أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير- ط: التفاسير - المجلد السادس

يوجد طبعة أخرى في نفس الصفحة طبعة مكتبة العلوم والحكم بالمدينة المنورة
http://www.islamland.com/arb/books/view/13460

هذا تفسير موجز لكتاب الله تعالى القرآن الكريم وضعه الإمام "أبو بكر جابر الجزائري" مراعياً فيه حاجة المسلمين اليوم إلى فهم كلام الله تعالى الذي هو مصدر شريعتهم وسبيل هدايتهم هو عصمتهم من الأهواء وشفاؤهم من الأدواء، قال تعالى "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين".

هذا ونظراً لليقظة الإسلامية اليوم فقد عكف المصنف إلى وضع تفسيره هذا محاولاً الجمع فيه بين المعنى المراد من كلام الله، وبين اللفظ القريب من فهم المسلم اليوم. حيث بين فيه العقيدة السلفية المنجية، والأحكام الفقهية الضرورية، هادفاً من وراء هذا التفسير تربية ملكة التقوى في النفوس، بتحبيب الفضائل وتبغيض الرذائل، والحثّ على أداء الفرائض واتقاء المحارم، مع التجمل بالأخلاق القرآنية والتحلي بالآداب الربانية.

وبالعودة لمضمون هذا التفسير نجد أنه جاء متميزاً بالميزات التالية: أولاً: الوسطية بين الاختصار المخل والتطويل الممل، ثانياً: اتباع منهج السلف في العقائد والأسماء والصفات، ثالثاً: الالتزام بعدم الخروج عن المذاهب الأربعة في الأحكام الفقهية، رابعاً: إخلاؤه من الإسرائيليات صحيحها وسقيمها، إلا ما لا بد منه لفهم الآية الكريمة وكان مما تجوز روايته لحديث، خامساً: إغفال الخلافات التقسيمية، سادساً: الالتزام بما رجحه ابن جرير الطبري في تفسيره عند اختلاف المفسرين في معنى الآية، سابعاً: إخلاء الكتاب في المسائل النحوية والبلاغية والشواهد العربية، ثامناً: عدم التعرض للقراءات إلا نادراً حيث يتوقف معنى الآية على ذلك، واقتصار الأحاديث على الصحيح والحسن منها، تاسعاً: خلو التفسير من ذكر الأقوال وإن كثرت والالتزام بالمعنى الراجح الذي عليه جمهور المفسرين من السلف الصالح.

وقد جعل المؤلف الكتاب دروساً منظمة منسقة. فقد يجعل الآية الواحدة أو الآيتين أو الأكثر درساً فيشرح كلماتها ثم يبين معانيها ويذكر هدايتها المقصودة منها للاعتقاد والعمل. وجعل الآيات مشكولة على قراءة حفص.

http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



الكتاب : أيسر التفاسير
المؤلف : أبو بكر الجزائري
مصدر الكتاب : موقع التفاسير
http://www.altafsir.com
[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]

 

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
شرح الكلمات :
{ يمشون على الأرض هوناً } : في سكينة ووقار .
{ وإذا خاطبهم الجاهلون } : أي بما يكرهون من الأقوال .
{ قالوا سلاماً } : أي قولاً يسلمون به من الإثم ، ويسمى هذا سلام المتاركة .
{ سجداً وقياماً } : أي يصلون بالليل سجداً جمع ساجد .
{ إن عذابها كان غراماً } : أي عذاب جهنم كان لازماً لا يفارق صاحبه .
{ إنها ساءت متسقراً ومقاماً } : أي بئست مستقراً وموضع إقامة واستقرار .
{ لم يسرفوا ولم يقتروا } : أي لم يبذروا ولم يضيقوا .
{ وكان بين ذلك قواماً } : أي بين الإسراف والتقتير وسطاً .
{ التي حرم الله } : وهي كل نفس آدمية إلا نفس الكافر المحارب .
{ إلا بالحق } : وهو واحد من ثلاث : كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو قتل ظلم وعدوان .
{ يلق أثاماً } : أي عقوبة شديدة .
{ يبدل الله سيئاتهم حسنات } : بأن يمحو بالتوبة سوابق معاصيهم ، ويثبت مكانها لواحق طاعاتهم .
معنى الآيات :
لما أنكر المشركون الرحمن { وقالوا وما الرحمن } وأبوا أن يسجدوا للرحمن ، وقالوا أن محمداً ينهانا عن الشرك وهو يدعو مع الله الرحمن فيقول يا الله يا رحمن ، ناسب لتجاهلهم هذا الاسم الرحمن أن يذكر لهم صفات عباد الرحمن ليعرفوا الرحمن بعباده على حد « خيركم من إذا رُؤي ذُكر الله » فقال تعالى { وعباد الرحمن } ووصفهم بثمان صفات وأخبر عنهم بما أعده لهم من كرامة يوم القيامة ، الأولى في قوله { الذي يمشون على الأرض هوناً } أي ليسوا جبابرة متكبرين ، ولا عصاة مفسدين ولكن يمشون متواضعين عليهم السكينة والوقار ، { وإذا خاطبهم الجاهلون } أي السفهاء بما يكرهون من القول قالوا قولاً يسلمون به من الإثم فلم يردوا السيئة بالسيئة ولكن بالحسنة .
الثانية : في قوله { والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً } أي يقضون ليلهم بين السجود والقيام يصفون أقدامهم ويذرفون دموعهم على خدودهم خوفاً من عذاب ربهم .
والثالثة : في قوله { والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم } إنهم لقوة يقينهم كأنهم شاعرون بلهب جهنم يدنو من وجوههم فقالوا { ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما } أي مُلحّاً لازماً لا يفارق صاحبه ، { إنها ساءت } أي جهنم { مستقراً ومقاماً } أي بئست موضع إقامة واستقرار .
والرابعة : في قوله { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا } في إنفاقهم فيتجاوزوا الحد المطلوب منهم ، ولم يقتروا فيقصروا في الواجب عليهم وكان إنفاقهم بين الإسراف والتقتير قواماً أي عدلاً وسطاً .
والخامسة : { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر } أي لا يسألون غير ربهم قضاء حوائجهم كما لا يشركون بعبادة ربهم أحداً { ولا يقتلون النفس التي حرم الله } قتلها وهي كل نفس آدمية ما عدا نفس الكافر المحارب فإنها مباحة القتل غير محرمة . { إلا بالحق } وهو واحدة من ثلاث خصال بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث الصحيحين
(3/95)
________________________________________
« لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة » { ولا يزنون } أي لا يرتكبون فاحشة الزنا والزنا نكاح على غير شرط النكاح المباح وقوله تعالى { ومن يفعل ذلك } هذا كلام معترض بين صفات عباد الرحمن . أي ومن يفعل ذلك المذكور من الشرك بدعاء غير الرب أو قتل النفس بغير حق ، أو زنا { يلق إثاماً } أي عقاباً { يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه } أي في العذاب { مهاناً } مخزياً ذليلاً ، وقوله تعالى { إلا من تاب } من الشرك وآمن بالله وبلقائه وبرسوله وما جاء به من الدين الحق { وعمل صالحاً } من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج بيت الله الحرام { فأولئك } المذكورون أي التائبون { يبدل الله سيئاتهم حسنات } أي يمحو سيآتهم بتوبتهم ويكتب لهم مكانهم صالحات أعمالهم وطاعاتهم بعد توبتهم { وكان الله غفوراً رحيماً } ذا مغفرة للتائبين من عباده ذا رحمة بهم فلا يعذبهم بعد توبته عليهم ، وقوله { ومن تاب } من غير هؤلاء المذكورين أي رجع إلى الله تعالى بعد غشيانه الذنوب { وعمل صالحاً } بعد توبته { فإنه يتوب إلى الله متاباً } أي يرجع إليه تعالى مرجعاً مرضياً حسناُ فيكرمه وينعمه في دار كرامته .
هدايته الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان صفات عباد الرحمن الذين بهم يعرف الرحمن عز وجل .
2- فضيلة التواضع والسكينة في المشي والوقار .
3- فضيلة رد السيئة بالحسنة والقول السليم من الإثم .
5- فضيلة الاعتدال والقصد في النفقة وهي الحسنة بين السيئتين .
6- حرمة الشرك وقتل النفس والزنى وأنها أمهات الكبائر .
7- التوبة تجب ما قبلها . والندب إلى التوبة وأنها مقبولة ما لم يغرغر .
(3/96)
________________________________________
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
شرح الكلمات :
{ لا يشهدون الزور } : أي لا يحضرون مجالسة ولا يشهدون بالكذب والباطل .
{ وإذا مروا باللغو } : أي بالكلام السيء القبيح وكل مالا خير فيه .
{ مروا كراماً } : أي معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن سماعة أو المشاركة فيه .
{ وإذا ذكروا بآيات ربهم } : أي إذا وعظوا بآيات القرآن .
{ لم يخروا عليها صماً وعمياناً } : أي لم يطأطئوا رؤوسهم حال سماعها عمياً لا يبصرون ولا يصماً لا يسمعون بل يصغون يسمعون ويعون ما تدعو إليه ويبصرون ما تعرضه .
{ قرة أعين } : أي ما تقر به أعيننا وهو أن تراهم مطيعين لك يعبدونك وحدك .
{ واجعلنا للمتقين إماماً } : أي من عبادك الذين يتقون سخطك بطاعتك قدوة يقتدون بنا في الخير .
{ يجزون الغرفة } : أي الدرجة العليا في الجنة .
{ بما صبروا } : أي على طاعتك بامتثال الأمر واجتناب النهي .
{ حسنت مستقراً ومقاماً } : أي صلحت وطابت مستقراً لهم أي موضع استقرار وإقامة .
{ ما يعبأ بكم ربي } : أي ما يكترث ولا يعتد بكم ولا يبالي .
{ لولا دعاؤكم } : إياه ، ودعاؤه إياكم لعبادته بذكره وشكره .
{ فسوف يكون لزاماً } : أي العذاب لزاماً أي لازماً لكم في بدر ويوم القيامة .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في ذكر صفات عباد الرحمن الذي تجاهله المشركون وقالوا : وما الرحمن فها هي ذي صفات عباده دالة عليه وعلى جلاله وكماله ، وقد مضى ذكر خمس صفات :
والسادسة : في قوله تعالى { والذين لا يشهدون الزور } الزور هو الباطل والكذب وعباد الرحمن لا يحضرون مجالسة ولا يقولونه ولا يشهدونه ولاينطقون به { وإذا أمروا باللغو } وهو كل عمل وقول لا خير فيه { مروا كراماً } أي مكرمين أنفسهم من التلوث به ، بالوقوع فيه .
والسابعة : في قوله تعالى { والذين إذا ذكروا بآيات ربهم } أي إذا ذكرهم أحد بآيات القرآن كتاب ربهم عز وجل لم يحنوا رؤوسهم عليها صماً حتى لا يسمعوا مواعظها ولا عمياناً حتى لا يشاهدوا آثار آياتها بل يحنون رؤوسهم سامعين لها واعين لما تقوله وتدعو إليه مبصرين آثارها مشاهدين وقائعها متأثرين بها .
والثامنة : فى قوله تعالى { والذين يقولون } أي في دعائهم { ربنا هب لنا } أي أعطنا { من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين } أي ما تقر به أعيننا وذلك بأن نراهم يتعلمون الهدى ويعملون به طلباً لمرضاتك يا ربنا { واجعلنا للمتقين } من عبادك الذين يتقون سخطك بطاعتك بفعل أمرك وأمر رسولك واجتناب نهيك ونهي رسولك { واجعلنا للمتقين إماما } أي قدوة صالحة يقتدون بنا في الخير يا ربنا . قال تعالى مخبراً عنهم بما أنعم به عليهم . { أولئك } أي السامون أنفساً العالون أرواحاً { يجزون الغرقة } وهي الدرجة العليا في الجنة { بما صبروا } على طاعة مولاهم ، وما يلحقهم من أذى في ذات ربهم { ويلقون فيها } أي تتلقاهم الملائكة بالتهاني والتحيات { تحية وسلاماً } أي بالدعاء بالحياة السعيدة والسلامة من الآفات إذ هي حياة بلا ممات ، وسعادة بلا منغصات .
(3/97)
________________________________________
وقوله تعالى { خالدين فيها } أي في تلك الغرفة في أعلى الجنة { حسنت مستقراً } أي طابت موضع إقامة واستقرار . إلى هنا انتهى الحديث عن صفات عباد الرحمن وبيان جزائهم عند ربهم . وقوله تعالى : { قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم } أي قل يا رسولنا لأولئك المشركين المنكرين للرحمن { ما يعبأ بكم ربي } أي ما يكترث لكم أو يبالي بكم { لولا دعاؤكم } إياه أي عبادة من يعبده منكم إذ الدعاء هو العبادة ما أبالي بكم ولا أكترث لكم . أما وقد كذبتم بي وبرسولى فلم تعبدوني ولم توحدوني وإذاً { فسوف يكون } العذاب { لزاماً } وقد أذقتموه يوم بدر ، وسوف يلازمهم في قبورهم إلى نشورهم ، وسوف يلاحقهم حتى مستقرهم في جهنم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- حرمة شهود الزور وحرمة شهادته .
2- فضيلة الإعراض عن اللغو فعلاً كان أو قولاً .
3- فضيلة تدبر القرآن وحسن الاستماع لتلاوته والاتعاظ بمواعه والعمل بهدايته .
4- فضيلة علو الهمة وسمو الروح وطلب الكمال والقدوة في الخير .
5- لا قيمة للإنسان وهو أشرف الحيوانات لولا عبادته الله عز وجل فإذا لم يعبده كان شر الخليقة .
(3/98)
________________________________________
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
شرح الكلمات :
{ طسم } : الله أعلم بمراده بذلك .
{ الكتاب المبين } : أي القرآن المبين للحق من الباطل .
{ باخع نفسك } : أي قاتلها من الغم .
{ ألا يكونوا مؤمنين } : أي من أجل عدم إيمانهم بك .
{ آية } : أي نخوفهم بها .
{ من ذكر } : أي من قرآن .
{ معرضين } : أي غير ملتفتين إليه .
{ زوج كريم } : أي صنف حسن .
{ العزيز } : الغالب على أمره ومراده .
{ الرحيم } : بالمؤمنين من عباده .
معنى الآيات :
طسم هذه أحد الحروف المقطعة تكتب طسم ، وتقرأ طا سين ميم بإدغام النون من سين في الميم الأولى من ميم والله أعلم بمراده منها ، وفيها إشارة إلى أن القرآن مؤلف من مثل هذه الحروف وعجز العرب عن تأليف مثله بل سورة واحدة من مثله دال قطعاً على أنه كلام الله ووحيه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم . وقوله { تلك آيات الكتاب } أي الآيات المؤلفة من مثل هذه الحروف هي آيات الكتاب أي القرآن { المبين } أي المبين للحق من الباطل والهدى من الضلال ، والشرائع والأحكام . وقوله تعالى { لعلك باخع نفسك } أي قاتلها ومهلكها { ألا يكونوا مؤمنين } أي إن لم يؤمن بك وبما جئت به قومك ، فأشفق على نفسك يا رسولنا ولا تعرضها للغم القاتل فإنه ليس عليك هدايتهم وإنما عليك البلاغ وقد بلغت ، إنا لو أردنا هدايتهم بالقسر والقهر لما عجزنا عن ذلك { إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين } أي إنا لقادرون على أن ننزل عليهم من السماء آية كرفع جبل أو إنزال كوكب أو رؤية ملك فظلت أي فتظل طوال النهار أعناقهم خاضعة ، تحتها تتوقع فى كل لحظة نزولها عليهم فتهلكهم فيؤمنوا حينئذ إيمان قسر وإكراه ومثله لا ينفع صاحبه فلا يزكي نفسه ولا يطهر روحه لأنه غير إرادي له ولا اختياري .
وقوله تعالى { وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث } أي وما يأتي قومك المكذبين لك من موعظة قرآنية وحجج وبراهين تنزيلية تدل على صدقك وصحة دعوتك ممًّا يحدثه الله إليك ويوحي به إليك لتذكرهم به إلا أعرضوا فلا يستمعون إليه ولا يفكرون فيه .
وقوله تعالى : { فقد كذبوا به } يخبر تعالى رسوله بأن قومه قد كذبوا بما أتاهم من ربهم من ذكر محدث وعليه { فسيأتيهم أنباء } أي أخبار { ما كانوا به يستهزئون } وهو عذاب الله تعاغلى الذي كذبوا برسوله ووحيه وجحدوا وأنكروا طاعته وفي الآية وعيد شديد وهم عرضة له في أية لحظة إن لم يتوبوا .
وقوله تعالى { أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فهيا من كل زوج كريم } إن كانت علة هذا التكذيب من هؤلاء المشركين هي إنكارهم للبعث والجزاء وهو كذلك فلم لا ينظرون إلى الأرض الميتة بالقحط بنزل الله تعالى عليها ماء من السماء فتحيا به بعد موتها فينبت الله فيها من كل زوج أي صنف من أصناف النباتات كريم أي حسن .
(3/99)
________________________________________
أليس في ذلك آية على قدرة الله تعالى على إحياء الموتى وبعثهم من قبورهم وحشرهم للحساب والجزاء ، فلم لا ينظرون؟ { إن في ذلك لآية } أي علامة واضحة للمشركين على صحة البعث والجزاء . ففي إحياء الأرض بعد موتها دليل على إحياء الناس بعد موتهم . وقوله تعالى { وما كان أكثرهم مؤمنين } يخبر تعالى أنَّ فيما ذكر من إنباته أصناف النباتات الحسنة آية على البعث والحياة الثانية ولكن قضى الله أزلاً أن أكثر هؤلاء المشركين لا يؤمنون وقوله { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم { وإن ربك لهو العزيز } وواصل دعوتك في غير غم ولا هم ولا حزن وإن العاقبة لك وللمؤمنين بك المتبعين لك .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان أن القرآن الكريم معجز لأنه مؤلف من مثل طا سين ميم ولم يستطع أحد أن يؤلف مثله .
2- بيان ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يناله من الغم والحزن وتكذيب قومه له .
3- بيان أن إيمان المكره لا ينفعه ، ولذا لم يكره الله تعالى الكفار على الإيمان بواسطة الآيات .
4- التحذير من عاقبة التكذيب بآيات الله وعدم الاكتراث بها .
5- في إحياء الأرض بالماء وإنبات النباتات المختلفة فيها دليل على البعث الآخر .
(3/100)
________________________________________
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
شرح الكلمات :
{ وإذ نادى ربك } : أي اذكر لقومك يا رسولنا إذ نادى ربك موسى .
{ إن ايت } : أي بأن ائت القوم الظالمين .
{ ألا يتقون } : ألا يخافون الله ربهم ورب آبائهم الأولين منا لهم ما دهاهم؟
{ ويضيق صدري } : أي من تكذيبهم لي .
{ ولا ينطلق لساني } : أي للعقدة التي به .
{ فأرسل إلى هرون } : أي إلى أخي هرون ليكون معي في أبلاغ رسالتي .
{ ولهم على ذنب } : أي ذنب القبطي الذي قتله موسى قبل خروجه إلى مدين .
{ قال كلا } : أي قال الله تعالى له كلا أي لا يقتلونك .
{ فاذهبا } : أنت وهرون .
{ إنا رسول رب العالمين } : أي إليك .
معنى الآيات :
قوله تعالى { وإذ نادى ربك موسى } هذا بداية سلسة من القصص بدئت بقصة موسى وختمت بقصة شعيب وقصها على المشركين ليشاهدوا أحداثها ويعرفوا نتائجها وهي دمار المكذبين وهلاكهم مهما كانت قوتهم وطالت أعمارهم قال تعالى في خطاب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم { وإذ نادى ربك موسى } أي اذكر إذ نادى ربك موسى في ليلة باردة شاتية بالواد الأيمن من البقعة المباركة من الشجرة { أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون } إذ ظلموا أنفسهم بالكفر والشرك وظلموا بني إسرائيل باضطهادهم وتعذيبهم { ألا يتقون } أي قل لهم ألا تتقون أي يأمرهم بتقوى ربهم بالإيمان به وأدعوهم إليه { ويضيق صدري } فالاستفهام معناه الأمر . وقوله تعالى { قال رب إني أخاف أن يكذبون } أي قال موسى بعد تكليفه رب إني أخاف أن يكذبون فيما أخبرهم به وأدعوهم إليه ، { ويضيق صدري } لذلك { ولا ينطلق لساني } للعقدة التي به ، وعليه { فأرسل إلى هرون } أي جبريل يبلغه أن يكون معي معيناً لي على إبلاغ رسالتي ، وقوله { ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون } هذا قول موسى عليه السلام لربه تعالى شكا إليه خوفه من قتلهم له بالنفس التي قتلها أيام كان بمصر قبل خروجه إلى مدين فأجابه الرب تعالى { كلا } أي لن يقتلوك . وأمرهما بالسير إلى فرعون فقال { فاذهبا بآياتنا } وهي العصا واليد { إنا معكم مستمعون } أي فبلغاه ما أمرتكما ببلاغه وإنا معكم مستمعون لما تقولان ولما يقال لكما منه مفادها أن ترسل معنا بني إسرائيل لنخرج بهم إلى أرض الشام التي وعد الله بها بني إسرائيل هذا ما قاله موسى وهرون رسولاً رب العالمين أما جواب فرعون ففي الآيات التالية .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- إثبات صفة الكلام لله تعالى بندائه موسى عليه السلام .
2- لا بأس بإبداء التخوف عند الإقدام على الأمر الصعب ولا يقدح فى الإيمان ولا في التوكل .
3- مشروعية طلب العون والمساعدة من المسؤلين إذا كلفوا المرء بما يصعب .
(3/101)
________________________________________
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
شرح الكلمات :
{ قال } : أي قال فرعون رداً على كلام موسى في السياق السابق .
{ ألم نريك فينا وليداً } : أي في منازلنا وليداً أي صغيراً قريباً من أيام الولادة .
{ ولبثت فينا من عمرك سنين } : أي أقمت بيننا قرابة ثلاثين سنة وكان موسى يفرعون لجهل الناس به ورؤيتهم له في قصره يلبس ملابسه ويركب مراكبه .
{ وفعلت فعلتك التي فعلت } : أي قتلت الرجل القبطي .
{ وأنت من الكافرين } : أي الجاحدين لنعمتي عليك بالتربية وعدم الاستعباد .
{ وأنا من الضالين } : إذ لم يكن عندي يومئذ لبني إسرائيل يعد نعمة فتمن بها علي؟
معنى الآيات :
ما زال السياق والحوار الدائر بين موسى عليه السلام وفرعون عليه لعائن الرحمن فرد فرعون على موسى بما أخبر تعالى به عنه في قوله { قال ألم نر بك فينا وليداً } أي أتذكر معترفاً أنا ربيناك وليداً أي صغيراً وأنت في حال الرضاع { ولبثت فينا } أي في قصرنا مع الأسرة المالكة { سنين } ثلاثين سنة قضيتها من عمرك في ديارنا { وفعلت فعلتك } أي الشنعاء { التي فعلت } وهي قتل موسى القبطي { وأنت من الكافرين } أي لنعمنا عليك الحاجد بها ، كان هذا رج فرعون فلنستمع إلى رد موسى عليه السلام كما أخبر به الله تعالى عنه في قوله : { قال فعلتها إذاً } أي يومئذ { وأنا من الضالين } أي الجاهلين لأنه لم يكن قد علمنى ربي ما علمنى الآن وما أوحى إلي ولا أرسلني إليكم رسولاً { ففرت منكم لما خفتكم } من أجل قتلي النفس التي قتلت وأنا من الجاهلين { فوهب لي ربي حكماً } أي علماً نافعاً يحكمني دون فعل ما لا ينبغي فعله { وجعلني من المرسلين } أي من أنبيائه ورسله إلى خلقه ثم قال له رداً على ما أمتن به فرعون بقوله { ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين } فقال { وتلك نعمة } أي أو تلك نعمة تمنها علي وهي { أن عبدت بني إسرائيل } أي استعبدتهم أي اتخذتهم عيبداً لك يخدمونك تستملهم كما تشاء كالعبيد لك ولم تستعبدني أنا لاتخاذك إياي ولداً حسب زعمك فأين النعمة التي تمنها علي يا فرعون ، نترك رد فرعون إلى الآيات التالية .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- قبح جريمة القتل عند كافة الناس مؤمنهم وكافرهم وهو أمر فطري .
2- جوار التذكير بالإحسان لمن أنكره ولكن لا على سبيل الامتنان فإنه محبط للعمل .
3- جواز إطلاق لفظ الضلال على الجهل كما قال تعالى { ووجدك ضالأً } كم قال موسى { وأنا من الضالين } أي الجاهلين قبل أن يعلمني ربي .
4- مشروعية الفرار من الخوف إذا لم يكن في البلد قضاء عادل ، وإلا لما جاز الهرب من وجه العدالة .
(3/102)
________________________________________
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)
شرح الكلمات :
{ وما رب العالمين } : أي الذي قلت إنك لرسوله من أي جنس هو؟
{ رب السموات والأرض وما بينهما } : أي خالق ومالك السموات والأرض ما بينهما .
{ إن كنتم موقنين } : بأن السموات والأرض وما بينهما من سائر المخلوقات مخلوقة قائمة فخالقها ومالكها هو رب العالمين .
{ لمن حوله } : أي من أشراف قومه ورجال دولته .
{ ألا تستمعون } : أي جوابه الذي لم يطابق السؤال في نظره .
{ أو لو جئتك بشيء مبين } : أي أتسجنني ولو جئتك ببرهان وحجة على رسالتي .
{ فأت به إن كنت من الصادقين } : أي فأت بهذا الشيء إن كنت من الصادقين فيما تقول .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في الحوار الدائر بين موسى عليه السلام وفرعون عليه لعائن الرحمن لما قال موسى { إني رسول رب العالمين } في أول الحوار قال فرعون مستفسراً في عناد ومكابرة { وما رب العالمين } ؟ أي أيُّ شيء هو أو من أي جنس من أجناس المخلوقات فأجابه موسى بما أخبر تعالى به عنه { قال رب السموات والأرض وما بينهما } أي خالق السموات والأرض وخالق ما بينهما . ومالك ذلك كله ، إن كنتم موقنين بأن كل مخلوق لا بد له من خالق خلقه ، وهو أمر لا تنكره العقول . وهنا قال فرعون في استخفاف وكبرياء لمن حوله من رجال دولته وأشراف قومه : { ألا تستمعون } كأن ما قاله موسى أمر عجب أو مستنكر فعرف موسى ذلك فقال { ربكم ورب آبائكم الأولين } أي خالقكم وخالق آبائكم الأولين الكل مربوب له خاضع لحكمه وتصرفه . وهو اغتاظ فرعون فقال { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } أراد أن ينال من موسى لأنه أغاظه بقوله { ربكم ورب آبائكم الأولين } فرد موسى أيضاً قائلاً { رب المشرق والمغرب وما بينهما } أي رب الكون كله { إن كنتم تعقلون } أي ما تخاطبون به ويقال لكم وفي هذا الجواب ما يتقطع له قلب فرعون فلذا رد بما أخبر به تعالى عنه في قوله { قال لئن اتخذت إلهاً غيري } أي رباً سواي { لأجعلك من المسجونين } أي لأسجننك وأجعلك في قعر تحت الأرض مع المسجونين ، فرد موسى عليه السلام قائلا { أولو جئتك بشيء مبين } أي أتسجنني ولو جئت بحجة بينة وبرهان ساطع على صدقي فيما قلت وأدعوكم إليه؟ وهنا قال فرعون ما أخبر به { قال فأت به إن كنت من الصادقين } أي فيما تدعي وتقول .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير الربوبية المقتضية للألوهية من طريق هذا الحوار ليسمع ذلك المشركون ، وليعلموا أنهم مسبوقون بالشرك والكفر وأنهم ضالون .
2- سنة أهل الباطل أنهم يفجرون في الخصومة وفي الحديث « وإذا خاصم فجر » .
3- أهل الكبر والعلو في الأرض إذا أعيتهم الحجج لجأوا إلى التهديد والوعيد واستخدام القوة .
(3/103)
________________________________________
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
شرح الكلمات :
{ ثعبان مبين } : أي ثعبان ظاهر أنه ثعبان لا شك .
{ ونزع يده } : أي أخرجها من جيبه بعد أن أدخلها فيه .
{ لساحر عليم } : أي متفوق في علم السحر .
{ أرجه وأخاه } : أي أخرّ أمرهما .
{ حاشرين } : أي جامعين للسحرة .
{ سحار عليم } : أي متفوق في الفن أكثر من موسى .
{ يوم معلوم } : هو ضحى يوم الزينة عندهم .
{ هل أنتم مجتمعون } : أي اجتمعوا كي نتبع السحرة على دينهم إن كانوا هم الغالبين .
{ وإنكم إذاً لمن المقربين } : أي لكم الأجر وهو الجعل الذي جعل لهم وزادهم مزية القرب منه .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في الحوار الدائر بين موسى عليه لاسلام وفرعون عليه لعائن الرحمن لقد تقدم في السياق أن فرعون طالب موسى بالإتيان بالآية أي الحجة على صدق دعواه وها هو ذا موسى عليه السلام يلقي عصاه أمام فرعون وملائه فإذا هي ثعبان ظاهر لا شك فيه ، وأخرج يده من جيبه فإذا هي بيضاء للناظرين لا يشك في بياضها وأنه بياض خارق للعادة هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى ( 32 ) والثانية ( 33 ) { فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ، نزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين } واعترف فرعون بأن ما شاهده من العصا واليد أمر خارق للعادة ولكنه راوغ فقال { إن هذا } أي موسى { لساحر عليم } أي ذو خبرة بالسحر وتفوق فيه قال هذا للملأ حوله قال تعالى عنه { قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم } وقوله تعالى عنه { يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره } قال فرعون هذا تهيجاً للملأ ليثوروا ضد موسى عليه السلام وهذا من المكر السياسي إذ جعل القضية سياسية بحتة وأن موسى يريد الاستيلاء على الحكم والبلاد ويطرد أهلها منها بواسطة السحر ، وقال لهم كالمستشير لهم { فماذا تأمرون؟ } فأشاروا عليه بما أخبر تعالى به عنهم { قالوا أرجه وأخاه } أي أخر أمرهما { وابعث في المدائن } أي مدن المملكة رجالا { حاشرين } أي جامعين { يأتوك } أيها الملك { بكل سحار عليم } أي ذو خبرة في السحر متفوقة ، وفعلاً أخذ بمشورة رجاله { فجمع السحرة لميقات يوم معلوم } أي لموعد معلوم وهو ضحى يوم العيد عندهم واستحثوا الناس على الحضور من كافة أنحاء البلاد وهو ما أخبر تعالى به في قوله { قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم } فجمع السحرة لميقات يوم معلوم ، وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة } فنبقى على ديننا ولا نتبع موسى وأخاه على دينهما الجديد { إن كانوا } أي السحرة { هم الغالبين } وهذا من باب الاستحثاث والتحريض على الالتفات حول فرعون وملائه . وقوله تعالى { فلما جاء السحرة } أي من كافة أنحاء البلاد قالوا لفرعون ما أخبر تعالى به عنهم { أئن لنا لأجراً } أي جعلاً إن كنا نحن الغالبين؟ } فأجابهم فرعون قائلاً { نعم وإنكم إذاً لمن المقربين } أي زيادة على الأجر مكافأة أخرى وهي أن تكونوا من المقربين لدينا ، وفي هذا إغراء كبير لهم على أن يبذلوا أقصى جهدهم في الانتصار على موسى عليه السلام .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- إثبات المعجزات للأنبياء كمعجزة العصا واليد لموسى عليه السلام .
2- مشروعية استشارة الأمير رجاله في الأمور ذات البال .
3- ثبوت السحر وأنه فن من فنون المعرفة وإن كان تعلمه وتعليمه محرمين .
4- إعطاء المكافأة للفائزين في المباراة وغيرها ومن ذلك السباق في الإسلام .
(3/104)
________________________________________
قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)
شرح الكلمات :
{ ألقوا ام أنتم ملقون } : أمرهم بالإلقاء توسلاً إلى ظهور الحق .
{ ما يأفكون } : أي ما يقلبونه بتمويههم من أن حبالهم وعصيهم حيات تسعى .
{ رب موسى وهرون } : أي لعلمهم بأن ما شاهدوه من العصا لا يأتي بواسطة السحر .
{ من خلاف } : أي يد كل واحد اليمنى ورجله اليسرى .
{ ولأصلبنكم أجمعين } : أي أشدنكم بعد قطع أيديكم وأرجلكم من خلاف على الأخشاب .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الحوار الذي دار بين موسى عليه السلام وفرعون عليه لعائن الرحمن إنه بعد إرجاء السحرة فرعون وسؤالهم له : هل لهم من أجر على مباراتهم موسى إن هم غلبوا وبعد أن طمأنهم فرعون على الأجر والجائزة قال لهم موسى { ألقوا ما أنتم ملقون } من الحبال والعصي في الميدان { فألقوا حبالهم وعصيهم } وأقسموا بعزة فرعون إنهم هم الغالبون وفعلاً انقلبت الساحة كلها حيات وثعابين حتى أوجس موسى في نفسه خيفة فأوحى إليه ربه تعالى أن ألق عصاك فألقاها فإذا هي تلقف ما يأفكون . هذا معنى قوله تعالى في هذا السياق { فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون فألقى مسوى عصاة فإذا هي تلقف ما يأفكون } ومعنى تلقف ما يأفكون أي تبتلع في جوفها من حيات وثعابين ، وقوله تعالى { وألقي السحرة ساجدين } أي أنهم لاندهاشهم وما بهرهم من الحق ألقوا بأنفسهم على الأرض ساجدين لله تعالى مؤمنين به ، فسئلوا عن حالهم تلك فقالوا { آمنا برب العالمين رب موسى وهرون } وهنا خاف فرعون تفلت الزمام من يده وأن يؤمن الناس بموسى وهرون ويكفرون به فقال للسحرة : { آمنتم به قل أن آذن لكم } بذلك أي كيف تؤمنون بدون إذني؟ على أنه يملك ذلك منهم وهي مجرد مناورة مكشوفة ، ثم قال لهم { إنه } أي موسى { لكبيركم الذي علمكم السحر } أي انه لما كان استاذكم تواطأتم معه على الغلب فأظهرتم أنه غلبكم ، تمويهاً وتضليلاً للجماهير . . ثم تهددهم قائلاً { فلسوف تعلمون } عقوبتي لكم على هذا التواطؤ وهي { لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف } أي أقطع من الواحد منكم يده اليمنمى ورجله اليسرى { ولأصلبنكم أجمعين } فلا أبقي منكم أحداً إلا أشده على خشبة حتى يموت مصلوباً ، هل فعل فرعون ما توعد به؟ الله أعلم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- لم يبادر موسى بإلقاء عصاه أولاً لأن المسألة مسألة علم لا مسألة حرب ففي الحرب تنفع المبادرة بافتكاك زمام المعركة ، وأما في العلم فيحسن تقديم الخصم ، فإذا أظهر ما عنده كر عليه بالحجج والبراهين فأبطله وظهر الحق وانتصر على الباطل ، هذا الأسلوب الذي اتبع موسى بإلهام من ربه تعالى .
2- مظهر من مظاهر الهداية الإلهية هداية السحرة إذ هم فى أول النهار سحرة كفرة وفي آخره مؤمنون بررة .
3- ما سلكه فرعون مع السحرة كله من باب المناورات السياسية الفاشلة .
(3/105)
________________________________________
قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)
شرح الكلمات :
{ لا ضير } : أي لا ضرر علينا .
{ لمنقلبون } : أي راجعون بعد الموت وذلك يسر ولا يضر .
{ إن كنا أول المؤمنين } : أي رجو أن يكفر الله عنهم سيئاتهم لأنهم سبقوا بالإيمان .
{ أن أسر بعبادي } : السرى المشي ليلاً والمراد من العباد بنو إسرائيل .
{ إنكم متبعون } : أي من قبل فرعون وجيوشه .
{ لشرذمة } : أي طائفة من الناس .
{ لغائظون } : أي فاعلون ما يغيظنا ويغضبنا .
{ حذرون } : أي متيقظون مستعدون .
{ ومقام كريم } : أي مجلس حسن كان للأمراء والوزراء .
{ كذلك } : أي كان إخراجنا كذلك أي على تلك الصورة .
{ مشرقين } : أي وقت شروق الشمس .
معنى الآيات :
قوله تعالى { قالوا لا ضير } هذا قول السحرة لفرعون بعد أن هددهم وتوعدهم { قالوا لا ضير } أي لا ضرر علينا بتقطيعك أيدينا وأرجلنا وتصليبك إيانا { إنا إلى ربنا منقلبون } أي راجعون إن كل الذي تفعله معنا إنك تعجل برجعوعنا إلى ربنا وذاك أحب شيء إلينا . وقالوا { إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا } أي ذنوبنا { إن كنا أول المؤمنين } في هذه البلاد برب العالمين رب موسى وهرون .
بعد هذا الانتصار العظيم الذي تم لموسى وهرون أوحى تعالى إلى موسى { أن أسر بعبادي } أي امش بهم ليلاً { إنكم متبعون } أي من قبل فرعون وجنوده . وعلم فرعون بعزم موسى على لاخروج ببني إسرائيل فأرسل في المدائن وكانت له مآت المدن حاشرين من الرجال أي جامعين وكأنها تعبئة عامة . يقولون محرضين { إن هؤلاء } أي موسى وبني إسرائيل { لَشرْذِمةٌ } أي طائفة أفرادها قليلون { وإنهم لنا لغائظون } أي لفاعلون ما يغيظنا ويغضبنا { وإنا } أي حكومة وشعباً { لجميع حذرون } أي متيقظون مستعدون فهلم إلى ملاحقتهم وردهم إلى الطاعة ، وعجل تعالى بالمسرة في هذا الخبر فقال تعالى { فأخرجناهم } أي آل فرعون { من جنات وعيون وكنوز } أي كنوز الذهب والفضة التي كانت مدفونة تحت التراب ، إذ الطمس كان على العملة فسدت وأما مخزون الذهب والفضة فما زال تحت الأرض ، إذ الكنز يطلق على المدفون تحت الأرض وإن كان شرعاً هو الكنز ما لم تؤد زكاته سواء كانت تحت الأرض أو فوقها .
وقوله تعالى { كذلك } أي إخراجنا لهم كان كذلك ، { وأورثناها } أي تلك النعم بنى إسرائيل أي بعد هلاك فرعون وجنوده أجميعن . وقوله تعالى { فاتبعوهم مشرقين } أي فاتبع آل فرعون بنى إسرائيل أَنْفُسَهم في وقت شروق الشمس ليردوهم ويحولوا بينهم وبين الخروج من البلاد .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- قوة الإيمان مصدر شجاعة خارقة للعادة بحيث يفرح المؤمن بالموت لأنه يوصله إلى ربه .
2- حسن الرجاء في الله والطمع في رحمته ، وفضل الأسبقية في الخير .
3- مشروعية التعبئة العامة واستعمال أسلوب خاص في الحرب يهديء من مخاوف الأمة حكومة وشعباً .
4- دمار الظالمين وهلاك المسرفين في الكفر والشر والفساد .
(3/106)
________________________________________
فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
شرح الكلمات :
{ فلما تراءى الجمعان } : أي رأى بعضهما بعضاً لتقاربهما والجمعان جمع بني إسرائيل وجمع فرعون .
{ إنا لمدركون } : أي قال أصحاب موسى من بني إسرائيل إنا لمدركون أي سيلحقنا فرعون وجنده .
{ قال كلا } : أي قال موسى عليه السلام كلا أي لن يدركونا ولن يلحقوا بنا . { فانفلق } : انشق .
{ فكان كل فرق كالطود } : أي شقٍّ أي الجزء المنفرق والطود : الجبل .
{ وأزلفنا ثم الآخرين } : أي قربنا هنا لك الآخرين أي فرعون وجنده .
{ إن في لآية } : أي عظة وعبرة توجب الإيمان برب العالمين برب موسى وهرون .
معنى الآيات :
هذا آخر قصة موسى عليه السلام مع فرعون قال تعالى في بيان نهاية الظالمين وفوز المؤمنين { فلما تراءى الجمعان } جمع موسى وجمع موسى وجمع فرعون وتقاربا بحيث رأى بعضها بعضا { قال أصحاب موسى } أي بنو إسرائيل { إنا لمدركون } أي خافوا لما رأوا جيوش فرعون تتقدم نحوهم صاحوا { إنا لمدركون } فطمأنهم موسى بقوله { كلا } أي لن تدركوا ، وعلل ذلك بقوله { إن معي ربي سيهدين } إلى طريق نجاتي قال تعالى { فأوحينا إلى موسى أن اضرب } أي اضرب بعصاك البحر فضرب امتثالاً لأمر ربه فانفلق البحر فرقتين كل فرقة منه كالجبل العظيم { وأزلفنا } أي قربنا { ثم الآخرين } أي أدلينا هناك الآخرين وهم فرعون وجيوشه { وأنجينا موسى ومن معه } أي من بني إسرائيل { أجمعين } { ثم أغرقنا الآخرين } المعادين لبني إسرائيل وهم فرعون وجنده . وقوله تعالى { إن في ذلك } المذكور من أهلاك فرعون وإنجاء موسى وبني إسرائيل { لآية } أي علامة واضحة بارز لربوبية الله وألوهيته وقدرته وعلمه ورحمته وهي عبرة وعظة أيضاً للمعتبرين ، وما كان أكثر قومك يا محمد مؤمنين مع موجب الإيمان ومقتضيه لأنه سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون .
وقوله : { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } أي وإن ربك يا محمد لهو الغالب على أمره الذي لا يمانع في شيء يريده ولا يحال بين مراده الرحيم بعباده فاصبر على دعوته وتوكل عليه فإنه ناصرك ومذل أعدائك .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- ظهور آثار الاستعباد في بني إسرائيل متجلية في خوفهم مع مشاهدة الآيات .
2- ثبوت صفة المعية الإِلهية في قول موسى { إن معي ربي } إذ قال له عند إرساله { إنني معكما } 3- ثبوت الوحي الإِلهي . 4- آية انفلاق البحر من أعظم الآيات . 5- تقير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بقصة مثل هذا القصص الذي لا يتأتى إلا بوحي خاص .
(3/107)
________________________________________
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
شرح الكلمات :
{ واتل عليهم نبأ إبراهيم } : أي اقرأ يا رسولنا على قومك خبر إبراهيم وشأنه العظيم .
{ لأبيه وقومه } : أي آزر والبابليين .
{ فنظل لها عاكفين } : أي فنقيم أكثر النهار عاكفين على عبادتها .
{ قالوا بل وجدنا } : أي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر به وجدنا آباءنا لها عابدين فنحن تبع لهم .
{ فإنهم عدو لي } : أي أعداء لي يوم القيامة إذا أنا عبدتهم لأنهم يتبرءون من عابديهم .
{ إلا رب العالمين } : فإن من يعبده لا يتبرأ منه يوم القيامة بل ينجيه من النار ويكرمه بالجنة .
{ فهو يهدين } : أي إلى ما ينجيني من العذاب ويسعدني في دنياي وأخراي .
{ والذي يميتني ثم حيين } : أي يميتني عند انتهاء أجلي ، ثم يحييني ليوم الدين .
{ يوم الدين } : أي يوم الجزاء والحساب وهو يوم القيامة والبعث الآخر .
معنى الآيات :
هذا بداية قصص إبراهيم عليه السلام والقصد منه عرض ياة إبراهيم الدعوية على مسامع قريش قوم محمد صلى الله عليه وسلم يتعظون بها فيؤمنوا ويوحدوا فيسلموا ويسلموا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة قال تعالى { واتل عليهم نبأ ابراهيم } أي اقرأ على قومك من قريش خبر إبراهيم في الوقت الذي قال لأبيه وقومه { ما تعبدون } مستفهماً إياهم ليرد على جوانبهم وهو أسلوب حكيم في الدعوة والتعليم يسألهم وجيبهم بناء على مقتضى سؤالهم فيكون ذلك أدعى للفهم وقبول الحق : { قالوا نعبد أصناماً } أي في صور تماثيل { فنظل لها عاكفين } فنقيم أكثر النهار عاكفين حولها نتقرب إليها ونتبرك بها خاشعين خاضعين عندها . ولما سمع جوابهم وقد صدقوا يه قال لهم { هل يسمعونكم إذ تدعون } أي إذ تدعونها { أو ينفعونكم } إن طلبتم منها منفعة { أو يضرون } إن طلبتم منهم أن يضروا أحداً تريدون ضره أنتم؟ فأجابوا قائلين في كل ذلك لا ، لا ، لا . وإنما وجنا آباءنا كذلك يفعلون ففعلنا مثلهم اقتداءً بهم واتباعاً لطريقتهم ، وهنا صارحهم إبراهيم بما يريد أن يفهموه عنه فقال { أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون } الذي هم أجدادكم الذين ورث ععنهم آباؤكم هذا الشرك والباطل { فإنهم عدو لي } أي أعداء لي وذلك يوم القايمة إن أنا عبدتهم معكم ، لأن كل مَنْ عُبد من دون الله يتبرأ يوم القيامة ممن عبده ويعلن عداوته له طلباً لنجاة نفسه من عذاب الله . وقوله { إلا رب العالمين } فإنه لا يكون عدواً لمن عبده بل يكون ودوداً له رحيماً به . ألا فاعبدوه يا قوم واتركوا عبادة من يكون عدواً لكم يوم القيامة!!
