هل الحياة مجرد لعبة؟

هل الحياة مجرد لعبة؟

هل الحياة مجرد لعبة؟

 

اشترك في تأليفه:

د. عبد الرحمن بن عبد الكريم الشيحة

أحمد الأمير

 

المركز الأوروبي للدراسات الإسلامية

Islamland.com

 

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

(بقلم الدكتور عبد الرحمن بن عبد الكريم الشيحة)

يختلف مفهوم الحياة بين البشر بحسب دياناتهم وتوجهاتهم، فالشرائع السماوية اليهودية والنصرانية والإسلام التي تتشارك في ان مصدرها سماوي واحد - مع  وجود بعض الفروق والاتفاق في العديد من المبادئ والقيم الأساسية - تتفق في مفهوم الحياة. 

فالحياة دار مؤقته للعمل يعقبه بعث وحساب وجنة ونار، بخلاف الفلسفات والديانات الوضعية الأخرى كالبوذية والهندوسية والسيخية ...الخ  والتي هي مزيج من طقوس ثقافات مختلفة. 

كثير من البشر الماديين من الملاحدة ممن لا يؤمن بدين ولا شرع، يعتقد ان الحياة مجرد لعبة، وأنها حياة واحدة يعيشها ثم مصيره الفناء الذي لا بعث بعده، وهكذا -وفق رأيه- وجب الاستمتاع بها وبما فيها من ملاهي، واستغلال جميع الإمكانيات المتاحة من أجل تحقيق ذلك، حتى لو كان على حساب ظلم الأخرين في أموالهم أو أنفسهم. 

عقيدتهم في الكون وجوده مصادفة، وأنهم من ضمن هذه الصدفة التي وجد فيها الكون، رغم أن العقل الصحيح والتسلسل المنطقي يقتضي غير ذلك. 

قال الله تبارك وتعالى: { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ (36) } سورة الطور ٣٥-٣٦.

وهذا يقتضي وفق معتقدهم إنكار البعث والنشور،  فلو أعملوا عقولهم، لعلموا أن من أوجدهم أول مرة، قادر على خلقهم مرة أخرى! ولكنه الطمس على العقول والزيغ في التفكير. 

قال الله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) } سورة يس ٧٧-٧٩. 

وضرب لهم سبحانه وتعالى مثلاً مادياً عقلياً يشاهدونه ويحسونه دالاً على إمكانية بعثهم بعد موتهم فقال: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ۚ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۚ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) } سورة فصلت ٣٩.

هل خُلق الكون عبثا:

الله سبحانه وتعالى خلق هذا الكون وكل ما فيه من المخلوقات لحكمة، وأوجده لغاية، وأعطى كل مخلوق منها ما يليق به ويناسبه من الخلق، ليقوم بالمهمة التي أوجده الله من أجلها. 

قال الله تعالى: { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) } سورة الفرقان ٢.

لم يخلق الله سبحانه وتعالى هذا الكون عبثاً، ولم يوجده لعباً منه ولهوا، فلو كان هذا هو الهدف لاتخذ الله ذلك عنده في ملكوته واصطفى من خلقه ما يشاء. 

قال الله تعالى: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ (17) } سورة الأنبياء ١٦-١٧. 

فالله سبحانه وتعالى منزه عن هذا كله كما قال: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ ۖ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111) } سورة الإسراء ١١١.

حال أهل الإيمان والعقول السلمية والفطر الصحيحة، هو التفكر في هذه المخلوقات، ذلك التفكر الموصول لليقين أن وراءها موجد خالق، خلق فأتقن وأجد فأبدع. 

قال الله تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) } سورة آل عمران ١٩٠-١٩١. 

هذا الكون العظيم بأرضه وسماءه وما فيهما أوجدت لهدف عظيم أسمى وأعلى من أن يكون لهوا وعبثا.

قال الله تعالى: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) } سورة الدخان ٣٨-٣٩.

إن القول بعبثية خلق السماوات والأرض وما بينهما، هو من الظن السيء بالخالق المبدع لهذا الكون، وهو من صفات الجاحدين الذين وصفهم الله بكفرهم. 

قال الله تعالى{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) } سورة ص ٢٧.

إن هذا الكون العظيم بأرضه وسماءه وما خُلِقَ فيهما، أوجد لحكمة بالغة وهدف عظيم، فقد خُلق لتحقيق العبادة لله وحده لا شريك له. 

قال الله تعالى: { وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) } الجاثية ٢٢.

هل خُلق البشر عبثا؟

خلقت هذه الدنيا لتكون دار امتحان للناس وليعرف المؤمن من غيره. 

قال الله تعالى: { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) } سورة الملك ٢.

الله سبحانه وتعالى خلق كل شيء لحكمة، وأوجده بدقة، ودبره أحسن تدبير، لم يخلق لعبث ولم يوجد للعب، وله الحكمة البالغة في كل ما خلق. ومن مخلوقاته البشر الذين خلقهم في أحسن تقويم. 

قال تعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) } سورة التين ٤. 

وفضلهم على جميع مخلوقاته، وكرمهم بالعقل الذي ميزهم به عن غيرهم من المخلوقات، فمن خلاله يتعلمون ويبتكرون ويفرقون بين الخطأ والصواب والحسن والقبيح والحق والباطل، ومن خلاله يستطيعون على التكيف مع جميع ما يحيط بهم من المخلوقات. 

قال الله تعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) } سورة الإسراء ٧٠.

 وسخر لهم جميع ما في هذا الكون لتستقيم معايشهم وليؤدوا المهمة التي خلقهم الله من أجلها. 

قال الله تعالى: { اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) } سورة الجاثية ١٢. 

هذا التفضيل الذي حظى به البشر وتسخير الكون لهم، خلفه هدف ووراءه مطلب عظيم، فلم يخلقهم عبثاً ولم يوجدهم لهواً منه ولعبا، فقد أنكر سبحانه أشد الإنكار على من يعتقد هذا الاعتقاد الفاسد. 

قال تعالى: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) } سورة المؤمنون ١١٥-١١٦.

الله سبحانه وتعالى أوجدهم وسخر لهم جميع ما في هذا الكون، وكرمهم بالعقل لحكمة بالغة، ألا وهي إرادته منهم أن يعبدوه وحده لا شريك له والاستسلام له باتباع أوامره واجتناب نواهيه. لم يخلقهم لحاجته لهم وطمعا فيهم وبما عندهم، فالله غني عن العالمين. 

قال الله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) } سورة الذاريات ٥٦-٥٨.

واصطفاهم الله على غيرهم من المخلوقات لتنفيذ هذه الإرادة، فيعمرون هذا الكون جيلاً بعد جيل، ويقوموا بمهمة الاستخلاف في الأرض التي تضمن استمرارية وجود البشر واستمرارية عبادة الله، حتى يأذن الله بفنائه.

قال الله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (165) } سورة الأنعام ١٦٥. 

 

 

الفصل الأول

هل الحياة لعبة؟

(بقلم الدكتور عبد الرحمن بن عبد الكريم الشيحة)

مما سبق، يتبادر هذا السؤال: هل الحياة عبث ومجرد لعب؟

هذا السؤال سوف نتناوله من وجهة نظر إسلامية وبعين فاحصة، ليتبين خطأه لما فيه من إنكار لجميع الشرائع السماوية التي جاءت لتنظيم حياة البشر ودلالتهم على الطريق الصحيح ومعرفة الحلال من الحرام والخير من الشر. إن الحياة من المنظور الإسلامي مزيج بين الجد والمرح والتوازن بين:

١) ما تتطلبه الروح: 

قال الله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) } سورة الرعد ٢٨.

٢) وما يتطلبه الجسد:

قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) } سورة البقرة ١٦٨.

٣) وما يتطلبه العقل من العلم والمعرفة والتفكر:

قال الله تعالى: { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) } سورة الجاثية ١٣.

كما بين الله ذلك بقوله: { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) } سورة القصص ٧٧.

ولو سلمنا أن الحياة مجرد لعبة، لوجب على كل منا أن يتعلم أصول هذه اللعبة حتى يتحقق له الفوز، ومن الطبيعي أن الفوز في كل لعبه لا يأتي إلا من خلال معرفته بأصولها واتباع دليل تعليماتها حتى يتحقق له الفوز وعدم الخسارة. ودليل تعليمات لعبة الحياة سيكون من القرآن، المصدر الرئيسي للإرشادات التي تقود للفوز بهذه اللعبة. قال الله عن القرآن: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ (89) } سورة النحل ٨٩.

حَكَمُ لعبة الحياة:

الله سبحانه وتعالى من صفاته العدل المطلق، فلا يظلم ولا يحيف ولا يجور، ويجازي السيئة بالسيئة أو يغفر، ويجازي الحسنة بالحسنة ويضاعف ويجزل، عدله شمل جميع مخلوقاته. 

قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) } سورة يونس ٤٤.

إن جميع ما يحدث في هذا الكون من ابتلاءات سواء بالنعم أو النقم، اقتضاها عدله ليختبر إيمان البشر، فيثيب الصابر على صبره وقبوله بما قضاه وقدره عليه، ويثيب الشاكر على شكره وحمده على ما أنعم به عليه وتفضل، ومن هذه الابتلاءات و المصائب ما يكون مرده في الغالب وسببه ذنوب ارتكبوها سواء في حق الله أو حق البشر. قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) } سورة يونس ٤٤.

عند الحديث عن عدل الله المطلق، يتبين مظاهر هذا العدل فيما يلي:

١. العدل بين الأمم في إرسال الرسل

فالله سبحانه وتعالى يعامل كل أمة بعدله، لذلك أرسل لكل أمة رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويبلغهم شرعه، وسوف يقضي الله بينهم يوم القيامة وفق الشرع الذي أنزل اليهم، لكي لا يكون لهم حجة عليه بعد الرسل، فمن أطاع نجى وسعد، ومن عصى هلك وشقى. 

قال الله تعالى: { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) } سورة يونس ٤٧.

فمن عدله سبحانه وتعالى أنه لا يعذب البشر حتى يقيم عليهم الحجة بإرسال الرسل لهم. 

قال الله تعالى: { مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا (15) } سورة الإسراء ١٥.

٢. العدل بين البشر في إنسانيتهم: 

ساوى الله سبحانه وتعالى بين جميع البشر في أصل المنشأ. 

قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) } سورة النساء ١.

ولم يجعل التفاضل بينهم بسبب لون أو جنس أو عرق، فالكل متساوون عنده، ولا فرق بينهم إلا بحسب تقوهم وقربهم من الله. 

قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) } سورة الحجرات ١٣.

٣. العدل بين البشر في الرزق:

لقد تكفل الله بكل مخلوق خلقه في هذا الكون في رزقه وتصريف شؤون حياته. 

قال الله تعالى: { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (6) } سورة هود ٦.

ومن عدله وحكمته أن رزق كل مخلوق بما يصلح حاله ويكون خيراً له في دينه ودنياه، والله يعلم وأنتم لا تعلمون. 

قال الله تعالى: { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) } سورة الشورى ٢٧.

٤. العدل بين البشر في القضاء:

الله تعالى لا يجور ولا يظلم خلقه ولا يحيف عليهم. 

قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) } سورة النساء ٤٠.

ومن جوده وكرمه ولطفه بعباده، العفو والتجاوز عن الكثير من السيئات التي قد تكون سببا في عذابهم وهلاكهم. 

