هو الذي سول لهم عبادة غيره والتعصب لها .
وقوله تعالى : { ولقد أوحى إليك أي أوحى الله إليك كما أوحى إلى الأنبياء من قبلك بالتالي وهو وعزة الله وجلاله { لئن اشركت } بنا غير نافي في عبادتنا ليحبطن عملك أي يبطل كله ولا تثاب على شيء منه وإن قل ، ولتكونن بعد ذلك من جملة الخاسرين الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة وذلك هو الخسران المبين . ثم أمر تعالى رسوله مقرراً التوحيد مبطلاً الشرك بقوله : { بل الله فاعبد وكن من الشاكرين } اي الله وحده فاعبده وكن من الشاكرين له على إنعامه وأفضاله عليك .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- إسوداد الوجه يوم القيامة علامة الكفر والخلود في جهنم .
2- ابيضاض الوجوه يوم القيامة علامة الإِيمان والخلود في الجنة .
3- تقرير البعث والجزاء بوصف أحواله وما يدور فيه .
4- بيد الله كل شيء فلا يصح أن يطلب شيء من غيره ابداص ، ومن طلب شيئاً من غير الله فهو من أجهل الخلق .
5- التنديد بالشرك وبيان خطورته إذْ هو محبط للأعمال بالكلية .
6- وجوب عبادة الله بفعل أوامره واجتناب نوهيه ووجوب حمده وشكره إذ كل إنعام منه وكل إفضال له . فلله الحمد والمنة .
(3/435)
________________________________________
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)
شرح الكلمات :
{ وما قدروا الله حق قدره } : أي ما عظموا الله حق عظمته ولا عرفوه حق معرفته حين أشركوا في عبادته غيره من أوثانهم .
{ والأرض جميعا قبضته } : أي والأرض بجميع أجزائها قبضته .
{ والسموات مطويات } : أي والسموات السبع مطويات بيمينه .
{ سبحانه وتعالى عما يشركون } : أي تقدس وتنزه عما يشرك به المشركون من أوثان .
{ ونفخ في الصور } : أي نفخ اسرافيل نفخة الصعق .
{ ثم نفخ فيه اخرى } : أي مرة أخرى وهي نفخة القيام لرب العالمين .
{ واشرقت الأرض بنور ربها } : أي أضاءت الأرض بنور الله تعالى حين يتجلى لفصل القضاء .
{ ووضع الكتاب } : أي كتاب الأعمال للحساب .
{ وجيئ بالنبين والشهداء } : أي لانبيين ليشهدوا على أممهم ، والشهداء محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمته .
{ وقضي بينهم بالحق } : أي بالعدل وهم لا يظلمون لا بنقص حسناتهم ولا بزيادة سيئاتهم .
{ وهو أعلم بما يفعلون } : أي أعلم حتى من العاملين أنفسهم .
معنى الآيات :
قوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره } إنه بعد أن قرر تعالى التوحيد وندد بالشرك والمشركين أخبر تعالى ناعياً على المشركين شركهم ودعوتهم نبيه للشرك بأنهم بفعلهم ذلك ما قدروا الله حق قدره اي ما عظموه حق عظمته وذلك لجهلهم به تعالى حين عبدوا معه غيره ودعوا نبيه إلى ذلك ، وقوله : { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه } فالذي يجعل الأرض بكل طبقاتها وأجزائها في قبضته والسموات يطويها بيمينه فالسموات والأرض جميعا في يده ، ويقول أنا الملك أين الملوك . فصاحب هذه القدرة العظمى كيف يعبد معه آلهة أخرى هي أصنام وتماثيل أوثان . ولذا نزه تعالى نفسه بقوله { سبحانه } أي تنزه وتقدس عن الشريك والنظير والصاحبة والولد وعن صفات المحدثين ، وتعالى عما يشركون أي ترفع عن أن يكون له شريك وهو رب كل شيء ومليكه .
وقوله تعالى : ونفخ في الصور الآية هذا عرض لمظاهر القدرة التي يتنافى معها عقلاً وجود من يستحق العبادة معه سبحانه وتعالى ، والنافخ في الصور اي البوق اسرافيل قطعا إذْ هو الموكل بالنفخ في الصور فإذا نفخ هذه النفخة صعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، فهذا استثناء دال على أن بعضا من المخلوقات لم يصعق في هذه النفخة ، { ثم نفخ فيه } اي في الصور نفخة { أخرى فإذا هم قيام ينظرون } هذه النفخة تسمى نفخة القيام لله رب العالمين لأجل الحساب وقوله تعالى : { وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب } اي كتاب الأعمال للحساب { وجيء بالنبيّين } ليشهدوا على أممهم وجيء بالشهداء وهم أمة محمد يشهدون على الأمم السابقة بأن رسلها قد بلغتهم دعوة الله ، وشهادة أمة محمد قائمة على ما أخبرهم تعالى في كتابه القرآن الكريم أن الرسل قد بلغت رسالات ربها لأممها ، ويدل لهذا قوله تعالى :
(3/436)
________________________________________
{ وكذلك جعلناكم أمة وسطا } اي خياراً عدولا { لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً } وقوله : { وقضي بينهم بالحق } اي وحكم الله تعالى بين العباد بالعدل ، ووفي كل نفس ما عملت من خير أو شر ، وهو تعالى أعلم بما يفعلون حتى من العاملين أنفسهم ولذا سيكون الحساب عادلاً لا حيف فيه لخلوه من الخطأ والغلط والجهل والنسيان لتنزه البارئ عز وجل عن ذلك .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان مظاهر عظمة الرب تعالى التي يتنافى معها الشرك به عز وجل في عباداته .
2- تقرير البعث والجزاء بيان أحواله وما يجري .
3- بيان عدالة الله في قضائه بين عباده في عرصات القيامة .
4- فضيلة هذه الأمة بقبولها شاهدة على الأمم التي سبقتها .
(3/437)
________________________________________
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
شرح الكلمات :
{ وسيق الذين كفروا } : أي وساق الملائكة بعنف الذين كفروا .
{ إلى جهنم زمراً } : أي جماعات ، جماعة المشركين ، وجماعة المجرمين وجماعة الظالمين .
{ وقال لهم خزنتها } : أي الموكلون بالنار من الملائكة الواحد خازن .
{ الم يأتكم رسل } : هذا الاستفهام للتقرير والتوبيخ .
{ حقت كلمة العذاب } : أي وجب العذاب للكافرين .
{ وسيق الذين اتقوا } : أي وساقت الملائكة بلطف على النجائب الذين اتقوا ربهم أي أطاعوه ولم يشركوا به .
{ وفتحت أبوابها } : أي والحال أن أبواب الجنة قد فتحت لاستقبالهم .
{ والحمد لله الذي صدقنا وعده } : أي أنجز لنا وعد بالجنة .
{ وأورثنا الأرض } : أي ارض الجنة وصورة الإِرث نظراً إلى قوله تعالى في وعده لهم تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً .
{ نتبوأ من الجنة حيث نشاء } : أي ننزل من حيث نشاء .
{ فنعم أجر العاملين } : أي الجنة .
{ حافين من حول العرش } : أي مُحدقين بالعرش من كل جانب .
{ يسبحون بحمد ربهم } : أي يقولون سبحان الله وبحمده .
{ وقضي بينهم بالحق } : أي وقضي الله بمعنى حكم بين جميع الخلائق بالعدل .
{ وقيل الحمد لله رب العالمين } : أي وقالت الملائكة والمؤمنون الحمد لله رب العالمين على استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار .
معنى الآيات :
بعد الفراغ من الحكم على أهل الموقف وذلك بأن حكم تعالى فيهم بحسب عملهم فوفّى كل عامل بعمله منكفر ومعاصٍ ، أو إِيمان وطاعة قال تعالى مخبراً عن مصير الفريقين { وسيق الذين كفروا } اي ساقتهم الملائكة بشدة وعنف لأنهم لا يريدون الذهاب { إلى جهنم زمراً } أي جماعات ولفظ الزمرة مشتق من الزمر الذي هو الصوت إذ الغالب في الجماعة أن يكون لها صوت . وقوله تعالى : { حتى إذا جاءها فتحت أبوابها } إذ كانت مغلقة كأبواب السجون لا تفتح غلا عند المجيء بالسجناء ، { وقال لهم خزنتها } قبل الوصول إليها موبخين لهم { ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم } اي المبينة لكم الهدى من الضلال والحق من الباطل ، وما يحب ربكم من العقائد والأقوال والأعمال والصفات والذوات وما يكره من ذلك ، ويدعوكم إلى فعل المحاب لتنجوا وترك المكاره لتنجوا وتسعدوا . فأجابوا قائلين بلى أي جاءتْنا بالذي قلتم ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين ونحن منهم فوجب لنا العذاب ، وعندئذ تقول لهم الملائكة ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها ، فبئس اي جهنم مثوى المتكبرين اي قبح مأوى المتكبرين في جهنم من مأوى .
وقوله تعالى : { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة } وسوقهم هو سوق النجائب التي يركبونها فهو سوق لطف وتكريم إلى الجنة دار السلام زمراً زمرة الجهاد وزمرة الصدقات وزمرة العلماء وزمرة الصلوات . . . . { حتى إذا جاؤها } وقد فتحت أبوابها من قبل لاستقبالهم مُعَزَزين مكرمين ، فقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم أي طابت أرواحكم بأعمالكم الطيبة فطاب مقامكم في دار السلام فنعم التحية حيوا بها مقابل تأنيب وتوبيخ الزبانية لأهل النار .
(3/438)
________________________________________
وقوله لهم فادخلوها أي الجنة حال كون خلودكم مقدراً لكم يها . فقالوا بعد دخولهم ونزولها في قصورها الحمد لله الذي صدقنا وعده يعنون قوله تعالى : { تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا } وقولهم { وأورثنا الأرض } أي أرض الجنة نتبوأ نها حيث نشاء أي ننزل منها حيث نريد النزول ، وفي قولهم أورثنا الأرض غشارة إلى أنهم ورثوها من ابويهم آدم وحواء إذ كانت لهم قبل نزولهما منها . وقولهم فنعم أجر العالملين اي الجنة والمراد من العمل الإِيمان والتقوى في الدنيا بأداء الفرائض واجتناب النواهي وقوله تعالى : { وترى الملائكة } أيها الرائي { حافين من حول العرش } اي محدقين بعرض الرحمن أي سريره { يسبحون بحمد ربهم } أي قائلين : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم . قال تعالى مخبراً عن نهاية الموقف :
{ وقضي بينهم بالحق } أي وقضى الله بين الخلائق بالعدل ، ولما استقر أهل النار وأهل الجنة حُمدَ الله على الاستقرار التام والحكم العادل الرحيم وقيل الحمد لله رب العالمين أي حمدت الملائكة ربها وحمده معهم المؤمنون وهم في دار النعيم المقيم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان إهانة أهل النار بسوقهم على أرجلهم بعنف وتأنيبهم وتوبيخهم .
2- التنديد بالاستكبار عن عبادة الله تعالى ، وعبادة المؤمنين به ، المتقين له .
3- بيان اكرام الله تعالى لأوليائه إذ يُحملون على نجائب رحالها من ذهب إلى الجنة ، ويلقون فيها تحية وسلاما . تحية احترام وإكرام ، وسلام أمان من كل مكروه .
4- بيان نهاية الموقف باستقرار أهل النار من الكفار والفجار في النار ، واستقرار أهل الجنة من المؤمنين الاتقياء الأبرار في الجنة دار الأبرار .
5- ختم كل عمل بالحمد فقد ابتدأ الله الخالق بالحمد فقال الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ، وختم بالحمد ، وقيل الحمد لله رب العالمين .
(3/439)
________________________________________
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)
شرح الكلمات :
{ حم } : هذا أحد الحروف المقطعة يكتب هكذا : حم ويقرأ هكذا : حا مِيْم .
{ تنزيل الكتاب من الله } : أي تنزيل القرآن كائن من الله .
{ العزيز العليم } : أي الغالب على مراجه ، العليم بعباده ظاهراً وباطنا حالاً ومآلا .
{ غافر الذنب } : أي ذنب من تاب غلى الله فرجع غلى طاعته بعد معصيته .
{ شديد العقاب ذي الطوف : أي مشدد العقوبة على من كفر به ، ذي الطول اي الإِنعام الواسع على من آمن به وأطاعه .
{ لا إله إلا هو إليه المصير } : أي لا معبود بحق إلا هو غليه مرجع الخلائق كلهم .
{ ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } : أي في القرآن لإِبطالها إلا الكافرون .
{ فلا يغررك تقلبهم في البلاد } : أي فلا تغتر بمعاشهم سالمين فإِن عاقبتهم النار .
{ والأحزاب من بعدهم } : أي وكذبت الأحزاب من بعد قوم نوح ، وهم عاد وثمود وقوم لوط .
{ وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه } : أي ليتمكنوا من إصابته بما أرادوا من تعذيب وقتل .
{ وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق } : أي ليزيلوا به الحق ويبطلوه .
{ فكيف كان عقاب } : أي كان واقعاً موقعه حيث أهلكهم ولم يبق منهم أحداً .
{ كذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا } : أي وجبت كلمة العذاب على الذين كفروا .
معنى الآيات :
قوله تعالى : حم : الله أعلم بمراده به .
وقد ذكرنا غير ما مرة أن هذه الحروف أفادت فائدتين الأولى أن العرب المشركين في مكة كانوا قد منعوا المواطنين من سماع القرآن حتى لا يتأثروا به فيكفروا بآلهتهم فقد أخبر تعالى عنهم في قوله من سورة فصلت فقال : { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } فكانت هذه الحروف المقطعة بنغمها الخاص تستهويهم فيسمعوا فكانت فائدة عظيمة . والثانية أن المشركين لما أصروا على أن القرآن لم يكن وحياً وإنما هو من جنس ما يقوله الشعراء والكهان ، وأصحاب الأساطير تحداهم الله تعالى بالإِتيان بمثله وهو مركب ومؤلف من هذه الحروف آلم طس حم والذي قوى هذه النظرية أنه غالبا ما يذكر القرآن بعد ذكر هذه الحروف مثل آلم تلك ىيات الكتاب ، حم تنزيل الكتاب ، حم والكتاب المبين فهاتان الفائدتان من أحسن ما استنبطه ذو الشأن في تفسير القرآن ، وما عدا ذلك فلا يحسن روايته لخلوه من فائدة معقولة ، ولا رواية عن الرسول واصحابه منقولة .
وقوله تعالى : { تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم } يخبر تعالى أنه عز وجل هو مصدر هذا القرآن إذ هو الذي نزله تنزيلاً على عبده ورسوله ، ووصف نفسه بالعزة والعلم فقال العزيز أي في انتقامه من أعدائه الغالب على أمره ومراده فلا يحال بينه وبين ما يريده العليم بخلقه وحاجاتهم ومتطلباتهم ، فأنزل الكتاب لهدايتهم وغصلاحهم . وقوله : { غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول } أعلم أنه تعالى يغفر ذنب المستغفرين ويقبل توبة التائبين وأنه شدد العقوبة على من كفر به وعصاه .
(3/440)
________________________________________
وقوله ذي الطول اي الإِنعام الواسع والفضل العظيم { لا إله إلا هوؤ أي لا معبود بحق غلا هو العزيز الحكيم العزيز الغالب على أمره الحكيم في تدبير خلقه .
لما أثنى تبارك وتعالى على نفسه بما هو أهله أخبر رسوله بأنه { ما يجادل في آيات الله } القرآنية الحاوية للحجج القواطع والباهين السواطع على توحيد الله ولقائه وعلى نبوة رسول الله ما يجادل فيها { إلا الذين كفروا } وذلك لظلمة نفوسهم وفساد قلوبهم ، وعليه فاصبر ولا تغتر بظاهر ما هم عليه من سعة الرزق وسلامة البدن ، وهو معنى قوله : { فلا يغررك تقلبهم في البلاد } أي آمنين معافين في أبدانهم وأرزاقهم فإنهم ممهلون لا مهملون ، والدليل فقد كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعد قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط واصحاب مدين وفرعون ، وقد همت كل أمة من تلك الأمم برسولها لتأخذه فتقتله أو تنكل به . وقد جادلوا بالباطل كما جادل . قومك من قريش ليدحضوا به الحق اي ليزيلوه ويبعدوه بباطلهم . فأخذتهم فكيف كان عقاب أي كان واقعاً موقعه والحمد لله إذ قطع الله دابرهم وأ ، هى وجودهم وخصومتهم .
وقوله { وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم اصحاب النار } أي كما وجب حكمه بإهلاك تلك الأمم المكذبة لرسلها الهامة بقتلها وقد أهلكهم الله فعلاً حقت كلمة ربك على الذين كفروا لأنَّهم اصحاب النار والمراد من كلمة ربك لأملأن جهنم الآية .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير أن القرآن الكريم مصدر تنزيله هو الله تعالى إذ هو الذي أوحاه ونزله على رسول محمد صلى الله عليه وسلم وبذلك تقررت نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم .
2- بيان عظمة الرب تعالى المتجلية في أسمائه العزيز العليم الحكيم ذي الطول غافر الذنب قابل التوب لا إله إلا هو .
3- تقرير التوحيد والبعث والجزاء .
4- تقرير مبدا أن الله تعالى يمهل ولا يهمل ، وأن بطشه شديد .
(3/441)
________________________________________
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
شرح الكلمات :
{ الذين يحملون العرش } : أي الملائكة حملة العرش .
{ ومن حوله } : أي والملائكة الذي يحفون بالعرش من جميع جوانبه .
{ يسبحون بحمد ربهم } : أي يقولون سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم هذه صلاتهم وتسبيحهم .
{ ويؤمنون به } : كيف لا وهم عنده ، ولكن هذا من باب الوصف بالكمال لهم .
{ ويستغفرون للذين آمنوا } : أي يطلبون المغفرة للمؤمنين لرابطة الإِيمان بالله التي تربطهم بهم .
{ ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما } : أي يقولون يا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما .
{ فاغفر للذين تابوا واتبعوا : أي فبما أن رحمتك وعلمك وسعا كل مخلوقاتك فاغفر سبيلك } للذين تابوا إليك فعبدوك ووحدوك واتبعوا سبيلك الذي هو الإِسلام .
{ وقهم عذاب الجحيم } : أي احفظهم من النار فلا تُعذّبهم بها .
{ جنات عدن } : أي بساتين فيها قصور وأنهار للإِقامة الدائمة .
{ التي وعدتهم } : أي بقوله تعالى : إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتهم الأنهار .
{ ومن صلح من آبائهم } : أي ومن صلح بالإِيمان ولم يفسد بالشرك والكفر .
{ وقهم السيئات } : أي احفظهم من جزاء السيئات التي عملوها فلا تؤاخذهم بها .
{ ومن تق السيئات يومئذ } : أي ومن تقه جزاء سيئاته يوم القيامة فلم تؤاخذه .
{ فقد رحمته } : أي حيث سترته ولم تفضحه وعفوت عنه ولم تعذبه .
{ وذلك } : أي الوقاية من العذاب وإدخال الجنة هو الفوز العظيم .
معنى الآيات :
قوله تعالى : { الذين يحملون العرش } يخبر تعالى عن عظمته وموجبات الإِيمان به وبآياته وتوحيده ولقائه فيقول الذي يحملون العرش أي عرشه من الملائكة كالملائكة الذين يحفون بعرشه الجميع { يسبحون بحمد ربهم } تسبيحاً مقروناً بالحمد بأن يقولوا سبحان الله وبحمده ويؤمنون به اي يؤمنون بوحدانيته وعدم الإِشراك في عبادته { ويستغفرون للذين آمنوا } لرابطة الإِيمان التي ربطتهم بهم ولعل هذا السرَّ في ذكر غيمانهم لأن المؤمنين إخوة واستغفارهم هو طلب المغفرة من الله للمؤمنين من عباده . وهو معنى قوله : { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما أي يقولون متوسلين إليه سبحانه وتعالى بصفاته { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً } أي يا ربنا وسعت رحمتك وعلمك سائر المخلوقات فاغفر للذين تابوا أي إليك فتركوا الشرك واتبعوا سبيلك الذي هو الإِسلام فانقادوا لأمرك ونهيك ، وقهم عذاب الجحيم أي احفظهم يا ربنا من عذاب النار وأدخلهم جنات عَدْنٍ أي إقامة من دخلها لا يخرج منها ولا يبغي عنها حولا لكمال نعيمها ووفرة السعادة فيها . ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذريَّتهم أي وادخل كذلك من صلح بالإِيمان والتوحيد من ىبائهم وأزواجهم وذريَّاتهم فألحقهم بدرجاتهم ليكونوا معهم وإن قصرت بهم أعمالهم . وقولهم إنك أنت العزيز الحكيم توسل أيضاً إليه تعالى بصفتي العزة والغلبة والقهر لكل المخلوقات والحكمة المتجلية في سائر الكائنات . وقوله : { وقهم السيئات } أي واحفظهم من جزاء سيئاتهم بأن تغفرها لهم وتسترها عليهم حتى يتأهّلوا للحاق بأبنائهم الذين نسالك أن تلحقهم بِهِمْ ، { ومن تق السيئات يومئذ } اي يوم القيامة { فقد رحمته } ، { وذلك هو الفوز العظيم } أي النجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم لقوله تعالى :
(3/442)
________________________________________
{ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } ومعنى ومن تق السيئات اي تقيه عذابها وذلك بأن يغفرها لهم ويعفو عنهم فلا يؤاخذهم بها ، فينجوا من النار ويدخلوا الجنة وذلك اي النجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان عظم الرب تعالى .
2- بيان فضل الإِيمان وأهله .
3- فضل التسبيح بقول : سبحان الله وبحمده فقد صح أن من قالها مائة مرة حين يصبح أو حين يمسي غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر أي في الكثرة .
4- بشرى المؤمنين بأن الله تعالى يجمعهم بآبائهم وأزواجهم وذرياتهم في الجنة ، وقد استجاب الله للملائكة وقد أخبر تعالى عن ذلك بقوله : { والذين آمنوا واتبعتهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم . . }
(3/443)
________________________________________
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
شرح الكلمات :
{ ينادون لمقت الله } : أي تناديهم الملائكة لتقول لهم لمقت الله إياكم أكبر من مقتكم أنتم لأنفسكم ، والمقت أشد البغض .
{ إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون } : أي مقت الله تعالى لكم عندما كنتم في الدنيا تدعوْن إلى الإِيمان فتكفرون اكبر من مقتكم أنفسكم اليوم لما رأيتم العذاب .
{ أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } : أي أمتنا مرتين الأولى عندما كنا عدماً فخلقتنا ، والثانية عندما أمتنا في الدنيا بقبض أرواحنا ، وأحييتنا مرتين الأولى لما أخرجتنا من بطون أمهاتنا أحياء فهذه مرة والثانية بعد أن بعثتنا من قبورنا أحياء .
{ فاعترفنا بذنوبنا } : أي بذنوبنا التي هي التكذيب بآياتك ولقائك والشرك بك .
{ فهل إلى خروج من سبيل } : أي فهل من طريق إلى العودة إلى الحياة الدنيا مرة ثانية لنؤمن بك ونوحدك ونطيعك ولا نعصيك .
{ ذلكم } : أي العذاب الذي أنتم فيه .
{ بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم } : أي بسبب أنه إذا دعي الله وحده كفرتم بالتوحيد .
{ يريكم آياته } : أي دلائل توحيده وقدرته على بعثكم ومجازاتكم .
{ وما يتذكر إلا من ينيب } : أي وما يتعظ إلا من ينيب إلى الله ويرجع إليه بتوحيده .
{ يلقي الروح من أمره } : أي يلقي بالوحي من أمره على من يشاء من عباده .
{ لينذر يوم التلاق } : أي لينذر من يوحي إليه من البشر وهو الرسول يوم تلاقي أهل السماء وأهل الأرض وذلك يوم القيامة .
{ يوم هم بارزون } : أي لا يسترهم شيء لا جبل ولا شجر ولا حجر .
{ لمن الملك اليوم } : أي لمن السلطان اليوم .
معنى الآيات :
بعد أن بين تعالى حال المؤمنين وأنهم هم وأزواجهم وذرياتهم في دار النعيم بين في هذه الآيات الثلاث حال الكافرين في النار جريا على أسلوب القرآن في الترغيب والترهيب فقال تعالى مخبراً عن أهل النار : { إن الذين كفروا } اي بربهم ولقائه وتوحيده ينادون اي تناديهم الملائكة فتقول لهم -بعد أن يأخذوا في مقت أنفسهم ولعن بعضهم بعضا- { لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم } وذلك لأنكم كنتم تدعون إلى الإِيمان بالله وتوحيده وطاعته فتكفرون وتجحدون متكبرين .
وهنا في الآية الثانية ( 10 ) يقولون وهم في جهنم { ربنا } أي يا ربنا رأمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } يعنون بالموتتين الأولى وهم نطف ميتة والثانية بقبض أرواحهم عند نهاية آجالهم ، ويعنون بالحياتين الأولى التي كانت لهم في الدنيا قبل موتهم والثانية التي بعد البعث ، وقولهم : { فاعترفنا بذنوبنا } أي التي قارفناها في الحياة الدنيا وهي الكفر والشرك والمعاصي .
وقولهم بعد هذا الاعتذار { فهل إلى خروج من سبيل } أي فهل من طريق غلى الخروج من النار والعودة غلى الحياة الدنيا لنْصلح ما أفسدنا ، ونطيع من عصينا؟ والجواب قطعاً لا سبيل إلى ذلك أبداً ، وبقاؤكم في العذاب ليس ظلماً لكم وإنما هو جزاء وفاق لكم ذكر تعالى علة عذابهم بقوله { ذلكم بأنه إذا دُعي الله وحده كفرتم } بالله وتوحيده { وإن يشرك به تؤمنوا } اي وإن يشرك بالله تؤمنوا كقولهم لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملك وما ملك وقوله فالحكم لله العلي الكبير ، وقد حكم بعذابكم فلا سبيل إلى نجاتكم .
(3/444)
________________________________________
فامقتوا أنفسكم ونوحوا على أرواحكم فما ذلك بمجديكم ولا بمخفف العذاب عنكم . وقوله تعالى : { هو الذي يريكم آياته } هذا خطاب للناس في هذه الحياة الدنيا خطاب لمشركي قريش بعد أن عرض عليهم صورة صادقة حية لحالهم في جهنم يوم القيامة عاد يخاطبهم داعياً لهم غلى الإِيمان فقال هو اي المعبود بحق الله الذي يريكم آياته أي حججه ودلائل وحدانيته وقدرته على بعثكم ومجازاتكم { وينزل لكم من السماء رزقاً } من المطر وغيره . ومع ذاك البيان وهذا الإِفصال ، { وما يتذكر إلا من ينيب } أي فلا يتعظ إلا من شأنه الإِنابة إلى ربه تعالى في كل شأنه .
وقوله تعالى : { فادعوا الله مخلصاً له الدين } هذا خطاب للموحدين يأمرهم تعالى بالاستمرار على توحيد الله في عباداته والاخلاص لله تعالى في كل أعمالهم ، ولو كره الكافرون ذلك منهم فإنه غير ضائرهم .
وقوله تعالى : { رفيع الدرجات ذو العرش } اي هو الله ذو الدرجات الرفيعة والعرش العظيم { يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده } أي يلقي بالوحي من أمره الذي يريد إنفاذه إلى خلقه على من يشاء من عباده ممن يصطفيهم وينبئهم من اجل أن ينذروا عباده يوم التلاقي وهو يم القيامة إذ يلتقي أهل الأرض بأهل السماء والمخلوقات بخالقهم وهو قوله { لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون } من قبورهم لا شيء يسترهم ، { لا يخفى على الله منهم شيء } وفي هذا الموقف العظيم يقول الجبار سبحانه وتعالى : { لمن الملك اليوم } ؟ فلا يجيبه أحد رهبة منه وخوفاً فيُجيب نفسه بنفسه قائلا : { لله الواحد القهار . اليوم تجزى كل نفس بما كسبت } من خير وشر لتمام العدالة الإِلهية ، ويؤكد ذلك قوله : { لا ظلم اليوم . إن الله سريع الحساب } ويأخذ في محاسبتهم فلا ينتصف النهار إلا وأهل الجنة في الجنة قائلون في أحسن مقيل اللهم اجعلني منهم ومن قال آمين .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- عدم جدوى الاعتذار يوم القيامة هذا فيما لو أذن للعبد أن يعتذر فلا ينفعه اعتذار .
2- تقرير التوحيد وإبطال الشرك والتنديد .
3- بيان أفضال الله على العباد إذ يريهم آياته لهدايتهم ويرزقهم وهم يكفرون به .
4- وجوب إخلاص الدعاء وسائر العبادات لله وحده ولو كره ذلك المشركون .
5- تقرير النبوة ، وبيان الحكمة فيها وهي انذار الناس من عذاب يوم القيامة حيث الناس بارزون لله لا يخفى على الله منهم شيء فيحاسبهم بعلمه وعدله فلا ينقضي نهار إلا وقد استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار اللهم أعذنا من نار جهنم .
(3/445)
________________________________________
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
شرح الكلمات :
{ يوم الآزفة } : أي يوم القيامة .
{ إذ القلوب لدى : أي من شدة الخوف تكون القلوب قد ارتفعت حتى وصلت عند الحناجر } الحناجر .
{ كاظمين } : أي لقلوبهم يريدون ردها فلم يقدروا .
{ ما للظالمين من حميم } : أي ليس للمشركين من محب قريباً كان أو بعيداً .
{ يعلم خائنة الأعين } : أي الله تعالى يعلم العين إذا سرقت النظر إلى محرم .
{ والله يقضى بالحق } : أي الكمال قدرته وعلمه يحكم بالحق .
{ والذين يدعون من دونه } : أي والذين يدعوهم مشركو قريش من أصنام لا يقضون بشيء عدلاً كان أو جوراً لأنهم اصنام لا تسمع ولا تبصر .
معنى الآيات :
بعد بيان الموقف الصعب في عرصات القيامة في الآيات السابقة قال تعالى لرسوله { وأنذرهم } يا رسولنا أي خوف قومك { يوم الآزفة } وهي القيامة القريبة والتي قد قربت فعلاً وكل ما هو اتٍ قريب أنذرهم قربها حتى لا يوافوها بالشرك والمعاصي فيخسروا خسراناً مبيناً ، أذنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب من شدة الخوف ترتفع إلى الحناجر وهم يكظمونها فلا هي تخرج فيموتوا ولا هي تعود إلى أماكنها فيستريحوا .
{ ما للظالمين } وهم أهل الشرك والمعاصي { من حميم } قريب او حبيب يدفع عنهم العذاب { ولا شفيع } يشفع لهم وتقبل شفاعته ويطاع فيها لا ذا ولا ذاك يا لفظاعة الحال وقوله تعالى : { يعلم خائنة الأعين } يخبر تعالى عن سعة علمه وواسع اطلاعه أنه يعلم خائنة الأعين وهي العين تسترق النظر إلى المحارم ، ويعلم { ما تخفي الصدور } أي وما تكتمه صدور العباد وما تضمره من خير وشر ، ولذا فسوف يكون الحساب دقيقا ومن نوقش الحساب عُذب . { والله يقضي بالحق } اي يحكم بالعدل ، { والذين يدعون من دونه } اي والذين يعبدهم المشركون من أصنام وأوثان { ا يقضون بشيء } لأنهم لا يسمعون ولا يبصرون .
وقوله { إنَّ الله هو السميع البصير } السميع لأقوال عباده البصير بأعمالهم وأحوالهم فلذا إذا حكم يحكم بالحق ويقدر على إنفاذ الحكم فيجزى السيئة بالسيئة والحسنة بعشر أمثالها .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان هول يوم القيامة وصعوبة الموقف فيه .
2- إنعدام الحميم والشفيع للظالمين يوم القيامة .
3- بيان سعة علم الله تعالى حتى إنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .
4- قضاء الله عدل وحكمه نافذ وذلك لكمال علمه وقدرته .
(3/446)
________________________________________
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)
شرح الكلمات :
{ أو لم يسيروا في الأرض } : أي أغفل كفار قريش ولم يسيروا في الأرض .
{ فينظروا } : أي بأعينهم .
{ كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم } : إنها كانت دماراً وخساراً ووبالاً عليهم .
{ كانوا هم أشدَّ منهم قوة وآثاراً في الأرض } : ولم يغن ذلك عنهم من الله شيئاً .
{ فأخذهم الله بذنوبهم } : أي عاقبهم بذنوبهم فدمرهم وأهلكهم .
{ وما كان لهم من الله من واق } : أي ولم يوجد لهم من عقاب الله من واق يقيهم منه .
{ ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات } : أي بالحجج والبراهين والأدلة والمعجزات .
{ فكفروا } : أي بتلك الحجج والآيات .
{ فأخذهم الله } : أي لما كفروا أخذهم بكفرهم .
{ إنه قوي شديد العقاب } : هذا تعليل لأخذه إيّاهم .
معنى الآيات :
تقدم في السياق تخويف الله تعالى لمشركي قريش بعذاب الآخرة ، ومبالغة في نصحهم وطلب هدايتهم خوفهم بعد عذاب الآخرة بعذاب الدنيا لعلهم يتوبون فقال : أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض أي أغفل هؤلاء المجاحدون المعاندون ولم يسيروا في البلاد شمالاً وجنوباً حيث ديار عاد في الجنوب وديار ثمود في الشمال فينظروا بأعينهم كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كعاد وثمود كان أولئك أشد من هؤلاء قوة وآثاراً في الأرض من حيث البناء والعمران والقدرة على الحرب والقتال ، فأخذهم الله بذنوبهم اي بذنوب الشرك والتكذيب والمعاصي ، ولما أخذهم لم يوجد لهم من عقاب الله وعذابه من واق يقيهم ما أنزل الله بهم وما أحله بساحتهم . فما لهؤلاء المشركين لاي تعظون ولا يعتبرون والعاقل من اعتبر بغيره .