ثم أخذ إبراهيم يذكر ربه ويثني عليه ويمجده تعريفاً به وتذكيراً لأولئك الجهلة المشركين فقال { الذي خلقني فهو يهدين } أي إلى طريق نجاتي وكمالي وسعادتي وذلك ببيانه لي محابة لآتيها ، ومساخطه لأتجنبها ، { والذي هو يطعمني ويسقين } أي يغذونى بأنواع الأطعمة ويسقيني بما خلق ويسر لي من أنواع الأشربة من ماء ولبن وعسل ، { وإذا مرضت } بأن اعتل جسمي وسقم فهو لا غيره يشفيني ، { والذي يميتني } يوم يريد إماتتي عند انتهاء ما حدد لي من أجل تنتهي به حياتي ، ثم يحييني يوم البعث والنشور ، { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي } أي يسترها ويمحو أثرها من نفسي يوم الدين أي يوم الجزاء والحساب علىعمل الإِنسان في هذه الدار إذ هي دار عمل والآخرة دار جزاء .
(3/108)
________________________________________
وإذا قيل ما المراد من الخطيئة التي ذكر إبراهيم لنفسه؟ فالجواب إنها الكذبات الثلاث التي كانت لإِبراهيم طوال حياته الأولى قوله { إني سقيم } والثانية { بل فعله كبيرهم هذا } والثالثة قولي للطاغية إنه أخي ولا تقولي إنه زوجي ، هذه الكذبات التي كانت لإِبراهيم فهو خائف منها ويوم القيامة لما تطلب منه البشرية الشفاعة عند ربها يذكر هذه الكذبات ويقول إنما أنا من وراء وراء فاذهبوا إلى موسى .
ألا فليتعظ المؤمنون الذي كذبهم لا يعد كثرة!!
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير النبوة المحمدية بذكر هذا القصص .
2- تقرير التوحيد بالحوار الذي دار بين إبراهيم إمام الموحدين وقومه المشركين .
3- بيان أن كل من عبد معبوداً غير الله تعالى سيكون له عدواً لدوداً يوم القيامة .
4- بيان أن العكوف على الأضرحة والتمرغ في تربتها وطلب الشفاء منها شرك .
5- بيان الاسلوب الحكيم في الدعوة إلى الله تعالى من طريق السؤال والجواب .
(3/109)
________________________________________
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)
شرح الكلمات :
{ رب هب لي حكماً } : أي يا رب أعطني من فضلك حكماً أي علماً نافعاً وارزقني العمل به .
{ وألحقني بالصالحين } : لأعمل عملهم في الدنيا وأكون معهم في الدار الآخرة .
{ واجعل لي لسان صدق في الآخرين } : أي اجعل لي ذكراً حسناً أذكر به فيمن يأتي بعدي { واغفر لأبي } : كان هذا منه قبل أن يتبين له أنه عدو لله .
{ ولا تخزني يوم يبعثون } : أي لا تفضحني .
{ بقلب سليم } : أي من الشرك والنفاق .
{ وأزلفت الجنة } : أي أدنيت وقربت للمتقين .
{ وبرزت الجحيم للغاوين } : أي أظهرت وجليت للغاوين .
{ هل ينصروكم } : أي بِدَفْع العذاب عنكم .
معنى الآيات :
هذا آخر قصص إبراهيم وخاتمته لما ذكر إبراهيم قومه ووعظهم رفع يديه إلى ربه يسأله ويتضرع إليه فقال { رب هب لي حكماً } أي علماً نافعاً يمنعني من فعل ما يسخطك عني ويدفعني إلى فعل ما يرضيك عني ، { وألحقني بالصالحين } في أعمالهم الخيرية في الدنيا وبمرافقتهم في الجنة . { واجعل لي لسان صدق في الآخرين } أي اجعل لي ذكراً حسناً أذكر به فيمن يأتي من عبادك المؤمنين ، { واجعلني من ورثة جنة النعيم } الذين يرثونها الإِيمان والتقوى بعد فضلك عليهم ورحمتك بهم ، { واغفر لأبي إنه كان من الضالين } أي الجاهلين بك وبمحابك ومكارهك فما عبدوك ولا تقربوا إليك . وكان هذا من إبراهيم قبل العلم بأن أباه عدو لله حيث سبق له ذلك أزلاً ، إذ قد تبرأ منه بعد أن علم ذلك وقوله { ولا تخزني } أي لا تذلني { يوم يبعثون } أي من قبورهم للحساب والجزاء على أعمالهم { يوم لا ينفع مال ولا بنون } وهو يوم القيامة { إلا من أتى الله بقلب سليم } أي لكن من أتى الله أى جاءه يوم القيامة وقلبه سليم من الشرك والنفاق فهذا ينفعه عمله الصالح لخلوه مما يحبطه وهو الشرك والكفر الظاهر والباطن وقوله تعالى { وأزلفت الجنة } أي قربت وأدنيت للمتقين الله ربهم فلم يشركوا به في عبادته ولم يجاهروا بمعاصيه ، { وبرزت الجحيم } أي أظهرت وارتفعت { للغاوين } أي أهل الغواية والضلالة في الدنيا من المشركين والمسرفين في الإجرام والشر والفساد { وقيل لهم } أي سئلوا فى عرصات القيامة { أين ما كنتم تعبدون من دون الله } ؟ أروناهم { هل ينصرونكم } مما أنتم فيه فيدفعون عنكم العذاب ، { أو ينتصرون } لأنفسهم فيدفعون عنها العذاب إن كانوا من أهل النار لأنهم رضوا بأن يعبدوا ودعوا الناس إلى عبادتهم كالشياطين والمجرمين من الإِنس والجن .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان أن الجنة تورث ويذكر تعالى سبب إرثها وهو التقوى في قوله { تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً } 2- مشروعية الاستغفار للوالدين إن ماتا على التوحيد . 3- بطلان الانتفاع يوم القيامة بغير الإِيمان والعمل الصالح بعد فضل الله ورحمته . 4- الترغيب في التقوى والتحذير من الغواية .
(3/110)
________________________________________
فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
شرح الكلمات :
{ فكبكبوا فيها } : أي ألقوا على وجوههم في جهنم ودحرجوا فيها حتى انتهوا إلى قعرها .
{ والغاوون } : جمع غاوٍ وهو الفاسد القلب المدنس الروح من الشرك والمعاصي .
{ وجنود إبليس } : أي أتباعه وأنصاره وأعوانه من الإِنس والجن .
{ إذ نسويكم برب العالمين } : أي في العبادة فعبدناكم كما يعبد الله جل جلاله .
{ ولا صديق حميم } : أي يهمه أمرنا وتنفعنا صداقته نحتمى به من أن نعذب .
{ فلو أن لنا كرة } : أي رجعة إلى الدنيا لنؤمن ونوحد ونعبد ربنا بما شرع لنا .
معنى الآيات :
قوله تعالى { فكبكبوا } بعد ذلك الاستفهام التوبيخي التقريعي الذي تقدم في قوله تعالى { وقيل له أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون } وفشلوا في الجواب ولم يجيدوه إذ هو غير ممكن فأخبر تعالى عنه مبأنهم كبكبوا في جهنم -أي كبوا على جوههم ودحرجوا فيها هم والغاوون جمع غاوٍ أ يفاسد العقيدة والعمل وجنود إبليس أجمعون من أتابع الشيطان وأعوانه من دعاة الشرك والمعاصي والجريمة في الأرض من الإِنس والجن قوله تعالى { قالوا وهم فيها يختصمون } أي وهم في جهنم يختصمون كل واحد يحمل الثاني التبعة والمسؤولية فقال المشركون لمن أشركوا بهم { تالله إن كنا لفي ضلال مبين } أي ظاهر بين لا يختلف فيه ، وذلك { إذ كنا نسويكم برب العالمين } عز وجل فنعبدكم معه ، { وما أضلنا إلا المجرمون } وهم دعاء الشرك والشر والضلال الذين أجرموا على أنفسهم فأفسدوها ، وأجرموا علينا فأفسدوا نفوسنا بالشرك والمعاصي ، وقوله تعالى { فما لنا من شافعين ولا صديق حميم } هذا قولهم أيضاً قرروا فيه حقيقة أخرى وهي أنه ليس لهم في هذا اليوم من شافعين يشفعون لهم عند الله تعالى لا من الملائكة ولا من الإِنس والجن إذ لا شفاعة تنفع من مات على الشرك والكفر ، وقولهم ولا صديق حميم أي وليس لنا أي من صديق حميم تنفعنا صداقته وولايته .
وقالوا متمنين بعد اليأس من وجود شافعين { فلو أنّ لنا كرّة } أي رجعة إلى دار الدنيا { فنكون من المؤمنين } فنؤمن ونوحد ونتبع الرسل . وهذا آخر ما أخبر تعالى به عنهم من كلامهم في جهنم وقوله تعالى : { إن في ذلك } أي المذكور من كبكبة المشركين والغوين وجنود إبليس أجمعين في جهنم وخصومتهم فيها وما قالوا وتمنوه وحرمانهم من الشفاعة وخلودهم في النار { لآية } أي لعبرة لمن يعتبر بغيره ، { وما كان أكثرهم مؤمنين } ولم يكن أكثر قومك يا رسولنا مؤمنين وإلا لانتفعوا بهذه العبر فآمنوا ووحدوا وأسلموا { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } أي الغالب على أمره يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد الرحيم بعباده إنْ أنابوا إليه وأخلصوا العبادة له يكرمهم في جواره في جنات النعيم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير أن دعاة الزنى والربا والخرافة والشركيات من الناس هم من جند إبليس .
2- تقرير أن المجرمين هم الذين أفسدوا نفوسهم ونفوس غيرهم بدعوتهم إلى الضلال . وحملهم عل المعاصي .
3- تقرير أن الشفاعة لن تكون لمن مات على الشرك والكفر .
4- لا تنفع العبر والمواعظ والآيات في هداية قوم كتب الله أزلاً شقاءهم وعلم منهم أنهم لا يؤمنون فكتب ذلك عليهم .
(3/111)
________________________________________
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)
شرح الكلمات :
{ كذبت قوم نوح المرسلين } : قوم نوح الأمة التي بعث فيها ، والمراد من المرسلين نوح عليه السلام .
{ أخوهم نوح } : أي في النسب .
{ ألا تتقون } : أي اتقوا الله ربكم فلا تعصوه بالشرك والمعاصي .
{ رسول أمين } : أي على ما أمرني ربي بإبلاغه إليكم .
{ من أجر } : ألا أسألكم على إبلاغ رسالة الله أجرة مقابل البلاغ .
{ أنؤمن لك واتعبك الأرذلون } : أي كيف نتبعك على ما تدعونا إليه وقد اتبعك أراذل الناس أي سفلتهم وأهل الخسة فيهم .
{ إن حسابهم إلا على ربي } : أي ما حسابهم إلا على ربي .
معنى الآيات :
هذه بداية قصص نوح عليه السلام فقال تعالى { كذبت قوم نوح } أي بما جاءهم به نوح من الأمر بالتوحيد وترك الشرك { إذ قال لهم أخوهم } أي في النسب { نوح ألا تتقون } أي عقاب الله وأنتم تشركون به ، وتكذبون رسوله { إني لكم رسول أمين } على ما أبلغكم من وحي الله تعالى فاتقوا الله بترك الشرك وأطيعوني فيما أدعوكم إليه وآمركم به { وما أسألكم عليه من أجر } أي على البلاغ من أجر أتقاضاه منكم مقابل ما أبلغكم من رسالة ربكم . { إن أجرى إلا على الله } إذ هو الذي كلفني { فاتقوا الله } أي خافوا عقابه أن يحل بكم وأنتم تكفرون به وتكذبون برسوله وأطيعون فيما آمركم به وأنهاكم عنه . بعد هذا الذي أمرهم به وكرره عليهم من تقوى الله وطاعة لرسوله كان جوابهم ما أخبر به تعالى عنهم في قوله : { قالوا أنؤمن لك } أي أنصدقك ونتابعك على ما جئت به من الدين { واتبعك الأرذلون } أي سفلة الناس وأخساؤهم؟
فأجابهم نوح قوله { وما علمي بما كانوا يعملون } فيما يعملونه بعيدين عن منَ الباطن أو الظاهر أنا لا أعلمه ولا أسأل عنه ولا أحاسب عليه ، { إن حسابه إلا على ربي } هو الذي يحاسبهم ويجزيهم لو تشعرون بهذه الحقيقة لما عبتموهم لي وحملتموني مسئولية عملهم { وما أنا بطارد المؤمنين } أي من حولي ، { إن أنا إلا نذير مبين } فلست بجبار ولا ذي سلطان فأطرد الناس وظيفتي أنى أنذر الناس عاقبة تالكفر والمعاصي ليقلعوا عن ذلك فينجوا من عذاب الله ويسلموا .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان أن من كذب رسولاً فكأنما كذب كل الرسل وذلك باعتبار أن دعوتهم واحد وهي أن يُعْبَدَ الله وحده بما شرع للناس من عبادات تطهرهم وتزكيهم .
2- إثبات أخوة النسب ، ولا تعارض بينهما وبين أخوة الدين .
3- عدم جواز أخذ أجرة على دعوة الله تعالى . ووجوب إبلاغها مجانا .
4- وجوب التقوى لله تعالى ، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم .
5- لا يجوز طرد الفقراء من مجالس العلم ليجلس مجالسهم الأغنياء وأهل الجَاه .
(3/112)
________________________________________
إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
شرح الكلمات :
لئن لم تنته : أي عن دعوتنا إلى ترك آلهتنا وعبادة إلهك وحده .
{ من المرجومين } : أي المقتولين رجماً بالحجارة .
{ فافتح بيني وبينهم فتحاً } : أي أحكم بيني وبينهم حكماً بأن تهلكهم وتنجيني ومن معي من المؤمنين .
{ في الفلك المشحون } : أي المملوء بالركاب وأزواج المخلوقات الأخرى .
{ بعد الباقين } : أي بعد إنجائنا نوحاً والمؤمنين بركوبهم في السفينة أغرقنا الكافرين إذ إغراقهم كان بعد نجاة المؤمنين .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الحوار الدائر بين نوح وقومه إنه دعاهم إلى التوحيد وكرر عليهم الدعوة وأفحمهم في مواطن كثيرة وأعيتهم الحج لجأوا إلى التهديد والوعيد فقالوا ما أخبر تعالى به عنهم في قوله { قالوا لئن لم تنته يا نوح } أي قسماً بآلهتنا لئن لم تنته يا نوح من تسفيهنا وسب آلهتنا ومطالبتنا بترك عبادتها { لتكونن من المرجومين } أي لنقتلنك رمياً بالحجارة . وهنا وبعد دعوة دامت ألف سنة إلا خمسين عاماً رفع نوح شكواه إلى الله قائلا : { رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحاً } أي احكم بيننا وافصل في قضية وجودنا مع بعضنا بعضا فأهلكهم { ونجني ومن معي من المؤمنين } قال تعالى { فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون } أي المملوء بأنواع الحيوانات { ثم أغرقنا بعد الباقين } أي بعد إنجائنا نوحاً ومن معه من المؤمنين بأن ركبوا في الفلك وما زال الماء يرتفع النازل من السماء والنابع من الأرض حتى غرق كل من على الأرض الجبال ولم ينج أحد إلا نوحٌ وأصحاب السفينة ، قال تعالى { إن في ذلك } أي المذكور من الصراع الذي دار بين التوحيد والشرك وفي عاقبة التوحيد وهي نجاة أهله والشرك وهي دمار أهله { لآية } أي عبرة . ولكن أهل مكة لم يعتبروا { وما كان أكثرهم مؤمنين } لما سبق في علم الله تعالى من عدم إيمانهم إذاً فلا تحزن عليهم . { وإن ربك } أيها الرسول الكريم لهو لا غيره العزيز الغالب الرحيم بمن تاب من عباده فإنه لا يعذبه بل يرحمه .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان سنة أن الظلمة ووالطغاة إذا أعيتهم الحجج يلجأون إلى القوة .
2- جواز الاستنصار بالله تعالى وطلب الفتح بين المظلوم والظالمين .
3- سرعة استجابة الله تعالى لعبده نوح وذلك لصبره قروناً طويلة فلما انتهى صبره ورفع شكاته الى ربه أجابه فوراً فأنجاه وأهلك أعداءه .
(3/113)
________________________________________
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)
شرح الكلمات :
{ كذبت عاد } : عاد اسم أبي القبيلة وسميت القبيلة به .
{ أخوهم هود } : أخوهم في النسب .
{ فاتقوا الله } : أي خافوا عقابه فلا تشركوا به شيئاً .
{ أتبنون بكل ريع } : أي مكان عال مرتفع .
{ آية } : أي قصراً مشيداً عالياً مرتفعاً .
{ وتتخذون مصانع } : أي حصوناً منيعة وقصوراً رفيعة .
{ لعلكم تخلدون } : أي كأنكم تأملون الخلود في الأرض وترجونه .
{ وإذا بطشتم } : أي أخذتم أحداً سطوتم عليه بعنف وشدة .
{ جبارين } : أي عتاة متسلطين .
معنى الآيات :
هذه بداية قصص هود عليه السلام يقول تعالى { كذبت عاد } أي قبيلة عاد { المرسلين } أي رسول الله هوداً ، { إذ قال له أخوهم هود ألا تتقون } أي ألا تتقون عقاب الله بترككم الشرك والمعاصي بمعنى اتقوا الله ربكم فلا تشركوا به ، وقوله { إني لكم رسول أمين } يخبرهم بأنه رسول الله إليهم يبلغهم عن الله أمره ونهيه وأنه أمين على ذلك فلا يزيد ولا ينقص فيما أمره ربه بإبلاغه إليهم ، وعليه { فاتقوا الله وأطيعون } أي بوصفي رسول الله إليكم فإن طاعتي واجبة عليكم حتى أبلغكم ما أرسلت به إليكم .
وقوله { وما أسألكم عليه من أجر } أي على إبلاغ رسالتي إليكم من أجر أي من أي أجر كان . ولو قال { إن أجري } أي ما أجري إلأا على رب العالمين سبحانه وتعالى إذ هو الذي أرسلني وكلفني فهو الذي أرجو أن يثييني على حمل رسالتي إليكم وإبلاغها إيّاكم . وعليه فاتقوا الله إي خافوا عقابه بترك الشرك به والمعاصي وأطيعوني بقبول ما أبلغكم به لتكملوا وتسعدوا .
وقوله : { أتبنون بكل ريع آية تعبثون } ينكر هود على قومه إنهماكهم في الدنيا وانشغالهم بما لا يعني وإعراضهم عمان يعنيهم لهم كالمنكر عليهم أتبنون بكل ريع أي مكان عال مرتفع آية أي قصراً مشيداً في ارتفاعه وعلوه . تعبثون حيث لا تسكنون فيما تبنون فهو لمجرد اللهو العبث وقوله { وتتخذون مصانع } وهي مبان عالية كالحصون أو خزانات الماء أو الحصون { لعلك تخلدون } أي كيما تخلدون ، وما أنتم بخالدين . وإنما مقامكم فيها قليل . وقوله { وإذا بطشتم ببطشتم جبارين } أي إذا سطوتم على أحد تسطون عليه سطو العتاة الجبارين فتأخذون بعنف وشدة بلا رحمة ولا رفق { فاتقوا الله يا قوم فخافوا عقابه وأليم عذابه ، { وأطيعون } فيما أدعوكم إليه وأبلغكموه عن ربي فإن ذلك خير لكم من الإِعراض والتمادي في الباطل .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- الأمر بالتقوى من النصح للمأمور بها ، لأن النجاة والفوز لا يتمان للعبد إلا عليها .
2- الرسل أمنا على ما يحملون وما يبلغون الناس .
3- حرمة أخذ الأجرة على بيان الشرع والدعوة إلى ذلك .
4- ينبغي للعبد أن لا يسرف فيبني ما لا يسكن ويدخر ما لا يأكل .
5- استنكار العنف والشدة في الأخذ وعند المؤاخذة .
(3/114)
________________________________________
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
شرح الكلمات :
{ أمدكم } : أي أعطاكم منعماً عليكم .
{ بأنعام } : هي الإِبل والبقرة والغنم .
{ عذاب يوم عظيم } : هو يوم هلاكهم في الدنيا ويوم بعثهم يوم القيامة .
{ سواء علينا } : أي مستو عندنا وعظك وعدمه فإنا لا نطيعك .
{ إن هذا إلا خلق الأولين } : أي ما هذا الذي تعظنا فيه من البناء وغيره إلا دأب وعادة الأولين فنحن على طريقتهم ، وما نحن بمعذبين .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في الحوار الذي دار بين نبي الله هود عليه السلام وبين قومه المشركين إذ أمرهم بالتقوى وبطاعته وأمرهم أيضاً بتقوى الله الذي أمدهم أي أنعم عليهم بما يعلمونه من أنواع النعم فإن طاعة المنعم شكر له على إنعامه ومعصيته كفر لإِنعامه فقال { واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون } وبين ذلك بقوله { أمدكم بأنعام } أي مواشي من إبل وبقر وغنم { وبنين } أي أولاد ذكور وإناث { وجنات } أي بساتين { وعيون } لسقيها وسقيكم وتطهيركم ، ثم قال لهم في إشفاق عليهم { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } إن أنتم أصررتم على الشرك والمعاصي وقد يكون عذاباً في الدنيا وعذاباً في الآخرة ، وقد عذبوا في الدنيا بإهلاكهم ويعذبون في الآخرة لأنهم ماتوا كفاراً مشركين عصاة مجرمين ، كان هذا ما وعظهم به نبيهم هود عليه السلام ، وكان ردهم على وعظه ما أخبر تعالى به في قوله { قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين } أي مستوٍ عندنا وعظك أي تخويفك وتذكيرك وعدمه فما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك ، وما نحن لك بمؤمنين وقالوا { إن هذا } الذي نحن عليه من البناء والإِشادة وعبادة آلهتنا { إلا خلق الأولين } أي دأب وعادة من سبقنا من الناس ، وما نحن بمعذبين عليه قال تعالى مخبراً عن نتيجة ذلك الحوار وتلك الدعوة التي قام بها نبي الله هود { فكذبوه } أي كذبوا هوداً فيما جاءهم به ودعاهم إليه وحذرهم منه ، { فأهلكناهم } أي بتكذيبهم وإعراضهم { إن في ذلك } الإهلاك للمكذبين عبرة لقومك يا محمد لو كانوا يعتبرون { وما كان أكثرهم مؤمنين } لما سبق في علم الله من عَدَم إيمانهم فلذا لم تنفعهم المواعظ والعبر ، وإن ربك لهو العزيز الرحيم فقد أخذ الجبابرة العتاة فأنزل بهم نقمته وأذاقهم مر عذابه ، ورحم أولياءه فأنجاهم وأهلك أعداءهم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تنويع أسلوب الدعوة وتذكير الجاحدين بما هو محسوس لديهم مرأي لهم .
2- التخويف من عذاب الله والتحذير من عاقبة عصيانه من أساليب الدعوة .
3- بيان سنة الناس في التقليد واتباع آبائهم وإن كانوا ضلالاً جاهلين .
4- تقرير التوحيد والنبوة البعث إذ هو المقصود من هذا القصص .
(3/115)
________________________________________
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)
شرح الكلمات :
{ كذبت ثمود المرسلين } : أي كذبت قبيلة ثمود نبيّها صالحاً .
{ فيما ها هنا آمنين } : أي من الخيرات والنعم غير خائفين من أحد .
{ طالعها هضيم } : أي طلع النخلة لين ناعم ما دام في كُفرَّاهُ أي غطاؤه الذي عليه .
{ وتنحتون من الجبال بيوتاً } : أي تنْجُرون بآلات النحت الصخور في الجبل وتتخذون منها بيوتاً .
{ فرهين } : أي حذقين من جهة وبطرين متكبرين مغترين بصنيعكم من جهة أخرى .
{ وأطيعون } : أي فيما أمرتكم به .
{ المسرفين } : أي في الشر والفساد بالكفر والعناد .
{ الذين يفسدون في الأرض } : أي بارتكاب الذنوب العظام فيها .
{ ولا يصلحون فيها } : أي بفعل الطاعات والقربات .
معنى الآيات :
هذا بداية قصص نبي الله صالح عليه السلام قال تعالى { كذبت ثمود المرسلين } أي جحدت قبيلة ثمود ما جاءها به رسولها صالح ، { إذ قال لهم أخوهم } في النسب لافي الدين إذ هو مؤمن وهم كافرون { ألا تتقون } أي يحضهم على التقوى ويأمرهم بها لأن فيها نجاتهم والمراد من التقوى اتقاء عذاب الله بالإِيمان به وتوحيده وطاعته وطاعة رسوله وقوله { إني لكم رسول أمين } يعلمهم بأنه مرسل من قبل الله تعالى إليهم أمين على رسالة الله وما تحمله من العلم والبيان والهدى إليهم . { فاتقوا الله وأطيعون } كرر الأمر بالتقوى وبطاعته إذ هما معظم رسالته ومَتَى حقّقها المرسل إليهم اهتدوا وأفلحوا { وما أسألكم عليه من أجر } أبعد تهمة المادة لما قد يقال أنه يريد مالاً فأخبرهم في صراحة أنه يطلب على إبلاغهم دعوة ربهم أجراً من أحد إلا من الله رب العالمين إذ هو الذي يثيب ويجزي العاملين له وفى دائرة طاعته وقوله فيما أخبر تعالب به عنه { أتتركون فيما ههنا } بين أيديكم من الخيرات { آمنين } غير خائفين ، وبين ما أشار إليه بقوله فيما ها هنا فقال { في جنات } أي بساتين ومزارع بمدائنهم وهي إلى الآن قائمة { وعيون وزروع ، ونخل طلعها هضيم } أي لين ناعم ما دام في كفراه أي غلافه { وتنحتون من الجبال بيوتاً } لما خولكم الله من قوة ومعرفة بفن النحت حتى أصبحتم تتخذون من الجبال الصم بيوتاً تسكنونها شتاء فتقيكم البرد . وقوله { فرهين } هذا حال من قوله { وتنحتون من الجبال } ومعنى { فرهين } حذقين فن النحت وبطرين تكبرين مغترين بقوتكم وصناعتكم ، إذاً { فاتقوا الله } يا قوم بترك الشرك والمعاصي . { وأطيعون } فيما آمركم به وأنهاكم عنه وأدعوكم إليه { ولا تطيعوا أمر المسرفين } أي على أنفسهم بارتكاب الكبائر وغشيان الذنوب . { الذين يفسدون في الأرض } أي بمعاصي الله ورسوله فيها { ولا يصلحون } أي جمعوا بين الفساد والإفساد ، وترك الصلاة والإِصلاح .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- دعوة الرسل واحدة ولذا التكذيب برسول يعتبر تكذيباً بكل الرسل .
2- الأمانة شعار كل الرسل والدعاة الصادقين الصالحين في كل الأمم والعصور .
3- مشروعية التذكير بالنعم ليذكر المنعم فيُحب ويُطاع .
4- التحذير من طاعة المسرفين في الذنوب والمعاصي لوخامة عاقبة طاعتهم .
5- تقرير أن الفساد في الأرض يكون بارتكاب المعاصي فيها .
(3/116)
________________________________________
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
شرح الكلمات :
{ إنما أنت من المسحرين } : الذين سحروا وبُولغ في سحرهم حتى غلب عقولهم .
{ فأت بآية إن كنت من : إن كنت من الصادقين في أنك رسول فأتنا بآية تدل على الصادقين } ذلك .
{ لها شرب ولكم شرب يوم معلوم } : أي لها يوم تشرب فيه من العين ولكم يوم آخر معلوم .
{ فعقروها فأصبحوا نادمين } : أي فلم يؤمنوا فقتلوها فأصبحوا نادمين لما شاهدوا العذاب .
معنى الآيات : ما زال السياق في الحوار الذي دار بين صالح عليه السلام وقومه ثمود فلما ذكرهم ووعظهم ردوا عليه بما أخبر تعالى عنهم في قوله { قالوا غنما أنت من المسحرين } أي الذين سروا وبولغ في سحرهم حتى غلب على عقولهم فهم لا يعرفون ما يقولون { ما أنت إلا بشر مثلنا } تأكل الطعام وتشرب الشراب فلا أنت رب ولا ملك فنخضع لك ونطيعك { فأت بآية } علامة قوية ودلالة صادقة تدل على أنك رسول الله حقا وأنت من الرسل الصادقين ، فأجابهم صالح بما أخبر تعالى به عند في قوله : { قال هذه ناقة } أي عظيمة الخلقة سأل ربه آية فأعطاه هذه الناقة فما زال قائماً يصلي ويدعو وهم يشاهدون حتى أنفلق الجبل وخرجت منه هذه الناقة الآية العظيمة فقال { هذه ناقة لها شرب } أي حظ ونصيب من ماء البلد تشربه وحدها لا يرد معها أحد ولكم أنتم شرب يوم معلوم لكم تردونه وحدكم . { ولا تمسها بسوء } وحذرهم أن يمسوها بسوء لا بضرب ولا بقتل ولا بمنع من شرب ، فإنه يأخذكم عذاب يوم عظيم قال تعالى { فعقروها } أي فكذبوه وعصوه وعقروها بأن ضربوها في يديها ورجلها فبركت وقتلوها . فلما عقروها قال لهم صالح { تمتعوا ي داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب } فأصبحوا بذلك نادمين ففي صبيحة اليوم الثالث أخذتهم الصيحة مع شروق الشمس فاهلكوا أجمعين ونجى الله تعالى صالحاً ومن معه من المؤمنين { إن في ذلك لآية } أي علامة كبرى على قدرة الله تعالى وعلمه وأنه واجب الألوهية { وما كان أكثرهم مؤمنين } مع وضوح الأدلة لأنه لم يسبق لهم إيمان في قضاء الله وقَدَرِه { وإن ربك } أيها الرسول لهو وحده العزيز الغالب الذي لا يغالب الرحيم بأوليائه وصالحي عباده .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير أن السحر من عمل الناس وأنه معلوم لهم معمول به منذ القدم .
2- سنة الناس في المطالبة بالآيات عند دعوتهم إلى الدين الحق .
3- وجود الآيات لا يستلزم بالضرورة إيمان المطالبين بل أكثرهم لا يؤمنون .
4- الندم من التوبة ولكن لا ينفع ندم ولا توبة عند معاينة العذاب أو أماراته .
(3/117)
________________________________________
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)
شرح الكلمات
{ قوم لوط } : هم سكان مدن سدوم وعمورية وقرى أخرى ولوط هو نبي الله لوط بن هاران ابن أخى إبراهيم .
{ أخوهم لوط } : هذه أخوة بلد وسكنى لا أخوة نسب ولا دين .
{ إني لكم رسول أمين } : أي إني مرسل إليكم لا إلى غيركم أمين في إبلاغكم رسالتي فلا أنقص ولا أزيد .
{ فاتقوا الله } : بالإِيمان به وعبادته وحده وترك معاصيه .
{ وما أسألكم عليه } : أي على البلاغ من أجرة مقابل إرشادكم وتعليمكم .
{ أتأتون الذكران من العالمين } : أي أتأتون الفاحشة من الرجال وتتركون النساء .
{ بل أنتم قوم عادون } : أي معتدون ظالمون متجاوزون الحد في الإِسراف في الشر .
معنى الآيات :
هذه بداية قصص لوط مع قومه أصحاب المؤتفكات قال تعالى { كذبت قوم لوط المرسلين } أي كذبوا لوطاً الرسول وتكذيبه يعتبر تكذيباً لكافة الرسل لأن دعوة الله واحدة كذبوه لما دعاهم إلى عبادة الله تعالى وحده وترك الفواحش والظلم الشر والفساد إذ قال لهم أخوه لوط هذه أخوة الوطن لا غير إذ لوط بابلي الموطن ودينه الإِسلام وأبوه هاران أخو إبراهيم عليه السلام ، وإنما لما أرسل لوط إلى أهل هذه البلاد وسكن معهم قيل لهم أخوهم بحكم المعاشرة والمواطنة الحاصلة { ألا تتقون } يأمرهم بتقوى الله ويحضهم عليها لأنهم قائمون على عظائم الذنوب فخاف عليهم الهلاك فدعاه إلى أسباب النجاة وهي تقوى الله بطاعته وترك معاصيه . وقال لهم { إني لكم رسول أمين } فلا تشكوا في رسالتي وأطيعون ، وإني غير سائلكم أجراً على تبلغي رسالتي إليكم إن أجري آخذه من رب العالمين الذي حملني هذه الرسالة وأمرني بإبلاغكم إياها وهنا أنكر عليه أعظم منكر فقال موبخاً مقرعاً { أتأتون الذكران من العالمين } فترتكبون الفاحشة معهم { وتذرون } أي تتركون ما خلق الله لكم من أزواجكم { بل أنتم قوم عادون } أي متجاوزون الحدود التي رسمها الشرع والعقل والآدمية .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- جواز إطلاق أخوة الوطن دون الدين والنسب .
2- الأمانة من مستلزمات الرسالة ، إذ كل رسول يقول { إني لكم رسول أمين } .
3- سبيل نجاة الفرد والجماعة في تقوى الله تعالى وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم .
4- وجوب إنكار المنكر وتقبيحه على فاعله لعله يرعوي .
5- أكبر فاحشة وقعت في الأرض هي فاحشة اللواط . والعياذ بالله تعالى .
(3/118)
________________________________________
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
شرح الكلمات :
{ لئن لم تنته } : أي عن إنكارك علينا ما نأتيه من الفاحشة .
{ من المخرجين } : أي من بلادنا وطردك من ديارنا .
{ لعملكم من القالين } : أي المبغضين له البغض الشديد .
{ رب نجني وأهلي مما يعملون } : اي من عقوبة وعذاب ما يعملونه من الفواحش .
{ فنجيناه وأهله } : أي نجينا لوطاً الذي دعانا وأهله وهم امرأته المؤمنة وابنتاه .
{ إلا عجوزاً في الغابرين } : أي فإنا لم ننجها إذ حكمنا بإهلاكها مع الظالمين فرتكناها معهم حتى هَلَكَتْ بينهم لأنها كانت كافرة وراضية بعمل القوم .
{ وأمطرنا عليهم مطراً } : أي أنزل عليهم حجارة من السماء فأمطروا بها بعد قلب البلاد عاليها سافلها .
{ فساء مطر المنذرين } : أي فقبح مطر المنذرين ولم يمتثلوا فما كفوا عن الشر الفساد .
معنى الآيات :
ما زال السياق فيما دار بين نبي الله لوط وقومه المجرمين فإنه لما ذكرهم ووعظهم وأمرهم ونهاهم وسمعوا ذلك كله منه أجابوا بما أخبر تعالى به عنهم { قالوا لئن لم تنته يا لوط } أي عن إنكارك علينا ما نأتيه من الفاحشة { لتكونن من المخرجين } أي نخرجك من بلادنا ونطردك من بيننا ولا تبقى ساعة واحدة عندنا إنتبه يا رجل . . فأجابهم لوط الرسول عليه السلام بقوله { إن يلعملكم من القالين } أي إني لعملكم الفاحشة من المبغضين أشد البغض ، ثم التفت إلى ربه داعياً ضارعاً فقال { رب نجني وأهلي مما يعلمون } وهذا بعد أن أقام يدعوهم ويتحمل سنين عديدة فلم يجد بداً من الفزع إلى ربه ليخلصه منهم فقال { ربي نجني وأهلي } من عقوبة وعذاب ما يعملونه من إتيان الفاحشة من العالمين قال تعالى { فنجيناه وأهله } وهم امرأته المسلمة وابنتاه المسلمتان طبعاً إلا عجوزاً وهي امرأته الكفارة المتواطئة مع الظلمة الراضية بالفعلة الشنعاء كانت في جملة الغابرين أي المتروكين بعد خروج لوط من البلاد لتهلك مع الهالكين قال تعالى { ثم دمرنا الآخرين } أي بعد أن نجينا لوطاً وأهله أجمعين باستثناء العجوز الكافرة دمرنا أي أهلكنا الآخرين { وأمطرنا عليهم مطراً فساء مطر المنذرين } إنه بعد قلب البلاد سافلها على عاليها أمطر عليهم مطر حجارة من السماء لتصيب من كان خارج المدن المأفوكة المقلوبة .
قوله تعالى { إن في ذلك لآية } أي في هذا الذي ذكرنا من إهلاك المكذبين والمسرفين الظالمين آية وعلامة كبرى لمن يسمع ويرى { وما كان أكثرهم مؤمنين } لما سبق في علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون فسبحان الله العظيم . وقوله { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } وإن ربك يا رسولنا هو لا غيره العزيز الغالب القاهر لكل الظلمة والمسرفين الرحيم بأولياءئه وعباده المؤمنين .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- التهديد بالنفي سنة بشرية قديمة .
2- وجوب بغض الشر والفساد في أي صورة من صورهما .
3- استابة دعوة المظلوم لا سيما إن كان من الصالحين .
4- توقع العذاب إذا انتشر الشر وعظم الظلم والفساد .
5- الآيات مهما كانت عظيمة لا تستلزم الإيمان والطاعة .
6- من لم يسبق له الإِيمان لا يؤمن ولو جلب عليه كل آية .
7- مظاهر قدرة الله وعلمه ورحمته .
(3/119)
________________________________________
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
شرح الكلمات :
{ أصحاب الأيكة } : أي الغيضة وهي الشجرة الملتف .
{ إذ قال لهم شعيب } : النبي المرسل شعيب عليه السلام .
{ أوفوا الكيل } : أي أتموه .
{ ولا تكونوا من المخسرين } : الذين ينقصون الكيل والوزن .
{ بالقسطاس المستقيم } : أي الميزان السوي المعتدل .
{ ولا تبخسوا الناس أشياءهم } : أي لا تنقصوهم من حقوقهم شيئاً .
{ ولا تعثوا في الأرض مفسدين } : أي بالقتل والسلب والنهب .
{ والجبلة الأولين } : أي والخليقة أي الناس من قبلكم .
معنى الآيات :
هذه بداية قصص شعيب عليه السلام مع أصحاب الأيكة والأيكة الشجرة الملتف كشجر الدوم وهذه الغيضة قريبة من مدينة وشعي بأرسل لهما معاً وفي سورة هود { وإلى مدين أخاهم شعيباً } لأنه منهم ومن مدينتهم فقيل له أخوهم ، وأما أصحاب الأيكة جماعة من بادية مدين كانت لهم أيكة من الشجرة يعبدونها تحت أي عنوان كعبدة الأشجار والأحجار في كل زمان ومكان ، فبعث الله تعالى إليهم شعيباً فدعاهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه فكذبوه وهو قوله تعالى { كذب أصحاب الأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون } أي اتقوا الله وخافوا عقابه { إني لكم رسول أمين } فاتقوا الله بعبادته وترك عبادة ما واسه وأطيعون أهدكم الى ما فيه كمالكم وسعادتكم { وما أسألكم عليه } أي على بلاغ رسالة ربي إليكم أجراً أي جزاء وأجرة { إن أجري } أي ما أجري إلا على ربي العالمين : وأمرهم بترك أشهر معصية كانت شائعة بينهم وهي تطفيف الكيل والوزن فقال لهم { أوفوا الكيل } أي أتموها ولا تنقصوها { ولا تكونوا من المخسرين } أي الذين ينقصون الكيل والوزن { وزنوا } أي إذا وزنتم { بالقسطاس المستقيم } أي بالميزان العادل ، { ولا تبخسوا الناس أشاءهم } أي لا تنقصوهم من حقوقهم شيئاً فما يساوي ديناراً لا تعطوا فيه نصف دينار وما يساوي عشرة لا تأخذوه بخمسة مثلاً ومن أجرته اليومية عشرون لا تعطوه عشرة مثلاً ، { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } أي ولا تفسدوا في البلاد بأي نوع من الفساد كالقتل والسلب ومنع الحقوق وارتكاب المعاصي والذنوب { واتقوا الذي خلقكم } أي الله فخافوا عقابه { والجبلة الأولين } أي وخلق الخليقة من قبلكم اتقوه بترك الشرك والمعاصي تنجوا من عذابه ، وتظفروا برضاه وإنعامه .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- الأمر بالتقوى فريضة كل داع إلى الله تعالى وسنة الدعاة والهداة إذ طاعة الله واجبة .
2- لا يصح لداع إلى الله أن يطلب أجره ممن يدعوهم فإن ذلك ينفرهم .
3- وجوب توفية الكيل والوزن وحرمة التطفيف فيهما .
4- حرمة بخس الناس حقوقهم ونقصها بأي حال من الأحوال .
5- حرمة الفساد في الأرض بارتكاب المعاصي وغشيان الذنوب .
(3/120)
________________________________________
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
شرح الكلمات :
{ إنما أنت من المسحرين } : أي ممن يأكلون الطعام ويشربون فلست بملك تطاع .
{ وإن نظنك لمن الكاذبين } : أي وما نحبسك إلا واحداً من الكاذبين .
{ فأسقط علينا كسفاً } : أي قطعاً من السماء تهلكنا بها إن كنت من الصادقين فيما تقول .
{ عذاب يوم الظلة } : أي السحابة التي أظلتهم ثم التهبت عليهم ناراً .
{ إن في ذلك لآية } : أي لعبرة وعلامة عبرة لمن يعتبر وعلامة دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في قصص عليه السلام مع أصحاب الأيكة وأهل مدين إنه لما ذكرهم ووعظهم وأمرهم كان جوابهم ما أخبر به تعالى عنهم في قوله { قالوا إنما أنت } أي يا شعيب { من المسحرين } الذي غلب السحر على عقولهم فلا يدرون ما يفعلون وما لا يقولون كما أنك بشر مثلنا تأكل الطعام وتشرب الشراب فما أنت بملك من الملائكة حتى نطيعك . { وإن نظنك } أي وما نظنك إلا من الكاذبين من الناس { فأسقط علينا كسفاً } أي قطعاً من السماء تهلكنا بها { إن كنت من الصادقين } في دعوى أنك رسول من الله إلينا . فأجابهم قائلاً بما ذكر تعالى { قال ربي ألعم بما تعملون } ولازم ذلك أنه سيجازيكم بعملكم قال تعالى { فكذبوه } في كل ما جاءهم به واستوجبوا لذلك العذاب { فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم } فقد أنزل الله تعالى عليهم حراً شديداً التهب منه الجوّ أو كاد فلجأ وإلى المنازل والكهوف والسراديب تحت الأرض فلم تغن عنهم شيئاً ، ثم اتفعت في سماء بلادهم سحابة فذهب إليها بعضهم فوجدها روحاً وبرداً وطيباً فنادى الناس أن هلموا فجاءوا فلما اجتمعوا تحتها كلهم انقلبت ناراً فأحرقتهم ورجفت بهم من تحتهم فهلكوا عن آخرهم .
قال تعالى { إن في ذلك لآية } أي علامة لقومك يا محمد على قدرتنا وعلمنا ووجوب عبادتنا وتصديق رسولنا ولكن أكثرهم لا يؤمنون لما سبق في علمنا أنهم لا يمؤمنون ، وإن ربك يا محمد لهو العزيز أي الغالب على أمره الرحيم بمن تاب من عباده .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- هذا آخر سبع قصص ذكرت بإيجاز تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتهديداً للمشركين المكذبين .
2- دعوة الرسل واحدة وأسلوبهم يكاد يكون واحداً : الأمر بتقوى الله وطاعة رسوله .
3- سنة تعلل الناس بأن الرسول لا ينبغي أن يكون بشراً فلذا هم لا يؤمنون .
4- المطالبة بالآيات تكاد تكون سنة مطردة ، وقل من يؤمن عليها .
5- تقرير التوحيد والنبوة والبعث وهي ثمرة كل قصة تقص في هذا القرآن العظيم .
(3/121)
________________________________________
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)
شرح الكلمات :
{ وإنه لتنزيل رب العالمين } : أي القرآن الكريم تنزيل رب العالمين .
{ الروح الأمين } : جبريل عليه السلام أمين على وحي الله تعالى .
{ وإنه لفي زبر الأولين } : أي كتب الأولين ، واحد الزبر : زبرة وكصفحة وصحف .
{ أولم يكن لهم آية } : أي علامة ودليلاً علم بني إسرائيل بالعربية .
{ على بعض الأعجمين } : الأعجمي من لا يقدر على التكلم بالعربية .
{ كذلك سلكناه } : أي التكذيب في قلوب المجرمين من كفار مكة .
معنى الآيات :
لقد أنكر كفار مكة أن يكون القرآن وحياً أوحاه الله تعالى وبذلك أنكروا أن يكون محمد رسول الله ، ومن هنا ردوا عليه كل ما جاءهم به من التوحيد وغيره ، فإيراد هذا القصص يتلوه محمد صلى الله عليه وسلم وهو لا يقرأ ولا يكتب دال دلالة قطعية على أنه وحى إلهي أوحاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهو بذلك رسوله . فقوله تعالى { وإنه } أي القرآن الذي كذب به المشركون { تنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين } جبريل عليه السلام { على قلبك } أي الرسول لأن القلب هو الذي يتلقى الوحي إذ هو محط الإِدراك والوعي والحفظ ، وقوله { لتكون من المنذرين } هو علة لنزول القرآن عليه وبه كان من الرسل المنذرين . وقوله { وإنه لفي زبر الأولين } أي القرآن مذكور في الكتب الإِلهية التي سبقته كالتوراة والإِنجيل . وقوله تعالى { أو لم يكن لهم } أي لكفار قريش { آية } أي علامة على أن القرآن وحي الله وكتابه وأن محمداً عبد الله ورسوله { أن يعلمه علماء بنى إسرائيل } أي علم بني إسرائيل به كعبد الله بن سلام فقد قال والله إني لأعلم أن محمداً رسول أكثر مما أعلم أن فلاناً ولدي ، لأن ولدي في الإِمكان أن تكون أمه قد خانتني أما محمد فلا يمكن أن يكون غير رسول الله وفيهم قال تعالى { يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } ومن عرف محمداً رسولاً عرف القرآن وحياً إليهاً .