قال الله تعالى: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45) } سورة فاطر ٤٥. 

فميزانه في القضاء بين البشر العدل والقسط. 

قال الله تعالى: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ (47) } سورة الأنبياء ٤٧. 

فيجازيهم وفق ما يستحقون من أعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شر فشر. 

قال الله تعالى: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) } سورة الزلزلة ٧-٨.

ولا يجازيهم بجريرة غيرهم، فكل نفس تتحمل مسؤولية عملها ولا تحاسب بجريرة غيرها، فكل نفس بما كسبت رهينة. 

قال الله تعالى: { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۗ إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ۚ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ ۚ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) } سورة فاطر ١٨.

ويغفر لهم بفضله وكرمه الذنوب التي ارتكبوها في حقه ما داموا معترفين بها طالبين العفو والمغفرة منه لها. 

قال الله تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) } سورة الأنفال ٣٣.

ولكنه من عدله لا يغفر ما كان من حقوق للخلق إلا إذا سامح  صاحب الحق وعفى عنه.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مَن كانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْها، فإنَّه ليسَ ثَمَّ دِينارٌ ولا دِرْهَمٌ، مِن قَبْلِ أنْ يُؤْخَذَ لأخِيهِ مِن حَسَناتِهِ، فإنْ لَمْ يَكُنْ له حَسَناتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئاتِ أخِيهِ فَطُرِحَتْ عليه " صحيح البخاري.

٥. العدل بين الحيوانات في القضاء:

عدل الله سبحانه وتعالى شمل جميع ما يدب على هذه الأرض، حتى الحيوانات، وسوف يجمعها يوم القيامة ويقضي بينهم بعدله. 

قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " لَتُؤَدُّنَّ الحُقُوقَ إلى أهْلِها يَومَ القِيامَةِ، حتَّى يُقادَ لِلشّاةِ الجَلْحاءِ، مِنَ الشَّاةِ القَرْناءِ. " صحيح مسلم.

ثم بعد القضاء بينها يقضي الله سبحانه وتعالى بفنائها وصيرورتها ترابا، وحين يرى الكافر الجاحد ذلك ويوقن بالهلاك والعذاب بسبب ما كسبت يداه، سوف يتمنى أن يكون مصيره مثل مصيرها حتى يسلم من العذاب المهين، وهيهات له ذلك. 

قال الله تعالى: { إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40) } سورة النبأ ٤٠.

 

 

الفصل الثاني

حكمة تفاوت أرزاق البشر

(بقلم الدكتور عبد الرحمن بن عبد الكريم الشيحة)

عله يكون منطلقنا في الحديث عن تفاوت البشر في الأرزاق، مفهوم أن الرزق لا يقتصر على المال فقط، فقصر الرزق على المال فقط مفهوم ناقص ومبتور، فالرزق يشمل كل ما يتمتع به البشر من رزق روحي ومالي واجتماعي وصحة نفسيه وبدنيه ...الخ،  كل هذا من النعم ومن الأرزاق التي تفضل الله بها على عباده، والله سبحانه وتعالى يقسم الأرزاق بين البشر ويعطي كل شخص ما يناسبه من النعم والخيرات تفضلاً منه عليهم ولحكمة هو يعلمها. 

قال الله تعالى: { وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ۚ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ۚ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) } سورة النحل ٧١.

فتوزيع الأرزاق من الله على البشر ليس متساوياً بينهم وليس أيضاً عشوائيًا، بل لحكمة يقتضيها عدله، فمن هذه الحكم:

١. عمارة الكون واستمرار الحياة عليه:

الحياة قائمة على الاختلاف والتفاضل بين البشر من أجل إحياء روح التعاون فيما بينهم وليكمل بعضهم بعضا، فتنوع البشر الوظيفي والاجتماعي يخدم مصالح الجميع، فهناك الغني وهناك الفقير وهناك العالم وهناك الفقيه وهناك المزارع وهناك الخادم ...الخ، كل له وظيفته التي يتكسب الرزق من خلالها وتقديم الخدمات للغير، فلو كان البشر مثلاً متساوون في الغنى لم يحتج بعضهم لبعض، ولتعطلت الحياة وتعطلت مصالحهم ومنافعهم. 

قال الله تعالى: { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32) } سورة الزخرف ٣٢. 

٢. اختبار إيمان البشر:

جعل الله البشر في أوضاع  مختلفة وأحوال متغايرة، فهناك الفقير الذي يتمنى أن يملك مثل مال الغني، وهناك الغني الذي يتمنى أن ينال مثل صحة الفقير، وهناك الشقي الذي يتمنى السعادة، وهناك من رزقه الله الذرية، وهناك من حرمه منها وهكذا،  فالله سبحانه يقسم الأرزاق وفق حكمته وإرادته.

قال الله تعالى: { اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) } سورة الرعد ٢٦. 

وكل هذا الاختلاف المعيشي والاجتماعي بين البشر هو من الابتلاءات، سواءً كان خيراً أو ضده، ليعلم الصادق من الكاذب في ايمانه. 

قال الله تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) } سورة الأنبياء ٣٥. 

فيبتلي سبحانه وتعالى بالنعم والخيرات ليعلم الشاكر لما آتاه الله من النعم. 

قال تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام: { قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) } سورة النمل ٤٠.

ويبتلي سبحانه وتعالى بالمصائب والمكروهات ليعلم الصابر المحتسب على ما ابتلاه الله به.

قال الله تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) } سورة البقرة ١٥٥-١٥٧. 

وبيّن الله بعضا من الحكم وراء حرمان بعض البشر من بعض الأرزاق. 

قال الله تعالى: { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) } سورة الشورى ٢٧. 

والابتلاء بالمصائب ليس دليلا على كره الله لعبده، وكذلك ليس التوسيع عليه في الرزق دليل على محبته، فإن الله عز وجل يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من أحب. بل قد يكون التوسيع في الرزق على العبد الآثم، استدراجاً ليزداد إثما.

قال الله تعالى: { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ ۚ بَل لَّا يَشْعُرُونَ (56) } سورة المؤمنون ٥٥-٥٦.

٣. تقوية الإيمان في القلوب: 

فمن آمن بالله الذي خلقه، ورضي به رباً وخالقا، علم أنه يعطي لحكمه قد تكون ظاهرة وقد تكون خفية، وكذلك يمنع لحكمة قد تكون ظاهرة وقد تكون خفية، فالخيرة للبشر فيما اختاره الله لهم. 

قال الله تعالى: { وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) } سورة البقرة ٢١٦. 

٤. تقوية علاقة البشر بربهم: 

فمن علم وأيقن أن المتصرف في هذا الكون هو من أوجده، ارتبط ارتباطا مباشرا به واعتمد عليه وتوكل ولجأ إليه وتضرع في طلب تحقيق حاجاته الدنيوية والأخروية. فهذا أبو الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام حقق هذا الإيمان بتوحيد الله والتوكل عليه، وقد حاور قومه المكذبين ليبين لهم أن معبوداتهم إنما هي حجارة لا تنفع ولا تضر، وبين لهم أن المعبود الحق الذي يجب أن يعبد ولا يشرك به شيئا، هو الله. 

قال الله حكاية عنه: { قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) } سورة الشعراء ٧٥-٨٢.

 

 

الفصل الثالث

حكمة الابتلاء

(بقلم الدكتور عبد الرحمن بن عبد الكريم الشيحة)

قد يتبادر للذهن أن المقصود بالبلاء هو ما يصيب البشر من المصائب والشر، وهذا تعريف ناقص، فكما يكون البلاء بالمصائب والشر يكون كذلك بالخير والنعم.

قال الله تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) } سورة الأنبياء ٣٥.

وهذه الابتلاءات من الله لعباده بشقيها الخير والشر، لمعرفة الصابر على ما أصابه، فيثيبه على صبره، والشاكر على ما أعطاه، فيثيبه على شكره. 

قال الله تعالى: { أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) } سورة العنكبوت ٢-٣. 

وليس الابتلاء بالنعم دليل على محبة الله لعبده، فقد ينعم الله على العبد الكافر المكذب استدراجاً منه له ليزداد إثما على إثمه. 

قال الله تعالى: { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ ۚ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (178) } سورة آل عمران ١٧٨.

وكذلك ليس الابتلاء بالشر علامة لبغض الله لعبده وعدم محبته له، فقد ابتلي الله الأنبياء خيرة خلق الله بالخير والشر. 

من هؤلاء الأنبياء الذين ابتلوا بالخير:

١. النبي داود عليه السلام:

أعطاه الله من خيري الدنيا والآخرة، فأعطاه النبوة والملك، وكان داود عليه السلام مشهوراً بالعدل في الحكم، والحكمة في اتخاذ القرارات، والرشد في تطبيقها. 

قال الله تعالى: { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) } سورة ص ٢٦. 

وأسبغ عليه من نعمه الظاهرة والباطنة، وتفضل عليه بأنواع المعجزات من تسبيح الجبال والطير معه، وإلانة الحديد بين يديه فيشكله على الكيفية التي يريد. 

قال الله تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ۖ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) } سورة سبأ ١٠-١١.

٢. النبي سليمان عليه السلام:

كان نبياً في قومه، أعطاه الله ملكا عظيما لم يعطه أحد من العالمين، أكرمه الله بمعجزات عظيمة، فسخر له الرياح تجري بأمره حيث شاء، وسخر له الجن يعملون بين يديه ما يشاء، وعلمه منطق الطير، وأسال له النحاس بين يديه يشكله على ما يشاء. 

قال الله تعالى: { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) } سورة النمل ١٦.

ويقول الله في شأن ما أعطاه من الملك والمعجزات{ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) } سورة سبأ ١٢-١٣. 

ومن الأنبياء الذين تعرضوا للابتلاء بالمصائب:

١. نوح عليه السلام: 

ابتلي بغرق ابنه عندما دعاه ليركب معه في السفينة، التي صنعها بأمر من الله، ايذاناً منه سبحانه وتعالى بإغراق القوم الذين كذبوه، ولكن ابنه عصى وكابر ورفض أن يركب معه السفينة لينجو من الطوفان، فكان من المغرقين. 

قال الله تعالى: { وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) } سورة هود ٤١-٤٣. 

٢. إبراهيم عليه السلام:

هو أبو الأنبياء وخليل الله، وقد تعرض لكثير من الابتلاءات، منها أنه رأى في منامه أنه يذبح ولده إسماعيل الذي جاءه على كبر، ورأيا الأنبياء حق فقام مطيعا لربه مستسلما له يريد ذبح ابنه. 

قال الله تعالى: { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) } سورة الصافات ١٠١-١٠٧. 

وكذلك نجاته من النار التي ألقي فيها، وجعلها الله بردا وسلاما عليه. فعندما دعا قومه لعبادة الله وحده لا شريك له، كذبوه، فقام بتحطيم أصنامهم التي يعبدونها ليريهم أنها لم تستطع أن تدرأ  الضر عنها، فكيف لها أن تدرأ الضر عنهم أو تجلب الخير لهم، فأرادوا الانتقام منه وقتله.

قال الله تعالى: { قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) } سورة الأنبياء ٦٦-٧٠. 

