هل تجتمع الأسرة بأفرادها في الجنة ؟
Одговор
الجواب :
الحمد لله
أولا :
الجنة دار الكرامة التي أعدها الله تعالى لعباده المؤمنين ، فيها من النعيم والسعادة ما لا يخطر على بال بشر ، ولا يبلغه خيال أحد ، فمن دخلها فقد سعد السعادة الحقيقية الأبدية ، وفاز فوزا عظيما .
قال الله عز وجل : ( فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) السجدة/17
ومن السعادة التي تكفل الله بها لعباده المؤمنين أن يجمع شمل الأسرة الواحدة ، الوالدين والأولاد ، بعد دخولهم الجنة جميعا برحمة الله ، وشفاعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، جاء هذا الوعد في كتاب الله الكريم ، آيات تتلى إلى يوم القيامة ، حيث يقول عز وجل :
( وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) الطور/21
قال ابن عباس في تفسير هذه الآية :
" إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه ، ثم قرأ :
( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء ) " انتهى . رواه ابن أبي حاتم في "التفسير" ، وابن أبي الدنيا في "العيال" (رقم/357) وغيرهم . وانظر للتوسع: تفسير ابن جرير الطبري (22/467)
وهذا الوعد مصداق ما جاء أيضا في قوله عز وجل : ( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ) الرعد/23، وقوله تعالى : ( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ) الزخرف/70
قال الحافظ ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (4/451) :
" وقوله تعالى : ( ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ) أي : يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء ، والأهلين ، والأبناء ، ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين ؛ لتقر أعينهم بهم ، حتى إنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى ، من غير تنقيص لذلك الأعلى عن درجته ، بل امتنانا من الله وإحسانا ، كما قال تعالى : ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين ) " انتهى.
وجاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (المجموعة الثانية، 2/409) :
" السؤال : هل نلتقي مع أبنائنا في الآخرة ، وكلنا أمل في ذلك ؟ نأمل منكم شرح هذا الموضوع ، وأرشدونا إلى كل ما ترونه خيرا . فجزاكم الله خير الجزاء .
فكان الجواب :
الله جل وعلا أخبر أنه بفضله ومنه وكرمه يلحق ذرية المؤمنين بآبائهم في المنزلة وإن لم يبلغوا منزلتهم في العمل ، فقال جل شأنه : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) " انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين في "فتاوى نور على الدرب" (العقيدة/ الإيمان باليوم الآخر) :
" إذا دخل أحد الجنة هل يتعرف على أقاربه ؟ نعم يتعرف على أقاربه وغيرهم من كل ما يأتيه سرور قلبه ؛ لقول الله تعالى : ( وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) بل إن الإنسان يجتمع بذريته في منزلةٍ واحدة إذا كانت الذرية دون منزلته ، كما قال تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِين ) " انتهى.
ثانيا :
ينبغي أن يفرق هنا بين أمرين :
الأول : تزاور أهل الجنة ، وتعارفهم ، ولقاؤهم فيما بينهم وهم في جنات النعيم ، فهذا من تمام نعيم أهل الجنة ، ولا مانع من أن يزور الأدنى منزلة في الجنة ، من هو فوقه فيها ، كما أن ذلك حاصل في الدنيا .
قال تعالى : ( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ) الصافات/50-61 .
قال ابن كثير رحمه الله :
" يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنَّهُ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ، أَيْ: عَنْ أَحْوَالِهِمْ، وَكَيْفَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا، وَمَاذَا كَانُوا يُعَانُونَ فِيهَا؟ وَذَلِكَ مِنْ حَدِيثِهِمْ عَلَى شَرَابِهِمْ، وَاجْتِمَاعِهِمْ فِي تُنَادِمِهِمْ وَعِشْرَتِهِمْ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَهُمْ جُلُوسٌ عَلَى السُّرُرِ، وَالْخَدَمِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، يَسْعَوْنَ وَيَجِيئُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ عَظِيمٍ، مِنْ مَآكِلَ وَمُشَارِبَ وَمَلَابِسَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. " . انتهى من "تفسير ابن كثير" (7/15) . وينظر : "حادي الأرواح" لا بن القيم (1/259-263) .
وأما الجمع بين الأبناء والآباء ، أو غيرهم من الأهل ، لينزلوا منزلة واحدة في الجنة ، على وجه الدوام ، فالأظهر ـ والله أعلم ـ أن ذلك خاص بمن مات صغيرا من الذرية والأبناء ؛ فيمن الله على آبائهم في الجنة ، ويرفع أبناءهم إلى منزلتهم ، لتقر أعينهم بأبنائهم فيها .
قال ابن القيم رحمه الله ، بعد حكاية الخلاف في هذه المسألة :
" واختصاص الذرية هاهنا بالصغار أظهر لئلا يلزم استواء المتأخرين بالسابقين في الدرجات ولا يلزم مثل هذا في الصغار فان أطفال كل رجل وذريته معه في درجته والله اعلم " انتهى من "حادي الأرواح" (398) .
وهذا هو اختيار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله أيضا . ينظر: "الباب المفتوح" (161/4) .