وقوله تعالى { ولو نزلناه على بعض الأعجمين } أي وبلسان عربي مبين فكان ذلك آية ، وقرأه عليهم الأعجمي ، ما كانوا به مؤمنين . أي من أجل الأنفة والحمية إذ يقولون أعجمي وعربي؟ وقوله تعالى : { كذلك سلكناه } أي التكذيب وعدم الإِيمان { في قلوب المجرمين } أي كما سلكنا التكذيب في قلوب المجرمين لو قرأ القرآن عليهم أعجمي سلكناه أي التكذيب في قلوب المجرمين إن قرأه عليهم محمد صلى الله عليه وسلم ، والعلة في ذلك هي أن الإِجرام على النفس بارتكاب عظائم الذنوب من شأنه أن يحول بين النفس وقبول الحق لما ران عليها من الذنوب وأحاط بها من الخطايا . وقوله { لا يؤمنون به } تأكيد لنفي الإِيمان حتى يروا العذاب الأليم أي يستمر تكذيبهم بالقرآن والمنزل عليه حتى يروا العذاب الموجع ، وحينئذ لا ينفعهم إيمانهم ولا هم ينظرون .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير معتقد الوحي الإِلهي والنبوة المحمدية .
2- بيان أن جبريل هو الذي كان ينزل بالوحي القرآني على النبي صلى الله عليه وسلم .
3- تقرير النبوة المحمدية وأن محمداً من المنذرين .
4- بيان أن القرآن مذكور في الكتب السابقة بشهادة علماء أهل الكتاب .
5- إذا تراكمت آثار الذنوب والجرائم على النفس حجبتها عن التوبة ومنعتها من الإِيمان .
(3/122)
________________________________________
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
شرح الكلمات :
{ هل نحن منظرون } : أي ممهلون لنؤمن . والجواب قطعاً : لا لا . .
{ أفرأيت } : أي أخبرني .
{ إن متعناهم سنين } : أي أبقينا على حياته يأكلون ويشربون وينكحون .
{ ما كانوا يوعدون } : أي من العذاب .
{ ما إغنى عنهم } : أي أي شيء أغنى عنهم ذلك التمتع الطويل لا بدفع العذاب ولا بتخفيفه .
{ إلا لها منذرون } : أي رسل ينذرون أهلها عاقبة الكفر والشرك .
{ ذكرى } : أي عظة .
{ وما تنزلت به الشياطين } : أي لا يتأتى لهم ولا يصلح له أن تنزلوا به .
{ وما يستطيعون } : أي لا يقدرون .
{ إنهم عن السمع } : أي لكلام الملائكة لمعزولون .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تقرير النبوة المحمية واثبات الوحي . لقد جاء في السياق أن المجرمين لا يؤمنون بهذا القرآن حتى يروا العذاب الأليم . فيأتيهم بغتة أي فجأة وهم لا يشعرون أي لا يعلمون به حتى يفاجئهم . فيقولون حينئذ : { هل نحن منظرون } أي يتمنون أن لو يمهلوا حتى يؤمنوا ويصلحوا ما أفسدوا .
وقوله تعالى : { أفبعذابنا يستعجلون } عندما قالوا للرسول { لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كسفاً من السماء } أي قطعاً ، أحُمق هم أم مجانين يستعجلون عذاب الله الذي إن جاءهم كان فيه حتفهم أجمعين؟ ثم قال لرسوله : { أفرأيت } يا رسولنا { إن متعناهم سنين } بأن أطلنا أعمارهم ووسعنا في أرزقاهم فعاشوا سنين عديدة ثم جاءه عذابنا أي أخبرنى هل يغني ذلك التمتع عنهم سيئاً؟ ما إغنى عنهم ما كانوا يمتعون أي لم يُغْنِ عنهم شيئاً لا بدفع العذاب ولا بتأخيره ولا بتخفيه .
وقوله تعالى { وما أهلكنا من قرية } كتلك القرى التي مر ذكرها في هذه السورة { إلا لها منذرون } أي كان لها رسل ينذرون أهلها عقاب الله إن أصروا على الشرك والكفر والشر والفساد . وقوله { وذكرى } أي عظة لعلهم يتعظون . وقوله { وما كنا ظالمين } في إهلاك من أهلكنا بعد أن أنذرنا .
ونزل رداً على المشركين المجرمين الذين قالوا إن الشياطين يلقون القرآن على لسان محمد كما يأتون للكهان بأخبار السماء . { وما تنزلت به الشياطين } كما يزعم المكذبون { وما ينبغي لهم } أي للشياطين أي لا يصلح لهم ولا يتأتَّى منهم ذلك لأنهم معزولون عن السمع ، أي سماع كلام الملائكة إذ أرصد الله تعالى شبهاً حالت بينهم وبين السماع من السماء . فلذا دعوى المشركين بطالة من أساسها .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان أن المجرمين إذا شاهدوا العهذاب تمنوا التوبة ولا يمكنون منها .
2- بيان أن ساتعجال عذاب الله حمق ونزغ في الرأي وفساد في العقل .
3- بيان أن طول العمر وسعة الرزق لا يغنيان عن صاحبها شيئاً من عذاب الله إذا نزل به .
4- بيان سنة الله تعالى في أنه لا يهلك أمة إلا بعد الإِنذار والبيان .
5- إبطال مزاعم المشركين في أن القرآن من جنس ما يقوله الكهان . وأن الشياطين تتنزل به .
(3/123)
________________________________________
فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
شرح الكلمات :
{ فلا تدع مع الله إلهاً آخر } : أي لا تعبد مع الله إلهاً آخر ، لأن الدعاء هو العبادة .
{ وأنذر عشيرتك الأقربين } : وهم بنو هاشم ونبو عبد المطلب .
{ واخفض جناحك } : أي ألن جانبك .
{ فإن عصوك } : أي أبوا قبول دعوتك إلى التوحيد ، ورفضوا ما تدعوهم إليه .
{ فقل إني بريء مما تعملون } : أي من عبادة غير الله سبحانه وتعالى .
{ الذي يراك حين تقوم } : أي إلى الصلاة فتصلي متهجداً بالليل وحدك .
{ وتقلبك في الساجدين } : أي ويرى تقلبك مع المصلين راكعاً ساجداً قائماً .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في طلب هداية قريش قوم محمد صلى الله عليه وسلم فقوله تعالى { فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين } فيه إيحاء وإشارة واضحة بأنه تعريض بالمشركين الذين يدعون آلهة أصناماً وهي دعوة توقظهم من نومتهم إنه إذا كان رسول الله ينهى عن عبادة غي رالله وإلا يعذب مع المعذبين فغيره من باب أولى فَكَأن الكلام جرى على حد إياك أعني واسمعي يا جارة!! وقوله تعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين } أمر من الله لرسوله أن يخص أولاً بإنذاره قرابته لأنهم أولى بطلب النجاة لهم من العذاب ، وقد امتثل الرسول أمر ربه فقد ورد في الصحاح عن أبي هريرة رضى الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه { وأنذر عشيرتك الأقربين } قال « يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله ( يعني بالإِيمان والعمل الصالح بعد التخلي عن الشرك والمعاصي ) فإِني لا أغني من الله شيئاً ، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله اي من عذابه شيئاً ، يا عباس بن عبد المطلب ، لا أغني عنك من الله شيئاً ، يا صفية عمة رسول الله لا إني عنك من الله شيئاً ، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا إني عنك من الله شيئاً » .
وقوله تعالى { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } أمره أن يلين جانبه للمؤمنين وأن يعطف عليهم ويُطايبهم ليرسخ الإِيمان في قلوبهم ويسلموا من غائلة الردة فيما لو عوملوا بالقسوة والشدة وهم في بداءة الطريق الى الله تعالى وقوله تعالى { فإن عصوك } أي من أمرت بدعوتهم إلى توحيد الله وعبادته وخلع الأنداد والتخلي عن عبادتها { فقل إني برىء مما تعملون } أي من عبادة غير الله تعالى وغير راضٍ بذلك منكم ولا موافق عليه لأنه شرك حرام وابطل مذموم . وقوله تعالى { وتوكل على العزيز } أي الغالب القاهر الذي لا يمانع في شيء يريده الرحيم بالمؤمنين من عباده ، والأمر بالتوكل هنا ضروري لأنه أمره بالبراءة من الشرك المشركين وهي حال تقتضي عداوته والكيد له بل ومحاربته ومن هنا وجب التوكل على الله والاعتماد عليه ، وإلا فلا طاقة له بحرب قوم وهو فرد واحد وقوله { الذي يراك حين تقوم } أي في صلاتك وحدك { وتقلبك في الساجدين } أي ويرى تقلبك قائماً وراكعاً وساجداً مع المصلين من المؤمنين .
(3/124)
________________________________________
بمعنى أنه معك يسمع ويرى فتوكل عليه ولا تخف غيره وامض في دعوتك ومفاصلتك للمشركين . وقوله { إنه هو السميع العليم } تقرير لتلك المعية الخاصة إذ السميع لكل صوت والعيم بكل حركة وسكون يحق للعبد التوكل عليه وتفويض الأمر إليه .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير التوحيد ، وحرمة دعاء غير الله تعالى من سائر مخلوقاته لأنه الشرك الحرام .
2- من مات يدعو غير الله فهو معذب لا محالة مع المعذبين .
3- تقرير قاعدة البدء بالأقارب في كل شيء لأنهم ألصق بقريبهم من غيرهم .
4- مشروعية لين الجانب والتواضع للمؤمنين لا سيما الحديثو عهد بالإِسلام .
5- وجوب البراءة من الشرك وأهله .
6- وجوب التوكل على الله والقيام بما أوجبه الله تعالى .
7- فضل قيام الليل وصلاة الجماعة لما يحصل للعبد من معية الله تعالى .
(3/125)
________________________________________
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
شرح الكلمات :
{ أنبئكم } : أي أخبركم .
{ أفاك أثيم } : أي كذاب يقلب الكذب فيكون إفكاً أثيم غارق في الآثام .
{ يلقون السمع } : أي يلقون أسماعه ويصغون أشد الإِصغاء للشياطين فيتلقون منهم مما أكثره كذب وباطل .
{ الغاوون } : جمع غاوٍ : الضال عن الهدى الفاسد القلب والنية .
{ في كل واد } : أي من أودية الكلام وفنونه .
{ يهيمون } : أي يمضون في كل شعب وواد من الكلا ممدحاً أو ذما كان صدقاً أو كذباً .
{ يقولون مالا يفعلون } : أي يقولون فعلنا وهم لم يفعلوا .
{ وانتصروا من بعدما ظلموا } : أي قالوا الشعر انتصاراً للحق بأن ردوا على من هجا المسلمين .
{ أي منقلب ينقلبون } : أي مرجع يرجعون بعد الموت وهو دار جهنم .
معنى الآيات :
لما ادعى المبطلون من مشركي قريش أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى من الشياطين كما تتلقى الكهان منهم رد تعالى عليهم بقوله { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين؟ } وأجاب عن السؤال قائلاً { تنزل على كل أفاك } كذا يقلب الكذب قلباً فيقول في الظالم عادل ، وفي الخبيث طيب ، وفي الفاسد صالح ، { أثيم } أي كثير الآثام إذ لم يترك جريمة إلا يقارفها ولا سيئة إلا يجترحها حتى يغرق في الإِثم فهذا الذي تتحد معه الشياطين وتلقي إليه بما تسمعه من السماء لكونه مثلها في ظلمة النفس وخبث الروح ، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فهو أبعد الناس عن الكذب والإِثم فلم يجرب عليه كذب قط ولم يعرف منه ذنب أبداً فكيف السمع وأكثرهم كاذبون } أي إن الشياطين قبل أن يحال بينهم وبين استراق السمع بإرصاد الشهب لهم . كانوا يلقون أسماعهم للحصول على الخبر وأكثرهم كاذبون حيث يخلطون مع الكلمة التي سمعوها مائة كلمة كلها كذب منهم ويلقون ذلك الكذب إلى إخوانهم في الكفر والخبث من كهنة الناس .
وقوله تعالى { والشعراء يتبعهم الغاوون } أي أهل الغواية والضلال هم الذين يتبعون الشعراء فيروون لهم وينقلون عنهم : ويصدقونهم فيما يقولون . والدليل على ذلك { أنهم } أي الشعراء { في كل واد } من أودية الكلام وفنونه { يهيمون } على وجوههم ماضين في قولهم فيمدحون ويذمون ، يهجون ، ويفخرون ، ويدعون أنهم فعلوا كذا وكذا وما فعلوا فهل محمد صلى الله عليه وسلم الذي اتهمتموه بأنه شاعر وما يقوله من جنس الشعر أتباعه غاوون انظروا إليهم واسألوا عنهم فإنهم أهدى الناس وأبرهم فعلاً وأصدقهم حديثاً وأبعدهم عن الريبة ، فلو كان محمد شاعراً لكان أتباعه الغوين فبذا بطلت الدعوى من أساسها .
وقوله { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعدما ظلموا } إنه لما ذم الشعراء ، استثنى منهم أمثال : عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت ممن آمنوا وعملوا الصالحات وانتصروا يردون هجاء المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وينافحون عن الإِسلام وأهله بشعرهم الصادق النقي الطاهر الوفي .
(3/126)
________________________________________
وقوله تعالى { وسيعلم الذين ظلموا } رسول الله باتهامه بالكهانة مرة وبالشعر مرة أخرى وظلموا الوحي الإِلهي بوصفه بما هو بعيد عنه من الكهانة والشعر { أي منقلب ينقلبون } أي أي مرجع يرجعون إليه ، إنه النار وبئس القرار .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- إبطال فرية المشركين من أن القرآن من جنس ما يقوله الكهان .
2- إبطال أن الرسول صلى الله عليه وسلم كاهن وشاعر .
3- بيان أن الشياطين تتحد مع ذوي الأرواح الخبيثة بالإِفك والآثام .
4- بيان أن الشعراء المبطلين أتباعهم في كل زمان ومكان الغاوون الضالون .
5- جواز وظم الشعر وقوله في تقرير علم أو تسجيل حكمة ، أو انتصار للإِسلام والمسلمين .
6- التحذير من عاقبة الظلم فإنها وخيمة .
(3/127)
________________________________________
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)
شرح الكلمات :
{ طس } : هذا أحد الحروف المقطّعة ، يقرأ : طا . سين .
{ تلك } : أي الآيات المؤلفة من هذه الحروف آيات القرآن .
{ هدى وبشرى } : أي أعلام هداية للصراط المستقيم ، وبشارة للمهتدين .
{ زيّنا لهم أعمالهم } : أي حببناها إليهم حسب سنتنا فيمن لا يؤمن بالبعث والجزاء .
{ فهم يعمهون } : في ضلال بعيد وحيرة لا تنتهى .
{ لهم سوء العذاب } : اي في الدنيا بالأسر والقتل .
معنى الآيات :
قوله تعالى { طس } لقد سبق أن ذكرنا أن السلف كانوا يقولون في مثل هذه الحروف المقطعة : الله أعلم بمراده بذلك ، وهذه أسلم ، وذكرنا أن هناك فائدة قد تقتنص من الاشارة بتلك أو بذلك ، وهي أن القرآن المعجز الذي تحدى به مُنَزله عز وجل الإنس والجن قد تألف من مثل هذه الحروف العربية فألفوا أيها العرب مثله سورة فأكثر فإن عجزتم فآمنوا أنه كلام الله ووحيه واعملوا بما فيه ويدعو إليه .
وقوله { تلك آيات الكتاب } أي المؤلفة من مثل هذه الحروف آيات القرآن { وكتاب مبين } اي مبين لكل ما يحتاج إلى بيانه من الحق والشرع في كل شؤون الحياة .
وقوله : { وهدىً وبشرى للمؤمنين } أي هاديٍ إلى الصراط المستقيم الذي يفضي بسالكه إلى السعادة والكمال في الدارين ، { وبشرى } أي بشارة عظمى للمؤمنين أي بالله ولقائه والرسول وما جاء به ، { الذين يقيمون الصلاة } بأدائها في أوقاتها في بيوت الله تعالى مستوفاة الشروط والأركان والواجبات والسنن والآداب { ويؤتون الزكاة } عند وجوبها عليهم { وهم بالآخرة } أي بالدار الآخرة { هم يوقنون } بوجودها والمصير إليها ، وبما فيها من حساب وجزاء .
وقوله تعالى : { إن الذين لا يؤمنون بالآخرة } أي بالبعث والجزاء { زينا لهم أعمالهم } أي حببناها إليهم حتى يأتوها وهي أعمال شر وفساد ، وذلك حسب سنتنا فيمن أنكر البعث واصبح لا يرهب حساباً ولا يخاف عقاباً انغمس في الرذائل والشهوات وأصبح لا يرعوي عن قبيح { فهم } لذلك { يعمهون } في سُلُوكِهم يتخبطون لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً .
وقوله تعالى : { أولئك الذين لهم سوء العذاب } أي في الدنيا بالأسر والقتل ، وهم في الآخرة هم الأكثر خساراً من سائر أهل النار أي اشد عذاباً .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان إعجاز القرآن إذ آياته مؤلفة من مثل طس ، وحم وعجز العرب عن تأليف مثله .
2- بيان كَوْن القرآن ، هدى وبشرى للمؤمنين الملتزمين بمتطلبات الإِيمان .
3- إِنكار البعث والدار الآخرة يجعل صاحبه شر الخليقة وأسوأ حالاً من الكلاب والخنازير
4- وجوب قتال الملاحدة وأخذهم أسراً وقتلاً حتى يؤمنوا بالله ولقائه لأنهم خطر على أنفسهم وعلى البشرية سواء .
(3/128)
________________________________________
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
شرح الكلمات :
{ وإنك لتلقى } : أي تلقنه وتحفظه وتعلمه .
{ من لدن حكيم } : اي من عند حكيم عليم وهو الله جل جلاله .
{ آنست ناراً } : أي أبصرت ناراً من بعد حصل لي بها بعض الأنس .
{ سآتيكم منها بخبر } : أي عن الطريق حيث ضلوا طريقهم إلى مصر في الصحراء .
{ بشهاب قبس } : أي بشعلة نار مقبوسة أي مأخوذة من أصلها .
{ لعلكم تصطلون } : أي تستدفئون .
{ أن بورك من في النار } : اي بارك الله جل جلاله من في النار وهو موسى عليه السلام إذ هو في البقعة المباركة التي نادى الله تعالى موسى منها .
{ وسبحان الله رب : أي نزه الرب تعالى نفسه عما لا يليق بجلاله وكماله من العالمين } صفات المحدثين .
{ يا موسى إنه أنا لله } : أي الحال والشأن أنا الله العزيز الحكيم الذي ناداك وباركك .
{ تهتز كأنها جان } : أي تتحرك بسرعة كأنها حية خفيفة السرعة .
{ ولم يعقب } : أي ولم يرجع إليها خوفاً وفزعاً منها .
{ ثم بدل حسناً بعد سوء } : أي تاب فعمل صالحاً بعد الذي حصل منه من السوء .
معنى الآيات :
ما زال السياق في تقرير النبوة المحمدية فقوله تعالى { وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم } يخبر تعالى رسوله بأنّه يلَقّنُ القرآن ويحفظه ويعلمه من لدن حكيم في تدبيره عليم بخلقه وهو الله جل جلاله وعظم سلطانه .
وقوله تعالى { إذ قال موسى } اذكر لمنكري الوحي والمكذبين بنبوتك إذ قال موسى إلى آخر الحديث ، هل مثل هذا يكون بغير التلقي من الله تعالى . والجواب : لا إذاً فأنت رسول الله حقاً وصدقاً { إذ قال موسى لأهله } امرأته وأولاده رإني آنست ناراً } أي أبصرتها مستأنساً بها . { سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون } أي تستدفئون إذ كانوا في ليلة شاتية باردة وقد ضلوا طريقهم .
وقوله تعالى { فلما جاءها } أي النار { نودي } أي ناداه ربه تعالى قائلاً : { أن بورك من في النار ومن حولها } أي تقديس من في النار التي هي نور الله جلا جلاله . وهو موسى عليه السلام ومن حولها من ارض القدس والشام ، والله أعلم بمراده من كلامه وإنا لنستغفره ونتوب إليه إن لم نوفق لمعرفة مراده من كلامه وخطابه فاغفر اللهم ذنبنا وارحم عجزنا وضعفنا إنك غفور رحيم ، وقوله تعالى { وسبحان الله رب العالمين } نزه تعالى نفسه عما لا يليق بجلاله وكماله وقوله { يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم } أي الذي يناديك هو الله ذو الألوهية على خلقه العزيز الغالب الذي لا يحال بينه وبين مراده الحكيم في قضائه وتدبير وتصريف ملكه بعد أن عرفه بنفسه وأذهب عنه روع نفسه ، أمره أن يلقي العصا تمريناً له على استعمالها فقال { وألق عصاك } فالقاها فاهتزت كأنا جان أي حية خفيفة السرعة { فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبراً } اي رجع القهقهرى فزعاً وخوفاً { ولم يعقب } أي لم يرجع إليها خوفاً منها فناداه ربه تعالى { يا موسى لا تخف } من حية ولا من غيرها { إني لا يخاف لدي المرسلون } { إلا من ظلم } اي نفسه باقتراف ذنب من الذنوب فهذا يخاف لكن إن هو تاب بعد الذنب ففعل حسنات بعد السيئات فإنه لا يخاف لأني غفور رحيم فأغفر له وارحمه .
(3/129)
________________________________________
وططمأن تعالى نفس موسى بهذا لأن موسى كان شاعراً بأنه أذنب بقتل القبطي قبل نبوته ورسالته ، وإن كان القتل خطأ إلا أنَّه تجب فيه الكفارة عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير النبوة المحمدية .
2- مشروعية السفر بالأهل والولد وجواز خطأ الطريق حتى على الأنبياء والأذكياء .
3- قيومية الرجل على النساء والأطفال .
4- تجلي الرب تعالى لموسى في البقعة المباركة ومناجاته وتدريبه على العصا والسلاح الذي يقاوم به فرعون وملأه فيما بعد .
5- الظلم بسبب الخوف والعقوبة إلا من تاب منه وأصلح فإن الله غفور رحيم .
(3/130)
________________________________________
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
شرح الكلمات :
{ في جيبك } : أي جيب ثوبك .
{ من غير سوء } : أي برص ونحوه بل هو ( البياض ) شعاع
{ في تسع آيات } : أي ضمن تسع آيات مرسلاً بها إلى فرعون .
{ مبصرة } : مضيئة واضحة مشرقة .
{ وجحدوا بها } : أي لم يقروا ولم يعترفوا بها .
{ واستيقنتها أنفسهم } : أي أيقنوا أنها من عند الله .
{ ظلماً وعلواً } : أي ردوها لأنهم ظالمون مستكبرون .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم مع موسى في حضرة ربه عز وجل بجانب الطور إنه لما أمره بإلقاء العصا فألقاها فاهتزت وفزع موسى لذلك فولى مدبراً ولم يعقب خائفاً فطمأنه ربه تعالى بأنه لا يخاف لديه المرسلون أمره أن يدخل يده في جيبه فقال { وأدخل يدك في جيبك } أي في جيب القميص { تخرج بيضاء من غير سوء } أي من غير برص بل هو بياض إشراق يكاد يذهب بالأبصار في تسع آيات أي ضمن تسع آيات مرسلاً بها إلى فرعون وقومه ، وبين تعالى علة ذلك الإرسال فقال : رإنهم كانوا قوماً فاسقين } اي خارجين عن الاعتدال إلى الغلو والإسراف في الشر والفساد وقوله تعالى : رفلما جاءتهم آياتنا } يحملها موسى مبصرة مضيئة واضحة دالة على صدق موسى في دعوته ، رفضوها فلم يؤمنوا بها ، { وقالوا هذا سحر مبين } ، اي الذي جاء به موسى من الآيات هو سحر بين لا شك فيه قال تعالى { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } اي جحدوا بالآيات وكذبوا وتيقنتها أنفسهم أنها آيات من عند الله دالة على رسالة موسى وصدق دعوته في المطالبة ببني إسرائيل وقوله ظلماً وعلوا أي حملهم على التكذيب والإِنكار مع العلم هو ظلهمهم واستكبارهم فإنهم ظالمون مستكبرون . وقوله تعالى : { فانظر كيف كان عاقبة المفسدين } أي انظر يا رسولنا محمداً صلى الله عليه وسلم كيف كان عاقبة المفسدين وهي إهلاكهم ودمارهم أجمعين .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- آية اليد هي إحدى الآيات التسع التي أوتي موسى عليه السلام دليلاً على وجود الآيات التي كان الله تعالى يؤيد بها رسله فمن أنكرها فقد كفر .
2- التنديد بالفسق واستحقاق أهله العذاب في الدارين .
3- الكبر والعلو في الأرض صابحبهما يجحد الحق ولا يقربه وهو يعلم أنه حق .
4- عاقبة الفساد في الأرض بالمعاصي سوءى ، والعياذ بالله تعالى .
(3/131)
________________________________________
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
شرح الكلمات :
{ علمنا } : هو علم ما لم يكن لغيرهم كمعرفة لغة الطير إلى جانب علم الشرع كالقضاء ونحوه .
{ وقالا الحمد لله } : أي شكراً له .
{ على كثير من عباده المؤمنين } : أي بالنبوة وتسخير الجن والإنس والشياطين .
{ وورث سليمان داوود } : أي ورث أباه بعد موته في النبوة والملك والعلم دون باقي أولاده .
{ علمنا منطف الطير } : أي فهم أصوات الطير وما تقوله إذا صفرت .
{ وأوتينا من كل شيء } : أوتيه غيرنا من الأنبياء والملوك .
{ وحشر لسليمان } : أي جمع له جنوده من الجن والإِنس والطير في مسير له .
{ فهو يوزعون } : أي يساقون ويرد أولهم إلى آخرهم ليسيروا في نظام .
{ لا يحطمنكم سليمان } : أي لا يكسرنكم ويقتلنكم .
{ وهم لا يشعرون } : أي بكم .
{ أوزعني أن اشكر } : أي الهمني لأن أشكر نعمتك التي أنعمت علي .
معنى الآيات :
هذا بداية قصص داوود وسليمان عليهما السلام ذكر بعد أن أخبر تعالى أنه يلقن رسوله محمداً ويعلمه من لدنه وهو العليم الحكيم ودلل على ذلك بموجز قصة موسى عليه السلام ثم ذكر دليلاً آخر وهو قصة داوود وسليمان ، فقال تعالى { ولقد آتينا } أي أعطينا داوود وسليمان { علماً } أي الوالد علماً خاصاً كمعرفة منطق الطير وصنع الدروع وإلانة الحديد زيادة على علم الشرع والقضاء ، وقوله تعالى { وقالا الحمد لله } أي شكرا ربهما بقولهمات { الحمد لله } أي الشكر لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين بما آتاهما من الخصائص والفواضل . هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 14 ) وأما الآية الثانية ( 15 ) فقد أخبر تعالى فيها أنّ سليمان ورث أباه داوود وحده دون باقي أولاده وذلك في النبوة والملك ، لا في الدرهم والدينار والشاة والبعير ، لأن الأنبياء لا يورثون فما يتركونه هو صدقة . كما أخبر أن سليمان قال في الناس { يا أيها الناس علمنا منطق الطير } فما يصفر طير إلا علم ما يقوله في صفيره ، وأوتينا من كل شيء أوتيه غيرنا من النبوة والملك والعلم والحكمة { إن هذا لهو الفضل المبين } أي فضل الله تعالى البين الظاهر . وقوله تعالى { وحشر لسليمان جنوده } اي جمع له جنوده { من الجن والإِنس والطير فهم يوزعون ] هو إخبار عن مسير كان لسليمان مع جنده { فهم يوزعون } اي جنوده توزع تساق بانتظام . بحيث لا يتقدم بعضها بعضاً فيرد دائماً أولها إلى آخرها محافظة على النظام في السير ، وما زالوا سائرين كذلك حتى أتوا على واد النمل بالشام فقالت نملة من النمل { يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنده وهم لا يشعرون } قالت هذا رحمة وشفقة على بنات جنسها تعلم البشر الرحمة والشفقة والنصح لبني جنسهم لو كانوا يعلمون ، واعتذرت لسليمان وجنده بقولها وهم لا يشعرون بكم وإلا لما داسوكم ومشوا عليكم حتى لا يحطمونكم .
(3/132)
________________________________________
وما إن سمعها سليمان وفهم كلامها حتى تبسم ضاحكاً من قولها { وقال رب } اي يا رب { أوعني } ألهمني } { أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ، وأن أعمل صالحاً ترضاه } أي ويسر لي عملاً صالحاً ترضاه مني ، { وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } اي في جملتهم في دار السلام .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وجوب الشكر على النعم .
وراثة سليمان لداوود لم تكن في المال لأن الأنبياء لا يورثون وإنما كانت في النبوة والملك .
3- آية تعليم الله تعالى سليمان منطق الطير وتسخير الجن والشياطين له .
4- فضل النمل على كثير من المخلوقات ظهر في نصح لأخواتها وشفقتها عليهن .
ذكاء النمل وفطنته مما أضحك سليمان متعجباً منه .
6- وجوب الشكر عند مشاهدة النعمة ورؤية الفضل من الله عز وجل .
7- تقرير النبوة المحمدية إذ مثل هذا الحديث لا يتأتى له غلا بالوحي الإِلهي .
(3/133)
________________________________________
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
شرح الكلمات :
{ وتفقد الطير } : أي تعهدها ونظر فيها .
{ مالي لا أرى الهدهد } : أعرض لي ما منعني من رؤيته أم كان من الغائبين؟
{ لأعذبنه عذاباً شديداً } : أي بِنَتْفِ ريشه ورميه في الشمس فلا يمتنع من الهوام .
{ بسلطان مبين } : أي بحجة واضحة على عذرة في غيبته .
{ فمكث غير بعيد } : أي قليلاً من الزمن وجاء سليمان متواضعاً .
{ أحطت بما لم تحط به } : أي اطلعت على ما لم تطلع عليه .
{ وجئتك من سبأ } : سبأ قبيلة من قبائل اليمن .
{ إني وجدت امرأة } : هي بلقيس الملكة .
{ ولها عرش عظيم } : أي سرير كبير .
{ فصدهم عن السبيل } : أي طريق الحق والهدى .
{ ألا يسجدوا لله } : أصلها أن يسجدوا أي فهم لا يهتدون ان يسجدوا لله .
وزيدت فيها « لا » وأدغمت فيها النون فصارت ألاَّ نظيرها لئلا يعلم أهل الكتاب من آخر سورة الحديد .
{ يخرج الخبأ في السموات } : أي المخبوء في السموات من الأمطار والأرض من النباتات والأرض .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في قصص سليمان عليه السلام قوله تعالى { وتفقد الطير } أي تفقد سليمان جنده من الطير طالباً الهدهد لأمر عنَّ له أي ظهر وهو يتهيأ لرحلة هامة ، فلم يجده فقال ما أخبر تعالى به عنه : { مالي لا أرى الهدهد } ألعارضٍ عَرَض لي فلم أره ، { أم كان من الغائبين } أي بل كان من الغائبين ، { لأعذبنه عذاباً شديداً } بأن ينتف ريشه ويتركه للهوام تاكله فلا يمتنع منها { أو لأذبحنه } بقطع حلقومه ، { أو ليأتيني بسلطان مبين } اي بحجة واضحة على سبب غيبته . قوله تعالى الآية ( 21 ) { فمكث } أي الهدهد { غير بعيد } اي زمناً قليلاً ، وجاء فقال في تواضع رافعاً عنقه مرخياً ذنبه وجناحيه { أحطت بما لم تحط به } أي اطلعت على ما لم تطلع عليه { وجئتك من سبأ بنبأ يقين } وسبأ قبيلة من قبائل اليمن ، والنبأ اليقين الخبر الصادق الذي لا شك فيه . وأخذ يبين محتوى الخبر فقال { إني وجدت امرأة } هي بلقيس { تملكهم وأوتِيتْ من كل شيء } من أسباب القوة ومظاهر الملك ، { ولها عرش عظيم } أي سرير ملكها الذي تجلس عليه وصفه بالعظمة لأنه مرصع بالجواهر والذهب ، وقوله { وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله } أخبر أولاً عن أحوالهم الدنيوية وأخبر ثانياً عن أحوالهم الدينية وقوله { وزين لهم الشيطان أعمالهم } أي الباطلة الشركية { فصدهم } بذلك { عن السبيل } أي سبيل الهدى والحق فهم لذلك لا يهتدون لأن يسجدوا لله الذي يخرج الخبء أي المخبوء فهو من إطلاق المصدر وغرادة اسم المفعول في السموات منأمطار والأرض من نباتات ، ويعلم سبحانه وتعالى ما يخفون في نفسوهم ، وما يعلنون عنه بألسنتهم الله لا إله هو رب العرش العظيم . وصف الرب تعالى بالعرش العظيم ليقابل وصف بلقيس به ، وأين عرش مخلوقة وإن كانت ملكة بنت ملك هو شراحيل من عرش الله الخالق لكل شيء والمالك لكل شيء .
(3/134)
________________________________________
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- مشروعية استعراض الجيوش وتفقد أحوال الرعية .
2- مشروعية التعزير لمن خالف أمر السلطان بلا عذر شرعي .
3- مشروعية اتخاذ طائرات الاستكشاف ودراسة جغرافية العالم .
4- تحقيق قول الرسول صلى الله عليه وسلم قوم ولوا اتمرهم امرأة إذ لم يلبثوا أن غلب عليهم سليمان .
5- بيان أن هناك من كانوا يعبدون الشمس إذ سجودهم لها عبادة .
6- بيان أن الأحق بالعبادة الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم .
7- مشروعية السجود لمن تلا هذه الآية أو استمع إلى تلاوتها : { الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم } .
(3/135)
________________________________________
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
شرح الكلمات :
{ سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين } : أي بعد اختبارنا لك .
{ فألقه غليهم } : أي إلى رجال القصر وهم في مجلس الحكم .
{ ثم تول عنهم } : أي تنح جانباً متوارياً مستتراً عنهم .
{ فانظر ماذا يرجعون } : أي ماذا يقوله بعضهم لبعض في شأن الكتاب .
{ يا أيها الملأ } : أي يا أشراف البلاد وأعيانها وأهل الحل والعقد فيها .
{ ألقي إلي كتاب كريم } : أي ألقاه في حجرها الهدهد .
{ ألا تعلوا علي } : أي لا تتكبروا انقياداً للنفس والهوى .
{ وائتوني مسلمين } : أي منقادين خاضعين .
معنى الآيات :
{ قال سننظر } أي قال سليمان للهدهد بعد أن أدلى الهدهد بحجته على غيبته سننظر باختبارنا لك { أصدقت } فيما ادعيت وقلت { أم كنت من الكاذبين } أي من جملتهم . وبدأ اختباره فكتب كتاباً وختمه وقال له { اذهب بكتاببي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم } أي تنح جانباً مختفياً عنهم { فانظر ماذا يرجعون } من القول في شأن الكتاب أي ما يقول بعضهم لبعض في شأنه ، وفعلاً ذهب الهدهد بالكتاب ودخل القصر من كوة فيه وألقى الكتاب في حجر الملكة بلقيس فارتاعت له وقرأته ثم قالت { يا ايها الملأ } مخاطبة أشراف قومها { إني القي إلي كتاب كريم } وصفته بالكرم لما حواه من عبارات كريمة ، ولأنه مختوم وختمم الكتاب كرمه ونصّ الكتاب كالتالي [ من عبد الله سليمان بن داوود إلى بلقيس ملكة سبأ بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من اتبع الهدى أما بعد فلا تعلوا علي وائتوني مسلمين ] .
ومضمونه ما ذكرته الملكة بقولها : { إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وائتوني مسلمين } ومعنى إنه من سليمان أي صادر منه وأنه مكتوب ومرسل بسم الله الرحمن الرحيم أي بإذنه وشرعه الا تعلوا علي أي لا تتكبروا على الحق فإني بسم الله أطلبكم وائتوني مسلمين اي خاضعين منقادين .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- مشروعية الاختبار وإجراء التحقيق مع المتهم .
2- مشروعية استخدام السلطان أفراد رعيته لكفاية المستخدم .
3- مشروعية إرسال اليعون للتعرف على أحوال العدو وما يدور عنده .
4- مشروعية كتابة بسم الله الرحمن الرحيم في الرسائل والكتب الهامة ذات البال لدلالتها على توحيد الله تعالى وأنه رحمن رحيم ، وأنَّ الكاتب يكتب بإذن الله تعالى له بذلك .
(3/136)
________________________________________
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
شرح الكلمات :
{ افتوني في أمري } : بينوا لي فيه وجه الصواب ، وما هو الواجب اتخاذه إزاءه .
{ ما كنت قاطعة أمراً } : أي قاضيته .
{ حتى تشهدون } : اي تحضروني وتبدوا رأيكم فيه .
{ وأولوا باس شديد } : أي اصحاب قوة هائلة مادية وأصحاب باس شديد في الحروب .
{ إذا دخلوا قرية } : أي مدينة وعاصمة ملك .
{ أفسدوها } : اي خربوها إذا دخلوها عنوة بدون مصالحة .
{ وكذلك يفعلون } : أي وكالذي ذكرت لكم يفعل مرسلو هذا الكتاب .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم عن حديث قصر الملكة بلقيس وها هي ذي تقول لرجال دولتها ما حكاه تعالى عنها بقوله { قالت يا أيها الملأ افتوني في أمري } أي اشيروا علي بما ترونه صالحاً { ما كنت قاطعة أمراً } أي قاضية باتَّةً فيه { حتى تشهدون } أي تحضروني وتبدوا فيه وجهة نظركم . فأجابها رجالها بما أخبر تعالى به عنهم { قالوا نحو أولوا قوة } عسكرية منسلاح وعتاد وخبرة { وأولوا بأس شديد } عند خوضنا المعارك { والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين } به فأمري ننفّذْ إنا طوع يديك .
فأجابتهم بما حكاه الله تعالى عنها { قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية } اي مدينة عنوة بدون صلح . { أفسدوها } اي خربوا معالمها وبدلوا وغيروا فيها ، { وجعلوا أعزة أهلها أذلة } بضربهم وإهانتهم وخلعهم من مناصبهم . { وكذلك } أصحاب هذا الكتاب { يفعلون } { وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون } اي الذين نرسلهم من قبول الهدية ورفضها وعلى ضوء ذلك نتصرف فإنهم إن قبلوا الهدية المالية فهم اصحاب دنيا ، وإن رفضوها فهم أصحاب دين ، وعندها نتخذ ما يلزم حيالهم ، ولا شك أن هذه الهدية كانت فاخرة وثمينة .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير مبدأ الشورى في الحكم .
2- مشروعية إبداء الراي بصدق ونزاهة ثم ترك الأمر لأهله .
3- مشروعية إعداد العدة وتوفير السلام وتدرب الرجال على حمله واستعماله .
4- دخول العدو المحارب الغالب البلاد عنوة ذو خطورة فلذا يتلافى الأمر بالمصالحة .
5- بيان حسن سياسة الملكة بلقيس وفطنتها وذكائها ولذا ورثت عرش أبيها .
(3/137)
________________________________________
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
شرح الكلمات :
{ فلما جاء سليمان } : أي رسول الملكة يحمل الهدية ومعه أتباعه .
{ فما آتاني الله خير مما آتاكم } : أي أعطاني النبوة والملك وذلك خير مما أعطاكم من المال فقط .
{ بهديتكم تفرحون } : لحبكم للدنيا ورغبتكم في زخارفها .
{ إرجع إليهم } : أي بما أتيت به من الهدية .
{ بجنود لا قبل لهم بها } : اي لا طاقة لهم بقتالها .
{ ولنخرجنهم منها } : اي من مدينتهم سبأ المسماة باسم رجل يقال له سبأ .
{ أذلة وهم صاغرون } : أي إن لم يأتوني مسلمين أي منقادين خاضعين .
{ قبل أن يأتوي مسلمين } : فإنَّ لي أخذه قبل مجيئهم مسلمين لا بعده .
{ قال عفريت من الجن } : اي جني قوي إذ القوي الشديد من الجن يقال له عفرين .
{ قبل أن تقوم من مقامك } : أي من مجلس قضائك وهو من الصبح إلى الظهر .
{ وإني عليه لقوي أمين } : أي قوي على حمله أمين على ما فيه من الجواهر وغيرها .
{ وقال الذي عنده علم من الكتاب } : أي سليمان عليه السلام .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم مع سليمان ومكله سبأ إنه لما بعثت بهديتها تختبر بها سليمان هل هو رجل دنيا يقبل المال أو رجل دين ، لتتصرف على ضوء ما تعرف من اتجاه سليمان عليه السلام ، فلما جاء سليمان ، جاءه سفير الملكة ومعه رجال يحملون الهدية قال لهم ما أخبر تعالى به عنهم في قوله : { قال أتمدونني بمال؟ فما آتاني الله خير مما آتاكم } آتاني النبوة والعلم والحكم والملك فهو خير مما آتاكم من المال { بل أنتم بهديتكم تفرحون } وذلك بحبكم الدنيا ورغبتكم في زخارفها . وقال رسول الملكة رإرجع غليهم } اي بما أتيت به من الهدية ، وعلمهم أنهم إن لم يأتوا إلي مسلمين { فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها } أي لا قدرة لهم على قتالهم ، { ولنخرجنهم منها } اي من مدينتهم سبأ { أذلة وهم صاغرون } اي خاضعون منقادون . ثم قال سليمان عليه السلام لأشراف دولته وأعيان بلاده { يا أيها الملأُ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين } فإني لا آخذه إلا قبل مجيئهم مسلمين لا بعده . فنطق عفريت من الجن قائلاً بما أخبر تعالى عنه به { أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك } أي مجلس قضائك والذي ينتهي عادة بنصف النهار ، { وإني عليه لقوي أمين } اي قادر على حمله والإِتيان به في هذا الوقت الذي حددت لكم وأمين على ما فيه من جواهر وذهب لا يضيع منه شيء . وهنا { قال الذي عنده علم من الكتاب } وهو سليمان عليه السلام { أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك إليك طرفك } فافتح عينيك وانظر فلا يعود غليك طرفك إلا والعرش بين يديك ، وسال ربه باسمه الأعظم الذيما دعي به إلا أجاب وإذا العرش بين يديك ، وسأل ربه باسمه الأعظم الذي ما دعي به إلا أجاب وإذا العرش بين يديه { فلما رآه مستقراص } بين يديه لهج قائلاً { هذا من فضل ربي } أي علي فلم يكن لي به يد أبداً { ليبلوني } بذلك { أأشكر } نعمته علي { أم أكفرها } { ومن شكر } فلنفسه أي عائد الشكر يعود عليه بحفظ النعمة ونمائها ومن كفر اي النعمة { فإن ربي غني } أي عن شكره وليس مفتقراً إليه ، كريم قد يكرم الكافر للنعمة فلا يسلبها كلها منه أو يبقيها له على كفره .
(3/138)
________________________________________
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- أهل الآخرة يفرحون بالدنيا ، وأهل الدنيا لا يفرحون بالآخرة .
2- استعمال أسلوب الإِرهاب والتخويف مع القدرة على إنفاذه مع العدو أليق .
3- تقرير أن سليمان كان يستخدم الجن وأنهم يخدمونه في اصعب الأمور .
4- استجابة الله تعالى لسليمان فأحضر له العرش من مسافة شهرين أي من اليمن غلى الشام قبل ارتداد طرف الناظر إذا فتح عينه ينظر .
5- وجوب رد الفضل إلى أهله فسليمان قال { هذا من فضل ربي } والجهال يقولون بثورتنا الخلاقة ، وأبطالنا البواسل .
6- وجوب الشكر ، وعائدته تعود على الشاكر فقط ، ولكرم الله تعالى قد لا يسلب النعمة فور عدم شكرها وذلك لحلمه تعالى وكرمه .
(3/139)
________________________________________
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
شرح الكلمات :
{ قال نكروا لها عرشها } : أي غيروا هيأته وشكله حتى لا يعرف إلا بصعوبة .
{ أتهتدي } : أي إلى معرفته .
{ أهكذا عرشك } : شبهوا عليها إذ لو قالوا هذا عرشها لقالت نعم .
{ قالت كأنه هو } : فشبَّهت عليه فقالت كأنه هو .
{ وصدها ما كانت تعبد : أي صرفها عن عبادة الله مع علمها وذكائها ما كانت تعبد من دون الله } من دون الله .
{ ادخلي الصرح } : أي بهو الصرح إذ الصرح القصر العالي وفي بهوه بكرة ماء كبيرة مغطاة بسقف زجاجي يرى وكأنه ماء .
{ فكشفت عن ساقيها } : ظانة أنها تدخل ماء تمشي عليه فرفعت ثيابها .
{ حسبته لجة } : أي من ماء غمر يجري .
{ صرح ممرد من قوارير } : أي مملّس من زجاج .
معنى الآيات : ما زال السياق الكريم فيما دار من أحاديث بين سليمان عليه السلام وبلقيس ملكة سبأ لقد خرجت هي في موكبها الملكي بعد أن احتاطت لعرشها أيّما احتياط . إلا أن العرش وصل قبلها بدعوة الذي عنده علم من الكتاب ، وقبل وصولها أراد سليمان أن يختبر عقلها من حيث الحصافة أو الضعف فأمر رجاله ان يغيروا عرشها بزيادة ونقصان فيه حتى لا يعرف غلا بصعوبة كما قال عليه السلام { ننظر أتهتدي } إلى معرفته { أم تكون من الذين لا يهتدون } لضعف عقولهم . فلما جاءت { قيل لها أهكذا عرشك } فشبهوا عليها في التغيير وفي التعبير ، إذ المفروض أن يقال لها هذا عرشك ومن هنا فطنت لتشبيههم { فقالت : كأنه هو } إذ لو قالت : هو لقالوا كيف يكون هو والمسافة مسيرة شهرين ولو قالت ليس هو لقيل لها كيف تجهلين سريرك فكانت ذات ذكاء ودهاء ومن هنا قال سليمان لما أعجب بذكائها { وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين } فحمد الله وأثنى عليه ضمن العبارة التي قالها . وقوله { وصدها ما كانت تعبد من دون الله } اتباعاً لقومها إذ كانوا يعبدون الشمس من دون الله . { إنها كانت من قوم كافرين } فهذا سبب عدم إيمانها وتوحيدها وهو ما كان عليه قومها ، وجلس سليمان في بهو صرحه وكان البهو تحته بركة ماء عظيمة فيها اسماء كثيرة وللماء موج ، وسقف البركة مملس من زجاج ، ومع سليمان جنوده من الإِنس والجن يحوطون به ويحفونه من كل جانب وأمرت أن تدخل الصرح لأن سليمان الملك يدعوها { فلما رأته حسبته لجة } ماء { فكشفت عن ساقيها } فقال لها سليمان رإنه صرح ممرد } اي مملّس { من قوارير } زجاجية وهنا وقد بهرها الموقف وعرفت أنها كانت ضالة وظالمة نطقت قائلة { رب إني ظلمت نفسي واسلمت مع سليمان لله رب العالمين } وبهذا أصبحت مسملة صالحة . ولم يذكر القرآن عنها بعد شيئاً فلنسكت عما سكت عنه القرآن .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- جواز اختبار الفراد إذا أريد إسناد أمر لهم لمعرفة قدرتهم العقلية والبدنية .