وقوله تعالى : { ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله بذنوبهم } هذا تعليل لأخذ الله لأولئك الأقوام من عاد وثمود وغيرهم إذ ما أخذهم إلا بعد أن أنذرهم وأعذر إليهم فلما أصروا على الكفر والتكذيب أخذهم بذنوبهم . وقوله { إنه قوي شديد العقاب }
تعليل أيضاً للأخذ الكامل الذي أخذهم به لعظم قوته وشدَّة عقابه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير الحكمة القائلة : العاقل من اعتبر بعيره .
2- الأخذ بالذنوب سنة من سنن الله في الأرض لا تتبدل ولا تتحول .
3- من أراد الله عقابه لا يوجد له واق يقيه ، ولا حَامٍ يحميه ، ومن تاب تاب الله عليه .
(3/447)
________________________________________
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)
شرح الكلمات :
{ بآياتنا وسلطان مبين } : أي بحججنا ، وبرهان بين ظاهر .
{ هامان وقارون } : هامان وزير فرعون ، وقارون رجل الملايين .
{ فقالوا ساحر كذاب } : أي لما رأوا ىية العصا واليد البيضاء قالوا : ساحر كذاب دفعاً لقومهم حتى لا يؤمنوا به . { فلما جاءهم بالحق من عندنا } : أي جاءهم موسى بالصدق فيما أخبرهم به من أنه رسول الله وطالبهم بإرسال بني إسرائيل معه . { قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه } : أي اقتلوا الأولاد الذكران . { واستحيوا نساءهم } : أي بناتهم بمعنى أتركوهن حيات . { وما كيد الكافرين إلا في ضلال } : أي وما مكرهم غلا في خسران وضياع . { ذروني أقتل موسى وليدع ربه } : أي دعوني واتركوني وليدع ربَّه ليمنعه مني . { إني أخاف أن يبدل دينكم } : أي يغير عبادتكم لآلهتكم لعبادة إلهه . { أو أن يظهر في الأرض الفساد } : بالقتل والتخريب ونحوه . { إني عذت بربي وربكم } : اي استجرت بخالقي وخالقكم . { من كل متكبر لا يؤمن بيوم : أي من كل إنسان متكبر لا يؤمن بيوم الحساب والجزاء على الحساب } الأعمال . معنى الآيات : بعد تلك الدعوة الربانيَّة لقريش إلى الإِيمان والتوحيد والتصديق بالبعث والجزاء ، وما فيها من مظاهر لقدرة الله وعلمه وحكمته وعدله ، وبعد ذلك العرض لأحوال القيامة ، وبيان الجزاء لكل من الكافرين والمؤمنين فيها كأنه يُرى رأي العين ، وبعد ذلك الترغيب والترهيب مما في الدنيا والآخرة والمشركون لا يزدادون إلا عُتواً وطغياناً بعد ذلك قص الله تعالى على رسوله قصة موسى مع فرعون ليُسلِّيه بها ويصبره وليعلمه أن البلاء مهما اشتد يعقبه الفرج ، وأن الله ناصره على قومه كما نصر موسى على فرعون وقومه فقال تعالى : { ولقد ارسلنا } أي قلك يا رسولنا -موسى بن عمران بآياتنا أي بأدلتنا وحججنا على صدق دعوته وصحة رسالته ، وسلطان مبين أي وبرهان ظاهر بيّن ارسلناه غلى فرعون وهامان وقارون فهامان وزير فرعون وقارون من ارباب الملايين وهو وإن لم يكن من آل فرعون لأنه من بني إسرائيل إلا أ ، ه مالأ فرعون ووقف في صفه ، فلما بلغهم موسى دعوة ربه واراهم الحجج والبراهين قالوا ساحر كذاب فرموه بقاصمتين السحر والكذب حماية لمصالحهم وخوفا من تغيير الوضع عليهم .
وقوله تعالى : { فلما جاءهم بالحق من عندنا } أي فلما جاءهم موسى بالصدق من عند الله كان رَدُّ الفعل منهم أن أمروا بقتل الذكور من أولاد الذين آمنوا معه ، واستحياء بناتهم للخدمة والامتهان وهو ما أخبر تعالى به في قوله : { قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم } وقوله تعالى وما كيد فرعون إلا في ضلالؤ عام في كل كيد كافر يبطله الله تعالى ولا يضر به أولياءه وقوله تعالى : { وقال فرعون ذروني اقتل موسى } لا شك أن هذا القول الدال على طغيان فرعون كان بعد أن انهزم في ميادين عدة اراد أن يسترد بعض ما فقد ذروني أقتل موسى أي اتركوني أقتل موسى { وليدع ربه } أي ليمنعه مني ، وعلل لقوله هذا بقوله إني أخاف أن يبدَّل دينكم ، أي بعد أن يغلب عليكم فتدينون بدينه أو أن يظهر في الأرض الفساد بالقتل والفتن .
(3/448)
________________________________________
ورد موسى عليه السلام بما أخبر تعالى به عنه في قوله : { وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب } قال موسى هذا لما سمع مقالة فرعون التي يهدده فيها بالقتل فأعلمهم أنه قد استجار بالله وتحصن به فلا يقدر أحد على قتله ، وقوله من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ، لأن من يؤمن بيوم الحساب لا يقدم على جريمة القتل وإنما يقدم عليها من لا يؤمن بحساب ولا جزاء في الدار الآخرة .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تسلية الرسول وحمله على الصبر والتحمل وهو في أشد الظروف صعوبة .
2- عدم تورع الظلمة في كل زمان عن الكذب وتلفيق التهم للأبرياء .
3- التهديد بالقتل شنشنة الجبارين والطغاة في العالم .
4- أحسن ملاذ للمؤمن من كل خوف هو الله تعالى رب المستضعفين .
(3/449)
________________________________________
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)
شرح الكلمات :
{ وقال رجل من آل فرعون } : هو شمعان بن عم فرعون .
{ أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ } : أي لأن يقول ربي الله؟ والرجل هو موسى عليه السلام .
{ بالبينات من ربكم } : أي بالمعجزات الظاهرات .
{ فعليه كذبه } : أي ضرر كذبه عليه لا عليكم .
{ يصبكم بعض الذي يعدكم } : أي بعض العذاب الذي يعدكم به في الدنيا عاجلاً غير آجل .
{ من هو مسرف كذاب } : أي مسرف في الكفر والظلم كذاب لا يقول الصدق ولا يفوه به .
{ ظاهرين في الأرض } : أي غالبين في بلاد مصر وأراضيها .
{ فمن ينصرنا من باس الله إن جاءنا } : أي من عذاب الله إن جاءنا وقد قتلنا أولياءه .
{ ما أريكم إلا ما أرى } : أي ما أشير به عليكم إلا ما أشير به على نفسي وهو قتل موسى
{ وما أهديكم إلا سبيل الرشاد } : أي إلا طريق الرشد والصواب .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الحديث عما دار في قصر فرعون فقد أبدى فرعون رغبته في إعدام موسى معللاً ذلك بأمرين أن يبدل دين الدولة والشعب ، والثاني أن يظهر الشغب في البلاد والتعب للدولة والمواطنين معاً . وها هو ذا رجل مؤمن من رجالات القصر يكتم غيمانه بموسى وبما جاء به من التوحيد خوفا من فرعون وملئه . ولنستمع إلى ما أخبر تعالى به عنه : { وقال رجل مؤمن } اي بموسى { من آل فرعون } إذ هو ابن عم فرعون واسمه شمعان كسلمان قال قال : { أتقتلون } ينكر عليهم قرار القتل { رجلاً أن يقول ربي الله } أي لأن قال ربي الله { وقد جاءكم من البينات } وهي الحجج والباهين كالعصا واليد { من ربكم } الحق الذي لا رب لكم سواه . { وإن يك كاذباً } أي وإن فرضنا أنه كاذب فإن ضرر كذبه عائد عليه لا عليكم { وإن يك صادقاً } وهو صادق { يصبكم بعض الذي يعدكم } من العذاب العاجل . إن الله تعالى لا يهدي أي لا يوفق غلى النصر والفوز في أموره رمن هو مسرف } متجاوز الحد في الاعتداء والظلم { كذاب } مفتر يعيش على الكذب فلا يعرف الصدق . وبعد أن بين لهم هذه الحقيقة العلمية الثابتة أقبل عليهم يعظهم فقال : { يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين } أي غالبين في الأرض اي أرض مصر بكامل ترابها وحدودها . لكن إن نحن أسرفنا في الظلم والافتراء فقتلنا أولياء الله فجاءنا بأس الله عقوبة لنا فمن ينصرنا؟ إنه لا ناصر لنا أبداً من الله فتفهموا ما قلت لكم جيداً ، ولا يهلك على الله إلا هالك ، وهنا قام فرعون يرد على كلمة الرجل المؤمن فقال ما أخبر تعالى به عنه في قوله : { قال فرعون ما اريكم إلا ما أرى } أي ما أشير عليكم بشيء إلا وقد رأيته صائبا وسديداً ، يعني قتل موسى عليه السلام ، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد اي غلاَّ إلى طريق الحق والصواب ، وكذب والله .
(3/450)
________________________________________
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- فضل الإِيمان وفضل صاحبه فقد ورد الثناء على هذا الرجل في ثلاثة رجال هم مؤمن ىل فرعون هذا ، وحبيبٌ النجار مؤمن آل ياسين وأبو بكر الصديق رضي الله عنه .
2- فصاحة مؤمن آل فرعون هي ثمرة إيمانه وبركته العالجة فإن لكلماته وقع كبير في النفوس .
3- التنديد بالإِسراف في كل شيء والكذب والافتراء في كل شيء وعلى أي شيء .
4- من عجيب أمر فرعون ادعاؤه أن يهدي إلى الرشد والسداد واصلواب في القول والعمل ، حتى ضرب به المثل فقيل : فرعون يهدي إلى الرشد .
(3/451)
________________________________________
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
شرح الكلمات :
{ وقال الذي آمن } : أي مؤمن آل فرعون .
{ مثل يوم الأحزاب } : أي عذابا مثل عذاب الأحزاب وهم قوم نوح وعاد وثمود .
{ مثل دأب قوم نوح } : أي مثل جزاء عادة من كفر قبلكم وهي استمرارهم على الكفر حتى الهلاك فهذا الذي أخافه عليكم .
{ يوم التناد } : أي يوم القيامة وقيل فيه يوم التنادي لكثرة النداءات فيه إذْ ينادي أصحب الجنة أصحاب النار ، وأصحاب النار أصحاب الجنة .
{ يوم تولُّون مدبرين } : أي هاربين من النار إلى الموقف .
{ ولقد جاءكم يوسف من قبل } : أي يوسف بن يعقوب الصديق بن الصديق عليهما السلام من قبل مجيء موسى إليكم اليوم .
{ قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا } : أي قلتم هذا من دون دليل فبقيتم كافرين إلى اليوم .
{ كذلك يضل الله من هو مسرف } : أي مثل إضلالكم هذا يضل الله من هو مسرف في الشرك والظلم .
{ مرتاب } : أي شاك فيما قامت الحجج والبينات على صحته .
{ يجادلون في آيات الله بغير : أي يخاصمون في آيات الله لإِبطالها بدون سلطان أي حجة سلطان } وبرهان .
{ كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا } : أي كبر جدالهم بالباطل مقتا عند الله وعند الذين آمنوا .
{ كذلك } : أي مثل إضلالهم الله اي يختم بالضلال على كل قلب متكبر .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم فيما دار من كلام في مجلس الحكومة ، وهاهوذا مؤمن آل فرعون يتناول الكلمة فرعون الذي أعاد تقرير ما عزم عليه من قتل موسى عليه السلام فقال ما أخبر تعالى به عنه في قوله : { وقال الذي آمن } وهنا أعلن عن إيمانه الذي كان يكتمه يا قوم إني أخاف عليكم أي إن أنتم أصررتم على قتل موسى وقتلتموه { أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب } وهو اليوم الذي أخذ الله فيه قوم نوح ، وعاد وثمود أي أخاف عليكم جزاء عادتهم وهي استمرارهم على الكفر والشك والتكذيب حتى حلت بهم نقمة الله ونزل بهم عذابه وواصل وعظه قائلاً ، { ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين } أي فارين من النار هاربين إلى الموقف وهو يوم القيامة الذي تكثر فيه النداءات والصرخات { مالكم من الله من عاصم } يعصمكم من العذاب وينجيكم منه . وبعد هذا الوعظ البليغ قال { ومن يضلل الله فما له من هاد } غشارة إلى أن القوم لم يتأثروا بكلامه فقال متعزياً بعلمه بتدبير الله في خلقه فقال : { ومن يضلل الله فما له من هاد } فإن من كتب الله عليه الضلالة ليصل إلى الشقاوة بكسبه فلا هادي له أبداً ، إذ الله لا يهدي من يُضل ثم قال لهم مواصلا كلامه { ولقد جاءكم يوسف من قبل } أي من قبل موسى وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام بالبينات والحجج الدالة على توحيد الله ووجوب طاعته ، غير أنكم مع السف { ما زلتم في شك مما جاءكم به } فلم تؤمنوا ولم توقنوا { حتى إذا هلك } أي مات عليه السلام فرحتم بموته { قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً } متخرصين متقولين على الله بدون علم فأضلكم الله بكذبكم عليه { كذلك يضل الله من هو مسرف } في الكذب مثلكم { مرتاب } في كل شيء لا يعرف اليقين في شيء ، والعياذ بالله ، ثم أعلمهم أن الذين يجادلون في آيات الله يريدون إبطال الحق وإطفاء نوره بكلامهم بغير حجة لديهم ولا برهان أتاهم جدالهم ذلك أكبر مقتا أي اشد شيء يمقته الله ويبغضه من صاحبه ، وكذلك عند الذين آمنوا .
(3/452)
________________________________________
وختم كلامه بقوله { كذلك يطبع الله } اي كإضلال من هو مسرف مرتاب يطبع الله { على كل قلب متكبر } اي قلب كل إنسان متكبر على الإِيمان والطاعة متجبر متعاظم يريد إجبار الناس على مراده وما يهواه . وإلى هنا انتهى كلام الرجل المؤمن والكلمة الآن إلى فرعون الطاغية وسنقرأها في الآيات التالية بعد رؤية ما في الآيات من هداية .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- قوة الإِيمان تفجر قلب المؤمن بأنواع من المعرفة والحكمة في قوله إذا قال .
2- التذكير بالأمم الهالكة إذْ العاقل من اعتبر بغيره .
3- التخويف من عذاب الآخرة وأهوال القيامة .
4- التنديد بالإِسراف والارتياب وعدم اليقين .
5- حرمة الجدال بغير علم ، وأن صاحبه عرضة لمقت المؤمنين بعد مقت الله تعالى .
6- عرضة المتكبر الجبار للطبع على قلبه ويومها يحرم الهداية فلا يُهدى ابداً .
(3/453)
________________________________________
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)
شرح الكلمات :
{ يا هامان ابن لي صرحا } : هامان وزير فرعون والصرح البناء العالي .
{ أسباب السموات } : أي طرقها الموصلة إليها .
{ وإني لأظنه كاذباً } : أي وإني لأظن موسى كاذباً في زعمه أن له إلهاً غيري .
{ سوء عمله } : أي قبيح عمله .
{ وصد عن السبيل } : أي عن طريق الهدى .
{ إلا في تباب } : أي خسار وضياع بلا فائدة تذكر .
{ إنما هذه الحياة الدنيا متاع } : أي ما هذه الدنيا إلا متاع يتمتع به وقتاً ثم يزول .
{ دار القرار } : أي الاستقرار والبقاء الأبدي .
{ يرزقون فيها بغير حساب } : أي رزقا واسعاً بلا تبعة ولا تعقيب .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم فيما يدور من كلام بين مؤمن آل فرعون وفرعون نفسه إذ تقدم قول المؤمن وما حواه من نصح وإرشاد وها هو ذا فرعون يرد بطريق غير مباشر على ما قاله المؤمن فقال : لوزيره هامان { يا هامان ابن لي صرحا } اي بناءً عالياً { لعلي أبلغ السباب اسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لآظنه كاذباً } اي في دعواه أن له إلهاً غيري وهذا من فرعون مجرد مناورة كاذبة يريد أن يموه بها على غيره إبقاء على مركزه وقوله تعالى : { وكذلك زين لفرعون سوء عمله } اي ومثل هذا التزيين في قول فرعون زين له سوء عمله وهو أقبح ما يكون ، { وصُدَّ عن السبيل } اي وصُرف عن طريق الحق والهدى ، وقوله تعالى : { وما كيد فرعون } اي مكره وتدبيره لقتل موسى عليه السلام وقتل أبناء المؤمنين { إلا في تباب } اي خسار وضياع لم يتحقق منه شيء ، لأن الله تعالى ولي موسى والمؤمنين فلم يمكن فرعون منهم بحال . وبعد أن أخبر تعالى عن فرعون في محاولته الفاشلة أخبر تعالى عن الرجل المؤمن وما قاله للقوم من نصح وغرشاد فقال : { وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد } اي كريق الرشد والصواب في حياتكم لتنجوا من العذاب وتفوزوا بالنعيم المقيم في الجنة . فقال : { يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع } أي لا تَعْدو كَوْنها متاعا قليلا يُتمتع به ثم يذهب سريعاً ، { وإن الآخرة } أي الحياة الآخرة بعد انتهاء هذه الحياة { لهي دار القرار } أي الاستقرار والإِقامة الأبدية ، فاعملوا لدار البقاء وتجافوا عن دار الفناء واعلموا أن الحساب سريع وأن { من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها } وذلك لعدالة الرب تبارك وتعالى ، ومن عمل صالحاً من الأعمال الصالحة التي شرعها الله لعباده وتعبدهم بها والحال أنه مؤمن أي مصدق بالله وبوعده ووعيده يوم لقائه فأولئك اي المؤمنون العاملون للصالحات من الذكور والإِناث يدخلون الجنة دار السلام يرزقون فيها بغير حساب أي رزقاً واسعاً لا يلحق صاحبه تبعة ولا تعب ولا نصب .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- التحذير من تزيين الأعمال القبيحة نتيجة الإِدمان عليها والاستمرار على فعلها فإن من زُينت له أعماله السيئة فأصبح يراها حسنة هلك والعياذ بالله .
2- التحذير من الاغترار بالدنيا والغفلة من الآخرة إذ الأولى زائلة والآخرة باقية واختبار الباقي على الفاني من شأن العقلاء .
3- مشروعية التذكير بالحساب والجزاء وما يتم في الدار الآخرة من سعادة وشقاء .
(3/454)
________________________________________
وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
شرح الكلمات :
{ أدعوكم إلى النجاة } : أي من الخسران في الدنيا والآخرة ، وذلك بالإِيمان والعمل الصالح .
{ وتدعونني إلى النار } : أي إلى عذاب النار وذلك بالكفر والشرك بالله تعالى .
{ ما ليس لي به علم } : أي لا علم لي بصحة إشراكه في عبادة الله تعالى .
{ وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار } : أي وأنا أدعوكم إلى الإيمان وعبادة الله العزيز أي الغالب على أمره الغفار لذنوب التائبين من عبادة المؤمنين به .
{ لا جرم أن ما تدعونني إليه } : أي حقا أن ما تدعونني إلى الإيمان به وبعبادته .
{ لي له دعوة في الدنيا والآخرة } : أي ليس له دعوة حق إلى عبادته ، ولا دعوة استجابة بأن يستجيب لمن دعاة لا في الدنيا ولا في الآخرة .
{ وأن المسرفين هم اصحاب النار } : أي وأن المسرفين في الكفر والشرك والمعاصي هم أهل النار الواجبة لهم .
{ فوقاه الله سيئات ما مكروا } : أي فحفظه الله من مكرهم به ليقتلوه .
{ وحاق بآل فرعون سوء العذاب } : أي عذاب الغرق إذ غرق فرعون وجنده أجمعون .
{ النار يعرضون عليها غدوا : أي أن سوء العذاب هو النار يعرضون عليها صباحا وعشيا } ومساء وذلك أن أرواحهم في أجواف طير سود تعرض على النار كل يوم مرتين .
{ ويوم القيامة ادخلوا آل فرعون } : أي ويوم القيامة يقال أدخلوا آل فرعون أشد العذاب .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في ذكر نصائح وارشاد مؤمن آل فرعون فقد قال ما أخبر به تعالى عنه في قوله : { ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة } أي من النار وذلك بالإيمان والعمل الصالح مع ترك الشرك والمعاصي { وتدعونني إلى النار } وذلك بدعوتكم لي إلى الشرك والكفر تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم أي مالا علم لي بصحة إشراكه في عبادة الله تعالى . وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار أي لتؤمنوا به وتعبدوه وحده ولا تشركوا معه غيره أدعوكم إلى العزيز أي الغالب الذي لا يُغلب الغفار لذنوب التائبين من عباده مهمات كانت ، وأنتم تدعونني إلى أذل شيء وأحقره لا ينفع ولا يضر لأنه لا يسمع ولا يبصر . لا جرم أي حقا أن ما تدعونني إليه لأومن به وأعبده ليس له دعوة حق يدعى بها إليه ، ولا دعوة استجابة فإنه لا يستجيب لي دعاء أبداً لا في الدنيا ولا في الآخرة . وشيء آخر يا قوم وهو أن مردنا إلى الله أي لا محالة ترجع إليه فالواجب أن نؤمن به ونعبده ونوحده ما دام رجوعنا إليه ، وآخر وهو { أن المسرفين هم اصحاب النار } المسرفين الذين أسرفوا في الكفر والشرك والمعاصي فتجاوزوا الحد في ذلك هم اصحاب النار أي أهلها الذين لا يفارقونها ولا تفارقهم .
وقوله : { فستذكرون ما أقول لكم } يبدو أنه قال هذا القول لما رفضوا دعوته وهموا بقتله ويدل عليه قوله : وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد .
(3/455)
________________________________________
وقوله تعالى : { فوقاه الله سيئات ما مكروا } أي حفظه الله تعالى من مكرهم به ليقتلوه فنجاه الله تعالى إذ هرب منهم فبعث فرعون رجالاً في طلبه فلم يقدروا عليه ونجا مع موسى وبني إسرائيل وقوله { وحاق بآل فرعون سوء العذاب } وذلك بأن أغرقهم الله في البحر أجميعن .
وقوله { النار يعرضون عليها } إخبار بأن أرواح آل فرعون تعرض في البرزخ على النار غدواً وعشياً وذلك بأن تكون في أجواف طير سود على خلاف أرواح المؤمنين فإنها تكون في أجواب طير خضر ترعى في الجنة . إلى يوم القيامة .
ويوم تقوم الساعة يقال أدخلوا آل فرعون أشد العذاب وهو عذاب جهنم والعياذ بالله .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان الفرق الكبير بين من يدعو إلى النجاة وبين من يدعو إلى النار ، بين من يدعو إلى العزيز الغفار ليؤمن به ويُعبد وبين من يدعو إلى أوثان لا تسمع ولا تبصر وهي أحقر شئ وأذله في الحياة ، وبين من يدعو من لا يستجيب له في الدنيا والآخرة وبين من يدعو من يستجيب له في الدنيا والآخرة .
2- التنديد بالإِسراف وفي كل شيء .
3- نعم ما ختم به مؤمن آل فرعون وعظه ونصحه لقومه وهي فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد .
4- إثبات عذاب القبر ونعيمه إذ آل فرعون تعرض أرواحهم على النار صباح مساء .
(3/456)
________________________________________
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
شرح الكلمات :
{ وإذ يتحاجون في النار } : أي وانذرهم يوم الآزفة وإذ يتحاجون في النار أي يتخاصمون .
{ فيقول الضعفاء } : أي الاتباع الضعفاء الذين اتبعوا الأغنياء والأقوياء في الشرك .
{ إنا كنا لكم تبعا } : أي تابعين لكم فيما كنتم تعتقدونه وتفعلونه .
{ فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار؟ } : أي فهل تدفعون عنا شيئاً من النار .
{ إن الله قد حكم بين العباد } : فلا مراجعة ابداً فقد حكم لأهل الإِيمان والتقوى بالجنة فهم في الجنة ولأهل الشرك والمعاصي بالنار فهم في النار .
{ لخزنة جهنم } : أي جمع خازن وهو الموكل بالنار وأهلها .
{ يخفف عنا يوما من العذاب } : أي قدر يوم من أيام الدنيا إذ الآخرة يوم واحد لا ليل له .
{ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا : أي بأن نظهر دينهم ، أو نهلك قومهم في في الحياة الدنيا } وننجيهم من الهلاك .
{ ويوم يقوم الاشهاد } : أي وتنصرهم يوم يقوم الأشهاد وهم الملائكة يشهدون للرسل بالبلاغ .
{ لهم اللعنة ولهم سوء الدار } : أي ولهم اللعنة أي البعد من الرحمة ولهم سوء الدار أي الآخرة اي شدة عذابها .
معنى الآيات :
هذا عرض آخر للنار وما يجرى فيها بعد العرض الذي كان لآل فرعون في النار يعرض على كفار قريش ليشاهدوا مصيرهم من خلاله إذا لم يتوبوا إلى الله من الكفر والتكذيب والشرك تضمّنته ستة آيات قال تعالى : { وإذ يتحاجًّون في النار } اي وأنذرهم واذكر لهم إذْ يتحاجون في النار اي يتخاصمون فيها فيقول الضعفاء الأتباع الذين كانوا يتبعون أغنياء وأقوياء البلاد طمعا فيهم وخوفا منهم . قالوا للذين استكبروا بقوتهم عن الإِيمان ومتابعة الرسل ، إنا كنا لكم تبعاً اي تابعين ، فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار؟ أي فهل في إمكانكم أن تخففوا عنا حظا من عذاب النار؟ فأجابوهم قائلين بما أخبر تعالى به عنهم في قوله : { قال الذين استكبروا إنا كل فيها أي نحن وأنتم إن الله قد حكم بين العباد فقضى بالجنة لأهل الإِيمان والتقوى ، وبالنار لأهل الشرك والمعاصي هذه كانت خصومة الأتباع من المتبوعين ولم تنته إلى طائل إلا زيادة الحسرة والغم والهم . وقوله تعالى : { وقال الذين في النار لخزنة جهنم } وهم الملائكة المكلفون بالنار وعذابها قالوا لهم { ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب } أي مقدار يوم من ايام الدنيا إذْ الآخرة لا ليل فيها وإنما هي يوم واحد . فردت عليهم الملائكة قائلة بما أخبر تعالى به عنهم في قوله : { قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات } أي أتقولون ادعوا لنا ربكم ليخفف عنكم العذاب أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات أي بالحجج الظاهرة الدالة على وجوب الإِيمان والتقوى بترك الشرك والمعاصي . قالوا بلى أي اعترفوا فقالت لهم الملائكة إذاً فادعوا أنتم ربكم ولكن لا يستجاب لكم إذ ما دعاء الكافرين إلا في ضلال فلا يستجاب له أبداً وقوله تعالى : { إنا لننصر رسلنا } تقرير لحقيقة عظمى ، وهي أن من سنة الله في رسله أنه ينصرهم بانتصار دينهم وما يهدون ويدعون إليه ، وإن طال الزمن واشتدت الفتن والمحن ، أو بإِهلاك أممهم المكذبة لهم وإنجائهم والمؤمنين معهم قال تعالى : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا } وقوله : { ويوم يقوم الأشهاد } أي وينصرهم في الآخرة يوم يقوم الأشهاد وهم الملائكة يشهدون الرسل بالبلاغ وعلى الكافرين بالتكذيب .
(3/457)
________________________________________
وقوله : { يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم } إذا أذن لهم في الاعتذار لا تقبل معذرتهم { ولهم اللعنة } أي البعد من الرحمة والجنة { ولهم سوء الدار } الآخرة وهو أشد عذابها .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان تخاصم أهل النار وهو ما يتم من خصومة بين الأتباع والمتبوعين .
2- التنديد بالكبر والاستكبار إذ الكبر عائق عن الطاعة والاستقامة .
3- عدم استجابة دعاء الكافر في الدنيا والآخرة إلا ما شاء الله .
4- عدم قبول المعذرة يوم القيامة .
5- عدم استجابة الدعاء في النار .
6- بيان وعد الله لرسله والمؤمنين وهو أنه ينصرهم بأحد أمرين الأول أن ينصر دينهم ويظهره ويقرره وإن طال الزمن ، والثاني أن يهلك عدوهم وينجيهم .
(3/458)
________________________________________
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)
شرح الكلمات :
{ ولقد آتينا موسى الهدى } : أي أعطينا موسى بني إسرائيل المعجزات والتوراة .
{ وأورثنا بني إسرائيل } : أي أبقينا فيهم التوراة كتاب الهداية الإِلهية يهتدون به في ظلمات الحياة ويذكرون به الله في تراكم النسيان .
{ واصبر إن وعد الله حق } : أي واصبر يا محمد على ما تلاقي من قومك إن وعد الله بنصرك حق .
{ واستغفر لذنبك } : ليقتدي بك في ذلك ولزيادة طهارة لروحك وتزكية لنفسك .
{ وسبح بحمد ربك } : أي نزه ربك وقدسهُ بالصلاة والذكر والتسبيح فيها وخارجها .
{ بالعشي والإِبكار } : بالمساء وأول النهار أي في أوقات الصلوات الخمس كلها .
{ إن في صدورهم إلا كبر } : أي ما في صدورهم إلا كبر حملهم على الجدال في الحق ، لا أن لهم علماً يجادلون به ، وإنما حبهم العلو والغلبة حملهم على ذلك
{ فاستعذ بالله } : أي استعذ من شرهم بالله السميع لأقوالهم العليم بأعمالهم ونياتهم وأحوالهم .
{ لخلق السموات والأرض } : أي لخلق السموات والأرض ابتداء ولأول مرة .
{ أكبر من خلق الناس } : أي أعظم من خلق الناس مرة أخرى بعد الأولى .
معنى الآيات :
قوله تعالى ولقد آتينا موسى الهدى الآية شروع في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما يلاقي من قومه فأعلمه تعالى أنه قد سبق أن أرسل موسى وآتاه الكتاب الذي هو التوراة وأورثه في بني إسرائيل هدى أي هاديا لهم في ظلمات الحياة إلى الحق والدين الصحيح الذي هو الإِسلام وذكرى لأولى الألباب أي يذكر به أولوا العقول ، ولاقى موسى من قومه أشد مما لاقيت إذاً فاصبر على ما تعانيه من قريش وأن العاقبة لك فإن وعد الله حق وقد قال إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد أي يوم القيامة .
وقوله : { واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإِبكار } أرشده غلى مقومات الصبر والموفرات له وهي ذكر الله تعالى بالاتسغفار والدعاء والصلاة والتسبيح فيها وخارجها . فأعظم عون على الصبر الصلاة فلذا كان صلى الله عليه وسلم إذا حز به أمر فَزِعَ إلى الصلاة وقوله { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان } أي حجة من علم إلهي أتاهم بطريق الوحي إن في صدورهم أي ما في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه اي لا يصلون غليه بحال وهو الرئاسة عليك والتحكم فيك وفي اصحابك . وعليه فاستعذ بالله من شرهم ومن مكرهم إنه تعالى هو السميع لأقوالهم البصير بأحوالهم وأعمالهم ، وسوف لا يمكن لهم منك أبداً لقدرته وعلمه وعجزهم وجهلهم .
وقوله تعالى : { خلق السموات والأرض } هذا رد على منكري البعث والجزاء الآخر فلما قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون . . قال تعالى : وعزتنا وجلالنا لخلق السموات والأرض ابتداء من غير مثال سابق ولا مادة قائمة موجودة أكبر من خلق الناس مرة أخرى بعد خلقهم المرة الأولى ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذه الحقائق العلمية لجهلهم وبعدهم عن العقليات لما عليهم من طابع البداوة وإلا فإعادة الشيء أهون من بدئه عقلا فليس الاختراع كالإصلاح للمخترع إذا فسد .
(3/459)
________________________________________
هداية الآيات :
هدياة الآيات :
1- بيان منة الله تعالى على موسى وبني إسرائيل تتكرر لمحمد صلى الله عليه وسلم أمته بإنزال الكتاب وتوريثه فيهم هدى وذكرى لأولى الألباب .
2- وجوب الصبر والتحمل في ذات الله ، والاستعانة على ذلك بالاستغفار والذكر والصلاة .
3- أكثر ما يجادل بالباطل ليزيل به الحق إنما يجادل من كبر يريد الوصول إليه وهو التعالي والغلبة والقهر للآخرين .
4- تقرير عقيدة البعث بالبرهان العقلي ، وهو أن البدء أصعب من الإِعادة ومن أبدأ أعاد ، ولا نصب ولا تعب!!
(3/460)
________________________________________
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)
شرح الكلمات :
{ وما يستوي الأعمى والبصير } : لا يستويان فكذلك الكافر والمؤمن لا يستويان .
{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء } : لا يستويان ايضا فكذلك لا يستوي الموقن والشاك
{ قليلاً ما تتذكرون } : أي ما يتذكرون إلا تذكرا قليلا والتذكر الاتعاظ .
