المدخل إلى دراسة العقيدة الإسلامية

المدخل إلى دراسة العقيدة الإسلامية

الفصل الأول
العقيدة الإسلامية
 
1-       أسماؤها .
2-       موضوعاتها .
3-       أهمية دراستها .
4-       مصادرها .
5-       علاقة العقيدة بالعقل والفطرة .
 
بسم الله الرحمن الرحيم
العقيدة الإسلامية
     إن الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . أما بعد :
     فإن أشرف العلوم على الإطلاق ، العلم بالله . لأن شرف العلم مبني على شرف المعلوم ، والله تعالى أشرف معلوم ، فالعلم به ، إذاً ، أشرف العلوم . وهو أفضل ما أدركته العقول ، وانطوت عليه القلوب . وتحصيل هذا العلم الشريف من أوجب الواجبات ، وأهم المهمات ، ولهذا أمر الله به قبل القول والعمل، فقال : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ )(محمد: من الآية19) .
     قال ابن أبي العز الحنفي ، رحمه الله ، في مقدمة شرحه للعقيدة الطحاوية : ( وهو الفقه الأكبر بالنسبة إلى فقه الفروع . ولهذا سمى الإمام أبو حنيفة ، رحمه الله ، ما قاله وجمعه في أوراق من أصول الدين " الفقه الأكبر" . وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة ، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة ، لأنه لا حياة للقلوب ، ولا نعيم ، ولا طمأنينة ، إلا أن تعرف ربها، ومعبودها، وفاطرها، بأسمائه، وصفاته، وأفعاله، ويكون مع ذلك كله أحب إليها مما سواه ، ويكون سعيها فيما يقربها إليه ، دون غيره من سائر خلقه ) .
أسماؤها :
     يسمى هذا العلم الشريف ، لدى السلف ، بأسماء متعددة ، منها :
1- العقيدة ، أو الاعتقاد : والعقد لغةً : الربط والجزم . واصطلاحاً : حكم الذهن الجازم . وأصله مأخوذ من عَقَد الحبل إذا ربطه ، ثم استعمل في عقيدة القلب وتصميمه الجازم . ومن شواهد هذه التسمية في مصنفات السلف :
- اعتقاد أهل السنة . لأبي بكر الإسماعيلي (277-371 ) .
- الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد . للبيهقي (384-458) .
- لمعة الاعتقاد . لموفق الدين ابن قدامة (541-620 ) .
2- السنة : وهي لغةً : السيرة والطريقة . واصطلاحاً : ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الاعتقادات ، والأقوال ، والأعمال . ثم اختصت عند السلف المتقدمين بالاعتقادات ، السالمة من البدع والشبهات . ومن شواهد هذه التسمية في مصنفاتهم :
- كتاب السنة . لأبي بكر الأثرم ( ت 273 ) .
- كتاب السنة . لعبدالله بن الإمام أحمد بن حنبل (213-290 ) .
- كتاب السنة . لأبي أحمد الاصبهاني العسال (269-349 ) .
 
3- الإيمان : وهو لغةً : التصديق . واصطلاحاً : التصديق القلبي بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره . هكذا عرفه النبي صلى الله عليه وسلم ، بعد أن عرَّف الإسلام بالأعمال الظاهرة . وعند الإطلاق : قول باللسان ، واعتقاد بالجنان ، وعمل بالأركان . ومن شواهد هذه التسمية :
- كتاب الإيمان . للإمام أحمد بن حنبل (164-241) .
- كتاب الإيمان . لأبي بكر بن أبي شيبة (195-235) .
- كتاب الإيمان . لمحمد بن إسحاق بن منده (310-395) .
 
4- الأصول : الأصل لغةً : ما يبنى عليه غيره ، كأصل الجدار ، وأصل الشجرة. واصطلاحاً : الاعتقادات العلمية التي تبنى عليها العبادات العملية .
 ومن شواهد التصنيف بهذه التسمية :
- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة .لأبي القاسم اللالكائي (ت 418) .
- كتاب الأصول . لأبي عمرو الطلمنكي (340-429) .
- الفصول في أصول الدين . لأبي عثمان الصابوني (373-449) .
 
5- التوحيد : لغةً : جعل الشيء واحداً . واصطلاحاً: اعتقاد وحدانية الله تعالى في ذاته، وصفاته، وأفعاله، ليس كمثله شيء ، وإفراده بالعبادة . ومن شواهد التصنيف :
- كتاب التوحيد . لمحمد بن يحي بن منده ( ت 301) .
- كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب . لأبي بكر ابن خزيمة (223-311) .
- كتاب التوحيد . لمحمد بن إسحاق بن منده (310-395) .
 
    ويطلق بعض الناس مسميات باطلة على هذا العلم الشريف ، مثل :
1- الفلسفة : وهي كلمة يونانية ، مركبة من مقطعين : ( فيلو ) أي محبة، و ( صوفيا) أي حكمة . فالفلسفة عبارة عن محاولات بشرية للوصول إلى الحقيقة ، عن طريق التأمل العقلي ، دون الاهتداء بالوحي المنزل على الأنبياء .
2- علم الكلام : هو محاولة إثبات العقائد الدينية ، بالطرق العقلية ، القائمة على المنطق الأرسطي ـ نسبة إلى الفيلسوف اليوناني (أرسطو) ـ وليس بالأدلة الشرعية .                                وقد ذم السلف علم الكلام ، حتى قال الإمام أحمد : ( لا يفلح صاحب كلام أبداً ) ، وقال الشافعي : ( حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ، ويطاف بهم في العشائر والقبائل ، ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة ، وأقبل على علم الكلام ) . فهو علم دخيل على الأمة الإسلامية ، أدى إلى وقوع كثير من الخلل والانحراف لدى المشتغلين به ، فأفنوا أعمارهم ، وضيعوا أوقاتهم ، ولم يظفروا إلا بالندم . وقد عبر عن ذلك أحد أساطينهم ، فقال :
        نهاية إقدام العقول عقـــال               وأكثر سعي العالمين ضـلال
       وأرواحنا في وحشة من جسومنا               وغاية دنيانا أذىً ووبــال
       ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا               سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
   لقد تأملت الطرق الكلامية ، والمناهج الفلسفية ، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً،ورأيت أقرب الطرق طريقة القرءان...ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي
3- الفكر الإسلامي : العقيدة الإسلامية ليست فكراً ، بل هي وحي يوحى . والفكر نتاج عقول البشر،يحتمل الصواب والخطأ،ويخضع للنقاش والنقد، لكونه غير معصوم .
4- التصور الإسلامي : التصور ، أيضاً ، مبناه على الفكر والخيال ، القابل للخطأ ، بخلاف العقيدة المحفوظة المعصومة من الزيغ والضلال .
5- الأيديولوجية الإسلامية : وهي بمعنى الفكرة الإسلامية ، أيضاً . وإلى جانب ذلك هي كلمة أجنبية لا يليق أن تضاف إلى الإسلام، أو يستعاض بها عن الألفاظ الشرعية .
 