2- بيان حصافة عقل بلقيس ولذا أسلمت ظهر ذلك في قولها { كأنه هو } .
3- مضار التقليد وما يترتب عليه من التنكر للعقل والمنطق .
4- حرمة كشف المراة ساقيها حتى ولو كانت كافرة فكيف بها إذا كانت مسلمة .
5- فضيلة الإِئتساء بالصالحين كما ائتست بلقيس بسليمان في قولها { وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين } .
(3/140)
________________________________________
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)
شرح الكلمات :
{ أن اعبدوا } : أي بأن اعبدوا الله .
{ فريقان يختصمون } : أي طائفتان مؤمنة موحدة وكافرة مشركة يختصمون .
{ تستعجلون بالسيئة } : أي تطالبون بالعذاب قبل الرحمة .
{ لولا تستغفرون الله } : اي هلا تطلبون المغفرة من ربكم بتوبتكم إليه .
{ قالوا اطيرنا بك } : أي تشاءمنا بك وبمن معك من المؤمنين .
{ قال طائركم عند الله } : اي ما زجرتم من الطير لما يصيبكم من المكاره عند الله علمه .
{ بل أنتم قوم تفتنون } : أي تختبرون بالخير والشر .
{ تسعة رهط } : أي تسعة رجال ظلمة .
{ تقاسموا بالله } : أي تحالفوا بالله أي طلب كل واحد من الثاني أن يحلف له .
{ لنبيتنه وأهله } : أي لنقتلنه والمؤمنين به ليلاً .
{ ما ششهدنا مهلك أهله } : أي ما حضرنا قتله ولا قتل أهله .
معنى الآيات :
قوله تعالى { ولقد أرسلنا } هذا بداية قصص صالح عليه السلام مع قومه ثمود لما ذكر تعالى قصص سليمان مع بلقيس ذكر قصص صالح مع ثمود وذلك تقريراً لنبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ووضع المشركين من قريش أمام أحداث تاريخية تمثيل حالهم مع نبيهم لعلهم يذكرون فيؤمنوا قال تعالى { ولقد أرسلنا إلى ثمود } أي قبيلة ثمود { أخاهم } أي في النسب { صالحاً أن اعبدوا } أي قال لهم اعبدوا الله أي وحدوه { فإذا هم فريقان } موحدون ومشركون { يختصمون } فريق يدعو إلى عبادة الله وحده وفريق يدعو إلى عبادة الأوثان مع الله وشأن التعارض أن يحدث التخاصم كل فريق يريد ان يخصم الفريق الآخر . وطالبوا صالحاً بالآيات { وقالوا ائتنا بما تعدنا } أي من العذاب { إن كنت من الصادقين } في أنك رسول إلينا مثل الرسل فرد عليهم وقال { يا قوم لم تستعجلون بالسيئة } أي تطالبونني بعذابكم { قبل الحسنة } فالمفروض أن تطالبوا بالحسنة التي هي الرحمة لا السيئة التي هي العذاب . إن كفركم ومعاصيكم هي سبيل عذابكم ، كما أن إيمانكم وطاعتكم هي سبيل نجاتكم وسعادتكم فبادروا بالإيمان والطاعة طلباً لحسنة الدنيا والآخرة . إنكم بكفركم ومعاصيكم تستعجلون عذابكم { لولا } أي هلا { تستغفرون الله } بترككم الشرك والمعاصي { لعلكم ترحمون } اي كن ترحموا بعد هذا الوعظ والإِرشاد . كان جواب القوم ما أخبر تعالى به عنهم في قوله { قالوا اطيرنا بك وبمن معك } اي تشاءمنا بك وبأتباعك المؤمنين ، فرد عليهم بقوله { طائركم عند الله } أي ما زجرتم من الطير لما يصيبكم من المكاره عند الله علمه وهو كائن لا محالة ، وليست القضية تشاؤماً ولا تيامناً { بل أنتم قوم تفتنون } وقوله تعالى { وكان في المدينة تسعة رهط } أي مدينة الحجر حجر ثمود تسعة رجال { يفسدون في اللأَرض } بالكفر والمعاصي { ولا يصلحون } وهم الذين تمالؤوا على عقر الناقة ومن بينهم قُدَار بن سالف الذي تولى عقر الناقة . هؤلاء التسعة نقر قالوا لبعضهم بعضاً في اجتماع خاص { تقاسموا بالله } أي ليقسم كل واحد من كم قائلاً والله { لنبيتنه } أي صالحاً { وأهله } اي أتباعه ، أي لنأتينهم ليلاً فنقتلهم ، ثم في الصباح { نقول لوليه } اي لولي دم صالح من اقربائه ، والله { ما شهدنا مهلك أهله } ولا مهلكه { وإنا لصادقون } فيما نقسم عليه من انا لم نشهد مهلك صالح ولا مهلك اصحابه .
(3/141)
________________________________________
هداية الآيات
هداية الايات :
1- تقرير نبوة النبي صلى الله عليه وسلم .
2- تقرير حقيقة أن الصراع بين الحق والباطل لا ينتهي إلا بانتهاء الباطل .
3- حرمة التشاؤم والتيامن كذلك ، ولم يجز الشارع إلا التفاؤل لا غير .
4- العمل بمعاصي الله تعالى هو الفساد في الأرض ، والعمل بطاعته هو الإصلاح في الأرض .
5- تقرير أن المشركين يؤمنون بالله ولذا يحلفون به ، ولم يدخلهم ذلك في الإِسلام لشركهم في عبادة الله تعالى غيره من مخلوقاته .
(3/142)
________________________________________
وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
شرح الكلمات :
{ ومكروا مكراً } : أي دبروا طريقة خفية لقتل صالح والمؤمنين .
{ ومكرنا مكراً } : أي ودبرنا طريقة خفية لنجاة صالح والمؤمنين وإهلاك الظالمين .
{ وهم لا يشعرون } : بأنا ندبر لهم طريق هلاكهم .
{ بيوتهم خاوية } : أي فارغة ليس فيها أحد .
{ بما ظلموا } : أي بسبب ظلمهم وهو الشرك والمعاصي .
{ لآية } : أي عبرة .
{ وأنجينا الذين آمنوا } : أي صالحاً والمؤمنين .
معنى الآيات :
قوله تعالى { ومكروا مكراً } هذا نهاية قصص صالح مع ثمود تقدم أن تسعة رهط من قوم صالح تقاسموا على تبييت صالح والمؤمنين وقتلهم ليلاً ليحولوا في نظرهم دون وقوع العذاب الذي واعدهم به صالح وأنه نازل بهم بعد ثلاثة ايام ، وهذا مكرهم وطريقة تنفيذه أنهم أتوا صالحاً وهو يصلي في مسجد له تحت الجبل فسقطت عليهم صخرة من الجبل فأهلكتهم أجميعن وهكذا مكر الله بهم وهم لا يشعرون به ، ثم أهلك الله القوم كلهم بالصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين . وهو معنى قوله { فانظر كيف كان عاقبة مكرهم } أي انظر يا رسولنا كيف كانت نهاية ذلك المكر وعاقبته { أنا دمرناهم وقومهم أجميعن } { فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا } اي بسبب ظلمهم أنفسهم بالشرك وظلمهم صالحاً والمؤمنين . وقوله تعالى { إن في ذلك } أي الإهلاك للرهط التسعة ولثمود قاطبة { لآية } أي علامة على قدرة الله وعلمه وحسن تدبيره { لقوم يعلمون } إذ هم الذين يرون الاية ويدركونها .
وقوله تعالى : { وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون } يريد صالحاً والمؤمنين الذين آمنوا بالله رباً وإلهاً وبصالح نبياً ورسولاً . وكانوا طوال حياتهم يتقون عقاب الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله في الأمر والنهي .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير قاعدة : { ولا يحيق المكر السيء إِلا بأهله } 2- تقرير أن ديار الظالمين مآلها الخراب فالظلم يذر الديار بلا قع .
3- تقرير أن الإِيمان والتقوى هما سبب النجاة لأن ولاية الله للعبد تتم بهما .
(3/143)
________________________________________
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
شرح الكلمات :
{ ولوط } : أي واذكر لقومك لوطاً إذ قال لقومه .
{ لقومه } : هم سكان مدن عمورية وسدوم .
{ الفاحشة } : أي الخصلة القبيحة الشديدة القبح وهي اللواط .
{ وأنتم تبصرون } : إذ كانوا يأتونها في أنديتهم عياناً بلا ستر ولا حجاب .
{ قوم تجهلون } : اي قبح ما تأتون وما يترتب عليه من خزي وعذاب .
معنىلآيتين :
هذا بداية قصص لوط عليه السلام مع قومه اللوطيين فقال تعالى { ولوطاً } أي واذكر كما ذكرت صالحاً وقومه اذكر لوطاً { إذ قال لقومه } منكراً عليهم موبخاً مؤنباً لهم على فعلتهم الشنعاء { أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون } اي قبحها وشناعتها ببصائركم وبأبصاركم حيث كانوا يأتونها علناً وعياناً وهم ينظرون وقوله { أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء } أي لا للعفة والإِحصان ولا للولد والإِنجاب بل لقضاء الشهوة البهيمية فشأنكم شأن البهائم لا غير . وفي نفس الوقت آذيتم نساءكم حيث تركتم إتيانهن فهضمتم حقوقهن . وقوله تعالى { بل أنتم قوم تجهلون } أي قال لهم لوط عليه السلام أي ما كان ذلك الشر والفساد منكم إلا لأنكم قوم سوء جهلة بما يجب عليكم لربكم من الإِيمان والطاعة وما يترتب على الكفر والعصيان من العقاب والعذاب .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيا ما كان عليه قوم لوط من الفساد والهبوط العقلي والخلقي .
2- تحريم فاحشة اللواط وأنها أقبح شيء وأن فاعلها أحط من البهائم .
3- بيان أن الجهل بالله تعالى وما يجب له من الطاعة ، وبما لديه من عذاب وما عنده من نعيم مقيم هو سبب كل شر في الأرض وفساد . ولذا كان الطريق غلى إصلاح البشر هو تعريفهم بالله تعالى حتى إذا عرفوه وآمنوا به أمكنهم أن يستقيموا في الحياة على منهج الإِصلاح المهيء للسعادة والكمال .
(3/144)
________________________________________
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
شرح الكلمات :
{ فما كان جواب قومه } : أي لم يكن لهم من جواب إلا قولهم أخرجوا .
{ آل لوط } : هو لوط عليه السلام وامرأته المؤمنه وابنتاه .
{ من قريتكم } : أي مدينتكم سَدُوم .
{ يتطهرون } : أي يتنزهون عن الأقذار والأساخ .
{ قدرناها من الغابرين } : أي حكمنا عليها أن تكون من الهالكين .
{ فساء مطر المنذرين } : أي قبح مطر المنذرين من أهل الجرائم أنه حجارة من سجيل .
معنى الآيات :
هذه بقية قصص لوط عليه السلام إنه بعد أن أنكر لوط عليه السلام على قومه فاحشة اللواط وأنَّبَهم عليها ، وقبَّح فعلهم لها أجابوه مهددين له بالطرد والإِعاد من القرية كما أخبر تعالى عن ذلك بقوله : فما كان جواب قومه أى لم يكن لهم من جواب يردون به على لوط عليه السلام { إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم } أي إلا قولهم { أخرجوا آل لوط من قريتكم } . وعللوا لقولهم هذا بقولهم { إنهم أناس يتطهرون } . أي يتنزهون عن الفواحش . قالوا هذا تهكماً ، لا إقراراً منهم على أن الفاحشة قذر يجب التنزه عنه . ولما بلغ بهم الحد إلى تهديد نبي الله لوط عليه السلام بالطرد والسخرية منه أهلكهم الله تعالى وأنجى لوطاً وأهله إلا إحدى امرأتيه وكانت عجوزاً كافرة وهو معنى قوله تعالى في الاية ( 57 ) { فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين } حكمنا ببقائها مع الكافرين لتهلك معهم . وقوله تعالى في الآية ( 58 ) { وأمطرنا عليهم } هو بيان لكيفية إهلاك قوم لوط بأن أمطر عليهم حجارة من سجيل منضود فأهلكهم . { فساء مطر المنذرين } أي قبح هذا المطر من مطر المنذرين الذين كذبوا بما أنذروا به واصروا على الكفر والمعاصي . وهذا المطر كان بعد أن جعل الله عالِيَ بلادهم سافلها ، أردف خسفها بمطرٍ من حجارة لتصيب من كان بعيداً عن المُدُن .
هداية الايات :
من هداية الآيات :
1- بيان سنة أن الظلمة إذا أعيتهم الحجج والبراهين يفزعون إلى القوة .
2- بيان سنة أن المرء إذا أدْمن على قبح قول أو عمل يصبح غير قبيح عنده .
3- سنة إنجاء الله أولياءه وإهلاكه أعداءه بعد إصرار المنذرين على الكفر والمعاصي .
(3/145)
________________________________________
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
شرح الكلمات :
{ اصطفى } : أي اختارهم لحمل رسالته وإِبلاغ دعوته .
{ الله خير } : أي لمن يعبده .
{ حدائق ذات بهجة } : أي بساتين ذات منظر حسن لخضرتها وأزهارها .
{ يعدلون } : أي بربهم غيره من الأصنام والأوثان .
{ جعل الأرض قراراً } : أي قارة ثابتة لا تتحرك ولا تضطرب بسكانها .
{ وجعل خلالها أنهاراً } : أي جعل الأنهار العذبة تتخللها للشرب والسقي .
{ وجعل لها رواسي } : أي جبالاً ارساها بها حتى لا تتحرك ولا تميل .
{ بين البحرين حاجزاً } : أي فاصلاً لا يختلط أحدهما بالآخر .
{ ويكشف السوء } : أي الضر ، المرض وغيره .
{ قليلاً ما تذكرون } : أي ما تتعظون إلا قليلاً .
{ بشراً بين يدي رحمته } : أي مبشرة بين يدي المطر إذ الرياح تتقدم ثم باقي المطر .
{ أمن يبدأ الخلق ثم يعيده } : أي يبدؤه في الأرحام ، ثم يعيده يوم القيامة .
{ هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } : اي حجتكم إن كنتم صادقين أن مع الله إلهاً آخر فعل ما ذكر .
معنى الآيات :
لما أخبر الله تعالى رسوله بإهلاك المجرمين ونجاة المؤمنين أمر تعالى رسوله أن يحمده على ذلك تعليماً له ولأمته إذا تجددت لهم نعمة أن يحمدوا الله تعالى عليها ليكون ذلك من شكرها قال تعالى : { قل الحمد لله } اي الوصف بالجميل لله استحقاقاً .
{ وسلام على عباده الذين اصطفى } الله لرسالته وإبلاغ دعوته غلى عباده ليعبدوا فيكملوا ويسعدوا على ذلك في الحياتين .
وقوله تعالى : { آ الله خير أمَّا يشركون } أي آ الله الخالق الرازق المدبر القوى المنتقم من أعدائه المكرم لأوليائه؛ عبادته خير لمن يعبده بها أم عبادة من يشركون . فقوله { أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء } أي لحاجتكم إليه غسلاً وشرباً وسقيا { فأنبتنا به حدائق } أي بساتين محدقة بالجدران والحواجز { ذات بهجة } اي حسن وجمال ، رما كان لكم أن تنبتوا شجرها } اي لم يكن في استطاعتكم أن تنبتواشجرها { أ إله مع الله } لا والله { بل هم قوم يعدلون } أي يشركون بربهم اصناماً ويُسَوُّونها به في العبادات . وقوله تعالى : { أمن جعل الأرض قراراً } اي قارة ثابتة لا تتحرك بسكانها ولا تضطرب بهم فيهلكوا . { وجعل خلالها أنهاراً } أي فيما بينها . روجعل لها رواسى } اي جبالاً تثبتها ، { وجعل بين البحرين } العذب والملح { حاجزاً } حتى لا يختلط الملح بالعذب فيفسده .
{ أ إله مع الله؟ } والجواب : لا والله . ربل أكثرهم لا يعلمون } ولو علموا لما أشركوا بالله مخلوقاته . وقوله تعالى : { أمن يجيب المضطر إذا دعاه } اي ليكشف ضره { ويشكف السوء } اي يبعده والسوء هو ما يسوء المرء من مرض وجوع وعطش وقحط وجدب .
{ ويجعلكم خلفاء الأرض } جعل جيلاً يخلف جيلاً وهكذا الموجود خلف لمن سلف وسيكون سلفاً لمن خلف { أإله مع الله والجواب لا إله مع الله } { قليلاً ما تذكرون } اي ما تتعظون إلا قليلاً بما تسمعون وترون من آيات الله .
(3/146)
________________________________________
وقوله تعالى : { أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر } في الليل بالنجوم وفي النهار بالعلامات الدالة والهادية إلى مقاصدكم { ومن يرسل الرياح بشراً بين يدى رحمته } أي من يثير الرياح ويرسلها تتقدم المطر وتبشر به؟ لا أحد غير الله إذاً . . أ إله مع الله . والجواب : لا ، لا . . الله وحده الإِله الحق وما عداه فباطل .
وقوله تعالى : { تعالى الله عما يشركون } نزه تعالى نفسه عن الشرك المشركين أصناماً لا تبدئ ولا تعيد ولا تخلق ولا ترزق ولا تعطي ولا تمنع . وقوله تعالى : { أمن يبدأ الخلق } اي نطفاً في الأرحام ، ثم بعد حياته يميته ، ثم يعيده وهو معنى { ثم يعيده } .
{ ومن يرزقكم من السماء } بالمطر { والأرض } بالنبات . والجواب : الله إذاً { أ إله مع الله } والجواب : لا ، لا وإن قلتم هناك آلهة مع الله { قل هاتوا برهانكم } أي حججكم { إن كنتم صادقين } أن غير الله يفعل شيئاً مما ذُكر في هذا السياق الكريم .
هداية الآيات :
1- وجوب حمد الله وشكره عند تجدد الشكر ، والحمد لله رأس الشكر .
2- مشروعية السلام عند ذكر الأنبياء عليهم السلام فمن ذكر أحدهم قال عليه السلام .
3- التنديد بالشرك والمشركين .
4- تقرير التوحيد بأدلته الباهرة العديدة .
5- تقرير عقيدة البعث الآخر وإثباتها بالاستنباط من الأدلة المذكورة .
6- لا تثبت الأحكام إلا بالأدلة النقلية والعقلية .
(3/147)
________________________________________
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)
شرح الكلمات :
{ من في السموات والأرض } : الملائكة والناس .
{ الغيب إلا الله } : أي ما غاب عنهم ومن ذلك متى قيام الساعة إلا الله فإنه يعلمه .
{ أيَّان يبعثون } : أي متى يبعثون .
{ بل ادارك علمهم في : أي تلاحق وهو ما منهم أحد إلا يظن فقط فلا علم لهم بالآخرة الآخرة } بالمرة .
{ بل هم منها عمون } : أي في عمى كامل لا يبصرون شيئاً من حقائقها .
{ أئنا لمخرجون } : أي أحياء من قبورنا .
{ لقد وعدنا هذا } : أي البعث أحياء من القبور .
{ أساطير الأولين } : أي أكاذيبهم التي سطروها في كتبهم .
{ كيف كان عاقبة : أي المكذبين بالبعث كانت دماراً وهلاكاً وديارهم الخاوية شاهدة المجرمين } بذلك .
معنى الآيات :
قوله تعالى : { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } لما سأل المشركون من قريش النبي صلى اللهعليه وسلم عن الساعة أمره تعالى أن يجيبهم بهذا الجواب { قل لا يعلم } الخ . . والساعة من جملة الغيب بل هي أعظمه . { من في السموات } من الملائكة { والأرض } من الناس { إلا الله } أي لكن الله تعالى يعلم غيب السموات والأرض أما غيره فلا يعلم إلا ما علمه الله علام الغيوب .
وقوله تعالى : { وما يشعرون أيَّان يبعثون } أي وما يشعر أهل السموات وأهل الأرض متى يبعث الأموات من قبورهم للحساب والجزاء وهذا كقوله تعالى في سورة الأعراف .
{ يسالونك عن الساعة قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها غلا هو ، ثقلت في السموات والأرض لا تاتيكم إلا بغتة } وقوله تعالى : { بل ادَّارَكَ علمهم في الآخرة } قرئ { بل أَدْرَكَ علمهم في الآخرة } أي بلغ حقيقته يوم القيامة إذ يصبح الإِيمان بها الذي كان غيباً شهادة ولكن لا ينفع صاحبه يومئذ . وقرئ ربل ادارك علمهم } أي علم المشركين بالآخرة . اي تلاحق وأدرك بعضه بعضاً وهو أنه لا علم لهم بها بالمرة . ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى : { بل هم في شك منها بل هم منها عمون } أي لا يرون شيئاً من دلائلها ، ولا حقائقها بالمرة ويدل على هذا ما أخبر به تعالى عنهم من أنهم لا يؤمنون بالساعة بالمرة في قوله { وقال الذين كفروا أئذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمخرجون } أي من قبورنا احياء . والاستفهام للانكار الشديد ويؤكدون إنكارهم هذا بقولهم .
لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل أي من قبل أن يعدنا محمد . { إن هذا } اي الوعد بالبعث والجزاء { إلا أساطير الأولين } اي أكاذيبهم وحكاياتهم التي يسطرونها في الكتب ويقرأونها على الناس . وقوله تعالى في آخر آية من هذا السياق ( 69 ) رقل سيروا في الأرض } أي قل لهم يا رسولنا سيروا في الأرض جنوباً أو شمالاً أو غرباً { فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين } أي أهلكناهم لما كذبوا بالبعث كما كذبتم ، فالقادر على خلقهم ثم إماتتهم قادر قطعاً على بعثهم وإِحيائهم لمحاسبتهم وجزائهم بكسبهم . فالبعث إذاً ضروري لا ينكره ذو عقل راجح أبداً .
هداية الآيات :
من هدية الآيات :
1- حصر علم الغيب في الرب تبارك وتعالى . فمن ادعى أنه يعلم ما في غد فقد كذب .
2- تساوي علم أهل السماء والأرض في الجهل بوقت قيام الساعة .
3- المكذبون بيوم القيامة سيوقنون به في الآخرة ولكن لا ينفعهم ذلك .
4- إهلاك الله الأمم المكذبة بالبعث بعد خلقهم ورزقهم دليل على قدرته تعالى على بعثهم لحسابهم وجزائهم .
(3/148)
________________________________________
وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)
شرح الكلمات :
{ ولا تحزن عليهم . الآية } : المراد به تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم .
{ مما يمكرون } : أي بك إذْ حالوا قتله ولم يفلحوا .
{ متى هذا الوعد } : أي بعذابنا .
{ بعض الذي تستعجلون } : وقد حصل لهم في بدر .
{ إن الله لذو فضل على الناس } : أي في خلقهم ورزقهم وحفظهم وعدم إنزال العذاب بهم .
{ ما تكن صدورهم } : أي ما تخفيه وتستره صدورهم .
{ وما من غائبة } : أي ما من حادثة غائبة في السماء والأرض الا في كتاب مبين هو اللوح المحفوظ مدونة فيه مكتوبة .
معنى الآيات :
ما زال السياق في دعوة المشركين على التوحيد والإِيمان بالنبوة والبعث الآخر ولقد تقدم تقرير كل من عقيدة التوحيد بأدلة لا تُرد ، وكذا تقرير عقيدة البعث والجزاء ولكن المشركين ما زالوا يعارضون ويمانعون بل ويمكرون فلذا نهى الله تعالى رسوله عن الحزن على المشركين في عدم إيمانهم كما نهاه عن ضيق صدره مما يمكرون ويكيدون له ولدعوة الحق التي يدعو إليها . هذا ما دلت عليه الاية الأولى ( 70 ) وأما الآية الثانية والثالثة فإنه تعالى يخبر رسوله بما يقول أعداؤه ويلقنه الجواب . فقال تعالى : ( 71 ) { ويقولون متى هذا الوعد } - أي بالعذاب- { إن كنتم صادقين } -فيما تقولون وتعبدون- { قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون } اي اقترب منكم ودنا وهو ما حصل لهم في بدر من السر والقتل هذا ما دلت عليه الآيتان ( 71 و 72 ) .
وقوله تعالى : { وإن ربك لذو فضل على الناس } مؤمنهم وكافرهم إذ خلقهم ورزقهم وعافاهم ولم يهلكهم بذنوبهم { ولكن أكثرهم لا يشكرون } فهاهم أولاء يستعجلون العذاب ويطالبون به ومع هذا يمهلهم لعلهم يتوبون ، وهذا أعظم فضل . وقوله تعالى : روإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يلعنون } أي لا يخفى عليه من أمرهم شيء وسيحصى لهم أعمالهم ويجزيهم بها وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيد لهم وتهديد وقوله تعالى : { وما من غائبة في السماء والرض إلا في كتاب مبين } . وهو اللوح المحفوظ أي إن علم ربك أحاط بكل شيء ولا يعزب عنه شيء وهذا مظهر من مظاهر العلم الإِلهي المستلزم للبعث والجزاء ، إذ لو قل علمه بالخلق لكان من الجائز أن يترك بعضاً لا يبعثهم ولا يحاسبهم ولا يجزيهم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه يعانى شدة من ظلم المشركين وإعراضهم .
2- بيان تعنت المشركين وعنادهم .
3- تحقق وعد الله للمشركين حيث نزل بهم بعض العذاب الذي يستعجلون .
4- بيان فضل الله تعالى على الناس مع ترك أكثرهم لشكره سبحانه وتعالى .
5- بيان إِحاطة علم الله بكل شيء .
6- إثبات وتقرير كتاب المقادير ، وهو اللوح المحفوظ .
(3/149)
________________________________________
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
شرح الكلمات :
{ يقص على بنى إسرائيل } : أي بذكر أثناء ىياته كثيراً مما اختلف فيه بنو إسرائيل .
{ لهدى ورحمة للمؤمنين } : أي به تتم هداية المؤمنين ورحمتهم .
{ يقضى بينهم بحكمه } : اي يحكم بين بنى غسرائيل بحكمه العادل .
{ وهو العزيز العليم } : الغالب على أمره ، العليم بخلقه .
{ فتوكل على الله } : أي ثق فيه وفوض امرك إيله .
{ إنك لا تسمع الموتى } : أي لو أردت أن تسمعهم لأنهم موتى .
{ ولا تسمع الصم الدعاء } : أي ولا تقدر على إسماع كلامك الصم الذين فقدوا حاسة السمع .
{ إذا ولوا مدبرين } : أي إذا رجعوا مدبرين عنك غير ملتفتين إليك .
{ إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا } : أي ما تسمع إلا من يؤمن بآيات الله .
معنى الآيات :
قوله تعالى : رإن هذا القرآن } الكريم الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم [ يقص على بني إسرائيل ] المعاصرين لنزوله ( أكثر الذي هم فيه يختلفون ) كاختلافهم في عيسى عليه السلام ووالدته ، إذ غلا فيهما البعض وأفرطوا فألَّهوهما وفرط فيهما البعض فقالوا في عيسى ساحر ، وفي مريم عاهرة لعنهم الله ، وكاختلافهم في صفات الله تعالى وفي حقيقة المعاد ، وكاختلافهم في مسائل شرعية وأخرة تاريخية . وقوله تعالى : { وإنه لهدى ورحمة } اي وإن القرآن الكريم لهدى ، أي لهادٍ لمن آمن به إلى سبيل السلام ورحمة شاملة { للمؤمنين } به ، العالملين بما فيه من الشرائع والآداب والأخلاق . وقوله تعالى : { إن ربك } اي أيها الرسول { يقضي بينهم } اي بين الناس من وثنيين وأهل كتاب يوم القيامة بحكمه العادل الرحيم ، { وهو العزيز } الغالب الذي ينفذ حكمه فيمن حكم له أو عليه { العليم } بالمحقين من المبطلين من عباده فلذا يكون حكمه أعدل وأرحم ولذا { فتوكل على الله } أيها الرسول بالثقة فيه وتفويض أمرك غليه فإنه كافيك . وقوله : { إنك على الحق المبين } أي إنك يا رسولنا على الدين الحق الذي هو الإسلام وخصومك على الباطل فالعاقبة الحسنى لك ، لا محالة . وقوله تعالى : { إنك لا تسمع الموتى } والكفار موتى بعدم وجود روح الإِيمان في أجسامهم والميت لا يسمع فلذا لا تقدر على إسماع هؤلاء الكافرين الأموات ، كما انك { لا تسمع الصم } أي الفاقدين لحاسة السمع { الدعاء } اي دعاءك { إذا ولوا مدبرين } أي إذا رجعوا مدبرين غير ملتفتين غليك . { وما أنت بهادى العمى عن ضلالتهم } التي يعيشون عليها فهوِّن على نفسك ولا تكرب ولا تحزن { إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا } اي ما تسمع إسماع تفهم وقبول إلا المؤمنين بآيات الله ، { فهم مسلمون } أي فهم من أجل إيمانهم مسلمون أي منقادون خاضعون لشرع الله وأحكامه .
هداية الآيات :
من هداية الايات :
1- شرف القرآن وفضله .
2- لن ينتهي خلاف اليهود والنصارى إلا بالإسلام فإذا اسلموا اهتدوا للحق وانتهى كل خلاف بينهم .
3- كل خلاف بين الناس اليوم سيحكم الله تعالى بين اهله يوم القيامة بحكمه العادل ويوفى كلا ماله أو عليه وهو العزيز العليم .
4- الكفار أموات لخلو أبدانهم من روح الإيمان فلذا هم لا يسمعون الهدى ولا يبصرون الآيات مهما كانت واضحات .
فعلى داعيهم أن يعرف هذا فيهم وليصبر على دعوتهم ودعاويهم .
(3/150)
________________________________________
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
شرح الكلمات :
{ وقع القول عليهم } : أي حق عليهم العذاب .
{ دابة من الأرض } : حيوان يدب على الأرض لم يرد وَصْفُها في حديث صحيح يعول عليه ويقال به .
{ تكلم الناس } : بلسان يفهمونه لأنها آية من الآيات .
{ أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون } : أي بسبب أن الناس أصبحوا لا يؤمنون بآيات الله وشرائعه أي كفروا فيبلون بهذه الدابة .
{ ويوم نحشر } : أي اذكر يوم نحشر أي نجمع .
{ من كل أمة فوجاً } : أي طائفة وهم الرؤساء المتبعون في الدنيا .
{ فهم يوزعون } : أي يجمعون برد أولهم على آخرهم .
{ حتى إذا جاءوا } : أي الموقف مكان الحساب .
{ وقع القول عليهم } : أي حق عليهم العذاب .
{ بما ظلموا } : أي بسبب الظلم الذي هو شركهم بالله تعالى .
{ فهم لا ينطقون } : أي لا حجة لهم .
{ والنهار مبصراً } : أي يبصر فيه من أجل التصرف في الأعمال .
معنى الآيات :
قوله تعالى : { وإذا وقع القول عليهم } أي حق العذاب على الكافرين حيث لم يبق في الأرض من يأمر بمعروف ولا من ينهى عن منكر { أخرجنا لهم } لفتنتهم { دابة من الأرض } حيوان أرضى ليس بسماوي { تكلمهم } اي بلسان يفهمونه ، { أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون } هذه علة تكليمهم وهي بأن الناس كفروا وما أصبحوا يوقنون بآيات الله وشرائعه فيخرج الله تعالى هذه الدابة لِحِكَم منها : أن بها يتميز المؤمن من الكافر . وقوله تعالى : { ويوم نحشر من كل أمة فوجاً } أي واذكر يا رسولنا { يوم نحشر من كل أمة } من الأمم البشرية { فوجاً } أي جماعة { ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون } بأن يرد أولهم على آخرهم لينتظم سيرهم { حتى إذا جاءوا } الموقف موضع الحساب يقول الله تعالى لهم : { أكذبتم بآياتي } وما اشتملت عليه من أدلة وحجج وشرائع وأحكام { ولم تحيطوا بها علماً } ، وهذا تقريع لهم وتوبيخ . إذ كون الإنسان لم يحظ علماً بشيء لا يجوز له أن يكذب به لمجرد أنه ما عرفه . وقوله : { أم ماذا كنتم تعملون } أي ما الذي كنتم تعملون في آياتي من تصديق وتكذيب . قال تعالى { ووقع القول عليهم } أي وجب العذاب { بِما ظلموا } أي بسبب ظلمهم { فهم لا ينطقون } . أي بمعجزهم عن الدفاع عن أنفسهم لأنهم ظَلَمَه مشركون . وقوله تعالى : { ألم يروا } أي الم يبصر أولئك المشركون المكذبون بالبعث والجزاء أن الله تعالى جعل { الليل ليسكنوا فيه } وسكونهم هو موتهم على فرشهم بالنوم فيه { والنهار } اي وجعل { النهار مبصراً } اي يبصر فيه ليتصرفوا فيه بالعمل لحياتهم ، فنوم الليل شبيه بالموت وانبعاث النهار شبيه بالحياة ، فهي عملية موت وحياة متكررة طوال الدهر فكيف ينكر العقلاء البعث الآخر وله صورة متكررة طوال الحياة ، ولذا قال تعالى : { إن في ذلك } أي في ذلك العمل المتكرر للموت والحياة كل يوم وليلة { لآيات } أي براهين وحجج قاطعة على وجود بعث وحياة بعد هذا الموت والحياة .
(3/151)
________________________________________
وخص المؤمنون بالذكر وبالحصول على البرهان المطلوب من عملية الليل والنهار لأن المؤمنين أحياء يسمعون ويبصرون ويفكرون والكافرين أموات والميت لا يسمع ولا يبصر ولا يعي ولا يفكر .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تأكيد آية الدابة والتي تخرج من صدع من الصفا وقد وجد الصدع الآن فيما يبدو وهي الأنفاق التي فتحت في جبل الصفا وأصبحت طرقاً عظيمة للحجاج ، وعما قريب تخرج ، وذلك يوم لا يبقى من يأمر بالمعروف ولا من ينهى عن المنكر فيحق العذاب على الكافرين .
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر وصف لها .
3- ويل لرؤساء الضلالة والشر والشرك والباطل إذ يؤتى بهم ويسألون .
4- في آية الليل والنهار ما يدل بوضوح على عقيدة البعث الآخر والحساب والجزاء .
(3/152)
________________________________________
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
شرح الكلمات :
{ ويوم ينفخ في الصور } : أي يوم ينفخ إسرافيل في البوق نفخة الفزع والفناء والقيام من القبور .
{ وكل أتوه داخرين } : أي وكل من أهل السماء والأرض أتوا الله عز وجل داخرين أي أذلاء صاغرين .
{ وترى الجبال تحسبها جامدة } : أي تظنها في نظر العين جامدة .
{ وهي تمر مر السحاب } : وذلك لسرعة تسييرها .
{ من جاء بالحسنة } : وهي الإِيمان والتوحيد وسائر الصالحات .
{ فله خير منها } : أي الجنة .
{ ومن جاء بالسيئة } : أي الشرك والمعاصي فله النار يكب وجهه فيها .
{ وهم من فزع يومئذ آمنون } : أي أصحاب حسنات التوحيد والعمل الصالح آمنون من فزع هول يوم القيامة .
{ ومن جاء بالسيئة فكبت } : أي جاء بالسيئة كالشرك وأكل الربا ، وقتل النفس ، فكبت وجوههم في النار والعياذ بالله أي القوا فيها على وجوههم
{ هل تجزون إلا ما كنتم تعملون } : أي ما تجزون غلا بعملكم ، ولا تجزون بعمل غيركم .
معنى الآيات :
ما زال السياق في ذكر أحداث القيامة تقريراً لعقيدة البعث والجزاء التي هي الباعث على الاستقامة في الحياة . فقال تعالى { ويوم ينفخ في الصور } أي ونفخ إسرافيل بإذن ربه في الصور الذي هو القرن أو البوق { ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله } وهي نفخة الفزع فتفزع لها الخلائق إلا من استثنى الله تعالى وهم الشهداء فلا يفزعون وهي نفخة الفناء أيضاً إذ بها يفنى كل شيء ، وقوله تعالى { وكل أتوه } أي أتوا الله تعالى { داخرين } اي صاغرين ذليلين أتوه إلى المحشر وساحة فصل القضاء وقوله { وترى الجبال تحسبها جامدة } أي لا تتحرك وهي في نفس الواقع تسير سير السحاب { صنع الله الذي أتقن كل شيء } أي أوثق صنعه وأحكمه { إنه خبير بما تفعلون } وسيجزيكم أيها الناس بحسب علمه { من جاء بالحسنة } وهي الإيمان والعمل الصالح { فله خير منها } ألا وهي الجنة { ومن جاء بالسيئة } وهي الشرك والمعاصي { فكبت وجوههم في النار } فذلك جزاء من جاء بالسيئة .
وقوله تعالى : { هل تجزون إلا ما كنتم تعملون } أي لا تجزون غلا ما كنتم تعملونه في الدنيا من خير وشر وقد تم الجزاء بمقتضى ذلك فقوم دخلوا الجنة وآخرون كبت وجوههم في النار .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحداثها مفصلة .
2- بيان كيفية خراب العوالم وفناء الأكوان .
3- فضل الشهداء حيث لا يحزنهم الفزع الأكبر وهم آمنون .
4- تقرير مبدأ الجزاء وهو الحسنة والسيئة ، حسنة التوحيد وسيئة الشرك .
(3/153)
________________________________________
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
شرح الكلمات :
{ هذه البلدة } : أي مكة المكرمة والاضافة للتشريف .
{ الذي حرمها } : اي الله الذي حرم مكة فلا يختلى خلاها ولا ينفَّر صيدها ولا يقاتل فيها .
{ من المسلمين } : المؤمنين المنقادين له ظاهراً وباطناً وهم اشرف الخلق .
{ وأن أتلو القرآن } : أي أمرني أن أقرأ القرآن إنذاراً وتعليماً وتعبداً .
{ سيريكم آياته } : أي مدلول آيات الوعيد فيعرفون ذلك وقد أراهموه في بدر وسيرونه عند الموت .
{ وما ربك بغافل عما يعملون } : أي وما ربك أيها الرسول بغافل عما يعمل الناس وسيجزيهم بعملهم .
معنى الآيات :
إنه بعد ذلك العرض الهائل لأحداث القيامة والذي المفروض فيه أن يؤمن كل من شاهده ولكن القوم ما آمن أكثرهم ومن هنا ناسب بيان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أنه عبد مأمور بعبادة ربه لا يغر ربه الذي هو رب هذه البلدة الذي حرمها فلا يقاتل فيها ولا يصاد صيدها ولا يختلى خلالها ولا تلتقط لقطتهها إلا لمن يعرفها ، وله كل شيئ خلقاً وملكاً وتصرفاً فليس لغيره معه شيء في العوالم كلها علويّها وسفلِيّها وقوله : { وأمرت أن أكون من المسلمين } أي وأمرني ربي أن أكون في جملة المسلمين أي المنقادين لله والخاضعين له وهم صالحو عباده من الأنبياء والمرسلين . وقوله : { وأن أتلو القرآن } أي وأمرني أن أتلو القرآن تلاوة إنذار وتعليم وتعبداً وتقرباً إليه تعالى وبعد تلاوتي فمن اهتدى عليها فعرف طريق الهدى وسلكه فنتائج الهداتية وعائدها عائد عليه هو الذي ينتفع بها . ونم ضل فلم يقبل الهدى وأقام على ضلالته فليس علي هدايته لأن ربي قال لي قل لمن ضل { إنما أنا من المنذرين } لا من واهبى الإِيمان والهداية إنما يهب الهداية ويمن بها الله الذي بيده كل شيء { وقل الحمد لله } وأمرني أن أحمده على كل ما وهبني من نعم لا تعد ولا تحصى ومن أجلِّها إكرامه لي بالرسالة التي شرفني بها على سائر الناس فالحمد لله والمنة له وقوله { سيريكم آياته فتعرفونها } أي وأعلم هؤلاء المشركين أن الله ربي سيريكم آياته في مستقبل أيامكم وقد اراهم أول آية في بدر وثاني آية في الفتح وآخر آية عند الموت يوم تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم وتقول لهم { ذوقوا عذاب الحريق } وقوله تعالى { وما ربك بغافل عما تعملون } أي وما ربك الذي أكرمك وفضلك أيها الرسول { بغافل عما تعملون } أيها الناس مؤمنين وكافرين وصالحين وفاسدين وسيجزى كلاً بعمله وذلك يوم ترجعون إليه ففي الآية وعد ووعيد .
هداية الآيات :
من هداية الآيات : - بيان وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنها عبادة الله والإِسلام له ، وتلاوة القرآن إنذاراً وإِعذاراً وتعليماً وتَعَبُّداً به وتقراباً إلى منزله عز وجل .
2- بيان وتقرير حرمة مكة المكرمة والحرم .
3- الندب إلى حمد الله تعالى على نعمة الظاهرة والباطنة ولا سيما عند تجدد النعمة وعند ذكرها .
4- بيان أن عوائد الكسب عائدة على الكاسب خيراً كانت أو شراً .
5- بيان معجزة القرآن الكريم إذ ما أعلم به المشركين أنهم سيرونها قد رأوه فعلاً وهو غيب ، فظهر كما أخبر .
(3/154)
________________________________________
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
شرح الكلمات : { طسم } : هذه إحدى الحروف المقطعة تكتب طسم وتقرأ : طا ، سيْن ، ميمْ .
{ تلك } : أي الآيات المؤلفة من مثل هذه الحروف هي آيات القرآن الكريم .
{ نتلو عليك } : أي نقرأ عليك قاصين شيئاً من نبأ موسى وفرعون أي من خبرهما .
{ لقوم يؤمنون } : أي لأجل المؤمنين ليزدادوا إيماناً ويوقنوا بالنصر وحسن العاقبة .
{ علا في الأرض } : أي تكبر وظلم فادعى الربوبية وظلم بني إسرائيل ظلماً فظيعاً .
{ شيعاً } : أي طوائف بعضهم عدوّ لبعض من باب فَرِّق تَسُدْ .
{ ويستحي نساءهم } : أي يبقي على النساء لا يذبح البنات لأنه لا يخاف منهن ويذبح الأولاد لخوفه مستقبلاً على ملكه منهم .
{ ونريد أن نمن } : أي ننعم على الذين استضعفوا فنجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين .
{ ما كانوا يحذرون } : من المولود الذي يولد في بني إسرائيل ويذهب بملكهم .
معنى الآيات :
« طسم » : هذا اللفظ الله أعلم بمراده منه ، وقد افاد فائدتين عظيمتين الأولى هي إعجاز القرآن الموجب للإِيمان به وبمنزلة من أنزل عليه القرآن وهو محمد صلى الله عليه وسلم ذلك أن هذا القرآن الذي أعجز العرب أن يأتوا بسورة مثله قد تألف من مثل هذه الحروف المقطعة فدل ذلك على أنه كلام الله ووحيه .
والثانية أنه لما خاف المشركون من تأثير القرآن على نفوس السامعين له وأمروا باجتناب سماعه واستعملوا وسائل شتى لمنع الناس في مكة من سماعه كانت هذه الحروف تضطرهم إلى السماع لغرابتها عندهم فإذا قرأ القارئ طسم وجد احدهم نفسه مضطراً إلى لاسماع ، فإذا ألقى سمعه نفذ القرآن إلى قلبه فاهتدى به إن شاء الله تعالى له الهداية كما حصل لكثيرين منهم .
وقوله تعالى : { تلك آيات الكتاب } أي هذه آيات الكتاب المبين أي القرآن المبين للهدى من الضلال والخير من لاشر والحق من الباطل ، وقوله { نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق } أي نقرأ قاصين عليك أيها الرسول شيئاً من نبأ موسى وفرعون أي من خبر موسى وفرعون وقوله { لقوم يؤمنون } باعتبارهم أنهم هم الذين ينتفعون بما يسمعون في حياتهم ولأنهم في ظرف صعب يحتاجون معه إلى سماع مثل هذا القصص ليثبتوا على إيمانهم حتى ينصرهم الله كما نصر الذين من قبلهم بعد ضعف كان أشد من ضعفهم وقوله تعالى : { إن فرعون . . } إلى آخر الآية هذا بيان لما أخبر أنه يقصه للمؤمنين ، يخبر تعالى فيقول : { إن فرعون . . } إلى آخر الآية إن فرعون الحاكم المصري المسمى بالوليد بن الريان الطاغية المدعى الربوبية والألوهية { علا في الأرض } اي أرض البلاد المصرية ومعنى علا طغى وتكبر وتسلط وقوله { وجعل أهلها } أي أهل تلك البلاد المصرية { شيعاً } أي طوائف فرق بينها إبقاء على ملكه قاعدة فَرِّق تَسُدْ المذهب السياسي القائم الآن في بلاد الكفر والظلم وقوله { يستضعف طائفة } من تلك الطوائف وهي طائفة بني إسرائيل وكيفية استضعافهم أنه يذبح أبناءهم ساعة ولادتهم { ويستحي نساءهم } اي بناتهم ليكبرن للخدمة وتذبيح الأولاد سببه أن كهانة وسياسييه أعلموه أن مهلكه مهدد بوجود بني إسرائيل أقوياء كثر في البلاد فاستعمل طريقة تقليلهم والحد من كثرتهم بذبح الأولاد الذكور منهم وإبقاء الإِناث منهم وهي سياسة تشبه تحديد النسل اليوم التي يستعملها الهالكون اليوم وهم لا يشعرون .
