فَوَائِدُ الذِّكْرِ وَعَوَائِدُه

فَوَائِدُ الذِّكْرِ وَعَوَائِدُه



لقد تقدم معنا بيانُ أن ذكر الله هو أجل الأعمال وأفضلها، وأن العمل الذي يقوم به العبد كلما كان ذكره لله فيه أكثر كان أجره فيه أكثر.

وذلك لما رواه الإمام أحمد والطبراني عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (( أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ أَيُّ الْمُجَاهِدِينَ أَعْظَمُ أَجْرًا يَا رَسُولُ اللَّه ؟ قَالَ أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى ذِكْرًا ، قَالَ فَأَيُّ الصَّائِمِينَ أَعْظَمُ أَجْرًا ؟ قَالَ أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ ذِكْرًا ، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالْحَجَّ وَالصَّدَقَةَ كُلُّ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ ذِكْرًا ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ذَهَبَ الذَّاكِرُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ !! ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَجَلْ )) (1) .

قال ابن القيم رحمه الله : (( أن أفضل أهل كلِّ عملٍ أكثرهم فيه ذكراً لله عز وجل ؛ فأفضلُ الصوَّام أكثرهم ذكراً لله عز وجل في صومهم ، وأفضل المتصدقين أكثرهم ذكراً لله عز وجل ، وأفضل الحجاج أكثرهم ذكراً لله  عز وجل، وهكذا سائر الأعمال))(2).

والله سبحانه لا يأمر بالإكثار من شيء إلا لأهميته وعظيم قدره وكثرة عوائده وفوائده التي يحصِّلها العبد الذاكر، والذكر له فوائدُ لا تحصى وثمراتٌ وعوائدُ لا تستقصى ، ولعل من المناسب في هذا المقام تذكير الصائمين بشيء من فوائد الذكر :

فمنها: أنه يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره قال تعالى: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [الزخرف:36] ، وقال سبحانه: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } [الأعراف:201] ، وثبت في وصية يحيى بن زكريا عليه السلام لبني إسرائيل كما في الحديث الطويل الذي أمرهم فيه أولاً بالتوحيد ثم بالصلاة والصيام والصدقة ثم قال : ((وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ ؛ كَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ ))(3).

ومن فوائده : أنه يجلب لقلب الذاكر الفرح والسرور والراحة والطمأنينةَ قال تعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [الرعد: 28] ، وحقيق بقلوب المؤمنين وحري بها أن لا تطمئن ولا ترتاح إلا بذكر الله لا بشيء سواه ، والذكر هو حياة القلب وقوته فلا تحيا القلوب ولا تتغذى إلا به يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (( الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء!! ))(4).

ومن فوائده : أن صاحبه يحظى بذكر الله له ، قال تعالى: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } [البقرة:152] ، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: ((فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي ، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُ))(5).

 ومن فوائد الذكر : أنه يحط الخطايا ويذهبها ، وينجي الذاكر من عذاب الله ، ففي المسند عن معاذ بن جبل رضي الله عنه  قال : قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: ((مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلًا قَطُّ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ))(6).

ومن فوائده : أنه يترتب عليه من العطاء والثواب والفضل ما لا يترتب على غيره من الأعمال ، مع أنه أيسر العبادات ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ )) (7) وهذا مثالٌ واحد لما يترتب على الذكر من العطاء والثواب.

ومن فوائد الذكر: أنه غراس الجنة ، روى الترمذي من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُمْ : أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ وَأَنَّهَا قِيعَانٌ ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ )) (8).

ومن فوائده : أنه نور لصاحبه يسعى به في الدنيا ، ويضيء له قبره ، ويضيء أمامه على الصراط يوم القيامة ؛ { يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ } [النور: 35ـ37] ، وقال سبحانه: { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا }  [الأنعام:122] ، فالمؤمن يستنير بالإيمان بالله وبمحبته وذكره ، والغافل عن ذلك في ظلمات بعضها فوق بعض ، فالفلاح كل الفلاح في الحصول على هذا النور ، والشقاء كلّ الشقاء في فواته وحرمانه ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثِر من سؤال الله تبارك وتعالى هذا النور بأن يجعله في جميع أعضائه وذرّاته الظاهرة والباطنة ، وأن يجعله محيطاً به من جميع جهاته .

ومن فوائد الذكر : أنه يوجب صلاة الله U وملائكته على الذاكر ، وهذا هو الفلاح والظفر بعينه قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } [الأحزاب:41-43].

ومن فوائده : أنه شفاءٌ للقلب وأمانٌ من النفاق ، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }  [المنافقون:9] ، وقال عن المنافقين : { وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا }  [النساء:142] ، قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وقد سُئل عن أهل الجمل : أمنافقون هم؟ فقال: ((المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً)) (9) ، وقال مكحول بن عبد الله رحمه الله : ((إن ذكر الله شفاء، وإن ذكر الناس داء)) (10).

ومن فوائد الذكر : أن إدامته تنوب عن الطاعات وتقوم مقامها سواءٌ كانت بدنية أو مالية، أو مالية بدنية كحج التطوع وقد جاء ذلك صريحاً فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث شكوى الفقراء للنبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الدثور قد ذهبوا بالأجور فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : (( أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ ؟ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً )) (11) ، فجعل الذكر عوضاً لهم عما فاتهم من الحج والعمرة والجهاد ، وفي حديث عبد الله بن بسر الذي خرجه الترمذي ((أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ ؟ قَالَ لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ)) (12) ، فدله صلى الله عليه وسلم وهو الناصح على ما يتمكن به من شعائر الإسلام إذا أحبه وتعلق به .

فهذا غيضٌ من فيض وقليلٌ من كثير من عوائد الذكر المباركة وثماره اليانعة ونتائجه العظيمة ؛ فحري بعباد الله المؤمنين أن يكثروا من ذكر الله لينالوا هذه الأجور العظيمة والأفضال الكريمة والثمار المباركة ولاسيما ونحن نعيش هذا الشهر الكريم والموسم العظيم شهر الذكر والقرآن وموسم الطاعة والإحسان ، ونسأل الله الكريم أن ينير قلوبنا بذكره ، وأن يستعمل أوقاتنا في طاعته ، وأن يجعل ألسنتنا دائماً رطبةً بذكره وشكره وحُسن عبادته.

*****

 ----------------------

(1) رواه الإمام أحمد في المسند (15553) والطبراني في الدعاء (1887 ) واللفظ له .

(2) الوابل الصيب لابن القيم (ص: 152 السادسة والخمسون من فوائد الذكر)

(3) رواه الترمذي (2863) وقال: حسن صحيح .

(4) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (10/85) . ونقله ابن القيم عنه في الوابل الصيب(ص: 85 ) .

(5) صحيح البخاري (7405)، ومسلم (2675).

(6) مسند الإمام أحمد (21978) .

(7) صحيح البخاري (3293)، ومسلم (2691).

(8) رواه الترمذي (3462)  .

(9) رواه البيهقي في سنن الكبرى (16499) .

(10) رواه البيهقي في شعب الإيمان (717) .

(11) متفق عليه ؛ البخاري (843) ، ومسلم (595) واللفظ له .

(12) سنن الترمذي (3375) .