موضوعات العقيدة :
     تتناول دراسة العقيدة الإسلامية أركان الإيمان الستة، وهي الإيمان بالله ،وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر ؛ خيره وشره . وما تفرع عن هذه الأصول من مسائل ، وردود على المنحرفين ، في قضايا الصفات الربانية ، والقرءان ، والقدر ، وما يلتحق بها من مسائل الإيمان ، والكفر ، والشرك ، والنفاق ، والكلام على الصحابة ، وكرامات الأولياء ، والسحر ، والبدعة ، ونحوها .
 
أهمية دراسة العقيدة :
     تظهر أهمية دراسة العقيدة الإسلامية من خلال الأمور التالية :
1- أن العقيدة أصل الدين ، وأساس دعوة المرسلين . قال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الانبياء:25) .
2- أن العقيدة الصحيحة شرط لصحة الأعمال وقبولها.قال تعالى(بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(البقرة:112).
وفسادها سبب لردها في الدنيا ، وحبوطها في الآخرة .قال تعالى : (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ)(التوبة: من الآية54) ، وقال : (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً) (الفرقان:23) .
3- أن العقيدة الصحيحة سبب لسعادة الدنيا والآخرة . قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97) . كما أن الإعراض عنها سبب للشقاء في الدنيا والآخرة . قال تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طـه:124) .
4- أن العقيدة الصحيحة عصمة للدم والمال ، وفسادها يوجب إهدارهما . قال صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم ، إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله ) متفق عليه .
5- أن العقيدة الصحيحة شرط لحصول النصر والتمكين للأمة ، وتحقيق الأمن الاجتماعي . قال تعالى : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55) .
6- أن العقيدة الصحيحة تحرر العقل من الشبهات الفاسدة ، والخرافات السخيفة ، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) (النساء:174) ، وتمنحه القناعة التامة، والاطراد العقلي، السالم من التناقض والخلل، قال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء:82) . وفقدان هذه العقيدة يورث القلق والحيرة ، كما عبر عن ذلك أحد الشعراء الضالين ، فقال :
 جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت!!          ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
                         وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت
 أ صحيح أن بعد الموت بعث ونشور؟           فحياة ، فخلود ، أم فناء ، فدثور ؟!
                       أ كلام الناس صدق، أم كلام الناس زور؟
 أ صحيح أن بعض الناس يدري ؟؟               لست أدري ! ولماذا لست أدري ؟
                       لســــــــــت أدري !!!
     أما المؤمن فإنه يدري من أين جاء، وإلى أين يسير، وكيف يسير، وما مصير المسير. وقلبه ، في أثناء ذلك ، بالإيمان معمور ، وبالسعادة مغمور . قال بعض الصالحين :      ( إنه ليمر بي الأوقات أقول : إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيش طيب) .
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (يونس:57) .
 
مصادر العقيدة الإسلامية :
     تستمد العقيدة الإسلامية من ثلاثة مصادر :
أولاً : الكتاب : فقد شغلت آيات الاعتقاد حيزاً كبيراً من القرءان العظيم ، لا سيما المكي منه . بل لا تكاد آية من آياته ، حتى آيات الأحكام ، تخلو من رابط عقدي ، يذكِّر المؤمن بأصل اعتقاده الذي يعينه على الامتثال ، كقوله في آية نشوز النساء : فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً)(النساء: من الآية34) .
 
وقد تنوعت طريقة القرءان في تقرير العقيدة ، فمن ذلك :
1-    التقرير المباشر : كقوله : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:21) .
2-       إبطال العقائد الفاسدة : كقوله : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (التوبة:30) .
3-            القصص القرءاني : كقصص الأنبياء مع أقوامهم ، ومجادلتهم . وهذا كثير .
4-         ضرب الأمثال المقرِّبة : كقوله : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الروم:28) .
5-         استثارة العقل للتفكر والتدبر : كقوله : (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (يونس:101) ، وقوله:(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)(سـبأ:46)
 
ثانياً : السنة : فالسنة تفسر القرءان، وتبيِّنُه، وتدل عليه، وتعبر عنه، وتزيد عليه . قال تعالى : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(النحل: من الآية44) ، وقال : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ )(النساء: من الآية170) . والسنة النبوية زاخرة بالأحاديث المتعلقة بالعقائد،حتى أفردها جمع من السلف المتقدمين بالتصنيف .
ثالثاً : الإجماع : وهو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه ، ويحتج به . قال تعالى : (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) (النساء:115) .
 
علاقة العقيدة بالعقل والفطرة :
     وإلى جانب هذه الأصول الثلاثة، فإن العقيدة الإسلامية لا تتعارض مع العقل الصريح السالم من الشبهات والشهوات ، وإن كان العقل لا يستقل بإثبات جميع مفردات العقيدة ، لكنه لا يُحيلها ، بخلاف العقائد الباطلة ؛ فإن العقل الصريح يأباها ، ويرفضها ، كدعوى أهل التثليث من النصارى أنهم موحدون ، وقولهم : (وحدة في تثليث ، وتثليث في وحدة ) !!!
     قال شيخ الإسلام ابن تيمية ، رحمه الله : (كل ما يدل عليه الكتاب والسنة فإنه موافق لصريح المعقول ، وإن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح )مجموع الفتاوى : 12/80 ، وقال عن العقل : ( إن اتصل به نور الإيمان والقرءان ، كان كنور العين ، إذا اتصل به نور الشمس والنار . وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها ) مجموع الفتاوى : 3/339 . ولهذا جاء الحث في القرءان على التدبر، والتعقل، والنظر ، والثناء على أولي الألباب ، وذم الغافلين .
     كما أن العقيدة الإسلامية موافقة للفطرة الأصلية ، المغروسة في الضمير من غير سبق تفكير أو تعليم ، قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم:30). وقال صلى الله عليه وسلم:( كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه ، وينصرانه ، ويمجسانه ) متفق عليه .
     وهذه العقيدة الصحيحة ، المبنية على النص والدليل ، الموافقة للعقل والفطرة، هي عقيدة " أهل السنة والجماعة " ، التي عليها الصحابة ، والتابعون ، وتابعوهم بإحسان ، إلى يومنا هذا ، إلى قيام الساعة . تكفل الله بحفظها ، وقيض لها من يدعو إليها ، ويذِبُّ عنها ، ويجدد ما اندرس منها ، مصداقاً لقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) .
 