(3/155)
________________________________________
وقوله : { إنه كان من المفسدين } هذا تعليل لعلو فرعون وطغيانه فذكر أن سبب ذلك الذي يرتكبه من السياسة العمياء الظالمة أنه { من المفسدين } أي في الأرض بارتكاب الجرائم العظام التي لا توصف .
وقوله تعالى { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة } أي { نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون } أي من بعض خبرهما أنا نريد اي أردنا أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض أرض مصر وهم بنو إسرائيل ، نَمُنُّ عليهم بإيمانهم وتخليصهم من حكم فرعون وتسلطه ونجعلهم قادةً في الخير { ونجعلهم الوارثين } لحكم البلاد وسياستها بعد إهلاك فرعون وجنوده وهو معنى قوله :
{ ونمكن لهم في الأرض } . وقوله { ونري فرعون } أي من جملة ما نتلو عليك أنا أردنا أن { نرى فرعون وهامان وجنودهما منهم } اي من بني إسرائيل ما كانوا يحذرونه من مولود يولد في بني إسرائيل فيذهب بملك فرعون وذلك بما سيذكر تعالى من اسباب وترتيبات هي عجب!
تبتدئ من قوله تعالى { وأوحينا إلى أم موسى . . } هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير إعجاز القرآن الذي هو آية أنه كتاب الله حقاً .
2- تقرير النبوة المحمدية بهذا الوحي الإلهي .
3- التحذير من الظلم والاستطالة على الناس والفساد في الأرض .
4- المؤمنون هم الذين ينتفعون بما يتلى عليهم لحياة قلوبهم .
5- تقرير قاعدة لا حذر مع القدر .
6- تحريم تحديد النسل بإلزام المواطن بان لا يزيد على عدد معين من الأطفال .
(3/156)
________________________________________
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)
شرح الكلمات :
{ وأوحينا إلى أم موسى } : أعلمناها أن ترضع ولدها الرضعات الأولى التي لا بد منها ثم تضعه في تابوت ثم تلقيه في اليم .
{ في اليم } : أي في البحر وهو نهر النيل .
{ ولا تخافي ولا تحزني } : أي لا تخافي أن يهلك ولا تحزني على فراقه ، إنا رادوه إليك .
{ فالتقطع آل فرعون } : أي أعوانه ورجاله .
{ ليكون لهم عدواً وحزناً } : أي في عاقبة الأمر ، فاللام للعاقبة والصيرورة .
{ قرة عين لي ولك } : اي تقر به عيني وعينك فنفرح به ونُسَرْ .
{ وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً } : أي من كل شيء إلا منه عليه السلام أي لا تفكر في شيء إلا فيه .
{ إن كادت لتبدي به } : أي قاربت بأن تصرخ أنه ولدها وتظهر ذلك .
{ وقالت لأخته قصيه } : أي اتبعي أثره حتى تعرفي اين هو .
{ فبصرت به عن جنب } : أي لاحظته وهي مختفيه تتبعه من مكان بعيد .
معنى الآيات :
هذه بداية قصة موسى مع فرعون وهو طفل رضيع إلى نهاية هلاك فرعون في ظرف طويل بلغ عشرات السنين . بدأ تعالى بقوله تعالى : { وأوحينا إلى أم موسى } اي أعلمناها من طريق الإِلقاء في القلب { أن أرضعيه فإذا خفت عليه } آل فرعون الذين يقتلون مواليد بني إسرائيل الذكور في هذه السنة { فألقيه في اليم } أي بعد أن تجعليه في تابوت أي صندوق خشب مطلي بالقار ، { ولا تخافى } عليه الهلاك { ولا تحزني } على فراقك { إنا رادوه إليك } لترضعيه { وجاعلوه من المرسلين } ونرسله إلى عدوكم فرعون وملائه . قال تعالى : { فالتقطه آل فرعون } أي فعلت ما أمرها الله تعالى به بأن جعلته في تابوت وألقته في اليم أي النيل { فالتقطه آل فرعون } حيث وجدوه لقطة فأخذوه وأعطوه لآسية بنت مزاحم عليها السلام امرأة فرعون . وقوله تعالى : { ليكون لهم عدواً وحزناً } هذا باعتبار ما يؤول غليه الأمر فهنم ما التقطوه لذلك ولكن شاء الله ذلك فكان لهم { عدُّواً وحزناً } فعاداهم وأحزنهم .
وقوله تعالى : { إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين } اي آثمين بالكفر والظلم ولذا يكون موسى لهم عدواً وحزناً . وقوله تعالى : { وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه } قالت هذا حين هم فرعون بقتله لما نتف موسى لحيته وهو رضيع تعلق به فأخذ شعرات من لحيته فتشاءم فرعون وأمر بقتله فاعتذرت آسية له فقالت هو { قرة عين لي ولك لا تقتلوه } فقال فرعون قرة عين لك أما أنا فلا وقولها { عسى أن ينفعنا } في حياتنا بالخدمة ونحوها { أو نتخذه ولداً } وذلك بالتبني وهذا الذي حصل ، فكان موسى إلى الثلاثين من عمره يعرف بإبن فرعون وقوله { وهم لا يشعرون } اي بما سيكون من أمره وأن هلاك فرعون وجنوده سيكون على يده .
وقوله تعالى : { وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً } أي من اي شيء إلا من موسى وذلك بعد أن ألقته في اليم .
(3/157)
________________________________________
وقوله { إن كادت لتبدى به } أي لتصرخ بأ ، ه ولدها وتُظهر ذلك من شدة الحزن لكن الله تعالى ربط على قلبها فصبرت لتكون بذلك من المؤمنين بوعد الله تعالى لها بأن يرده إليها ويجعله من المرسلين .
وقوله تعالى : { وقالت لأخته قصيه } اي تتبعي أثره وذلك عندما ألقته في اليم وقوله { فبصرت به عن جنب } أي رأته من بُعد فكانت تمشي على شاطئ النهر وتلاحقه النظر من بعد حتى رأته انتهى إلى فرع الماء الذي دخل إلى قصر فرعون فعلمت أنه قد دخل القصر . وقوله تعالى : { وهم لا يشعرون } أي لا يشعرون أنها أخته لما كانت تلاحقه النظر وتتعرف إليه من بعد .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان تدبير الله تعالى لأولياء وصالحي عباده وتجلى ذلك في الوحي إلى أم موسى بارضاعه وإلقائه في البحر والتقاط آل فرعون له ليتربى في بيت الملك عزيزاً مكرماً .
2- بيان سوء الخطيئة وآثارها السيئة وعواقبها المدمرة وتجلى ذلك فيما حل بفرعون وهامان وجنودهما .
3- فضيلة الرجاء تجلت في قول آسية { قرة عين لي ولك } فقال فرعون : أمَّالي فلا . فكان موسى قرة عين لآسية ولم يكن لفرعون .
4- بيان عاطفة الأمومة حيث أصبح فؤاد أم موسى فارغاً إلا من موسى .
5- بيان عناية الله بأوليائه حيث ربط على قلب أم موسى فصبرت ولم تبده لهم وتقول هو ولدي ليمضي وعد الله تعالى كما أخبرها . والحمد له رب العالمين .
(3/158)
________________________________________
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)
شرح الكلمات :
{ وحرمنا عليه المراضع } : أي معناه من قبول ثدى أيَّة مرضعة .
{ من قبل } : أي من قبل رده إلى أمه .
{ فقالت هل أدلكم على } : أي قالت أخت موسى .
{ أهل بيت يكفلونه لكم } : يضمونه غليهم ، يرضعونه ويربونه لكم .
{ وهم له ناصحون } : أي لموسى ناصحون ، فلما قالوا لها إذاً كنت أنت تعرفينه ، قالت لا ، إنما أعني أنهم ناصحون للملك لا للود .
{ فرددناه إلى أمه } : أي رددنا موسى إلى أمه أي قبلوا اقتراح أخته .
{ ولتعلم أن وعد الله حق } : إذ أوحى إليها أنه راده إليها وجاعله من المرسلين .
{ ولكن أكثرهم لا يعلمون } : أي أكثر الناس لا يعلمون وعد الله لأم موسى ولا يعلمون أن الفتاة أخته وأن أمها أمه .
{ ولما بلغ اشده واستوى } : أي ثلاثين سنة من عمره فانتهى شبابه وكمل عقله .
{ آتيناه حكماً وعلماً } : أي وهبناه الحكمة من القول والعمل والعلم بالدين الإِسلامي الذي كان عليه بنو إسرائيل وهذا قبل أن ينبأ ويرسل .
{ ودخل المدينة } : مدينة فرعون وهي مُنْفُ بعد أن غاب عنها مدة .
{ على حين غفلة من أهلها } : لأن الوقت كان وقت القيلولة .
{ هذا من شيعته } : أي على دينه الإِسلامي .
{ وهذا من عدوه } : على دين فرعون والأقباط .
{ فوكزه موسى فقضى عليه } : أي ضربه بجمع كفه فقضى عليه أيْ قتله .
{ هذا من عمل الشيطان } : أي هذا الفعل من عمل الشيطان لأنه المهيج غضبي .
{ أنه عدو مضل مبين } : أي الشيطان عدو لابن آدم مضل له عن الهدى ، مبين ظاهر الإِضلال .
معنى الآيات :
ما زال السياق في قصص موسى مع فرعون : إنه بعد ان التقط آل فرعون موسى من النيل وهو رضيع قدموا له المراضع فرفضهن مرضعة بعد أخرى ، فاحْتار آل فرعون لحبهم لموسى لأن الله تعالى ألقى عليه محبة منه فما رآه أحد إلا أحبه وهذا معنى قوله تعالى في الآية ( 12 ) { وحرمنا عليه المراضع من قبل } أي قبل رده إلى أمه . وقوله : { فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون } هذه أخته وقد امرتها أمها أن تقص آثار موسى وتتبع أخباره فلما علمت أن أخاها لم يقبل المراضع وأن القصر في قلق من جراء عدم رضاع موسى تقدمت وقالت ما أخبر الله تعالى به عنها في قوله : { فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم } ويرضعونه ويحفظونه حتى تنتهي مدة رضاعته { وهم له ناصحون } وهنا ارتابوا في أمرها واستنطقوها واتهموها بأنها تعرفه فقالت : لا أعرفه ، إنما عنيت { وهم له ناصحون } أن أهل هذا البيت ناصحون للملك وهنا استجابوا لها فأتت به أمه فما إن رآها حتى رمى نفسه عليها وأخذ ثديها يمتصه فقالو لها : ما سر قبوله هذه المرأة فأجابت : بأنها طيبة الريح طيبة اللبن فأذنوا لها في إرضاعه في بيتها فعادت به وهو معنى قوله تعالى { فرددناه إلى أمه كي تقر عينها } اي تفرح وتسر ولا تحزن على فراقه ، { ولتعلم أن وعد الله حق } إذ وعدها بأنه راده إليها .
(3/159)
________________________________________
وقوله تعالى : { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أي ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنها أمه ولا أن الله وعدها بأن يرده إليها . وقوله تعالى : { ولما بلغ } أي موسى { أشده } أي اكتمال شبابه وهو ثلاثين سنة . { آتيناه حكماً وعلماً } أي حكمة وهي الإِصابة في الأمور { وعلماً } فقهاً في الدين الإِسلامي الذي كان عليه بنو إِسرائيل . وقوله تعالى { وكذلك نجزي المحسنين } أي كما جزينا أم موسى وولدها موسى نجزي المحسنين وقوله تعالى : { ودخل المدينة } أي موسى دخل مدينة مُنْفُ التي هي مدينة فرعون وكان غائباً فترة . { على حين غفلة من أهلها } لأن الوقت كان وقت القيلولة . { فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته } على دين موسى وبني إسرائيل وهو الإِسلام { وهذا من عدوه } لأنه على دين فرعون والأقابط وهو الكفر . { فاستغاثه الذي من شيعته } أي طلب غوقه على الذي من عدوه { فوكزه موسى } أي ضربه بجمع كفه { فقضى عليه } أي فقتله ودفنه في الرمال . وقوله تعالى : { قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين } أي هذا قول موسى عليه السلام اعترف بأن ضربه القبطى كان من تهيج الشيطان لغضبه فقال : { هذا من عمل الشيطان إنه عدو } للانسان { مضل } له عن طريق الخير والهدى { مبين } اي ظاهر العداوة للإِنسان والإِضلال .
وقوله تعالى : { قال رب إِني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم } أي دعا موسى ربه معترفاً بخطئه أولاً فقال : { رب } أي يا رب { إني ظلمت نفسي } أي بقتلي القبطي { فاغفر لي } هذا الخطأ ، فاستجاب الله تعالى وغفر له ، إنه تعالى هو الغفور لذنوب عباده التائبين له الرحيم بهم فلا يعذبهم بذنب تابوا منه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان حسن تدبير الله تعالى في منع موسى من سائر المرضعات حتى يرده إلى أمه .
2- بيان حسن رد الفتاة على التهمة التي وجهت إليها وذلك من ولاية الله وتوفيقه .
3- تقرير أن وعد الله حق ، وأنه تعالى لا يخلف الوعد ولا الميعاد .
4- بيان إِنعام الله على موسى بالحكمة والعلم قبل النبوة والرسالة .
5- مشروعية إِغاثة الملهوف ونصرة المظلوم .
6- وجوب التوبة بعد الوقوع في الزلل ، وأول التوبة الاعتراف بالذنب .
(3/160)
________________________________________
قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
شرح الكلمات :
{ بما أنعمت على } : بإنعامك على بمغفرة ذنبي .
{ فلن أكون ظهيراً للمجرمين } : أي معيناً لأهل الإِجرام .
{ خائفاً يترقب } : ماذا يحدث من خير أو غيره بعد القتل .
{ استنصره بالأمس } : أي طلب نصرته فنصره .
{ يستصرخه } : أي يستغيث به على قبطي آخر .
{ إنك لغوي مبين } : أي لذو غواية وضلال ظاهر .
{ أن يبطش بالذي هو عدو لهما } : أي أن يأخذ الذي هو عدو لموسى والقبطي معاً .
{ إن تريد إلا أن تكون جباراً } : اي ما تريد إلا أن تكون جباراً تضرب وتقتل ولا تبالي بالعواقب .
{ من المصلحين } : أي الذين يصلحون ببين الناس إذا اختلفوا أو تخاصموا .
{ وجاء رجل من أقصى المدينة } : أي مؤمن آل فرعون أتى من أبعد نواحي المدينة .
{ إن الملأ يأتمرون بك } : أي يتشاورون ويطلب بعضهم أمر بعض ليقتلوم .
{ فاخرج إني لك من الناصحين } : أي اخرج من هذه البلاد إلى أخرى .
{ فخرج منها خائفاً يترقب } : خائف من القتل يترقب ما يحدث له .
معنى الآيات :
لقد تقدم في الآية قبل هذه أن موسى عليه السلام قد قتل قبطياً بطريق الخطأ وأنه اعترف لربه تعالى بخطإه واستغفره ، وأن الله تعالى غفر له وأعلمه بذلك بما شاء من وسائط ، ولما علم موسى بمغفرة الله تعالى له عاهده بأن لا يكون { ظهيراً للمجرمين } مستقبلاً ومن ذلك أن يعتزل فرعون وملائه لأنهم ظالمون مجرمون فقال :
{ رب بما أنعمت علي } أي بمغفرتك لي خطإي وذلك بالنظر إلى إنعامك علي بالمغفرة أعاهدك أن لا أكون { ظهيراً للمجرمين } هذا ما دلت عليه الآية ( 17 ) أي الأولى في هذا السياق وهي قوله تعالى : { قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين } وقوله تعالى : { فأصبح في المدينة خائفاً يترقب } اي فأصبح موسى في مدينة ( مُنْفُ ) عاصمة المملكة الفرعونية { خائفاً } مما قد يترتب على قتله القبطي { يترقب } الأحداث ماذا تسفر عنه؟ فإذا الذي يستنصره بالأمس وهو الإِسرائيلي الذي طلب نصرته أمس { يستصرخه } أي يستغيثه بأعلى صوته فنظر إليه موسى وأقبل عليه ليخلصه قائلاً : { إنك لغوي مبين } أي لذوا غواية بينة والغواية الفساد في الخلق والدين لأنك أمس قاتلت واليوم تقاتل أيضاً . { فلما أن أراد أن يبطش } أي موسى { بالذي هو عدو لهما } وهو القبطي قال الإِسرائيلي { أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض } أي تضرب وتقتل كما تشاء ولا تخاف عقوبة ذلك { وما تريد أن تكون من المصلحين } الذي يصلحون بين المتخاصمين قال الإِسرائيلي هذا لأ ، ه جبان وخاف من هجمة موسى ظاناً أنه يريده هو لما قدم له من القول { إنك لغوي مبين } فلما سمع القبطي ما قال مقاتله الإِسرائيلي نقلها إلى القصر وكان من عماله فاجتمع رجال القصر برئاسة فرعون يتداولون القضية وينظرون إلى ظروفها ونتائجها وما يترتب عليها وكان من جملة رجال المؤتمر مؤمن آل فرعون ( حزقيل ) وكان مؤمناً يكتم إيمانه فأتى موسى سراً ليخبره بما يتم حياله وينصح له بالخروج من البلاد وهو ما جاء في قوله تعالى في الآية ( 20 ) من هذا السياق { وجاء رجل من أقصا المدينة } من أبعدها فان قصر الملك كان في طرف المدينة وهي مدينة فرعون ( مُنْفُ ) { يسعى } فمشي بسرعة وجد وانتهى إلى موسى فقال { يا موسى إن الملأُ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين } قال تعالى : { فخرج منها } أي من بلاد فرعون { خائفاً يترقب } خائفاً من القتل يترقب الطلب وماذا سيحدث له من نجاة أو خلافه ودعا ربه عز وجل قائلاً :
{ رب نجني من القوم الظالمين } أي من فرعون وملائه أولاً ومن كل ظالم ثانياً .
(3/161)
________________________________________
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- شكر النعم ، فموسى لما غفر تعالى له شكره بأن تعهد له أن لا يقف إلى جنب مجرم أبداً .
2- سوء صحبة الأحمق الغوى فإن الإِسرائيلي لغوايته وحمقه هو الذي سبب متاعب موسى .
3- لزوم إِبلاغ الدولة عن أهل الفساد والشر في البلاد لحمايتها .
4- وجوب النصح وبذل النصيحة فمؤمن آل فرعون يعلم سلامة موسى من العيب ومن الجريمة فتعين له أن ينصح موسى بمغادرة البلاد لينجو إن شاء الله وليس هذا من باب خيانة البلاد والدولة ، لأن موسى من أهل الكمال وما حدث عنه كان من باب الخطأ فرفده ومد إليه اليد إِنقاذاً من موت متعين .
5- الخوف الطبيعي لا يلام عليه فموسى عليه السلام قد خاف خوفاً أدى به إلى الالتجاء إلى ربه بالدعاء فدعاه واستجاب له ولله الحمد والمنة .
(3/162)
________________________________________
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
شرح الكلمات : { ولما توجه تلقاء مدين } : أقبل بوجهه جهة مدين التي هي مدينة شعيب .
{ عسى ربي أن يهديني سواء } : أرجو ربي أن يهدني وسط الطريق حتى لا أضل فأهلك
{ السبيل } : فاستجاب الله له وهداه غلى سواء السبيل ووصل مدين .
{ ولما ورد ماء مدين } : انتهى غلى بئر يسقى منها أهل مدين .
{ يسقون } : أي مواشيهم منبقر وابل وغنم .
{ تذودان } : أي أغنامهما منعاً لهما من الماء حتى تخلو الساحة لهما خوف الاختلاط بالرجال الأجانب لغير ضرورة .
{ قال ما خطبكما } : قال موسى للمرأتين اللتين تذودان ما خطبكما أي ما شأنكما .
{ حتى يصدر الرعاء } : لا نسقي ماشيتنا حتى يصدر الرعاء ويبقى لنا الماء وحدنا .
{ ثم تولى إلى الظل } : أي بعد أن سقى لهما رجع إلى ظل الشجرة التي كان جالساً تحتها .
{ لما أنزلت إلي من خير فقير } : أي من طعام محتاج إليه لشدة جوعه عليه السلام .
{ تمشي على استحياء } : أي واضعة كم درعها على وجهها حياء منه .
معنى الآيات :
ما زال السياق في شأن موسى عليه السلام بعد حادثة القتل والنصح له بمغادرة بلاد مصر غلى بلاد مدين مدينة شعيب عليه السلام قال تعالى مخبراً عنه : { ولما توجه تلقاء مدين } أي ولما توجه موسى عملاً بنصيحة مؤمن آل فرعون تلقاء مدين أي نحوها وجهتها ولم يكن له علم بالطريق الصحراوي والمسافة مسيرة ثمانية أيام قال : { عسى أن يهدني ربي سواء السبيل } أي ترجَّى ربه سبحانه وتعالى أن يهديه الطريق السوي حتى لا يضل فيهلك ، واستجاب الله له فهداه الطريق حتى وصل إلى بلاد مدين وقوله تعالى في الاية الثانية من هذا السياق ( 23 ) { ولما ورد ماء مدين } اي وحين ورد ماء مدين وهو بئر يسقي منها الناس مواشيهم { وجد عليه } اي على الماء رأمة من الناس } اي جماعة كبيرة يسقون أنعامهم ومواشيهم { ووجد من دونهم امرأتين } وهما بنتا شعيب عليه السلام { تذودان } اي تمنعان ماشيتهما من الاختلاط بمواشي الناس . فسألهما لا تطفلاً وإنما حالهما دعاه إلى سؤالهما لأنه رأى الناس يسيقون مواشيهما ويصدرون فوجاً بعد فوج والمرأتان قائمتان على ماشيتهما تذودانها عن الحوض حتى لا تختلط ولا تشرب فسألهما لذلك قائلاً : { ما خطبكما } أي ما شأنكما فأجابتاه قائلتين : { لا نسقي حتى يصدر الرعاء } لضعفنا وعدم رغبتنا في الاختلاط بالرجال { وأبونا شيخ كبير } لا يقوي على سقي هذه الماشية بنفسه فنحن نسقيها ولكن بعد أن يصدر الرعاء ويبقى في الحوض ماء نسقي به ، فلما علم عذرهما سقى لهما ماشيتهما { ثم تولى إلى الظل } الذي كان جالساً تحته وهو ظل شجرة وهو شجر صحراوي معروف يقال له السمر ، ولما تولى غلى الظل سأل ربه الطعام لشدة جوعه إذ خرج من مصر بلا زاد ولا دليل ولولا حسن ظنه في ربه لما خرج هذا الخروج فقال : { رب إني لما أنزلت إلي من خير } اي طعام { فقير } اي محتاج إليه أشد الاحتياج .
(3/163)
________________________________________
وفي أقرب ساعة وصلت البنتان غلى والدهما فسالهما عن سبب عودتهما بسرعة فأخبرتاه ، فقال لإحداهما إذهبي إليه وقوله له { إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا } وهو معنى قوله تعالى { فجاءته إحداهما } استجابة الله له { تمشي على استحياء } واضعة كم درعها على وجهها حياء . وقد قال فيها عمر رضي الله عنه إنها ليست سلفعاً من النساء خرَّاجة ولأَّجة ، وبلغت الرسالة المختصرة وكأنها برقية ونصها ما أخبر تعالى به في قوله : { إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا } وقد ورد أنهما لما كانت تمشي أمامه تدله على الطريق هبت الريح فكشفت ساقيها قال بها موسى : إمشي ورائي ودليني على الطريق بحصى ترميها نحو الطريق وهذا الذي دلها على أمانته لما وصفته لأبيها بأنه { قوي أمين } كما سيأتي فيما بعد .
هداية الآيات :
من هداية الايات :
1- وجوب حسن الظن بالله تعالى وقوة الرجاء فيه عز وجل والتوكل عليه .
2- بيان فضل الحياء وشرف المؤمنات اللائي يتعففن عن الاختلاط بالرجال .
3- بيان مروءة موسى في سقيه للمرأتين .
4- فضل الدعاء وسؤال الله تعالى ما العبد في حاجة إليه .
5- ستر الوجه عن الأجانب سنة المؤمنات من عهد قديم وليس كما يقول المبطلون عهو عادة جاهلية ، فبنتا شعيب نشأتا في دار النبوة والطهر والعفاف وغطت إحداهما وجهها عن موسى حياءً وتقوى .
(3/164)
________________________________________
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
شرح الكلمات :
{ وقص عليه القصص } : أخبره بشأنه كله من قتله القبطي وطلب السلطة له ونصح المؤمن له بمغادرة البلاد ووصوله إلى ماء مدين .
{ لا تخف نجوت من القوم الظالمين } : أي من فرعون وملئه إذ لا سلطان لهم على بلاد مدين .
{ يا أبت استأجره } : أي اتخذه أجيراً يرعى لنا الغنم بدلنا .
{ القوي الأمين } : ذكرت له كفاءته وهي القوة البدنية والأمانة .
{ علىأن تأجرني } : أي تكون أجيراً لي في رعي غنمي .
{ ثماني حجج } : أي ثماني سنوات إذ الحجة عام والجمع حجج .
{ فإن أتممت عشراً فمن عندك } : أي جعلت الثمانية عشراً فرغبت عشراً فهذا من كرمك .
{ قال ستجدني إن شاء الله من الصالحين } : اي الذين يوفون ولا ينقضون ولا ينقصون .
{ ذلك بيني وبينك } : أنا أفي بشرطي وأنت تفي بشرطك .
{ أيما الأجلين قضيت } : أي الأجلين الثمانية أو العشرة أتممت .
{ فلا عدوان على } : وذلك بطلب الزيادة فوق الثمانية أو فوق العشرة .
{ والله على ما نقول وكيل } : أي وكيل وحفيظ اي أشهد الله على العقد بشطريه أي النكاح ورعي الغنم وبذلك تم العقد .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في ما تم بين موسى وابنتي شعيب من السقي لهما ومجيء إحداهما تبلغه رسالة والدها ومشيه معها وقوله تعالى { فلما جاءه } اي جاء موسى شعيباً { وقص عليه القصص } أي أخبره بشأنه كله من قتله القبطي خطأ وطلب السلطات له ونصح مؤمن آل فرعون له بالخروج من البلاد ، ووصوله غلى ماء مدين قال له شعيب عندئذ { لا تخف نجوت من القوم الظالمين } يعني فرعون وحكومته وهذا ما يعرف الآن باللجوء السياسى فأمنه على نفسه لأن فرعون لا سلطان له على هذه البلاد .
وقال له شعيب : اجلس تعش معنا فقال موسى أخاف أن يكون عوضاً عما سقيت لابنتيك ما شيتهما وإني لمن اهل بيت لا يطلبون على عمل الخير عوضاً فقال له شعيب لا ليس هذا بأجر على سقيك وإنما عادتنا أن نقري الضيف ونطعم الطعام فأكل ولم ير بذلك بأساً .
وقوله تعالى { قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين } يروى أنها لما قالت { إن خير من استأجرت القوي الأمين } أثارت حفيظته بهذه الكلمة فسألها : كيف علمت ذلك فذكرت له عن القوة في سقيه لهما وعن الأمانة في غض بصره عن النظر إليها ، فصدقها شعيب وقال لموسى : { إني أريد أن أنكحك } أي أزوجك رإحدى ابنتى هاتين } { على أن تأجرني ثماني حجج } اي سنين جمع حجة وهي السُّنَهْ وقوله { فإن أتممت عشراً فمن عندك } اي احساناً منك وكرماً ، { وما أريد ان أشق عليك } بطلب العشرة { ستجدني إن شاء الله من الصالحين } أي الذين يوفون بعهودهم فقال موسى رداً على كلامه { ذلك بيني وبينك } أنا عليَّ أن أفي بما اشترطت عليَّ وأنت عليك أن تفي بما اشترطت لي على نفسك { ايما الأجلين } الثمانية أو العشرة { قضيت } أي وفيت وأديت { فلا عدوان عليّ } اي بطلب الزيادة على الثمانية ولا على العشرة .
(3/165)
________________________________________
فقال شعيب : نعم { والله على ما نقول وكيل } فأشهشد الله تعالى على صحة العقد وبذلك اصبح موسى زوجاً لابنة شعيب التي عيّنها له والغالب أنها الكبرى التي شهدت له بالأمانة والقوة .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تجلى كرم شعيب ومروءته وشهامته في تطمين موسى وإكرامه وإيوائه .
2- بيان أن الكفاءة شرط في العمل ولا أفضل من القوة وهي القدرة البدنية والعلمية والأمانة .
3- مشروعية عرض الرجل ابنته على من يرى صدقه وأمانته ليزوجه بها .
4- مشروعية غشهاد الله تعالى على العقود بمثل { والله على ما نقول وكيل } .
5- فضيلة موسى عليه اسللام بإيجار نفسه على شبع بطنه وإحصان فرجه .
(3/166)
________________________________________
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
شرح الكلمات :
{ قضى موسى الأجل } : أتم المدة المتفق عليها وهي ثمان أو عشر سنوات .
{ آنس } : أبصر .
{ أوجذوة من النار } : عود غليظ في راسه نار .
{ لعلكم تصطلون } : أي تَسْتَدْفِئون .
{ نودي } : أي ناداه الله تعالى بقوله يا موسى إني أنا الله رب العالمين .
{ في البقعة المباركة } : قطعة الأرض التي عليها الشجرة الكائنة بشاطئ الوادي .
{ تهتز كأنها جانُّ } : تضطرب وتتحرك بسرعة كأنها حية من حيات البيوت .
{ ولى مدبراً ولم يعقب } : رجع هارباً ولم يعقب لخوفه وفزعه منها .
{ اسلك يدك في جيبك } : أدخلها في جيب قميصك .
{ من غير سوء } : أي عيب كبرص ونحوه .
{ واضمم إليك جناحك من الرهب } : اضمم إليك يدك بأن تضعها على صدرك ليذهب روعك .
{ فذانك برهانان } : أي آيتان من ربك على صدق رسالتك .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في قصص موسى وهو في طريقه بتدبير الله تعالى إلى مصر ، إنه لما قضى الأجل الذي تعاقد مع صهره شعيب وقد أتم خير الأجلين وأوفاهما وهو العشر حجج قف ماشياً بأهله زوجته وولده في طريقه إلى مصر لزيارة والدته وإخوته حدث أن ضل الطريق ليلاً ، وكان الفصل شتاء والبرد شديد فإذا به يأنس { من جانب الطور } أي جبل الطور { ناراً } فقال لأهله امكثوا هنا { إني آنست } اي أبصرت { ناراً } سأذهب غليها { لعلي آتيكم منها بخبر } إذ قد أجد عندها من يدلنا على الطريق أو آتيكم بجذوة من النار أي خشبة في راسها نار مشتعلة { لعلكم تصطلون } أي من أجل اصطلائكم بها أي استدفائكم بها ، هذا ما دلت عليه الاية ( 29 ) وقوله تعالى في الآية الثانية { فلما أتاها } اي أتى النار { نودي } اي ناداه منادٍ { من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى } أي ناداه ربه ريا موسى إني أنا الله رب العالمين } { وأن ألق عصاك } فألقاها فاهتزت واضطربت وتحركت بسرعة { كأنها جان } أي حية عظيمة من الحيات المعروفة بالجنّان رولى مدبراً ولم يعقب } أي فزع منها فرجع من الفزع إلى الوراء { ولم يعقب } أي ولم يرجع إليها من الرعب ، فقال له ربه تعالى { أقبل } أي على العصا رولا تخف إنك من الآمنين } اي الذين آمنهم ربهم فلا يخافون شيئاً .
وقال له بعد أن رجع { اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء } اي أدخل يدك في جيب قميصك وهو الشق الذي يدخل معه الرأس في الثوب ليلبس وقوله { تخرج } اي اليد { بيضاء } كالنور { من غير سوء } أي برص أو نحوه رواضمم إليك جناحد } أي يدك مع العضد غلى صدرك { من الرهب } أي الخوف فإن يذهب عنك بحيث تعود يدك عادية لا نور فيها كما كانت من قبل إدخالها في جيبك أولاً .
ثم قال تعالى له { فذانك } اي العصا واليد البيضاء .
(3/167)
________________________________________
{ برهانان من ربك } اي آيتان تدلان على رسالتك المرسل بها إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين خارجين عن طاعة الله حيث كفروا به وعبدوا غيره وظلموا عباده ، لتدعوهم إلى الإيمان بالله وعبادته وإرسال بني إسرائيل معك لتذهب بهم إلى أرض المعاد أي فلسطين وما حولها من ارض الشام .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- الأنبياء أوفياء فموسى قضى أوفى الأجلين وأتمهما وهو العشر .
2- مشروعية السفر بالأهل وقد يحصل للمرء أنه يضل الطريق أو يحتاج إلى شيء ويصبر .
3- فضل تلك البقعة التي كلم الله تعالى موسى عليه السلام وهي من جبل الطور .
4- مشروعية حمل العصا لا سيما للمسافر وراعي ماشية أو سائقها .
5- مشروعية التدريب على السلام قبل استعماله .
6- لا يلام على الخوف الطبيعي .
7- آية العصا واليد .
8- من خاف ، وضع يده على صدره زال خوفه إن شاء الله تعالى .
9- التنديد بالفسق وأهله .
(3/168)
________________________________________
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
شرح الكلمات :
{ إني قتلت منهم نفساً } : أي نفس القبطي الذي قتله خطأ قبل هجرته من مصر .
{ أفصح مني لساناً } : أي أبين مني قولاً .
{ ردءاً } : أي معيناً لي .
{ سنشد عضدك بأخيك } : أي ندعمك به ونقويك بأخيك هارون .
{ ونجعل لكما سلطاناً } : أي حجة قوية يكون لكما بها الغَلَبُ .
{ فلا يصلون إليكم } : أي بسوء .
{ بآياتنا } : أي اذهبا بآياتنا .
{ فلما جاءهم موسى بآياتنا } : أي العصا واليد وغيرهما من الآيات التسع .
{ بينات } : أي واضحات .
{ سحر مفترى } : أي مختلق مكذوب .
{ عاقبة الدار } : أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة .
{ إنه لا يفلح الظالمون } : أي المشركون الكافرون .
معنى الآيات :
لما كلف الله تعالى موسى بالذهاب إلى فرعون وحمله رسالته إليه قال موسى كالمشترط لنفسه { رب إني قتلت منهم نفساً } يريد نفس القبطي الذي قتله خطأ أيام كان شاباً بمصر { فأخاف أن يقتلون } اي يقتلوني به إن لم أبين لهم وأفهمهم حجتي { وأخي هارون هو أفصح مني لساناً } أي أبين مني قولاً وأكثر إفهاماً لفرعون وملئه { فأرسله معي ردءاً } أي عوناً { يصدقني } أي يلخص قولي ويحرره لهم فيكون ذلك تصديقاً منه لي ، لا مجرد أني إذا قلت قال صدق موسى . وقوله { إني أخاف أن يكذبون } فيما جئتهم به . فأجابه الرب تعالى قائلاً { سنشد عضدك بأخيك } أي نقويك به ونعينك { ونجعل لكما سلطاناً } اي برهاناً وحجة قوية يكون لكما الغلب بذلك . وقوله { فلا يصلون إليكما } أي بسوء أبداً وقوله { بآياتنا } أي اذهبا بآياتنا أو يكون لفظ بآياتنا متصلاً بسلطاناً أي سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً بآياتنا { أنتم ومن اتبعكما الغالبون } وعلى هذا فلا نحتاج إلى تقدير فاذهبا وقوله تعالى { فلما جاءهم موسى بآياتنا } العصا واليد وغيرهما { ببينات } أي واضحات { قالوا ما هذا } أي الذي جاء به موسى من الآيات { إلا سحر مفترى } أي مكذوب مختلق { وما سمعنا بهذا } أي الذي جئت به يا موسى في { آبائنا الأولين } أي في أيامهم وعلى عهدهم . وهنا رد موسى على فرعون بأحسن رد وهو ما أخبر تعالى به عنه بقوله : { وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده } أي من عند الرب تعالى { ومن تكون له عاقبة الدار } أي العاقبة المحمودة يوم القيامة ، ولم يقل له اسكت يا ضال يا كافر إنك من أهل النار بل تلطف معه غاية اللطف امتثالاً لأمر الله تعالى في قوله { وقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى } وقوله { إنه لا يفلح الظالمون } أي الكافرون والمشركون بربهم هذا من جملة قول موسى لفرعون الذي تلطف فيه وألانه غاية اللين .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان أن القصاص كان معروفاً معمولاً به عند أقدم الأمم ، وجاءت الحضارة الغربية فأنكرته فتجرأ الناس على سفك الدماء وإزهاق الأرواح بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية ولذلك صح أن تسمى الخسارة البشرية بدل الحضارة الغربية .
2- مشروعية طلب العون عند التكليف بما يشق ويصعب من المسؤولين المكلفين .
3- مشروعية التلطف في خطاب الجبابرة وإلانة القول لهم ، بل هو مشروع مع كل من يدعى إلى الحق من أجل أن يتفهم القول ولا يُفِلقْ عليه بالإِغلاظ له .
(3/169)
________________________________________
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
شرح الكلمات
{ ما علمت لكم من إله غيري } : أي ربا يطاع ويذل له ويعظم غيري لعنة الله عليه ما أكذبه .
{ يا هامان } : أحد وزراء فرعون ، لعله وزير الصناعة أو العمل والعمال .
{ فأوقد لي يا هامان على الطين } : أي اطبخ لي الآجُرْ وهو اللبن المشوي .
{ فاجعل لي صرحاً } : أي بناء عالياً ، قصراً أو غيره .
{ لعلي أطلع إلى إله موسى } : أي أقف عليه وأنظر إليه .
{ وإني لأظنه من الكاذبين } : أي موسى في ادعائه أن له إلهاً غيري .
{ فنبذناهم في اليم } : أي طرحناهم في البحر غرقى هالكين .
{ وجعلناهم أئمة } : أي رؤساء يُقتدى بهم في الباطل .
{ يدعون إلى النار } : أي إلى الكفر والشرك والمعاصي الموجبة للنار .
{ في هذه الدنيا لعنة } : أي خزياً وبعداً عن الخير .
{ هم من المقبوحين } : أي المبعدين من كل خير المشوَّهي الخلقة .
{ القرون الأولى } : قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وغيرهم .
{ بصائر للناس } : اي فيه من النور ما يهدي كما تهدي البصار .
معنى الآيات :
قوله تعالى : { وقال فرعون } إن فرعون لما سمع كلام موسى عليه السلام المصدق بكلام هارون عليه السلام وكان الكلام في غاية اللبن ، مؤثراً خاف فرعون من الهزيمة ، ناور وراوغ فقال في الحاضرين { ما علمت لكم من إله غيري } أي كما ادعى موسى ولكن سأبحث وأتعرف على الحقيقة إن كان هناك إله آخر غيري ، فنادى وزيره هامان وأمره أن يعد اللبن المشوي لأنه قوي ويقوم ببناء صرح عال يصل إلى عنان السماء ليبحث بنفسه عن إله موسى إن كان حسب دعواه وإني لأظن موسى كاذباً في دعوى وجود إله له ولكم غيري هذا معنى قوله تعالى في الآية الأولى ( 38 ) { وقال فرعون يا أيها الملأ ما لعمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين } . يعنى في ادعائه أن هناك إلهاً آخر غيري .
قوله تعالى : { واستكبر هو وجنوده في الأرض } أي أرض مصر { بغير الحق } الذي يحق لهم الاستكبار { وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون } أي كذبوا بالبعث الآخر . قال تعالى :
{ فأخذناه وجنوده } أي بسبب استكبارهم وكفرهم وتكذيبهم بآيات الله { فنبذناهم في اليم } اي في البحر وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم { فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } إنها كانت وبالاً عليم وخساراً لهم . وقوله تعالى { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار } أي جعلنا فرعون وملأه أئمة في الكفر تقتدي بهم العتاة والطغاة في كل زمان ومكان { يدعون إلى النار } بالكفر والشرك والمعاصي وهي موجبات النار . { ويوم القيامة لا ينصرون } بل يضاعف لهم العذاب ويخذلون ويهانون لأن من دعا غلى سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيء .
وقوله تعالى : { وأتبعناهم } أي آل فرعون { في هذه الدنيا لعنة } إنتهت بهم إلى الغرق الكامل والخسران التام ، رويوم القيامة هم من المقبوحين } أي المبعدين من رحمة الله الثاوين في جهنم ولبئس مثوى المتكبرين وقوله تعالى { ولقد آتينا موسى الكتاب } أي التوراة وذلك بعد إهلاك الظالمين وقوله { من بعد ما أهلكنا القرون الأولى } أي قوم نوح وقوم هو وقوم صالح وقوم إبراهيم وقوله { بصائر } أي الكتاب بما يحمل من الهدى والنور { بصائر } أي ضياء للناس من بني غسرائيل يبصرون على ضوءه كل ما يحتاجون إليه في أمور دينهم ودنياهم { وهدى ورحمة } اي وبياناً لهم ورحمة لمن يعمل به منهم .
(3/170)
________________________________________
وقوله { لعلهم يتذكرون } أي وجود الكتاب بصائر وهدى ورحمة بين أيديهم حال تدعوهم إلى أن يتذكرّوا دائماً نعم الله عليهم فيشكرونه بالإِيمان به وبرسله وبطاعته وطاعة رسله عليهم السلام .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان أن فرعون كان على علم بأنه عبد مربوب لله وأن الله هو رب العالمين .
2- تقرير صفة العلو والاستكبار لفرعون وأنه كان من العالمين .
3- بيان كيف تكون عاقبة الظلمة دماراً وفساداً .
4- دعاة الدعارة والخنا والضلالة والشرك أئمة أهل النار يدعون غليها وهم لا يشعرون .
5- بيان إفضال الله تعالى على بني غسرائيل بإنزال التوراة فيهم كتاباً كله بصائر وهدى ورحمة .
(3/171)
________________________________________
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
شرح الكلمات :
{ وما كنت بجانب الغربي } : أي لم تكن يا رسولنا حاضراً بالجانب الغربي من موسى .
{ إذ قضينا إلى موسى الأمر } : أي بالرسالة إلى فرعون وقومه .
{ وما كنت من الشاهدين } : حتى تعلمه وتخبر به .
{ ولكنا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر } : أي غير أننا أنشأنا بعد موسى أمماً طالت أعمارهم فسنوا العهود واندرست العلوم وانقطع الوحي فجئنا بك رسولاً وأوحينا إليك خبر موسى وغيره .
{ وما كنت في أهل مدين } : أي ولم تكن يا رسولنا مقيماً في أهل مدين فتعرف قصتهم .
{ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا } : أي لم تكن بجانب الطور أي جبل الطور إذ نادينا موسى وأوحينا إليه ما أ حينا حتى تخبر بذلك .
{ ما أتاهم من نذير من قبلك } : اي أهل مكة والعرب كافة .
{ ولولا أن تصيبهم مصيبة الخ } : أي فيقولوا لولا أي هلا ارسلت إلينا رسولاً لعاجلناهم بالعقوبة ولما أرسلناك إليهم رسولاً .
معنى الآيات :
بعد انتهاء قصص مسى مع فرعون وإنزال التوراة ربصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون } وكان القصص كله شاهداً على نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم خاطب الله تعالى رسوله فقال : { وما كنت } أي حاضراً { بجانب الغربي } أي بالجبل الغربي من موسى { إذ قضينا إلى موسى الأمر } بإرساله رسولاً إلى فرعون وملئه { وما كنت من الشاهدين } أي الحاضرين إذاً فكيف علمت هذا وتتحدث به لولا أنك رسول حق؟!
وقوله : { ولكنا أنشأنا قروناً } أي أمماً بعد موسى { فتطاول عليهم العمر } أي طالت بهم الحياة وامتدت فنسوا العهود واندرست العلوم الشرعية وانقطع الوحي فجئنا بك رسولاً وأوحينا إليك خبر موسى وغيره وقوله : { وما كنت ثاوياً } أي مقيماً { في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا } فكيف عرفت حديثهم وعرفت إقامة موسى بينهم عشر سنين لولا انك رسول حق يوحى إليك نبأ الأولين وهو معنى قوله تعالى { ولكنا كنا مرسلين } فأرسلناك رسولاً وأوحينا إليك أخبار الغابرين .
وقوله : { وما كنت بجانب الطور } اي جبل الطور { إذ نادينا } موسى وأمرناه بما أمرناه وأخبرناه بما أخبرنا به ، فكيف عرفت ذلك وأخبرت به لولا أنك رسول حق يوحى غليك . قوله تعالى رولكن رحمة من ربك } أي أرسلناك رحمة من ربك للعالمين { لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك } وهم أهل مكة والعرب أجمعون { لعلهم يتذكرون } أي كىْ يتعظوا فيؤمنوا ويهتدوا فينجوا ويسعدوا .
وقوله تعالى : { ولولا أن تصيبهم مصيبة } أي عقوبة { بما قدمت أيديهم } أي من الشرك والمعاصي { فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً } أي هلا ارسلت إلينا رسولاً { فنتبع آياتك وتكون من المؤمنين } أي لولا قولهم هذا لعاجلناهم بالعذاب ولما أرسلناك إليهم رسولاً إذاً فما لهم لا يؤمنون ويشكرون؟؟!
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير النبوة المحمدية بأقوى الأدلة العقلية .
2- بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في أوانها واشتداد الحاجة إليها .
3- البعثة المحمدية كانت عبارة عن رحمة إلهية رحم الله بها العالمين .
4- جواب { لولا } في قوله { ولولا أن تصيبهم } . محذوف وقد ذكرناه وهو لعاجلناهم بالعقوبة ولما أرسلناك إليهم رسولاً .