٣. أيوب عليه السلام

مضرب الأمثال في الصبر على البلاء، فقد ابتلي بالمرض  في جسده حتى أنتن وأصبح مستكرهاً من قومه الذين اخرجوه من قريتهم خشية أن يعديهم بمرضه، وكذلك ابتلي بفقد ماله وأهله وولده، ولبث في هذا البلاء ثمانية عشر سنة، فكان صابرا محتسبا، وبعد هذه المدة من الصبر دعا ربه أن يكشف عنه ما به من ضر. 

قال الله تعالى: { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ۖ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ ۗ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) } سورة ص ٤١-٤٤.

٤. النبي يعقوب عليه السلام:

ابتلى بكثير من الابتلاءات، منها فقده ليوسف عليه السلام أحب أولاده اليه عندما ألقاه اخوته في البئر غيرة منه وحسدا، وزعموا أنه أكله الذئب، وكذلك ابتلي عليه السلام بفقد بصره حزنا على يوسف عليه السلام . 

قال الله تعالى: { وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) } سورة يوسف ٨٤-٨٦.

٥. يوسف عليه السلام: 

ابن يعقوب عليه السلام وأحب أبناءه اليه، مر بكثير من الابتلاءات، فقد رماه اخوته في البئر حسدا من عند أنفسهم لما رأوا محبة أبيهم له وتفضيله عليهم. 

قال الله تعالى: { لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (10) } سورة يوسف ٧-١٠.

نفذ إخوته خطتهم ورموه في البئر، فمرت قافلة على البئر فأرسلوا واردهم ليستسقي لهم الماء، فلما أدلى دلوه تشبث به يوسف وأخرجه من البئر، ثم بيع عليه السلام كعبد فشراه عزيز مصر.

قال الله تعالى: { وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ ۖ قَالَ يَا بُشْرَىٰ هَٰذَا غُلَامٌ ۚ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ  } سورة يوسف ١٧-٢١.

ثم تم سجنه بضع سنين بعد اتهامه من زوجة عزيز مصر زوراً وبهتانا له بمحاولة التحرش بها. 

قال الله تعالى عن قصته: { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ۚ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ۚ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ۖ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۚ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ۖ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ۖ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ۖ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ (35) } سورة يوسف ٢٣-٣٥.

فكانت نهاية صبره أن جعله الله على خزائن مصر، وذلك بعد أن رأى الملك رؤيا وطلب من المقربين له تعبيرها فلم يعرفوا، حيث كان عليه السلام يعبر الرؤيا، فأخبرهم الذي كان معه في السجن وخرج، عن يوسف وقدرته على تعبير الرؤيا. 

قال الله تعالى: { وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ۖ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ۖ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) } ... { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) } سورة يوسف ٤٣-٥٦.

٦. موسى عليه السلام:

كليم الله، اُضطهد هو وقومه من بني إسرائيل من فرعون وقومه، فلاقوا من العذاب والأذى ما لاقوا، فقد ذبحوا أبنائهم واستحيوا نسائهم، حتى اضطر هو وقومه للخروج من مصر. 

قال الله تعالى: { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) } سورة إبراهيم ٦.

ابتُلي موسى عليه السلام مع بني إسرائيل بالتيه في صحراء سيناء أربعين سنة، لا يستطيعون الخروج منها بسبب عصيانهم لأمر موسى بدخول الأرض المقدسة. 

قال الله تعالى: { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) } سورة المائدة ٢١-٢٦.

هروب موسى عليه السلام الى أرض مدين خوفا من القتل بعد أن  قتل الرجل المصري. 

قال الله تعالى في قصته: { وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ۚ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ ۖ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) } سورة القصص ١٥-٢٢.

٧. يونس عليه السلام:

النبي الذي أرسل الى قومه في نينوى لدعوتهم الى التوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له، فعصوه وكذبوا دعوته، فغضب من تكذيبهم له ففارقهم وخرج من المدينة من غير إذن من ربه، فكان العقاب له من الله أن خرج في السفينة فهاج عليهم البحر فأوشكت السفينة على الغرق لثقل الحمل فيها، فكان الحل بأن يخففوا منه وذلك بالتخلص من أحد الركاب، فساهموا ثلاث مرات وكان السهم يخرج فيها عليه فألقوه في البحر، فأرسل الله حوتاً ضخما فابتلعه، فمكث في بطنه ما شاء الله أن يمكث حتى أذن الله للحوت أن يلفظه بعد كثرة استغفاره ومناجاته لربه ودعائه بأن يفرج له ما هو فيه من كربه. 

قال الله تعالى عن قصته مع قومه: { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ (148) } سورة الصافات ١٣٩-١٤٨.  

٨. النبي عيسى عليه السلام:

بعث في قومه فكذبوه وخططوا لقتله ظلماً  منهم وعدوانا، رغم ما أظهر الله على يديه من المعجزات الدالة على صدقه. 

قال الله تعالى: { وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ۚ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۗ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (51) } سورة آل عمران ٤٩-٥١.

ومن الابتلاءات، تشكيكهم في والدته مريم العذراء البتول الطاهرة المطهرة، واتهامها بالزنا عندما أتت قومها تحمل طفلها عيسى عليه السلام وسألوها سؤال استنكار عن هذا الطفل، فلم تكلمهم ولكنها أشارت اليه، فأنطقه الله وهو في مهده مثبتاً براءة والدته. 

قال الله تعالى عن هذه القصة في سورة في القرآن باسمها: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ۖ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ۖ سُبْحَانَهُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (36) } سورة مريم ١٦-٣٦.

ومن الابتلاءات التي واجهت عيسى عليه السلام، محاولة قتله وصلبه والتي أنجاه الله منها، فحفظه ورفعه اليه في السماء. 

قال الله تعالى: { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) } سورة النساء ١٥٧-١٥٨.

٩. النبي محمد عليه الصلاة والسلام: 

خاتم الأنبياء والرسل، بعثه الله للناس كافة، كانت دعوته للتوحيد وترك عبادة الأصنام والتحلي بمكارم الأخلاق وترك سيئها، جهر بدعوته فآذاه قومه واتهموه بالسحر والجنون والكذب. 

قال الله تعالى: { وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ ۖ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَٰذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) } سورة ص ٤-٧.

رموه بالحجارة حتى أدموا عقبيه، ورموا سلى الجزور على ظهره وهو ساجد لله عند الكعبة يصلي، وبلغ من مكرهم أن تآمروا على قتله ولكن الله انجاه منهم. 

قال الله تعالى: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) } سورة الأنفال ٣٠.

فلما اشتد أذى قومه عليه، أذن الله له بالهجرة ومغادرة بلده مكة والتوجه للمدينة التي فرحت واستبشرت بقدومه، فآووه ونصروه، فكانت عاصمة دولة الإسلام التي انطلقت منها دعوته الى جميع أصقاع الأرض، حتى انتشرت في جميع أرجاء المعمورة، حتى أصبح أكثر من ربع سكان العالم في وقتنا الحاضر من أتباع دينه، ولا يزال الناس يدخلون فيه رغم المكائد التي تحاك ضده لصد الناس عنه، فلم يحارب دين مثل ما حورب، ولكن أمر الله نافذ ووعده متحقق. 

قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لَيَبْلُغَنَّ هذا الأمرُ ما بلَغَ اللَّيلُ والنَّهارُ، ولا يَترُكُ اللهُ بَيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلَّا أَدخَلَه اللهُ هذا الدِّينَ، بعِزِّ عَزيزٍ أو بِذُلِّ ذَليلٍ؛ عِزًّا يُعِزُّ اللهُ به الإسلامَ، وذُلًّا يُذِلُّ اللهُ به الكُفرَ. " أخرجه أحمد – صحيح على شرط مسلم.   

 

 

الفصل الرابع

حقيقة لعبة الحياة

(بقلم الدكتور عبد الرحمن بن عبد الكريم الشيحة)

الدنيا حلوة خضرة، يتهافت البشر على الاستمتاع بما فيها فمقل منهم ومكثر، وهذا ولا شك عمار للدنيا اقتصادياً واجتماعيا وسياسياً. 

قال الله تعالى: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَٰلِكُمْ ۚ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) } سورة آل عمران ١٤-١٥.

ولكن بالنظر الفاحص لها يتبين أن حقيقتها دار ممر وليست دار مستقر، مرحلة مؤقته يمر بها البشر وصولا الى المرحلة الأبدية، ولقد بين هذه الحقيقة رسول الله صلى الله عيه وسلم، فقد روي عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه:

" نامَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ علَى حصيرٍ فقامَ وقد أثَّرَ في جنبِهِ، فقلنا: يا رسولَ اللَّهِ! لوِ اتَّخَذنا لَكَ وطاءً. فقالَ: ما لي وما للدُّنيا، ما أنا في الدُّنيا إلَّا كراكبٍ استَظلَّ تحتَ شجرةٍ ثمَّ راحَ وترَكَها. " صحيح الترمذي.

بعد هذه المرحلة سوف يحصدون غداً ما زرعوا فيها من الأعمال، إن خيراً فخير وإن شرً فشر.

قال الله تعالى: { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) } سورة الحديد ٢٠.

فزاد الوصول للفوز بنعيم المرحلة الأبدية هو زاد التقوي، أما ما سواه من متاع الحياة فزائل مع زوال الدنيا وفنائها. 

قال الله تعالى: { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (94) } سورة الأنعام ٩٣-٩٤.

فإذا كانت الحياة الدنيا حياة فانية وما فيها من متاع وملذات وشهوات زائل معها، كما وصفها الله تعالى، إذاَ ماهي الحياة الحقيقية الباقية؟

قال الله تعالى: { وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا ۚ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) } سورة القصص ٦٠.

وتأتي الإجابة من الله سبحانه في قوله: { وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) } سورة العنكبوت ٦٤.

لذلك كان كثير من آيات القرآن تحذر من الافتتان بالدنيا وزينتها، وتأمر بالابتعاد عن كل ما يصرف عن بلوغ الحياة الحقيقية. 

قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) } سورة فاطر ٥.

والانسان الفطن يستنتج من هذه الآيات عدة مفاهيم منها: 

١. القناعة: وذلك بالرضا بالقدر خيره وشره، فلا مجال للمقارنة بينه وبين غيره ممن فضل عليه بالرزق، وهذا مما يجعله يركز على الرزق والنعم التي يملكها ويغض طرفه عن ما يملكه الناس الآخرون. 

قال الله تعالى: { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ (131) } سورة طه ١٣١.

٢. التواضع: وذلك بترك الغرور والتباهي بالمال والجاه والحسب والنسب، والذي يقود للطغيان والظلم، والتعامل مع الناس بالبساطة واللين في القول والفعل. 

قال الله تعالى: { وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) } سورة لقمان ١٨-١٩.

٣. البذل والعطاء: وذلك ببذل المال في مساعدة المحتاجين وقضاء حوائجهم طلباً فيما عند الله من الأجر. 

قال الله تعالى: { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) } سورة البقرة ١٧٧.

٤. الزهد: وذلك بعدم التعلق بالدنيا وتفضيلها على الآخرة، وبالأخذ منها بما يكفل له الحياة الكريمة وبالطرق المباحة. 

قال الله تعالى: { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) } سورة الحديد ٢٠.

٥. التوازن: في التعامل مع الحياة والاستمتاع بها، وذلك من خلال ما يلي:

أ) الاهتمام بالجانب الروحي: وذلك بتأدية ما طلب منه من الشعائر الدينية، التي تربي على كثير من المبادي والقيم وتعزز الطمأنينة القلبية والسكينة الروحية. 