{ إن الساعة لآتية } : أي إن ساعة نهاية هذه الحياة وإقبال الأخرى جائية لا شك فيها .
{ إن الذين يستكبرون عن عبادتي } : أي عن دعائي .
{ سيدخلون جهنم داخرين } : أي صاغرين ذليلين .
{ لتسكنوا فيه } : اي لتنقطعوا عن الحركة فتستريحوا .
{ والنهار مبصراً } : أي مضيئا لتتمكنوا فيه من الحركة والعمل .
{ ولكن أكثر الناس لا يشكرون } : أي الله تعالى بحمده والثناء عليه وطاعته .
{ ذلكم الله ربكم } : أي ذلكم الذي أمركم بدعائه ووعدكم بالاستجابة الذي جعل لكم الليل والنهار وأنعم عليكم بجلائل النعم الله ربكم الذي لا إله لكم غيره ولا رب لكم سواه .
{ فأنى تؤفكون } : أي كيف تصرفون عنه وهو ربكم وإلهكم الحق إلى أوثان وأصنام لا تسمع ولا تبصر .
{ كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات : أي كما صرف أولئك عن الإِيمان والتوحيد الله يجحدون } يصرف الذين يجحدون بآيات الله يصرفون عن الحق .
معنى الآيات : ما زال السياق في دعوة قريش إلى الإِيمان والتوحيد ، فقوله تعالى { وما يستوي } أي في حكم العقلاء { الأعمى } الذي لا يبصر شيئاً والبصير الذي يبصر كل شيء يقع عليه بصره فكذلك لا يستوي المؤمن السميع المبصر ، والكافر الأعمى عن الدلائل والبراهين فلا يرى منها شيئاً الأصم الذي لا يسمع نداء الحق والخير ، ولا كلمات الهدى والرشاد . كما لا يستوي في حكم العقلاء المحسن المؤمن العامل للصالحات ، والمسيء الكافر والعامل للسيئات ، وإذا كان الأمر كما قررنا فلم لا يتعظ القوم به ولا يتوبون إنهم لظلمة نفوسهم { قليلاً ما يتذكرون } أي لا يتعظون إلا نادراً .
وقوله تعالى : { إن الساعة لآتية } يخبر تعالى أن الساعة التي كذب بها المكذبون ليستمروا على الباطل والشر فعلا واعتقاداً لآتية حتماً ، { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } بها لوجود صارف قوي وهو عدم تذكرهم ، وانكبابهم على قضاء شهواتهم .
وقوله تعالى : { وقال ربكم ادعوني استجب لكم } . إنه لما قرر ربوبيته تعالى وأصبح لا محالة من الاعتراف بها قال لهم : { وقال ربكم ادعوني استجب لكم } اي سلوني أعطكم وأطيعوني أثبكم فأنتم عبادي وأنا ربكم . ثم قال لهم : { إن الذين يستكبرون عن عبادتي } ودعائي فلا يعبدونني ولا يدعونني سوف أذلهم وأهينهم وأعذبهم جزاء استكبارهم وكفرهم وهو معنى قوله : { سيدخلون جهنم داخرين } أو صاغرين ذليلين يعذبون بها أبداً .
وفي الآية ( 61 ) عرَّفهم تعالى بنفسه ليعرفوه فيؤمنوا به ويعبدوه ويوحدوه ، ويكفروا بما سواه من مخلوقاته فقال : { الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه } أي جعله مظلما لتنقطعوا فيه عن الحركة والعمل فتستريحوا { والنهار مبصراً } أي وجعل لكم النهار مبصراً اي مضيئاً يمكنكم التحرك فيه والعمل والتصرف في قضاء حاجاتكم ، وليس هذا من إفضال الله عليكم بل إفضاله وإنعامه أكثر من أن يذكر وقرر ذلك بقوله : { وإن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } الله على إفضاله وإنعامه عليهم فلا يعترفون بإنعامه ولا يحمدونه بألسنتهم ولا يطيعونه بجوارحهم ، وذلك لاستيلاء الشيطان والغفلة عليهم ثم واصل تعريف نفسه لهم ليؤمنوا به بعد معرفته ويكفروا بالآلهة العمياء الصماء التي هم عاكفون عليها صباح مساء فقال جل من قائل : { ذلكم الله ربكم } الذي عرفكم بنفسه { خالق كل شيء لا إله إلا هو } اي لا معبود بحق غلا هو .
(3/461)
________________________________________
وقوله : { فأنى تؤفكون } أي كيف تصرفون عنه وهو ربكم والمنعم عليكم ، إلى أوثان وأصنام لا تنفعكم ولا تضركم . فسبحان الله كيف تؤفكون كذلك يؤفك أي كانصرافكم أنتم عن الإِيمان والتوحيد مع وفرة الأدلة وقوة الحجج يصرف ايضاً الذين كانوا بآيات الله يجحدون في كل زمان ومكان لأن الآيات الإِلهية حجج وبراهين فالمكذب بها سيكذب بكل شيء حتى بنفسه والعياذ بالله تعالى .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان حقيقة وهي أن الضِّدين لا يجتمعان فالكفر والإِيمان ، والاحسان والإِساءة والعمى والبصر والصمم والسمع هذه كلها لا تستوي بعضها ببعض فمحاولة الجمع بينها محاولة باطلة ولا تنبغي .
2- قرب الساعة مع تحتم مجيئها والأدلة على ذلك العقلية والنقلية كثيرة جداً .
3- فضل الدعاء وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله .
وللدعاء المستجاب شروط منها : أن يكون القلب متعلقا بالله معرضا عما سواه وأن لا يسأل ما فيه إثم ، ولا يعتدي في الدعاء فيسأل ما لم تجر سنة الله به كأن يسأل أن يري الجنة يقظة أو أن يعود شاباً وهو شيخ كبيرا أو أن يرزق الولد وهو لا يتزوج .
4- الدعاء هو العبادة ولذا من دعا غير الله فقد اشرك بالله .
5- بيان إنعام الله وإفضاله والمطالبة بشكر الله تعالى بحمده والثناء عليه وبطاعته بفعل محابه وترك مكارهه .
(3/462)
________________________________________
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
شرح الكلمات :
{ قراراً } : أي قارة بكم لا تتحرك فيفسد ما عليها من إنشاء وتعمير .
{ بناء } : أي محكمة إحكام البناء فلا تقسط عليكم ولا يسقط منها شيء يؤذيكم .
{ وصوركم } : أي في أرحام أمهاتكم فأحسن صوركم . { من الطيبات } : أي الحلال المستلذ غير المستقذر وهي كثيرة .
{ فتبارك الله } : أي تعاظم وكثرت بركاته .
{ فادعوه مخلصين له الدين } : أي أعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا في عباداته دعاء كان أو غيره .
{ قل إني نهيت } : أي نهاني ربي أن أعبد الأوثان التي تعبدون .
{ وأمرت أن أسلم لرب العالمين } : أي وأمرني ربي ان أسلم له وجهي وأخلص له عملي .
{ هو الذي خلقكم من تراب } : أي خلق أبانا آدم من تراب وخلقنا نحن ذريته مما ذكر من نطفة ثم من علقة .
{ ثم لتبتغوا أشدكم } : أي كمال أجسامكم وعقولكم في سن ما فوق الثلاثين .
{ ومنكم من يتوفى من قبل } : أي ومنكم من يتوفاه ربه قبل سن الشيخوخة والهرم .
{ ولتبلغوا أجلاً مسمى } : أي فعل ذلكم بكم لتعيشوا ولتبلغوا أجلا مسمى وهو نهاية العمر المحددة لكل إنسان .
{ ولعلكم تعقلون } : أي طوركم هذه الأطوار من نطفة إلى علقة إلى طفل إلى شاب إلى كهل إلى شيخ رجاء أن تعقلوا دلائل قدرة الله وعلمه وحكمته فتؤمنوا به وتعبدوه موحدين له فتكملوا وتسعدوا .
{ يحيي ويميت } : أي يخلق الإِنسان وقد كان عدماً ، ويميته عند نهاية أجله .
{ فإذا قضى أمراً } : أي حكم بوجوده .
{ فإنما يقول له كن فيكون } : أي فهو لا يحتاج إلى وسائط وإنما هي الإرادة فقط فإذا أراد شيئاً قال له كن فهو يكون .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم ف تعريف العباد بربهم سبحانه وتعالى حتى يؤمنوا به ويعبدوه ويوحدوه إذ كمالهم وسعادتهم في الدارين متوقفان على ذلك قال تعالى : { الله الذي جعل لكم الأرض قراراً اي قارة في مكانها ثابتة في مركز دائرتها لا تتحرك بكم ولا تتحول عليكم فتضطرب حياتكم فتهلكوا ، وجعل السماء بناء مُحْكماً وسقفا محفوظا من التصدع والانفطار والسقوط كلاً أو بعضاً ، وصوركم في أرحام أمهاتكم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات التي خلقها لكم وهي كل ما لذ وطاب من حلال الطعام والشراب واللباس والمراكب ذلكم الفاعل لكل ذلك الله ربكم الذي لا رب سواه ولا معبود يحق لكم غيره . فتبارك الله رب العالمين أي خالق الإنس والجن ومالكهما والمدبر لأمرهما ، هو الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتمون لا إله أي لا معبود للعالمين إلا هو فادعوه مخلصين له الدين أي اعبدوه وحده ولا تشركوا بعبادته أحداً قائلين الحمد لله رب العالمين أي حامدين له بذلك ، هذا ماتضمنته الآيتان ( 64 ، 65 ) وقوله تعالى : { قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله } أي قل يا نبينا لقومك إني نهاني ربي أن أعبد الذين تدعون من دون الله من أصنام وأوثان لا تنفع ولا تضر وذلك لما جاءني البينات من ربي وهي الحجج والبراهين على بطلان عبادة غير الله ووجوب عبادته سبحانه وتعالى ، وأمرت أن أسلم لرب العالمين أي وأمرني ربي أن أسلم له فأنقاد وأخضع لأمره ونهيه وأطرح بين يديه وأفوض أمري إليه وقوله : { هو الذي خلقكم من تراب نظراً إلى أصلهم وهو آدم ، ثم من نطفة مني ثم من علقة دم متجمد ، ثم يخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالاً ، ثم لتبلغوا أشدكم أي اكتمال أبدانكم وعقولكم بتخطيكم الثلاثين من أعماركم ، ثم لتكونوا شيوخاً بتجاوزكم الستين .
(3/463)
________________________________________
ومنكم من يتوفى أي يتوفاه الله قبل بلوغه سن الشيخوخة والهرم وما أكثرهم ، وفعل بكم ذلك لتعيشوا ولتبلغوا أجلاً مسمى ولعلكم تعقلون إذا تفكرتم في خلق الله لكم على هذه الأطوار فتعرفوا أن ربكم واحد وأنه إلهكم الحق الذي لا إله لكم سواه .
وقوله هو الذي يحيي ويميت يحيي النطف الميتة فإذا هي بعد أطوارها بشراً أحياء ويميت الأحياء عند نهاية آجالهم وهو حي لا يموت والإنس والجن يموتون ومن أعظم مظاهر قدرته أنه يقول للشيء إذا أراده كن فيكون ولا يتخلف أبداً هذا هو الله رب العالمين وإله الأولين والآخرين وَجَبَْ محبته وطاعته ولزمت معرفته إذ بها يُحَبُّ ويعبد ويطاع .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان مظاهر قدرة الله تعالى في الخلق والإِيجاد والإِرزاق والإِحياء والإِماتة وكلها معرفة به تعالى وموجبة له العبادة والمحبة والإِنابة والرغبة والرهبة ونافية لها عما سواه من سائر خلقه .
2- تقرير التوحيد ووجوب عبادة الله تعالى وحده لا شريك له .
3- بيان خلق الإِنسان وأطوار حياته وهي من الآيات الكونية الموجبة للإِيمان بالله وتوحيده في عبادته إذ هو الخالق الرازق المحيي المميت لا إله غيره ولا رب سواه .
(3/464)
________________________________________
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
شرح الكلمات : { يجادلون في آيات الله } : أي في القرآن وما حواه من حجج وبراهين دالة على الحق هادية إليه .
{ أنى يصرفون } : أي كيف يصرفون عن الحق مع وضوح الأدلة وقوة البراهين .
{ الذين كذبوا بالكتاب } : أي بالقرآن .
{ وبما أرسلنا به رسلنا } : من وجوب الاسلام لله بعبادته وحده وطاعته في أمره ونهيه والإِيمان بلقائه .
{ فسوف يعلمون } : أي عقوبة تكذيبهم .
{ إذ الأغلال في أعناقهم } : أي وقت وجود الأغلال في أعناقهم يعلمون عاقبة كفرهم وتكذيبهم .
{ ثم في النار يسجرون } : أي يوقدون .
{ ثم يقال لهم اين ما كنتم } : أي يسألون هذا السؤال تبكيتاً لهم وخزياً .
{ تشركون من دون الله } : أي تعبدونهم مع الله .
{ قالوا ضلوا عنا } : أي غابوا عنا فلم نرهم .
{ بل لم نكن ندعو من قبل شيئا } : أي انكروا عبادة الأصنام ، أوْ لَمْ يعتبروا عبادتها شيئاً وهو كذلك .
{ كذلك يضل الله الكافرين } : أي مثل اضلال هؤلاء المكذبين يضل الله الكافرين .
{ بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق } : أي بالشرك والمعاصي .
{ بما كنتم تمرحون } : أي بالتوسع في الفرح ، لأن المرح شدة الفرح .
{ فبئس مثوى المتكبرين } : أي دخول جهنم والخلود فيها بئس ذلك مأوى للمتكبرين .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في الدعوة غلى التوحيد وإلى الإِيمان بالبعث والجزاء ، وتقرير نبوة محمد صلى الله عليه سولم فقوله تعالى { ألم تر } اي يا محمد { إلى الذين يجادلون في آيات الله } القرآنية لإِبطالها وصرف الناس عن قبولها أوحملهم على إنكارها وتكذيبها والتكذيب بها وهذا تعجيب من حالهم . وقوله تعالى : { أنى يصرفون } أي كيف يصرفون عن الحق بعد ظهور أدلته . وقوله { الذين كذبوا بالكتاب } الذي هو القرآن { وبما أرسلنا به رسلنا } من التوحيد والإِيمان { فسوف يعلمون } عاقبة تكذيبهم وقت ما تكون الأغلال في أعناقهم والسلاسل في أرجلهم يسحبون أي تسحبهم الزبانية في الحميم هو ماء حارتنا هي في الحرارة في النار يسجرون اي توقد بهم النار كما توقد بالحطب ، هذا عذاب جسماني ووراءه عذاب روحاني إذ تقول لهم الملائكة توبيخا وتبكيتا وتأنيبا وتقريعاً : { أين ما كنتم تشركون } أي اين أوثانكم التي كنتم تعبدونها مع الله؟ فيقولون : ضلوا عنا أي غابوا فلم نرهم ، بل ما كنا ندعو من قبل شيئاً هذا إنكار منهم حملهم عليه الخوف أو هو بحسب الواقع أنهم ما كانوا يعبدون شيئاً إذ عبادة الأصنام ليست شيئاً لبطلانها .
وقوله { ذلك بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون } اي حل بكم هذا العذاب بسبب فرحكم بالباطل من شرك وتكذيب وفسق وفجور ، في الدنيا ، وبسبب مرحكم أيضا وهو اشد الفرح وأخيراً يقال لهم { ادخلوا أبواب جهنم } باباً بعد باب وهي أبواب الدركات { خالدين فيها } لا تموتون ولا تخرجون { فبئس مثوى المتكبرين } اي ساء وقبح مثواكم في جهنم من مثوى أي مأوى .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- التعجيب من حال المكذبين بآيات الله المجادلين فيها كيف يصرفون عن الحق بعد وضوح أدلته وقوة براهينه .
2- إبراز صورة واضحة للمكذبين بالآيات المجادلين لإِبطال الحق وهم في جهنم يقاسون العذاب بعد أن وضعت الأغلال في أعناقهم والسلاسل في أرجلهم يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون .
3- ذم الفرح بغير فضل الله ورحمته ، وذم المرح وهو أشد الفرح .
4- ذم التكبر وسوء عاقبة المتكبرين الذين يمنعهم الكبر من الاعتراف بالحق ويحملهم على احتقار الناس وازدراء الضعفاء منهم .
(3/465)
________________________________________
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
شرح الكلمات :
{ فاصبر إن وعد الله حق } : أي فاصبر يا رسولنا على دعوتهم متحملا أذاهم فإن وعد ربك بنصرك حق .
{ فإما نرينَّك بعض الذي نعدهم } : أي من العذاب في حياتك .
{ منهم من قصصنا عليك } : أي ذكرنا لك قصصهم وأخبارهم وهم خمسة وعشرون .
{ أن يأتي بآية إلا بإذن الله } : أي لأنهم عبيد مربوبون لا يفعلون إلا ما يأذن لهم به سيدهم .
{ وخسر هنالك المبطلون } : أي هلك أهل الباطل بعذاب الله فخسروا كل شيء .
{ جعل لكم الأنعام } : أي الإِبل وإن كان لفظ الأنعام يشمل البقر والغنم ايضاً .
{ ولكم فيها منافع } : أي من اللبن والنسل والوبر .
{ ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم } : أي حمل الأثقال وحمل أنفسكم من بلد غلى بلد ، لأنها كسفن البحر .
{ فأي آيات الله تنكرون } : أي فأي آية من تلك الايات تنكرون فإنها لظهورها لا تقبل الانكار .
معنى الآيات :
بعد تلك الدعوة الإِلهية للمشركين غلى الإِيمان والتوحيد والبعث والجزاء والتي تلوَّن فيها الأسلوب وتنوعت فيها العبارات والمعاني ، والمشركون يزدادون عتواً قال تعالى لرسوله آمراً إياه بالصبر على الاستمرا على دعوته متحملاً الأذى في سبيلها { فاصبر إن وعد الله حق } فيخبره بأن ما وعده به ربُّه حق وهو نصره عليهم وإظهار دعوة الحق ولو كره المشركون . وقوله { فإما نرينك بعض الذي نعدهم } أي من العذاب الدنيوي { أو نتوفينك } قبل ذلك { فإلينا يرجعون } فنعذبهم بأشد أنواع العذاب في جهنم ، وننعم عليك بجوارنا في دار الإِنعام والتكريم أنت والمؤمنون معك . هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 77 ) وقوله تعالى في الآية الثانية ( 78 ) { ولقد ارسلنا رسلا من قبلك } يخبر تعالى رسوله مؤكداً له الخبر مسلياً له حاملاً له على الصبر بأنه أرسل من قبله رسلا كثيرين منهم من قص خبرهم عليه ومنهم من لم يقصص وهم كثير وذلك بحسب الفائدة من القصص وعدمها وأنه لم يكن لأحدهم أن يأتي بآية كما طالب بذلك قومه ، والمراد من الاية المعجزة الخارقة للعادة ، إلا بإِذن الله ، إذ هو الوهاب لما يشاء لمن يشاء ، فإذا جاء أمر الله بإهلاك المطالبين بالآيات تحدياً وعناداً ومكابرة قضى بالحق أي حكم الله تعالى بين الرسول وقومه المكذبين له المطالبين بالعذاب تحدياً ، فَنَجىَّ رسوله والمؤمنين وخسر هنالك المبطلون من أهل الشرك والتكذيب .
وقوله تعالى في الآية الثالثة ( 79 ) الله الذي جعل لكم الأنعام يعرفهم تعالى بنفسه مقرراً ربوبيته الموجبة لألوهيته فيقول الله أي المعبود بحق هو الذي جعل لكم الأنعام على وضعها الحالي الذي ترون لتركبوا منها وهي الإِبل ، ومنها تأكلون ومن بعضها تأكلون كالبقر والغنم ولا تركبون ، ولكن فيها منافع وهي الدَّرُّ والوبر والصوف والشعر والجلود ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وهي حمل اثقالكم والوصول بها إلى أماكن بعيدة لا يتأتى لكم الوصول إليها بدون الإِبل سفائن البر ، وقوله وعليها أي على الإِبل وعلى الفلك « السفن » تحملون اي يحملكم الله تعالى حسب تسخيرها لكم .
(3/466)
________________________________________
وأخيراً يقول تعالى بعد عرض هذه الآيات القرآنية والكونية يقول لكم { ويريكم آياته } في أنفسكم وفي الآفاق حولكم { فأي آيات الله تنكرون } وكلها واضحة في غاية الظهور والبيان والاستفهام للإنكار عليهم علَّهُم يرعوون .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- وجوب الصبر على دعوة الحق والعمل في ذلك إلى أن يحكم الله تعالى .
2- الآيات لا تعطي لأحد إلا بإذن الله تعالى إذ هو المعطي لها فهي تابعة لمشيئته .
3- من الرسل من لم يقصص الله تعالى أخبارهم ، ومنهم من قص وهم خمسة وعشرون نبياً ورسولاً . وعدم القص لأخبارهم لا ينافي بيان عددهم إجمالاً لحديث ابي ذر في مسند أحمد أن أبا ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله كم عِدّة الأنبياء؟ قال « مائة ألف وأربعة وعشرون الفاً ، الرسل من ذلك ثلثمائة وخمسة عشرة جماً غفيراً » .
- ذكر مِنَّة الله على الناس في جعل الأنعام صالحة للانتفاع بها أكلاً وركوباً لبعضها لعلهم يشكرون بالإِيمان والطاعة والتوحيد .
(3/467)
________________________________________
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
شرح الكلمات :
{ أفلم يسيروا في الأرض } : أي أعجزوا فلم يسيروا في الأرض شمالاً وجنوبا وغربا .
{ كيف كان عاقبة الذين من : أي عاقبة المكذبين من قبلهم قود عاد وثمود وأصحاب قبلهم } مدين .
{ وآثاراً في الأرض } : أي وأكثر تأثيراً في الأرض منحيث الإِنشاء والتعمير .
{ فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون } : أي لم يمنع العذاب عنهم كسبهم الطائل وقوتهم المادية .
{ فرحوا بما عندهم من العلم } : أي فرح الكافرون بما عندهم من العلم الذي هو الجهل بعينه .
{ فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } : أي عذابنا الشديد النازل بهم .
معنى الآيات :
ما زال السياق في طلب هداية قريش بما يذكرهم به وما يعرض عليهم من صور حية لمن كذب ولمن آمن لعلهم يهتدون قال تعالى { أفلم يسيروا في الأرض } أي أعجزوا فلم يسيروا في الأرض أرض الجزيرة شمالاً ليروا آثار ثمود في مدائنها وجنوبا ليروا آثار عاد ، وغربا ليرو آثار أصحاب الأيكة قوم شعيب والمؤتفكات قوى قوم لوط : فينظروا نظر تفكر واعتبار كيف كان عاقبة الذين من قبلهم . كانوا أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض من مصانع وقصور وحدائق وجنات فما أغنى عنهم لما جاءهم العذاب ما كانوا يكسبونه من مال ورجال وقوة مادية .
هذا ما دلت عليه الاية الأولى ( 82 ) أما الآية الثانية ( 83 ) فهي قوله تعالى { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات } يخبر تعالى عن المكذبين الهالكين أنهم لما جاءتهم رسلهم بالحجج والأدلة الظاهرة على توحيد الله والبعث والجزاء وصدقهم في النبوة والرسالة رفرحوا بما عندهم من العلم } المادي وسخروا من العلم الروحي واستهزأوا بأهله فرحاً ومرحاً ، { وحاق بهم } اي أحاط بهم العذاب الذي كان نتيجة كفرهم وتكذيبهم واستهزائهم ، فلما رأوا عذاب الله الشديد وقد حاق بهم أعلنوا عن توبتهم { فقالوا آمنا بالله وحده ، وكفرنا بما كُنَّا به مشركين } اي قالوا لا إله إلا الله . قال تعالى { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } أي شديد عذابنا { سنة الله التي قد خلت في عبادة } وأخبر تعالى أن هذه سنة من سننه في خلقه وهي أن الإيمان لا ينفع عند معاينة العذاب إذ لو كان يقبل الإِيمان عند رؤية العذاب وحلوله لما كفر كَافر ولما دخل النار أحد . وقوله روخسر هنالك } أي عند رؤية العذاب وحلوله { الكافرون } اي المكذبون المستهزئون .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- مشروعية السير في البلاد للعظة والاعتبار تقوية للإِيمان .
2- القوى المادية لا تغني عن أصحابها شيئاً إذا أرادهم الله بسوء .
3- بيان سنة بشرية وهي أن الماديين يغترون بمعارفهم المادية ليستغنوا بها عن العلوم الروحية في نظرهم إلا أنها لا تغني عنهم شيئاً عند حلول العذاب بهم في الدنيا وفي الآخرة .
(3/468)
________________________________________
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)
شرح الكلمات :
{ حم } : هذا أحد الحروف المقطعة يكتب هكذا حم ، ويقرأ هكذا حَا مِيم .
{ تنزيل من الرحمن الرحيم } : أي من الله إذ هو الرحمن الرحيم .
{ فصلت آياته } : أي بينت آياته غاية البيان بلسان عربي لقوم يعلمون إذ هم الذين ينتفعون .
{ بشيراً ونذيراً } : أي مبشراً أهل الإِيمان والعمل الصالح بالفوز ، ومنذراً المكذبين الكافرين بالخسران .
{ فأعرض أكثرهم } : أي أعرض عن سماع القرآن أكثر مشركي مكة وكفار قريش .
{ فهم لا يسمعون } : أي سماع تعقل وتدبر لينتفعوا بما يسمعون .
{ في أكنة } : أي أغطية جمع كنان : ما فيه يكن الشيء ويستر .
{ وفي آذاننا وقر } : أي ثقل فلم نطق السمع .
{ ومن بيننا وبينك حجاب } : أي مانع وفاصل بيننا فلا نسمع ما تقول ولا نرى ما تفعل .
معنى الآيات :
قوله تعالى { حم } هذا أحد الحروف المقطعة وتفسيره أن يقال فيه وفي أمثاله من الحروف المقطعة الله أعلم بمراده به . وذد ذكرنا ما اثرنا عن أهل العلم فائدتين هامتين لمثل هذه الحروف المقطعة في أول سورة غافر ، وفي العديد من السور المفتتحة بهذه الحروف فليرجع إليها ولتعرف وتحفظ وقوله { تنزيل من الرحمن الرحيم } اي هو منزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وليس كما يقول المبطلون . وقوله { كتاب فصلت آياته } اي هو كتاب فخم جليل القدر فصلت آيته أي بينت حال كون ذلك التفصيل { قرآنا عربياً لقوم يعلمون } لسان العرب ويفهمون معاني الكلام واسراره . وقوله { بشيراً ونذيراً } وحال كونه ايضاً بشيراً لأهل الإِيمان وصالح الأعمال بالفوز بالجنة والنجاة من النار؟ ونذيراً للمشركين المكذبين من عذاب النار ، وقوله تعالى : { فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون } يخبر تعالى أنه مع بيان الكتاب ووضوح ما جاء به ودعا غليه من التوحيد والخير أعرض أكثر كفار قريش عنه ولم يلتفتوا إليه فهم لا يسمعونه ولا يريدون سماعه بحال ، وقالوا معتذرين بأقبح الأعذار : قلوبنا في أكنة اي أغطية تسترها من أجل أن لا نفهم ما تدعونا إليه من التوحيد والإِيمان بالبعث والجزاء المقتضي لمتابعتك والسير وراءك ، وفي آذاننا وقر أي ثقل فلا تقوى على سماع ما تقول ومن بيننا وبينك حجاب ساتر وحائل لنا عنك فلا نسمع ما تقول ولا نرى ما تعمل فاتركنا كما تركناك ، واعمل على نصرة دينك فإننا عاملون كذلك على نصرة ديننا والحفاظ على معتقداتنا وهذه نهاية المفاصلة التي أبدتها قريش للرسول صلى الله عليه وسلم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تعيّن تعلم اللغة العربية على كل مسلم يريد أن يفهم كلام الله القرآن العظيم .
2- اشتمال القرآن على أسلوب الترغيب والترهيب وهي البشارة والنَّذارة .
3- بيان شدة عداوة المشركين للتوحيد والداعين إليه ي كل زمان ومكان .
(3/469)
________________________________________
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
شرح الكلمات :
{ قل إنما أنا بشر مثلكم } : أي لست ملكاً وإنما أنا بشر مثلكم من بني آدم .
{ يوحي إلي أنما الهكم إله واحد } : أي يوحي الله إلي بأن الهكم أي معبودكم ايها الناس إله واحد لا ثاني له ولا أكثر .
{ فاستقيموا إليه } : يا خلاص العبادة له دون سواه .
{ واستغفروه } : أي اطلبوا منه أن يغفر لكم ذنوبكم التي كانت قبل الاستقامة وهي الشرك والمعاصي .
{ وويل للمشركين } : أي عذاب شديد سيحل بهم لإِغضابهم الرب بمضادته بآلهة باطلة .
{ لا يؤتون الزكاة } : أي زكاة أموالهم وزكاة أنفسهم بما يُطهرها من أوضار الشرك والمعاصي .
{ لهم أجر غير ممنون } : أي ثواب الآخرة وهو الجنة ونعيمها لا ينقطع بحال هو أجر غير ممنون .
معنى الآيات :
إنه بعد تلك المفاصلة التي قام بها المشركون حفاظا على الوثنية وجهل الجاهلية أمر تعالى رسوله أن يقول لهم إنما أنا بشر مثلكم في آدميتي لم أدع يوما غيرها فلم اقل إني ملك ، إلا أني أفضلكم بشيء وهو أنه يوحى إليَّ من قبل ربي ، والموحي به إلي هو أنما الهكم الحق غله واحد لا شريك له في ربوبيته ولا في الوهيته ، وعلي فاخلعوا تلك الأوثان واستقيموا إليه تعالى بإخلاص العبادة والوجوه إليه ، واستغفروه من ىثار الذنب السابق قبل الاستقامة على الإِيمان والتوحيد وقوله تعالى : { وويل للمشركين } يخبر تعالى أن الويل وهو مُرُّ العذاب إذ من معاني الويل أنه صديد وقيح أهل النار وما يسيل من ابدانهم وفروجهم للمشركين بربهم الذين لا يؤتون زكاة أموالهم ، وهم بالآخرة هم كافرون اي لا يؤمنون بالبعث والجزاء فلذاهم لا يتركون شراً ولا يفعلون خيراً غلا ما قل وندر والنادر لا حكم له .
وقوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي آمنوا بالله وعده وعيده وشرعه وعملوا الصالحات بأداء الفرائض والكثير من النوافل بعد تجنبهم الشرك والكبائر من الذنوب والمعاصي هؤلاء لهم أجر غير ممنون مقابل إيمانهم وصالح أعمالهم ، والأجر هو الثواب والمراد به الجنة إذ نعيمها لا ينقطع على من ناله وفاز به بحال من الأحوال .
هداية الآيات :
1- تقرير النبوة والتوحيد .
2- وجوب الاستقامة على شرع الله .
3- وجوب الاستغفار من كل ذنب صغيراً أو كبيراً .
4- وجوب الزكاة في الأموال ، ووجوب تزكية النفوس بالإِيمان وصالح الأعمال .
(3/470)
________________________________________
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
شرح الكلمات :
{ بالذي خلق الأرض في يومين } : أي الأحد والاثنين .
{ وتجعلون له أنداداً } : أي شركاء وهذا داخل في حيز الإِنكار الشديد عليهم .
{ ذلك رب العالمين } : أي الله مالك العالمين وهم كل ما سوا عز وجل من سائر الخلائق .
{ وجعل فيها رواسي } : أي جبالاً ثوابت .
{ وبارك فيها } : أي في الأرض بكثرة المياه والزروع والضروع .
{ وقدر فيها أقواتها } : أي أقوات الناس والبهائم .
{ في أربعة ايام } : أي في تمام أربعة أيام وهي الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء .
{ سواء للسائلين } : أي في أربعة ايام هي سواء لمن يسال فإنها لا زيادة فيها ولا نقصان .
{ ثم استوى إلى السماء } : أي قصد بإرادته الربانية إلى السماء وهي دخان قبل أن تكون سماء .
{ فقضاهن سبع سموات في يومين } : أي الخميس والجمعة ولذا سميت الجمعة جمعة لاجتماع الخلق فيها .
{ وأوحى في كل سماء أمرها } : أي ما أراد أن يكون فيها من الخلق والأعمال .
{ وزينا السماء الدنيا بمصابيح } : أي بنجوم .
{ وحفظاً } : أي وحفظناها من إستراق الشياطين السمع بالشهب الموجودة فيها .
{ ذلك تقدير العزيز العليم } : أي خلق العزيز في ملكه العليم بخلقه .
معنى الكلمات :
إنه بعد الإصرار على التكذيب والإِنكار من المشركين أمر تعالى رسوله أن يقول لهم { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } إن كفرهم عجب منكم هل تعلمون بمن تكفرون إنكم لتكفرون بالذي خلق الأكوان كلها علويها وسفليها في ستة ايام ، أين يذهب بعقولكم ياقوم أتستطيعون جحود الله تعالى وجحود آياته وهذه الأكوان كلها آيات شاهدات على وجوده وقدرته وعلمه وحكمته وموجبة له الربوبية عليها والألوهية له فيها دون غيره من سائر خلقه وأعجب من ذلك أنكم تجعلون له أنداداً أي شركاء تسوونهم به وهم اصنام لا تسمع ولا تبصر فكيف تُسوّى بالذي خلق الرض في يومين أي الأحد والاثنين ، وهو رب العالمين أجميعن اي رب كل شيء ومليكه ومالكه .