(3/172)
________________________________________
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
شرح الكلمات :
{ فلما جاءهم الحق من عندنا } : أي محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً مبيناً .
{ قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى } : أي هلا أعطي مثل ما أ‘طي موسى من الآيات المعجزات من العصا واليد أو كتاباً جملة واحدة كالتوراة .
{ أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل } : أي كيف يطالبونك بأن تؤتي مثل ما أوتي موسى وقد كفروا بما أوتي موسى من قبل لما أخبرهم اليهود أنهم يجدون نعت محمد في التوراة كفروا بهذا الخبر ولم يقبلوه .
{ وقالوا سحران تظاهرا } : أي التوراة والقرآن كلاهما سحر ظاهر بعضهما بعضاً أي قواه .
{ فإن لم يستجيبوا لك } أي بالإِتنيان بالكتاب الذي هو أهدى من التوراة والقرآن .
{ فاعلم أنما يتبعون أهواءهم } : في كفرهم ليس غيرن فلا عقل ولا كتاب منير .
{ ومن أضل ممن اتبع هواه } : أي لا أضلُّ منه قط .
{ ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون } : أي بأخبار الأولين وما أحللنا بهم من نقمتنا لما كذبوا رسلنا وأنكروا توحيدنا { لعلهم يتذكرون } أي يتعظون فيؤمنون ويوحدون .
معنى الآيات :
لما قرر تعالى نبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأدلته التي لا أقوى منها ولا أوضح وبين حاجة العالم إليهما لا سيما العرب وذكر أنه لولا كراهة قولهم : رلولا أرسلت غلينا رسولاً فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين } لما ارسل إليهم رسوله . ذكر هنا ما واجه به المشركون تلك الرحمة المهداة فقال عنهم { فلما جاءهم الحق من عندنا } أي محمد النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : { لولا أوتي مثل ما أوتي موسى } أي من الآيات كالعصا واليد البيضاء حتى نؤمن به ونصدق رسالته قال تعالى : { أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل؟ قالوا سحران تظاهرا } . وقالوا : رإنا بكل كافرون } وذلك أن قريشاً لما كثر المؤمنون وهالهم الموقف بعثوا إلى يهود المدينة يسألونهم بوصفهم أهل الكتاب الول عن مدى صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما يقوله فأجابهم اليهود بأنهم يجدون نعوت النبي الأمي في التوراة وأنه رسول حق وليس بكذاب ولا دجال فما كان من المشركين من قريش إلا أن أعلنوا كفرهم بالتوراة وقالوا : التوراة والقرآن { سحران } تعاونا فلا تؤمن بهما ولا نصدق من جاء بهما وقرئ { ساحران } أي موسى ومحمد عليهما السلام فلا نؤمن بهما .
هذا معنى قوله تعالى { أولم يكفروا بما أوتى موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون } أي بكل منهما كافرون .
فكيف لايخجلون اليوم ويطالبون محمداً أن يعطى مثل الذي أعطي موسى من الايات يا للعجب أي يذهب بعقول المشركين؟!!
وقوله تعلى : { قل فأتوا بكتاب من عند الله } أي قل يا رسولنا لهؤلاء المشركين الذين كفروا بالتوراة والقرآن { فأتوا بكتاب من الله } أنزله بعلمه يكون أكثر هداية من التوراة والقرآن . .
(3/173)
________________________________________
أتبعه! { إن كنتم صادقين } في دعواكم بأن الفرقان والتوراة سحران تظاهرا .
وقوله تعالى : { فإن لم يستجيبوا لك } بالإِتيان بكتاب من عند الله تعالى هو أهدى من الفرقان والتوراة ومن أين لهم بذلك . . إنه المستحيل! إذاً فاعلم أنهم إنما يتعبون أهواءهم فيما يقولون ويدعون فلا عقل ولا نقل عندهم { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } ؟! اللهم إنه لا أضل منه . والنتيجة أنه لا أضل من هؤلاء المشركين من قريش وقوله تعالى { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } هذا بيان لسنة الله تعالى في الظالمين الذين أكثروا من الظلم وتوغلوا فيه عقيدة بالشرك وعملاً بالمعاصي فإنه يحرمهم الهداية فلا يهتدون أبداً .
وقوله تعالى : { ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون } أي لقد وصلنا اى لهؤلاء المشركين من قومك يا سرولنا أي وصلنا لهم القول بأخبار الماضين ، وما أحللنا بهم من بأسنا ونقمنا وعظيم عقوباتنا لما كفروا كما كفر هؤلاء وكذبوا بما كذَّب به هؤلاء وصلنا لهم القول ميناً واضحاً موصولاً أوله بآخره وجاء أن يتذكروا فيذكروا فيؤمنوا ويوحدوا فينجوا من العذاب ويرحموا بدخول الجنة .
هداية الآيات :
من هداية الآيات : 1- بيان تناقض المشركين وكل من يتبع الهوى ويترك الهدى الإِلهي .
2- بيان تحدي المشركين بالإِتيان بكتاب من عند الله وعجزهم عن ذلك فبان بذلك أنهم يتبعون أهواءهم وأنه لا أضل منهم اليوم .
3- بيان سنة الله في حرمان المتوغلين في الظلم من الهداية الإِلهية .
4- بيان أن الله عز وجل وصل القول لأهل مكة مفصلاً مبيناً لهدايتهم فله الحمد وله المنة وعلى الكافرين اللعنة في جهنم .
(3/174)
________________________________________
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
شرح الكلمات :
{ الذين آتيناهم الكتاب من قبله } : أي التوراة والإِنجيل من قبل القرآن الكريم .
{ وإذا يتلى عليهم } : أي القرآن .
{ إنا كنا من قبله مسلمين } : اي منقادين لله مطيعين لأمره ونهيه .
{ أجرهم مرتين } : أي يضاعف لهم الثواب لأنهم آمنوا بموسى وعيسى وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم .
{ ويدرءون بالحسنة السيئة } اي يدفعون بالحسنة من القول أو الفعل السيئة منهما .
{ وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه } : أي الكلام اللاغي الذي لا يقبل ولا يقر عليه لأنه لا حيقق درهماً للمعاش ولا حسنة للمعاد .
{ سلام عليكم } : هذا سلام المتاركة أي قالوا قولاً يسلمون به .
{ لا نبتغي الجاهلين } : أي لا نطلب صحبة أهل الجهل لما فيها من الأذى .
معنى الآيات :
إن قوله تعالى : { ولقد وصلنا لهم القول } يشمل أيضاً اليهود والنصارى من أهل الكتاب إذ هم كالعرب بين لهم من أخبار الماضين وفصل من أنباء إهلاك الأمم السابقة وما أنزل من بأساء وعذاب بالمكذبين ، إذ لجميع مطالبون بالإِيمان والعمل الصالح والتخلي عن الشرك والكفر والمعاصي للنجاة والسعادة فذكر تعالى هنا أن فريقاً من أهل الكتاب يؤمنون بالنبي محمد لأنه الحق من ربهم . . فقال تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم فيه يؤمنون } { وإذا يتلى عليهم } أي القرآن { قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله } أي من قبل نزول القرآن { مسلمين } أي موحدين منقادين نعبد الله بما شرع على لسان موسى وعيسى عليهما السلام هذه الآية تعني مجموعة من آمن من أهل الكتاب على عهد رسول الله ونزول القرآن منهم عبد الله بن سلام وسلمان الفارسى وغيرهما . وقوله تعالى : { أولئك يؤتون أجرهم مرتين } أي مضاعفاً لأنهم آمنوا برسولهم وعملوا بما جاء به من الحق وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الهدى وقوله { ويدرءون } أي يدفعون { بالحسنة } وهي الصفح والعفو { السيئة } وهي الأذي من سب وشتم . وقوله { ومما رزقناهم ينفقون } أي يتصدقون بفضول أموالهم حيث تنبغي الصدقة .
وقوله { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه } أي وإذا سمع أؤلئك المؤمنون من أهل الكتابين اللغو من سفهاء الناس أعرضوا عنه ولم يلتفتوا غليه ولا إلى قائله وأجابوا قائلين { لنا أعمالنا أي نتائجها حيث نجزى بها { ولكم أعمالكم } حيث تجزون بها { سلام عليكم } أي اتركونا ، إنا لا نبتغي محبة الجاهلين ، لما في ذلك من الأذى والضرر الناتج عن سلوك أهل الجهل بالله تعالى وحابه ومكارهه .
هداية الايات :
من هداية الآيات :
1- بيان فضل أهل الكتاب إذا آمنوا بالنبي الأمي وكتابه وأسلموا لله رب العالمين .
2- فضيلة من يدرء بالحسنة السيئة ، وينفق مما رزقه الله .
3- فضيلة من يعرض عن اللغو وأهل الجهالات ، ويقول ما يسلم به من القول ، وهذه إحدى صفات عباد الرحمن { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً } أي قولاً يسلمون به .
وهذا السلام ليس سلام تحية وإنما هو سلام متاركة .
(3/175)
________________________________________
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
شرح الكلمات :
{ إنك لا تهدي من أحببت } : أي هدايته كأبي طالب بأن يسلم ويحسن إسلامه .
{ وقالوا } : أي مشركو قريش .
{ إن نتبع الهدى معك } : أي إن نتبعك على ما جئت به وندعو إليه وهو الإِسلام .
{ نتخطف من أرضنا } : أي تتجرأ علينا قبائل العرب ويأخذوننا .
{ يجبى إليها ثمرات كل شيء } : أي حمل ويساق إليه ثمرات كل شيء من كل ناحية .
{ رزقاً من لدنا } : أي رزقاً لكم من عندنا يا أهل الحرم بمكة .
{ بطرت معيشتها } : أي كفرت نعمة الله عليها فأسرفت في الذنوب وطغت في المعاصي .
{ يبعث في أمها رسولاً } : أي في أعظم مدنها . وهي العاصمة .
{ إلا وأهلها ظالمون } : بالتكذيب للرسول والإِصرار على الشرك والمعاصي .
معنى الآيات :
قوله تعالى : { إنك لا تهدي . . بالمهتدين } هذه الآية نزلت في شأن أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يرغب في إِسلامه لما له من سالفة في الوقوف إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم يحميه ويدافع عنه فلما حضرته الوفاة زاره النبي صلى الله عليه وسلم وعرض عليه الشهادتين فكان يقول له : « يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله يوم القيامة » وكان حوله عواده من كفار قريش ، ومشائخها فكانوا ينهونه عن ذلك حتى قالوا له : أترغب عن دين أبائك؟ أترغب عن ملة عبد المطلب أبيك حتى قال هو على ملة عبد المطلب ومات . فقال النبي صلى الله عليه وسلم « لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عن ذلك » فنهاه الله فلم يستغفر له بعد ونزلت هذه الآية كالعزاء له صلى الله عليه وسلم فقال تعالى : { إنك لا تهدي من أحببت } هدايته يا نبينا { ولكن الله يهدي من يشاء } هدايته لعلمه أنه يطلب الهداية ولا يرغب عنها كما رغب عنها أبو طالب وأبو لهب وغيرهما ، { وهو أعلم بالمهتدين } اي بالذين سبق في علمه تعالى أنهم يهتدون .
وقوله تعالى : { إن نتبع الهدي معك نتخطف من أرضنا } هذا اعتذار اعتذر به بعض رجالات قيش فقالوا نحن نعرف أن ما جئت به حق ولكننا نخشى إن آمنا بك واتبعناك يتالب علينا العرب ويرموننا عن قوس واحدة ونصبح نتخطف منقبل المغيرين كما هو حاصل لغيرنا ، وبذلك نحرم هذا الأمن والرخاء وتسوء أحوالنا ، لهذا نعتذر عن متابعتك فيما جئت به وأنت تدعو إليه من الكفر بآلهتنا وهدمها والتخلى عنها . فقال تعالى في الرد على هذا الاعتذار الساقط البارد { أولم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا } اي لم يوطئ لهم أرض بلد حرمناه فلا يسفك فيه دم ، ولا يصاد فيه صيد ، ولا يؤخذ فيه أحد بجزيرة ، اليس هذا كافياً في أن يعلموا أن الذي جعل لهم حرماً آمناً قادر على أن يؤمنهم إذا آمنوا وأسلموا ، ومن باب أولى .
(3/176)
________________________________________
{ ولكن أكثرهم لا يعلمون } فهذه علة اصرارهم على الشرك والكفر . إنها الجهل بالله تعالى وعظمته وعلمه وحكمته . ومعنى يجبى أو تجبى إليه ثمرات كل شيء أي يحمل غليه ويساق من انحاء البلاد ثمرات كل شيء من أنواع الأرزاق وكان ذلك رزقاً منه تعالى لأهل الحرم . أفلا يشكرون .
وقوله تعالى { وكم أهلكنا من قرية } أي وكثيرا منأهل القرى أهلكناهم ( بطرت معيشتها ) لما بطروا عيشهم فلم يشكروا نعمة الله عليهم فأسرفوا في الظلم والمعاصي فأهلكناهم { فتلك مساكنهم } أي ديارهم رلم تسكن من بعدهم إلا قليلاً } كديار عاد وثمود والمؤتفكات .
{ وكنا نحن الوارثين } لها ، فلم نورثها غيرهم وتركناها خاوية خالية لم تسكن . أما يذكرون هذا فيعلموا بذلك قدرتنا فيتقوا فينا ويتوكلوا علينا ويؤمنوا ويوحدوا ويستقيموا على منهج الحق الذي جئت يا رسولنا به .
وقوله : { وما كان ربك } يا ايها الرسول { مهلك القرى } اي أهل المدن والحواضر { حيث يبعث في أمها رسولاً } كما بعثك في أم القرى مكة { يتلو عليهم آياتنا } أي لم يكن من سنة الله تعالى هذا بل لا يهلك أمة حتى يبعث في أم بلادها رسولاً يتلو عليهم آيات الله المبينة للحق من الباطل والخير من الشر وجزاء ذلك قوله تعالى : { وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون } أي ولم يكن من سنة الله تعالى في عبادة أن يهلك القرى إلا بعد ظلم أهلها .
فللإِ هلاك شرطان :
الأول : أن يبعث الرسول يتلو آياته فيكذب ويكفر به وبما جاء به .
والثانى : أن يظلم أهل القرى ويعتدوا وذلك باظهار الباطل والمنكر وإشاعة الشر والفساد في البلاد وهذا من عدل الله تعالى ورحمته بعباده إنه لأرحم بهم من أنفسهم ، وكيف ومن أسمائه وصفاته الرحمن الرحيم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير مبدأ لا هادي إلا الله . الهداية المنفية هي إنارة قلب العبد وتوفيق العبد لإِيمان وعمل الصالحات ، وترك الشرك والمعاصي . والهداية المثبتة ، يقول الله تعالى وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم . تلك هداية الدعوة والوعظ والارشاد ، ومنه { ولكل قوم هاد } أي يدعوهم إلى الهدى .
2- مظاهر قدرة الله وعلمه ورحمته وحكمته فيما ألقاه في قلوب العرب المشركين الجاهلين من تعظيم الحرم وأهله ليهيئ بذلك لسكان حرمه أمناً وعيشاً كما قال تعالى { فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } قيرش ( 2-4 ) .
3- من رحمة الله وعدله أن لا يهلك أمة من الأمم إلا إذا توفر لهلاكها شرطان :
1- أن يبعث فيهم رسولاً يتلو عليهم آيات الله تحمل الهدى والنور .
2- أن يظلم أهللها بالتكذيب للرسول والكفر بما جاء به والاصرار على الكفر والعاصي .
4- التاريخ يعيد نفسه كما يقولون فما اعتذر به المشركون عن قبول الإِسلام بحجة تألب العرب عليهم وتعطيل تجارتهم يعتذر به اليوم كثير من المسؤولين فعطلوا الحدود وجاروا الغرب في فصل الدين عن الدولة وأباحوا كبائر الاثم كالربا وشرب الخمور وترك الصلاة حتى لا يقال عنهم أنهم رجعيون متزمتون فيمنعوهم المعونات ويحاصرونهم اقتصادياً .
(3/177)
________________________________________
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
شرح الكلمات :
{ وما أتيتم من شيء } : أي وما أعطاكم الله من مال أو متاع .
{ فمتاع الحياة الدنيا وزينتها } : فهو ما تتمتعون به وتتنزهون ثم يزول ويفنى .
{ وما عند الله خير وأبقى } : أي وما عند الله من ثواب وهو الجنة خير وأبقى .
{ أفلا تعقلون } : لأن من يؤثر القليل الفاني على الكثير الباقي لا عقل له .
{ وعداً حسناً } : أي الجنة .
{ فهو لاقيه } : أي مصيبه وحاصل عليه وظافر به لا محالة .
{ من المحضرين } : أي في نار جهنم .
معنى الآيتين :
لقد سبق في هذا السياق أن المشركين اعتذروا عن الإِسلام بعذر مادي بحت وهو وجود عداوة بينهم وبين سائر العرب . يترتب عليها حروب وتعطل التجارة إلى غير ذلك . فقوله تعالى هنا { وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا } هو خطاب لهم ولكل من يؤثر الحياة الدنيا على الآخرة فيسْتَحِل المحرمات ويعطل الأحكام ويضيع الفرائض والواجبات لتعارضها في نظره مع جمع المال والتمتع بالحياة الدنيا . وقوله تعالى : { وما أوتيتم من شيء } أي من مال ومتاع وإن كثر { فمتاع الحياة الدنيا } أي فهو متاع الحياة الدنيا { وزينتها } أي تتمتعون وتتنزهون به اياماً أو أعواماً ثم ينفد ويزول ، أو تموتون عنه وتتركونه { وما عند الله } من نعيم الجنة رخير وأبقى } خير في نوعه وأبقى في مدته ، فالأول رديء وتصحبه المنغصات ويعقبه الطدر ، والثاني جيد صالح خال من المنغصات والكدورات وباق لا يبلى ولا يفنى ولا يزول ولا يموت صاحبه ويخلفه وراءه . { أفلا تعقلون } يا من تؤثرون الفاني على الباقي والردئ على الجيد والخبيث على الطيب . وقوله تعالى : { افمن وعدناه وعداً حسناً } وهو المؤمن الصادق في إيمانه المؤكد له بصالح عمله ، { وعدنا وعداً حسناً } وهو الجنة دار السلام فهو لاقيه } أي لاق موعده بإذن الله بمجرد أن يلفظ أنفاسه وتعرج إلى السماء روحه . { كمن متعناه متاع الحياة الدنيا } فهو يأكل ويشرب وينكح كالبهائم { ثم هو يوم القيامة من المحضرين } في جهنم في دار العذاب والهوان ، والجواب : لا يستويان أبداً وشتان ما بينهما ، فالأول وهو المؤمن الصالح الموعود بدار السلام لا يقارن بالكافر المتهالك على الدنيا ثم يتركها فجأة ويجد نفسه مع أهل الكفر والإِجرام في عذاب وهون لا يفارقه ولا يخرج منه أبداً .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- فائدة العقل أن يعقل صاحبه دون ما يضره ، ويبعثه على ما ينفعه فإن لم يعقله دون ما يضره ولم يبعثه على ما ينفعه فلا وجود له ، ووجوده كعدمه .
2- بيان فضل الآخرة على الدنيا .
3- وعد الله للمؤمن بالجنة خير مما يؤتاه الكافر من مال ومتاع وزينة في الحياة الدنيا .
(3/178)
________________________________________
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
شرح الكلمات :
{ ويوم يناديهم } : أي الربّ سبحانه وتعالى .
{ كنتم تزعمون } : أي أنهم شركاء لي فعبدتموهم معي .
{ حق عليهم القول } : أي بالعذاب في النار وهم أئمة الضلال .
{ أغويناهم } : أي فَغَوَوْا ولم نكرههم على الغي .
{ تبرأنا إليك } : أي منهم ما كانوا يعبدوننا بل كانوا يعبدون أهواءهم .
{ وقيل ادعوا شركاءكم } : أي نادوهم ليخلصوكم مما أنتم فيه .
{ لو أنهم كانوا يهتدون } : أي لما رأوا العذاب وَدُّوا لو انهم كانوا في الدنيا من المهتدين .
{ ويوم يناديهم } : أي الله تبارك وتعالى .
{ فعميت عليهم الأنباء } : أي فخفيت عليهم الأنباء التي يمكنهم أن يحتجوا بها .
{ فهم لا يتساءلون } : أي انقطعوا عن الكلام .
{ فأما من تاب وآمن } : أي آمن بالله ورسوله وتاب من الشرك .
{ وعمل صالحاً } : أي الفرائض والواجبات .
{ فعسى أن يكون من المفلحين } : أي الفائزين بالنجاة من النار ودخول الجنة ، وعسى من الله تعالى لا تفيد مجرد الرجاء بل هي لتحقق الموعود به .
معنى الآيات :
يقول تعالى لرسوله واذكر يوم ينادي ربك هؤلاء المشركين وقد ماتوا على شركهم فيقول لهم { أين شركائي الذين كنتم تزعمون } أي أنهم شركائي هذا سؤال تقريع وتأنيب والتقريع والتأنيب ضرب من العذاب الروحي الذي هو أشد من العذاب الجثماني . وقوله تعالى { قال الذين حق عليهم القول } اي نطق الرؤساء من ائمة الضلال وهم الذين حق عليهم العذاب في نار جهنم { ربنا هؤلاء الذين أغوينا } { أغويناهم } فغووا { كما غوينا } أي ما أكرهناهم على الغواية ، { تبرأنا إليك } أي منهم . { ما كانوا إيانا يعبدون } اي بل كانوا يعبدون أهواءهم لا غير . وقوله : { وقيل ادعوا شركاءكم } أي يقال للمشركين تهكماً بهم واستهزاء ، { ادعوا شركاءكم } اي لينصروكم ويخلصوكم مما أنتم فيه من الذل والهوان .
قال تعالى : رفدعوهم } بالفعل نادوا { فلم يستجيبوا لهم } إذا لا يقدر واحد من الإِنس أو الجن أن يقول هذا كان يعبدني ، بل كل معبود يتبرأ ممن عبده كما قالوا في الاية قبل ذي تبرأنا إليك اي منهم ما كانوا يعبدوننا بل كانوا يعبدون أهواءهم وقوله تعالى : { ورأوا العذاب } بأعينهم فاشتدت حسرتهم وودوا لو انهم كانوا في الدنيا من المهتدين . وقوله تعالى : { ويوم يناديهم } أي ربهم قائلاً { ماذا أجبتم المرسلين } ؟ أخبرونا كيف كان موقفكم مع من أرسلنا إليكم؟ هل آمنتم بهم واتبعتموهم أم كذبتموهم وحاربتموهم قال تعالى : { فعميت عليهم الأنباء يومئذ } أي فخفيت عليهم الأخبار التي يمكنهم أن يحتجوا بها فلم يجدوا حجة واحدة ولذا { فهم لا يتساءلون } أي لا يسأل بعضهم بعضاً لأنه سقط في أيديهم وعلموا أنهم صالو الجحيم لا محالة . وقوله تعالى : { فأما من تاب } من هؤلاء المشركين اليوم من الشرك وآمن بالله ولقائه ورسوله وعمل صالحاً فأدى الفرائض والواجبات { فعسى أن يكون من المفلحين } أي الفائزين بالنجاة من النار ودخول الجنة ، فهذه دعوة سخية لكل مشرك وكافر وفاسق أنيتخلى عن الباطل المتلبس به ويؤمن الإِيمان الصحيح ويعمل صالحاً بأداء الفرائض فإنه ينجو من النار ويدخل الجنة دار الأبرار فهل من تائب؟! .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- التنديد بالشرك والمشركين .
2- براءة الرؤساء في الضلالة من المرؤوسين .
3- التحذير من الغواية وهي الضلال والانغماس في الذنوب والآثام .
4- خذلان المعبودين عابديهم يوم القيامة وتبرؤهم منهم .
5- باب التوبة مفتوح لكل عبد مهما كانت ذنوبه ولا يهلك على الله إلا هالك .
(3/179)
________________________________________
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
شرح الكلمات :
{ يخلق ما يشاء } : أي من خلقه .
{ ويختار } : أي من يشاء لنبوته وطاعته .
{ ما كان لهم } : أي للمشركين .
{ الخيرة } : أي الاختيار في شيء .
{ سبحان الله } : أي تنزيهاً لله عن الشرك .
{ يعلم ما تكن صدورهم } : أي ما تسر وتخفي من الكفر وغيره .
{ له الحمد في الأولى } : أي في الدنيا لأنه مولى كل نعمة .
{ وفي الآخرة } : أي في الجنة .
{ وله الحكم } : أي القضاء النافذ .
{ وإليه ترجعون } : بعد النشور وذلك يوم القيامة .
معنى الآيات :
لقد تقدم في الآيات قبل هذه التنديد بالشرك وتوبيخ المشركين وتحديهم بدعاء شركائهم ليخلصوهم مما هم فيه من الذل والعذاب ، وكان شركهم باختيارهم الخاص وإرادتهم الحرة إذ تبرأ منهم من اختاروهم آلهة مع الله فعبدوهم معه . وفي هذه الآية يكشف تعالى عن خطئهم في الاختيار ، وذلك من وجهين : الأول أنه لاحق لهم في الاختيار . إذ الاختيار الخالق المخلوقات فيختار منها ما يشاء لنبوته أو طاعته أما الذي يُخلَقْ ولا يَخْلُقُ فيكف يصح منه اختيار . والثاني بحكم أنهم مخلوقون مربوبون لله تعالى وهم يعلمون هذا إذ لو سألهم أحد : من خلقكم؟ لقالوا : الله؛ كان المفروض فيهم والمطلوب منهم أن يطلبوا من الله تعالى خالقهم أن يختار لهم ما يعبدون ويبين لهم كيف يعبدون ، ‘ذ هو مولاهم الحق ولا مولى لهم سواه أما أن يركبوا رؤوسهم ويختاروا بأنفسهم ما يعبدون فهذا ظلم منهم كبير استوجبوا به اللوم في الدنيا والعذاب في الآخرة . قال تعالى : ( 68 ) { وربك يخلق ما يشاء } . . أي وربك يا محمد يخلق ما يشاء ممن يريد خلقهم ويختار من يشاء لما يشاء من يشاء من عباده لما يشاء من كمال أو نقصان . أما عبيده فليس لهم حق الاختيار وإنما عيهم السمع والطاعة قال تعالى : { ما كان لهم الخيرة } اي حق الاختيار بل الذي يختاره الله هو الذي يجب أن يختاره العبد . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول : « اللهم خِرْ لي واختر لي » وكان يعلم أصحابه دعاء الاستخارة كما يعلمهم السورة من القرآن ، ويحضهم على أن يختاروا في الأمر الواحد سبع مرات . وقوله تعالى : { سبحان الله وتعالى عما يشركون } نزه تعالى نفسه عن شرك المشركين وباطل المبطلين وقوله { وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون } وهذا برهان أن الخيرة له وليس لغيره إذ الذي يعلم الظواهر والبواطن والبدايات والنهايات قبل البدء والمنتهى صاحب هذا العلم هو الذي يختار . أما الذي لا يعلم ما يكنه أخوه في صدره بل ولا ما يظهره آخر إلى جنبه اي لا يعلم عاقبته فكيف يصح منه الاختيار أو تكون له خيرة في شيء . وفوق ذلك انه سبحانه وتعالى وهو الله الذي لا إله إلا هو أي المعبود الذي لا معبود بحق سواه الذي له الحمد في الدنيا إذ كل ما في الدنيا هو خلقه وفضله وإنعامه ، وله الحمد في الآخرة ، يحمده أهل الجنة إذ قالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن بل الحياة الدنيا كالآخرة .
(3/180)
________________________________________
تختم بالحمد لله .
قال تعالى { وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين } { وله الحكم وإليه تُرجعون } أي وله الحكم أي القضاء في الدنيا والآخرة { وإليه ترجعون } فكما أن الحكم خاص به فكذلك الرجوع إليه ، ويوم يرجعون إليه يحكم بينهم بحكمه وهو العزيز العليم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير مبدأ « ليس من حق العبد أن يختار إلا ما اختار الله له » .
2- تعين طلب الاختيار في الأمر كله من الله تعالى بقول العبد « اللهم خر لي واختر لي » .
3- تأكيد سنة الاستخارة وهي إذا هم العبد بالأمر يصلي ركعتين في وقت لا تكره فيه صلاة النافلة ، ثم يدعو بدعاء الاستخارة كما ورد في الصحيح وهو « اللهم إني أستَخِيرُكَ بعلمك واستقدرك بقدرتك ، واسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيون ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ودنياي وفي عاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ، ثم بارك لي فيه ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي وفي عاجل أمري وآجله فاصرفه عنى واصرفني عنه ، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به » . ويسمي حاجته التي همَّ بها من سفر أو زواج أو بناء أو تجارة أو غراسة .
4- تقرير التوحيد وإبطال التنديد .
5- وجوب حمد الله وشكره على كل حال وذلك لتجدد النعمة في كل آن .
(3/181)
________________________________________
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
شرح الكلمات :
{ أرأيتم } : أي أخبروني .
{ سرمداً } : أي دائماً ، ليلاً واحداً متصلاً لا يعقبه نهار .
{ بضياء } : أي ضوء كضوء النهار .
{ بليل تسكنون فيه } : أي تنامون فتسكن جوارحكم فتستريح من تعب الحياة .
{ لتسكنوا فيه } : أي في الليل .
{ ولتبتغوا من فضله } : أي تطلبوا الرزق من فضل الله في النهار .
{ ولعلكم تشكرون } : أي كي تشكروا ربكم بطاعته كالصلاة والصيام والصدقة .
{ ونزعنا من كل أمة شهيداً } : اي أحضرنا من كل أمة من يشهد عليها وهو بيها عليه السلام .
{ فقلنا هاتوا برهانكم } : أي حججكم على صحة الشرك الذي أنذرتكم رسلنا عواقبه فما قبلتم النذارة ولا البشارة .
{ فعلموا أن الحق لله } : أي وغاب عنهم ما كانوا يكذبونه من الأقوال الباطلة التي كانوا يردون بها على الرسل عليهم السلام .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد وإبطال التنديد وهو حول أنداد لله تعالى من مخلوقاته فقال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، قل لهؤلاء المشركين الذين جعلوا لله أنداداً وهو خالقهم ورازقهم ومدبر أمر حياتهم { أرأيتم } اي أخبروني رإن جعل الله عليكم الليل سرمداً } اي دائماً ليلاً واحداً متصلاً لا يعقبه نهار { إلى يوم القيامة } أخبروني هل هناك { إله غير الله يأتيكم بضياء } كضياء النهار ، والجواب لا أحد وإذا فكيف تشركون به اصناماً .
{ أفلا تسمعون } ما يقال لكم . وقل لهم ايضاً { أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً } أي دائماً متصلاً لا يخلفه ليل ابداً { إلى يوم القيامة } غلى انقراض هذا الكون وانتهاء هذه الحياة وقيام الناس لربهم من قبورهم يوم القيامة { من إله غير الله } أي أيُّ غله غير الله { يأتيكم بليل تسكنون فيه } فتخلدون إلى الراحة بالنوم والسكون وعدم الحركة فيه ، وإذا قلتم لا أحد يأتينا بليل نسكن فيه إذاً فما لكم لا تبصرون هذه الآيات ولا تسمعون ما تحمله من الأدلة والحجج القواطع القاضية بأ ، ه لا إله إلا الله ، ولا معبود بحق سواه . وقوله تعالى : { ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار } إذ ليس واجباً عليه ذلك وإنما هو فضل منه ورحمة فالليل تسكنون فيه والنهار تتحركون فتبتغون رزقكم من فضل الله ، وبذلك تهيؤون للشكر إذا أكلتم أو شربتم أو ركبتم أو نزلتم قلتم الحمد لله ، والحمد لله راس الشكر ، كما أن الليل والنهار ظرف للعبادة التي هي الشكر ، فالعبادات لا تقع إلا في الليل والنهار ، فالصيام في النهار والقيام بالليل والصلاة والصدقات فيهما . وقوله تعالى : { ويوم يناديهم } أي اذكر يا رسولنا لهم تنبيهاً وتعليماً يوم يناديهم الرب تبارك وتعالى فيقول لهم : رأين شركائي الذين كنتم تزعمون } أنهم شركاء لي فعبدتموهم ، وهل يرجى أن يجيبوا لا ، لا ، وإنما هذا السؤال ونظائره هو سؤال تبكيت وتأنيب وتوبيخ وهو ننوع من العذاب النفسي الذي هو أشد من العذاب الجسمي .
(3/182)
________________________________________
وقوله تعالى : { ونزعنا من كل أمة شهيداً } أي وأذكر لهم هذا الموقف من مواقف القيامة الصعبة { ونزعنا } أي أحضرنا { من كل أمة شهيداً } يشهد عليها وهو نبيها ، ويشهد الرسول أنه بلغ ونصح وأنذر ، ويقال لهم : { هاتوا برهانكم } على صحة ما كنتم تعبدون وتدعون . قال تعالى : { فعلموا أن الحق لله } أي تبين لهم أن الحق لله اي أن الدين الحق لله فهو المستحق لتأليه المؤلهين وطاعة المطيعين وقربات المتقربين لا غله غيره ولا رب سواه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- اشارة علمية غلى أن السماع يكون مع السكون وقلة الضجيج ، وأن الإِبصار يكون مع الضوء ، ولا يتم مع الظلام بحال من الأحوال .
2- البرهنة القوية على وجوب توحيد الله إذ لا رب يدبر الكون سواه .
3- كون النهار والليل ظرفان للسكون وطلب العيش هما من رحمة الله تعالى أمر يقتضي شكر الله تعالى بحمده والاعتراف بنعمته وطاعته بصرف النعمة فيما يرضيه ولا يسخطه .
4- بيان أهوال القيامة ، بذكر بعض المواقف الصعبة فيها .
5- إذا كان يوم القيامة بطل كل كذب وقول ولم يبق إلا قول الحق والصدق .
(3/183)
________________________________________
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
شرح الكلمات :
{ إن قارون كان من قوم موسى } : أي ابن عم موسى عليه السلام .
{ فبغى عليهم } : أي ظلمهم واستطال عليهم .
{ ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة } : أي أعطاه الله من المال ما يثقل عن الجماعة حمل مفاتح خزائنه .
{ لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين } : أي لا تفرح فرح البطر والأشر .
{ وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة } : أي اطلب في المال الذي أوتيته الدار الآخرة بفعل الخيرات .
{ علىعلم عندي } : أي لعلم الله تعالى بأنى أهل لذلك .
{ وأكثر جمعاً } : أي للمال .
{ ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } : أي لعلم الله تعالى بهم فيدخلون النار بدون حساب .
معنى الآيات :
هذا بداية قصص قارون الباغي ، وهو قارون ابن يصهر بن قاهَثْ بن لاوى بن يعقوب ابن اسحق بن غبراهيم عليه السلام . فهو ابن عم موسى بن عمران وابن خالته أيضاً وكان يلقب المنور لحسن صورته ، ونافق كما نافق السامري المطرود . قال تعالى في ذكر خبره { إن قارون كان من قوم موسى } أي إسرائيلي ابن عم موسى بن عمران الرسول . رفبغى عليهم } اي على بني إسرائيل أي ظلمهم وطغى عليهم ، ولعل فرعون كان قد اسند إليه إمارة على بني إسرائيل فأطغته وملك أموالاً كثيرة ففرته وألهته . وقوله تعالى : { وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة } . وهذا الخبر الإِلهي دليل على ما كان للطاغية قارون من أموال بحيث أن المفاتح تثقل كاهل العصبة أي الجماعة من الرجال لو حملوها كلها وذلك لثقلها . وقوله تعالى : { إذ قال له قومه } اي من بني إسرائيل واعظين له مذكرين { لا تفرح } أي بأموالك فرح الشر البطر ، { إن الله لا يحب الفرحين } اي الأشرين البطرين الذين يختالون ويتفاخرون ويتكبرون . { وابتغ } أي اطلب { فيما آتاك الله } من أموال { الدار الآخرة } بأن تصدَّقْ منها وأنفقْ في سبيل الله كبناء مسجد أو مدرسة أو ميتم أو ملجأ إلى غير ذلك من أوجه البر والإِحسان . { ولا تنس نصيبك من الدنيا } فكل واشرب والبس واركب واسكن ولكن في غير اسراف ولا مخيله ، { وأحسن } عبادة الله تعالى وطاعته وأحسن إلى عباده بالقول والعمل { كما أحسن } أي الله تعالى إليك { ولا تبغ الفساد في الأرض } بترك الفرائض وارتكاب في الدنيا والآخرة فبعد هذه الموعظة من قومه الصالحين أهل العلم والبصيرة رَدَّ هذا الطاغية قارون بما أخبر به تعالى عنه في قوله في الآية ( 78 ) { قال إنما أوتيته على علم عندي } أي لا تهددوني ولا تخوفوني بسلب مالي عني إن أنا لم أُحْسن فإن هذا المال { قد أوتيته } اي آتانيه الله على علم منه بأني أهل له ولذا أعطاني وزاد عطائى وأكثره قال تعالى في الرد عليه في زعمه هذا { أو لم يعلم } اي ايقول ما يقول من الزعم الكاذب ولم { يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً } ، كعاد وثمود وقوم إبراهيم فلو كان كثرة المال دليلاً على حب الله ورضاه عن أهله ، ما أهلك عاداً وثموداً وقوم نوح من قبل وكانوا أشد قوة وأكثر مالاً ورجالاً وقوله تعالى : { ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } أي إذا أكثر العبد من الإِجرام بالشرك والمعاصي حق عليه كلمة العذاب وأن أوان عذابه لا يسأل عن ذنوبه بل يؤخذ فجأة كما أن هؤلاء المجرمين سيدخلون النار بغير حساب فلا يسألون ولا يحاسبون .
(3/184)
________________________________________
قال تعالى : { يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والقدام } أي ويُرْمَون في جهنم ويقال لهم : { هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون } هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- المال والمنصب العالي عرضة لإفساد المرء إلا من رحم الله عز وجل وقليل ما هم .
2- جرمة الفرح بالمال والإِمارة إذا كان الفرح فرح بطر وفخر واعتزاز وكبر وخيلاء .
3- من فضل الله على الأمة أن يوجد فيها عالمون ينصحون ويرشدون ويوجهون .
4- من الحزم للمرء أن يطلب من المال والجاه والمنصب أعلى الدرجات في الجنة .
5- حلّية الأكل من الطيب والشرب من الطيب واللبس والركوب والسكن من غير إسراف ولا خيلاء ولا كبر .
6- العافية والمال وعز السلطان يصاب صاحبها بالاغترار إلا من رحم الله .
(3/185)
________________________________________
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
شرح الكلمات :
{ في زينته } : أي لباس الأعياد والحفلات الرسمية .
{ يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون } : أي تمنوا أن لو أعطوا من المال والزينة ما أعيط قارون .
{ إنه لذوو حظ عظيم } : أي إنه لذو بخت ونصيب وهبه الله إياه في كتاب المقادير .
{ وقال الذين أوتوا العلم } : أي اعطوا العلمم الديني بمعرفة الله والدار الآخرة وموجبات السعادة والشقاء .
{ ويلكم } : أي حضر ويلكم وهلاككم بتمنيكم المال وزخرف الدنيا .
{ ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً } : أي ما عند الله من جزاء للمؤمنين العاملين الصالحات وهو الجنة خير من حطام الدنيا الفاني .
{ ولا يلقاها إلا الصابرون } : أي ولا يوفق لقول هذه الكلمة وهي ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً إلا الصابرون على الإِيمان والتقوى .
{ فخسفنا به وبداره الأرض } : أي أسخنا الأرض من تحته فساخت به وبداره وكل من كان معه فيها من أهل البغي والإِجرام .
{ تمنوا مكانه بالأمس } : أي الذين قالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون فالمراد من المكان المكانة وما عليه قارون من الامارة والزينة والمال والجاه .
{ ويكأنَّ الله يبسط } : أي أعجبُ عالماً أن الله يبسط الرزق لمن يشاء .
{ ويقدر } : أي يضيّق .
{ ويكأنه لا يفلح الكافرون } : أي أعجبُ عالماً أنه لا يفلح الكافرون أي أنهم لا يفوزون بالنجاة من النار ودخول الجنان كما يفوز المؤمنون .
معنى الآيات :
ما زال السياق في قصص قارون الباغي قال تعالى { فخرج على قومه } اي قارون في يوم عيد أو مناسبة خرج على قومه وهمم يشاهدون موكبه { في زينته } الخاصة من الثياب والمراكب . قوله تعالى : { قال الذين يريدون الحياة الدنيا } أي من قوم موسى وهم المفتونون بالدنيا وزخرفها من أهل الغفلة عن الآخرة وما أكثرهم اليوم وقبل وبعد اليوم قالوا ما أخبر الله تعالى به عنهم : { يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون } تمنوا أن يكون لهم مثل الذي أوتي قارون من المال والزينة { إنه لذو حظ عظيم } اي بخت ونصيب ورزق { وقال الذين أوتوا العلم } اي الشرعي الديني العالمون بالدنيا والآخرة . واسباب السعادة والشقاء في كل منهما قالوا ما أخبر تعالى به عنهم في قوله : { ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً } اي ويحكم هلكتم إن كنتم تؤثرون هذا الفاني على الباقي { ثواب الله } وهو الجنة خير من هذا الزخرف الفاني { لمن آمن وعمل صالحاً } ولازم وذلك أنه ترك الشرك والعاصي ، وقوله تعالى : { ولا يلقاها } أي هذه الجملة من الكلام : رثواب الله خير لمن آمن } بربه { وعمل صالحاً } في حياته بأداء الفرائض والنوافل وترك المحرمات والرذائل أي ولا يلقى هذه الكلمة { إلا الصابرون } من أهل الإِيمان والتقوى هم الذين يلقنهم الله غياها فيقولونها الصفاء أرواحهم وزكاة أنفسهم وقوله تعالى في الاية ( 81 ) { فخسفنا به وبداره الأرض } يخبر تعالى أنه خسف بقارون وبداره الأرض انتقاماً منه لكفره ونفاقه وبغيه وكبريائه .
(3/186)
________________________________________
وقوله تعالى { فما كان له من فئة } أي جماعة { ينصرونه من دون الله } لما أراد الله خذلانه بخسف الأرض به وبداره ومن قبلها من أعوانه الظلمة والمجرمين . { وما كان من المنتصرين } أي لنفسه فنجاها مما حل بها من الخسف في باطن الرض التي ما زال يتجلجل فيها غلى يوم القيامة . وقوله تعالى : { وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس } يخبر تعالى عن الذين قالوا يوم خرج عليهم قارون في زينته يا ليت لنا مثل ما أُوتي قارون يخبر تعالى عنهم أنهم لما شاهدوا الخسف الذي حل بقارون وبداره وقالوا ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء اي نعجب عالمين ، أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر أي على من يشاء فالبسط والقبض كله لله وبيد الله فما لنا لا نفزع إلى الله نطلب رضاه ولا نتمنى ما تمنيناه وقد اصبح ذَاهباً لا يرى بعين ولا يلمس بيدين ، { لولا أن منَّ الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون } اي نعجب ايضاً عالمين بأنه لا يفلح الكافرون وكقارون وفرعون وهامان أي لا يفوز الكافرون لا بالنجاة من العذاب ولا بدخول الجنان .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان أن الفتنة أسرع إلى قلوب الماديين ابناء الدنيا والعياذ بالله تعالى .
2- بيان موقف أهل العلم الديني وأنهم رُشَّد أي حكماء يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .
3- بيان أن البغي يؤخذ به البغاة في الدنيا ويعذبون به في الآخرة .
4- بيان أن وجود الإِيمان خير من عدمه وإن قل وأن ذا الإِيمان أقرب إلى التوبة ممن لا إِيمان له .
(3/187)
________________________________________
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
شرح الكلمات :
{ تلك الدار الآخرة } : أي الجنة ، دار الأبرار .
{ لا يريدون علواً في الأرض } : أي بغياً ولا استطالة على الناس .
{ ولا فساداً } : أي ولا يريدون فساداً بعمل المعاصي .
{ والعاقبة } : أي المحمودة في الدنيا والآخرة .
{ للمتقين } : الذين يتقون مساخط الله فلا يعتقدون ولا يقولون ولا يعملون مالا يرضى به الله تعالى .
{ من جاء بالحسنة } : أي يوم القيامة والحسنة : اثر طاعة الله تعالى يجزى به المؤمن .
{ فله خير منها } : أي تضاعف له عشرة أضعاف .
{ ومن جاء بالسيئة } : السيئة أثر معصية الله تعالى يعاقب به العبد إذا لم يعف الله تعالى عنه .
معنى الايات :
لقد تقدم في السياق أن ثواب الله وهو الجنة خير لمن آمن وعمل صالحاً فاشار إليه تعالى بقوله { تلك الدار الآخرة } التي هي الجنة إذ هي آخر دار يسكنها المتقون فلا يخرجون منها .
نجعلها ، هذا هو الخبر عن قوله تلك الدار الآخرة فأخبر تعالى أنه يجعلها مأوى ومسكناً للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً ، لا يريدون استطالة على الناس وتعالياً وتكبراً عليهم وبغياً ، ولا فساداً بارتكاب المعاصي كالقتل والزنا والسرقة وشرب الخمر ، وقوله تعالى : { والعاقبة للمتقين } أي والعاقبة المحمودة في الدارين لأهل الإِيمان والتقوى وهم المؤمنون الذين يتقون مساخط الله عز وجل ، وذلك بفعل المأمورات واجتناب المنهيات .