قال الله تعالى: { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ۗ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) } سورة النحل ٩٦-٩٧.

ب) الاهتمام بالجانب الجسدي: وذلك من خلال التلذذ بمتع الحياة المباحة وعدم حرمان الجسد من شهواته المباحة. 

قال الله تعالى حكاية عن قارون الذي آتاه الله من الكنوز والأموال الشي الكثير: { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) } سورة القصص ٧٧.

ج) الاهتمام بالجانب النفسي: وذلك بتوثيق الروابط بينه وبين أقاربه وجيرانه، والتي تعزز الراحة النفسية والشعور بالانتماء. 

قال الله تعالى: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) } سورة النساء ٣٦.

د) الاهتمام بالجانب الأخلاقي: وذلك بالتواصل الإيجابي مع مجتمعه وتفاعله معه من خلال تعامله الراقي من خلال التحلي بالأخلاق الفاضلة وبذل المعروف للناس.

قال الله تعالى: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) } سورة الأعراف ١٩٩.

 

 

الفصل الخامس

دليل الفوز بلعبة الحياة

(بقلم الدكتور عبد الرحمن بن عبد الكريم الشيحة)

للعبة الحياة دليل (شريعة) جاء من مصدر إلهي في مراحل مختلفة يكمل بعضه بعضاً، وذلك لدلالة البشر على الطريق المستقيم الذي يحقق العبادة لله وحده، وهذا الدليل (الشريعة) ينزله الله حسب مشيئته بما يتناسب مع احتياجات البشر في كل مرحلة من مراحل الأمم. 

قال الله تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ۙ فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) } سورة الأعراف ٣٥-٣٦.

 فالبداية كانت من نوح عليه السلام الذي دعا قومه لعبادة الله وحده، ثم الصحف التي أنزلت على إبراهيم عليه السلام، ثم التوراة التي نزلت على النبي موسى عليه السلام لبني إسرائيل، فلما طال العهد عليهم وبدأوا ينحرفون عن الطريق المستقيم، أرسل الله إليهم أنبياء من بني جلدتهم ليردوهم إليه، حتى ختمت نبوءة بني إسرائيل بالإنجيل الذي أنزل على النبي عيسى عليه السلام ليجدد شريعة موسى، ثم بعد ما يقارب من ستمائة عام -حيث ابتعد الناس عن شريعة عيسى عليه السلام وتفشى الظلال والانحراف وعبدت الأصنام من دون الله-، بعث الله النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الذي ينتهي نسبه الى إسماعيل عليه السلام ابن إبراهيم عليه السلام، وأنزل عليه القرآن الذي يعتبر آخر الشرائع السماوية التي تؤمن بجميع الأنبياء والرسل بلا استثناء وختم بها وكَمُل الدين للبشر. 

قال الله تعالى: { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } سورة المائدة ٤٨. 

فأصبح دينه هو المقبول عند الله لا يرضى أن يتعبد بغيره، فمن أراد الفوز فعليه التمسك به، فقد أودع الله فيه شريعة تجعله صالحاً لكل زمان ومكان.

قال الله تعالى: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) } سورة آل عمران ٨٥.

تعليمات الفوز بلعبة الحياة:

إذا اعتبرنا الحياة لعبة، فإن الفوز فيها يعني الحصول على السعادة الأبدية في الآخرة. ومن العوامل التي تساعدك على الفوز في لعبة الحياة هو أن تتبع تعليمات الخالق للحياة لكي تتمكن من السير في الطريق الصحيح الذي يوصلك للنجاح والفوز فيها، هذا الطريق بينه الخالق عندما ذكر قصة إنزال أبوينا آدم وحواء من الجنة بسبب أكلاهما من الشجرة التي نهاهما الله عنها. 

فقال الله تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ (126) وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ ۚ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ (127) } سورة طه ١١٦-١٢٧. 

ولعل الشرط الأساسي للفوز في لعبة الحياة هو الاعتراف بوحدانية الخالق  وعدم الإشراك به. 

قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا (48) } سورة النساء ٤٨. 

ثم بعد تحقيق هذا الشرط يجب اتباع التعليمات التي تعين على الحصول على أرفع درجات الفوز في لعبة الحياة، والتي منها:

١. الجد والاجتهاد: من أراد الفوز فعليه السعي الحثيث في كسب الأعمال الصالحة التي تجعله يفوز بأعلى المراتب في الآخرة، فالجنة درجات والنار دركات. 

قال الله تعالى: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) } سورة البقرة ٤٥.

٢. الصبر والمثابرة: من أراد الفوز فعليه بالصبر وتحمل المشاق التي سيلاقيها، فقد حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات. 

قال الله تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۗ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ۗ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) } سورة الزمر ١٠.

٣. الصدق والاستقامة: من أراد الفوز فعليه بالصدق في أقوله وافعاله. 

قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) } سورة التوبة ١١٩.

٤. الأمانة والنزاهة: من أراد الفوز وجب عليه ان يكون أميناً في تعاملاته بعيداً عن كل ما يفسد عليه دينه ودنياه. 

قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) } سورة النساء ٥٨.

٥. العدل والإنصاف: من أراد الفوز فليكن عادلا منصفاً مع نفسه وعادلاً ومنصفاً مع غيره، يحب للناس ما يحب لنفسه، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.

قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) } سورة المائدة ٨.

٦. التفكر والتدبر: من أراد الفوز فعليه إعمال الذهن بالتفكر الإيجابي فيما يحيط بك من مخلوقات في هذا الكون، الذي دل بعظمته وحسن ترتيبه وإتقانه بوجود الخالق العظيم المستحق للعبادة دون سواه. 

قال الله تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) } سورة البقرة ١٦٤.

فإن التدبر والتفكر الإيجابي قد دل أعرابياً في الصحراء بالإجابة العقلية التي تدل على فكره السليم  حينما سُئل: "بما عرفت ربك؟ فأجاب بفطرته: البَعْرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماءٌ ذاتُ أبْراج، وأرضٌ ذات فِجَاج، وبحار ذات أمواج، أفلا يدل ذلك على اللطيف الخبير؟"

٧. التنافس الشريف : من أراد الفوز فعليه حب الخير لغيره، وأن يكون تنافسه في هذه الحياة بعيداً عن كل ما يكون فيه ضرر على الآخرين. 

قال الله تعالى: { وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) } سورة آل عمران ١٣٣-١٣٦.

٨. الاستمتاع المباح: وذلك بالعمل على بناء علاقات ايجابية مع جميع ما يحيط به في هذا الكون من مخلوقات، فيستمتع بالمباحات ويتجنب المحرمات التي تبعد عن الفوز. 

قال الله تعالى: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) } سورة الملك ١٥.

٩. التفاعل الإيجابي: وذلك مشاركة الغير بإصلاح أنفسهم وإصلاح المجتمع، وذلك ببذل النصح والإرشاد لهم فيما يعينهم على أمور دينهم وديناهم، وبالمقابل تقبله منهم.

قال الله تعالى: { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ  } سورة آل عمران ١١٠. 

١٠. التيسير: في لعبة الحياة لا تشق على نفسك فيما لا تطيق، ولا تكلفها ما لا تحتمل، فما نهيت عنه فاجتنبه، وما أمرت به خذ منه ما استطعت، فإن الخالق رحمن رحيم. 

قال الله تعالى: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ  } سورة البقرة ٢٨٦.

المفسدون للعبة الحياة:

في لعبة الحياة هناك الكثير ممن يريد افسادها عليك وخسارتك فيها وحرمانك من السعادة الأبدية فكن حذراً منهم وتجنبهم. ومن الأمور التي يجب الحذر منها: 

١. اتباع الشيطان: كن حذراً من ابليس عدو البشر الأول الذي كان سببا في إخراج أبوينا من الجنة، وكن حذراً من جنوده من شياطين الإنس والجن الذين أغواهم وسخرهم لتحقيق ما توعد به من إضلال البشر وغوايتهم وصرفهم عن عبادة الله وعن الطريق المستقيم. 

قال الله تعالى محذرا منه: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) } سورة الإسراء ٦١-٦٢.

٢. اتباع الهوى: كن حذرا من اتباع هوى النفس الذي يقود للغفلة والبعد عن الطريق المستقيم، واردع نفسك عن الإنجراف وراء شهوات النفس ورغباتها دون مراعاة لأوامر الله وحقوق الناس.

قال الله تعالى: { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) } سورة ص ٢٦.

٣. اتباع أصحاب السوء: كن حذراً من أصحاب السوء ومصاحبة أهل الباطل ولو كانوا هم الأكثرية،  فليست الكثرة دليل على الصواب وليست القلة دليل على الخطأ. 

قال الله تعالى: { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) } سورة الأنعام ١١٦.

زمن لعبة الحياة:

من المتعارف عليه منطقيا ان كل عمل له بداية ونهاية مرتبط بزمن محدد ومكان محدد ويمر بمراحل وفترات موصلة للنهاية، وهذه الحياة التي يعيشها البشر مرتبطة بهذا الزمن المحدد مروراً بمراحله التي تنتهي بالموت. 

قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) } سورة الحج ٥-٦.

هذا الزمن الذي يعيشه البشر ويعتقدون طوله بجميع مراحله التي يعيشونها، لا يعدوا إلا أن يكون وقتاً يسيراً يمر سريعاً كحلم ليل، كما أخبر الله بذلك. 

قال الله تعالى: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ۚ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) } سورة يونس ٤٥.

هذا الزمن في الحياة والذي هو عبارة عن دقائق وساعات وأيام وشهور وسنين، سيتغير مفهومه في الحياة الآخرة الى زمن لامحدود أبدي سرمدي لا موت فيه، نعيم مقيم وسعادة دائمة لا مرض فيها ولا هرم ولا شعور بالسآمة والممل، لمن أحسن في الحياة الدنيا صنعا. 

قال الله تعالى: { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) } سورة التغابن ٩.

وجحيم دائم في سموم وحميم وظل من يحموم لمن أساء في الحياة الدنيا صنعا. 

قال الله تعالى: { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ (20) } سورة الأحقاف ٢٠.

 

 

الفصل السادس

نهاية لعبة الحياة

(بقلم الدكتور عبد الرحمن بن عبد الكريم الشيحة)

نهاية حتمية وحقيقة واقعية، موت وفناء كتبه الله على جميع المخلوقات في زمان معين ومكان محدد. 

قال الله تعالى: { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) } سورة الأعراف ٣٤.

قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) } سورة لقمان ٣٤. 

ومهما حاول البشر بذل الأسباب للفرار منه، فإنه لهم بالمرصاد، يهربون منه وهو ملاقيهم. 

قال الله تعالى: { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8) } سورة الجمعة ٨. 

ولن يخرج البشر من هذه الحياة الا بعد أن يستكملوا ما كتبه الله لهم من حياة ورزق فيها. 

كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " إنَّ رُوحَ القُدُسِ نفثَ في رُوعِي، أنَّ نفسًا لَن تموتَ حتَّى تستكمِلَ أجلَها، وتستوعِبَ رزقَها " صحيح الجامع.