 
مناقشة :
1- ما هو أشرف العلوم ، ولماذا ؟
2- ما هي أسماء هذا العلم،مع التمثيل لكل اسم بمصنف من مصنفات السلف
3- ما هي الفلسفة ؟ وهل يصح تسمية العقيدة بالفلسفة الإسلامية ؟ ولماذا ؟
4- ما هو علم الكلام ، وما موقف السلف منه ؟
5- هل يصح تسمية العقيدة الإسلامية " فكراً " أو " تصوراً " أو " أيديولوجيا " ولماذا ؟
6- ما هي موضوعات العقيدة الإسلامية ، بإجمال ؟
7- ما أوجه أهمية دراسة العقيدة الإسلامية ، مع ذكر الدليل ؟
8- ما هي مصادر العقيدة الإسلامية ، مع ذكر الدليل ؟
9- تنوعت طريقة القرءان في تقرير العقيدة ، فما هي مع الدليل .
10- ما علاقة العقل بالعقيدة ؟
11- ما هي الفطرة ، وما علاقتها بالعقيدة ، مع ذكر الدليل من الكتاب والسنة ؟
12- من هم أهل العقيدة الصحيحة ؟
 
الفصل الثاني
أهل السنة والجماعة
1-       حديث الافتراق .
2-       تعريف " أهل السنة والجماعة "
3-       سبب التسمية .
4-       أسماؤهم .
5-       خصائصهم .
 
 
 بسم الله الرحمن الرحيم
أهل السنة والجماعة
حديث الافتراق :
     عن معاوية بن أبي سفيان ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ألا وإن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ؛ ثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنة ، وهي الجماعة ) . رواه أبو داود ، والترمذي ،وأحمد ، والدارمي . وصححه الحاكم ، والشاطبي ، وابن تيمية ، والذهبي ، والعراقي ، والألباني .
 
     و في رواية عن عبدالله بن عمرو ، رضي الله عنه : ( وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة ، كلها في النار ، إلا ملة واحدة ؛ ما أنا عليه وأصحابي ) رواه الترمذي ، وحسنه الألباني .
تعريفهم :
     أهل السنة والجماعة : هم الذين اجتمعوا على الأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، والعمل بها ، ظاهراً ، وباطناً ، في القول ، والعمل ، والاعتقاد .
معنى "السنة" :
     قال ابن رجب ، رحمه الله : ( السنة : الطريقة المسلوكة ؛ فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات ، والأعمال ، والأقوال . وهذه هي السنة الكاملة . ولهذا كان السلف قديماً لا يطلقون اسم "السنة" إلا على ما يشمل ذلك كله ) . جامع العلوم والحكم :2/120 .
معنى "الجماعة" :
     قال الشاطبي ، رحمه الله ، بعد حكاية الأقوال في معنى الجماعة : ( لا إشكال أن الاعتبار إنما هو بالسواد الأعظم من العلماء المعتبر اجتهادهم . فمن شذ عنهم فمات ،
فميتته جاهلية ) . الاعتصام : 2/267 .
سبب التسمية :
     قال تعالى : (ٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا) فالاسم الأول لأهل الحق والهدى هو "الإسلام" ، ولكن لماَّ صار كل أحد يدعيه ، دعت الحاجة إلى تمييزهم عن سائر أهل القبلة ،ممن تلبسوا بشيء من البدع والضلالات .
     قال شيخ الإسلام ابن تيمية ، رحمه الله : ( وطريقتهم هي دين الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم . لكن لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة ،كلها في النار ، إلا واحدة ، وهي الجماعة . وفي حديث عنه أنه قال : هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ، صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب ، هم أهل السنة والجماعة ) الواسطية .
 
أسماؤهم :
     ومن أسماء أهل السنة والجماعة التي دل عليها الدليل ، أو صدقها الواقع ما يلي :
1- الطائفة المنصورة : أخذاً من قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله ، لا يضرهم من خذلهم ، أو خالفهم ، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس ) متفق عليه ، واللفظ لمسلم .
2- الفرقة الناجية : أخذاً من قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة ، كلهم في النار ، إلا ملة واحدة .قالوا : ومن هي يا رسول الله ؟ قال : ما أنا عليه وأصحابي ) رواه الترمذي . فهذه الفرقة قد نجت في الدنيا من الشرك والبدعة ، وفي الآخرة من النار .
3- السلف أو السلفيون : نسبة إلى السلف الصالح ، وهم الصحابة ، والتابعون ، وتابعوهم ؛ أهل القرون المفضلة ، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : ( خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ) متفق عليه ، تمييزاً لهم عن الخلف ، الذين زاغت بهم الأهواء ، ورغبوا عن سبيل المؤمنين الأولين .
4- أهل الحديث أو أهل الأثر : نسبة إلى اشتغالهم بالعلم والآثار النبوية ، رواية، ودراية . روى الحاكم وغيره عن الإمام أحمد أنه قال : ( إن لم تكن هذ الطائفة المنصورة أصحاب الحديث ، فلا أدري من هم !) قال الحافظ في الفتح :    بسند صحيح. وقال الشيخ عبدالقادر الجيلاني ،رحمه الله، في كتابه " الغنية " : ( أما الفرقة الناجية فهي أهل السنة والجماعة ، وأهل السنة لا اسم لهم إلا اسم واحد ، وهو : أصحاب الحديث ) .
 
خصائص منهج أهل السنة والجماعة :
1- الكفر بالطاغوت ، والإيمان بالله : قال تعالى :
(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاانْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم) ، (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) .
(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ) .
     فأهل السنة والجماعة أعظم الناس تحقيقاً لتوحيد الله الذي بعث به المرسلين ، القائم على قضيتين متلازمتين ؛ الكفر بالطاغوت ، والإيمان بالله . ودعوتهم الأساسية دعوة الأنبياء والمرسلين : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) .وهم يبادؤون الناس بما يبادئ به الأنبياء أقوامهم : ( يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) . وقضية العقيدة والتوحيد عندهم أم القضايا ، لا يجوز تخطيها ، ولا تأجيلها ، ولا المساومة عليها ، بل يوادُّون ويبغضون فيها ، و يوالون ، ويعادون عليها . وهم بذلك يفارقون غيرهم من أهل البدع المنتسبين إلى الإسلام ، الذين يسوِّغون الشرك ، من خلال الغلو في الصالحين ، وتعظيم المقبورين .
 