وقوله تعالى في الآية الثانية ( 9 ) { وجعل فيها } أي في الأرض رواسي اي جبالا ثوابت ترسو في الأرض حتى لا تميد بأهلها ولا تميل فيخرب كل شيء عليها ، { وبارك فيها } بكثرة المياه والرزق والضروع والخيرات { وقد فيها أقواتها } تقديراً يعجز البيان عن وصفه ، والقلم عن رقمه وآلالات الحاسبة عن عِدّة . وذلك كله من الخلق والتقدير { في أربعة أيام سواء } لمن يسأل عنها إنها الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء اي مقدرة بأيامنا هذه التي تكونت نتيجة الشمس والقمر والليل والنهار فلا تزيد يوماً ولا تنقص آخر .
وقوله { ثم استوى إلى السماء } في الآية الثالثة 010 ) يُخبر تعالى أنه بعد خلق الأرض استوى إلى السماء اي قصد بإرادته التي تعلو فوق كل إرادة { إلى السماء وهي دخان } اي بخار وسديم ارتفع من الماء الذي كان عرشه تعالى عليه فقال لها كما قال { للأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً } أي طائعين أو مكرهتين لا بد من مجيئكما حسب ما أردت وقصدت فأجابتا بما أخبر تعالى عنهما في قوله : { قالتا أتينا طائعين } اي لم يكن لنا أن نخالف أمر ربنا ، { فقضاهن سبع سموات في يومين } وهما الخميس والجمعة ، روأوحى في كل سماء أمرها } أي ما اراد أن يخلقه فيها ويعمرها به من المخلوقات والطاعات .
(3/471)
________________________________________
وقوله : { وزينا السماء الدنيا بمصابيح } وهي النجوم وحفظاً اي وجعلناها أي النجوم حفظاً من الشياطين أن تسترق السمع فإن الملائكة يرجمونهم بالشهب من النجوم فيحترقون أو يخبلون . وقوله : { ذلك تقدير العزيز العليم } اي ذلك المذكور من الخلق والتقدير تقدير العزيز في ملكه أي الغالب على أمره العليم بتدبير ملكه وأعمال وأحوال خلقه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- الكفر بالله لا ذنب فوقه بعد الكفر ذنب ، وهو عجيب وأعجب منه اتخاذ أصنام وأحجار أوثاناً تعبد مع الله الحي القيوم مالك الملك ذي الجلال والإِكرام .
2- بيان الأيام التي خلق الله فيها العوالم العلوية والسفلية وهي ستة أيام أي على قدر ستة ايام من ايام الدنيا هذه مبدوءة بالأحد منتهية بالجمعة ، وقدرة الله صالحة لخلق السموات والأرض وبكل ما فيهما بكلمة التكوين « كن » ولكن لحكم عالية أرادها الله تعالى منها تعليم عباده الأناة والتدرج في إيجاد الأشياء شيئاً فشيئاً .
4- لا تعارض بين قوله تعالى في هذه الآية ثم استوى إلى السماء المشْعِر بأن خلق السموات كان بعد خلق الأرض ، وبين قوله ، والأرض بعد ذلك دحاها من سورة والنازعات المفهم أن دَحْوَ الأرض كان بعد خلق السماء ، إذ فسر تعالى دَحْوَ الأرض بإخراج مائها ومرعاها وهو ما ترعاه الحيوانات التي سيخلقها عليها ، ثم قوله خلق الأرض في يومين على صورة يعلمها هو ولا نعلمها نحن ، وتقدير الأقوات في قوله وقدر فيها اقواتها لا يستلزم أن يكون فعلا أظهر ما قدره إلى حيز الوجود ، وحينئذ لا تعارض بين ما يدل من الآيات على خلق الرض أولا ثم خلق السموات وهو الذي صرحت به الأحاديث إذ خلق الأرض في يومين وقدر الأقوات في يومين وبعد أن خلق السموات دحا الأرض فأخرج منها ما قدره فيها من أقوات وأرزاق الحيوانات حسب سنته في ذلك .
4- بيان فائدتين عظيمتين للنجوم الأولى أنها زينة السماء بها تضاء وتشرق وتذهب الوحشة منها والثانية أن ترمي الشياطين بالشهب من النجوم ذات التأجج الناري .
(3/472)
________________________________________
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)
شرح الكلمات :
{ فإن أعرضوا } : أي كفار قريش عن الإِيمان والتوحيد بعد ذلك البيان المفصل .
{ فقل أنذرتكم صاعقة } : أي خوّفتكم صاعقة تنزل بكم فتهلككم إن أصررتم على هذا الكفر .
{ من بين أيديهم ومن خلفهم } : اي أتتهم رسلهم تعرض عليهم دعوة الحق من أمامهم ومن ورائهم .
{ لو شاء ربنا لأنزل ملائكة } : أي بدلاً عنكم أيها الرسل من البشر .
{ بغير الحق } : أي بغير أن يأذن الله لهم بذلك العلو والاستكبار والتَّجبُّر .
{ ريحاً صرصراً } : أي ذات صوت يسمع له صرصرة مع البرودة الشديدة .
{ في ايام نحسات } : أي مشئومات عليهم لم يفلحوا بعدها .
{ ولعذاب الآخرة أخزى } : أي أشد خزياً من عذاب الدنيا .
{ فاستحبوا العمى على الهدى } : أي استحبوا الكفر على الإِيمان إذ الكفر ظلام والإِيمان نور .
{ الذين آمنوا وكانوا يتقون } : أي الشرك والمعاصي .
معنى الآيات :
ما زال السياق في طلب هداية قريش فقال تعالى : { فإن أعرضوا } بعد ذلك البيان الذي تقدم لهم في الآيات السابقة المبين لقدرة الله وعلمه وحكمته والموجب للإِيمان ولقائه وتوحيده فقل لهم أنذرتكم أي خوفتكم صاعقة تنزل بكم إن أصررتم على إعراضكم مثل صاعقة عادٍ وثمود أي عذاباً مهلكاً كالذي أهلك الله به عاداً وثموداً .
وقوله : { إذ جاءتهم الرسل } وهم هود وصالح من بين أيديهم ومن خلفهم كناية أن الرسول بلغهم دعوة الله لهم إلى الإِيمان والتوحيد بعناية فائقة يأتيهم من أمامهم ومن خلفهم يدعوهم ، قائلاً لهم : لا تعبدوا إلا الله فإنه الإِله الحق وما عداه فباطل فكان جوابهم لهم لا نؤمن لكم ولا نقبل منكم لو شاء الله ما تقولون لنا لأزنل به ملائكة يدعوننا إليه لا أن يرسل مثلكم من البشر وأخيراً قالوا لهم فإننا بما ارسلتم به كافرون فأياسوا الرسل من إجابتهم . هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى ( 12 ) والثانية ( 13 ) وفي الآية الثالثة ( 14 ) بين تعالى حال القوم كلا على حدة فقال فأما عاد اي قوم هود فاستكبروا في الأرض بغير الحق فحملهم الكبر الناجم عن القوة المادية على رفض دعوة هود عليه السلام وقالوا فيه وفي دعوته الكثير وقد مر في سورة هود ويأتي في سورة الأحقاف مفصلا ما أجمل هنا ، وقوله بغير الحق اي أن استكبارهم لاحق لهم فيه أولا لضعفهم أمام قوة الله عز وجل ، وثانيا لم يأذن الله تعالى لهم بالاستكبار فهو بغير حق غذاً . وقوله : { وقالوا من أشد منا قوة } وهذا منهم تحد صريح وعلو وعتو واضحان ، ولذا تحداهم الله تعالى بالقوة فقال عز وجل أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو اشد منهم قوة أي أعَموا ولم يروا أن الله الذي خلقهم قطعا هو أشد منهم قوة : إذ كل قوة لهم مصدرها الله هو خالقهم وواهب القوة لهم ، فقوتهم ليست ذاتية ولكنها موهوبة إذ يُخلق أحدهم وهو لا يقدر على دفع أدنى شيء عن نفسه وقوله : وكانوا بآياتنا يجحدون هذا تسجيل عيهم أكبر ذنب وهو جحودهم بآيات الله التي جاء بها رسول الله هود عليه السلام كما جحدت قريش آيات الله ، وقوله تعالى فأرسلنا اي بمجرد أن تأكد كفرهم بجحودهم بىيات الله ارسل الله تعالى عليهم ريحا صرصراً اي باردة ذات صوت مزعج دامت سبع ليال وثمانية أيام فلم تبق منهم أحداً وهي ايام نحسات عيهم مشؤمات قال تعالى لنذيقهم أي أرسلناها عليهم لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا .
(3/473)
________________________________________
ولعذاب الآخرة أخزى اي اشد خزيا وإهانة لهم وذلة ، وهم لا ينصرون اي لا ناصر لهم من الله عز وجل . هذا بيان حال عاد . وأما ثمود فقد قال تعالى وأما ثمود قوم صالح فاستحبوا الضلال على الهدى والكفر على الإِيمان وقتلوا الناقة وهَمُّوا بقتل صالح فأخذتهم صاعقة العذاب الهون وذلك صباح السبت فأخذتهم صيحة انخلعت لها قلوبهم فرجفت الأرض من تحتهم فهلكوا عن آخرهم ، وذلك بما كانوا يكسبون من الشرك والظلم والكفر والعناد . ونجىَّ الله تعالى صالحاً ومن معه من المؤمنين الذين آمنوا وكانوا يتقون الشرك والمعاصي وكانوا أربعة آلاف مؤمن ومؤمنة وهو معنى قوله تعالى في ختام الحديث : ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون .
هداية الآيات :
من هداية الآيات : 1- التحذير من الإِعراض عن إجابة دعوة الحق ، والاستمرار في التمرد والعصيان .
2- تقرير التوحيد وهو أن لا إله إلا الله .
3- دعوة الرسل واحدة وهي الأمر بالكفر بالطاغوت ، والإِيمان بالله وعبادته وحده بما شرع للناس من عبادات .
4- التنديد بالاستكبار وأنه سبب الكفر والعصيان .
5- لا مصيبة إلا بذنب « بما كانوا يكسبون » أي من الذنوب .
6- الإِيمان والتقوى هما سبيل النجاة من العذاب في الدنيا والآخرة وهما ركنا الولاية ولاية الله تعالى لقوله ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون .
(3/474)
________________________________________
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
شرح الكلمات :
{ فهم يوزعون } : أي يحبس أولهم ليلحق آخرهم ليساقوا إلى النار مجتمعين .
{ حتى إذا ما جاءوها } : أي حتى إذا جاءوها أي النار .
{ بما كانوا يعملون } : أي من الذنوب والمعاصي .
{ وهو خلقكم أول مرة } : أي بدأ خلقكم في الدنيا فخلقكم ثم أماتكم ثم أحياكم .
{ وما كنتم تسترون } : أي عند ارتكابكم الفواحش والذنوب اي تستخفون من أن يشهد عليكم سمعكم وأبصاركم فتتركوا الفواحش والذنوب .
{ ولكن ظننتم أن الله لا يعلم } : أي ولكن عند ارتكابكم الفواحش ظننتم أن الله لا يعلم ذلك منكم .
{ أرداكم } : أي أهلككم .
{ فإن يصبروا فالنار مثوى لهم } : أي فإن صبروا على العذاب فالنار مثوى أي مأوى لهم .
{ وإن يستعتبوا } : أي يطلبوا العتبى وهي الرضا فلا يعتبون اي لا يرضى عنهم هذه حالهم أبداً .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في دعوة قريش إلى أصول الدين التوحيد والنبوة والبعث والجزاء وفي هذا السياق عرض لمشهد من مشاهد القيامة وهو مشهد حَيْ رائع بعرض أمامهم .
إذ يقول تعالى : ويوم يحشر أعداء الله إلى النار أي اذكر لهم يوم يحشر أعداء الله اي الذين كفروا به فلم يؤمنوا ولم يتقوا؛ غلى النار فهم يوزعون يحبس أولهم ليلحق آخرهم فيساقون مع بعضهم بعضا . حتى إذا ما جاءوها أي انتهوا غليها ، وادعوا أ ، هم مظلومون وأخذوا يتنصَّلون من ذنوبهم ، وقالوا إنهم لا يقبلون شاهداً من غير أنفسهم فيأمر الله تعالى أمساعهم وابصارهم وجلودهم فتشهد عليهم بما كانوا يعملون ، وهو قوله تعالى : { شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون } وهنا رجعوا غلى جلودهم يلومون عليهم ويعتبون وهو ما أخبر تعالى به في قوله : وقالوا لجلودهم { لِمَ شهدتم علينا } فأجابتهم جلودهم بما أخبر تعالى عنهم في هذا السياق { قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة } اي النشأة الأولى في الدنيا ثم أماتكم ثم أحياكم { وإليه ترجعون } وها أنتم قد رجعتم فالقادر على هذا كله قادر على أن ينطقنا وعلى كل شيء اراد إنطاقه ، وقوله { وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم } أي وما كنتم تستخفون فتتركوا محارم الله بل كنتم تجاهرون بذلك لعدم غيمانكم بالبعث والجزاء { وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم } وهو ظن شيء { أرداكم } أي أهلككم { فأصبحتم من الخاسرين الذي خسروا أنفسهم وأهيهم يوم القيامة وهذا هو الخسران المبين وقوله تعالى في الاية الأخيرة من هذا السياق ( 23 ) فإن يصبروا أي أعداء الله الذين شهد عليهم سمعهم وابصارهم وجلودهم فالنار مثوى اي مأوى لهم لا يخرجون منها أبداً ، وإن يستعتبوا اي يطلبوا العتبى اي الرضا فيرضى عنهم فيدخلوا الجنة { فما هم بمعتبين } أي فما هو بحاصل لهم أبداً فهم إذاً بشرِّ التقديرين والعياذ بالله تعالى من حال أهل النار .
(3/475)
________________________________________
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرض مفصل بحال أهل النار فيها .
2- التحذير من فعل الفواحش وكبائر الذنوب فإن جوارح المرء تشهد عليه .
3- التحذير من سوء الظن بالله تعالى ومن ذلك أن يظن المرء أن الله لا يطلع عليه .
أولا يعلم ما يرتكبه ، أو أنه لا يحاسبه أو لا يجزيه .
4- وجوب حسن الظن بالله تعالى وهو أن يرجو أن يغفر الله له إذا تاب من زلة زلها ، وأن يرجو رحمته وعفوه إذا كان في حال العجز عن الطاعات ولا سيما عند العجز عن العمل للمرض والضعف كالكبر ونحوه فيغلب جانب الرجاء على جانب الخوف .
(3/476)
________________________________________
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
شرح الكلمات :
{ وقيضنا لهم قرناء } : أي وبعثنا لكفار مكة المعرضين قرناء من الشياطين .
{ فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم } : أي حسنوا لهم الكفر والشرك ، وإنكار البعث والجزاء .
{ وحق عليهم القول في أمم قد خلت } : أي وجب لهم العذاب في أمم مضت قبلهم من الجن والإِنس .
{ والغوا فيه لعلكم تغلبون } : أي الغطوا فيه بالباطل إذا سمعتم من يقرأه .
{ ولنجزينهم اسوأ الذي كانوا يعملون } : أي بأقبح جزاء أعمالهم التي كانوا يعملون .
{ أعداء الله } : أي من كفروا به ولم يتقوه .
{ أرنا اللذين أضلانا من الجن والإِنس } : أي إبليس من الجن ، وقابيل بن آدم .
{ نجعلهما تحت أقدامنا } : أي في أسفل النار ليكونا من الأسفلين .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في دعوة المعرضين من كفار قريش ، فقال تعالى : { وقيضنا لهم } أي بعثنا لهم قرناء من الشياطين ، وذلك بعد أن أصروا على الباطل والشر فخبثوا خبثا سَهَّلَ لأخباث الجن الاقتران بهم فزينوا لهم الكفر والمعاصي القبيحة في الدنيا فها هم منغمسون فيها ، كما زينوا لهم الكفر بالبعث والجزاء وإنكار الجنة والنار حتى لا يقصروا في الشر ولا يفعلوا الخير أبداً ، وهو معنى قوله تعالى : { فزينوا لهم ما بين أيديهم ، وما خلفهم .
وقوله تعالى : { فحق عليهم القول } أي بالعذاب { في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإِنس إنهم كانوا خاسرين } في حكم الله وقضائه بمقتضى سنة الله في الخسران .
هذا ما دلت عليه الأولى ( 25 ) وهي قوله تعالى : { وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإِنس إنهم كانوا خاسرين } .
وقوله تعالى في الاية الثانية ( 26 ) { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } يخبر تعالى عن أولئك المعرضين عن كفار قريش وأنهم قالوا لبعضهم لا تسمعوا لهذا القرآن الذي يقرأه محمد صلى الله عليه وسلم حتى لا تتأثروا به ، والغوا فيه أي الغطوا وصيحوا بكلام لهو وصفقوا وصفروا حتى لا يتأثر به من يسمعه من الناس لعلكم تغلبون اي رجاء أن تغلبوا محمداً على دينه فتبطلوه ويبقى دينكم . وهذا منتهى الكيد والمكر من أولئك المعرضين عن دعوة الإِسلام .
وكان رد الله تعالى على هذا المكر في الآية التالية ( 27 ) فلنذيقنَّ الذين كفروا عذابا شديداً يخبر تعالى مؤكداً الخبر بأنه سيذيق الذين كفروا عذاباً شديداً وذلك يوم القيامة وليجزينَّهم أسوأ أي أقبح الذي كانوا يعملون أي يجزيهم بحسب اقبح سيئاتهم التي كانوا يعملون . ثم قال تعالى : ذلك الجزاء المتوعَّد به الذين كفروا هو جزاء أعداء الله الذين حاربوا رسوله ودعوته وحتى كتابه ايضاً . وذلك الجزاء هو النار لهم فيها دار الخلد أي الإِقامة الدائمة جزاء بما كانوا بأياتنا يجحدون فلم يؤمنوا بها ولم يعملوا بما فيها وقوله تعالى في الآية ( 29 ) وقال الذين كفروا الآية يخبر تعالى عن الكافرين وهم في النار إذ يقولون ربَّنا أي يا ربنا أرنا اللَّذين أضلانا من الجن والإِنس اي اللذين كانا سببا في إضلالنا بتزيينهم لنا الباطل وتقبيحهم لنا الحق ارناهم نجعلهما تحت أقدامنا في النار ليكونا من الأسفلين اي في الدرك الأسفل من النار إذا النار دركات واحدة تحت الأخرى .
(3/477)
________________________________________
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان سنة الله تعالى في العبد إذا أعرض عن الحق الذي هو الإسلام فخبث من جراء كسبه . الشر والباطل وتوغله في الظلم والفساد يبعث الله تعالى عليه شيطاناً يكون قريناً له فزين له كل قبيح ، ويقبح له كل حسن .
2- بيان ما كان المشركون يكيدون به الإِسلام ويحاربونه به حتى باللغو عند قراءة القرآن حتى لا يسمع ولا يهتدي به .
3- تقرير البعث والجزاء .
4- بيان نقمة أهل النار على من كان سببا في إضلالهم وإغوائهم ، ومن سن لهم سنة شر يعملون بها كإبليس ، وقابيل بن آدم عليه السلام . إذ الأول سن كل شر والثاني سن سنة القتل ظلما وعدوانا .
(3/478)
________________________________________
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
شرح الكلمات : { قالوا ربنا الله } : قالوا ذلك معلنين عن إِيمانهم بأن الله هو ربهم الذي لا رب لهم غيره وإلههم الذي لا إله لهم سواه .
{ ثم استقاموا } : أي ثبتوا على ذلك فلم يبدلوا ولم يغيروا ولم يتركوا عبادة الله بفعل الأوامر وترك النواهي .
{ تتنزل عليهم الملائكة } : أي عند الموت وعند الخروج من القبر بحيث تتلقاهم هناك .
{ أن لا تخافوا ولا تحزنوا } : أي بأن لا تخافوا مما أنتم مقبلون عليه فإنه رضوان الله ورحمته ولا تحزنوا عما خلفتم وأراءكم .
{ نحن أولياؤكم في الحياة : أي فبحكم ولايتنا لكم في الدنيا والآخرة فلا تخافوا ولا تحزنوا .
الدنيا وفي الآخرة } { ولكم فيها ما تدعون } : أي ويلكم فيها ما تطلبون من سائر المشتهيات لكم .
{ نزلا من غفور رحيم } : أي رزقا مهياً لكم من فضل رب غفور رحيم .
معنى الآيات :
لما بين تعالى حال الكافرين في الدار الآخرة وهو أسوأ حال بين حال المؤمنين في الآخرة وهي أحسن حال وأطيب مآل فقد إن الذين قالوا ربنا الله اي لا ربَّ لنا غيره ولا إله لنا سواه ، ثم استقاموا فلم يشركوا به في عبادته أحداً فأدوا الفرائض واجتنبوا النواهي وماتوا على ذلك هؤلاء تتنزل عليهم الملائكة اي تهبط عليهم وذلك عند الموت بأن تقول لهم لا تخافوا على ما أنتم مقدمون عليه من البرزخ والدار الآخرة ولا تحزنوا على ما خلفتم وراءكم وابشروا بالجنة دار السلام التي كنتم توعدونها في الكتاب وعلى لسان الرسول . نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا إذا كنا نسددكم ونحفظكم من الوقوع في المعاصي ، وفي الآخرة نستقبلكم عند الخروج من قبوركم حتى تدخلوا جنة ربكم . ولكم فيها اي في الجنة ما تشتهي أنفسكم من الملاذ ولكم فيها ما تدعون أي تطلبون مما ترغبون فيه وتشتهون . نزلا أي قرىً وضيافة من لدن رب غفور لكم رحيم بكم لا إله إلا هو ولا رب سواه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- فضل الإِيمان والاستقامة عليه بأداء الفرائض واجتناب النواهي .
2- بشرى أهل الإِيمان والاستقامة عند الموت بالجنة وهؤلاء هم أولياء الله المؤمنون المتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وهي هذه وفي الآخرة عند خروجهم من قبورهم .
3- في الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين ، ولأحدهم كل ما يطلبه ويدعيه وفوق ذلك النظر إلى وجه الله الكريم وتلقي التحية منه والتسليم .
(3/479)
________________________________________
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
شرح الكلمات :
{ ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله } : أي لا أحد أحسن قولا منه اي ممن دعا إلى توحيد الله وطاعته .
{ وعمل صالحاً وقال إنني من وعمل صالحاً وهي شرط أيضاً وقال إنني من المسلمين } المسلمين شرط ثالث .
{ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة } : اي لا تكون الحسنة كالسيئة ولا السيئة كالحسنة .
{ ادفع بالتي هي أحسن } : أي ادفع أيها المؤمن السيئة بالخصلة التي هي أحسن كالغضب بالرضى ، والقطيعة بالصلة .
{ كأنه ولي حميم } : أي كأنه صديق قريب من محبته لك إذا فعلت ذلك .
{ وما يلقاها إلا الذين صبروا } : أي وما يعطي هذه الخصلة التي هي أحسن .
{ إلا ذو حظ عظيم } : أي ثواب عظيم وأجر جزيل هذا في الآخرة وأما في الدنيا فالخلق الحسن والكمال .
{ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ } : أي وإن يوسوس لك الشيطان بترك خير أو فعل شر .
{ فاستعذ بالله } : أي فاستجر بالله قالئلا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
{ إنه هو السميع العليم } : أي هو تعالى السميع لأقوال عباده العليم بما يصيبهم وينزل بهم .
معنى الآيات :
لما ذكر تعالى بشرى أهل الإِيمان وصالح الأعمال ذكر هنا بشرى ثانية لهم أيضا فقال : { ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين } هذه ثلاثة شروط الأول دعوته إلى الله تعالى بأن يعبد فيطاع ولا يعص ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر والثاني وعمل صالحاً فأدى الفرائض واجتنب المحارم ، والثالث وفاخر بالإِسلام معتزاً به وقال إنني من المسلمين ، فلا أحد أحسن قولا من هذا الذي ذكرت شروط كما له ، ويدخل في هذا أولا الرسل ، وثانيا العلماء ، وثالثا المجاهدون ورابعا المؤذنون وخامسا الدعاة الهداة المهديون هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 23 ) . وقوله تعالى : { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة } هذا تقرير إلهي يجب أن يعلم وهو أن الحسنة لا تستوي مع السيئة لا تستوي مع الحسنة فالإِيمان لا يساوى بالكفر ، والتقوى لا تساوي بالفجور ، والعدل لا يساوى بالظلم .
كما أن جنس الحسنات لا يتساوى ، وجنس السيئات لا يتساوى بل يتفاضل فصيام رمضان لا يساوي صيام رجب أو محرم تطوعاً ، وسيئة قتل المؤمن لا تستوي مع شتمه أو ضربه وقوله تعالى : { ادفع بالتي هي أحسن } اي بعد أن عرفت يا رسولنا عدم تساوي الحسنة مع السيئة إذا فادفع السيئة بالخصلة التي هي أحسن من غيرها فإذا الذي بينك وبينه عداوة قد انقلب في بره بك واحترامه لك واحتفائه بك كأنه ابن عم لك يحبك ويحترمك ولما كانت هذه الخصلة وهي الدفع بالتي هي أحسن لا تتأتى إلا لذوي الأخلاق الفاضلة والنفوس الكاملة الشريفة قال تعالى : { وما يلقاها } اي وما يعطي هذه الخصلة { إلا الذين صبروا } فكان الصبر خلقاً من أخلاقهم { وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم } في الأخلاق والكمال النفسي ، في الدنيا ، والأجر العظيم وهو الجنة في الآخرة .
(3/480)
________________________________________
وقوله تعالى : { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم } يرشد الرب تعالى عبده ورسوله وكل فرد من أفراد أمته إن نزغه من الشيطان نزغ بأن وسوس له بفعل شر أو ترك خير ، أو خطر له خاطر سوء أن يفزع غلى الله تعالى يستجير به فإن الله تعالى هو السميع العليم فالاستجارة به من الشيطان تَحْمِي العبد وتقيه من وسواس الشيطان وما يلقيه في النفس من خواطر سيئة ، ولله الحمد والمنة على هذه الارشاد الرباني الذي لا يستغنى عنه أحد من عباده .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان فضل الدعوة إلى الله تعالى وشرف الدعاة العاملين .
2- فضل الإِسلام والاعتزاز به والتفاخر الصادق به .
3- تقرير أن الحسنة لا تتساوى مع السيئة . كما أن الحسنات تتفاوت والسيئات تتفاوت .
4- وجوب دفع السيئة من الأخ المسلم بالحسنة من القول والفعل .
5- فضل العبد الذي يكمل في نفسه وخلقه فيصبح يدفع السيئة بالحسنة .
6- وجوب الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم إذا وسوس أو ألقى بخاطر سوء إذ لا يقي منه ولا يحفظ إلا الله السميع العليم .
(3/481)
________________________________________
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
شرح الكلمات :
{ ومن آياته } : أي ومن جملة آياته الدالة على ألوهية الرب تعالى وحده .
{ الليل والنهار } : أي وجود الليل والنهار والشمس والقمر .
{ لا تسجدوا للشمس ولا للقمر } : أي لا تعبدوا الشمس ولا القمر فإنهما من جملة مخلوقاته الدالة عليه .
{ إن كنتم إياه تعبدون } : أي إن كنتم حقا تريدون عبادته فاعبدوه وحده فإن العبادة لا تصلح لغيره .
{ فالذين عند ربك } : أي الملائكة .
{ وهم لا يسأمون } : أي لا يملون من عبادته ولا يكلون .
{ ترى الأرض خاشعة } : أي يابسة جامدة لا نبات فيها ولا حياة .
{ اهتزت وربت } : أي تحركت ، وانتفخت وظهر النبات فيها .
{ إن الذي أحياها لمحيي الموتى } : أي إن الذي أحيا الأرض قادر على إحياء الموتى يوم القيامة .
معنى الآيات :
قوله تعالى ومن آياته أي ومن جملة آياته العديدة الدالة على وجوده وقدرته وعلمه وحكمته والموجبة للإِيمان به وعبادته وتوحيده ، الليل والنهار وتعاقبهما وانتظام ذلك بينهما فليس الليل سابق النهار ، وكذا الشمس والقمر خلقهما وسيرهما في فلكيهما بانتظام ودقة فائقة وحساب دقيق وعليه فلا تسجدوا للشمس ولا للقمر ايها الناس فانهما مخلوقان من جملة المخلوقات ، ولكن اسجدوا لخالقهما إن كنتم إياه تعبدون كما تزعمون . ثم قال تعالى : لرسوله فإِن ابوا أن يستجيبوا له ويسمعوا ما قلت لهم مستكبرين فاعلم أن الذين عند ربك وهم الملائكة يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون من ذلك ولا يملون .
وقوله : ومن آياته آي علامات قدرته على إحياء الموتى للبعث والجزاء إنك أيها الإِنسان ترى الأرض أيام المحل والجدب هامدة جامدة لا حركة لها فإذا أنزل الله تعالى عليها ماء المطر اهتزت وربت اي تحركت تربتها وانتفخت وعلاها النبات وظهرت فيها الحياة كذلك إذا أراد الله إحياء الموتى أنزل عليهم ماء من السماء وذلك بين النفختين نفخة الفناء ونفخة البعث فينبتون كما ينبت البقل وقوله : إن الذي أحياها بعد موتها لمحيي الموتى إنه تعالى على فعل كل شيء أراده قدير لا يمتنع عنه ولا يعجزه ، وكيف لا ، وهو إذا أراد شيئاً إنما يقول له كن فيكون .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير التوحيد بالأدلة القطعية الموجبة لله العبادة دون غيره من خلقه .
2- بيان أن هناك من الناس من يعبدون الشمس ويسجدون لها من العرب والعجم وأن ذلك شرك باطل فالعبادة لا تكون للمخلوقات الخاضعة في حياتها للخالق وإنما تكون لخالقها ومسخرها لمنافع خلقه .
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر دليل منأظهر الأدلة وهو موت الأرض بالجدب ثم حياتها بالغيب ، إذ لا فرق بين حياة النبات والأشجار في الأرض بالماء وبين حياة الإنسان بالماء كذلك في الأرض بعد تهيئة الفرصة لذلك بعد نفخة الفناء ومضي أربعين عاماً عليها ينزل من السماء ماء فيحيا الناس وينبتون من عجب الذنب كما ينبت النبات ، بالبذرة الكامنة في التربة .
5- تقرير قدرة الله على كل شيء اراده ، وهذه الصفة خاصة به تعالى موجبة لعبادته وطاعته . بعد الإِيمان به وتأليهه .
(3/482)
________________________________________
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
شرح الكلمات :
{ يلحدون في آياتنا } : أي يجادلون فيها ويميلون بها فيؤلونها على غير تأويلها لابطال حق أو إحقاق باطل .
{ لا يخفون علينا } : أي إنهم مكشوفون أمامنا وسوف نبطش بهم جزاء إلحادهم .
{ أم من يأتي آمنا يوم القيامة } : أي نعم الذي يأتي آمناً يوم القيامة خير ممن يلقى في النار .
{ اعملوا ما شئتم } : هذا تهديد لهم على إلحادهم وليس إذناً لهم في العمل كما شاءوا .
{ إن الذين كفروا بالذكر } : أي جحدوا بالقرآن أو الحدوا فيه فكفروا بذلك .
{ وإنه لكتاب عزيز } : أي القرآن لكتاب عزيز أي منيع لا يقْدَر على الزيادة فيه ولا النقص منه .
{ لا يأتيه الباطل من بين يديه } : أي لا يقدر شيطان من الجن والإِنس أن يزيد فيه شيئاً وهذا معنى من بين يديه .
{ ولا من خلفه } : أي ولا يقدر شيطان منالجن ولا من الإِنس أن ينقص منه شيئاً وهذا معنى من خلفه ، كما أنه ليس قبله كتاب ينتقصه ، ولا بعده كتاب ينسخه ، فهو كله حق وصدق ليس فيه مالا يطابق الواقع .
معنى الآيات :
يتوعد الجبار عز وجل الذين يلحدون في آيات كتابه بالتحريف والتبديل والتغيير بأنهم لا يخفون عليه ، وأنه سينزل بهم نقمته إن لم يكفوا عن إلحادهم .
وقوله : أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة إذا كان لا يوجد عاقل يقول الذي يلقى في النار خير ممن يأتي آمناً يوم القيامة فالإِلقاء في النار سببه الكفر والإِلْحاد والباطل فليترك هذه من أراد النجاة من النار ، والأمن يوم القيامة من كل خوف من النار وغيرها سببه الإِيمان والتوحيد فليؤمن ويوحد الله تعالى في عبادته ولا يلحد في آياته من اراد الأمن يوم القيامة بعلمه أنه خير من الإِلقاء في النار . هذا أسلوب في الدعوة عجيب انفرد به القرآن الكريم .
وقوله تعالى : { اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير } هذا الكلام للمستهترين بالأحكام الشرعية المستخفين بها فهو تهديد لهم وليس إذناً وغباحة لهم أن يفعلوا ما شاءوا من الباطل والشرك والشر ، ويدل على التهديد قوله بعد إنه بما تعملون بصير .
ومثله قوله أن الذين كفروا بالذكر أي القرآن ، وإنه لكتاب عزيز أي منيع بعيد المنال لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه بالزيادة والنقصان أو التبديل والتغيير .
ولما كان المراد من هذا الكلام التهديد سكت عن الخبر إذ هو أظهر من أن يذكر والعبارة قد تقصر عن أدائه بالصورة الواقعة له . وقد يقدر لنفعلن بهم كذا وكذا .