في لحظات الموت تتجلى الحقيقة للبشر، والتي كانت غائبة عنهم، فكل سوف يرى مقعده ومصيره، إما الى جنة أو الى نار، فأما من كذب الرسل وكفر بالله واشرك، بُشر بعذاب الله وعقوبته وندم على ما كان منه، ولات ساعة مندم، يتمنى العودة للحياة لكي يصلح ما فسد من عمله ويصدق بما كذب. 

قال الله تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) } سورة المؤمنون ٩٩-١٠٠.

وأما من آمن وصدق بالرسل واستقام على دين الله، تأتيه البشرى برضوان الله وكرامته. 

قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ (32) } سورة فصلت ٣٠-٣٢.

الداعمين للعبة الحياة:

عند انتهاء اللعبة كل واحد سينشغل بنفسه، ولن تجد من يساندك فيما أنت فيه، حتى أقرب الناس وأحبهم اليك، كل مشغول بنفسه. 

وصف الله سبحانه وتعالى ذلك بقوله: { فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) } سورة عبس ٣٣-٤٢.

 إن كل من كان يقف بجانبك ويساندك من المشاركين في لعبة الحياة، سيتخلون عنك فور انتهاءها، فمن هؤلاء المشاركين الذين سيتخلون عنك:

١. المال: فلن يغني عنك ما كنت تجمع من مال، إلا ماكنت تكسبه من حلال وتنفقه في حلال وتقدم منه في عمل صالح ينفعك. 

قال الله تعالى: { يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) } سورة الشعراء ٨٨-٨٩.

٢. النسب: لن يغني عنك حسبك ولا نسبك، فكل سوف يحاسب بحسب اعماله وأفعاله. 

قال الله تعالى: { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) } سورة المؤمنون ١٠١-١٠٣.

٣. البنون: لن ينفعك أبنائك الذين كنت تشقى في الحياة من أجلهم، ولن تنفع أبويك اللذان كانا يشقيان ويكدان من أجلك. 

قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا ۚ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) } سورة لقمان ٣٣.

٤. المكانة الاجتماعية: لن ينفع ملك ملكه، أو رئيس رئاسته، أو صاحب منصب منصبه، كل ذلك يتلاشى ويبق ما قدم من عمل.

قال الله تعالى: { يَوْمَ هُم بَارِزُونَ ۖ لَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ۚ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۖ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۚ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) } سورة غافر ١٦-١٧. 

جزاء الفائز بلعبة الحياة:

الفوز الحقيقي في لعبة الحياة بينه الله تبارك وتعالى بقوله: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) } سورة آل عمران ١٨٥.

هذا الفوز يتمثل في سعادة لا تنتهي ونعيم لا ينقطع وفرح يدوم، في دار نعيم أبدي لا يزول ولا يحول، في جنة وصف الله مساحتها ونعيمها. 

قال الله تعالى: { سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) } سورة الحديد ٢١.

لا يسقمون فيها ولا يمرضون ولا يصيبهم التعب والنصب ولا المصائب والأحزان، أوقاتهم كلها بهجة وافراح وسرور وانشراح. 

قال الله تعالى: { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ۖ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) } سورة فاطر ٣٣-٣٥.

في أجواء بهيجة، لا حر فيها يؤذيهم ولا برد فيها يضرهم، متلذذين بأصناف ثمار الجنة التي تصلهم بلا عناء ولا تعب. 

قال الله تعالى: { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ۖ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) } سورة الإنسان ١٣-١٤.

وسيجدون كل ما يشبع رغباتهم من أنواع النعيم. 

قال الله تعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ ۖ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ۖ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) } . سورة الزخرف ٦٩-٧١.

أكلهم وشربهم لا يعقبه ما يعقب أكل الدنيا وشربها من بول وغائط ومخاط وعرق، بل يعقبه اخراج روائح طيبة زكية. 

كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " إنَّ أهْلَ الجَنَّةِ يَأْكُلُونَ فيها ويَشْرَبُونَ، ولا يَتْفُلُونَ ولا يَبُولونَ ولا يَتَغَوَّطُونَ ولا يَمْتَخِطُونَ. قالوا: فَما بالُ الطَّعامِ؟ قالَ: جُشاءٌ ورَشْحٌ كَرَشْحِ المِسْكِ، يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ والتَّحْمِيدَ، كما تُلْهَمُونَ النَّفَسَ. وفي رواية: إلى قَوْلِهِ: كَرَشْحِ المِسْكِ. " صحيح مسلم.

سليمة صدورهم خالية من الحقد والحسد والبغض والشحناء. 

قال الله تعالى: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) } سورة الحجر ٤٥-٤٨. 

في حياة أبدية لا موت فيها ولا فناء، بل خلود وبقاء أبدي، لا يهرمون فيها ولا يشيبون. 

قال الله تعالى: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ (53) كَذَٰلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ ۖ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِّن رَّبِّكَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) } سورة الدخان ٥١-٥٧.

جزاء الخاسر بلعبة الحياة:

الخسارة في هذه اللعبة ليست كخسارة اللعب في الدنيا التي يمكن تعويضها بالفوز مرة أخرى، بل هي خسارة أبدية سرمدية. 

قال الله تعالى: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَٰلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) } سورة الكهف ١٠٣-١٠٦.

في نار ليست كنار الدنيا، ووقودها ليس كوقود نار الدنيا. 

قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) } سورة التحريم ٦. 

 يذوقون عذاباً أليماً مستمراً لا ينقطع ولا يخفف عنهم. 

قال الله تعالى: { هَٰذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ۖ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) } سورة الحج ١٩-٢٢.

عذاب يتجدد مع تجدد بقاءهم الأبدي في النار. 

قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) } سورة النساء ٥٦.

شرابهم الحميم والغساق.

قال الله تعالى: { هَٰذَا ۚ وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَٰذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) } سورة ص ٥٥-٥٨.

 أكلهم الزقوم  والغسلين والضريع. 

قال الله تعالى: { قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَٰذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) } سورة الواقعة ٤٩-٥٦.

في عذاب تتعذب به كل ذرة من ذرات جسده ليكون أبلغ في النكال، وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين. 

قال الله تعالى: { مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَىٰ مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ۖ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) } سورة إبراهيم ١٦-١٧.

يتمنون الموت -الذي كانوا يخافونه في الدنيا ويكرهون ذكره- ليتخلصوا مما هم فيه من عذاب وشقاء، فلا تتحقق أمنيتهم ولا يحصل لهم مقصودهم. 

قال الله تعالى: { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ۖ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) } سورة الزخرف ٧٤-٧٨. 

 

 

الفصل السابع

رسالة لمن لم فقد الثقة في البشرية ولم يفهم مغزى الحياة

(بقلم أحمد الأمير)

هل الحياة مجرد لعبة؟

سؤال تكرر عبر العصور، طرحه الفلاسفة والعلماء والأدباء وكل من سعى لفهم مغزى الوجود. في عالم تتسم فيه الحياة بملذات زائلة، وعلاقات مؤقتة، وسعي دائم وراء المكاسب المادية، قد يبدو للبعض أنها مجرد لعبة. إلا أن الله عز وجل قد بيّن في القرآن الكريم أن للحياة معنى أعمق بكثير من هذا التصور السطحي.

الهدف من الحياة:

خلق الله عز وجل الإنسان لحكمة عظيمة قد لا تدركها العقول البشرية المحدودة. وقد خلقنا لعبادته وطاعته، كما خلق الملائكة لعبادته وطاعته. لكنه منحنا حرية الإرادة والاختيار بين الخير والشر، وبين الإيمان والكفر، في حين أن الملائكة فهي لا تعصي لله أمرا. 

قال الله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) } الذاريات ٥٦.

قال الله تعالى: { وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } سورة الكهف.

وقد بيّن الله عز وجل أن الحياة الدنيا ليست سوى دار اختبار، حيث يتسابق البشر في فعل الخيرات، ويُبتلون بالمكاره ليتميّز الطيب من الخبيث، والمؤمن من الكافر، والصابر الشاكر من الجاحد الساخط.

قال الله تعالى: { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) } سورة الملك ٢.

قال الله تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) } سورة البقرة ١٥٥.

ومن عدل الله عز وجل، جعل الحياة الآخرة داراً للجزاء، فلا يضيع فيها أجر المؤمنين العاملين، ولا يفلت فيها المجرمون الظالمون من العقاب. 

الصراع بين الخير والشر حول العالم:

منذ بدء الخلق، شهد العالم أحداثا جسيمة وصراعات بين البشر لأسباب عدة، كان لها أثر عميق في نفوس العديد من البشر. وقد رأيت مؤخرا مقاطع مصورة لأشخاص يبكون ويعبرون عن حزنهم إزاء تلك الصراعات الدائرة حول العالم، قائلين: "لقد فقدنا الثقة في البشرية، لماذا كل هذه النزاعات؟"

إن كلماتهم تعكس رقة قلوبهم ورفضهم للظلم بين البشر، وهو أمر فطري في الإنسان. وقد ورد في القرآن الكريم أن الملائكة، قبل خلق الإنسان، قد سألت الله ليتعلموا الحكمة من وجود البشر، إذ رأوا فيهم من قد يفسدوا في الأرض ويسفكوا الدماء.

قال الله تعالى: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33) } سورة البقرة ٣٠-٣٣.

لقد علم الله عز وجل، وعلمت الملائكة، أن هناك من البشر من سيفسد في الأرض، وأن هناك من سيصلح فيها وينشر الخير والسلام. وقد أمر الله البشر بفعل الخير وإقامة العدل، ونهاهم عن فعل الشر ونشر الظلم، فمن امتثل لأمره نجى وفاز. أما من اتبع سبيل الشيطان وزيغه، فقد خاب وهلك.

لقد كرم الله الإنسان، وأمر ملائكته أن يسجدوا لأدم عند خلقه، فامتثلوا جميعا إلا إبليس الذي كان من الجن، فتكبر وعصى أمر الله.

قال الله تعالى: { قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (80) إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) } سورة ص ٧٥-٨٣.

وهكذا فإن سنة الحياة هي الصراع المستمر بين الخير والشر إلى قيام الساعة، مثل أمواج البحر، في موجة سينتصر الخير، وفي موجة أخرى سينتصر الشر، ولكن كلاهما يؤدي دوره في هذه الحياة. ولا ينبغي للإنسان أن يهلك قلبه حزنا أو يفقد الأمل بسبب ما يراه من مظالم وصراعات، فالله عز وجل أعلم بكل ما يحدث، بل يجب على الإنسان أن يكون في صف الحق، داعماً للخير، ومناصراً للعدل.

ولنضرب مثالاً لتوضيح دور الخير والشر في الحياة:

الكهرباء، على سبيل المثال، لا تعمل إلا بوجود قطبين، أحدهما موجب والآخر سالب. لا يكفي وجود القطب الموجب فقط، بل يجب أن يكون هناك القطب السالب، لأنه هو الذي يحرّك الموجب ويجعل التيار الكهربائي يعمل. وكذلك الحال في الحياة، فالابتلاء لا يمكن أن يتحقق بوجود الخير فقط، بل لا بد من وجود الشر والمكاره، لأنهما يختبران صبر الإنسان وثباته، ويدفعانه إلى السعي لفعل الخير والتمسك بالقيم النبيلة.