2- العلم بالآثار ، والفقه في الدين : قال تعالى :
( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون َ) ، (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ، ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) .
قال الإمام البخاري : ( باب قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق " وهم أهل العلم ) .
     وهم بذلك يفارقون طوائف من أهل القبلة ، المنحرفين عن السنة ، مثل :
-      أهل التجهيل ، المزهدون في طلب العلم ، المتنقصون لأهله وحملته .
-      أصحاب المناهج العاطفية ، ذات الضحالة الشرعية .
-      أهل الكلام ، المفتونون بالمناهج العقلية .
-      أهل الرأي ، الذين يقدمون الرأي والقياس على الدليل .
 
3- الاشتغال بالعمل الصالح : قال تعالى :
(وَالْعَصْرِ . إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ .إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) ، (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) ، (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون َ) .
     قال شيخ الإسلام ، ابن تيمية : ( ومن أصول أهل السنة والجماعة : أن الدين ، والإيمان قول وعمل ؛ قول القلب واللسان ، وعمل القلب واللسان والجوارح ، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ) العقيدة الواسطية .
     وهم بذلك يفارقون المرجئة ، على اختلاف طبقاتهم ، الذين لا يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان ، وأهل الفسق والعصيان الذين يرتكبون محارم الله ، ويتعدون حدوده .
 
4- الاتباع ، ونبذ الابتداع : قال تعالى :
( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) .
( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) .
     قال شيخ الإسلام ، ابن تيمية : ( طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، باطناً ، وظاهراً ، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث قال : " عليكم بسنتي ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة " ) العقيدة الواسطية .
     وقال ابن القيم : ( ثم سار على آثارهم الرعيل الأول من أتباعهم ، ودرج على آثارهم الموفقون من أشياعهم ، زاهدين في التعصب للرجال ، واقفين مع الحجة والاستدلال ، يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه ، ويستقلون مع الصواب حيث استقلت مضاربه . إذا بدا لهم الدليل بأخذته ، طاروا إليه زرافات ووحداناً . وإذا دعاهم الرسول إلى أمر انتدبوا إليه ، ولا يسألونه عما قال برهاناً . ونصوصه أجل في صدورهم ، وأعظم في نفوسهم ، من أن يقدموا عليها قول أحد من الناس ، أو يعارضوها برأي أو قياس ) إعلام الموقعين : 2/10 .
     وهم بذلك يفارقون طوائف من الناس ، منهم :
- أهل البدع : الذين يُحدثون في الدين ما ليس منه . وحد البدعة ، كما قال الشاطبي ، رحمه الله : ( طريقة في الدين مخترعة ، تضاهي ـ أي تشابه ـ الشرعية ، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه ) الاعتصام : 1/37 .
- أهل التقليد والتعصب للمذاهب : الذين شعارهم : ( كل نص خالف ما قاله الأصحاب، فهو إما منسوخ أو مؤول ) .
-      المتساهلون في توثيق الأدلة : الذين لا يتحرون الصحة في الدليل أو الاستدلال.
 
5- حسن الخلق : قال تعالى :
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ، ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) .
 
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( ويدعون إلى مكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم " أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً " ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك . ويأمرون ببر الوالدين ، وصلة الأرحام ، وحسن الجوار والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل ، والرفق بالمملوك . وينهون عن الفخر والخيلاء ، والبغي والاستطالة على الخلق ، بحق أو بغير حق . ويأمرون بمعالي الأخلاق ، وينهون عن سفسافها .وكل ما يقولونه ويفعلونه من هذا وغيره،فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة )الواسطية . قال ابن القيم : ( الدين كله خلق ، فمن زاد عليك في الخلق ، زاد عليك في الدين ) .وهم بذلك يفارقون أهل الفظاظة ، والعنف على الناس ، كالخوارج ، والمتشبهين بأخلاقهم.
 
6- الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر : قال تعالى :
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) ، (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) . ( فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ ) .
     قال شيخ الإسلام ، ابن تيمية : ( ثم هم مع هذه الأصول ، يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، على ما توجبه الشريعة ... ويدينون بالنصيحة للأمة ) . الواسطية .
     وهم بذلك يفارقون المتقاعسين عن هذه الشعيرة، الذين لا تتمعر وجوههم لانتهاك محارم الله.
 
7- الوحدة والائتلاف ، ونبذ الفرقة والاختلاف : قال تعالى :
(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه) ، ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) ، (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) ، ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون َ) .
     قال شيخ الإسلام ، ابن تيمية : ( ويرون إقامة الحج ، والجمع ، والأعياد ، مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً . ويحافظون على الجماعات ، ويدينون بالنصح للأمة ، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " المؤمن للمؤمن كالبنيان ، يشد بعضه بعضاً ، وشبك بين أصابعه "" وقوله صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمنين في توادهم ، وتراحمهم ، وتعاطفهم ، كمثل الجسد ، إذا اشتكى منه عضو ، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) الواسطية .
     وقال : ( بل الأسماء التي قد يسوغ التسمي بها ، مثل انتساب الناس إلى إمام ؛ كالحنفي ، والمالكي ، والشافعي ، والحنبلي ، أو إلى شيخ ؛ كالقادري ، والعدوي ، ونحوهم ، أو مثل الانتساب إلى القبائل ؛ كالقيسي ، واليماني ، أو إلى الأمصار ؛ كالشامي ، والعراقي ، والمصري ، فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها ، ولا يوالي بهذه الأسماء ، ولا يعادي عليها . بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم ، من أي طائفة كان ) . الوصية الكبرى: 70 .
     وهم بذلك يفارقون أهل التفرق ، والتحزب ، والاختلاف ، الذين ذمهم الله بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) .
     فهذه الخصائص العظيمة لا توجد مجتمعةً في فرقة ، إلا في أهل السنة والجماعة . وأما ما سواها من الثنتين وسبعين فرقة ، فقد توافقها في أمور،وتفارقها في أمور أخرى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكاً . فإن المنازع قد يكون مجتهداً مخطئاً يغفر الله خطأه ، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة ، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته ... بل موجب هذا الكلام : أن من اعتقد ذلك نجا في هذا الاعتقاد ، ومن اعتقد ضده ، فقد يكون ناجياً ، وقد لا يكون ناجياً ) مجموع الفتاوى : 3/179 .
 