وقوله تنزيل من حيكم حميد أي القرآن المنيع كما له وشرفه وومناعته أتته أنه تنزيل من حكيم في أفعاله وسائر تصرفاته حميد بذلك وبغيره من فواضله وآلائه ونعمه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- حرمة الإِلحاد في آيات الله بالميل بها عن القصد والخروج بها إلى الباطل .
2- التهديد الشديد لكل من يحرف آيات الله أو يُؤَوِّلها على غير مراد الله منها .
3- تقرير مناعة القرآن وحفظ الله تعالى له ، وأنه لا يدخله النقص ولا الزيادة إلى أن يرفعه الله إليه إذ منه بدأ وإليه يعود .
(3/483)
________________________________________
مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)
شرح الكلمات :
{ ما يقال لك } : أي من التكذيب ايها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم .
{ إلا ما قد قيل للرسل من قبلك } : أي من التكذيب لهم والكذب عليهم .
{ ان ربك لذو مغفرة } : أي ذو مغفرة واسعة تشمل كل تائب إليه صادق في توبته .
{ وذو عقاب أليم } : أي معاقبة شديدة ذات ألم موجع للمصرين على الكفر والباطل .
{ ولو جعلناه قرءآنا أعجميا } : أي القرآن كما اقترحوا إذ قالوا : هلا أنزل القرآن بلغة العجم .
{ لقالوا : لولا فصلت آياته } : أي بينت حتى نفهمها .
{ أأعجمي وعربي } : أي أقرآن أعجمي والمنزل عليه وهو النبي عربي يستنكرون ذلك تعنتاً منهم وعناداً ومجاحدة .
{ هدى وشفاء } : أي هدى من الضلالة ، وشفاء من داء الجهل وما يسببه من أمراض .
{ والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر } : أي ثقل فهم لا يسمعونه هو عليهم عمى فلا يفهمونه .
{ أولئك ينادون من مكان بعيد } : والمنادي من مكان بعيد لا يسمع ولا يفهم ما ينادي له .
{ ولقد آتينا موسى الكتاب } : أي التوراة .
{ فاختلف فيه } : أي بالتصديق والتكذيب وفي العمل ببعض ما فيه وترك البعض الآخر كما هي الحال في القرآن الكريم .
{ ولولا لكمة سبقت من ربك } : أي ولولا الوعد بجمع الناس ليوم القيامة وحسابهم ومجازاتهم هناك .
{ لقضي بينهم } : أي لحكم بين المختلفين اليوم وأُكرم الصادقون وأُهين الكاذبون .
{ وما ربك بظلام للعبيد } : أي وليس ربك يا رسولنا بذي ظلم للعبيد .
معنى الآيات :
بعد توالي الآيات الهادية من الضلالة الموجبة للإِيمان كفار قريش لا يزيدهم ذلك إلا عناداً وإصراراً على تكذيب الرسول والكفر به وبما جاء به من عند ربه ، ولما كان الرسول بشراً يحتاج غلى عون حتى يصبر أنزل تعالى هذه الآيات في تسليته صلى الله عليه وسلم وحمله على الثبات والصبر فقال تعالى : { ما يقال لك } يا رسولنا من الكذب عليك والتكذيب لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك .
وقوله تعالى : إن ربك لذو مغفرة أي لمن تاب فلذا لا يتعجل بإهلاك المكذبين رجاء أن يتوبوا ويؤمنوا ويوحدوا ، وذو عقاب أليم اي موجع شديد لمن مات على كفره .
وقوله تعالى : ولو جعلناه قرآنا أعجمياً اي كما اقترح بعض المشركين ، لقالوا : لولا فصلت ىياته أي هلاَّ بُينت لنا حتى نفهمها ، ثم قالوا : أأعجمي وعربي أي أقرآناً عجمي ونبي عربي مُسْتَنكِرِينَ ذلك متعجبين منه وكل هذا من أجل الإِصرار على عدم الإِيمان بالقرآن الكريم والنبي الكريم وتوحيد الرب الكريم .
ولما علم تعالى ذلك منهم أمر رسوله أن يقول لهم قل هو أي القرآن الكريم هدى وشفاء هدى يهتدي به إلى سبل السعادة والكمال والنجاح ، وشفاء من امراض الشك والشرك والنفاق والعجب والرياء والحسد والكبر ، والذين لا يؤمنون بالله رباً وبالإِسلام ديناً وبمحمد رسولاً هو اي القرآن في آذانهم وقر اي حمل ثقيل أولئك ينادون من مكان بعيد ولذا فهم لا يسمعون ولا يفهمون .
(3/484)
________________________________________
هذه تسلية وأخرى في قوله تعالى : { ولقد آتينا موسى الكتاب أي التوراة فاختلفوا فيه فمنهم المصدق ومنهم المكذب ، ومنهم العامل بما فيه المطبق ومنهم المعرض عنه المتبع لهواه وشيطانه الذي أغواه وقوله تعالى ولولا كلمة سبقت منربك لقضي بينهم فيما اختلفوا فيه لحكم لأهل الصدق بالنجاة وأهل الكذب بالهلاك والخسران وقوله : وإنهم لفي شك منه أي من القرآن مريب اي موقع في الريبة وذلك من جراء محادته والمعاندة والمجاحدة ، وقوله : من عمل صالحاً فلنفسه وهذه تسلية أعظم فإن من عمل صالحاً في حياته بعد الإِيمان فإن جزاءه قاصر عليه ينتفع به دون سواه ، ومن أساء اي عمل السوء وهو ما يسوء النفس من الذنوب والآثام فعلى نفسه عائد .
سوءه الذي عمله ولا يعود على غيره ، وأُخرىَ في قوله تعالى وما ربك بظلام للعبيد اي ليس هو تعالى بذي ظلم لعباده . فقوله تعالى من عمل صالحاً فلنفسه عائد ذلك ومن أساء فعليها أي عائد الإِساءة إن فيه لتسلية لكل من أراد أن يتسلى ويصبر .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تسلية الرسول أي حمله على الصبر والسلوان ليواصل دعوته إلى نهايتها .
2- بيان مدى ما كان عليه المشركون من التكذيب للرسول والمعاندة والمجاحدة .
3- القرآن دواء وشفاء لأهل الإِيمان ، وأهل الكفر فهم على العكس من أهل الإِيمان .
4- بيان سنة الله في الأمم السابقة في اختلافها على أنبيائها وما جاءتها به من الهدى والنور .
5- قوله تعالى { من عمل صالحاً فلنسفه ومن أساء فعليها } أجرى مجرى المثل عند العالمين .
6- نفي الظلم عن الله مطلقاً .
(3/485)
________________________________________
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
شرح الكلمات :
{ إليه يرد علم الساعة } : أي إلى الله يرد علم الساعة أى متى تقوم إذ لا يعلمها إلا هو .
{ وما تخرج من ثمرات من أكمامها } : اي من أوعيتها واحد الإِكمام كِمّ وكم الثوب مخرج اليد .
{ وما تحمل من أنثى } : أي من اي جنس كان إنساناً أو حيواناً .
{ ولا تضع إلا بعلمه } : أي ولا تضع حملها إلا ملابساً بعلم الله تعالى المحيط بكل شيء .
{ قالوا آذنَّاك } : أي أعلمناك الآن .
{ مامنا من شهيد } : أي ليس منا من يشهد بان لك شريكاً أبداً .
{ وظنوا ما لهم من محيص } : أي أيقنوا انه مالهم من مهرب من العذاب .
معنى الآيتين :
يخبر تعالى ان علم الغيب قد انحصر فيه فليس لأحد من خلقه علم الغيب وخاصة علم الاعة أي علم قيامها متى تقوم؟ كما أخبر عن واسع علمه وانه محيط بكل الكائنات فما تخرج من ثمرة من كمها وعائها وتظهر منه إلا يعلمها على كثرة الثمار والأشجار ذات الأكمام ، وما تحمل من انثى بِجَنِين ولا تضعه يوم ولادته أو إسقاطه إلا يعلمه أي يتم ذلك بحسب علمه تعالى وإذنه ، وهذه مظاهر الربوبية المستلزمة للألوهية فلا إله غيره ولا رب سواه ، ومع هذا فالجاهلون يتخذون له شركاء أنداداً من أحجار وأوثان يعبدونها معه ظلماً وسفهاً . ويوم يناديهم وذلك في يوم القيامة اي شركائي؟ أي الذين كنتم تزعمون أنهم شركاء لى ، فيتبرءون منهم ويقولون : آذناك أعلمناك الآن أنه مامنا من شهيد يشهد بأن لك شريكا إنه لا شريك لك وضل عنهم أي غاب عنهم ما كانوا يدعون من قبل في الدنيا ، وظنوا أيقنوا مالهم مالهم من محيص اي مهرب من عذاب الله .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- استئثار الله تعالى بِعِلْم الغيب وخاصة علم متى تقوم الساعة .
2- إحاطة علم الله تعالى بكل شئ فما تخرج من ثمرة من أوعيتها ولا تحمل من أُنثى ولا تضع حملها إلا بعلم الله تعالى وإذنه .
3- براءة المشركين يوم القيامة من شركهم ، وغياب شركائهم عنهم .
(3/486)
________________________________________
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)
شرح الكلمات :
{ لا يسأم الإِنسان من دعاء الخير } : ألا لا يمل ولا يكل من سؤال طلب المال والصحة والعافية .
{ وإن مسه الشر فيئوس قنوط } : أي المرض والفقر وغيرهما فيئوس من رحمة الله قنوط ظاهر عليه الياس .
{ من بعد ضراء مسته } : أي من بعد شدة أصابته وبلاء نزل به .
{ ليقولن هذا لى } : أي استحققته بعملى ومما لى من مكانة .
{ وما أظن الساعة قائمة } : أي ينكر البعث ويقول : ما أظن الساعة قائمة .
{ إن لى عنده للحسنى } : أي وعلى فرض صحة ما قالت الرسل من البعث ان لى عند الله الجنة .
{ أعرض ونأى بجانبه } : أي أَعرض عن الشكر ونأى بجانبه متبختراً مختالاً في مشيته .
{ فذو دعاء عريض } : أي فهو ذو دعاء لربه طويل عريض يا رباه يا رباه .
معنى الآيات :
يخبر تعالى عن الإِنسان الكافر الذى لم تزك نفسه ولم تطهر روحه بالإِيمان وصالح الأعمال انه لا يسأم ولا يمل من دعاء الخير أى المال والولد والصحة والعافية فلا يشبع من ذلك بحال .
ولئن مسه الشر من ضر وفقر ونحوهما فهو يئوس قنوط يؤوس من الفرج وتبدل الحال من عسر غلى يسر قنوط ظاهر عليه آثار الياس في منطقة وفي حاله كله هذا ما تضمنته الآية الأولى ( 49 ) { لا يسأم الإِنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط } وأما الاية ( 50 ) فإن الله تعالى يخبر أيضا عن الإِنسان الكافر إذا أذاقه الله رحمة منه من مال وصحة واجتماع شمل مثلا ، وذلك من بعد ضراء مسته من مرض وفقر ونحوهم ليقولون لجهله وسفهه : هذا لى أى استحققته بمالى من جهد ومكانه وعلم وإذا ذكر بالساعة من أجل أن يرفق أو يتصدق يقول ما أظن الساعة قائمة كما تقولون وإن قامت على فرض صحة قولكم إن لى عنده اي عند الله للحسنى اي للحالة الحسنى من غنى وغيره وجنة إن كانت كما تقولون .
وقوله تعالى { فلننبئن الذين كفروا بما عملوا } أي يوم القيامة عند عرضهم علينا ، ولنذيقهم من عذاب غليظ يخلدون فيه لا يخرجون منه أبداً .
وقوله تعالى في الاية الأخيرة ( 51 ) وإذا انعمنا على الإنسان بنعمة المال والولد والصحة أعرض عن ذكرنا وشكرنا وتخلى عن طاعتنا ونأى بجانبه متباعداً متبختراً مختالا يكاد يضاهى الطاووس في مشيته . وإذا سلبناه ذلك ومسه الشر من مرض وفقر وجهد وبلاء فهو ذو دعاء عريض لنا يا رب يا رب يا رب . هذا ليس الرجل الأول الذي يياس ويقنط ، ذاك كافر ، وهذا مؤمن ضعيف الإِيمان جاهل لا أدب عنده ولا خلق . وما أكثر هذا النوع من الرجال في المسلمين اليوم والعياذ بالله تعالى فالأول عائد غلى ظلمة نفسه بالكفر ، وهذا عائد غلى سوء تربيته وسء خلقه وظلمة جهله .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان حال الإِنسان قبل الإِيمان والاستقامة فإنه يكون أحط المخلوقات قدراً وأضعفها شأنا .
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر بعض الأحداث فيها .
3- ذم الياس والقنوط والكبر والاختيال ، والكفر للنعم ونسيان المنعم وعدم شكره .
(3/487)
________________________________________
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
شرح الكلمات :
{ قل أرأيتم إن كان من عند الله } : أي أخبروني إن كان القرآن من عند الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم .
{ ثم كفرتم به } : أي ثم كفرتم به بعد العلم أنه من عند الله .
{ من أضل ممن هو في شقاق بعيد } : أي من يكون أضل منكم وأنتم في شقاق بعيد؟ لا أحد .
{ في الآفاق وفي أنفسهم } : أي في أقطار السموات والأرض من المخلوقات وأسرار خلقها وفي انفسهم من لطائف الصنعة وعجائب وبدائع الحكمة .
{ حتى يتبين لهم أنه الحق } : أي أن القرآن كلام الله ووحيه إلى رسوله حقا ، وأن الإِسلام حق .
{ ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم } : أي في شك من البعث الآخر حيث يعرضمون على الله تعالى .
{ الا إنه بكل شئ محيط } : أى علماً وقدرة وعزة وسلطاناً .
معنى الآيات :
يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمكذبين بالوحي الإِلهي الذي يمثله القرآن الكريم حيث قالوا فيه شعر وسحر وأساطير الأولين يأمره أن يقول لهم مستفهما لهم ارأيتم اي أخبرونى إن كان أى القرآن الذى كذبتم به من عند الله وكفرتم به أى كذبتم؟ من يكون أضل منكم وأنتم تعيشون فى شقاق بعيد اللهم لا أحد يكون أضل منكم عن طريق الهدى إذا فلم لا تثوبون إلى رشدكم وتؤمنون بآيات ربكم فتكملوا عليها وستعدوا .
ثم قال تعالى : سنريهم آياتنا الدالة على صدقنا وصدق رسولنا فيما أخبرناهم به وجعوناهم إليه من الإِيمان والتوحيد والبعث والجزاء وذلك في الآفاق أي من أقطار السموات والأرض مما ستكشف عنه الأيام من عجائب تدبير الله ولطائف صنعه ، وفى أنفسهم أيضا اي في ذواتهم حتى يتبين لهم أنه الحق ، من ذلك فتح القرى والأمصار وانتصار الإِسلام كما أُخبر به القرآن ، ووقعة بدر وفتح مكة من ذلك وما ظهر لِحَدّ الآن من كشوفات في الآفاق وفى الأنفس مما اشار إليه القرآن ما هو أعجب من ذلك قوله تعالى : { ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون } فنظام الزوجية السارى فى كل جزئيات الكون شاهد قوي على صدق القرآن وأنه الحق من عند الله ، وان الله حق وأن الساعة حق وقوله تعالى : { أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد؟ } هذا توبيخ لهؤلاء المكذبين بإعلامهم أن شهادة الله كافية في صدق محمد وما جاء به إن الله هو المخبر بذلك والآمر بالإيمان به فكيف يطالبون بالآيات على صدق القرآن ومن نزل عليه والله المرسل للرسول والمنزل للكتاب وقوله تعالى : { ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم } إعلام منه تعالى بما عليه القوم من الشك في البعث والجزاء وهو الذى سبب لهم كثيراً من أنواع الشر والفساد .
(3/488)
________________________________________
وقوله : { ألا إنه بكل شئ محيط } علماً وقدرة وعزة وسلطاناً فما أخبر به عنهم من علمه وما سيجزيهم به من عذاب إن اصروا على كفرهم من قدرته وعزته . ألا فليتق الله امرؤ مصاب بالشك في البعث وكل الظواهر دالة على حتميته ووقوعه في وقته المحدد له .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- التنديد بالكفر بالقرآن والتكذيب بما جاء فيه من الهدى والنور .
2- لا أضل ممن يكذب بالقرآن لأنه يعيش في خلاف وشقاق لا أبعد منه .
3- صدق وعد الله تعالى حيث أرى المشركين وغيرهم آياتيه الدالة على وحدانيته وصحة دينه وصدق أخباره ما آمن عليه البشر الذين لا يعدون كثرة .
4- ما من اكتشاف ظهر ويظهر إلا والقرآن أدخله في هذه الآية سنريهم آياتنا في الآفاق وفى أنفسهم .
5- الإِشارة إلى أن الإِسلام سيعلم صحته وسيدين به البشر أجمعون فى يوم ما من الأيام .
6- تقرير البعث والجزاء . ومظاهر قدرة الله تعالى المقررة له .
(3/489)
________________________________________
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)
شرح الكلمات :
{ حم عسق } : هذه أحد الحروف المقطعة تكتب هكذا : حم عسق وتقرأ هكذا حَامِيمْ عَيْنْ سِينْ قَافْ .
{ كذلك يوحى إليك وإلى الذين : أي مثل ذلك الإِيحاء يوحى إليك وإلى الذين من قبلك .
من قبلك } الذى يوحى إليك .
{ له ما في السموات وما في الأرض } : اي خلقا وملكا وتصرفا .
{ وهو العزيز الحكيم } : أي العزيز في انتقامه من أعدائه الحكيم في تدبيره لأوليائه .
{ يتفطرن من فوقهن } : أي يتشققن من عظمة الرحمن وجلاله .
{ والذين اتخذوا من دونه أولياء } : أي آلهة يعبدونها .
{ الله حفيظ عليهم } : أي يحصي لهم أعمالهم ويجزيهم بها .
{ وما أنتم عليهم بوكيل } : أي ولست موكلا بحفظ أعمالهم وإنما عليك البلاغ .
معنى الآيات :
قوله تعالى : { حم عسق } الله أعلم بمراده به وقد تقدم التنبيه إلى أن هذا من المتشابه الذى يجب الإِيمان به وتفويض أمر فهم معناه إلى منزله وهو الله سبحانه وتعالى وقد ذكرنا أن له فائدتين جليلتين تقدمتا في كثير من فواتح السور المبدوءة بمثل هذه الحروف المقطعة فليرجع إليها .
وقوله { كذلك يوحى إليك } أي مثل ذلك الإِيحاء باصول الدين الثلاثة وهى التوحيد والنبوة والبعث يوحى إليك بمعنى أوحى إليك وإلى الذين من قبلك من الرسل الله العزيز في انتقامه من أعدائه الحكيم في تدبيره لأوليائه وقوله { له ما في السموات وما في الأرض } اي خلقاً وملكاً وهو العلي أي ذو العلو المطلق على خلقه العظيم في ذاته وشأنه وحكمه وتدبيره سبحانه لا إله إلا هو لا رب سواه .
وقوله تعالى { تكاد السموات يتفطرن } اي يتصدعن ويتشققن من فوقهن من عظمة الرب تبارك وتعالى والملائكة يسبحون بحمد ربهم أى يصلون له ويستغفرون لمن فى الأرض أي يطلبون المغفرة للمؤمنين فهذا من العام الخاص بما فى صورة المؤمن إذ فيها ويستغفرون للذين آمنوا وقوله تعالى { الا إنّ الله هو الغفور الرحيم } إخبار بعظيم صفاته عز وجل وهما المغفرة والرحمة يغفر لمن تاب من عباده ويرحم بالرحمة العامة سائر مخلوقاته في هذه الحياة ويرحم بالرحمة الخاصة عباده الرحماء وسائر عباده المؤمنين في دار السلام وقوله تعالى : { والذين اتخذوا من دونه أولياء } أي شركاء آلهة يعبدونهم هؤلاء الله حفيظ عليهم فيحصي عليهم أعمالهم ويجزيهم بها يوم القيامة ، وليس على الرسول من ذلك شئ إن عليه إلاّ البلاغ وقد بلغ وهو معنى قوله : { وما أنت عليهم بوكيل } تحفظ عليهم أعمالهم وتجزيهم بها وفي الآية تسلية للرسول وتخفيف عليه لأنه كان يشق عليه إعراض المشركين واصرارهم على الشرك بالله تعالى .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- وحدة الوحى بين سائر الأنبياء إذ هى تدور على التوحيد والنبوة والبعث والجزاء والترغيب فى العمل الصالح ، والترهيب من العمل الفاسد .
2- بيان عظمة الله تعالى وجلاله وكماله حتى إن السموات تكاد يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمده تعالى ويستغفرون للمؤمنين .
3- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والتخفيف عنه بانه غير موكل بحفظ أعمال المشركين ومجازاتهم عليها إنما هو الله تعالى ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين .
(3/490)
________________________________________
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)
شرح الكلمات :
{ وكذلك أوحينا إليك } : أي ومثل ذلك الإِيحاء إليك وإلى من قبلك أوحينا إليك .
{ قرآنا عربياً } : أي بلسان عربي .
{ لتنذر أم القرى ومن حولها } : أي علة الإِيحاء هى إنذارك أهل أم القرى مكة ومن حولها من القرى أي تخوفهم عذاب الله إنْ بقوا على الشرك .
{ وتنذر يوم الجمع } : أي وتنذر الناس من يوم القيامة إذ هو يوم يجمع الله فيه الخلائق .
{ لا ريب فيه } : أي لا شك في مجيئه وجمع الناس فيه .
{ فريق في الجنة } : أي المؤمنون المتقون .
{ وفريق في السعير } : أي الكافرون .
{ ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة } : أي على دين الإِسلام وبذلك يكون الجميع في الجنة .
{ ولكن يدخل من يشاء في رحمته } : أي في الإِسلام أولا ثم في الجنة ثانياً .
{ والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير } : أي المشركون ليس لهم من ولي يتولاهم ولا نصير ينصرهم فهم في النار .
{ أم اتخذوا من دون الله أولياء } : أي بل اتخذوا من دونه تعالى شركاء أَلَّهوُهُم من دون الله .
{ فالله هو الولى } : أي الولي الحق ومن عداه فلا تنفع ولايته ولا تضر .
معنى الآيات :
قوله تعالى { وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا } أي ومثل ذلك الإِيحاء الذى أوحينا إليك وإلى الذين من قبلك أوحينا إليك قرآنا عربياً أي بلسان عربى يفهمه قومك لأنه بلسانهم لتنذر به اي تخوف أم القرى ومن حولها من الناس عاقبة الشرك والكفر والظلم والفساد وتنذر ايضا الناس يوم الجمع وهو يوم القيامة فإنه يوم هول عظيم وشر مستطير ليتوقوه بالإِيمان والتقو . إنه يوم يكون فيه الناس والجن فريقين لا ثالث لهما : فريق في الجنة بإِيمانه وتقواه لله بفعل أوامره وترك نواهيه ، وفريق في السعير بشركه وكفره بالله وعدم تقواه فلا امتثل أمراً ولا اجتنب نهياً .
وقوله تعالى : { ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة } اي في الدنيا على دين الإِسلام الذى هو دين آدم فنوح فإبراهيم فسائر الأنبياء موسى وعيس ومحمد صلى الله عليه وسلم . إذ هو عبارة عن الإِيمان بالله وبما أمر الله بالإِيمان به ، والانقياد لله ظاهراً وباطنا بفعل محابة تعالى وترك مكارهه ولو كانوا في الدنيا على ملة الإِسلام لكانوا في الآخرة فريقا واحداً وهو فريق الجنة ولكن لم يشأ ذلك لحكم عالية فهو تعالى يدخل من يشاء في رحمته في الدنيا وهي الإِسلام وفي الآخرة هي الجنة ، والظالمون اي المشركون الذي رفضوا التوحيد والإِسلام لله ما لهم من ولي ولا نصير فهم إذا في عذاب السعير . وقوله تعالى : { أم اتخذوا } اي الظالمون من دون الله أولياء من دون الله ليشفعوا لهم جهلا منهم بأنه لا يشفع أحد إلا بإذن الله ورضاه فعلوا ذلك وما كان لهم ذلك لأن الولي الحق هو الله فلم لا يتخذونه وليا ، وهو الولي الحميد وهو يحيى الموتى وهو على كل شيء قدير فمن أحق بأن يُتَولىَّ من يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير أم من لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع ، والجواب معلوم ، ولا يهلك على الله إلا هالك .
(3/491)
________________________________________
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير النبوة المحمدية بإثبات الوحى الإِلهى .
2- شرف مكة بتسميتها أم القرى أى أم المدن والحواضر .
3- مشروعية التعليل للأفعال والأحكام .
4- إنقسام الناس يوم القيامة إلى سعيد وشقي لا غير .
5- لم يشا الله ان يجعل الناس أمة واحدة لحكم عالية علمها إليه سبحانه وتعالى .
6- من طلب ولاية غير الله هلك؟ ومن والى الله دون من سواه كفاه الله ما أهمه في دنياه وأخراه .
(3/492)
________________________________________
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
شرح الكلمات :
{ وما اختلفتم فيه من شئ } : أي من أمور الدين والدنيا مع الكفار أو مع المؤمنين .
{ فحكمه إلى الله } : هو الذي يقضي فيه في الدنيا بما ينزل من وحي على رسوله وفي الآخرة إذْ الحكم له دون غيره .
{ ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه : أي قل لهم يا رسولنا ذلكم الحاكم العدل العظيم الله ربي عليه أنيب } توكلت اي فوضت أمري إليه ، وإليه لا إلى غيره ارجع في أمورى كلها .
{ فاطر السموات والأرض } : أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق .
{ جعل لكم من أنفسكم أزواجا } : أي بأن جعلكم ذكراً وأنثى ، ومن الأنعام كذلك .
{ يذرؤكم فيه } : أي يخلقكم في هذا التدبير وهو من الذكر والأنثى يخرجكم .
{ ليس كمثله شيء } : أي ليس مثل الله شيء إذ هو الخالق لكل شيء فلا يكون مخلوق مثله بحال من الأحوال .
{ وهو السميع البصير } : أي السميع لأقوال عباده العليم بأعمالهم وأحوالهم .
معنى الآيات :
يقول تعالى وما اختلفتم فيه من شيء من أمور الدين والدنيا أيها الناس فحكمه إلى الله تعالى هو الذي يحكم فيه بالعدل فردوه إليه سبحانه وتعالى فإنه يقضى بينكم بالحق . وهنا أمر رسوله أن يقول للمشركين ذلكم المذكور بصفات الجلال والكمال الحكم العدل الذى يقضى ولا يقضى عليه الله ربي الذي ليس لي رب سواه عليه توكلت ففوضت أمري إليه واثقاً في كفايته وإليه وحده أنيب اي أرجع في أموري كلها ، ثم واصل ذكر صفاته الفعلية فقال فاطر السموات والأرض اي خالق السموات السبع والأرض مبدعهما من غير مثال سابق { جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } إذْ خلق حواء من ضلع آدم ثم جعلكم تتناسلون من ذكر وأنثى ومن الأنعام أزواجاً أيضا وهما الذكر والأنثى وقوله { يذروكم فيه } اي يخلقكم فيه اي في هذا النظام نظام الذكر والأنثى كأن الذكورة والأنوثة معمل من المعامل يتم فيه خلق الإِنسان والحيوان فسبحان الهخلاق العليم .
وقوله : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } هذا تعريف عرف تعالى به نفسه ليعرف بين عباده وهو أنه عزو جل ليس مثله شيء أي فلا شيء مثله فعرف بالتفرد بالوحداينة فالذي ليس له مثل ولا مثله شيء هو الله ذو الأسماء الحسنى والصفات العليا وهو السميع لكل الأصوات العليم بكل الكائنات .
وقوله تعالى : { له مقاليد السموات والأرض } أي له مفاتيح خزائن السموات والأرض ، وله مغاليقها فهو تعالى يبسط الرزق لمن يشاء امتحاناً ويضيق ابتلاء ، لأنه بكل شيء عليم فلا يطلب الرزق إلاَّ منه ، ولا يلجأ فيه إلا إليه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- وجوب ردّ ما اختلف فيه إلى الله تعالى ليحكم فيه وهو الرد إلي الكتاب والسنة .
2- وجوب التوكل عليه والإِنابة إليه في كل الأمور .
3- تنزيه الله تعالى عن مشابهته لخلقه مع وجوب الإِيمان باسمائه الحسنى وصفاته العليا .
4- وجوب الإِيمان بأن الله هو الرزاق بيده مفاتح خزائن الأرزاق فمن شاء وسع عليه ، ومن شاء ضيق ، وأنه يوسع لحكمه ويضيق لأخرى .
(3/493)
________________________________________
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
شرح الكلمات :
{ ما وصى به نوحاً والذى أوحينا : أي شرع لكم من الدين الذي وصى به نوحا والذي أوحينا إليك إليك } به إليك .
{ وما وصينا به إبراهيم وموسى : أي والذي وصينا باقي أولى العزم وهم إبراهيم وموسى وعيس وعيس } وهو أن يعبدوا الله وحده بما شرع من العبادات .
{ أن اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } : أي بأن اقيموا الدين الذي شرع لكم ولا تضيعوه ولا تختلفوا فيه .
{ كبر على المشركين ما تدعوهم : أي عظم على كفار قريش ما تدعوهم إليه وهو لا إله إلا الله إليه } محمد رسول الله .
{ الله يجتبي إليه من يشاء } : أي يختار إلى الإِيمان به والعمل بطاعته من يريده لذلك .
{ ويهدي إليه من ينيب } : أي ويوفق لطاعته من ينيب إليه في أموره ويرجع إليه في جميع شأنه ، بخلاف المعرضين المستكبرين .
{ بغيا بينهم } : أي حملهم البغي على التفرق في دين الله .
{ ولولا لكمة سبقت من ربك } : أي ولولا ما قضى الله به من تأخير العذاب على هذه الأمة غلى يوم القيامة .
{ لقضى بينهم } : أي لحكم الله بينهم فأهلك الكافرين وأنجى المؤمنين .
{ وإن الذين أورثوا الكتاب من : أي وان الذين أورثوا الكتاب من بعد الأولين وهم اليهود بعدهم } والنصارى ومشركو العرب .
{ لفي شك منه مريب } : أي لفي شك مما جئتهم به من الدين الحق وهو الإِسلام .
معنى الآيات :
يخاطب تعالى رسوله والمؤمنين فيقول وقوله الحق : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً } إذ هو أول حامل شريعة من الرسل والذي أوحينا إليك يا محمد وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى } من أولى العزم من الرسل { أن أقيموا الدين } وهو دين واحد قائم على الإِيمان والتوحيد والطاعة لله في أمره ونهيه وإقامة ذلك بعدم التفريط فيه أو في شيء منه ، وعدم التفرق فيه ، لأن التفرق فيه بسبب تضيعه كلا أو بعضاً .
وقوله تعالى : { كبر على المشركين من كفار قريش ما تدعوهم إليه } أي عظم عليهم ولم يطيقوا حمله ما تدعوهم إليه من عبادة الله تعالى وحده وترك عبادة الأصنام ، إذاً فادعهم واصبر على اذاهم والله يجتبي إليه يختار للإِيمان به وعبادته من يشاء ممن لا يصرون على الباطل ، ولا يستكبرون عن الحق إذا عرفوه ، ويهدى إليه اي ويوفق لطاعته مَنْ مِنْ شأنه الإِنابة والرجوع إلى ربّه في أموره كلها .
وقوله تعالى : { وما تفرقوا } اي وما تفرق العرب واليهود والنصارى في دين الله فآمن بعض وكفر بعض الأمن بعد ما جاءهم العلم الصحيح يحمله القرآن الكريم ونبيّه محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم . والحامل لهم على ذلك هو البغي والحسد . وقوله ولولا كلمة سبقت من ربك وهو عدم معالجة هذه الأمة المحمدية بعذاب الإِبادة والاستئصال ، وترك عذابهم إلى يوم القيامة لولا هذا لعجل لهم العذاب من أجل اختلافهم فأهلك الكافرين وأنجى المؤمنين .
(3/494)
________________________________________
وهو معنى قوله تعالى { ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمي لقضي بينهم } أي فرغ منهم بالفصل بينهم بإهلاك الكافرين وانجاء المؤمنين .
وقوله تعالى : { وان الذين أورثوا الكتاب من بعدهم } اي من بعد اليهود والنصارى وهم العرب إذْ أنزل الله فيهم كتابه القرآن الكريم لفى شك منه أي من القرآن والنبى والدين الإِسلامي مريب اي بالغ الغاية في الريبة والاضطراب النفسى ، كما ان اللفظ يشمل اليهود والنصارى إذ هم ايضاً ورثوا الكتابين عمن سبقهم وأنهم فعلا في شك من القرآن ونبيّه والإِسلام وشرائعه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- دين الله واحد وهو الإِيمان والاستقامة على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .
2- حرمة الاختلاف في دين الله المسبب تضييع الدين كلا أو بعضا .
3- مرد التفرق في الدين إلى الحسد والبغى بين الناس ، فلو لم يحسد بعضهم بعضا ولم يبغ بعضهم على بعض لما تفرقوا في دين الله ولأقاموه متجميعن فيه .
(3/495)
________________________________________
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)
شرح الكلمات : { فلذلك فادع } : أي فالى ذلك الدين الذي شرع الله لكم ووصى به نوحاً وأوحاه إليك يا محمد فادع عباد الله .