الدنيا لعب ولهو:

خلق الله عز وجل الحياة الدنيا، بما فيها من أرض وسماء وسحاب وشمس وقمر وكواكب وبحار وأنهار، من أجل استقرار البشر في حياتهم على الأرض، ومن أجل أن تكون آيات تدل البشر على عظمة الخالق ويتفكروا في بديع صنعه. 

إلا أن كثيراً من البشر، بسبب الجشع والطمع، استغلوا موارد الأرض في الصراعات وحب التملك، بل واستعباد الآخرين، بدلاً من استثمارها في التعاون ونشر الخير بين الناس. وما يُنفق على الحروب والنزاعات، لو وُجّه إلى التنمية والإصلاح، لكان كفيلاً بالقضاء على الفقر في العالم وجعل جميع أهل الأرض أغنياء.

يشبه الأمر رجلين يتصارعان على دلو مليء بالحليب، وبينما كلٌّ منهما يحاول الاستحواذ عليه، انسكب الحليب بأكمله على الأرض ولم يستفد منه أحد، رغم أنه كان كافياً لكليهما بل ويفيض عن حاجتهما.

كذلك، نجد اليوم أن كثيراً من الناس يعيشون فقط لإثارة إعجاب الآخرين، فنجد الأغنياء يعملون بجدٍّ شديد، محبوسين في مكاتبهم ومصانعهم طوال الأسبوع، ليس سعياً للاستمتاع بالحياة، وإنما لإرضاء غرورهم وإظهار تفوقهم المادي أمام الآخرين.

وبالمثل، تقضي الكثير من النساء ساعات طويلة يومياً في التزيّن أو في الصالات الرياضية، فقط لهدف لفت أنظار الرجال، حتى وإن كنّ متزوجات. 

وكذلك يقضي الكثير من الرياضيين سنوات طويلة في التدريب، فقط بدافع التفاخر بالقوة داخل حلبة المنافسة، والتباهي بمدى الأذى الذي ألحقوه بخصومهم.

قال الله تعالى: { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) } سورة الحديد ٢٠-٢١.

 

 

الفصل الثامن

أسباب المشاكل النفسية في العالم

(بقلم أحمد الأمير)

التعاسة والقلق والاكتئاب في وجوه الناس:

عند التأمل في وجوه الكثير من الناس اليوم، نجد أن علامات التعاسة والقلق بادية عليهم، وكأنها أصبحت سمة سائدة. بل إن العديد من الأعمال الفنية والسينمائية – والتي لا يجوز مشاهدتها – تعكس هذا الواقع، حيث تصور الأبطال بوجوه عابسة وصراعات دائمة، مما يجسد حال البشرية في عصرنا هذا.

يتساءل أغلب الناس: "لماذا لا نشعر بالسعادة؟"

والإجابة تكمن في أنهم وقعوا في فخ الشيطان، وابتعدوا عن الدين الصحيح وعن اتباع أوامر الله عز وجل.

قال الله تعالى: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124) } سورة طه ١٢٤. 

لقد زين الشيطان للناس مفاهيم خاطئة عن النجاح، فأصبح البعض يعتقد أن النجاح يتمثل في جمع المزيد من المال، أو نيل السلطة، أو الترقّي الوظيفي، أو حتى في مظاهر التبرج والتعري، أو الحصول على مزيد من العشيقات، أو الاستهلاك المفرط والتسوق العشوائي، أو الحصول على المزيد من الميداليات الرياضية. ووسائل التواصل الاجتماعي تعج بمؤثرين يروجون لهذه الأفكار، مما يعزز وهم السعادة القائمة على الماديات.

أصبح الكثير من البشر يركضوا كوحوش البرية ليسابقوا الزمن في سعيهم وراء المزيد من المكاسب الدنيوية، ونسوا الغاية الحقيقية من وجودهم، وهي أن يعبدوا الله عز وجل. وأصبح أغلب البشر ممتلئين بالطاقات السلبية التي يريدوا أن ينفسوا عنها، ولكن بمزيد من الوقوع في فخ الشيطان والجري وراء سراب لا يتحقق.

لقد أصبحت الرياضات عند الكثير من الناس هي سبيل للانتقام والعدوانية والعنف، بدلا من أن تكون سبيل للاهتمام بالجسد ورعايته، فظهرت رياضات غريبة مثل "رياضة الصفع" التي تعكس قمة السادية، ورياضة فنون القتال المختلطة، التي تعكس الحقد الدفين للكثير من الرياضين، حيث يتلذذون بكسر مفصل الكوع لخصمهم أو كسر ركبتهم أو خنقهم حتى يفقدوا الوعي. لقد كشفت تلك الرياضات عن مدى تسلط الشيطان على بعض البشر.

أما مفهوم الجمال عند الكثير من النساء فقد أصبح مرتبطا بالتعري وإبراز الجسد بشكل مبالغ فيه، كما بات الهدف من التمارين الرياضية لدى بعضهن هو تكبير مناطق معينة من الجسم، مما أدى إلى تراجع مفهومي الحياء والعفة. لم يسبق في التاريخ أن اقترب الرجال من أجساد النساء بهذه الدرجة كما هو الحال اليوم، حيث أصبحت الملابس شفافة وضيقة وقصيرة. لكن هل أوجد ذلك سعادة حقيقية للمرأة؟ 

فكلما زاد العري، زادت التعاسة والقلق والاكتئاب، ووقع الناس أكثر وأكثر في فخاخ الشيطان.

أما مفهوم الزواج عند الكثير من الفتيان والفتيات، فلم يَعُد ارتباطًا شرعيًا مقدسًا، بل تحول عند الكثير من الناس إلى مجرد علاقة حميمية بلا عقد زواج، بحجة التعارف المسبق واكتساب الخبرة. لكن في النهاية، تجد العديد من الفتيات أنفسهن تعيسات ومستغلات عاطفيًا، بعد سنوات من انتظار الزواج، ليكتشفن أن الشاب يرفض الالتزام، إما لرغبته في المزيد من العلاقات أو لأنه يريد "عيش حياته" قبل الزواج. ونتيجة لذلك، ارتفع سن الزواج، ولم تَعُد المرأة تتزوج وتنجب في سن الشباب، بل أصبحت تخوض تجربة الأمومة في أعمار متأخرة تشكل خطرًا عليها.

أما مفهوم الوطنية، فقد أصبح عند كثير من الناس إلى عنصرية وكراهية للأجانب أو للشعوب الأخرى، مما أدى إلى اندلاع الحروب والصراعات، وأصبح الناس يموتون من أجل توسيع رقعة بلادهم على الخرائط، رغم أن الإنسان لا يحتاج في حياته إلا لمساحة صغيرة لا تتجاوز نصف متر ليقف عليها! لكن الطمع والجشع دفع البعض إلى المطالبة بالمزيد، متناسين أن الأرض خُلِقت ليعيش عليها الإنسان، لا ليموت من أجلها.

أما مفهوم التسوق، فقد أصبح هو إرضاء الغرور، فبات الكثير من الناس ينفقون المال بعصبية، ويشترون بلا حاجة، فقط لإشباع الرغبة في الامتلاك. لقد أصبح الكثير من الناس يخرجون طاقتهم السلبية في الشراء، كمحاولة للهروب من القلق والاكتئاب، إلا أن هذا ما زادهم إلا اكتئابا وقلقا.

أما مفهوم السلطة، فقد أصبحت عند الكثير من الناس هو وسيلة لإشباع الرغبة في الانتقام والشعور بالقوة والفوقية على الناس الآخرين، دون أي علاقة بالسعادة. كثير من الحكام والقادة المتقدمين في السن يرفضون التقاعد والاستمتاع بالحياة، لأن سعادتهم الحقيقية باتت تكمن في السيطرة والتحكم في الآخرين، وليس في عيش حياة هادئة.

وهكذا فإن انتشار التعاسة والقلق والاكتئاب اليوم ليس أمرًا عشوائيًا، بل هو نتيجة لانحراف الناس عن الفطرة السليمة وعن تعاليم الله عز وجل. فحين يصبح النجاح مقرونًا بالماديات، والجمال مرتبطًا بالتعري، والرياضة مشوبة بالعنف، والوطنية متلبسة بالكراهية، والسلطة وسيلة للقمع، فإن النتيجة الحتمية هي مجتمع يعاني من اضطرابات نفسية واجتماعية عميقة.

كيف عالج الإسلام كل تلك المشاكل؟

١- أوضح مفهوم النجاح والفوز الحقيقي:

قال الله تعالى: { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } سورة الأحزاب ٧١. 

وقال الله تعالى: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) } سورة آل عمران ١٣٢-١٣٦.

وقال الله تعالى: { ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) } سورة البقرة ٢-٥.

كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يؤتَى يومَ القيامةِ بأنعَمِ أَهْلِ الدُّنيا منَ الكفَّارِ، فيُقالُ: اغمِسوهُ في النَّارِ غَمسةً، فيُغمَسُ فيها، ثمَّ يقالُ لَهُ: أي فلانُ هل أصابَكَ نعيمٌ قطُّ ؟ فيقولُ: لا، ما أصابَني نعيمٌ قطُّ، ويؤتَى بأشدِّ المؤمنينَ ضرًّا، وبلاءً، فيقالُ: اغمِسوهُ غمسةً في الجنَّةِ، فيُغمَسُ فيها غمسةً، فيقالُ لَهُ: أي فلانُ هل أصابَكَ ضرٌّ قطُّ، أو بلاءٌ، فيقولُ: ما أصابَني قطُّ ضرٌّ، ولا بلاءٌ " صحيح ابن ماجة.

٢- أوضح حقيقة الحياة الدنيا وحذر من الانخداع بها: 

قال الله تعالى: { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) } سورة الحديد ٢٠.

٣- أوضح السبيل لسكينة القلب واطمئنانه:

قال الله تعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) } سورة الرعد ٢٨.

وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما اجتمعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللَّهِ تعالى يتلونَ كتابَ اللَّهِ ويتدارسونَه بينَهم إلَّا نزلت عليهمُ السَّكينةُ وغشيتهمُ الرَّحمةُ وحفَّتهمُ الملائِكةُ وذَكرَهمُ اللَّهُ فيمن عندَه " صحيح أبي داود.

فإن المؤمن الذي يكثر من ذكر الله يجد سعادة وطمأنينة نفسية وقلبية، لا يدركها إلا من عاشها. ولو علم ملوك الأرض هذا الشعور، لتقاتلوا عليه. وعلى العكس، نجد أن أصحاب السلطة والمال الذين ابتعدوا عن الله يعانون من صراعات نفسية وقلق لا ينتهي.

٤- دعا الناس إلى التآلف وحرم العنصرية والكراهية:

قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } سورة الحجرات ١٣.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا فَضلَ لعَرَبيٍّ على عَجَميٍّ، ولا لعَجَميٍّ على عَرَبيٍّ، ولا لأبيضَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أبيضَ إلَّا بالتَّقْوى، الناسُ من آدَمَ، وآدَمُ من تُرابٍ. " صححه الألباني.

٥- حرم الإسراف والتبذير بغير حق:

قال الله تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } سورة الأعراف ٣١.

وقال الله تعالى { وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) } سورة الإسراء ٢٦-٢٧.

وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لَوْ كانَ لِابْنِ آدَمَ وادِيانِ مِن مالٍ لابْتَغَى ثالِثًا، ولا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرابُ، ويَتُوبُ اللَّهُ علَى مَن تابَ. " صحيح البخاري.

وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما ملأَ آدميٌّ وعاءً شرًّا مِن بطنٍ، بحسبِ ابنِ آدمَ أُكُلاتٌ (أي لقيمات) يُقمنَ صُلبَهُ، فإن كانَ لا محالةَ فثُلثٌ لطعامِهِ وثُلثٌ لشرابِهِ وثُلثٌ لنفَسِهِ " صحيح الترمذي.

خلق الله تعالى للإنسان أصنافًا متنوعة من الطعام والشراب، ليس ليعيش من أجلها، بل لتكون وسيلة تعينه على الحياة. ورغم أن لكل إنسان معدةً صغيرةً يمكنه ملؤها بالقليل من الطعام، وله جسدٌ واحدٌ يكفيه لباسٌ واحدٌ يستره، إلا أن كثيرًا من الناس يقضون حياتهم في السعي المحموم وراء الاكتناز والتملك، حتى أصبح لديهم من الأموال ما لا يفيض فقط عن حاجتهم للطعام واللباس، بل يتجاوز ذلك ليكفي أجيالًا عديدة من ذريتهم، ربما لعشرين جيلًا أو أكثر.

٦- دعا الناس للعفة وغض النظر:

فأمر الرجال بغض أبصارهم عن النساء، وأمر النساء بالحشمة، ووضع قواعد للباس تحفظ كرامة الإنسان، وحرم الملابس الضيقة والشفافة والقصيرة.

ورغم انتقاد البعض للحجاب الإسلامي، إلا أن هذا النقد يقع في تناقضين:

الأول: أن أغلب الدول الأوروبية في الماضي القريب كانت تلتزم بلباس محتشم يشبه اللباس الإسلامي، وكانت النساء ينتقدن أي امرأة تكشف جزءًا من جسدها. بل إن صور السيدة مريم العذراء التي يرسمها المسيحيون دائمًا تظهرها بلباس محتشم، مما يؤكد أن الحشمة كانت هي الأصل في كل المجتمعات.

الثاني: أن لكل مكان قواعد لباس، فلا يمكن دخول حفلة رسمية بملابس رياضية، أو المشاركة في ماراثون ببدلة رسمية، وهكذا جعل الله للباس الإسلامي هدفًا ساميًا، وهو حماية المرأة من نظرات الرجال، تمامًا كما تحمي الملابس الشتوية الجسد من البرد القارس.

وقد شهدنا في عدة برلمانات أوروبية انتقادات لاذعة من رؤساء البرلمانات لعضوات بسبب ارتدائهن ملابس لا تتناسب مع الأعراف البرلمانية، حيث تم حثهن على الالتزام بزي أكثر احتشامًا يتماشى مع قواعد اللباس الخاصة بالمؤسسة. ومع ذلك، لم يعتبر أحد ذلك تعديًا على الحرية الشخصية في اختيار اللباس!

٧- دعا للزواج في سن الشباب وحرم الصداقات الحميمية:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فإنَّه أغَضُّ لِلْبَصَرِ وأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، ومَن لَمْ يَسْتَطِعْ فَعليه بالصَّوْمِ فإنَّه له وِجَاءٌ. " صحيح البخاري.

فالزواج في الإسلام ليس مجرد علاقة عابرة، بل هو ميثاق غليظ يقوم على المودة والرحمة، مما يحقق الاستقرار النفسي والمجتمعي.

٨- حرم العنف والإيذاء الجسدي وضرب الوجه:

الإسلام يحث على ممارسة الرياضة النافعة، ما دامت ملتزمة بالضوابط الشرعية، إذ إنها وسيلة للحفاظ على صحة الجسد وتقوية البدن. أما الرياضات التي تقوم على إلحاق الأذى بالآخرين، كضرب الوجوه، وكسر المفاصل، وكشف العورات، فقد تجاوزت الضوابط الشرعية، ولم تعد وسيلة لتحقيق الفائدة البدنية، بل أصبحت أداة لنشر العنف وإلحاق الضرر بالناس.

مشكلة منتصف العمر:

الكثير من الناس عند بلوغ الأربعين من عمرهم يصابون بما يعرف بمشكلة منتصف العمر، وهي فترة تشهد تحولات هرمونية في أجسادهم، قد يشعرون فيها بانخفاض طاقاتهم، إضافة إلى الإحباط والاكتئاب. في تلك الفترة تكثر حالات الطلاق، وقد يبتعد الشخص عن مخالطة الناس ومشاكلهم. ولكن في الواقع، فإن البشر ليسوا ملائكة، فلكلٍ أخطاؤه وحسناته.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: " المؤمِنُ الذي يخالِطُ الناسَ ويَصبِرُ على أذاهم، أفضَلُ من المؤمِنِ الذي لا يخالِطُ الناس ولا يَصبِرُ على أذاهم. " صحيح الجامع.

أيضا، في تلك الفترة قد تجد الشخص يميل للعيش في ذكريات الماضي، وكأن عمره قد توقف. 

ولكن من نعم الله علينا أنه أرسل الكثير من الأنبياء في منتصف أعمارهم، كإشارة لنا أن الحياة الحقيقية المفعمة بعمل الخير قد تبدأ بعد الأربعين، بل وقد تبدأ بعد الخمسين أو الستين. 

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنزلت عليه الرسالة وهو في الأربعين من عمره، فكانت الأربعون منطلقا للدعوة إلى الإسلام في الجزيرة العربية. بل وقد كان الإسلام مضطهدا في مكة لمدة ثلاث عشرة سنة، حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو في الثالثة والخمسين من عمره، فشكلت تلك المرحلة الجديدة نقطة انطلاق للدعوة الإسلامية عالميا، فأرسل صلى الله عليه وسلم رسائله إلى كسرى ملك الفرس، وهرقل إمبراطور بيزنطة، والمقوقس حاكم القبط.

ولهذا عزيزي القارئ اجعل حياتك مفعمة بالنشاط في عمل الخير ومتبعا لدين الله وداعيا إليه، فحياتك لم تتوقف بل أنت من خيل له أنها قد توقفت.

 

 

الفصل التاسع

من يهدي الله؟

(بقلم أحمد الأمير)

الهداية بيد الله عز وجل، يهدي بها من يشاء وفق علمه وحكمته وعدله.

قال الله تعالى: { اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (13) } سورة الشورى ١٣.

قال الله تعالى: { مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (46) } سورة فصلت ٤٦.

لقد قابلتُ العديد من الأشخاص الذين أخبروني أنهم يبحثون عن الحق، وأنهم قد قرأوا مقالات على شبكة الإنترنت عن الإسلام، لكنهم وجدوا العديد من الشبهات حول الإسلام، وهكذا استمروا في الاعتقاد بالإلحاد أو بدين آخر. غير أن الحقيقة هي أنهم لم يبحثوا عن الحق بصدق، بل سعوا لإيجاد ما يؤكد لهم أنهم على صواب مسبقًا وأنهم محقين بخصوص الشبهات حول الإسلام. فهم لم يقرؤوا عن الإسلام بموضوعية، بل قرأوا ما كُتب ضد الإسلام!

الشبهات حول الإسلام:

إن جميع الشبهات المثارة حول الإسلام يمكن الرد عليها بجواب واحد بسيط: 

"ضع جميع الشبهات جانبا في البداية، وانظر فقط في العقيدة، فكل دينٍ يُبنى أساسًا على عقيدته، فإن اقتنعت بعقيدة الإسلام، فستجد كل الشبهات المثارة حول الإسلام قد اختفت".

قد يحدث أن يرفض البعض الإسلام بسبب مسألة فرعية، كمسألة تعدد الزوجات، في حين أنهم في المقابل لا يجدون حرجًا في عبادة تمثال أو تقديس بشر! أي منطق هذا؟ هل من المنطق أن تُرفض عقيدة التوحيد الخالصة لأن الإسلام أباح للرجل الزواج حتى أربع نساء بشروط وضوابط؟ ولو نظرنا في الكتاب المقدس للنصارى، لوجدنا أن أنبياء كثر كان لهم عدد كبير من الزوجات، بل ومئات أحيانًا، ومع ذلك لم ينتقدهم أحد.

إن من يبحث عن الحق بصدق، سيجده. أما من يريد فقط أن يعارض وينتقد، فسيظل ينتقد مهما وُضِّحت له الأمور، لأنه لم يُفتح له باب الهداية بعد.

انظر لقوم المسيح عليه السلام، رغم صدقه وظهور المعجزات على يديه، فقد كذّبوه وسعوا لصلبه وقتله، لكن الله نجّاه منهم. وهذا يدل على أن وجود المعارضة لا يعني بالضرورة بطلان الحق، بل هو سُنة ماضية في حياة الأنبياء جميعًا. فالناس على نوعين: من يستمع ليتعلم ويفهم، ومن يستمع ليجادل ويعترض.

من يهدي الله؟

لو أراد الإنسان الذي يبحث عن الحق أن يعلم هل هو مؤهل للوصول للهداية، وهل هو من الذين قد يهديهم الله تعالى بفضله، فليسأل نفسه الأسئلة التالية:

١- هل أنت ممن يستسيغ الكذب على الناس؟ ٢- إذا وجدت الحق وعلمت أنه الحق، هل ستتبعه أم ستكابر وتتبع هواك؟ ٣- هل ترى أن تعطيل العقل أمر مقبول؟ ٤- هل ترى أن شرب الخمر، الذي يفقد الإنسان وعيه وعقله، أمر مقبول؟ ٥- هل تعتقد أن هناك أفضلية بين البشر على أساس العرق أو اللون أو الجنسية، أم تؤمن أن كل البشر سواسية وأن الأفضلية هي لمن يتقي الله ويتبع سبيله؟ ٦- هل تؤمن بعظمة الله وتستبعد عنه أي صفات نقص؟ ٧- هل تؤمن بعدل الله وحكمته في خلق الكون؟ ٨- هل تستطيع التمييز بين الصدق والكذب؟ ٩- هل أنت عادل وتشهد بالحق، حتى لو كان ذلك ضد نفسك أو أحد أقاربك؟ ١٠- هل سبق لك أن خدعت الناس أو غششتهم؟

هذه الأسئلة ليست مجرد اختبار، بل هي معيار يساعد الإنسان على التأمل في نفسه، وعلى معرفة مدى استعداده للبحث عن الحقيقة واتباعها.

العقل الإنساني والفلسفات التي لا تنتهي وتبرر كل شيء:

العقل الإنساني حين يُترك بلا ضابط، يتحول من نعمة إلى أداة للتيه والضلال. فهو قادر على تبرير كل باطل، والدفاع عن كل شذوذ، وتسويق كل انحراف تحت أسماء براقة كـ"الحرية" و"الحداثة" و"حقوق الإنسان". تجد من يُشرعن الظلم ويُجمّل الفجور ويُشرّع الفساد الأخلاقي، بحجج فلسفية لا تنتهي، تُبنى على منطق أعوج وعقل متعجرف.

إن من يظن أن العقل وحده يكفي لهداية الإنسان، لم يفهم حقيقة العقل ولا حدود قدرته. لهذا أنزل الله الوحي ليكون ميزانًا يضبط العقل، لا ليُعطل دوره، بل ليحميه من السقوط في هوة التبرير الممنهج لكل ما تهواه الأنفس. فالعقل بلا وحي كالسفينة بلا بوصلة، قد تبحر بمهارة، لكنها لا تصل أبدًا إلى الحق.