وقوله تعالى : { من جاء } اي يوم القيامة { بالحسنة } وهي الطاعات لله ورسوله { فله } جزاء مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها وقد تُضاعف إلى أكثر بشرط أن لا تكون حسنة أعطيت له من حسنات ظالم في الدنيا فهذه لا تتضاعف . إذ تضاعف الحسنة التي باشرها ، كما لا تضاعف حسنة من همَّ بحسنة ولم يعملها فإنها تكتب له حسنة ولا تضاعف لعدم مباشرته إياها وقوله { ومن جاء بالسيئة } أي يوم القيامة . والسيئة أثر معصية الله تعالى ورسوله في نفسه { فلا يجزى } إلا مثلها اي لا تضاعف عليه وذلك لعدالة الله تعالى ورأفته بعباده ، وهو معنى قوله تعالى { فلا يجزى الذين عملوا السيئات } من الشرك والمعاصي { إلا ما كانوا يعملون } أي في الدنيا إذ هي دار العمل والآخرة دار الجزاء .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- حرمة التكبر والاستطالة على الناس ، والعمل بالمعاصي ، وأنه الفساد في الأرض .
2- بيان فضل الله ورحمته وعدله بين عباده بمضاعفة الحسنات وعدم مضاعفة السيئات .
3- العاقبة الحسنى وهي الجنة لأهل الإِيمان والتقوى .
(3/188)
________________________________________
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
شرح الكلمات :
{ إن الذي فرض عليك القرآن } : أي الله الذي أنزل عليك القرآن وفرض عليك قراءته والعمل بما فيه وتبليغه .
{ لرادك إلى معاد } أي لمرجعك إلى مكة فاتحاً إذ معاد الرجل بلده الذي يعود إليه .
{ وما كنت ترجو } : أي تأمل أن ينزل عليك القرآن ويوحى به إليك .
{ إلا رحمة من ربك } : لكن برحمة من الله وفضل أنزله عليك .
{ فلا تكونن ظهيراً } : أي فمن شكر هذه النعمة أن لا تكون معيناً للكافرين .
{ ولا يصدنك } : أي لا يصرفنك عن العمل بآيات الله بعد أن شرفك الله بإنزالها عليك .
{ وادع إلى ربك } : أي ادع الناس إلى الإِيمان بالله وعبادته وترك الشرك به .
{ ولا تدع مع الله إلهاً آخر } : أي لا تعبد مع الله إلهاً آخر بدعائه والذبح والنذر له .
{ كل شيء هالك } : أي فانٍ .
{ إلا وجهه } : أي إلا الله سبحانه وتعالى فلا يهلك كما يهلك ما عداه .
معنى الآيات :
تقدم في السياق الكريمة الدعوة إلى أصول الدين الثلاثة : التوحيد ، النبوة ، البعث والجزاء وهذه خاتمة ذلك في هذه السورة الكريمة فقال تعالى : { إن الذي فرض عليك القرآن } أي أنزله عليك وفرض عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه ، { لرادك } اي لمرجعك { إلى معاد } وهو العودة غلى مكة بعد خروجك منها واشتياقك إلى العودة إليها وإلى الجنة بعد وفاتك لأنك دخلتها ليلة عُرج بك إلى السماء وفي هذا تقرير لنبوته صلى الله عليه وسلم بالوحي إليه ، وقوله تعالى : { قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين } فإنه تعليم له صلى الله عليه وسلم بما يرد به على المشركين الذين اتهموه بأ ، ه ضال في دعوته وخروجه عن دين آبائه وأجداده علَّمه أن يقول لهم ربي أعلم بمن جاء بالهدى وهو أنا ، رسول الله ، ومن هو في ضلال مبين وهو أنتم أيها المشركون . وقوله { وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب } اي وما كنت يا محمد تأمل أن ينزل عليك القرآن ، وذلك قبل بعثته صلى الله عليه وسلم ، وقوله { إلا رحمة من ربك } أي لكن رحمة ربك عليك اقتضت إنزاله عليك لتكون رسول الله للعالمين ، وهي نعمة كبيرة وإفضال عظيم فاشكره بما يلي :
( 1 ) { فلا تكونن ظهيراً للكافرين } أي عوناً لهم بحال من الأحوال .
( 2 ) { ولا يصدنك عن ىيات الله بعد إذ أنزلت إليك } فتترك تلاوتها وإِبلاغها والعمل بها .
وفي هذا تقرير للنبوة المحمدية .
( 3 ) { وادع إلى ربك } ادع الناس إلى توحيد ربك والعمل بشرعه .
( 4 ) ولا تكونن من المشركين } أي فتبرَّأُ منهم ولا ترضى بشركهم وادعهم إلى خلافه وهو التوحيد .
( 5 ) { ولا تدع مع الله إلهاً آخر } أي لا تعبد مع الله إلهاً آخر لا بالدعاء ولا بالنذر والذبح ولا بتقديم أيّ قربان أو طاعة لغير الله سبحانه وتعالى ، وفي هذا تقرير للتوحيد وقوله { لا إله إلا هو } تقرير للتوحيد بإبطال أن يكون هناك إله مع الله .
(3/189)
________________________________________
وقوله { كل شيء هالك إلا وجهه } يخبر تعالى أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل ذاهب بلا مثوبة عليه . كما أن كل شيء سوى الله عز وجل فإن ولم يبق إلا الله سبحانه وتعالى كقوله { كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإِكرام } { وله الحكم } أي القضاء العادل بين عباده وقوله { وإليه ترجعون } أي بعد الموت للحساب والجزاء يوم بعثكم وحشركم إليه عز وجل ، وفي تقرير للبعث والجزاء . والحمد لله أولاً وآخراً .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- معجزة القرآن في وقوع الغيب بعد الإِخبار به وذلك حيث عاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة بعد الخروج منها .
2- مشروعية الملاينة في الجدال والمناظرة أثناء الدعوة باستعمال أسلوب التشكيك .
3- حرمة معاونة الكفار ومناصرتهم لا سيما ضد المؤمنين .
4- وجوب الثبات والصبر على الدعوة حتى نجاحها ببلوغها الناس واستجابتهم لها .
5- تقرير التوحيد والبعث والنبوة المحمدية .
6- فناء كل شيء إلا الله تعالى إلا ما ورد الدليل بعدم فنائه وعُدَّ منهُ ثمانية نظمها بعضهم بقوله :
هي العرش والكرسي نار وجنة وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم ...
(3/190)
________________________________________
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)
شرح الكلمات :
{ آلم } : هذه أحد الحروف المقطعة تكتب آلم وتقرأ ألف لام ميم .
{ وهم لا يفتنون } : بما يتبين به حقيقة إيمانهم من التكاليف ومنها الصبر على الأذى .
{ ولقد فتنا الذين من قبلهم } : أي اختبرنا من قبلهم إذ هي سنة جارية في الناس .
{ فليعلمن الله الذين صدقوا } : أي في إيمانهم ، وليعلمن الذين كذبوا فيه بما يظهر من أعمالهم .
{ أن يسبقونا } : أي يفوتونا فلا ننتقم منهم .
{ ساء ما يحكمون } : أي بئس الحكم هذا الذي يحكمون به ، وهو حسبانهم أنهم يفوتون الله تعالى ولم يقدر على الانتقام منهم .
{ من كان يرجو لقاء الله } : أي من كان يؤمن بلقاء الله وينتظر وقوعه فليعلم أن أجله لآت فليستعد له بالإِيمان وصالح الأعمال .
{ ومن جاهد } : أي بذل الجهد في حرب الكفار أو النفس .
{ فإنما يجاهد لنفسه } : أي منفعة الجهاد من الأجر عائدة على نفسه .
{ ولنجزينهم أحسن } : أي ولنجزينهم على أعمالهم بأحسن عمل كانوا عملوه .
معنى الآيات :
آلم : الله أعلم بمراده به وهذا هو مذهب السلف في هذه الحروف وهو تفويض علمها إلى منزّلها عز وجل وقوله { أيحسب الناس } أي أظن الناس رأن يقولوا آمنا } فيكتفى منهم بذلك و { وهم لا يفتنون } أي ولا يختبرون بل لا بد من اختبار بالتكاليف الشاقة كالهجرة والجهاد والصلاة والصيام والزكاة وترك الشهوات والصبر على الأذى . والآية وإن نزلت في مثل عمار بن ياسر وبلال وعياش فإنها عامة إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، واللفظ عام هنا ، لأن اسم الجنس إذا دخلت عليه « ال » افادت استغراق جميع أفراده . وقوله تعالى : { ولقد فتنا الذين من قبلهم } من الأمم السابقة فهي إذاً سنة ماضية في الناس لا تتخلف . وقوله تعالى { فليعلمن الله الذين صدقوا } في إيمانهم أي يظهر ذلك ويعلمه مشاهدة بعد أن عَلِمَه قبل إخراجه إلى الوجود حيث قدر ذلك وكتبه في كتاب المقادير وذلك بتكليفهم وقيامهم بما كلفوا به من شاق الأفعال وشاق التروك ، إذ الهجرة والجهاد والزكاة أفعال ، وترك الربا والزنا والخمر وتروك { وليعلمن الكاذبين } حيث ادَّعوا الإِيمان ولما ابتلوا بالتكاليف لم يقوموا بها ، فبان بذلك عدم صدقهم وإنهم كاذبون في دعواهم أنهم مؤمنون . وقوله تعالى : { أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا } اي أظن { الذين يعملون السيئات } من الشرك والمعاصي { أن يسبقونا } أي يفوتونا فلم نأخذهم بالعذاب . { ساء ما يحكمون } به لأنهفسم أي قبح حكمهم هذا من حكم لفساده ، إذ أقاموه على ظن منهم أن الله تعالى لا يقدر عليهم وهو على كل شيء قدير وأنه لا يعلمهم وهو بكل شيء عليم . وقوله تعهالى : { من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت } أي { من كان } يؤمن ويؤمل لقاء الله وذلك يوم القيامة فليعلم أن أجل الله المضروب لذلك لآت قطعاً وعليه فليستعد للقائه بما يناسبه وهو الإِيمان والعمل الصلاح بعد التخلي عن الشرك والعمل الفاسد ، ومن هنا دعوى المرء أنه يرجو لقاء ربه ولم يعمل صالحاً يثاب عليه ، دعوى لا تصح قال تعالى في سورة الكهف
(3/191)
________________________________________
{ . . فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً } ( 110 ) وقوله { وهو السميع العليم } أي هو تعالى السميع لأقوال عباده العليم بنياتهم وأعمالهم ، فدعوى الإِيمان ظاهرة من العبد أو باطنة لا قيمة لها ما لم يقم صاحبها الدليل عليها وذلك بالإِيمان والجهاد للعدو الظاهر والباطن . وقوله تعالى : { ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه } أي منفعة هذه العبادة عائدة على العبد نفسه أما الله عز وجل فهو في غنى عن عمل عباده غِنىً مطلقاً وهذا ما دل عليه قوله : { إن الله لغني عن العالمين } الملائكة والإِنس والجن وسائر المخلوقات إذ كل ما سوى الله تعالى عالم ويجمع على عوالم وعالمين . وقوله تعالى : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم } هذا وعد من الله تعالى لمن آمن من عباده وذلك على إِيمانه وصالح عمله فعلاً وتركا بأنه يكفر عنه سيئاته التي عملها قبل الإِسلام وبعده . ومعنى يكفرِّها عنهم يغطيها ويسترها ولم يطالبهم بها كأنهم لم يفعلوها . وقوله { ولنجزينهم } أي على أعمالهم الصالحة { أحسن } أي بأحسن عمل عملوه فتكون أعظم ما تكون مضاعفة . وهذا من تكرمه على عباده الصالحين ليجزي بالحسنة أضعافها مئات المرات .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان سنة أن الإِيمان يصدق بالأعمال أو يكذب .
2- بيان إمكان التكليف بما يشق على النفس فعله أو تركه ولكن ليس بما لا يطاق .
3- تحذير المغترين من العقوبة وإن تأخرت زمناً ما فإنها واقعة لا محالة .
4- ثمرة الجهاد عائدة على المجاهد نفسه . فلذا لا ينبغي أن يمنها على الله تعالى بأن يقول فعلت وفعلت .
5- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الوعد للذين آمنوا وعملوا الصالحات بتكفير السيئات والجزاء الأحسن وهذا يتم يوم البعث .
(3/192)
________________________________________
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
شرح الكلمات :
{ ووصينا الإنسان } : أي عهدنا إليه بطريق الوحي المنزل على رسولنا .
{ بوالديه حسناً } : أي أيصاءً ذا حسن ، وذلك ببرهما وعدم عقوقهما .
{ وإن جاهداك } : أي بذلا الجهد في حملك على أن تشرك .
{ لندخلنهم في الصالحين } : أي لندخلنهم مدخلهم في الجنة .
{ فتنة الناس } : أي أذاهم له .
{ كعذاب الله } : أي في الخوف منه فيطيعهم فينافق .
{ إنا كنا معكم } : أي في الإِيمان وإنما أكرهنا على ما قلنا بألسنتنا .
{ إتبعوا سبيلنا } : أي ديننا وما نحن عليه .
{ ولنحمل خطاياكم } : أي ليكن منكم اتباع لسبيلنا وليكن منا حمل لخطاياكم ، فالكلام خبر وليس إنشاء .
{ وليحملن أثقالهم } : أي أوزارهم ، والأوزار الذنوب .
{ وأثقالاً مع أثقالهم } : أي من أجل قولهم للمؤمنين اتبعوا سبيلنا .
{ عما كانوا يفترون } : أي يكذبون .
معنى الآيات :
هذه الآيات نزلت في شأن سعد بن ابي وقاص لما أسلم قالت له أمه حمنة بنت أبي سفيان ما هذا الدين الذي أحدثت والله لا آكل ولا اشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت فتُعَيَّر بذلك أبد الدهر يقال يا قاتل أمه ، ثم إنها مكثت يوماً وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل فأصبحت وقد جهدت ثم مكثت يوماً آخر وليلة لم تأكل ولم تشرب فجاء سعد إليها وقال : يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني فكلي إن شئت وإن شئت فلا تأكلى ، فلما ايست منه أسلمت وأكلت وشربت فأنزل الله هذه الآية { ووصينا الإِنسان بوالديه حسناً } اي عهدنا إليه بواسطة الرسل إيصاءً ذا حسن وهو برهما بطاعتهما في المعروف وترك أذاهما ولو قل ، وإيصال الخير بهما من كل ما هو خير قولاً كان أو فعلاً . وقوله تعالى : { وإن جاهداك } أي بذلا جهدهما في حملك على أن تشرك بي شيئا من الشرك أو الشركاء فلا تطعهما كما فعل سعد بن ابي وقاص مع والدته في عدم إطاعتها . وقوله { إليّ مرجعكم } أولاداً ووالدين { فأنبئكم بما كنتم تعملون } وأجزيكم به فلذا قدموا طاعتي على طاعة الوالدين ، فإني أنا الذي أحسابكم وأجزيكم بعملكم أنتم وإياهم على حد سواء . وقوله تعالى : { والذين آمنواؤ أي بالله ورسوله { وعملوا الصالحات } التي هي العبادات التي تَعَبَّد الله تعالى بها عباده المؤمنين ، فشرعها لهم وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم كالذكر وقراءة القرآن والصلاة والصيام والصدقات والجهاد والحج وما إلى ذلك . هؤلاء الذين جمعوا بين الإيمان الحق والعمل الصالح الخالي من الشرك والرياء . يقسم الله تعالى أنه يدخلهم في مدخل الصالحين وهم الأنبياء والأولياء في الجنة دار السلام . وقوله تعالى : { ومن الناس من يقول آمنا بالله } الآية هذه نزلت في أناس كانوا بمكة وآنموا وأعلنوا عن إيمانهم فاغضطهدهم المشركون فكانوا ينافقون فأخبر تعالى عنهم بقوله : { ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله } أي آذاه المشركون نافق وارتد { جعل فتنة الناس } أي أذاهم له وتعذيبهم إياه { كعذاب الله } يوم القيامة فوافق المشركين على الكفر .
(3/193)
________________________________________
وقوله تعالى : { ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنامعكم } اي على الإِيمان وإنما كنا مكرهين وهذه نزلت فيمن خرجوا من مكة غلى بدر مع المشركين لما انهزم المشركون وانتصر المسلمون واسروا قالوا { إنا كنا معكم } أي على الإِيمان فرد تعالى دعاهم بقوله { أو ليس الله أعلم بما في صدور العالمين } أي الناس . وقوله تعالى : { وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين } تقرير لما سبق في الآية قبل وليترتب عليه الجزاء على الإِيمان وعلى النفاق . فعلمه تعالى يستلزم الجزاء اعلادل فأهل الإِيمان يجزيهم بالنعيم المقيم وأهل النفاق بالعذاب المهين . أولئك في دار السلام وهؤلاء في دار البوار . وقوله تعالى : { وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا } أي ديننا وما نحن عليه { ولنحمل خطاياكم } أي قال رؤساء قريش لبعض المؤمنين اتركوا سبيل محمد ودينه واتبعوا سبيلنا وديننا ، وإن كان هناك بعث وجزاء كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم - نحن مستعدون أن نتحمل خطاياكم ونجازى بها دونكم فأكذبهم الله تعالى بقوله : { وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء } و { إنهم لكاذبون } في قولهم ولنحمل خطاياكم . وقال تعالى مقسماً بعزته وجلاله : { وليحملن أثقالهم } اي أوزارهم { وأثقالاً مع أثقالهم } أي وأوزاراً أي ذنوباً مع أوزارهم التي هي ذنوبهم وذلك من أجل ما قالوا لهم . { وليسئلن يوم القيامة أي ذنوباً مع أوزارهم التي هي ذنوبهم وذلك من أجل ما قالوا لهم . { وليسئلن يوم القيامة عما كانوا يفترون } أي يكذبون من أنهم يحملون خطايا المؤمنين يوم القيامة } .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- وجوب بر الوالدين في المعروف وعدم طاعتهما فيما هو منكر كالشرك والمعاصي .
2- بشرى المؤمنين العاملين للصالحات بإِدخالهم الجنة مع النبيين والصديقين .
3- ذم النفاق وكفر المنافقين وإن ادعوا الإِيمان فما هم بمؤمنين .
4- بيان ما كان عليه غلاة الكفر في مكة من العتو والطغيان .
5- تقرير مبدإ من سنَّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها كما في الحديث الصحيح .
(3/194)
________________________________________
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
شرح الكلمات :
{ ولقد أرسلنا نوحاً } : أي نوحاً بن لَمْكْ بن مُتَوَشْلِخْ بن إدريس من ولد شيث بن آدم ، بينه وبين آدم ألف سنة .
{ فلبث فيهم الف سنة إلا خمسين عاماً } أي فمكث فيهم يدعوهم إلى الله تعالى تسعمائة : وخمسين سنة .
{ فأخذهم الطوفان } : أي الماء الكثير الذي طاف بهم وعلاهم فأغرقهم .
{ وهم ظالمون } : أي مشركون .
{ وجعلناها آية للعالمين } : أي عبرة للناس يعتبرون بها فلا يشركون ولا يعصون .
معنى الآيتين :
لما ذكر تعالى ما كان يلاقيه رسوله والمؤمنون من مشركي قريش ذكر تعالى نوحاً وإبراهيم وكلاهما قد عانى ولاقى ما لم يلاقه محمد صلى الله عليه وسلم واصحابه ليكون ذلك تسلية لهم وتخفيفاً عنهم فقال تعالى : { ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه } وقوم نوح يومئذ هم البشرية جمعاء . إذ لم يكن غيرهم { فلبث فيهم } أي مكث يدعوهم إلى عبادة الله تعالى وتوحيده فيها وترك الصنام الخمسة التي كانت لهم وهي ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، وكان هؤلاء الخمسة رجالاً صالحين فلما ماتوا بنوا على قبورهم ووضعوا لهم تماثيل بحجة أنها تذكرهم بالله فيرغبوا في الطاعة والعمل الصالح ثم زين لهم الشيطان عبادتهم فعبدوهم فبعث الله تعالى إليهم نوحاً رسولاً فدعاهم غلى عبادة الله وترك عبادة هؤلاء { فلبث فيهم الف سنة إلا خمسين عاماً } يدعوهم فلم يستجيبوا له { فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر } فاستجاب الله له فأنجاه وأصحاب السفينة وهم المؤمنون وهلك في الطوفان زوجته وولده كنعان وسائر البشر إلا نوحاً ومن معه في السفينة ، وكانوا قرابة الثمانين نسمة ، وخلف نوحاً ثلاثة أولاد هم سام وهو أبو العرب وفارس والروم وهم الجنس السامي وحام وهو أبو القبط والسودان والبربر ويافث وهو أبو الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج ، هذا معنى قوله تعالى : { فأخذهم الطوفان وهم ظالمون } اي لأنفسهم بالشرك . { فأنجيناه واصحاب السفينة } ومن بين ما فيها أبناؤه الثلاثة سام وحام ويافث ومنهم عمر الكون بالبشر شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً وقوله { وجعلناها ءَاية للعالمين } اي حادثة الطوفان ومنها السفينة ومكث تلك المدة الطويلة مع قلة المستجيبين { آية } اي عبرة { للعالمين } أي للناس ليعتبروا بها فلا يعصوا رسلهم ولا يشركون بربهم هذا إذا اعتبروا وقليل من يعتبر .
هداية الآيتين :
من هداية الآيتين :
1- بيان سنة الله تعالى في إرسال الرسل لهداية الخلق .
2- بيان قلة من ساتجاب لنوح مع المدة الطويلة فيكون هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم والدعاة من بعده .
3- بيان اهلاك الله تعالى الظالمين وإنجائه المؤمنين وهي عبرة للمعتبرين .
(3/195)
________________________________________
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)
شرح الكلمات :
{ وإبراهيم } : أي واذكر إبراهيم على قراءة النصب لإِبراهيم ، وعلى قراءة الرفع : ومن المرسلين إبراهيم .
{ اعبدوا الله واتقوه } : أي آمنوا به ووحدوه في عبادته واتقوا أن تشركوا به وتعصوه .
{ أوثاناً } : أصناماً وأحجاراً وصُوراً وتماثيل .
{ وتخلقون إفكاً } : أي تختلقون الكذب فتقولون في الأصنام والأوثان آلهة وتعبدونها .
{ فابتغوا عند الله الرزق } : اي اطلبوا الرزق من الله الخلاق العليم لا من الأصنام والتماثيل المصنوعة المنحوتة بأيدي الرجال بالمعاول والفؤوس .
{ واعبدوه } : أي بالإِيمان به وتوحيده واشكروه بطاعته .
{ وإن تكذبوا } : أي يا أهل مكة بعد هذا الذي عرضنا عليكم من الايات والعبر فقد كذب أمم من قبلكم .
{ وما على الرسول } : أي محمد صلى الله عليه وسلم .
{ إلا البلاغ المبين } : وقد بلغ وبين فبرئت ذمته وأنتم المكذبون ستحل بكم نقمة الله .
معنى الآيات :
هذا القصص معطوف على قصص نوح لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ولتذكير قريش بأنها في إصرارها على الشرك والتكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم صائرة إلى ما صار إليه المكذبون من قبل إن لم تتب إلى الله وترجع إليه بالإِيمان والطاعة وترك الشرك والمعاصي قال تعالى : { وإبراهيم } أي واذكر يا رسولنا إبراهيم خليلنا { إذ قال لقومه } البابليين ومن بينهم والده آزَرْ يا قوم { اعبدوا الله } اي بتوحيده في عبادته { واتقواه } بترك الشرك والعصيان وإلا حلَّت بكم عقوبته ونزل بكم عذابه وقوله { ذلكم خير لكم } اي الإِيمان والتوحيد والطاعة خير لكم من الكفر والشرك والعصيان . إذ الأول يجلب الخير والثاني يجلب الشر { إن كنتم تعلمون } الخير والشر وتفرقون بينهما وقوله عليه السلام { إنما تعبدون من دون الله أوثاناً وتخلقون إفكاً } يخبرهم معرفاً لهم بخطئهم فيقول { إنما تعبدون من دون الله أوثاناً } أي أصناماً وتماثيل وعبادة الأصنام والأوثان عبادة باطلة لا تجلب لكم نفعاً ولا تدفع عنكم ضراً . إن الذي يجب أن يعبد الله الخالق الرازق الضار النافع المحيي المميت السميع البصير . أما الأوثان فلا شيء في عبادتها إلا الضلال واتباع الهوى . وقوله لهم { وتخلقون إفكاً } أي وتصنعون كذباً تختلقونه اختلاقاً عندما تقولون في التماثيل والأصنام إنها آلهة . وقوله عليه السلام لقومه { إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً } يخبرهم عليه السلام معرفاً لهم بحقيقة هم عنها غافلون وهي أن الذين يعبدونهم من دون الله لا يملكون لهم رزقاً لأنهم لا يقدرون على ذلك فما الفائدة إذاً من عبادتهم وما الحاجة الداعية إليها لولا الغفلة والجهل ، ولما ابطل لهم عبادة الصنام أرشدهم غلى عبادة الله الواحد القهار فقال { فابتغوا عند الله الرزق } إن كنتم عبدتم الأصنام لذلك فإن الله هو الرزاق ذو القوة المتين فاطلبوا عنده الرزق فإنه مالكه والقادر على إعطائه { واعبدوه } بالإِيمان به وبرسوله وبتوحيده { واشكروا له } يرزقكم ويحفظ عليكم الرزق وقوله { إليه ترجعون } ذكّرهم بعلة غفلتهم ومَصْدَر جهلهم وهي كفرهم بالبعث فأعلمهم أنهم إليه تعالى لا إلى غيره يرجعون .
(3/196)
________________________________________
إذاً فليتعرفوا غليه ويعبدوه طلباً لرضاه وإكرامهم يوم يلقونه .
وقوله تعالى { وإن تكذبواؤ أي يا أهل مكة رسولنا وتنكروا وحينا وتكفروا بلقائنا فلستم وحدكم في ذلك . { فقد كذب أمم من قبلكم } قوم نوح وعاد وفرعون وقوم غبراهيم واصحاب مدين وغيرهم { وما على الرسول } أي رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إلا البلاغ المبين وقد بلغكم وأنتم الآن بين خيارين لا ثالث لهما :
الأول أن تتعظوا بما أسمعناكم وأريناكم من ىياتنا فتؤمنوا وتوحدوا وتطيعوا فتكملوا وتسعدوا وإما أن تبقوا على غصراركم على الشرك والكفر والعصيان فسوف يحل بكم ما حل بأمثالكم ، إذ كفاركم ليسوا بخير من كفار أولئكم الذين انتقم الله منهم وأذاقهم سوء العذاب . هذا ما دلت عليه الآية ( 18 ) وهي معترضة بين الآيات التي اشتملت على قصص إبراهيم عليه السلام . وسر الاعتراض هو وجود فرصة في سياق الكلام قد تلفت أنظار القوم وتأخذ بقلوبهم إذ الايات كلها مسوقة لهدايتهم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- وجوب عبادة الله وتقواه طلباً للنجاة من الخسران في الدارين .
2- بطلان عبادة غير الله ووجوب عبادة الله عن طريق الأدلة العقلية .
3- ما عبد الناس الأوثان إلا من جهلهم وفقرهم فلذا يجب أن يعلموا أن الله هو ربهم المستحق لعبادتهم وأن الله تعالى هو الذي يسد فقرهم ويرزقهم ومن عداة لا يملك ذلك لهم
4- وجوب شكر الله تعالى بحمده والثناء عليه وبطاعته وصرف النعم فيما من أجله أنعم بها على عبده .
5- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتأنيب المشركين من أهل مكة .
(3/197)
________________________________________
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
شرح الكلمات :
{ أولم يروا } : أي ينظروا بأبصارهم فيعلموا بقلوبهم .
{ يبدئ الله الخلق } : أي كيف يخلق المخلوق ابتداء .
{ ثم يعيده } : أي ثم هو تعالى يعيده بعد بدئه وإفنائه يعيده لأن الإِعادة أهون من البدء وقد بدأ وأفنى فهو بالضرورة قادر على الإِعادة .
{ إن ذلك } : أي أن الخلق الأول والثانى هو الاعادة .
{ على الله يسير } : أي سهل لا صعوبة فيه ، فكيف إذاً ينكر المشركون البعث .
{ قل سيروا في الأرض } : أي قل يا رسولنا لقومك المكذبين بالبعث سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الله الخلق وأنشأه ، تستدلون بذلك على قدرته على البعث الآخر .
{ ثم الله ينشئ النشأة الآخرة } : أي يحيي الناس بعد موتهم وهو البعث الآخر الذي أنكره الجاهلون .
{ وإليه تقلبون } : أي ترجعون إليه لا إلى غيره أحياء كما كنتم فيحاسبكم ويجزيكم بأعمالكم ، الحسنة بخير منها والسيئة بمثلها جزاء عادلاً .
{ وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء } : أي بغالبين ولا فائتين بالهروب فإن الله غالبكم .
{ وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } : ليس لكم من ولي يتولاكم ولا نصير ينصركم من الله تعالى .
{ يئسوا من رحمتي } : أي من دخول الجنة لأنهم كافرون أعظم كفر وهو التكذيب بالقرآن والبعث الآخر .
معنى الآيات : ما زال السياق في تقرير أصول الدين التوحيد والنبوة والبعث وقد قررت الآيات السابقة أصلي التوحيد والنبوة المحمدية وفي هذه الايات تقرير الأصل الثالث وهو البعث والجزاء في الدار الآخرة . قال : { أولم يروا } أي أولئك المنكرون للبعث ، أيكذبون؟ ، ولم ينظروا كيف يبدئ الله الخلق اي خلق الإِنسان ، فإن ذلك دال على إعادته متى أراد الله الخالق ذلك ، ثم هو تعالى يعيده متى شاء ، { إن ذلك } أي الخلق والإِعادة بعد الفناء والبلى رعلى الله يسير } سهل لا يتعذر عليه أبداً .
وقوله تعالى : { قل سيروا في الأرض } أي قل يا رسولنا للمكذبين بالبعث الآخر { سيروا في الأرض } شرقاً وغرباً { فانظروا كيف بدأ } تعالى خلق تلك المخلوقات التي تشاهدونها من أرض ، وسماء ، وانهار ، وأشجار ، وحيوان ، وإنسان ، إنها كلها كانت عدماً فأنشأها الله تعالى ثم هو سيفنيها { ثم الله ينشئ النشأة الآخرة } وذلك بأن يعيد حياة الإنسان ليحاسبه على كسبه في الدنيا ويجزيه به خيراً أو شراً ، { إن الله على كل شيء قدير } إذاً فلا يستنكر عليه إعادة الناس أحياء بعد نهاية هذه الحياة الدنيا ليحاسبهم ويجزيهم بما كانوا يعملون . وقوله تعالى : { يعذب من يشاء ويرحم من يشاء } هذه فائدة وحكمة البعث الآخرة وهي المجازاة على العمل في هذه الحياة فيعذب أهل الكفر به وبرسوله والذين لم يزكوا أنفسهم بالإِيمان وصالح الأعمال فيدخلهم جهنم دار الشقاء والعذاب ويرحم أهل الإِيمان والتقوى الذين زكوا أنفسهم بالإِيمان والصالحات . وقوله : { وإليه تقلبون } أي إلى الله ربكم ترجعون بعد الموت والفناء وإنشاء النشأة الآخرة وقوله { وما أنتم بمعجزين } أي الله تعالى { في الأرض ولا في السماء } بل أنتم مقهورون له خاضعون لسلطانه لا يمكنكم الهرب منه ولا الخلاص بحال من الأحوال .
(3/198)
________________________________________
وليس لكم من دونه تعالى ولي يتولاكم فيدفع عنكم العذاب ولا نصير ينصركم فلا تُغلَبون ولا تُعذبون وقوله تعالى : { والذين كفروا بآيات الله } التي جاءت بها رسله { ولقائه } وهو البعث الآخر الموجب للوقوف بين يدي الله للسؤال والحساب والجزاء هذا إن كان للعبد ما يحاسب عليه من الخير ، أما إن لم يكن له حسنات فإنه يُلقى في جهنم بلا حساب ولا وزن إذ ليس له من الصالحات ما يوزن له ويحاسب به ، ولذا قال تعالى :
{ أولئك } أي المكذبون بآيات الله ولقائه { يئسوا من رحمتي } إذ تكذيبهم بالقرآن مانع من الإِيمان والعمل الصالح وتكذيبهم بيوم القيامة مانع لهم أن يتخلوا عن الشرك والمعاصي ، أو يعملوا صالحاً من الصالحات لتكذيبهم بالجزاء ، فهم يائسون من الجنة . { وأولئك لهم عذاب أليم } أي موجع وهو عذاب النار في جهنم والعياذ بالله تعالى .
هداية الآيات :
{ من هداية الآيات : }
1- وجوب استعمال العقل للاستدلال على الغائب بالحاضر وعلى المعدوم بالموجود .
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء وذكر أدلتها التفصيلية .
3- تقرير عجز الإنسان التام وأنه لا مهرب له من الله تعالى ربه ومالكه وهي حال تستدعي الفرار إلى الله اليوم بالإِيمان والتقوى .
4- إنذار المكذبين بأنهم إن ماتوا على التكذيب بالبعث لا يدخلون الجنة بحال ، وسيعذبون في نار جهنم أشد العذاب .
(3/199)
________________________________________
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
شرح الكلمات :
{ فما كان جواب قومه } : أي قوم إبراهيم عليه السلام .
{ إلا أن قالوا اقتلوه } : أي إلا قولهم اقتلوه أو احرقوه .
{ إن في ذلك لآيات } : أي في كون النار لم تحرق الخليل ويخرج منها سالماً .
{ لقوم يؤمنون } : لأن المؤمنين هم الذين ينتفعون بالآيات لحياة قلوبهم .
{ أوثاناً مودة بينكم } : أي اتخذتم أوثانكم آلهة تتوادون من أجل عبادتها وتتحابون لذلك .
{ في الحياة الدنيا } : أي هذا التوادد والتحاب على الآلهة في الحياة الدنيا فقط أما الآخرة فلا .
{ يكفر بعضكم ببعض } : أي يكفر المتبوعون بأبتابعهم ويتبرأون منهم .
{ يولعن بعضكم بعضاً } : يلعن الأتباع القادة الذين اتبعوهم في الباطل .
معنى الآيات :
ما زال السياق في قصص إبراهيم الخليل عليه السلام فإنه لمَّا أفحمهم بالحجة وبين لهم باطلهم وكشف لهم عن جهلهم وضلالهم لجأوا كعادة الطغاة من أهل الكفر والباطل إلى التهديد بالقوة فقالوا ما أخبر به تعالى عنهم : أى { فما كان جواب قومه } فما كان جوابهم اي عما سمعوا من الحجج والبراهين على بطلان الشرك وصحة التوحيد { إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه } أي إلا قولهم اقتلوا إبراهيم بالسيف ونحوه أو حرقوه بالنار ، ونفذوا جريمتهم بالفعل وأوقدوا النار وألقوه فيها ، وقال الله جل جلاله للنار { يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم } فكانت كما أُمرت وخرج إبراهيم سالماً لم تحرق النار سوى كتافه الذي شد به يداه ورجلاه . وهو ما دل عليه قوله تعالى { فأنجاه الله من النار } وقوله تعالى { إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } أي في كون النار لم تحرق إبراهيم فيتخلف طبعها وتصبح برداً وسلاماً على إبراهيم فلم تحرقه ، ( آيات ) أي دلائل قدرة الله تعالى ورحمته وحكمته ولكن تلك الآيات لا ينتفع بها غير المؤمنين ، لأنهم أموات لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون . أما المؤمنون فهم أحياء فينتفعون بما يسمعون ويبصرون لأن الإِيمان بمثابة الروح في البدن فإن وجد في القلب حيي الجسم وان فارقه فالجسم ميت فلا العين تبصر الأحداث ولا الأذن تسمع الايات . وقوله : { إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا } هذا من جملة قول إبراهيم لقومه وهو يعظهم ويرشدهم فأخبرهم بحقيقة يتجاهلونها وهي أ ، هم ما اتخذذوا تلك الأوثان آلهة يعبدونها إلا لأجل التعارف عليها والتوادد والتحاب من أجلها ، فيقيمون الأعياد لها ويجتمعون حولها فيأكلون ويشربون لا أنهم حقيقة يعتقدون أنها آلهة وهي أحجار نحوتها بأيديهم ونصبوها تماثيل في سوح دورهم وأمام منازلهم ( يوم القيامة ) أي في الآخرة فالعكس هو الذي سيحدث لهم حيث 0يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً } اي يكفر المتبوعون وهم الرؤساء بمن اتبعوهم وهم الأتباع من الدهماء وعوام الناس ، { ويلعن بعضكم بعضاً } كل من الأتباع والمتبوعين يطلب بعد الآخر عنه ، وعدم الاعتراف به وذلك عند معاينة العذاب ولم تبق تلك الروابط والصلات التي كانت لهم في هذه الحياة!! وقوله : { ومأواكم النار } أي ومقركم الذي يؤويكم جميعاً فتستقرون فيه هو النار { وما لكم من ناصرين } بعد أن أذلكم الله الذي أشركتم به أوثاناً ، فجعلتموها مودة بينكم في الحياة الدنيا .
(3/200)
________________________________________
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير أن الظَّلمَة سنتهم أنهم إذا أعيتهم الحجج يلجأون إلى استعمال القوة .
2- في عدم إحراق النار دليل على أن الله تعالى قادر على إبطال السنن إذا شاء ذلك ، ومن هنا تكون الكرامات والمعجزات إذْ هى خوارق للعادات .
3- بيان أن الخرافيين في اجتماعهم على البدع لم يكن ذلك عن علم بنفع البدعة وإنما لعنصر التوادد والتعارف والتلاقي على الأكل والشرب كما قال إبراهيم لقومه { إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا } .
(3/201)
________________________________________
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
شرح الكلمات :
{ فآمن له لوط } : أي آمن بإبراهيم لوط وهو ابن أخيه هاران ولم يؤمن من قومه سواه .
{ مهاجر إلى ربي } : أي إلى حيث أعبد ربي فلا أفتن في ديني .
{ ووهبنا له إسحق ويعقوب } : أي هاجر لأجلنا فأكرمناه في دار هجرته فوهبنا له ذرية هم اسحق الابن ويعقوب الحفيد .
{ في ذريته النبوة والكتاب } : فكل الأنبياء بعده من ذريته وكل الكتب التي أنزلت بعده فهي في ذريته .
{ وآتيناه أجره في الدنيا } : وذلك بالرزق الحسن والثناء الحسن على ألسنة كافة الناس من أهل الأديان الإِلهية .
{ وإنه في الآخرة لمن الصالحين } : أي هو أحدهم ، فيكرم كما يكرمون بالدرجات العلا ، والصالحون هم أنبياء الله ورسله وأولياؤه وصالحو عباده .
معنى الآيات :
هذا آخر قصص إبراهيم الخليل في هذا السياق الكريم فأخبر تعالى أن إبراهيم بعد الجهاد الطويل في الدعوة إلى عبادة الرحمن الرحيم لم يؤمن له ولم يتابعه على الحق الذي دعا إليه إلا لوط بن هاران أخيه فقال تعالى : { فآمن له لط وقال } أي إبراهيم رإني مهاجر إلى ربي } فترك بلاد قومه من سواد العراق وارتحل إلى أرض الشام فأكرمه الله تعالى جزاء هجرته إلى ربه عز وجل بما أخبر به في هذا السياق حيث قال : { ووهبنا له إسحق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب } وهبه أى أعطاه ولده إسحق بن سارة وولد إسحق وهو يعقوب ، وجعل كافة الأنبياء من ذريته وجعل الكتاب فيهم أيضاً فالتوراة أنزلت على موسى ، والزبور على داود ، والإنجيل على عيسى وهم من ذرية إبراهيم ، والقرآن الكريم أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو من ذرية إسماعيل بن إبراهيم وقول إبراهيم هو كما قال : { إني مهاجر إلى ربي } وصف به بالعزة والحكمة . فقال : { إنه هو العزيز الحكيم } أي الغالب القاهر { الحكيم } الذي وضع كل شيء في موضعه ، ودلائل العزة ان أنجى إبراهيم من أيدي الظلمة الطغاة ومن مظاهر الحكمة أن نقله من ارض لا خير فيها إلى أرض كلها خير وأكرمه فيها بما ذكر في قوله { ووهبنا له إسحق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب } وقوله تعالى : { وآتيناه أجره في الدنيا } حيث رزقه أطيب الأرزاق في دار هجرته ورزقه الثناء الحسن من كل أهل الأديان الإِلهية كاليهودية والنصرانية ، والإِسلام وهو خاتم الأديان هذا في الدنيا أما في الآخرة فإنه من الصالحين ذوي الدرجات العلا والمنازل العالية في مواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان حصيلة دعوة إبراهيم كذا سنة وأنها كانت إيمان واحد بها وهو لوط عليه السلام وفي هذا تسلية للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم
. 2- بيان إكرام الله تعالى لمن يهاجر إليه ويترك أهله وداره .
3- بيان ما أكرم الله تعالى به إبراهيم من خير الدنيا والآخرة جزاء صبره على دعوة الله تعالى .
(3/202)
________________________________________
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
شرح الكلمات :
{ ولوطاً إذا قال لقومه } : أي واذكر إذ قال لوط بن هاران لقومه أهل سَدُوم .
{ أئنكم لتأتون الفاحشة } : أي الخصلة القبيحة وهي إتيان الذكران في أدبارهم .
{ ما سبقكم بها من أحدٍ } : أي لم تعرف البشرية قبل قوم لوط إتيان الذكران في أدبارهم .
{ وتقطعون السبيل } : أي باعتدائكم على المارة في سبيل فامتنع الناس من المرور خوفاً منكم .
{ وتأتون في ناديكم المنكر } : أي مجالس أحاديثكم تأتون المنكر كالضراط وحل الإِزار والفاحشة أي اللواط .
{ فما كان جواب قومه } : أي إلا قولهم أئتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين .
معنى الآيات :
هذا بداية قصص لوط عليه السلام مع قومه أهل سَدُوم وعموريّة والغرض من سياقه تقرير النبوة المحمدية إذ مثل هذه القصص لايتم لأحد إلاَّ من طريق الوحي ، وتسلية الرسول من أجل ما يلاقي من عناد المشركين ومطالبتهم بالآيات والعذاب قال تعالى : واذكر يا رسولنا لقومك لوطاً { إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة } وهي الفعلة القبيحة ويزيدها قبحاً أن الناس قبل قوم لوط لم تحدث فيهم هذه الخصلة ولم يعرفها أحد من العالمين ، ثم واصل لوط إنكاره وتشنيعه عليهم فيقول : { ائنكم لتأتون الرجال } أي في أدبارهم { وتقطعون السبيل } وذلك أنهم كانوا يعتدون على المارة بعمل الفاحشة معهم قسراً وبسلب أموالهم وبذلك امتنع الناس من المرور فانقطعت السبيل ، كما أنهم بإتيانهم الذكران عطلوا السبيل بقطع سبيل الولادة ، وزاد لوط في تأنيبهم والإِنكار عليهم والتوبيخ لها فقال { وتأتون في ناديكم المنكر } والنادي محل اجتماعهم وتحدثهم وإتيان المنكر فيه كان بارتكاب الفاحشة مع بعضهم بعضاً ، وبالتضارط فيه ، وحل الإِزار ، والقذف بالحصى وما غلى ذلك مما يؤثر عنهم من سوء وقبح . قال تعالى : { فما كان جواب قومه } بعد ان أنبهم ووبخهم ناهيا لهم عن مثل هذه الفواحش { إلا ان قالوا إئتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين } أي ما كان جوابهم إلا المطالبة بعذاب الله ، وهذه طريقة الغلاة المفسدين والظلمة المتكبرين ، إذا أعيتهم الحجج لجأوا إلى القوة يستعملونها أو يطالبون بها . وقوله تعالى : { قال رب انصرني على القوم المفسدين } أي لما طالبوه بالعذاب ، وقد أعياه أمرهم لجأ إلى ربه يطلب نصره على قومه الذين كانوا شر قوم وجدوا على وجه الأرض واستجاب الله تعالى له ونصره وسيأتى بيان ذلك في الآيات بعد .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير النبوة المحمدية بذكر قصص لا يتم إلا عن طريق الوحي .
2- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم من اجل ما يعاني من المشركين من كفر وعناد ومطالبة بالعذاب .
3- قبح الفاحشة وحرمتها وأسوأها فاحشة اللواط .
4- وجوب إقامة الحد على اللوطيّ الفاعل والمفعول لأن الله تعالى سماها فاحشة وسمى الزنا فاحشة ووضع حداً للزنى فاللوطية تقاس عليه ، وقد صرحت السنة بذلك فلا حاجة إلى القياس .
5- التحذير من العبث والباطل قولاً أو عملاً وخاصة في الأندية والمجتمعات .
(3/203)
________________________________________
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
شرح الكلمات :
{ بالبشرى } : أي إسحق ويعقوب بعده .
{ هذه القرية } : أي قرية لوط وهي سدوم .
{ قالوا نحن أعلم بمن فيها } : أي قالت الرسل نحن اعلم بمن فيها .
{ كانت من الغابرين } : أي كانت في علم الله وحكمه من الباقين في العذاب .
{ سيء بهم } : أي حصلت لهم مساءة وغم بسبب مخافة أن يقصدهم قومه بسوء .
{ وضاق بهم ذرعاً } : أي عجز عن احتمال الأمر لخوفه من قومه أن ينالوا ضيفه بسوء .
{ رجزاً } : اي عذاباً من السماء .
{ بما كانوا يفسقون } : أي بسب فسقهم وهو إتيان الفاحشة .
{ ولقد تركنا منها آية } : أي تركنا من قرية سدوم التي دمرناها آية بينة وهي خرابها ودمارها وتحولها إلى بحر ميت لا حياة فيه .
{ لقوم يعقلون } : أي يعلمون الأسباب والنتائج إذا تدبروا .