مناقشة :
1-             ما هو حديث الافتراق ، ومن رواه ، وما درجته ؟
2-             من هم " أهل السنة والجماعة " ، وما معنى " السنة " و " الجماعة " ؟
3-             ما سبب تسمية أهل السنة والجماعة بهذا الاسم، دون الاكتفاء باسم "المسلمين" ؟
4-             ما هي أسماء أهل السنة والجماعة ، ومن أين مأخذها ؟
5-             من خصائص أهل السنة والجماعة( ...)ما الدليل على هذه الخاصية، ومن فارقوا بها؟
 
الفصل الثالث
ظهور البدع ، وجهود السلف في مقاومتها
 
ظهور البدع :
 
1-       الخوارج .                          6- المشبهة .
2-       الشيعة .                            7- الجبرية .
3-       القدرية .                           8- المعتزلة .
4-       المرجئة .                            9- المتكلمون .
5-       المعطلة .                           10- الصوفية .
 
 
جهود السلف في مقاومة البدع :
1-       البيان بالحجة والبرهان .
2-       المناظرة والمجادلة بالتي هي أحسن .
3-       التصنيف في الرد على المبتدعة .
4-       المجاهدة بالسيف والسنان .
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
ظهور البدع ، وجهود السلف في مقاومتها
 
     توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما طائرٌ يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر منه علماً ، كما قال أبو ذر ، رضي الله عنه . وترك أمته على البيضاء ، ليله كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك ، وأشهدهم على أنفسهم في مشهد حافل ، مهيب ، في حجة الوداع ، يوم عرفة ، وبين يديه مائة ألف ، أو يزيدون ، فقال : ( وأنتم تسألون عني ، فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت ، وأديت ، ونصحت . فقال بأصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد ! اللهم اشهد !)رواه مسلم .
 
     ثم خلفه في أمته صاحبه ، وأفضل أمته ، أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه ، فلما ارتدت بعض قبائل العرب ، شرح الله صدره لجهادهم ، فجرد الجيوش ، وعقد الألوية حتى خضد شوكتهم ، وطمس دعوى الجاهلية ، وقضى على المتنبئين الكذابين .
 
     وفي عهد الفاروق، عمر، فتحت الفتوح ، ومُصِّرت الأمصار ، ودخلت الأمم في دين الله أفواجاً ، وخشي، رضوان الله عليه ، ممن لم يدخل الإيمان في قلبه ، ولم يتفقه في الدين ، حتى قال : ( ينقض الإسلام عروة ،عروة ، من عاش في الإسلام ، لم يعرف الجاهلية . فكان متيقظاً لكل بادرة شر وفتنة أن تقع في عهده ، ومن ذلك :
1- أنه أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم ، في الحديبية ، لأنه رأى ناساً ينتابونها، فيصلون تحتها، فخاف عليهم الفتنة . انظر البدع والنهي عنها : 41 .
2- ما أدَّب به صبيغ بن عُسل التميمي ، الذي كان مفتوناً بالمتشابه . فقد روى جمع من المحدثين أن رجلاً من بني تميم ، يقال له ، صبيغ ، قدم المدينة ، فكانت عنده كتب، فجعل يسأل عن متشابه القرءان ، فبلغ ذلك عمر ، فبعث إليه ، وقد أعد له عراجين النخل ، فلما دخل عليه جلس ، فقال من أنت ؟ قال : أنا عبدالله صبيغ . قال : وأنا عبدالله عمر . ثم أهوى إليه فجعل يضربه بتلك العراجين ، فما زال يضربه ، حتى شجه فجعل الدم يسيل على وجهه. فقال : حسبك يا أمير المؤمنين ، فقد والله ذهب الذي كنت أجد في رأسي . وفي رواية : ثم أمر به فضرب مائة سوط ، ثم جعله في بيت ، حتى إذا برأ دعا به ، ثم ضربه مائة سوط أخرى ، ثم حمله على قتب ، وكتب إلى أبي موسى الأشعري : أن حرم عليه مجالسة الناس . حتى صار كالبعير الأجرب ، يجيء إلى الحِلَق ، فكلما جلس إلى قوم لا يعرفونه ، ناداهم أهل الحلقة الأخرى : عزمةَ أمير المؤمنين . فلم يزل كذلك ، حتى أتى أبا موسى الأشعري ، فحلف بالأيمان المغلظة ، ما يجد في نفسه مما كان يجده شيئاً. فكتب إلى عمر يخبره . فكتب إليه : ما إخاله إلا قد صدق . خلِّ بينه وبين مجالسة الناس . انظر : سنن الدارمي : 1/55 ، عقيدة السلف للصابوني : 239-242 ، الحجة في بيان المحجة : 1/193-195 .
 
     ولما انكسر باب الفتنة بقتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، كان أول ذلك خروج الخوارج عل أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، الذي أفضى إلى قتله شهيداً في داره، سنة 35هـ، فعصفت بالمسلمين عواصف من الفرقة والاقتتال في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، تمخضت عن ظهور فرقتي ضلالة :
 
1- الخوارج : وهم فرقة خرجت على علي ، رضي الله عنه ، وكفروه ، واستحلوا دماء المسلمين ، وآل بهم الأمر إلى القول بكفر مرتكب الكبيرة من المسلمين .
     وقد حاول علي ، رضي الله عنه ، أن يكشف عنهم شبهتهم ، وأرسل إليهم ابن عمه ، عبدالله بن عباس ، رضي الله عنهما ، فواضعوه كتاب الله ، ثلاثة أيام ، فرجع منهم أربعة آلاف ، وأصر الباقون على خروجهم ، وبدعتهم ، فندب علي المهاجرين والأنصار إلى قتالهم ، فقتلوهم في موقعة ( النهروان ) سنة 38هـ . ثم لم يزل يطلع منهم قرن بعد قرن . قال الإمام أحمد : ( صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه ).
 