أما حين يسير العقل في ضوء الوحي، تتحقق الهداية، ويتحقق للإنسان التوازن بين الفكر والإيمان، وبين الحرية والانضباط. أما إذا انفصل العقل عن الوحي، فإنه يضل، ويبرر الباطل، ويزين المعصية، وتصبح الفلسفات وسيلة للهروب من الحقيقة لا لبلوغها.

العقل ووظيفته في التمييز بين الوحي والخرافة:

من نعم الله على الإنسان أن منحه عقلًا قادرًا على التمييز بين الحق والباطل، وبين ما هو وحيٌ من الله، وما هو من صنع البشر. فعند الحديث عن مقارنة الأديان، نجد أن الحوار لا يكون دائمًا بحثًا عن الحقيقة، بل أحيانًا مجرد دفاع عن الموروث أو الموقف الشخصي، حتى لو خالف العقل والمنطق.

قد يُعرض على أحدهم أدلة واضحة تدل على صدق الإسلام، وتكشف الإضافات البشرية والتحريفات التي لحقتبالديانات الأخرى، لكنه لا يقتنع، لا لضعف الدليل، بل لأنه لم يُرد أن يقتنع. ثم يقوم بتقديم حجج واهية وتبريرات غير منطقية، قائلا: "أنت فهمت هذا النص بطريقة، وأنا فهمته بطريقة أخرى"، حتى وإن كان النص واضحًا وضوح الشمس. 

وكأن الأمر نسبيّ، والعقل السليم لا يقبل أن يُسمّى اللون الأصفر أحمرًا، أو أن يُبرّر الإنكار بحجة الاختلاف في الفهم، عندما تكون الحقيقة أمامه جلية.

هداية الملحد:

توعد الله المشركين بنار جهنم خالدين فيها، وهم الذين يؤمنون بالله ولكنهم مع إيمانهم هذا يؤمنون بوجود شريك له في خلقه، ينفع ويضر، ويعبدون الله ولكنهم يشركون معه آخرين في العبادة.

قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا (48) } سورة النساء ٤٨.

فما بالك بمن أنكر وجود الله عز وجل بالكلية، وادعى أن هذا الكون المنظم، قد وجد بمحض الصدفة! فالإلحاد هو أعظم الذنوب وأشدها خطرا، وهو أعظم من الشرك وأشدا خطرا منه. وهو مناف للفطرة وبديهيات العقل والمنطق السليم.

الملحد وانتشار الظلم في الأرض:

كثير من الملحدين يعلّلون إلحادهم بوجود الشر والظلم في العالم، ويقولون: "لو كان هناك إله عادل، لما وُجد كل هذا الظلم!"، ولكنها حجة واهية، فأكثر الشرور والإبادات الجماعية التي شهدها التاريخ ارتكبها أشخاص ملحدون، لا يؤمنون بإله ولا بيوم حساب، مما جعلهم يتمادون في ظلمهم، لأنهم لا يرون أمامهم جنة تُطلب ولا نار تُخشى. إن غياب الإيمان بالآخرة كان دافعًا مباشرًا لظلمهم، لا مانعًا منه.

وحتى في حال الملوك الظالمين عبر التاريخ، فإن وجود ظلمهم لا ينفي وجودهم! وكذلك، وجود الظلم لا ينفي وجود الإله، بل يفتح الباب لفهم عميق لمعنى العدل الإلهي، ولِحِكَم الابتلاء والاختبار في الحياة. 

وقد حرّم الله عز وجل الظلم على نفسه، وجعله محرّمًا بين العباد، كما في الحديث القدسي:

" يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ " صحيح مسلم.

وآثار عدله في الكون كثيرة، واضحة في خلقه المتوازن، وفي نظام الأسباب والمسببات، وفي وعده ووعيده.

قال الله تعالى: { مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (46) } سورة فصلت ٤٦.

فالظلم هو من أفعال البشر، وليس من فعل الخالق، ووجوده لا ينفي وجود الله، بل يدل على حاجة الإنسان إلى عدل إلهي يُنصف المظلومين ويحاسب الظالمين.

الملحد والمقامرة:

من المثير للانتباه أن كثيرًا من الملاحدة يحبون المقامرة بالأموال، ويسخرون من المؤمنين ويصفونهم بأنهم "يعيشون على أمل وهمي"، بينما هم أنفسهم يخوضون مقامرة خاسرة على مصير أبدي!

فالملحد يقول: "لا يوجد بعث بعد الموت، ولا جنة ولا نار"، لكنه لا يملك أي دليل قاطع على ذلك. مجرد افتراض. والكارثة الكبرى: ماذا إذا خسروا رهانهم ووجدوا بعد الموت حساب، وجنة للمؤمنين ونار للكافرين؟ 

إن مقامرتهم هذه خاسرة منطقًا وعقلًا، لأنهم – بحسب تصورهم – أمام احتمالين:

١- إما ألا يكون هناك بعث بعد الموت، وفي هذه الحالة لن يخسروا شيئًا.

٢- أو أن يكون هناك بعث وحساب وجنة ونار، وفي هذه الحالة يخسرون كل شيء، ويُعرضون أنفسهم لعذاب أبدي.

أما لو آمن الإنسان بوجود البعث والحساب، فهو أيضًا أمام احتمالين:

١- إما أن يكون البعث حقًّا – كما يؤمن المؤمنون –، فيفوز بالنعيم الأبدي.

٢- وإما ألا يكون حقًّا – كما يدعي الملحدون –، فلن يخسر شيئًا، سوى التزامه بما هو في الأصل نافع له في الدنيا قبل الآخرة.

الأجدر بالعاقل أن يختار الطريق الذي لا يخسر فيه شيئًا، بل قد يربح كل شيء. أن يؤمن، لا لأنه مسلوب العقل، بل لأنه يحترم عقله ويقدّر عاقبة الأمور.

 

 

خاتمة الحديث عن لعبة الحياة

(بقلم الدكتور عبد الرحمن بن عبد الكريم الشيحة)

شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودلالة الناس على الخير وتحذيرهم من الشر من المبادئ الأساسية في الشريعة الإسلامية التي أمر الله بها عباده، وهذا ما دفعني عزيزي القارئ لتقديم الخير بين يديك ودلالتك على ما أعتقد اعتقاداَ جازماَ صدقه وحق وقوعه، والخيار بين يديك. 

قال الله تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) } سورة المائدة ٢. 

عزيزي القارئ أنت اليوم في زمن المهلة، منحك الله فترة لتراجع فيها حساباتك وتعود الى الطريق الصحيح والدين المقبول عند الله، قبل أن يداهمك الموت فتندم ولات حين مندم. 

قال الله تعالى: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ۖ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ (37) } سورة فاطر ٣٦-٣٧.

قد من الله عليك بالعقل لتقارن وتعرف الصواب من غيره، وتعرف ما يتماشى مع الفطرة السليمة من غيره، فلا تكن إمًعة لا تملك رأياً خاصاً بك وتعتمد على رأي الآخرين في تحديد توجهاتك، فهذا العمل مما مقته الإسلام وحذر منه. 

قال صلى الله عليه وسلم تحذيراً من ذلك: " لا تَكونوا إمَّعةً، تقولونَ: "إن أحسنَ النَّاسُ أحسنَّا، وإن ظلموا ظلَمنا"، ولَكن وطِّنوا أنفسَكم، إن أحسنَ النَّاسُ أن تُحسِنوا، وإن أساءوا فلا تظلِموا. " الترمذي – حسن غريب.

وهذا مما لاشك مزلق خطير في الأمور المصيرية خاصة الدينية منها، لأن من أخذت برأيه الان سيكون أول من يتبرأ منك في الآخرة. 

قال الله تعالى: { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) } سورة البقرة ١٦٦-١٦٧.

إن عقلك دليلك للمعرفة، وذلك من خلال المقارنات بين الأشياء، وهذا ينطبق أيضاً في مجال الشرائع السماوية، فمعرفة تسلسل الشرائع السماوية عبر العصور سيكون مساعدا في معرفة ما يجب اتباعه منها، فالتسلسل المنطقي يقتضي الإيمان بالشريعة الخاتمة التي أكملت ما كان قبلها من الشرائع وصدقت بها وبرسلها. 

قال الله تعالى مخاطبا نبيه والمؤمنين: { قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) } سورة آل عمران ٨٤. 

الشريعة التي أرسلت للناس كافة وليس لقوم دون قوم، والتي أنزلت على النبي محمد صلى الله عليه وسلم والتي ارتضاها الله لتكون الشريعة الخاتمة لجميع الشرائع، ويكون نبيها هو النبي الخاتم لجميع الأنبياء والمرسلين. 

قال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) } سورة سبأ ٢٨.

وليس هذا الحديث من باب التدخل في أمور الناس الشخصية ومحاولة إكراههم على ترك معتقداتهم، لأن هذا مما نهت عنه الشريعة الإسلامية، ولكنه من باب تبيان الحق لمن قد يكون تلقى معلومات مغلوطه ومحرفة عن هذه الشريعة الربانية، التي لم تُحَارَب شريعة كما حوربت من خلال التشويه الإعلامي والثقافي. 

قال الله تعالى: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) } سورة يونس ٩٩.

وهو أيضا من باب حب الخير لهم فيما ينفعهم في دينهم ودنياهم، حيث نظمت هذه الشريعة أمور الناس الدينية في العقائد والأخلاق والمعاملات، وأمورهم الدنيوية في السياسة والاقتصاد والاجتماع، فالناس فيها سواسية، والعدل بينهم فريضة، والإحسان إليهم واجب، والرحمة بهم  مطلب، والتعاون بينهم هدف لنجاحهم في الحياة، والاحترام المتبادل بينهم مصدراً لسعادتهم. 

قال صلى الله عليه وسلم: " أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وأحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سُرُورٌ يدْخِلُهُ على مسلمٍ، أوْ يكْشِفُ عنهُ كُرْبَةً، أوْ يقْضِي عنهُ دَيْنًا، أوْ تَطْرُدُ عنهُ جُوعًا " السلسلة الصحيحة - صحيح.

وقال صلى الله عليه وسلم: " لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ. " صحيح البخاري.

دعواتي لربي أن يحل الأمن والسلام على ربوع هذا الكون، ليعيش الناس في محبة وسلام، وأن يتولى قيادة هذا العالم من يكون مخلصا لربه محباً لشعبه صادقا في أقواله وأفعاله باذلا كل ما في وسعه لإسعادهم بعيدا عن تحقيق مصالحه الشخصية، داعيا لعبادة الله وحده آمراً بمكارم الأخلاق ناهياً عن مساوئ الأخلاق، مجتهداً لما فيه صلاحهم، رفيقاً بهم يرحم صغيرهم وضعيفهم ويجل كبيرهم ويعرف حق علمائهم ولا يغلق بابه أمام حاجاتهم، هذا هو القائد الصالح الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " اللَّهُمَّ مَن وَلِيَ مِن أَمْرِ أُمَّتي شيئًا فَشَقَّ عليهم، فَاشْقُقْ عليه، وَمَن وَلِيَ مِن أَمْرِ أُمَّتي شيئًا فَرَفَقَ بهِمْ، فَارْفُقْ بهِ. " صحيح مسلم

 

 

دمتم في رعاية الله وحفظه