{ واستقم كما أمرت } : أي استقم على العمل به ولا تزغ عنه واثبت عليه كما أمرك الله .
{ ولا تتبع أهواءهم } : أي ولا تتبع أهواء المشركين وأهل الكتاب فتترك الحنيفية التي بعثت بها فإنها الحق .
{ وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب } : أي ولست كالذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض .
{ وأمرت لأعدل بينكم } : أي أمرني ربي أن أحكم بينكم بالعدل الذى هو خلاف الجور .
{ الله ربنا وربكم } : أي خالقنا وخالقكم ورازقنا ورازقكم وإلهنا وإلهكم .
{ لنا أعمالنا ولكم أعمالكم } : وسيجزى كل منا بعمله خيراً كان أو شراً .
{ لا حجة بيننا وبينكم } : أي ما هناك حاجة إلى المحاجة الآن بعد ظهور الحق .
{ الله يجمع بيننا } : أي يوم القيامة .
{ والذين يحاجون في الله } : أي جادلون في دين الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم .
{ من بعد ما أستجيب له } : أي بالإِيمان لظهور معجزته وهم اليهود .
{ حجتهم داحضة } : أي باطلة عند ربهم .
{ وعليهم غضب } : أي من الله ولهم عذاب شديد يوم القيامة .
معنى الآيات :
قوله تعالى : { فلذلك فادع } اي فإلى ذلك الدين الحق الذى هو الإِسلام الذى شرعه الله لكم ووصى به نوحاً وأوحاه إليك فادع جميع الناس عربهم وعجمهم فإنه دين الله الذي لا يقبل دينا سواهن ولا يكمل الإِنسان في أخلاقه ومعارفه وأدابه ولا يسعد في الدارين إلا عليه واستقم عليه كما أمرك ربك ، فلا تزغ عنه ولا تعدل به غيره فإنه الصراط المستقيم الذى لا يزيغ عنه إلا هالك ولا تتبع أهواء المشركين ولا أهواء أهل الكتاب . وقل في صراحة ووضوح آمنت بما أنزل الله من كتاب فلا أُومن ببعض وأكفر ببعض كما أنتم عليه معشر اليهود والنصارى ، وقل لهم أمرنى ربى أن أعدل بينكم في الحكم إذا تحاكمتم إليَّ ، كما أنى لا أفرق بينكم إذا اعتبركم على الكفر سواء فكل منلم يكن على الإِسلام الذى كان عليه نوح وإبراهيم وموسى وعيسى والذى عليه أنا واصحابي اليوم فهو كافر من أهل النار .
وقوله تعالى { الله ربنا وربكم } أى أمرنى أن أقول لكم هذا الله ربنا وربكم إذْ لا رب سواه فهو رب كل شيء ومليكه ، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم وسَيُجْزى كل منا بعمله السيئة بمثلها والحسنة بعشر أمثالها ، غلا أن الكافر لا تكون له حسنة مادام قد كفر باصل الدين فلم يؤمن بالله ولقائه ، ولا بوحيه ولا برسوله وقوله { لا حجة بيننا وبينكم } اي اليوم إذ ظهر الحق ولاح الصبح لذي عينين فلا داعى إلى الجدال والخصومة معكم يا أهل الكتابين من يهود ونصارى الله يجمع بيننا يوم القيامة إذ المصير في النهاية إليه لا إلى غيره وسوف يحكم بيننا فيما اختلفنا فيه فيقضى لأهل الحق بالنجاة من النار ودخول الجنة ويقضى لأهل الباطل بالنار والخلود فيها .
(3/496)
________________________________________
وقوله تعالى : { والذين يحاجون في الله } اي في دين الله النبى والمؤمنين يريدون أن يردوهم غلى باطلهم من بعد ما استجيب للرسول ودخل الناس في دين الله افواجاً ، هؤلاء حجتهم داحضة عند ربهم أي باطلة ، وعليهم غضب اي من ربهم ولهم عذاب شديد في الدنيا والآخرة هذه الآية نزلت في يهود بالمدينة نصبوا أنفسهم خصوماً لصحاب رسول الله يجادلونهم يريدون تشكيكهم في الإِسلام والعودة بهم إلى وثنية الجاهلية وكان هذا قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فرد تعالى عليهم واسكتهم بهذه الآية متوعداً إياهم بالغضب والعذاب الشديد .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- وجوب الدعوة إلى الإِسلام بين أمم العالم إذ لا نجاة للبشرية إلا بالإِسلام .
2- حرمة اتباع أهواء أهل الأهواء والسير معهم وموافقتهم في باطلهم .
3- وجوب الاستقامة على الإِسلام عقائد وعبادات وأحكام قضائية وآداب وأخلاق .
4- تعين ترك الحجاج والمخاصمة مع أهل الكتاب وكذا أهل الأهواء والبدع لأنا على الحق وهم على الباطل ، فكيف نحاجهم إذ الواجب أن يسلموا وكفى .
(3/497)
________________________________________
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)
شرح الكلمات :
{ الله الذي أنزل الكتاب الحق } : أي أنزل القرآن متلبساً بالحق والصدق لا يفارقه ابداً .
{ والميزان } : أي وأنزل الميزان وهو العدل ليحق الحق .
{ وما يدريك لعل الساعة قريب } : أي أيُّ شئ يجعلك تدري قرب الساعة إلا أن يكون الوحى الإِلهي .
{ يستعجل بها الذين لا يؤمنون } : أي يطالب المكذبون بها لأنهم لا يخافون ما فيها لعدم إيمانهم به .
{ والذين آمنوا مشفقون منها } : أي خائفون وذلك لإِيمانهم فهم لا يدرون ما يكون لهم فيها من سعادة أو شقاء ولذا هم مشفقون .
{ ويعلمون أنها الحق } : أي ان الساعة حق واجبة الإِتيان لا محالة .
{ إن الذين يمارون في الساعة } : أي إن الذين يجادلون في الساعة شاكين في وقوعها .
{ الله لطيف بعباده } : أي برهم وفاجرهم بدليل أنهم يعصونه وهو يرزقهم ولا يعاقبهم .
{ من كان يريد حرث الآخرة } : أي من كان يريد بعمله ثواب الآخرة .
{ نزد له في حرثه } : أي نضاعف له ثوابه الحسنة بعشر أمثالها وأكثر .
{ ومن كان يريد حرث الدنيا } : أي من كان يريد بعمله متاع الحياة الدنيا من طيباتها .
{ نؤته منها وماله فى الآخرة من : أي نعطه منها ما قدر له وليس له في الآخرة من حظ ولا نصيب } نصيب .
{ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين } : أي بل لهم شركاء من الشياطين شرعوا لهم من الدين .
{ ما لم يأذن به الله } : أي ما لم يشرعه الله تعالى وهو الشرك .
{ ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم } : أي ولولا كلمة الفصل التي حكم الله بها بتأخير العذاب إلى يوم القيامة لأهلكم اليوم على شركهم وأنجى المؤمنين .
معنى الآيات :
قوله تعالى : { الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان } يخبر تعالى رسوله والمؤمنين بأنه هو الذي أنزل الكتاب أي القرآن بالحق والصدق وأنزل الميزان وذلك من أجل احقاق الحق في الأرض وغبطال الباطل فيها ، فلا يعبد إلا الله ولا يحكم غلا شرع الله وفي ذلك كمال الإِنسانية وسعادتها ، وقوله تعالى : { وما يدريك لعل الساعة قريب } اي أي شئ جعلك تدري قرب الساعة إنّه الوحى الإِلهي لا غير { وقوله يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها } اي الذين لا يؤمنون بالبعث الآخر والجزاء فيه هم الذي يكالبون بإتيانها في غير وقتها ويستعجلون الرسول بها بقولهم متى الساعة؟ أما المؤمنون بالبعث والجزاء فإنهم مشفقون أى خائفون من وقوعها لأنهم لا يدرون مصيرهم فيها ولا يعلمون ما هم صائرون إليه من سعادة أو شقاء وقوله { ويعلمون أنها الحق } أي والمؤمنون يعلمون أن الساعة حق واجبة الوقوع ليحكم الله فيها بين عباده ويجزى كل واحد بعمله ، ويقتصُّ فيها من المظلوم للظالم فلذا هي واقعة حتما لا تتخلف ابداً .
وقوله تعالى : { ألا إن الذين يمارون في الساعة لفى ضلال بعيد } يخبر تعالى مؤكداً الخبر بأن الذين يشككون في الساعة ويجادلون في صحة وقوعها في ضلال عن الهدى والصواب والرشد ، بعيد لا يرجى لهم معه العودة إلى الصواب والهدى في هذه المسالة من مسائل العقيدة .
(3/498)
________________________________________
وقوله تعالى { الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوى العزيز } يخبر تعالى بأنه ذو لطف بعباده مؤمنهو وكافرهم برهم وفاجرهم يكفر به الكافرون ويعصيه العاصون وهو يطعمهم ويسقيهم ويعفو عنهم ولا يهلكهم بذنوبهم فهذا من دلائل لطفه بهم . يرزق من يشاء اي يوسع الرزق على من يشاء ويقدر على من يشاء حسب ما تقتضيه تربيتهم فلا يدل الغنى على الرضاء ولا الفقر على السخط . وهو تعالى القوى القادر الذى لا يعجزه شيء العزيز في انتقامه ممن أراد الانتقام منه وقوله تعالى : { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه } ، وهذا من مظاهر لطفه بعباده وهو أن من أراد منهم بعمله ثواب الآخرة وما أثعد الله فيها للمؤمنين المتقين نزد له في حرثه أي يضاعف له أجر عمله الحسنة بعشر إلى سبعمائة ويضاعف لمن يشاء ومن كان يريد بعمله حرث الدنيا أي متاع الحياة الدنيا يؤته على قدر عمله للدنيا وهو ما قدره له أزلاً وجعله مقدوراً له لا بد نائله ، وماله في الآخرة من نصيب لأنه لم يعمل لها فلاحظ ولا نصيب له فيها إلا النار وبئس القرار .
وقوله تعالى في الآية ( 21 ) { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله } يقول أللمشركين من كفار قريش شركاء من الشياطين شرعوا لهم دينا وهو الشرك لم يأذن به الله ، وهذا إنكار عليهم ، واعلان غضب شديد من أجل شركهم الذى زينته لهم الشياطين فصرفتهم عن الدين الحق إلى الدين الباطل ، ولذا قال : ولولا كلمة الفصل لقضى بينهم اى ولولا أنه تعالى قضى بأن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة لعذبهم في الدنيا وأهلكهم فيها قبل الآخرة ، وذلك لاتخاذهم ديناً لم يشرعه لهم ، وقوله تعالى وإن الظالمين اي المشركين لهم عذاب أليم اي موجع وذلك يوم القيامة وهذا وعيد للمشركين الذين اتخذوا الجاهلية والشرك وعبادة الأوثان دينا وأعرضوا عن دين الله الذي أوصى به نوحا وأوحاه إلى محمد خاتم رسله ، كما أوصي به إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان بعض الحكمة في إنزال الكتاب أى القرآن والميزان وهو أن يحكم الناس بالقسط .
2- بيان قرب الساعة وأن معرفة قربها كان بالوحي الإِلهي مثل اقترب للناس حسابهم .
3- المستعجلون بالساعة هم الكافرون الجاحدون لها .
4- بيان لطف الله بعباده فله الحمد وله المنة والشكر .
5- بيان وجوب إصلاح النيات فإن مدار العمل قبولاً ورفضا بحسبها .
6- حظر التشريع بجميع أنواعه عن غير الله ورسوله .
(3/499)
________________________________________
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)
شرح الكلمات : { ترى الظالمين مشفقين مما : أي ترى أيها المرء الظالمين يوم القيامة خائفين من جزاء كسبوا } ما عملوا .
{ وهو واقع بهم } : أي وهو أي جزاء ما كسبوا من الباطل والشرك نازل بهم معذبون به لا محالة .
{ والذين آمنوا وعملوا الصلحات } : آمنوا بالله ولقائه وآياته ورسوله وأدوا الفرائض واجتنبوا المحارم .
{ في روضات الجنات } : أي هم في روضات الجنات ، والروضة في الجنة أنزه مكان فيها .
{ لهم ما يشاءون عند ربهم } : أي لهم فيها ما تشتهيه أنفسهم وتلذه أعينهم في جوار ربهم .
{ قل لا أسالكم عليه أجراً } : اي قل يا رسولنا لقومك لا أسألكم على التبليغ أجراً أي ثواباً .
{ إلا المودة في القربى } : أي لكن أسألكم أن تودوا قرابتي فتمنعوني حتى أبلغ رسالتى .
{ ومن يقترف حسنة } : أي ومن يكتسب حسنة بقول أو عمل صالح .
{ نزد له فيها حسنا } : أي نضاعفها له أضعافاً .
{ أم يقولون افترى على الله كذبا } : أي أيقول هؤلاء المشركون إن محمداً افترى على الله كذباً فنسب إليه القرآن وهو ليس بكلامه ولا بوحيه .
{ فان يشاء الله يختم على قلبك } : أي إن يشإ الله تعالى يطبع على قلبك وينسيك القرآن ان الله قادر على أن يمنعك من الافتراء عليه كما زعم المشركون .
{ ويمحو الله الباطل ويحق الحق } : أي إن من شأن الله تعالى أنه يمحو الباطل .
{ بكلماته } : أي بالآيات القرآنية وقد محا الباطل وأحق الحق بالقرآن .
{ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } : أي هو تعالى الذي يقبل توبة التائبين من عباده .
{ ويعفو عن السيئات } : أي لا يؤاخذ بها من تاب منها فهذا هو الإِله الحق لا الأصنام التى ليس لها شيء مما هو لله ألبتة .
{ ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات } : أي ويجيب تعالى عباده الذين آمنوا به وعملوا الصالحات إلى ما دعوه فيه فيعطيهم سؤلهم .
{ ويزيدهم من فضله } : أي يعطيهم ما سألوا ويعطهم ما لم يسألوه من الخير .
{ والكافرون لهم عذاب شديد } : أي والكافرون بالله ورسوله ولقاء الله وآياته لهم عذاب شديد .
معنى الآيات :
يقول تعالى لرسوله ترى الظالمين يوم القيامة مشفقين أى خائفين مما كسبوا أي من جزاء ما كسبوا من الشرك والمعاصى ، وهو أى العذاب واقع بهم نازل عليهم لا محالة وقوله { والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير } أى فى الوقت الذي يكون فيه الظالمون مشفقين مما كسبوا يكون الذين آمنوا بالله ربا وبالإِسلام دينا وبمحمد رسولا وعملوا الصالحات من الفرائض والنوافل بعد اجتناب الشرك والكبائر في روضات الجنات وهى أنزهها وأحسنها لهم ما يشاءون من النعيم مما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين كل ذلك في جوار رب كريم وقوله تعالى { ذلك هو الفضل الكبير } أى ذاك الذى أخبر تعالى به أنهم فيه من روضات الجنات وغيره هو الفضل الكبير الذي تفضل الله تعالى عليه به .
(3/500)
________________________________________
وقوله في الآية الثانية ( 23 ) { ذلك الذى يبشر الله به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أى ذلك المذكور من روضات الجنات وغيره هو الذي يبشر الله تعالى به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات في كتابه وعلى لسان رسوله .
وقوله تعالى : { قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى } يأمر تعالى رسوله أن يقول لقومه من المشركين لا أسألكم على إبلاغي إياكم دعوة ربي إلى الإِيمان به وتوحيده لتكملوا وتسعدوا أجراً أي مالاً لكن اسألكم أن تودوزا قرابتي منكم فلا تؤذوني وتمنعوني من الناس حتى ابلغ دعوة ربي .
وقوله تعالى : { ومن يقترف حسنة } أي من يعمل حسنة نزد له فيها حسنا بأن نضاعفها له إذ الله غفور للتائبين من عباده شكور للعاملين منهم فلا يضيع أجر من أحسن عملا .
وقوله : { أم يقولون أفترى على الله كذبا } أي بل يقولون افترى على الله كذباً اي يقول المشركون إن محمداً افترى على الله كذبا فادعى أن القرآن من كلام الله ووحيه وما هو إلا افتراء افتراه على الله . فأبطل الله تعالى هذه الجعوة وقال : { فإن يشأ الله يختم على قلبك } اي يطبع على قلبك فتنسى القرآن ولا تقدر على قوله والنطق به ، فكيف إذا يقال إنه يفترى على الله كذباً والله قادر على منعه والإِحالة بينه وبين ما يقوله . وقوله : { ويمحو الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور } هذا شأنه تعالى يمحو الباطل ويحق الحق بالقرآن وقد فعل فَمَحَا الباطل وأحق الحق فمامات رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الجزيرة من يعبد غير الله تعالى . وقوله { إنه عليم بذات الصدور } فلواسع علمه وعظيم قدرته محا الباطل وأحق الحق بالقرآن ولو كان القرآن مفترى ما محا باطلاً ولا أحق حقاً وقوله تعالى : { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } أي إن تابوا إليه وأنابوا ، ويعفو عن سيئاتهم فلا يؤاخذهم بها ، ويعلم ما يفعلون في السر والعلن ويجزى كلاً بما عمل وهو على كل شيء قدير .
وقوله تعالى : { ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي يجيب دعاءهم فيما طلبوه ويزيدهم من فضله فيعطيهم ما لم يطلبوه فما أعظم كرمه وما أوسع رحمته!! هذا للذين آمنوا وعملوا الصالحات . وأما الكافرون فلهم عذاب شديد .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير حق القرابة ووجوب المودة فيها . واحترام قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم وتقديرها .
2- تبرئة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الافتراء على الله عز وجل .
3- مضاعفة الحسنات ، وشكر الله للصالحات من أعمال عباده المؤمنين .
4- وجوب التوبة وقبول الله تعالى لها ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوب إلى الله في اليوم مائة مرة .
وللتوبة ثلاثة شروط . الاقلاع الفورى عن المعصية ، والاستغفار ، والندم على ما فعل من المعصية بترك الواجب أو بفعل المحرم . وإن كان الذنب يتعلق بحق آدمي زاد شرط رابع وهو التحلل من الآدمي بآداء الحق أو بطلب العفو منه .
5- وعد الله تعالى باستجابة دعاء المؤمنين العاملين للصالحات وهم أولياء الله تعالى الذين أن سألوا أعطاهم وإن استعاذوه أعاذهم وإن استنصروه نصرهم . اللهم اجعلنا منهم وأحشرنا فى زمرتهم .
(4/1)
________________________________________
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)
شرح الكلمات :
{ ولو بسط الله الرزق لعباده } : أي لو وسع الرزق لجميع عباده .
{ لبغوا في الأرض } : أي لطغوا في الأرض جميعا .
{ ولكن ينزل بقدر ما يشاء } : أي ينزل من الأرزاق ما يشاء فيبسط ويضيق .
{ إنه بعباده خبير بصير } : أي إنه بأحوال عباده خبير إذ منهم من يفسده الغنى ومنهم من يصلحه ومنهم من يصلحه الفقر ومنهم من يفسده .
{ وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا } : أي المطر من بعد يأسهم من نزوله .
{ وينشر رحمته } : أي بركات المطر ومنافعه في كل سهل وجبل ونبات وحيوان .
{ وهو الولي الحميد } : أي المتولى لعباده المؤمنين المحسن إليهم المحمود عندهم .
{ وما بث فيهما من دابة } : أي فرق ونشر من كل ما يدب على الأرض من الناس وغيرهم .
{ وهو على جمعهم إذا يشاء قدير } : أي للحشر والحساب والجزاء يوم القيامة قدير .
{ وما اصابكم من مصيبة } : أي بليه وشدة من الشدائد كالمرض والفقر .
{ فيما كسبت أيديكم } : أي من الذنوب والآثام .
{ ويعفو عن كثير } : أي منها لا يؤاخذ به ، وما عفا عنه في الدنيا لا يؤاخذ به في الآخرة .
{ وما أنتم بمعجزين في الأرض } : أي وَلَسْتم بفائتي الله ولا سابقيه هرباً منه إذا أراد مؤاخذتكم بذنبكم .
معنى قوله :
قوله تعالى : { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض } هذا شروع في عرض مظاهر القدرة والعلم والحكمة الموجبة لربوبية الله تعالى المستلزمة للوهيته على عبادته فقال تعالى : { ولو بسط الله } أي رب العباد الرزق فوسعه عليهم لبغوا في الأرض فطغا بعضهم على بعض وظلم بعضهم بعضا ولزم ذلك فساد كبير في الأرض قد تتعطل معه الحياة بكاملها .
ولكن ينزل بقدر ما يشاء أي ينزل من الأرزاق بمقادير حسب تدبيره لحياة عباده ويدل على هذا قوله إنه بعباده خبير بصير أي إنه بما تتطلبه حياة عباده ذات الآجال المحدودة ، والأعمال المقدرة الموزونة ، والنتائج المعلومة أزلاً . هذا مظهر من مظاهر العلم والقدرة والحكمة ومظهر آخر في قوله ، { وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته } ، فإِنْزَالُ المطر بكميات ومقادير محدودة وفي أماكن محددة ، وفي ظروف محددة هذا التصرف ما قام إلا على مبدأ القدرة القاهرة والخبرة التامة ، إنه يمنع عن عباده المطر فيمحلوا ويجدبوا حتى ييأسوا ويظهر عجزهم وعجزا آلهتهم التي يعبدونها ظلما فاضحاً إذ لا تستحق العبادة بحال من الأحوال ثم ينزل الغيث وينشر الرحمة فتعم الأرزاق والخيرات والبركات ، وهو الولي الذي لا تصلح الولاية لغيره الحميد اي المحمود بصنائع بره وعوائد خيره ومظاهر رحمته . هو الولي بحق والمحمود بحق ، ومظهر آخر فى قوله تعالى ومن آياته الدالة على وجوده وقدرته وعلمه وحكمته الموجبة لربوبيته لسائر خلقه والمستلزمة لألوهيته على سائر عباده : { خلق السموات والأرض } ايجادهما بما هما عليه من عجائب الصفة ، وما بث أي فرق ونشر فيهما من دابة تدب على الأرض ، أو ملك بسبح في السماء .
(4/2)
________________________________________
فهذا الخلق والإِبداع ناطق بربوبيته تعالى صارخ بألوهيته لعباده فلم إذاً يعبد غيره من مخلوقاته وتترك عبادته وفوق هذا المظهر للخلق والرزق والتدبير مظهر آخر وهو قدرته تعالى على جمع سائر خلقه في صعيد واحد ومتى؟ وإنه بعد إفنائهم وتصييرهم عظاماً ورفاتا ، وهو معنى قوله : وهو على جمعهم إذا يشاء قدير .
وقوله تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } ، وهذا مظهر آخر للقدرة والعلم يتجلى فيما يصيب الإِنسان من مصيبة في نفسه وولده وماله إن كل مصاب ينزل بالإِنسان في هذه الحياة ناتج عن مخالفة لله تعالى فيما وضع من القوانين والشرائع والسنن . وأعظم دلالة أن يُعطل القانون الماضى ويوقف مفعوله يكسب العبد الذنبَ ولا يؤاخذ به عفواً من الله تعالى عليه ، وهو معنى قوله تعالى { ويعفو عن كثير } . فله الحمد وله المنة .
ومظهر آخر من مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته هو أن الناس مهما أوتوا من قوة وتدبير وعلم ومعرفة لم ولن يعجزوا الله تعالى { وما أنتم بمعجزين في الأرض } فالسماء فوقهم والأرض تحتهم إن يشأ يخسف الأرض من تحتهم أو يسقط السماء كسفا من فوقهم . فإلى أين المهرب والجواب إلى الله فقط بالاستسلام له والانقياد بالطاعة وفي ذلك نجاتهم وعزهم وكرامتهم زيادة على سعادتهم وكمالهم في الحياتين وقوله : { وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } اي وليس لكم ايها الناس مع عجزكم من ولي يتولاكم ولا ناصر ينصركم . إذاً ففروا إلى الله بالإِيمان به والإِسلام له تنجو وتسعدوا .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان الحكمة في تقدير الأرزاق وإعطائها بمقادير محددة .
2- من مظاهر ربوبية الله تعالى الموجبة لألوهيته على عباده إنزال الغيث بعد الياس والقنوط وخلق السموات والأرض وما بث فيها من دابة .
3- بيان حقيقة علمية ثابتة وهي أن المخالفة للقوانين يترتب عليه ضرر يصيب المخالف .
4- بيان أن ما من مصيبة تصيب المرء في نفسه أو ولده أو ماله إلا بذنب ارتكبه .
5- بيان أن من الذنوب ما يعفو الله تعالى عنه ولا يؤاخذ به تكرما واحساناً .
(4/3)
________________________________________
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)
شرح الكلمات :
{ ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام } : أي ومن علامات ربوبيته للخلق إيجاد السفن كالجبال في البحار وتسخير البحار للسير فيها لمنافع العباد .
{ إن يشأ يسكن الريح } : أي يوقف هبوب الريح فلا نسيم ولا عواصف .
{ فيظللن رواكد على ظهره } : أي تقف السفن وتظل راكدة حابسة على ظهر البحر .
{ ان في ذلك لايات : } : أي في هذه المظاهر من خلق السفن والبحار وتسخير البحار وسير السفن وركودها عند سكون الرياح لدلالات واضحة على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته .
{ لكل صبار شكور } : أي إن هذه الآيات لا يراها ولا ينتفع بها إلا من كان صباراً عند الشدايد والمحن شكوراً عند آلالاء والنعم .
{ أو يوبقهن بما كسبوا } : أي وان يشأ يجعل الرياح عواصف فيهلك تلك السفن ويغرقها بمن فيها بسبب ذنوب أصحابها ، وهو على ذلك قدير .
{ ويعفو عن كثير } : أي وإنه تعالى ليعفو عن كثير من الذنوب والخطايا فلا يؤاخذ بها إذ لو آخذ بكل ذنب ما بقي أحد على وجه الأرض لقلة من لا يذنب فيها .
{ ويعلم الذين يجادلون في آياتنا } : أي ويعلم المكذبون بآيات الله من المشركين عندما تعصف العواصف وتضطرب السفن ويخاف الغرق .
{ ما لهم من محيص } : أي ليس لهم من مهرب غلا إلى الله فيجأرون بدعائه وحده ناسين آلهتهم الباطلة .
معنى الآيات :
ما زال السياق في ذكر مظاهر الربوبية المستلزمة لألوهية الله تعالى ووجوب عبادته وحده دون سواه فقال تعالى : { ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام } اي ومن حججه عليكم يا عباد الله الدالة على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته أيضا هذه السفن الجوار في البحر كأنها جبال عالية تسير من إقليم إلى إقليم بتسخير الله تعالى البحار وإرسال الرياح وهى تجرى بمنافعكم حيث تنقل الركاب والبضائع من إقليم إلى آخر . فهذا مظهر قدرة الله ورحمته ، وإن يشأ تعلى إسكان الريح فإنها تسكن فلا تهب ولا تنسم بنسيم ألبته فتقف السفن وتركد على سطح الماء فلا تتحرك ، وإن يشأ أيضا يرسل عليها عواصف من الريح فتضكرب وتغرق بما فيها ومن فيها وذلك بذنوب أصحابها إن القاعدة الثابتة المقررة أنه ما من مصيبة إلا بذنب . وهذا معنى قوله { إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره } .
وقوله تعالى { إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور } أي إن في هذه المظاهر من خلق السفن والبحار وتسخير البحار وسير السفن عليها وركودها عند سكون الريح لحجج واضحة قوية على وجود الله وقدرته وعلمه ورحمته ةحكمته ولكن لا يراها ولا ينتفع بها أمثال البهائم ، ولكن هى من نصيب كل عبد صبار على طاعة الله وبلائه شكور لآلائه ونعمه عليه .
وقوله { أو يوبقهن بما كسبوا } . وقوله { ويعف عن كثير } أي ولا يؤاخذ بكل ذنب فقد يعفو عن كثير من الذنوب .
(4/4)
________________________________________
إذ لو عاقب على ذنب وآخذ بكل خطئية لما بقى على الأرض أحد إذ ما من أحد إلا ويذنب اللهم إلا ما كان من المعصومين من الأنبياء والمرسلين فإنهم لا يذنبون ، ولكن قد يذنب أصولهم وفروعهم فيهلكون ومن أين يوجدون!!
وقوله تعالى : { ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص } أي وعندما تكون الريح عاصفة وتضطرب السفن وتشرف على الغرق هنا يعلم المشركون الذي يخاصمون رسول الله ويجادلونه في الوحي الإِلهي ويكذبون به يعلمون في هذه الحال مالهم من محيص أي من ملجأ ولا مهرب من الله إلا إليه فيجارون بدعاء الله وحده كما قال تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين .
هداية الايات :
من هداية الآيات :
1- مظاهر ربوبية الله وألوهيته على خلقه .
2- فضل الصبر والشكر وفضيلة الصابرين الشاكرين .
3- تقرير قاعدة ما من مصيبة إلا ذنب مع عفو الله عن كثير .
4- عند معاينة العذاب يعرف الإِنسان ربه ولا يعرف غيره .
(4/5)
________________________________________
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)
شرح الكلمات :
{ فما أوتيتم من شيء } : أي فما أعطيتم من شئ من متاع الدنيا كالمال والولد والمطعم والمشرب والملبس والمسكن والمنكح والمركب .
{ فمتاع الحياة الدنيا } : أي يتمتع به زمناً ثم يزول ولا يبقى .
{ وما عند الله خير وأبقى } : أي وما عند الله من ثواب الآخرة فهو خير في نوعه وأبقى في مدته .
{ للذين آمنوا وعلى ربهم : أي ما عند الله خير وأبقى لأصحاب الصفات التالية :
يتوكلون } الإِيمان ، والتوكل على الله ، واجتناب كبائر الأثم والفواحش ، والتجاوز عمن أساء إليهم ، والاستجابة لربهم في كل ما دعاهم إليه فعلا أو تركاً ، وإقام الصلاة والمشورة بينهم والإِنفاق مما رزقهم الله ، والانتصار عند البغي عليهم هذه عشر صفات أصحابها ما أعده الله تعالى لهم يوم يلقونه خير من متاع الدنيا بكاملها .
{ وجزاء سيئة سيئة مثلها } : أي جزاء سيئة المسئ عقوبته بما أوجبه الله عليه .
{ فمن عفا واصلح فأجره على الله } : أي فمن عفا عمن اساء إليه وأصلح ما بينه وبينه فأجره على الله ثابت له .
{ إنه لا يحب الظالمين } : أي لا يحب البادئين بالظلم ، ومن لم يحبه الله أذن في عقوبته .
{ ولمن انتصر بعد ظلمة } : أي ومن ظلمه ظالم فأخذ منه بحقه .
{ فأولئك ما عليهم من سبيل } : أي لمؤاخذتهم ، لأنهم ما بدأوا بالظلم .
معنى الآيات :
قوله تعالى : { فما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا } هذا شروع في بيان صفات الكمال في المسلم التي يستوجب بها نعيم الآخرة ضمن التعريض بزينة الحياة الدنيا الفانية فقال تعالى { فما أوتيتم } أيها الناس من مؤمن وكافر من شئ في هذه الحياة الدنيا من لذيذ الطعام والشراب وجميل اللباس ، وفاخر المساكن وأجمل المناكح وأفره المراكب كل ذلك متاع الحياة الدنيا يزول ويفنى . أما ما عند الله أي ما أعده الله لأوليائه في الدار الآخرة فهو خير وأبقى ولكن لمن أعده؟ والجواب للذين آمنوا أي بالله وآياته ولقائه ورسوله وبكل ما جاء به والذين على ربهم لا على سواه يتوكلون ثقة في كفايته واعتماداً عليه ، والذين يجتنبون أي يتركون كبائر الإِثم كالشرك والقتل والظلم وشرب الخمر وأكل الحرام والفواحش كالزنى واللواط . والذين إذا غضبوا يتجاوزون عمن أغضبهم ويغفرون له زلته أو إساءته والذين استجابوا لربهم عندما ناداهم ودعاهم لكل ما طلبه منهم ، والذين أقاموا الصلاة فأدوها على وجهها المطلوب لها من خشوع مراعين شرائطها وأركانها وواجباتها وسننها وآدابها ، والذين أمرهم شورى بينهم أي أمرهم الذي يهمهم في حياتهم أفراداً وجماعات وأمما وشعوباً يجتمعون عليه ويتشاورون فيه ويأخذون بما يلهمهم ربهم بوجه الصواب فيه . والذين مما رزقهم الله من مال وعلم وجاه وصحة وبدن ينفقون شكراً لله على ما رزقهم واستزاده للثواب يوم الحساب .
(4/6)
________________________________________
والذين إذا أصابهم البغي أي إذا بغي عليهم البغاة الظلمة من الكافرين ينتصرون لأنفسهم إعذاراً لها وإكراماً لأنها أنفس الله وليها فالعزة واجبة لها . هذه عشر صفات متى اتصف بها العبد لا يضره شئ لو عاش الدهر كله فقيراً نقيَّاً محروماً من لذيذ الطعام والشراب ومن جميل اللباس ، والسكن والمركب إذ ما عند الله تعالى . له خير وأبقى مع العلم أن أهل تلك الصفات سوف لا يحرمون من طيبات الحياة الدنيا هم أولى بها من غيرهم إلا أنها ليست شيئا يذكر إلى جانب ما عند الله يوم يلقونه ويعيشون في جواره .