2- الشيعة : وهم قوم غلوا في علي ، رضي الله عنه ، وآل البيت ، حتى زعموا أنه الأحق بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وطعنوا في الصحابة ، فمنهم :   " مفضلة" ، ومنهم " سابَّة " ، ومنهم " مكفرة " . وقالوا جميعاً بإمامة آل البيت ، وأنها ركن الدين الأعظم . وقال بعضهم بعقيدة " الغيبة "، و " الرجعة " حتى قال "السبئية" منهم بتأليه علي ، فحرَّقهم بالنار . وهم فرق متعددة مختلفة .
     وقد صنف أئمة الإسلام في الرد على الرافضة مصنفات كثيرة ، من أجمعها، وأوعاها، ما ألفه شيخ الإسلام ، ابن تيمية ، في الرد على كتاب " منهاج الكرامة " لابن المطهر الرافضي ، وهو كتابه العظيم " منهاج السنة النبوية " .
 
     وفي أواخر عهد الصحابة ، رضوان الله عليهم ، ظهرت بدعة :
3- القدرية الغلاة : الذين يزعمون أن الله لا يعلم ما العباد عاملون ، وأن العبد يخلق فعل نفسه ، دون الله . وأنكروا القدر . وأول من قال بالقدر رجل بالبصرة ، يدعى   " معبد الجهني "، أخذها من نصراني من أهل العراق ، يقال له " سوسن " ، ثم أخذها عن معبد " غيلان الدمشقي ". و قُتل معبد سنة 80هـ .
     وقد تصدى لهم الصحابة ، كعبدالله بن عمر ، وأبطلوا شبهتهم . وصنف السلف في الرد عليهم ، ومناظرتهم . قال الشافعي ، رحمه الله : ( ناظروهم بالعلم ، فإن أقروا به خُصِموا ، وإن أنكروه كفروا ) . ورووا فيهم آثاراً أنهم : ( مجوس هذه الأمة ) .
 
     ثم ظهرت ، إثر بدعة الوعيدية من الخوارج والقدرية ، بدعة مقابلة :
4- المرجئة : وهم الذين أرجئوا العمل عن الإيمان ، ولم يدخلوه في حده وتعريفه ، فلا يزيد به الإيمان ولا ينقص . وقالوا الإيمان لا يتفاضل ؛ فإيمان أفجر الناس ،كإيمان أتقى الناس ! وقالوا : لا يضر مع الإيمان ذنب ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة .
     ومن أوائل من قال بالإرجاء : غيلان الدمشقي ، المقتول سنة 105هـ ، و ذر بن عبد الله المرهبي ، وحماد بن أبي سليمان . وذلك على رأس المائة الهجرية الأولى .                             وقد انتصب السلف لرد بدعتهم ، وذمها ، والتحذير منها ، حتى قال سعيد بن جبير : ( المرجئة مثل الصابئين )،وقال الزهري : ( ما ابتدعت في الإسلام بدعة هي أضر على أهله من هذه ) يعني الإرجاء . وقال النخعي عنهم : ( تركوا هذا الدين أرق من الثوب السابري ) ؛ إشارة إلى تساهلهم ، وتفريطهم .
 
    وفي أواخر عصر التابعين ظهرت بدعتان متقابلتان،تتعلقان بصفات الباري سبحانه:
5- المعُطِّلة : وهم الذين أنكروا ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات . وأول من تكلم بالتعطيل : الجعد بن درهم ؛ فقد روى البخاري في " خلق أفعال العباد " عن حبيب الجرمي ، قال : شهدت خالد بن عبد الله القسري ، بواسط ، في يوم أضحى. وقال : ارجعوا ، فضحوا ، تقبل الله منكم ، فإني مُضحٍ بالجعد بن درهم . زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ، ولم يكلم موسى تكليماً . تعالى الله علواً كبيراً عما يقول الجعد بن درهم .ثم نزل فذبحه ) ص : 8 . وكان ذلك سنة 119هـ ، وقيل 124هـ .
     ثم تلقف مقالته رأس المعطلة : الجهم بن صفوان السمرقندي ، وضم إليها مقالات أخرى مبتدعة ، حتى قتل في سنة 128هـ . وإليه تنسب " الجهمية " .
 وقد اشتد نكير السلف عل الجهمية ، وأكفروهم ، بسبب شناعة مقالاتهم . وصنف جمع من السلف المتقدمين في الرد عليهم ؛ منهم الإمام أحمد بن حنبل ، وعثمان بن سعيد الدارمي ، والبخاري . قال ابن القيم :
          ولقد تقلد كفرهم خمسون في          عشر من العلماء في البلدان
 
6- المشبِّهة : وهم الذين شبهوا صفات الخالق ، سبحانه وتعالى ، بصفات المخلوقين .      وأول من عرف عنه القول بالتشبيه في الإسلام : بيان بن سمعان الشيعي ، المقتول سنة 119هـ . وأول من زعم أن الله جسم : هشام ابن الحكم الرافضي ، الهالك سنة 199هـ . ومقالة المشبهة مقالة خبيثة ، مستهجنة ، تنافي النص ، والعقل ، والفطرة . وقد اجتهد السلف في مصنفاتهم في دفعها ، وبيان أن إثبات الصفات لله تعالى لا يلزم منه تشبيه . وأن طريقتهم : ( إثبات بلا تشبيه ، وتنزيه بلا تعطيل ) و أن : ( المشبه يعبد صنماً ، والمعطل يعبد عدماً ) وأن الله : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
 
     وبإزاء بدعة " القدرية النفاة " ظهرت بدعة مضادة ، وهي بدعة :
7- الجبرية : الذين يقولون : العبد مجبور على فعله ، وليس له إرادة ولا اختيار ، وأن حركاته اضطرارية ، كحركات المرتعش . وأول من قال بالجبر : الجهم بن صفوان السمرقندي . وبذلك اجتمعت فيه الجيمات الثلاث :( التجهم ، والإرجاء ، والجبر ).
 