وقوله تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } هذا هو الحكم الشرعي جزاء المسيء العقوبة بما أوجب الله تعالى له في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم . وقوله تعالى فمن عفا عمن أساء إليه ، وأصلح ما بينه وبينه فعادت المودة وعاد الإِخاء فأجره على الله وهو خير له وأبقى من شفاء صدره بعقوبة أخيه الذي أساء إليه . وقوله تعالى { إنه لا يحب الظالمين } تعليل لعظم الأجر لمن عفا أي كونه تعالى لا يحب الظالمين ضاعف الأجر وأجزل المثوبة للمظلوم إذا عفا وأصلح . وقوله : { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل } أي وللذي ظلم فانتصر لنفسه وردَّ الظلم عنها فهؤلاء لا سبيل لكم إلى أذيتهم وعقوبتهم . هذا حكم الله وشرعه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- متاع الحياة الدنيا إذا قوبل بما أعد الله للمؤمنين المتقين لا يعد شيئاً يذكر ابداً .
2- بيان أكمل الشخصيات الإِسلامية وهي الشخصية التي تتصف بالصفات العشر التي تضمنتها الآيات الأربع ذات الرقم ، ( 36-37-38-39 } .
3- مشروعية القصاص وعقوبة الظالم .
4- عدم مؤاخذة من ظلم فأخذ بحقه بلا زيادة عنه ما لم يكن حداً فإن الحدود يقيمها الإِمام .
5- فضيلة العفو على الإِخوة المسلمين والإِصلاح بينهم .
(4/7)
________________________________________
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)
شرح الكلمات :
{ إنما السبيل } : أي بالعقوبة والأذية .
{ على الذين يظلمون الناس } : أي يعتدون عليهم في أعراضهم أو أبدانهم وأموالهم .
{ يوبغون في الأرض بغير الحق } : أي ويطلبون في الأرض الفساد فيها بالشرك والظلمم والإِجرام .
{ ولمن صبر وغفر } : أي ولمن صبر فلم ينتصر لنفسه وغفر وتجاوز عمن أساء إليه .
{ إن ذلك } : أي إن ذلك الصبر والتجاوز عن المسيء .
{ لمن عزم الأمور } : أي لمن معزومات الأمور المطلوبة شرعا .
{ ومن يضلل الله } : أي حسب سنته في الإِضلال .
{ فما له من ولي من بعده } : أي فليس له من أحد يتولى هدايته ويقدر عليها .
{ هل إلى مرد من سبيل } : أي هل غلى مرد إلى الحياة الدنيا من سبيل نسلكها لنعود إلى الدنيا .
{ وتراهم يعرضون عليها } : أي على النار خاشعين خائفين متواضعين .
{ ينظرون من طرف خفى } : أي من عين ضعيفة النظر كما ينظر المقتول إلى السيف لا يملأ عينه منه
{ يوم القيامة } : أي لخلودهم في النار ، وعدم وصولهم إلى الحور العين في دار السلام .
{ إلا إن الظالمين } : أي المشركين .
{ في عذاب مقيم } : أي دائم لا يخرجون منه وهو عذاب الجحيم .
{ ومن يضلل الله فما له من سبيل } : أي طريق إلى الهداية في الدنيا ، وإلى الجنة يوم القيامة .
معنى الآيات :
لقد تقدم قوله تعالى في الآية قبل هذه : { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل } فلما نفى عن المنتصرين السبيل إلى عقوبتهم اثبت هنا أن السبيل إلى العقوبة والمؤاخذة هو على الذين يظلمون الناس بالاعتداء عليهم في أبدانهم أو أعراضهم أو أموالهم ويبغون في الأرض بغير الحق اي ويطلبون الفساد فيها بالشرك والظلم والمعاصي ، وليس في الشرك والظلم والمعاصي من حق يبيحها ، وقوله { أولئك لهم عذاب أليم } أي للذين يبغون في الأرض بغير الحق لهم عذاب اليم اي موجع وهو عذاب الدنيا بعقوبتهم الصارمة ويوم القيامة ان لم يتوبوا من الظلم والفساد في الأرض .
وقوله تعالى : { ولمن صبر وغفر إنَّ ذلك لمن عزم الأمور } يخبر تعالى مؤكداً الخير بلام الابتداء ان من صبر فلم ينتصر لنفسه من أخيه المسلم وغفر لأخيه زلته فتجاوز له عنها فان ذلك المذكور من الصبر والتجاوز من معزومات الأمور المطلوبة شرعاً .
وقوله تعالى : { ومن يضلل الله فماله من ولي من بعده } اي ومن يضلله الله تعالى حسب سنته في الإِضلال فليس له من أحد من بعد الله يهديه . وقوله تعالى : { وترى الظالمين } اي المشركين لما رأوا العذاب أي عذاب النار يقولون : متمنيين الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا ويُوَحّدُوا حتى ينجوا من عذاب النار ويدخلوا الجنة مع الأبرار : هل إلى مرد من سبيل؟ أي هل غلى مرد غلى الدنيا من طريق؟ قال تعالى { وتراهم يعرضون عليها } أي على النار خاشعين خاضعين متواضعين من الذّل ينظرون من طرف خفى يسترقون النظر لا يملأون أعينهم من النظر إلى النار لشدة خوفهم منها .
(4/8)
________________________________________
وهنا يقول الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وإهليهم يوم القيامة وذلك لخلودهم في النار وحرمانهم من الوصول إلى الحور العين في الجنة دار الأبرار ، ويعلن معلن فيقول : ألا إن الظالمين لأنفسهم بالشرك والمعاصي في عذاب مقيم لا يبرح ولا يزول وقوله تعالى { وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله } يخبر تعالى بأنه لم يكن لأولئك الظالمين من أهل النار من أولياء من دون الله ينصرونهم بتخليصهم من العذاب . وقوله { ومن يضلل الله فما له من سبيل } أي فما له طريق إلى هدايته في الدنيا وإلى الجنة يوم القيامة .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- لا سبيل إلى معاقبة من انتصر لنفسه بعد ظلمه .
2- وجوب معاقبة الظالم والضرب على يديه .
3- فضيلة الصبر والتجاوز عن المسلم إذا أساء بقول أو عمل .
4- لا أعظم خسراناً ممن يخلد في النار ويحرم الجنة وما فيها من نعيم مقيم .
(4/9)
________________________________________
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
شرح الكلمات :
{ استجيبوا لربكم } : أي أجيبوه لما دعاكم إليه من التوحيد والعبادة .
{ من قبل أن يأتي يوم } : أي يوم القيامة .
{ لا مردّ له من الله } : أي إذا أتى لا يرد بحال .
{ ما لكم من ملجأ يومئذ } : أي تلجأون إليه وتتحصنون فيه .
{ وما لكم من نكير } : أي وليس لكم ما تنكرون به ذنوبكم لأنها في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .
{ فإن أعرضوا } : أي لم يجيبوا ربهم لما دعاهم إليه من التوحيد والعبادة .
{ إن عليك إلا البلاغ } : وقد بلغت فلا مسئولية تخشاها بعد البلاغ .
{ وإنا إذا اذقنا الإِنسان منا رحمة } : اي نعمة كالغنى والصحة والعافية .
{ وإن تصبهم سيئة } : أي بلاء كالمرض والفقر وغير ذلك .
{ بما قدمت أيديهم } : أي من الذنوب والخطايا .
{ فإن الإنسان كفور } : أي للنعمة والنعم والإِنسان هو غير المؤمن التقى .
{ لله ملك السموات والأرض } : أي خلقا وملكاً وتصرفا .
{ يهب لمن يشاء إناثا } : أي يرزق من يشاء من الناس بنات .
{ ويهب لمن يشاء الذكور } : أي ويعطي من يشاء الأولاد الذكور .
{ أو يزوجهم ذكرانا وإناثا } : أي يجعلهم ذكوراً وإناثاً .
{ ويجعل من يشاء عقيما } : أي لا يلد ولا يولد له .
معنى الآيات :
بعد ذلك العرض الهائل لأهوال وأحوال الظالمين في عرصات القيامة طلب الرب تعالى من عباده أن يجيبوه لما طلبه منهم إنقاذاً لأنفسهم من النار فقال : { استجيبوا لربكم } بمعنى أجيبوه لما دعاكم إليه من التوحيد والطاعات قبل فوات الفرصة وذلك قبل الموت وقبل يوم القيامة اليوم الذي إذا جاء لا مردّ له من الله ، إذ لا يقجر على رده إلا الله والله أخبر أنه لا يرده فمن يرده إذاً؟ فبادروا بالتوبة إلى ربكم قبل مجيئه حيث لا يكون لكم يومئذ ملجأ تلجأون إليه هاربين من العذاب ولا يكون لكم نكير بمكنكم أن تنكروا به ذنوبكم إذ قد جمعت لكم في كتناب واحد لم يترك صغيرة من الذنوب ولا كبيرة إلا أحصاها عداً . هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 47 ) وهي قوله تعالى : { استجيبوا لربكم منقبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير } . وقوله تعالى في الآية الثانية ( 48 ) رفإن أعرضوا } أي لم يجيبوا ربهم لما دعاهم غليه من التوحيد والطاعة فما أرسلناك عليهم حفيظاً رقيبا تحصي أعمالهم وتحفظها لهم وتجازيهم بها . إن عليك إلا البلاغ أي ما عليم إلا البلاغ وقد بلغت وبرئت ذمكتك فلا يهمك أمرهم ولا تحزن على اعراضهم . وقوله تعالى : { وإنا إذا أذقنا الإِنسان منا رحمة } اي نعمة كسعة رزق وصحة وكثرة مال وولد فرح بها فرح البطر والأشر ، وهذا الإِنسان هو الكافر أو الجاهل الضعيف الإِيمان . وإن تصبهم سيئة اي ضيق عيش ومرض وفقر بما قدمت ايديهم من الذنوب فإِن الإِنسان كفور سرعان ما ينسى النعمة والمنعم ويقع في اليأس والقنوط هذا الإِنسان قبل أن يؤمن ويسلم ويحس فإذا آمن وأسلم وأحسن تغير طبعه وطهر نبعه وأصبح يشكر عند النعمة ويصبر عند النقمة .
(4/10)
________________________________________
وقوله تعالى : { لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء } إنه بِحُكم سلطانه على الأرض والسماء فانه يتصرف كيف يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمنيشاء الذكور أو يزوجهم له ذكوراً وإناثاً ، ويجعل من يشاء من الناس عقيما لا يلد ولا يولد له ، وهذا ناتج عن علم أحاط بكل شيء ، وقدرة أخضعت لها كل شيء وهذا معنى قوله { إنه عليم قدير } فالواجب أن يُسلم العبد لربه فيما وهبه وأعطاه إذ الله يعطى لحكمة ويمنع لحكمة ، ومن السفه الاعتراض على حكم الله .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- وجوب الاستجابة لله تعالى في كل ما دعا العبد إليه ، وذلك قبل أن يطلب الاستجابة ولا يمكن منها .
2- على الدعاة إلى الله تعالى إبلاغ مطلوب الله تعالى من عباده ، ولا يضرهم بعد ذلك شيء .
3- بيان طبع الإنسان وحاله قبل أن يهذب بالإِيمان واليقين والطاعات .
4- لله مطلق التصرف في الملكوت كله فلا يصح الاعتراض عليه في شيء فهو يهب ويمنع لحكم عالية لا تدركها عقول العباد .
5- وجود عقم في الرجال وعقم في النساء ، ولا بأس بالعلاج الجائز المشروع عند الشعور بالعقم أو العقر . اما ما ظهر الآن من بنوك المني ، والإِنجاب بطريق صبّ ماء فحل في فرج امرأة عاقر وما إلى ذلك فهذه من أعمال الملاحدة الذين لا يدينون لله بالطاعة له والتسليم لقضائه ، وإن صاموا وصلوا وادعوا أنهم مؤمنون إذ لا حياء لهم ولا إيمان لمن لا حياء له ، وحسبهم قبحا في سلوكهم هذا الكشف عن السوءات بدون انقاذ حياة ولا طلب رضا الله رب الأرض والسموات .
(4/11)
________________________________________
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
شرح الكلمات :
{ إلا وحياً أو من وراء حجاب } : أي إعلاما خفيا سريعا في يقظة أو منام ، أو يكلمه من وراء حجاب فيسمع الكلام ولا يرى الذات .
{ أو يرسلوا رسولا } : أي أو يرسل ملكاً في صورة إنسان فيكلمه مبلغا عنالله تعالى .
{ إنه علي حكيم } : أي الله تعالى ذو علو على سائر خلقه حكيم في تدبير خلقه .
{ وكذلك أوحينا إليك } : أي كما كنا نوحي غلى سائر رسلنا أوحينا إليك يا محمد هذا القرآن .
{ روحاً من أمرنا } : أي وحيا ورحمة من أمرنا الذي نوحيه إليك .
{ ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإِيمان } : أي لم تكن قبل تدري أي شيء هو الكتاب ، ولا الإِيمان الذي هو قول وعمل واعتقاد .
{ ولكن جعلناه نوراً نهدي به } : أي جعلنا القرآن نورا نهدي به من نشاء من عبادنا إلى صراطنا .
{ وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } : أي الإِسلام .
{ ألا إلى الله تصير الأمور } : أي ترجع أمور جميع العباد في يوم القيامة إلى الله تعالى .
معنى الآيات :
قوله تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا } يخبر تعالى أنه ليس من شأن البشر كائنا من كان أن يكلمه الله تعالى إلا وحيا بأن يعلمه بطريق سريع خفي إلهاماً أو مناماً فيفهم عن الله تعالى ما ألقاه في روعه جازماً أنه كلام الله ألقاه إليه ، هذه طريقة وثانية أن يكلمه الله تعالى فيسمعه كلامه بدون أن يرى ذاته كما كلم موسى عليه السلام غير مرة . وثالثة أن يرسل إليه رسولاً كجبريل عليه السلام فيبلغه كلام ربه تعالى هذا معنى قوله تعالى { ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشاء إنه عليّ } أي ذو علو على خلقه { حكيم } في تدبيره لخلقه .
وقوله : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ى كما كنا نوحى إلى سائر رسلنا أوحينا إليك يا محمد روحاً وهو القرآن وسمى روحاً لأن القلوب تحيا به كما تحيا الأجسام بالأرواح ، وقوله { من أمرنا } أي الذى نوحيه إليك الشامل للأمر والنهى والوعد والوعيد وقوله تعالى : { وما كنت تدرى ما الكتاب } أي القرآن { ولا الإِيمان } الذى هو عقيدة وقول وعمل . وقوله : { ولكن جعلناه نوراً } اي جعلنا القرآن نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا إلى الإِيمان بنا وتوحيدنا وطلب مرضاتنا بفعل محابّنا وترك مساخطنا .
وقوله : { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } أي وأنك يا رسولنا لتهدي إلى صراط مستقيم الذي هو الدين الإِسلامي وقوله { صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض } اي خلقا وملكا وعبيداً { وإلى الله تصير الأمور } اي وإليه تعالى مصير كل شيء ، ومرد كل شيء إذ هو الملك الحق والمدبر لأمر المخلوقات كلها ، ولذا وجب تفويض الأمر إليه والرضا بحكمه وقضائه ثقة فيه وفي كفايته .
(4/12)
________________________________________
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان طرق الوحي وهي ثلاثة الأولى الإِلقاء في الروع يقظة أو مناماً والثانية أن يكلم الله النبي بدون أن يرى ذاته عز وجل كما كلم موسى في الطور وكلم محمداً صلى الله عليه وسلم في الملكوت الأعلى والثالث أن يرسل إليه الملك إما في صورته الملائكية أو في صورة رجل من بني آدم فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه من أمره .
2- القرآن الكريم روح تحيا به القلوب الميتة كما تحيا الأجسام بالأرواح .
3- القرآن نور يستضاء به في الحياة فتعرف به طرق السعادة وسبل النجاة .
(4/13)
________________________________________
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
شرح الكلمات :
{ حم } : هذا أحد الحروف المقطعة يكتب حم ويقرأ : حَامِيمْ .
{ والكتاب المبين } : أي والقرآن الموضح لطريق الهدى وسبيل السلام .
{ إنا جعلناه قرآنا عربيا } : أي جعلناه قرآنا بلسان العرب يقرأ بلسانهم ويفهم به .
{ لعلكم تعقلون } : أي رجاء أن تعقلوا أيها العرب ، ما تؤمرون به وما تنهون عنه .
{ وإنه في أم الكتاب لدينا } : أي في اللوح المحفوظ كتاب المقادير كلِّها عندنا .
{ لعلي حكيم } : أي لذو علو وشأن على الكتب قبله لا يوصل إلى مستواه في علوه ورفعته حكيم أي ذو حكمة بالغة عالية لا يرام مثلها .
{ أفنضرب عنكم الذكر صفحا } : انمهلكم فنضرب عنكم الذكر صفحا أي لا ننزل القرآن بأمركم ونهيكم ووعدكم ووعيدكم .
{ انْ كنتم قوماً مسرفين } : لأن كنتم قوماً مسرفين متجاوزين الحد في الشرك والكفر كلا لا نفعل .
{ وكم أرسلنا من نبي في الأولين } : أي وكثيراً من الأنبياء أرسلناهم في القرون الأولى من الأمم الماضية .
{ فأهلكنا أشد منهم بطشا } : أي فأنزلنا عذابنا باشدهم قوة وبطشا من قومك فأهلكناهم .
{ ومضى مثل الأولين } : أي ومضى في الآيات القرآنية صفة هلاك الأولين .
معنى الآيات :
حم الله أعلم بمراده به ، والكتاب المبين اي والقرآن الموضح لكل ما ينجى من عذاب الله ويكسب جنته ورضاه وهذا قسم اقسم الله به ، والمقسم عليه قوله : { إنا جعلناه قرآنا عربياً } اي جعلنا الكتاب المبين اي الذي هو القرآن عربياً أي بلسان العرب ولغتهم . وقوله { لعلكم تعقلون } بيان للحكمة في جعل القرآن عربيا اي كي تعقلوا معاينة وتفهموا مراد الله منزله منه فيما يدعوكم إليه فيسهل عليكم العمل به فتكملوا وتسعدوا وقوله { وإنه } أي القرآن { في أم الكتاب } أي اللوح المحفوظ لدينا عندنا { لعلي } أي ذو علو وشأن على سائر الكتب قبله حكيم ذو حكمة بالغة عالية لا يرام مثلها .
وقوله تعالى : { أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين } اي أنمهلكم فنضرب عنكم الذكر صفحاً فلا ننزل القرآن حتى لا تؤمروا ولا تنهوا من أجل أنكم قوم مسرفون في الشرك والكفر والتكذيب كلا لا نفعل إذا الاستفهام للانكار عليهم وقوله { وكم أرسلنا من نبي في الأولين } أي وكثيرا من الأنبياء أرسلنا في الأمم السابقة وما يأتيهم من نبيّ إلا كانوا به يستهزئون أي ما أتى أمة من تلك الأمم رسول منا إلا سخروا منه واستهزأوا به ، وبما جاءهم به من الإِيمان والتوحيد ودعاهم إليه من فعل الصالحات وترك المحرمات إذاً فاصبر على قومك فإنهم سالكون سبيل من سبقهم في الكفر والتكذيب والسخرية والاستهزاء . وقوله تعالى : { فأهلكنا أشد منهم بطشاً } أي أهلكنا من هم اشد بطشا في تلك الأمم الماضية لما كذبوا رسلنا واستهزأوا بهم فكيف بهؤلاء الذين هم أضعف منهم وأقل قوة وقدرة فأحرى بهم أن لا يمتنعوا من عذابنا متى أردنا إنزاله بهم .
(4/14)
________________________________________
وقوله { ومضى مثل الأولين } أي مضى في الآيات القرآنية صفة هلاك الأولين كقوم عاد وثمود وأصحاب مدين والمؤتفكات ألم يكن لقومك في ذلك عبرة لو كانوا يعتبرون؟ .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- مشروعية الإِقسام بالله تعالى .
2- بيان شرف القرآن الكريم وعلو مكانته على سائر الكتب السابقة .
3- كون الناس مسرفين في الشرك والفساد لا يمنع وعظهم ونصحهم وارشادهم .
4- بيان سنة بشرية وهى أنهم ما يأتيهم من رسول إلا استهزأوا به .
5- في إهلاك الأقوى دليل على أن إهلاك من هو دونه أحرى وأوْلى لا سيما مع شدة كفره .
(4/15)
________________________________________
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
شرح الكلمات :
{ ولئن سألتهم } : أي ولئن سألت هؤلاء المشركين من قومك يا رسولنا .
{ من خلق السموات والأرض } : أي من بدأ خلقهنّ وأوجدهن ليقولن خلقهن الله ذو العزة والعلم .
{ الذي جعل لكم الأرض مهاداً } : أي الله الذي جعل لكم الأرض فراشا كالمهد للصبي .
{ وجعل لكم فيها سبلا } : أي طرقا .
{ لعلكم تهتدون } : أي إلى مقاصدكم في اسفاركم .
{ ماء بقدر } : أي على قدر الحاجة ولم يجعله طوفاناً مغرقاً ومهلكاً .
{ فأنشرنا به بلدة ميتا } : أي فَأَحْيَيْنَا به بلدة ميتا أي لا نبات فيها ولا زرع .
{ كذلك تخرجون } : أي مثل هذا الإِحياء للأرض الميتة بالماء تحيون أنتم وتخرجون من قبوركم .
{ والذي خلق الأزواج كلها } : أي خلق كل شيء إذا الأشياء كلها زوج ولم يعرف فرد إلا الله .
{ ةجعل لكم من الفلك والأنعام } : أي السفن ، والإِبل .
{ لتستووا على ظهوره } : أي تستقروا على ظهور ما تركبون .
{ وما كنا له مقرنين } : أي مطيقين ولا ضابطين .
{ وإنا إلى ربنا لمنقلبون } : أي لصائرون إليه راجعون .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في دعوة المشركين إلى التوحيد بقوله تعالى : { ولئن سألتهم } اي ولئن سألت يا رسولنا هؤلاء المشركين من قومك قائلاً من خلق السموات والأرض أي من أنشأهن وأوجدهن بعد عدم لبادروك بالجواب قائلين الله ثم هم مع اعترافهم بربوبيته تعالى لكل شيء يركون في عبادته أصناماً وأوثاناً . في آيات أخرى صرحوا باسم الجلالة الله وفي هذه الآية قالوا : العزيز العليم أي الله ذو العزة التي لا ترام والعلم الذي لا يحاط به . وقوله تعالى : { الذي جعل لكم الأرض مهداً } اي فراشاً وبساطاً كمهد الطفل وهذا من كلام الله تعالى لا من كلام المشركين إذْ انتهى كلامهم عند العزيز العليم فلما وصفوه تعالى بصفتي العزة والعلم ناسب ذلك ذكر صفات جليلة أخرى تعريفاً لهم بالله سبحانه وتعالى فقال تعالى : { الذي جعل لكم الأرض مهداً } أي بساطاً وفراشاً ، وجعل لكم فيها سبلاً أي طرقاً لعلكم تهتدون إلى مقاصدكم لنيل حاجاتكم في البلاد هنا وهناك ، والذي نزل من السماء ماء بقدر وهو المطر بقدر أي بكميات موزونة على قدر الحاجة منها فلم تكن ضحلة قليلة لا تنفع ولا طوفاناً مغرقا مهلكاً ، وقوله { فانشرنا } أي أحيينا بذلك المطر بلدة ميتا أي أرضا يابسة لأنبات فيها ولا زرع . وقوله ركذلك تخرجون } أي مثل ذلك الأحياء للأرض الميتة يحييكم تعالى ويخرجكم من قبوركم أحياء .
وقوله { والذي خلق الأزواج كلها } هذا وصف آخر له تعالى بأنه خلق الأزواج كلها من الذكر والأنثى ، والخير والشر والصحة والمرض ، والعدل والجور ، إذْ لا فرد إلا هو سبحانه وتعالى وفي الحديث الصحيح الله وتر يحب الوتر قل هو الله أحد وقوله { جعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون } هذا وصف آخر بصفاته الفعلية الدالة على وجوده وقدرته وعلمه والموجبة لألوهيته إذ جعل للناس من الفلك أي السفن ما يركبون ومن الأنعام كالإِبل ومن البهائم كالخيل والبغال والحمير كذلك وقوله { لتستوا على ظهوره } أي تستقروا على ظهوره أي ظهور ما تركبون ، ثم تذكروا نعمة ربكم بقلوبكم إذا استويتم عليه وتقولوا بألسنتكم سبحان الذي سخر لنا هذا أي الله لنا واقدرنا على التحكم فيه ، وما كنا له اي لذلك الحيوان المركوب بمقرنين أي بمطيقين ولا ضابطين لعجزنا وقوته ، { وانا إلى ربنا لمنقلبون } اي لصائرون إليه بعد موتنا راجعون .
(4/16)
________________________________________
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير التوحيد يذكر صفات الربوبية المقتضية للألوهية .
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
3- معجزة القرآن في الأخبار بالزوجية وقد قرر العلم الحديث نظام الزوجية وحتى في الذرة فهي زوج موجب وسالب .
4- مشروعية التسمية والذكر عند ركوب ما يركب فإن كان سفينة أو سيارة قال العبد بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم ، وإن كان حيواناً قال عند الشروع باسم الله وإذا استوى قاعداً : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون .
(4/17)
________________________________________
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)
شرح الكلمات :
{ وجعلوا له من عباده جزءاً } : أي وجعل أولئك المشركون المقرون بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض من عباده جزءاً إذ قالوا الملائكة بنات الله .
{ إن الإِنسان لكفور مبين } : أي إن الإنسان المعترف بان الله خلق السموات وجعل من عباده جزءاً هذا الإِنسان لكفور مبين أي لكثير الكفر بينه .
{ وأصفاكم بالبنين } : أي خصكم بالبنين وأخلصهم لكم .
{ بما ضرب للرحمن مثلا } : أي بما جعل للرحمن شبها وهو الولد .
{ ظل وجهه مسودا وهو كظيم } : أي أقام طوال نهاره مسود الوجه من الحزن وهو ممتلئ غيظاً .
{ أو من يُنْشَأَ في الحلية } : أي أيجترئون على الله ويجعلون له جزءاً هو البنت التي تربي في الزينة .
{ وهو في الخصام غير مبين } : أي غير مظهر للحجة لضعفه بالأنوثة .
{ عباد الرحمن إناثاً } : أي لأنهم قالوا بنات الله .
{ اشهدوا خلقهم } : أي أحضروا خلقهم عندما كان الرحمن يخلقهم .
{ ستكتب شهادتهم } : أي سيكتب قولهم إن الملائكة إناثاً .
{ ويسألون } : أي دعواهم أن الله راض عنهم بعبادة الملائكة لا دليل لهم عليه ولا علم .
{ إن هم إلا يخرصون } : أي ما هم إلا يكذبون يتوارثون الجهل عن بعضهم بعضا .
{ أم آتيناهم كتابا من قبله } : أي أم انزلنا عليهم كتابا قبل القرآن .
{ فهم به مستمسكون } : أي متمسكون بما جاء فيه ، والجواب لم يقع ذلك أبداً .
{ بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة } : اي إنهم لا حجة لهم إلا التقليد الأعمى لآبائهم .
{ وإنا على آثارهم مهتدون } : أي علي طريقتهم وملتهم ماشون وهي عبادة غير الله من الملائكة وغيرهم من الأصنام والأوثان .
{ إلا قال مترفوها } : أي متنعموها .
{ إنا وجدنا آباءنا على أمة } : أي ملة ودين .
{ وإنا على آثارهم مقتدرون } : اي على طريقهم متبعون لهم فيها .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في دعوة المشركين إلى التوحيد ، والمكذبين إلى التصديق فقال تعالى مُنكراً عليهم باطلهم موبخاً لهم على اعتقاده والقول به ، فقال { وجعلوا له من عباده جزءاً } اي وجعل أولئك المشركون الجاهلون لله جزءاً أي نصيباً من خلقه حيث قالوا الملائكة بنات الله ، وهذا من أكذب الكذب وأكفر الكفر إذ كيف عرفوا أن الملائكة إناث ، وأ ، هم بنات الله ، وأنهم يستحقون العبادة مع الله فعبدوهم؟ حقاً إن الإنسان لكفور مبين أي كثير الكفر وبينه لا يحتاج فيه غلى دليل وقوله تعالى : { أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين } اي أتقولون أيها المشركون المفترون اتخذ الله مما يخلق من المخلوقات بناتٍ ، وخصكم بالبنين ، بمعنى أنه فضلكم على نفسه بالذكور الذين تحبون ورضي لنفسه بالإِناث اللاتى تبغضون . عجباً منكم هذا الفهم السقيم . وقوله تعالى وإذا بشر أحدكم بما ضرب للرحمن مثلا أي بما جعل لله شبها وهو الولد ظَلَّ وجهه مسودا وهو كظيم ، أي إن هؤلاء الذين يجعلون الله البنات كذبا وافتراء ، إذا ولد لأحدهم بنت فبشر بها اي أخبر بأن امرأته جاءت ببنت ظل وجهه طوال النهار مسوداً من الكآبة والغم وهو كظيم أي متلئ غماً وحزناً .
(4/18)
________________________________________
وقوله تعالى : { أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين } ينكر تعالى عليه ويوبخهم على كذبهم وسوء فهمهم فيقول : ايجترئون ويبلغون الغاية في سوء الأدب ويجعلون لله من يربي في الزينة لنقصانه وهو البنات ، وهو في الخصام غير مبين لخفة عقله حتى قيل ما أدلت امرأة بحجة الا كانت عليها لا لها . فقوله { غير مبين } أي غير مظهر للحجة بالخِلقة وهي الأنثى والضمير عائد على من في قوله { أو من ينشأ في الحلية } أي الزينة .
وقوله تعالى { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً } أي حيث قالوا الملائكة بنات الله وعبدوهم أشهدوا لذلك طلباً لشفاعتهم والانتفاع بعبادتهم . قال تعالى : موبخا لهم مقيما الحجة على كذبهم أشهدوا خلقهم اي أحضروا خلقهم عندما كان الله يخلقهم ، والجواب لا ، ومن أين لهم ذلك وهم ما زالوا لم يخلقوا بعد ولا آباؤهم بل ولا آدم اصلهم عليه السلام وقوله تعالى { أي ستكتب شهادتهم } هذه وهي قولهم إن الملائكة بنات الله ويسالون عنها ويحاسبون ويعاقبون عليها بأشد أنواع العقاب ، لأنها الكذب والافتراء ، وعلى؟ إنه على الله ، والعياذ بالله وقوله تعالى : { وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم } . أي قال أولئك المشركون المفترون لمن أنكر عليهم عبادة الملائكة وغيرها من الأصنام قالوا : لو شاء الرحمن منا عدم عبادتهم ما عبدناهم .
قال تعالى في الرد عليهم { ما لهم بذلك من علم } أي ليس لهم أي علم برضا الله تعالى بعبادتهم لهم ، ما هم في قولهم ذلك إلا يخرصون أي يقولون بالخرص والكذب إل العلم يأتى من طريق الكتاب أو النبي ولا كتاب عندهم ولا نبي فيهم قال بقولتهم ، ولذا قال تعالى منكراً عليهم قولتهم الفاجرة { أم آتيناهم كتابا فهم به مستمسكون } ؟ لالا ، ما آتاهم الله من كتاب ولا جاءهم قبل محمد من نذير إذا فلا حجة لهم إلا التقليد الأعمى للآباء والأجداد الجهال الضلال وهو ما حكاه تعالى عنهم في قوله : { بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة } أي ملة { وإنا على آثارهم مهتدون } اي ماشون مقتفون آثارهم وقوله تعالى : { وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير } اي رسول إلا قال مترفوها اي متنعموها بنضارة العيش وغضارته { إنا وجدنا آباءنا على أمة } اي ملة ودين { وإنا على آثارهم مقتدون } أي متبعون لهم فيها . فهذه سنة الأمم قبل أمتك يا رسولنا فلا تحزن عليهم ولا تك في ضيق بما يقولون ويعتقدون ويفعلون أيضا . وهو معنى قوله تعالى { وكذلك ما أرسلنا من قبلك } إلى آخر الآية .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير صفة من صفات الإِنسان قبل شفائه بالإِيمان والعبادة وهي الكفر الواضح المبين .
(4/19)
________________________________________
2- وجوب إنكار المنكر ومحاولة تغييره في حدود ما يسمح به الشرع وتتسع له طاقة الإِنسان .
3- بيان حال المشركين العرب في الجاهلية من كراهيتهم البنات خوف العار وذلك لشدة غيرتهم .
4- بيان ضعف المرأة ونقصانها ولذا تكمل بالزينة ، وان النقص فيها فطري في البدن والعقل معاً .
5- بيان أن من قال قولاً وشهد شهادة باطلة سوف يسأل عنها يوم القيامة ويعاقب عليها .
6- حرمة القول على الله بدون علم فلا يحل أن يُنسب إلى الله تعالى شيء لم ينسبه هو تعالى لنفسه .
7- حرمة التقليد للآباء وأهل البلاد والمشايخ فلا يقبل قول إلا بدليل من الشرع .
(4/20)
________________________________________
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
شرح الكلمات :
{ قال أولو جئتكم بأهدى مما : قال لهم رسولهم : أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بأهدى أي بخير وجدتم عليه آباءكم } مما وجدتم عليه آباءكم هداية إلى الحق والسعادة والكمال .
{ قالوا إنا بما ارسلتم به كافرون } : أي قال المشركون لرسلهم ردَّاً عليهم إنا بما أرسلتم به كافرون أي جاحدون منكرون غير معترفين به .
{ فانظر كيف كان عاقبة المكذبين } : أي كانت دماراً وهلاكاً إذاً فلا تكترث بتكذيب قومك يا رسولنا .
{ وإذ قال إبراهيم } : أي وأذكر إذ قال إبراهيم أبو الأنبياء خليل الرحمن .
{ إنني براء مما تعبدون } : أي برئ مما تعبدون من أصنام لا أعبدها ولا أعترف بها .
{ إلا الذي فطرني فإنه سيهدين } : أي لكن الذي خلقني فإني أعبده وأعترف به فإنه سيهدني أي يرشدني إلى ما يكملني ويسعدني في الحياة الدنيا وفي الآخرة .
{ وجعلها كلمة باقية في عقبه } : أي وجعل إبراهيم كلمة التوحيد : « لا إله إلا الله » باقية دائمة في ذريته إذ وصاهم بها كما قال تعالى ووصى بها إبراهيم بنيه .
{ لعلهم يرجعون } : أي رجاء أن يتوبوا إلى الله ويرجعوا إلى توحيده كلما ذكروها وهى لا إله إلا الله .
{ بل متعت هؤلاء وآباءكم } : أي هؤلاء المشركين وآباءهم بالحياة فلم أعاجلهم بالعقوبة .
{ حتى جاءهم الحق ورسول : أي إلى أن جاء القرآن يحمل الدين الحق ، ورسول مبين مبين } لا شك في رسالته وهو محمد صلى الله عليه وسلم يبين لهم طريق الهدى والأحكام الشرعية .
{ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على : أي وقال هؤلاء المشركون الذين متعناهم بالحياة فلم نُعاقبهم ، رجل من القريتين عظيم } هَلاَّ نزل هذا القرآن على أحد رجلين من قريتي مكة أو الطائف أي الوليد بن المغيرة بمكة أو عروة بن مسعود الثقفي في الطائف .
{ أهم يقسمون رحمة ربك؟ } : أي ينكر تعالى عليهم هذا التحكم والاقتراح الفاسد فقال أهم يقسمون رحمة ربك إذ النبوة رحمة من أعظم الرحمات . وليس لهم حق في تنبئة أي أحد إذ هذا من حق الله وحده .
{ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في : أي إذا كنا نحن نقسم بينهم معيشتهم فنغني هذا ونفقر هذا الحياة الدينا } ونملك هذا ونعزل هذا ، فكيف بالنبوة وهي أجل وأغلى من الطعام والشراب فنحن احق بها منهم فننبئ من نشاء .
{ ليتخذ بعضهم بعضا سخريا } : أي جعلنا هذا غنياً وذاك فقيراً ليتخذ الغنى الفقير خادما يسخره في خدمته بأجرة مقابل عمله .
{ ورحمة ربك خير مما يجمعون } : أي والجنة التي أعدها الله لك ولأتباعك خير من المال الذى يجمع هؤلاء المشركون الكافرون .
معنى الآيات :
لما ذكر تعالى قول المشركين لرسلهم : { إنا وجدنا آباءنا على أمة } « ملة » { وإنا على أثارهم مقتدون } قال مخبراً عن قول الرسول لأمته المكذبة المقلدة للآباء الظالمين { قال : أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم } أي اتتبعون آباءكم ولا تتبعوني ولا جئتكم بأهدى إلى الخير والسعادة مما وجدتم عليه آباءكم ، وهذا إنكار من الرسول عليهم في صورة استفهام وهو توبيخ ايضاً إذ العاقل يتبع الهدى جاء به من جاء قريباً كان أو بعيداً .
(4/21)
________________________________________
وقوله تعالى { قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون } هذا قول الأمم المكذبة المشركة لرسلهم اي كل أمة قالت هذا لرسولها : إنما بما ارسلتم به من التوحيد وعقيدة البعث والجزاء والشرع وأحكامه كافرون أي منكرون مكذبون غير مصدقين ، قال تعالى : { فانتقمنا منهم } اي لتكذيبهم فأهلكناهم فانظر يا رسولنا كيف كان عاقبتهم وهم المكذبون إنها دمار شامل وهلاك تام . وليذكر هذا قومك لعلهم يذكرون .
وقوله تعالى : { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إننى براء مما تعبدون } أي واذكر يا رسولنا لقومك قول إبراهيم الذي ينتسبون إليه باطلا لأبيه وقومه : إنني براء مما تعبدون أي إني برئ من آلهتكم التي تعبدونها فلا أعبدها ولا اعترف بعبادتها . وقوله { إلا الذي فطرني } أي لكن ابعد الله الذى خلقنى فهو أحق بعبادتى مما لم يخلقني ولم يخلق شيئا وهو مخلوق أيضا . وقوله فإنه سيهدين اي يرشدنى دائما إلى ماف يه سعادتي وكما لي . وقوله تعالى : { وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون } أي وجعل براءته من الشرك والمشركين ، وعبادته خاصة بالله رب العالمين جعلها كلمة باقية في ذريته حيث وصاهم بها كما جاء ذلك في سورة البقرة إذ قال تعالى : { ووصى بها إبراهيم بنيه } اي بأن لا يعبدوا إلا الله وهي إذاً كلمة لا إله إلا الله ورثها إبراهيم في بنيه لعلهم يرجعون إليها كلما غفلوا ونسوا تركوا عبادة الله تعالى والإِنابة إليه بعوامل الشر والفساد من شياطين الإِنس والجن فيذكرون ويتوبون إلى الله تعالى فيوحدونه ويعبدونه فجزى الله إبراهيم عن المؤمنين خيراً . وقوله تعالى : { بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين } أي بل لم يتحقق ما ترجاه إبراهيم كاملاً إذا أشرك من بنيه من اشرك ومنهم هؤلاء الشمركون المعاصرون لك ايها الرسول وآباءهم ، ومتعهم بالحياة حتى جاءهم الحق الذي هو هذا القرآن يتلوه هذا الرسول المبين اي الموضح لكل الأحكام والمبين لكل الشرائع . ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون هكذا قالت قريش لما جاءها الحق الذي هو القرآن الحامل للشرائع والأحكام والرسول المبين لذلك والموضح له قالوا هذا سحر يسحرنا به ، وإنا به أى بالقرآن والرسول كافرون اي جاحدون منكرون مكذبون وقالوا أبعد من ذلك في الشطط والغلط وهو ما حكاه تعالى عنهم في قوله : { وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } أي هلاّ نزل هذا القرآن على رجل شريف ذى مكانه مثل الوليد بن المغيرة في مكة أو عروة بن مسعود في الطائف وهذه نظرة مادية بحتة إذ رأوا أن الشرف بالمال ، ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم لا مال له ولا ثراء رأوا أنه ليس أهلا للرسالة ولا للمتابعة عليها ، فرد تعالى عليهم نظريتهم المادية الهابطة هذه بقوله : { أهم يقسمون رحمة ربك } ؟ أما يخجلون عندما قالوا أهم يقسمون رحمة ربك فيعطون منها من شاءوا ويمنعون من شاءوا أم نحن القاسمون؟ إنا قسمنا بينهم معيشتهم : طعامهم وشرابهم وكساهم وكسنهم ومركوبهم في الحياة الدنيا فالعاجز حتى عن إطعام نفسه وسقيها وكسوتها كيف لا يستحي أن يعترض على الله في اختياره من هو أهل لنبوته ورسالته؟ وقوله تعالى : { ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات } اي في الرزق فهذا غنى وذاك فقير من أجل أن يخدم الفقير الغنى وهو معنى قوله تعالى : { ليتخذ بعضهم بعضا سخريا } ، إذ لو كانوا كلهم أغنياء لما خدم أحد أحداً وتعطلت الحياة وقوله تعالى : { ورحمة ربك } أى الجنة دار السلام خير مما يجمعون من المال الذي فضلوا أهله وإن كانوا من أحط الناس قدرا وأدناهم شرفا .
(4/22)
________________________________________
ورأوا أنهم أولى بالنبوة منك لمرض نفوسهم بحب المال والشهوات .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- من الكمال العقلي أن يتبع المرء الهدى ولو خالفه قومه وأهل بلاده .
2- وجوب البراءة من الشرك والمشركين وهذا معنى لا إله إلا الله .
3- فضيلة من يورث أولاده هدى وصلاحاً .
4- لا يعترض على الله أحد في شرعه وتدبيره إلا كفر والعياذ بالله تعالى .
5- بيان الحكمة في الغنى والفقر ، والصحة والمرض والذكاء والغباء .
(4/23)
________________________________________
وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
شرح الكلمات :
{ أمة واحدة } : أي على الكفر .
{ ومعارج } : أي كالسلم والمصعد الحديث والمعارج جمع معرج وهو المصعد .
{ عليها يظهرون } : أي يعلون عليها إلى السطوح .
{ وزخرفا } : أي ذهباً اي لجعلنا لبيوتهم سقفا من فضة وذهب وكذلك الأبواب والمصاعد والسرر بعضها من فضة وبعضها من ذهب .
{ وان كل ذلك } : أي وما كل ذلك المذكور .
{ لما متاع الحياة الدنيا } : أي وما كل ذلك الا متاع الحياة الدنيا يتمتع به فيها ثم يزول .
{ والآخرة } : أي الجنة ونعيمها خير لأهل الإِيمان والتقوى من متاع الدنيا .
معنى الآيات :
لما فضل تعالى الجنة على المال والمتاع الدنيوى في الايات السابقة قال هنا : { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة } اي على الكفر لجعلنا لمن يكفر بالرحمن ( يعني نفسه عز وجل ) لبيوتهم سقفاً من فضة ، ومعارج عليها يظهرون اي مراقى ومصاعد عليها يعلون إلى الغرف والسطوح من فضة ولجعلنا كذلك لبيوتهم ابواباً وسرراً عليها يتكئون من فضة أيضا ، وزخرفاً أي وذهباً أي بعض المذكور من فضة وبعضه من ذهب ليكون أجمل وابهى من الفضة وحدها ، وان كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا أي وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا يتمتع به الناس ثم يزول ويذهب بزوالهم وذهابهم . والآخرة عند ربك أي الجنة وما فيها من نعيم مقيم للمتقين الذين آمنوا واتقوا الشرك والمعاصي وما عند الله خير مما عند الناس ، وما يبقى خير مما يفنى ، ولذا قال الحكماء لو كانت الدنيا من ذهب والآخرة من خزف « طين » لاختار العاقل الآخرة على الدنيا ، وهو اختيار ما يبقى على ما يفنى .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- الميل إلى الدنيا وطلب متاعها فطرى فى الإِنسان فلذا لو اعطيها الكافر بكفره لمال إليها كل الناس وطلبوها بالكفر .
2- هوان الدنيا على الله وعدم الاكتراث بها إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء » رواه الترمذي وصححه وفي صحيح مسلم : « الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر » .
- بيان أن الآخرة خير للمتقين .
(4/24)
________________________________________
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40)
شرح الكلمات :
{ ومن يعش عن ذكر الرحمن } : أي يعرض متعاميا متغافلاً عن ذكر الرحمن الذى هو القرآن متجاهلاً .
{ نقيض له شيطاناً } : أي نجعل له شيطاناً يلازمه لإِضلاله وإغوائه .
{ فهو له قرين } : أي فهو أي من عشا عن ذكر الرحمن قرين للشيطان .
{ وإنهم ليصدُّونهم عن السبيل } : أي وإن الشياطين المقارنين لهم ليصدونهم عن طريق الهدى .
{ ويحسبون أنهم مهتدون } : أي ويحسب العاشون عن القرآن وحججه وعن ذكر الرحمن وطاعته أنهم مهتدون أي أنهم على الحق والصواب وذلك بتزيين القرين لهم .
{ بعد المشرقين } : أي كما بين المشرق والمغرب من البعد قال هذا تبرؤا منه .
{ ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم } : أي ولن ينفعكم اليوم أيها العاشون إذ ظلمتم أنفكم بالشرك والمعاصي .
{ إنكم في العذاب مشتركون } : اشتراككم في العذاب غير نافع لكم .
{ أفأنت تسمع الصم أو تهدى : أي إنك يا رسولنا لا تسمع الصم ، ولا تهدى العمى والقوم قد العمى } أصمهم الله وأعمى أبصارهم لأنهم عشوا عن ذكره .
{ ومن كان في ضلال مبين } : أي كما انك لا تقدر على هداية من كان في ضلال مبين عن الحق والهدى .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في عرض الهداية على الضالّين بالكشف عن أحوالهم واضاءة الطريق لهم قال تعالى : { ومن يعش عن ذكر الرحمن } اي يعرض متعاميا متغافلا عن ذكر الرحمن الذي هو القرآن وعبادة الرحمن متجاهلا ذلك نقيض له شيطاناً أي نسبب له نتيجة إعراضه شيطاناً ونجعله له قرينا لا يفارقه في الدنيا ولا في الآخرة . فهو له قرين دائما . وقوله تعالى : { وإنهم لَيَصُدُّونَهم عن السبيل ويحسبون انهم مهتدون } أي وان القرناء الذي جعلهم تعالى حسب سنته في السباب والمسببات للعاشين عن ذكره يصدونهم بالتزيين والتحسين لكل المعاصى حتى انغمسوا في كل إثم وولغوا في كل باطل وشر ، وضلوا عن سبيل الهدى والرشد ومع هذا يحسبون أنهم مهتدون وغيرهم هم الظالمون .
وقوله تعالى : { حتى إذا جاءنا } أي يوم القيامة قال العاشى عن ذكر الرحمن يا ليت متمنيا بينى وبينك بعد المشرقين اي يتمنى لو أن بينه وبين قرينه من الشياطين من البعد كما بين المشرق والمغرب . قال تعالى لأولئك العاشين ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنفسكم بالشرك والمعاصى في الدنيا أنكم في العذاب مشتركون اي إن اشتراككم في العذاب غير نافع لكم ولا مجد ابداً . وقوله تعالى لرسوله : { أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمى ومن كان في ضلال مبين } ينكر تعالى على رسوله ظنه أنه يقدر على هدايتهم وحده بدون إرادة الله تعالى ذلك لهم إذ كان صلى الله عليه وسلم في دعائهم ، وهم لا يزدادون إلا تعامياً وتجاهلا وكفراً فقال تعالى يخاطب رسوله { أفأنت } والاستفهام للانكار تسمع الصم الذين ذهب الله بأسماعهم ، أو تهدى العمى الذين ذهب الله بأبصارهم ، ومن كان في ضلال مبين عن الحق وسبيل الرشد والهدى إنك لا تقدر على ذلك فهون على نفسك وترفق في دعوتك فإنك لا تكلف غير البلاغ وقد بلغت .
(4/25)
________________________________________
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان سنة الله تعالى فيمن يعرض عن ذكر الله فإنه يسبب له شيطانا يضله ويحرمه الهداية أبداً فيقيم على الذنوب والآثام ضالا الطريق المنجى المسعد وهو يحسب أنه مهتدٍ ، وهذا يتعرض له المعرضون عن الكتاب والسنة كالمبتدعة وأصحاب الأهواء والشهوات والعياذ بالله تعالى .
2- الاشتراك في العذاب يوم القيامة لا يخففه .
3- بيان أن من أعماه الله وأصمه حسب سنته ي ذلك لا هادي له ولا مسمع له ولا مبصر .
(4/26)
________________________________________
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
شرح الكلمات :
{ فإما نذهبن بك } : أي فإن نذهبن بك أي نميتك قبل تعذيبهم ، وما زائد ادغمت فيها إن الشرطية فصارت إمَّا .
{ فإنا منهم منتقمون } : أي معذبوهم في الدنيا وفي الآخرة .
{ وإما نرينك الذي وعدناهم } : أي وإن نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب .
{ فإنا عليهم مقتدرون } : أي لا يعوقنا لأنا عليهم قادرون .
{ فاستمسك بالذى أوحي إليك } : اي دم على استمساكك بالقرآن سواء عجلنا لك بالموعود به أو أخرناه .
{ وإنه لذكر لك ولقومك } : أي وإن القرآن لشرف لك وشرف لقومك .
{ وسوف تسألون } : أي عن القرآن أي عن العمل به بتطبيق شرائعه وإبلاغه لغيركم .
{ وأسأل من ارسلنا من قبلك من رسلنا } : أس اسأل مؤمنى أهل الكتابين التوارة والانجيل .
{ اجعلنا من دون الرحمن آلهة } : أي هل جعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون والجواب لم نجعل أبداً فليفهم هذا مشركو مكة .
معنى الآيات :
مازال السياق الكريم في دعوة كفار قريش الى الإيمان والتوحيد فقوله تعالى : { فإما نذهبن بك } أي إن نذهب بك أى نخرجك من بين أظهرهم فإنا أظهرهم منهم منتقمون أي فنعذبهم كما عذبنا الأمم من قبلهم عندما يخرجون رسولهم أو نريك الذي وعدناهم من نصرك عليهم وغلبتك لهم فإنا عليهم مقتدرون أى قادرون على أن نفعل بهم ذلك .
وقوله تعالى : { فاستمسك بالذى أوحي اليك إنك على صراط مستقيم ) أي فتمسك يا رسولنا بما يأمرك به هذا القرآن الذى أوحاه إليك ربك إنك صراط مستقيم وهو الإسلام الذي لا يشفى من تمسك به فعاش عليه ومات عليه . وقوله تعالى : { وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون } أي وان القرآن الذي أوحى إليك وأمرت بالتمسك به هو ذكر لك أي شرف وأى شرف ولقومك من قريش كذلك إذا آمنوا به وعملوا بما جاء وسوف تسألون عن العمل به وتطبيق أحكامه والإلتزام بشرائعه .
وقوله { واسأل من ارسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } ؟ أي وأسأل يا رسولنا مؤمني أهل الكتابين التوارة والانجيل إذ سؤالهما سؤال رسلهم الذين ماتوا من قبلك هل جعل الله تعالى من دونه آلهة يعبدون ؟ وسوف يجيبونك بقولهم حاشا لله أن يأذن بعبادة غيره من خلقه وهو الله لا إله إلا هو ، وهذا من أجل تنبيه أذهان قريش الى خطأها الفاحش في اصرارها على عبادة الأصنام إن القرآن نزل لهدايتهم وهداية غيرهم من بنى آدم على الإطلاق إلا أنهم هو أولا وغيرهم ثانيا .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- من سنة الله في الأمم إذا أخرج الرسول قومه مكرها الله تعالى له منهم فأهلكهم .
2- صدق وعد الله تعالى لرسوله فإنه ما توفاه حتى أقر عينه بنصره على أعدائه .
3- وجوب التمسك بالكتاب والسنة اعتقاداً وعملاً .
4- شرف هذه الأمة بالقرآن فإن أضاعته أضاعها الله وأذلها وقد فعل .
(4/27)
________________________________________
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
شرح الكلمات :
{ ولقد ارسلنا موسى بآياتنا } : أي أرسلنا بالمعجزات الدالة على صدق رسالته .
{ إلى فرعون وملإه } : أي وقومه من القبط .
{ إذ هم منها يضحكون } : أي سخرية وإستهزاء .
{ وما نريهم من آية } : أي من آيات العذاب كالطوفان .
{ إلا هي أكبر من أختها } : أي من قرينتها التي قبلها من الآيات .
{ وقالوا يا أيها الساحر } : أي أيها العالم بالسحر المتبحر فيه .
{ بما عهد عندك } : أي من كشف العذاب عنا إن آمنا .
{ إنا لمهتدون } : أي إن كشف عنا العذاب إنا مؤمنون .
{ إذا هم ينكثون } : أي ينقضون عهدهم فلم يؤمنوا .
معنى الآيات
قوله تعالى : { ولقد أرسلنا } إيراد هذا القصص هنا كان لمشابهة حال قريش بحال فرعون من جهة إذ قال رجال قريش لم لا يكون من ذوى المال والجاه كالوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود وقال فرعون : أم أنا خير من هذا الذى هو مهين أي حقير يعنى موسى عليه السلام .
ومن جهة أخرى كان لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر كما صبر موسى وهو أحد أولى العزم الخمسة فقال تعالى : { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا } أي بحججنا الدالة على صدق موسى في رسالته إلى فرعون وقومه بأن يعبدوا الله ويتركوا عبادة غيره ، وان يرسلوا مع موسى بنى إسرائيل ليذهب بهم إلى أرض المعاد ( فلسطين ) فلما جاءهم قال إنى رسول رب العالمين جئتكم لآمركم بعبادة الله وحدة وترك عبادة من سواه ، إذ لا يستحق العبادة إلا الله . فطالبوه بالآيات على صدق دعواه فلما جاءهم بالآيات العظام فأجأوه بالضحك منها والسخرية والاستهزاء بها وهو معنى قوله تعالى : { فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون } .
وقوله تعالى : { وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها } أي وما نرى فرعون وملأه من آية إلا هب أكبر دلالة على صدق موسى من الآية التي سبقتها . قال تعالى وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون الى الحق فيؤمنون ويوحدون . وقالوا لموسى يا أيها الساحر أى العليم بالسحر المتبحر فيه ظنا منهم أن المعجزات كانت عمل ساحر . أدع لنا ربك بما عهد عندك إنا لمهتدون أى سل ربك يرفع عنها هذا العذاب كالطوفان والجراد والقمل والضفادع إنا مؤمنون وكانوا كلما نزل بهم العذاب سألوا موسى ووعده بالإيمان به إن رفع الله عنهم العذاب وفى كل مرة ينكثون عهدهم وهو قوله تعالى { فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون } أي ينقضون العهد ولا يؤمنون كما واعدوا .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- الايات دليل على صدق من جاء بها ، ولكن لا تستلزم الإيمان ممن شاهدها .
2- قد يؤاخذ الله الأفراد او الجماعات بالذنب المرة بعد المرة لعلهم يتوبون إليه .
3- حرمة خلف الوعد ونكث العهد ، وأنهما من آيات النفاق وعلاماته .
(4/28)
________________________________________
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
شرح الكلمات :
{ ونادى فرعون في قومه } : أي نادى فيهم افتخاراً وتبجحاً بما عنده .
{ وهذه الأنهار تجرى من تحتى } : أي من النيل تجرى من تحت قصورى .
{ أفلا تبصرون } : أي عظمتى وما أنا عليه من الجلال والكمال .
{ أم أنا خير } : أي من موسى الذي هو مهين ولا يكاد يبين أي يفصح للثغة التي في لسانه .
{ فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب } : اي هَلا ألقي عليه أسورة من ذهب من قِبل الذي أرسله .
{ أو جاء معه الملائكة مقترنين } : أي أو جاءت الملائكة يتبع بعضها بعضاً تشهد له بالرسالة .
{ إنهم كانوا قوماً فاسقين } : أي أطاعوه لكونهم قوماً فاسقين ففسقهم هو علة طاعتهم .
{ فلما آسفونا انتقمنا منهم } : أي فلما أغضبونا انتقمنا منهم .
{ فجعلناهم سلفا } : أي فرعون وقومه سلفاً أي سابقين ليكونوا عبرة لمن بعدهم .
{ ومثلا للآخرين } : أي يتمثلون بحالهم فلا يقدمون على مثل فعلهم .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في قصة موسى مع فرعون قال تعالى : { ونادى فرعون في قومه } لأجل الافتخار والتطاول إرهاباً للناس قال يا قوم أليس لى ملك مصر ، وهذه الأنهار أى أنهار النيل تجرى من تحتى أى من تحت قصوره ، أفلا تبصرون فإذا أبصرتم فقولوا أنا خير من هذا الذى وهو مهين أى حقير يتولى الخدمة بنفسه ، ولا يكاد يبين اى يفصح بلسانه لعلة به وهي اللثغة أم هو ؟ .
فلولا ألقى عليه أساوره من ذهب أي هلا ألقى عليه من أرسله أساورة من ذهب أو بعث معه الملائكة مقترنين يشهدون له بالرسالة . قال تعالى : { فاستخف قومه } أى استفزهم بقوله هذا وحركهم فاطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين ، والفاسق جبان يستجيب بسرعة للباطل ان كان ممن يخاف عادة كالحاكم الظالم .
وقوله تعالى : { فلما آسفونا } أي أغضبونا بنكثهم وكفرهم وكبريائهم وظلمهم أغرقناهم أجمعين أى فلم نبق منهم أحداً والمراد فرعون وجنوده . وقوله تعالى فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين أي جعلنا فرعون ، ومن أغرقنا معه من ملائه وجيوشيه سلفا أي سابقين ليكنوا عبرة لمن بعدهم ، ومثلا يتمثل به من بعدهم فلا يقدمون على ما أقدموا عليه من الكفر والظلم والعلو والفساد ، وأولى من يعتبر بهذا قريش التي نزل لينبهها ويحرك كامن نفسها لتنتبه من غفلتها وتوحد فتنجو وتكمل وتسعد .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- ذم الفخر والمباهة إذ هما من صفات المتكبرين والظالمين .
2- الاحتقار للفقراء والازدراء بهم من صفات الجبارين الظلمة المتكبرين .
3- الفسق يجعل صاحبه مطية لكل ظالم أداة يسخره كما يشاء .
4- التحذير من غضب الرب تبارك وتعالى فإنه متى غضب انتفم فبطش .
(4/29)
________________________________________
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)
شرح الكلمات :
{ ولما ضرب ابن مريم مثلا } : أي ولما جعل عيسى بن مريم مثلا ، والضارب ابن الزبعرى .
{ إذا قومك منه يصدون } : أي إذ المشركون من قومك يصدون أي يضحكون فرحاً بما سمعوا .
{ وقالوا ألهتنا خير أم هو؟ } : أي ألهتنا التى نعبدها خير أم هو أي عيسى بن مريم فنرضى أن تكون آلهتنا معه .
{ ما ضربوه لك إلا جدلاً } : أي ما جعلوه أي المثل لك إلا خصومة بالباطل لعلمهم أن ما لغير العاقل فلا يتناول اللفظ عيسى عليه السلام .
{ بل هم قوم خصمون } : أي ما هو أي عيسى إلا عبد انعمنا عليه البنوة .
{ وجعلناه مثلا لبنى إسرائيل } : أي لوجود من غير أب كان مثلا لبنى إسرائيل لغرابته يستدل به على قدرة الله على ما يشاء .
{ ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة } : أي ولو شاء لأهلكناهم وجعلنا بدلكم وملائكة .
{ في الأرض يخلفون } : أي يعمرون الأرض ويعبدون الله فيها يخلفونكم فيها بعد إهلاككم .
{ وإنه لعلم للساعة } : أي وإن عيسى عليه السلام لعلهم للساعة تعلم بنزوله إذا نزل .
{ فلا تمترون بها } : أي لا تشكن فيها أى إثباتها ولا في قربها .
{ واتبعون هذا صراط مستقيم } : أي وقل لهم اتبعون على التوحيد هذا صراط مستقيم وهو الإسلام .
{ ولا يصدنكم الشيطان } : أي ولا يصرفنكم الشيطان عن الإسلام .
{ إنه لكم عدو مبين } : أي إن الشيطان لكم عدو بيّن العداوة فلا تتبعوه .
معنى الآيات :
قوله تعالى : { ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون } روى أن ابن الزبعرى قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لما نزلت آية الأنبياء إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون قال : أهذا لنا ولألهتنا أم جميع الأمم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم » فقال ابن الزبعرى خصمتك ورب الكعبة ، أليست النصارى يعبدون المسيح واليهود يعبدون العزير وبنو مليح يعبدون الملائكة فإن هؤلاء فى النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ، ففرح بها المشركون وضحكوا وضجوا بالضحك مرتفعة أصواتهم بذلك ونزلت في هذا الحادثة الآية : ( ولما ضرب بن مريم مثلا } أى ولما جعل ابن الزبعرى عيسى بن مريم مثلا إذ جعله مشابها للأصنام من حيث أن النصارى اتخذوه إلهاً وعبدوه من دون الله ، وقال فإذا كان عيسى والعزير والملائكة في النار فقد رضينا أن نكون وآلهتنا معهم ففرح بها المشركون وصدوا وضجوا بالضحك . وقالوا آلهتنا خير أم هو أي المسيح ؟ قال تعالى لرسوله : ما ضربوه لك إلا جدلاً اى ما ضرب لك ابن الزبعرى هذا المثل طلبا للحق وبحثا عنه وأنما ضربه لك لأجل الجدل والخصومة بل هم قوم خصمون مجبولون هلى الجدل والخصام . .
وقوله أن هو أي عيسى إلا عبد أنعمنا عليه بالنبوة والرسالة ، وجعلناه مثلا لبنى إسرائيل يستدلون به على قدة الله وإنه عزوجل على كل ما يشاء قدير إذ خلقه من غير أب كما خلق آدم من تراب قم قال له كن فكان .
(4/30)
________________________________________
وقوله تعالى : { ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون } أي ولو نشاء لأهلكناكم يا بنى آدم ولم نبق منك أحداً . وجعلنا بدلكم في الأرض ملائكة يخلفونكم فيها فيعمرونها ويعبدون الله تعالى فيها ويوحدونه ولا يشركون به سواء .
وقوله { وإنه لعلم للساعة } أي وإن عيسى عليه السلام لعلامة للساعة أي نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان علامة على قرب الساعة . فلا تمترن بها أى فلا تشكن في إيتانها فانها آتية وقريبة . وقوله واتبعون أى وقل لهم يا رسولنا واتبعون على التوحيد وما جئتكم به من الهدى هذا صراط مستقيم أى الإسلام بوساوسه وإغوائه فيصرفكم عن التوحيد والإسلام إنه لكم عدو مبين وليس أدل على عداوته من أنه اخرج آدم بإغوائه من الجنة حسداً له وبغياً عليه . فمثل هذا العدو لا يصح ابداً الإستماع إليه والمشي وراءه واتباع خطواته . ومن يتبع خطواته يهلك .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان أن قريشاً أوتيت الجدل والقوة في الخصومة .
2- ذم الجدل لغير إحقاق حق وإبطال باطل وفى الحديث ما ضل قوم هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل .
3- شرف عيسى وعلو مكانته وأن نزوله إلى الأرض علامة كبرى من علامات قرب الساعة .
4- تقرير البعث والجزاء .
5- حرمة إتباع الشيطان لأنه يضل ولا يهدى .
(4/31)
________________________________________
وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66)
شرح الكلمات :
{ ولما جاء عيسى بالبينات } : أي ولما جاء عيسى بن مريم إلى بنى إسرائيل بالمعجزات والشرائع .
{ قال قد جئتكم بالحكمة } : أي قال لبنى إسرائيل قد جئتكم بالنبوة وشرائع الإنجيل .
{ ولأبين لكم بعض الذى تختلفون فيه } : أي وجئتكم لأبين لكم ما اختلفتم فيه من أحكام التوارة من أمر الدين وغيره .
{ فاتقوا الله وأطيعون } : أى خافوا الله وأطيعون فيما أبلغكموه عن الله من الأمر النهى .
{ إن الله ربى وربكم فاعبدوه } : أى إن الله إلهي وإلهكم فاعبدوه بحبه وتعظيمه والذلة له .
{ هذا صراط مستقيم } : أى تقوى الله وطاعة الرسول وعبادة الله بما شرع هو الإسلام المعبر عنه بالصراط المستقيم .
{ فاختلف الأحزاب من بينهم } : أى في شأن عيسى أهو الله : او ابن الله ، أو ثالث ثلاثة .
{ فويل للذين ظلموا من عذاب يوم اليم } : أي فويل للذين كفروا بما قالوا في عيسى من الكذب والباطل .
{ هل ينظرون إلا ساعة أن تاتيهم بغتة وهم لا يشعرون } : أي ما ينتظر هؤلاء الأحزاب مع إصرارهم على ما قالوه في عيسى إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فجأة وهو لا يشعرون .
معنى الآيات :
بعد أن ذكر تعالى جدل المشركين في مكة وفرحهم بالباطل الذي قاله ابن الزبعرى في شأن الملائكة والعزير وعيسى عليهم السلام من أنهم في النار مع من عبدوهم ، وبرأ تعالى الملائكة والعزيز وعيسى لأنهم ما أمروا الناس بعبادتهم حتى يؤاخذوا بها ، وانما امر بعبادتهم الشيطان فالشيطان ومن عبدوهم الذين في النار ، وذكر تعالى شرف عيسى ومكانته وانه عبد أنعم عليه بالنبوة وجعله مثلا لبنى إسرائيل يستدلون به على قدرة الله تعالى إذ خلقه من غير أب كما خلق آدم من غير أب ولا أم وإنما خلقه من تراب ذكر رسالة عليه السلام الى بنى إسرائيل ليكون ذلك موعظة لكفار مكة فقال تعالى ولما جاء عيسى بالبينات أي جاء بنى إسرائيل مصحوبا بالبينات هي الإنجيل والمعجزات كإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص وما إلى ذلك ، قال لهم قد جئتكم بالحكمة أي النبوة من عند الله ، ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه من أحكام التوارة وأمور إذا فاتقوا الله يا بنى إسرائيل أي خافوا عقابه المترتب على معاصيه وأطيعون فيما أبلغكموه من أمر ونهى عن الله تعالى ، إن الله ربى وربكم أي إلهى وآلهكم لا إله إلا هو فاعبدوه بفعل محابه وترك مساخطه حباص وتعظيماً له ورهبة ورغبة . وقوله { هذا صراط مستقيم } أى هذا الذي دعوتكم إليه من اتقاء الله ، وطاعة رسوله وعبادته وحده هو الطريق المستقيم الذي يفضى بسالكه إلى سعادة الدارين . قال تعالى : فاختلف الأحزاب من بينهم أي من بين بنى إسرائيل من يهود إفتراء أن عيسى ابن مريم ابن زنا وأمه بغي وقالوا ساحر .
(4/32)
________________________________________