     ومن الفرق التي ظهرت في مطلع القرن الثاني ، أيضاً :
8- المعتزلة : وهم أتباع واصل بن عطاء ، الذي اعتزل حلقة الحسن البصري ، رحمه الله، وخالفه في حكم مرتكب الكبيرة،وزعم أنه في منزلة بين منزلتين،لا مؤمن ولا كافر
وقد انتشرت مقالة المعتزلة ، في حدود المائة الثالثة ، بسبب أحد علمائهم ؛ بشر بن غياث المريسي ، وطبقته ، الذين استمالوا بعض خلفاء بني العباس : " المأمون " و      " المعتصم " و " الواثق " (198-232هـ) فنصروا مذهبهم ، وامتحنوا أهل السنة ، وحملوا الناس على القول بخلق القرءان ، إمعاناً منهم في إنكار الصفات ، ومنها صفة الكلام . فابتلي بهذه الفتنة خلق كثير ، وثبَّت الله إمام أهل السنة ؛ أحمد بن حنبل ، رحمه الله ، فصبر على الضرب والحبس، وحفظ الله به السنة زمن الفتنة،كما حفظ الدين بأبي بكر زمن الردة .
     ويقوم مذهب المعتزلة على أصول خمسة هي :
- التوحيد : وحقيقته عندهم نفي الصفات عن الله .
- العدل : وحقيقته عندهم إنكار مشيئة الله وخلقه لأفعال العباد .
    - المنزلة بين المنزلتين :وحقيقتها نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة من المسلمين .
- الوعد والوعيد : وحقيقته نفي الشفاعة عمن استحق النار من عصاة الموحدين .
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وحقيقتهما عندهم الخروج على ولاة الجور .
     وقد واجه أهل السنة فتنة المعتزلة بتصنيف الردود ، وعقد المناظرات ، كالمناظرة المشهورة ، التي جرت بين عبدالعزيز الكناني ، رحمه الله ، و بشر بن غياث المريسي ، شيخ المعتزلة ، في مجلس المأمون .
 
9- المتكلمون : هم الذين يسلكون في إثبات العقائد الإيمانية الطرق العقلية ، ويقدمون العقل على النقل ؛ فما وافق عقولهم من النصوص قبلوه ، وما خالف عقولهم ردوه ، أو حرفوه . وقد سلك هذا المسلك طوائف متعددة من فرق أهل القبلة بسبب تعريب الكتب اليونانية والرومانية في المنطق والفلسفة ، وخرجوا بذلك عن منهج أهل السنة والجماعة في تقرير العقائد ، والحجاج عنها .
     وتتفاوت الفرق الكلامية في الأخذ بهذا المنهج ؛ فمن مقل ومستكثر . فأشدهم تأثراً : الجهمية والمعتزلة ، ودونهم : فرق " الصفاتية " مثل :
-      الكلابية : أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب (243هـ) .
-      الأشاعرة : أتباع أبي الحسن الأشعري (260-324هـ) .
-      الماتريدية : أتباع أبي منصور الماتريدي (333هـ) .
فهؤلاء المتكلمين حاولوا أن يلفقوا منهجاً من طريقة السلف القائمة على النصوص والآثار ، لأنهم كانوا معظمين لهم ، منتسبين إليهم ، ومن طريقة المعتزلة القائمة على العقل فقط ، فلم يتمكنوا من حل بعض إشكالات المعتزلة ، ووقعوا في التخليط .
     وقد تنبه علماء السلف لخطئهم ، فحذروا من طريقتهم ، كما صنع الإمام أحمد مع الحارث بن أسد المحاسبي
     قال شيخ الإسلام : ( ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساعي مشكورة ، وحسنات مبرورة ، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع ، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ، ما لا يخفى على من عرف أحوالهم ، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف ، لكن لماَّ التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداءً عن المعتزلة ، وهم فضلاء عقلاء ، احتاجوا إلى طرده ، والتزام لوازمه ، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين . وصار الناس بسبب ذلك : منهم من يعظمهم لما له من المحاسن والفضائل ، ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل ، وخيار الأمور أوسطها ) درء التعارض : 2/101 .
 
10- الصوفية : سموا بذلك نسبة إلى لبسهم الصوف ، وهم طوائف شتى ، وطرائق متعددة ، تتفاوت في درجة انحرافها عن السنة .فمنهم :
-      عُبَّاد ، زُهَّاد ، انقطعوا للعبادة ، وآثروا العزلة .
-      مبتدعة في الأعمال والسلوك، أضافوا للدين من الأقوال والأعمال ما ليس منه.
-      متكلمون في الأحوال والمقامات ، بعبارات مزخرفة ، وترتيبات محدثة .
-      مشركون ، قبوريون ، غلاة في الأولياء ، يرفعونهم فوق منزلة البشر .
-      باطنيةُ زنادقة ، يقولون بوحدة الوجود ، والحلول ، واتحاد الخالق بالمخلوق .
     وقد عُني السلف بإنكار البدع العملية ، كما البدع الاعتقادية ، منذ زمن الصحابة الكرام ؛ فقد روى الدارمي ، بسنده ، أن أبا موسى الأشعري قال لعبد الله بن مسعود ، رضي الله عنهما : يا أبا عبدالرحمن ! إني رأيت في المسجد آنفاً أمراً أنكرته ، ولم أرَ ، والحمدلله إلا خيراً ، قال : فما هو ؟فقال : إن عشتَ فستراه ، قال : رأيتُ في المسجد قوماً حِلَقاً جلوساً ، ينتظرون الصلاة . في كل حلقة رجل ، وفي أيديهم حصىً ، فيقول : كبروا مائةً ، فيكبرون مائةً ، فيقول : هللوا مائةً ، فيهللون مائة ، ويقول : سبحوا مائةً ، فيسبحون مائةً . قال : فماذا قلتَ لهم ؟ قال : ما قلت لهم شيئاً انتظار رأيك ، أو انتظار أمرك . قال : أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم ، وضمنت أن لا يضيع من حسناتهم . ثم مضى ، ومضينا معه ، حتى أتى حلقةً من تلك الحِلَق ، فوقف عليهم ، فقال : ما هذا الذي أراكم تصنعون ؟ قالوا : يا أبا عبد الرحمن حصىً نعد به التكبير ، والتهليل ، والتسبيح . قال : فعدوا سيئاتكم ، فإنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء . ويحكم يا أمة محمد ! ما أسرع هلكتكم ، هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وهذه ثيابه لم تبلَ ، وآنيته لم تكسر ! والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد ، أو مفتتحو باب ضلالة . قالوا : والله يا أبا عبد الرحمن ، ما أردنا إلا الخير . قال : وكم من مريد للخير لن يصيبه ؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن قوماً يقرؤون القرءان ، لا يجاوز تراقيهم . وأيم الله ، ما أدري ، لعل أكثرهم منكم ! ثم تولى عنهم . فقال عمرو بن سلمة : رأينا عامة أولئك الخلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج ) سنن الدارمي : 68 .
     ولم يزل أئمة السلف يحذرون من البدع ، بشقيها العملي ، والاعتقادي ، ويصيحون بالمتصوفة من كل جانب، ويصنفون المصنفات في التحذير من البدع المحدثة. كما صنع ابن وضاح في كتابه ( البدع والنهي عنها ) ، وابن الجوزي في ( تلبيس إبليس ) ، والشاطبي في ( الاعتصام ) ، وأبو شامة في ( الباعث على إنكار البدع والحوادث ) ، وغيرهم .
 
     ويمكن تلخيص جهود السلف الصالح في مقاومة البدع وأهلها بما يلي :
 
أولاً : البيان بالحجة والبرهان : قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ )(آل عمران: من الآية187) ، فامتثل أهل السنة والجماعة عزمة ربهم ، ولم ينقضوا الميثاق ، وبينوا للناس ما نزل إليهم من ربهم ، فحفظوا السنن والآثار ، وحدثوا بها ، ودونوها . كتب عمر بن عبدالعزيز ، رحمه الله ، إلى عامله على المدينة ، أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم (ت117هـ) : ( اكتب إليَّ بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فإني خفت دروس العلم ، وذهاب العلماء . ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ولْيُفشوا العلم ، ولْيجلسوا حتى يعلم من لا يعلم ، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً ) .
     والمكتبة الإسلامية زاخرة بمئات المصنفات السلفية في بيان العقيدة الصحيحة ، من نصوص الكتاب ، والسنة ، والمرويات عن الصحابة والتابعين .
 
ثانياً : المناظرة والمجادلة بالتي هي أحسن : قال تعالى : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل:125) ، وقد ناظر جمع من السلف خصومهم في مواطن كثيرة ، وأقاموا عليهم الحجة الشرعية ، ومن شواهد ذلك :
-      مناظرة الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله ، لأحمد بن أبي دؤاد ، شيخ المعتزلة .
-      مناظرة عبد العزيز الكناني ، رحمه الله ، لبشر المرِّيسي المعتزلي .
-      مناظرة إسحاق بن راهويه ، رحمه الله ، لمن أنكر صفة النزول .
-      مناظرات شيخ الإسلام ابن تيمية لمبتدعة زمانه من الأشاعرة والصوفية .
-       
ثالثاً : التصنيف في الرد على المبتدعة : وهذا باب واسع ، ومضمار طويل ؛ فلا يكاد يوجد عالم معتبر من أهل السنة ، إلا و قد انتصب للذب عن السنة ، ومقارعة أهل البدع . ومن أمثلة ذلك " الرد على الجهمية " ، فقد صنف في ذلك جمع من السلف .
 
رابعاً : المجاهدة بالسيف والسنان : تقتضي بعض الأحوال مجاهدة أهل البدع بالسيف والسنان ، إذا لم تُجْدِ الحجة والبرهان ، إما لكونهم ذوي شوكة ومنعة ، أو بسبب مقالة يُحكم فيها بردة قائلها ، فيستتاب ، ولا يتوب . ومن شواهد ذلك :
-      قتال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للخوارج .
-      قتل الأمير خالدبن عبدالله القسري (قصاب الزنادقة) للجعد بن درهم، وغيره.
-      تتبع الخليفة العباسي ( المهدي ) (158-169هـ) للزنادقة ، واستئصالهم .
-      قتال شيخ الإسلام ابن تيمية للنصيرية، واستنزالهم من معاقلهم، وقتل بعضهم .
-      قتال الإمامين محمد بن عبدالوهاب ، ومحمد بن سعود ، لمشركي زمانهم .
     وقد أئمة السلف يلقون في ذات الله من البلاء والمحنة الشيء العظيم ، فيصبرون ، فلا يزيدهم ذلك إلا رسوخاً في الدين ، ومحبةً وقبولاً من العالمين ، وذكراً في الآخرين . قال ابن رجب،رحمه الله، في سياق ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية،رحمه الله، بعد سجنه : ( بقي في القلعة مدةً يكتب العلم ، ويصنفه ، ويرسل إلى أصحابه الرسائل ، ويذكر ما فتح الله به عليه في هذه المدة من العلوم العظيمة ، والأحوال الجسيمة. وقال عن نفسه: " فتح الله علي في هذا الحصن ، في هذه المدة من معاني القرءان ، ومن أصول العلم بأشياء ، مات كثير من العلماء يتمنونها ، وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرءان " . ثم إنه منع من الكتابة ، ولم يترك عنده دواة ، ولا قلم ، ولا ورق ، فأقبل على التلاوة والتهجد والمناجاة والذكر . قال شيخنا أبو عبد الله بن القيم : " سمعت شيخنا ، شيخ الإسلام ، ابن تيمية ، قدس الله روحه ، ونور ضريحه ، يقول : " إن في الدنيا جنة من لم يدخلها ، لم يدخل جنة الآخرة " . وقال لي مرةً " ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري ، أين رحت فهي معي لا تفارقني . أنا حبسي خلوة ، وقتلي شهادة ، وإخراجي من بلدي سياحة ! " . وكان في حبسه يقول : لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة ، أو قال : ما جازيتهم على ما ساقوا إلي من الخير . وكان يقول في سجوده : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك . وقال مرةً " المحبوس من حُبس قلبه عن ربه ، والمأسور من أسره هواه " . ولما دخل القلعة ، وصار داخل سورها ، نظر إليه ، وقال : ( فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) . ذيل طبقات الحنابلة .
 
    فرحم الله سلف هذه الأمة على ما حفظوا من دين الله ، وذبوا عن سنة رسول الله. ونسأل الله أن يتبعنا آثارهم ، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، وأن يهب لنا من لدنه رحمةً إنه هو الوهاب . ) رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
 
كتبه / د. أحمد بن عبد الرحمن بن عثمان القاضي
 
مناقشة :
1-             ما مثال مقاومة الصحابة للبدع الاعتقادية ، و البدع العملية ؟
2-             ما أول بدعتين ظهرتا في الإسلام ؟ مع تعريف كل منهما .
3-             ما هي البدعة الاعتقادية التي ظهرت في أواخر عهد الصحابة ، ومن أول من قال بها؟
4-             من هم المرجئة ؟ ومن أول من قال بالإرجاء ؟ وما موقف السلف منهم ،
5-             في أواخر عصر التابعين ظهرت بدعتان تتعلقان بصفات الله ، ما هما ، ومن قال بهما؟
6-             لمَ سمي الجبرية بهذا الاسم ، ومن أول من قال بالجبر؟
7-             من هم " المعتزلة " ، وما أصولهم الخمسة ، وما حقيقتها ؟
8-             ما موقف أهل الكلام من العقل والنقل ؟ مع ذكر بعض فرقهم .
9-             ما هي درجات الصوفية في الانحراف ، مع ذكر بعض الكتب في الرد على بدعهم ؟
10-        ما هي طرائق السلف في مواجهة البدع مع التمثيل ؟