معنى الآيات :
ما زال السياق في قصص لوط عليه السلام ، إنه بعد أن ذكرهم وخوفهم عذاب الله قالوا كعادة المكذبين الهالكين فائتنا بعذاب الله ‘ن كنت من الصادقين وأنه عليه السلام استنصر ربه تعالى عليهم ، واستجاب الله تعالى له وفي هذه الآية بيان ذلك بكيفيته ، قال تعالى : { ولما جاءت رسلنا إبراهيم } الخليل عم لوط { بالبشرى } التي هي ولادة ولدٍ له هو إسحق ومن بعده يعقوب ولد إسحق عليه السلام كما قال تعالى : { وبشرناه باسحق ومن وراء اسحق يعقوب } . { قالوا } اي قالت الملائكة لإِبراهيم { إنا مهلكوا أهل هذه القرية } يريدون قرية قوم لوط وهي سدوم وعللوا لذلك بقولهم { إن أهلها كانوا ظالمين } أي لأنفسهم بغشيان الذنوب وإتيان الفواحش ، ولغيرهم إذ كانوا يقطعون السبيل وهنا قال لهم إبراهيم : { إن فيها لوطاً } ليس من الظالمين بل هو من عباد الله الصالحين فأجابته الملائكة فقالوا : { نحن أعلم بمن فيها } منك يا إبراهيم . { لننجينه وأهله } من الهلاك { إلا امرأته كانت من الغابرين } وذلك لطول عمرها فسوف تهلك معهم لكفرها ومُمَالأَتها للظالمين .
وقوله تعالى : { ولما أن جاءت رسلنا لوطاً } اي ولما وصلت الملائكة لوطاً قادمين من عند إبراهيم من فلسطين { سيء بهم وضاق بهم ذرعاً } أي استاء بهم وأصابه غم وهم خوفاً من قومه أن يسيئوا إليهم ، وهم ضيوفه نازلون عليه ولما رأت ذلك الملائكة من طمأنوه بما أخبر به تعالى في قوله : { وقالوا لا تخف } أي علينا { ولا تحزن } على من سيهلك من اهلك مع قومك الظالمين . { إنا منجوك } من العذاب أنت وأهلك أى زوجتك المؤمنة وبنتيك ، { إلا امرأتكؤ أي العجوز الظالمة فإنها { من الغابرين } الذين طالت أعمارهم وستهلك مع الهالكين . وقوله تعالى في الاية ( 34 ) : { إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون } أي أخبرت الملائكة لوطاً بما هم فاعلون لقومه وهو قولهم { إنا منزلون على أهل هذه القرية } أي مدينة سدوم { رجزاً } أي عذاباً من السماء وهي الحجارة بسبب فسقهم بإتيانهم الفاحشة التي لم يسبقهم غليها أحد من العالمين .
(3/204)
________________________________________
قال تعالى : { ولقد تركنا منها } اي من تلك القرية { آية بيّنة } ، أي عظة وعبرة ، وعلامة واضحة على قدرتنا على إهلاك الظالمين والفاسقين . وقوله تعالى : { لقوم يعقلون } إذ هم الذين يتدبرون في الأُمور ويستخلصون أسبابها وعواملها ونتائجها وآثارها أما غير العقلاء فلا حظ لهم في ذلك ولا نصيب فهم كالبهائم التي تنساق إلى النجزرة وهي لا تدري وفي هذا تعريض بمشركي مكة وما هم عليه من الحماقة والغفلة .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- حلم إبراهيم ورحمته تجليا في دفاعه عن لوط وأهله .
2- تقرير مبدا : من بطَّأَ به عمله لم يسرع به نسبه ، حيث العلاقة الزوجية بين لوط وامرأته العجوز لم تنفعها وهلكت لأنها كانت مع الظالمين بقلبها وسلوكها .
3- مشروعية الضيافة وتأكيدها في الإِسلام لحديث الصحيح « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه » .
4- التنديد بالفسق عن طاعة الله وهو سبب هلاك الأمم والشعوب .
5- فضيلة العقل إذا استعمله صاحبه في التعرف إلى الحق والباطل والخير والشر .
(3/205)
________________________________________
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)
شرح الكلمات :
{ وإلى مدين } : أي وأرسلنا إلى قبيلة مَدْين ، ومدين أبو القبيلة فسميت باسمه .
{ أخاهم شعيباً } : أي أخاهم في النسب .
{ اعبدوا الله } : أي اعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئاً .
{ وارجوا اليوم الآخر } : أي آمنوا به وتوقعوا مجيئه وما يحدث فيه .
{ ولا تعثوا في الأرض مفسدين } : أي ولا تعيثوا في الأرض فساداً بأن تنشروا فيها الفساد وهو العمل بالمعاصي فيها .
{ فأخذتهم الرجفة } : الهزة العنيفة والزلزلة الشديدة .
{ في دارهم جاثمين } : لاصقين بالأرض أمواتاً لا يتحركون .
معنى الآيتين :
هذا موجز لقصة شعيب عليه السلام مع قومه أهل مدين ، والعبرة منه إهلاك تلك الأمة لما كذبت رسولها واستمرت على الشرك والمعاصي لعل قريشاً تعتبر بما أصاب هذه الأمة من هلاك ودمار من أجل تكذيبها لرسولها وعصيانها لربها قال تعالى { وإلى مدين } أي وأرسلنا إلى مدين { أخاهم شعيباً } وهو نبيّ عربي فلما انتهى إليهم برسالته قال { يا قوم اعبدوا الله } اي وحدوه في عبادته وأطيعوه فيما يأمركم به وينهاكم عنه من التطفيف في الكيل والوزن ، { وارجوا اليوم الآخر } ، أي آمنوا بيوم القيامة وتوقعوا دائماً مجيئه وخافوا ما فيه من أهوال وأحوال فإن ذلك يساعدكم على التقوى وقوله : { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } وذلك أنهم ينقصون الكيل والوزن ويبخسون الناس أشياءهم ويفسدون في الأرض بالمعاصي . وقوله تعالى : رفكذبوه } أي كذب اصحاب مدين نبيهم شعيباً فيما أخبرهم به ودعاهم إليه { فأخذتهم الرجفة } أي رجفة الهلاك من تحتهم فأصبحوا في دارهم جاثمين على الركب هلكى وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين .
هداية الآيتين :
من هداية الآيتين :
1- تقرير التوحيد والنبوة والبعث الاخر .
2- حرمة الفساد في الأرض وذلك بارتكاب المعاصي وغشيان الذنوب .
3- بيان نقمة الله تعالى على المكذبين والظالمين والفاسقين .
(3/206)
________________________________________
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
شرح الكلمات :
{ وعاداً وثمودا } : أي وأهلكنا عاداً القبيلة وثمود القبيلة كذلك .
{ وقد تبين لكم من مساكنهم } : أي تبين لكم إهلاكهم من مساكنهم الخالية منهم بالحجر شمال الحجاز واشحر جنوب اليمن .
{ عن السبيل } : أي سبيل الهدى والحق التي بينتها لهم رسلهم .
{ كانوا مستبصرين } : أي ذوي بصائر لما علمتهم رسلهم .
{ وقارون وفرعون وهامان } : أي وأهلكنا قارون بالخسف وفرعون وهامان بالغرق .
{ فاستكبروا } : أي عن عبادة الله تعالى وطاعته وطاعة رسله .
{ وما كانوا سابقين } : أي فائتين عذاب الله اي فارين منه ، بل أدركهم .
{ فكلاً أخذنا بذنبه } : أي فكل واحد من المذكورين أخذناه بذنبه ولم يفلت منا .
{ ومنهم من ارسلنا عليه حاصباً } : أي ريحاً شديدة ، كعاد .
{ ومنهم من خسفنا به الأرض } : أي كقارون .
{ ومنهم من أغرقنا } : كقوم نوح وفرعون .
معنى الآيات :
لما ذكر تعالى في الآيات قبل ذي إهلاكه لقوم لوط وقوم شعيب وقوم نوح من قبل لما ردوا دعوته وكذبوا رسله ذكر بقية الأقوام الذين كذبوا بآيات الله ورسله فأهلكهم ، فقال عز وجل : { وعاداً وثموداً } اي وأهلكنا كذلك عاداً قوم هود ، وثمود قوم صالح وقوله تعالى : { وقد تبين لكم من مساكنهم } اي وقد تبين لكم يا معشر كفار مكة ومشركي قريش من مساكنهم بالحجر والشجر من حضرموت ما يؤكد لكم إهلاكنا لهم ، إذ مساكنهم الخاوية دالة على ذلك دلالة عين . وقوله تعالى : { وزين لهم الشيطان أعمالهم } أي وقد زين لهم الشيطان أعمالهم من الشرك والشر والظلم والفساد وصدهم بذلك التنزيين عن السبيل ، سبيل الإِيمان والتقوى الموروثة للسعادة في الدنيا والآخرة . وقوله : { وكانوا مستبصرين } اي ذوي بصائر اي معرفة بالحق والباطل والخير والشر ما علمتهم الرسل ولكن آثروا أهواءهم على عقولهم فهلكوا . وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين . وقوله تعالى : { وقارون وفرعون وهامان } أي أهلكنا قارون الإِسرائيلي ابن عم موسى عليه السلام ، أهلكناه ببغيه وكفره ، فخسفنا به الأرض وبداره أيضاً ، وفرعون وهامان أغرقناهما في اليم بكفرهما وطغيانهما وظلمهما واستعلائهما وذلك بعدما جاءهم موسى بالبينات من الآيات والحجج الواضحات التي لم تُبق لهم عذراً في التخلف عن الإِيمان والتقوى ولكن { فاستكبروا في الأرض } ، أرض مصر وديارها فرفضوا الإِيمان والتقوى { وما كانوا سابقين } ولا فائتين فأحلَّ الله تعالى بهم .
نقمته وأنزل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم الظالمين . ثم في الآية الأربعين من هذا السياق بين تعالى أنواع العذاب الذي أهلك به هؤلاء الأقوام ، فقال : { فكلاً } أي فكل واحد من هؤلاء المكذبين { أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً } أي ريحاً شديدة كعاد .
{ ومنهم من أخذته الصيحة } كثمود { ومنهم من خسفنا به الأرض } كقارون { ومنهم من أغرقنا } كفرعون ، وقوله تعالى . { وما كان الله ليظلمهم } أي لم يكن من شأن الله تعالى الظلم فيظلمهم ، { ولكن كانوا } أي أولئك الأقوام { أنفسهم يظلمون } بالشرك والكفر والتكذيب والمعاصي فأهلكوها بذلك ، فكانوا هم الظالمين .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان أن الشيطان هو سبب هلاك الأقوام وذلك بتزيينه لهم الشر والقبيح كالشرك والباطل والشر والفساد .
2- بيان أن الاستكبار كالظلم عاقبتهما الهلاك والخسران .
3- بيان أن الله تعالى ما أهلك أمة حتى يبين لها ما يجب أن تتقيه من أسباب الهلاك والدمار فإذا أبت إلا ذاك أوردها الله موارده .
(3/207)
________________________________________
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
شرح الكلمات :
{ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء } : اي صفة وحال الذين اتخذوا أصناماً يرجون نفعها .
{ كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً } : اي لنفسها تأوي غليه .
{ أوهن البيوت } : أضعف البيوت وأقلها جدوى .
{ يعلم ما يدعون من دونه من شيء } : اي من الأوثان والأصنام وغيرها .
{ وهو العزيز الحكيم } : أي الغالب على أمره الحكيم في تدبير أمور خلقه .
{ وما يعقلها إلا العالمون } : أي العالمون بالله وآياته وأحكام شرعه وأسراره .
{ خلق الله السموات والأرض بالحق } : اي من أجل أن يعبد لا للهو ولا لباطل .
{ أتل ما أوحي إليك من الكتاب } : اقرأ يا رسولنا ما أنزل إليك من القرآن .
{ وأقم الصلاة } : بأدائها مقامة مراعى فيها شروطها وأركانها وواجباتها وسننها .
{ تنهى عن الفحشاء والمنكر } : أي الصلاة بما توجده من نور في قلب العبد يصبح به لا يقدر على فعل فاحشة ولا إتيان منكر .
{ ولذكر الله أكبر } : اي ذكر الله عبده أكبر من ذكر العبد ربه كما ان ذكر الله أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من الصلاة وغيرهما .
معنى الآيات :
بعد أن ذكر تعالى نقمته على أعدائه الذين كفروا به واشركوا غيره في عبادته وكذبوا رسله وكان ذلك تنبيهاً وتعليماً للمشركين والكافرين المعاصرين لنزول القرآن لعلهم يستجيبون للدعوة المحمدية فيؤمنوا ويوحدوا ويسلموا من العذاب والخسران . ذكر هنا في هذه الآيات مثلاً لعبادة الأوثان في عدم نفعها لعابديها والقصد هو تقرير التوحيد ، وإبطال الشرك العائق عن كمال الإِنسان وسعادته وقال تعالى : { مثل الذين اتخذوا من دون الله } اي شركاء وهي الأصنام والأوثان يعبدونها راجين نفعها وشفاعتها لهم عند الله تعالى { كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً } لتأوي إليه قصد وقايتها مما تخاف من جراء برد أو اعتداء حشرة عليها ، { وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت } والحال أن أوهن البيوت أي أضعفها وأحقرها شأناً واقلها مناعة هو بيت العنكبوت فهذه حال المشركين الذين اتخذوا من دون الله { أولياء } أي أصناماً يرجون النفع ، ودفع الضر بها فهم واهمون في ذلك غالطون ، مخطئون ، إنه لا ينفع ولا يضر غلا الله فليعبدوه وحده وليتركوا ما سواه . وقوله : { لو كانوا يعلمون } اي لو كان المشركون يعلمون أن حالهم في عبادتهم غير الله في عدم الانتفاع بها كحال العنكبوت في عدم الانتفاع ببيتها الواهي لما رضوا بعبادة غير الله وتركوا عبادة الله الذي بيده كل شيء وإليه مصير كل شيء . وقوله تعالى : { إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء } فيه تهديد للمشركين المصرين على الشرك بأنه لا يخفى عليه ما هم عليه من دعاء غيره ، ولو شاء لأهلكهم كما أهلك من قبلهم { وهو العزيز } أي الغالب على أمره { الحكيم } في تدبير خلقه ولذا يعجل العقوبة لمن يعجل لحكمة ويؤخرها لمن يؤخرها عنه لحكمة فلا يغتر المشركون بتأخير العذاب ، ولا يستدلون به على رضا الله تعالى بعبادتهم ، وكيف يرضاها وقد اهلك أمماً بها وأنزل كتابه وبعث رسوله لإِبطالها والقضاء عليها وقوله تعالى : { وتلك الأمثال نضربها للناس } أي وهذه الأمثال نضربها للناس لأجل إيقاظهم وتبصيرهم وهدايتهم ، وما { يعقلها إلا العالمون } أي وما يدرك مغزاها وما تهدف غليه من التنفير من الشرك العائق عن كل كمال وإسعاد في الدارين { إلا العالمون } أي بالله وشرائعه وأسرار كلامه وما تهدي غليه آياته .
(3/208)
________________________________________
وقوله تعالى : { خلق الله السموات والأرض بالحق } إخبار بأنه تعالى هو الذي خلق السموات والأرض وهي مظاهر قدرته وعلمه وحكمته موجبة لعبادته بتعظيمه وطاعته ومحبته والإِنابة إليه والخوف منه . وخلقهما بالحق لا بالباطل وذلك من أجل أن يذكر فيهما ويشكر فمن كفر به فترك ذكره وشكره كان كمن عبث بالسموات والأرض وأفسدها ، لذا يعذب نظراً إلى عظم جرمه عذاباً دائماً أبداً . وقوله : { إن في ذلك لآية للمؤمنين } أي إن في خلق السموات والأرض بالحق { لآية } أي علامة بارزة على وجود الله وقدرته ولعمه وحكمته ، وهذه موجبات ألوهيته على سائر عباده فهو الإِله الحق الذي لا رب غيره . ولا إله سواه وبعد هذا البيان والبرهان لم يبق عذر لمعتذر ، وعليه ف { اتل } أيها الرسول { ما أوحي إليك من الكتاب } تعليماً وتذكيراً وتعبداً وتقرباً { وأقم الصلاة } طرفى النهار وزلفاً من الليل فإن في ذلك عوناً كبيراً لك على الصبر والثبات وزاداً عظيماً لرحلتك إلى الملكوت الأعلى . وقوله تعالى : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } تعليل للأمر بإقام الصلاة فإن الصلاة بما توجده من إشراقات النفس والقلب والعقل حال تحول بين العبد وبين التلوث بقاذورات الفواحش ومفاسد المنكر وذلك يفيد إقامتها لا مجرد أدائها والإِتيان بها . وإقامة الصلاة تتمثل في الإِخلاص فيها لله تعالى أولاً ثم بطهارة القلب من الالتفات إلى غير الرب تعالى اثناء أدائها ثانياً ، ثم بأدائها في أوقاتها المحددة لها وفي المساجد بيت الله ، ومع جماعة المسلمين عباد الله وأوليائه ، ثم مراعاة أركانها من قراءة الفاتحة والركوع والطمأنينة فيه والاعتدال والطمأنينة فيه ، ثم بمراعاة أركانها من قراءة الفاتحة والركوع والطمأنينة فيه والاعتدال والطمأنينة فيه ، والسجود على الجبهة والأنف والطمأنينة فيه ، وآخر أركانها الخشوع وهو السكون ولين القلب وذرف الدمع . هذه هي الصلاة التى توجد طاقة النور التي تحول دون الانغماس في الشهوات والذنوب وإتيان الفاحشة وارتكاب المنكر . وقوله تعالى : { ولذكر الله أكبر } اي أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من إقامة الصلاة لأن الصلاة أثناء ادائها مانعة عاصمة لكن إذا خرج منها ، قد يضعف تأثيرها ، أما ذكر الله بالقلب واللسان في كل الأحيان فهو عاصم مانع من الوقوع في الفحشاء والمنكر وفي اللفظ معنى آخر وهو أن ذكر الله للعبد في الملكوت الأعلى أكبر من ذكر العبد للرب في ملكوت الأرض ويدل عليه قوله : « من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملإٍ ، ذكرته في ملإِ خير منه » كما في الحديث الصحيح .
(3/209)
________________________________________
وقطعاً والله لذكر الرب العبد الضعيف أكبر من ذكر العبد الضعيف الرب العظيم . اللهم اجعلنا من الذاكرين الشاكرين لآلائك . وقوله : { والله يعلم ما تصنعون } فيه وعد وعيد ، فإن علمه يترتب عليه الجزاء فمن كان يصنع المعروف جزاه به ، ومن كان يصنع السوء جزاه به . اللهم ارزقنا صنائع المعروف وابعد عنا صنائع السوء آمين .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني للأفهام .
2- تقرير التوحيد وإبطال التنديد .
3- فصل العلماء على غيرهم ، العلماء بالله ، بصفاته وأسمائه وآياته ، وشرائعه ، وأسرارها .
4- وجوب تلاوة القرآن ، وإقامة الصلاة ، وذكر الله ، إذ هى غذاء الروح وزاد العروج إلى الملكوت الأعلى .
5- بيان فائدة إقام الصلاة وتلاوة القرآن وذكر الله تعالى بالقلب واللسان .
(3/210)
________________________________________
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
شرح الكلمات :
{ ولا تجادلوا أهل الكتاب } : أي لا تحاجوا ولا تناظروا اليهود ولا النصارى .
{ إلا بالتي هي أحسن } : أي إلا بالمجادلة التي هي أحسن وهي الدعوة إلى الله بآياته والتنبيه على حججه .
{ إلا الذين ظلموا منهم } : أي الذين لم يدخلوا في ذمة المسلمين بدفع الجزية وبقوا حربا على المسلمين .
{ وكذلك أنزلنا إليك الكتاب } : أي وكإِنزالنا الكتاب على من قبلك من الرسل أنزلنا إليك الكتاب .
{ فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون } : أي كعبد الله بن سلام وإخوانه الذين آمنوا بالرسول وكتابه .
{ ومن هؤلاء من يؤمن به } : أي ومن هؤلاء المشركين من يؤمن به وفعلا آمن به كثيرون .
{ ولا تخطه بيمينك } : أي تكتب بيدك لأنك أميّ لا تقرأ ولا تكتب .
{ لارتاب المبطلون } : أي لشك اليهود في نبوتك ونزول القرآن إليك .
{ بل هو آيات بينات } : أي محمد صلى الله عليه وسلم نعوته وصفاته آيات بينات في التوراة والإنجيل محفوظة في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب .
{ وما يجحد بآياتنا إلا } : أي وما يجحد بآيات الله الحاملة لنعوت الرسول الأمي وصفاته إلا الذين ظلموا أنفسهم بكتمان الحق والاستمرار على الباطل .
معنى الآيات :
قوله تعالى : { ولا تجادلوا أهل الكتاب } هذا تعليم للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يأخذون به مستقبلا عندما يتصلون بأهل الكتاب ويحتكون بهم فقال عز وجل مخاطباً الرسول صلى الله عليه سولم والمؤمنين من أمته { ولا تجادلوا أهل الكتاب } الذين هم اليهود والنصارى فنهاهم عن مجادلتهم وهي خصامهم ومحاجتهم ومناظرتهم { إلا بالتي هي أحسن } اي إلا بالمجادلة التي هي أحسن وذلك بدعوتهم إلى الله تعالى ليؤمنوا برسوله ويدخلوا في دنيه الإِسلام والتنبيه على حجج الله وأدلة وحيه وكتابه . وقوله { إلا الذين ظلموا منهم } وهم الذين لم يدخلوا في ذمة المسلمين ولم يؤدوا الجزية وناصبوا المسلمين الحرب والعداء فهؤلاء لا يجاتدلون ولكن يُحَكَّم فيهم السيف فيقاتلون حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وقوله تعالى : { وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وغلهكم واحد ونحن له مسلمون } . هذا تعليم آخر للمؤمنين وهو : إن أخبرهم أهل الكتاب بشيء لا يوجد في الإسلام ما يثنيه ولا ما ينفيه وادّعوا هم أنه في كتابهم في هذه الحال فقولوا ما أرشدنا الله تعالى إلى قوله وهو : { آمنا بالذي أُنزل إلينا } إلى آخر الآية حتى لا نكون قد كذَّبنا بحق ولا آمنَّا بباطل ، وفي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا { آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون } .
وقوله تعالى { وكذلك أنزلنا إليك الكتاب } أي وكإِنزال الكتب السابقة على رسل سبقوا كموسى وداود وعيسى عليهم السلام أنزلنا إليك أنت يا محمد الكتاب أي القرآن وقوله تعالى : { فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به .
(3/211)
________________________________________
ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون } . فهذا إخبار بغيب فكما علّم الله تعالى المؤمنين كيف يكونون مع أهل الكتاب عندما يتصلون بهم ويعيشون معهم في المدينة وغيرها أخبر أن الذين آتاهم الكتاب أي التوراة والإنجيل وهم الراسخون في العلم يؤمنون أي بالقرآن وقد آمن عبد الله بن سلام وكثير من أحبار أهل الكتاب ، وآمن من المشركين كثيرون فكان الأمر كما أخبر . وقوله تعالى : { وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون } فهو كما أخبر لا يجحد بالآيات القرآنية ويكذّب بها إلا كافر مظلم النفس خبيثها وقوله تعالى : { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك } هو كما قال عز وجل لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ قبل القرآن أيّ كتاب ، ولا كان يخط بيمينه ايّ كتاب لأنه أُميّ لا يقرأ ولا يكتب أيْ فلو كان قبل نزول القرآن عليه يقرأ ويكتب لكان للمبطلين مجال للشك في صحة دعوى النبوة المحمدية ونزول القرآن عليه ، ولكن لم يكن قبل القرآن يقرأ أيّ كتاب ، ولم يكن يخط بيمينه أيّ خط ولا كتاب فلم يبق إذاً للمشركين ما يحتجون به أبداً . وقوله تعالى { بل هو آيات بينات في صدور الذين أُوتوا العلم } أي بل الرسول ونعوته وصفاته ومنها وصف الأمية آيات في التوراة والإنجيل محفوظة في صدور الذين أُوتوا العلم من أهل الكتاب . . وقوله تعالى : { وما يجحد بآياتنا } في التوراة والإنجيل والقرآن { إلا الظالمون } أنفسهم من الماديين اليهود والنصارى الذين يأكلون ويَتَرأسُونَ على حساب الحق والعياذ بالله تعالى .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) مشروعية مجادلة أهل الكتاب من أهل الذِّمَّة بالتي هي أحسن .
2 ) حرمة سؤال أهل الكتاب لقوله صلى الله عليه وسلم : « ا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ، إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل » .
3 ) منع تصديق أهل الكتاب أو تكذيبهم إذا أخبروا بشيء ووجوب قول : { آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم ، وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون } .
4 ) إخبار القرآن بالغيب قبل وقوعه فيقع كما أخبر فيكون ذلك ىية على أنّه وحي الله تعالى .
5 ) تقرير صفة الأمية في النبي صلى الله عليه وسلم كما هي في الكتب السابقة .
(3/212)
________________________________________
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
شرح الكلمات :
{ لولا أُنزل عليه آيات } : أي قال كفار قريش هلاّ أُنزل على محمد آيات من ربِّه كناقة صالح ، وعصا موسى .
{ قل إنما الآيات عند الله } : أي قل يا رسولنا الآيات عند الله ينزلها متى شاء .
{ أو لم يكفهم أنا أنزلنا : أي أو لم يكفهم فيما طلبوا من الآيات إنزالنا الكتاب عليك الكتاب } عليك .
{ إن في ذلك لرحمة وذكرى } : أي في القرآن رحمة وموعظة للمؤمنين فهو خير من ناقة صالح .
{ والذين آمنوا بالباطل } : وهو ما يعبد مت دون الله .
{ وكفروا بالله } : وهو الإِله الحق .
{ أولئك هم الخاسرون } : أي حيث استبدلوا الكفر بالإِيمان .
معنى الآيات :
ما زال السياق في تقرير النبوة المحمدية فقوله تعالى : { وقالوا } أي أهل مكة { لولا أنزل عليه آيات من ربه } أي هلاّ أُنزل على محمد آيات من ربّه كناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى إذ هذا الذي يعنون بالآيات أي معجزات خارقة للعادة . قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم قل يا رسولنا لقومك المطالبين بالآيات دليلا على صدق نُبُوَّتك قل لهم : أولا : الآيات التي تطالبون بها هي عند الله وليست عندى فهو تعالى ينزِّلها متى شاء وعلى من شاء . وثانيا { إنما أنا نذير مبين } أي وظيفتي التي أقوم بها هي إنذار أهل الظلم من عاقبة ظلمهم وهي عذاب النار فلذا لا معنى بمطالبتي بالآيات . وثالثا أو لم يكفهم آية أن الله تعالى أنزل عليّ كتابه فأنا أتلوه عليكم صباح مساء فأي ىية أعظم من كتاب من أميّ لا يقرأ ولا يكتب تُتلى ىياته تحمل الهدى والنور وهو في الوقت نفسه رحمة وذكرى أي موعظة لقوم يؤمنون فهي معجزة ثابتة قائمة باقية يجد فيها المؤمنون الرحمة فيتراحمون بها ويجدون فيها الموعظة فهم يتعظون بها ، فأين هذا من معجزة تبقى ساعة ثم تذهب وتروح كمائدة عيسى أو عصا موسى . ورابعا : شهادة الله برسالتي كافية لا يُطلب معها دليل آخر على نبوتي ورسالتي ، فقد قال لي ربي : { قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً } . ربي الذي يعلم ما في السموات والأرض من كل غيب ومن ذلك علمه بأني رسوله فشهد لي بذلك بإِنزاله عليَّ هذا الكتاب وأخيراً وبعد هذا البيان يقول تعالى { والذين آمنوا بالباطل } وهو تأليه المخلوقات من دون الله { وكفروا } بأولوهية الله الحق { أولئك } البعداء في الفساد العقلي وسوء الفهم { وهم الخاسرون } في صفتهم حين اشتروا الكفر بالإِيمان واستبدلوا الضلالة بالهدى .
هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث فلتعد تلاوتها بالتأنِّي والتدبر .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) تقرير النبوة المحمدية بالأدلة القاطعة التي لا تُرد ، وهي أربعٌ كما ذُكر آنفاً .
2 ) بيان أكبر معجزة لإِثبات لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهي نزول القرآن .
الكريم عليه وفي ذلك قال عليه الصلاة والسلام كما في البخاري : « وما من نبي إلا أُوتي ما على مثله آمن البشر ، وكان الذي أُوتيته حيا أوحاه الله إليّ فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة » .
3 ) القرآن الكريم رحمة وذكرى أى عبرة وعظة للمؤمنين به وبمن نزل عليه .
4 ) تقرير خسران المشركين في الدارين لاستبدالهم الباطل بالحق والعياذ بالله تعالى .
(3/213)
________________________________________
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
شرح الكلمات :
{ ويستعجلونك بالعذاب } : أي يطلبون منك تعجيل العذاب لهم .
{ ولولا أجل مسمّى } : أي وقت محدد للعذاب لا يتقدمه ولا يتأخر عنه لجاءهم .
{ وليأتينّهم بغتة } : فجأة من حيث لا يخطر لهم على بال .
{ وان جهنم لمحيطة بالكافرين } : أي من كل جانب وهم فيها وذلك يوم يغشاهم .
{ يوم يغشاهم العذاب } : أي من فوقهم ومن تحت أرجلهم .
{ ذوقوا ما كنتم تعملون } : أي ويقول لهم الجبار ذوقوا ما كنتم تعملون أي من الشرك والمعاصي .
معنى الآيات :
لقد تقدم في الآيات القريبة أن المكذّبين بالرسالة المحمدية طالبوا بالعذاب تحدياً منهم للرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا : إئتنا بالعذاب إن كنت من الصادقين في أنك نبي ورسول إلينا وفي هذه الآية يعجِّب تعالى رسوله أي يحملُه على أن يتعجب من حمق المشركين وطيشهم وضلالهم إذ يطالبون بالعذاب فيقول له { ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى } للعذاب اي وقت محدد له لا يتقدمه ولا يتأخره { لجاءهم العذاب } . ثم أخبر تعالى رسوله مؤكداً خبره فقال { وليأتينّهم } أي العذاب { بغتة } لا محالة { وهم لا يشعرون } بوقت مجيئه ، ثم كرر تعالى حمل رسوله على التعجب من سخف المسركين الذين لا يطيقون لسعة عقرب ولا نهشة أفعى يطالبون بالعذاب فقال { يستعجلونك بالعذاب . وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } لا محالة كقوله { أتى أمر الله } { يوم يغاشهم العذاب } أي يغطيهم ويعمرهم فيكون { من فوقهم ومن تحت أرجلهم } وجهنم محيطة بهم ويقول الجبار تبارك وتعالى موبخاً لهم { ذوقوا ما كنتم تعملون } من الشرك والمعاصي .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) مشروعية التعجب إذا وجدت أسبابه الحاملة عليه .
2 ) بيان مدى حُمق وجهل وسفه الكافرين والمشركين بخاصة .
3 ) بيان أن تأخير العذاب لم يكن عن عجز وإنما هو لنظام دقيق إذ كل شيء له أجل محدد لا يتقدم ولا يتأخر .
(3/214)
________________________________________
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
شرح الكلمات :
{ إن أرضي واسعة } : أي هاجروا من بلاد لم تتمكنوا من العبادة فيها فإن أرض الله واسعة .
{ فإِياي فاعبدون } : فاعبدوني وحدي ولا تعبدوا معي غيري كما يريد منكم المشركون .
{ كل نفس ذائقة الموت } : أي لا يمنعنكم الخوف من الموت أن لا تهاجروا في سبيل الله فإِن الموت لا بد منه للمهاجرين ولمن ترك الهجرة .
{ ثم إلينا ترجعون } : أي بعد موتكم ترجعون إلى الله فمن مات في سبيل مرضاته أكرمه وأسعده ، ومن مات في معصيته أذاقه عذابه .
{ لنبوِّئنهم } : أي لنُنزلنَّهم من الجنة غرفاً تجرى من تحتها الأنهار .
{ الذين صبروا } : أي صبروا على الإِيمان والهجرة متوكلين على الله تعالى .
{ وكأيّن من دابة لا تحمل : أي لا تطيق جمعه ولا حمله لضعفها ، والله يرزقها فلا رزقها } عذر لمن ترك الهجرة خوفاً من الجوع والخصاصة .
{ وهو السميع العليم } : أي السميع لأقوال عباده العليم بنياتهم وأحوالهم وأعمالهم .
معنى الآيات :
لا شك أنه بعد ذلك التأنيب الإِلهي للمشركين وتهديدهم بالعذاب وتوعدهم بعذاب جهنم وتوبيخهم فيها على شركهم وباطلهم لا شك أن رد الفعل من المشركين هو الضغط على المؤمنين المستضعفين في مكة فأرشدهم الله تعالى إلى الهجرة من مكة إلى المدينة ليتمكنوا من عبادة الله تعالى ، فناداهم بقوله عز وجل : { يا عبادي الذين آمنوا } اي بي وبرسولي ولقائي { إن أرضي واسعة } فهاجروا فيها ، ولا ترضوا بالبقاء مع الكفر تهانون وتُلزمون بعبادة غيري من آلهة المشركين ، { فإِياي فاعبدون } لا تبعدوا معي غيري .
وعليه فهاجروا في سبيل مرضاتي ولا تخشوا موتاً ولا فقراً فإِن كل نفس ذائقة الموت هاجر صاحبها أو لم يهاجر { كل نفس ذائقة الموت } وقوله : { ثم إلينا ترجعون } ، لا محالة فمن رجع إلينا وهو مؤمن مطيع منفذ لأوامرنا مجتنب نواهينا أسعدناه ، ومن رجع غلينا وهو كافر بنا عاصٍ لنا مهمل أوامرنا مرتكب نواهينا أشقيناه . وقوله تعالى : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوِّئنهم من الجنة غُرفاً } أي لنُنزلنِّهم من الجنة دار الإِسعاد { غرفاً تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } أي لا يخرجون منها ولا يموتون فيها . هذا بيان لمن مات وهو مؤمن عامل بالصالحات ومنها الهجرة في سبيل الله . وقوله { نعم أجر } العاملين } أي ذلك الإِنزال في الغرف في الجنان هو الإِسعاد المترتب على الإِيمان والهجرة والعمل الصالح فالإِيمان والهجرة والعمل الصالح عملٌ والجنة وما فيها من النعيم أجرة ذلك العمل . وأثنى الله تعالى على الجنة فقال : { نعم أجر العاملين } ووصفهم بقوله { الذين صبروا } اي على الإِيمان والهجرة والطاعة { وعلى ربهم يتوكلون } فخرجوا من ديارهم تاركين أموالهم لا يحملون معهم زاداً كل ذلك توكُلا على ربهم وقوله تعالى : { وكأين من دابّة لا تحمل رزقها } لضعفها وعجزها أي وكثير من الجواب من الإِنسان والحيوان من يعجز حتى عن حمل طعامه أو شرابه لضعفه والله عز وجل يرزقه بما يسخر له /ن اسباب وما يهيئ له من فرض فيطعم ويشرب كالأقوياء والقادرين ، وعليه فلا يمتعنكم عن الهجرة مخافة الفاقة والفقر فالله تعالى تكفل برزقكم ورزق سائر مخلوقاته .
(3/215)
________________________________________
( وهو السميع ) لأقوالكم ( العليم ) ببواطنكم وظواهركم وأعمالكم وأحوالكم فارهبوه ولا ترهبوا سواه فإِن في طاعته السعادة والكمال وفي معصيته الشقاء والخسران .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) لا عذر لأحد في ترك عبادة الله وتوحيده فيها لأنه إن منع منها في بلد وجب عليه أن يهاجر إلى بلد آخر .
2 ) لا معنى للخوف من الموت إذا وجب العمل كالهجرة والجهاد لأن الموت حق ولا بد منه .
3 ) بيان جزاء أهل الصبر والتوكل من أهل الإِيمان والهجرة والتقوى .
4 ) لا يمنعن المؤمن من الهجرة خوفه من الجوع في دار هجرته إذ تكفل الله برزقه .
(3/216)
________________________________________
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)
شرح الكلمات :
{ ولئن سألتهم } : أي المشركين .
{ وسخر الشمس والقمر } : أي ذللهما يسيران الدهر كله لا يملان ولا يفتران .
{ فأنى يؤفكون } : أي كيف يصرفون عن الحق بعد ظهور أدلته لهم . وهو أن الخالق المدبر هو الإِله الحق الذي يجب توحيده في عبادته .
{ الله يبسط الرزق لمن يشاء } : أي يوسِّع الرزق على من يشاء من عباده امتحانا للعبد هل يشكر الله أو يكفر نعمه .
{ ويقدر له } : أي ويضيق عليه ابتلاء ليرى هل يصبر أو يسخط .
{ ولئن سألتهم من نَّزل من السماء ماءاً فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله } : إذاً يشركون به أصناماً لا تنفع ولا تضر؟ .
{ قل الحمد لله } : أي قل لهم الحمد لله على ثبوت الحجة عليكم .
{ بل أكثرهم لا يعقلون } : أي أنهم متناقضون في فهمهم وجوابهم .
{ وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو : أي يالنظر غلى العمل لها والعيش فيها فهي لهو يتلهى بها ولعب } الإِنسان ولعب يخرج منه بلا طائل ولا فائدة .
{ وإن الدار الآخرة لهي : أي الحياة الكاملة الخالدة ، ولذا العمل لها أفضل من الحيوان } العمل للدينا .
{ لو كانوا يعلمون } : أي لو علم المشركون هذا لما آثروا الدنيا الفانية على الآخرة الباقية .
معنى الآيات :
ما زال السياق في تقرير التوحيد والتنديد بالشرك وتذكير المشركين لعلَّهم يوحدون . يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم { ولئن سألتهم } اي ولئن سألت هؤلاء المشركين الذين يؤذون المؤمنين ويضطهدونهم من أجل توحيدهم لله تعالى لو سألتهم { من خلق السموات والأرض } أي من أوجدهما من العدم ، ومن سخر الشمس والقمر في فلكيهما يسيران الحياة كلها ليجيبنَّك قائلين الله . { فأنّى يؤفكون } أي كيف يصرفون عن الحق بعد ظهور أدلته إنّها حالٌ تستدعي التعجب وقوله تعالى : { الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له } هذا مظهر من مظاهر الحكمة الإِلهية والتدبير الحكيم وهو موجبٌ له الألوهية نافٍ لها عما سواه . فهذا يبسط الرزق له فيوسع عليه في طعامه وشرابه وكسائه ومركوبه ومسكنه ، وهذا يضيق عليه في ذلك لماذا؟ والجواب إنه يوسع امتحاناً للعبد هل يشكر أو يكفر ، ويضيق ابتلاءا للعبد هل يصبر أو يسخط . ولذا فلا حجة للمشركين في غناهم وفقر المؤمنين فالغنى لا يدل على رضا الله على العبد ولا على سخطه . والفقر كذلك لا يدل على سخط ولا على رضا . وقوله تعالى { إن الله بكل شيء عليم } تقرير لحكمته ورحمته وعدله وتدبيره فهو يوسع لحكمة ويضيق لحكمة لعلمه بعباده وما يصلحهم وما يفسدهم إذ من الناس من يصلحه الغنى ، ومنهم من يصلحه الفقر ، والإِفساد كذلك وقوله تعالى : { ولئن سألتهم من نزّل من السماء ماءً فأحيا به الأرض بعد موتها } أي ولئن سألت يا رسولنا هؤلاء المشركين فقلت من نزل من السماء ماء المطر فأحيا به الأرض بعد موتها بالقحط والجدب لأجابوك قائلين : الله إذاً قل لهم : الحمد لله على اعترافكم بالحق لو أنكم تعملون بمقتضاه فما دام الله هو الذي ينزل الماء ويحيى الأرض بعد موتها فالعبادة إذاً لا تنبغي إلاّ له فلِم إذاً تعبدون معه آلهةً أخرى لا تنزل ماء ولا تُحيي أرضاً ولا غيرها ، { بل أكثرهم لا يعقلون } إذ لو عقلوا ما أشركوا بربهم أحجاراً وأصناماً ولا ما تناقضوا هذا التناقض في أقوالهم وأفعالهم يعترفون بالله ربا خالقاً رازقاً مدبراً ويعكفون على الأصنام يستغيثون بها ويدعونها ويعادون بل ويحاربون من ينهاهم عن ذلك .
(3/217)
________________________________________
وقوله تعالى : { وما هذه الحياة الدنيا } أي التي أعمت الناس عن الآخرة وصرفتهم عن التزوّد لها ما هي { إلا لهو ولعب } إذ يتشاغل بها الكافر ويعمل لها الليل والنهار ثم يموت ويخرج منها صفر اليدين كالأطفال يلعبون طوال النهار ثم يعودون بلا شيء سوى ما نالهم من التعب فالواجب أن تحول غلى عمل صالح مثمر يتزود به العبد إلى آخرته إذ الآخرة هي الحيوان اي الحياة الكاملة الخالدة فلها يعمل العاملون ، وفي عملها يتنافس المتنافسون . وهذا معنى قوله تعالى : { وإن الآخرة } أي الدار الآخرة { لهي الحيوان } أي الحياة التي يجب أن نعمل لها لبقائها وخيريّتها ، وقوله : { لو كانوا يعلمون } اي نعم إذ لو علموا أن الآخرة خير لما اقبلوا على الدنيا وأعرضوا عن الآخرة ، ولكن جهلهم هو سبب إعراضهم ، فدواؤهم العلم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) التعجب من تناقض المشركين الذين يؤمنون بربوبيَّة الله ويجحدون أُلوهيته .
2 ) بيان حقيقة وهي أن الغنى والفقر لا يدلان على رضا الرب ولا على سخطه ، وإنما يدلان على علم الله وحكمته وحسن تدبيره .
3 ) بيان حقارة الدنيا وتفاهتها وعظمة الآخرة وعلو قيمتها . فلذا أحمق الناس وأشدهم سفاهة من يعمى عن الآخرة ويكفر بها ويبصر الدنيا ويؤمن بها .
(3/218)
________________________________________
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
شرح الكلمات :
{ في الفلك } : أي في السفينة .
{ مخلصين له الدين } : أي دعوا الله وحده فلم يذكروا معه غيره من الآلهة .
{ إذا هم يشركون } : أي يفاجئونك بالشرك وهو دعاء غير الله تعالى .
{ ليكفروا بما آتيناهم } : أي بنعمة الإِنجاء من الغرق وغيرها من النعم .
{ فسوف يعلمون } : أي سوف يعلمون عاقبة كفرهم إذا أُلقوا في جهنم .
{ يوتخطف الناس من حولهم } : اي يُسبون ويُقتلون في ديار جزيرتهم .
{ أفبالباطل يؤمنون } : أي يؤمنون بالأصنام وهي الباطل ، ينكر تعالى عليهم ذلك .
{ والذين جاهدوا فينا } : أي بذلوا جهدهم في تصحيح عقائدهم وتزكية نفوسهم وتهذيب أخلاقهم ثم بقتال أعداء الله من أهل الكفر المحاربين للاسلام والمسلمين .
{ لنهدينهم سبلنا } : أي لنوفقنَّهم إلى معرفة ما يوصل إلى محبتنا ورضانا ونعينهم على تحصيله .
معنى السياق :
ما زال السياق الكريم في التنديد بالمشركين وشركهم فقد تقدم في السياق أنهم يعترفون بربوبية الله تعالى إذ لو سئلوا عمن خلق السموات والأرض وسخّر الشمس والقمر لقالوا الله ول سُئلوا عمن نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها لقالوا الله . ومع هذا هم يشركون بالله آلهة وأوثاناً ، وكما يعترفون بربوبيَّة الله ثم يشركون به الأصنام ، فإِنهم إذا رَكِبوا في الفلك أي في سفينة من السفن وجاءهم موج واضطربت بهم وخافوا الغرق دعوا الله تعالى { مخلصين له الدين } أي الدعاء فسألوه وحده دون آلهتهم أن ينجيهم من الغرق . { فلما نجاهم إلى البر } ونزلوا سالمين من الغرق إذا هم يشركون يفاجئونك بالشرك فهذا التناقض منهم كالتناقض في اعترافهم بربوبيَّة الله تعالى ثم بالإِشراك به .
ومردٌّ هذا غلى الجهل والتقليد والعناد والمجاحدة والمكابرة . هذا ما دلت عليه الآية الأولى من هذا السياق وهي قوله { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } .
وقوله تعالى في الآية ( 66 ) : { ليكفروا بما آتيناهم } أي عودتهم إلى الشرك بعد نجاتهم من الغرق ونزولهم في البر كان كأ ، ه من أجل أن يكفروا بنعمة الله تعالى بإِنجائهم من الغرق ، إذ لو لم يكفروها لاستمروا على الاخلاص لله بدعائه وعبادته وحده دون الآلهة التي تركوها عند حلول الشدة ومعاينة البلاء . وقوله تعالى : { وليتمتعوا } قرئ بسكون اللام ورجح ابن جرير هذه القراءة فيكون المعنى : وليتمتعوا في دنياهم بما آتاهم الله من متاع الحياة الدنيا { فسوف يعلمون } عاقبة ذلك بعد موتهم وهي عذاب الآخرة ، والأمر حينئذ في قوله وليتمتعوا للتهديد والوعيد .
أما على قراءة اللام ولِيتمتعوا فالجملة معطوفة على قوله ليكفروا اي أخلصوا في الشدة واشركوا في الرخاء ليكفروا وليتمتعوا بما أُوتوا في الحياة ، ولم يكن ذلك بنافعهم ولا بمغن عنهم من الله شيئاً فسوف يعلمون ما يحل بهم من عذاب وما ينزل بهم من بلاء وشقاء .
(3/219)
________________________________________
وقوله تعالى في الآية الثالثة ( 67 ) { أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطّف الناس من حولهم } أي ألم ير أُولئك المشركون الكافرون بنعمة الله في الإِنجاء من الغرق نعمة أخرى وهي أن جعل الله تعالى لهم حرما آمنا يسكنونه آمنين من غارات الأعداء وحروب الظالمين المعتدين ، لا يعتدي عليهم في حرمهم ولا يظلمون في حين أنّ الناس من حولهم في أطراف جزيرتهم وأوساطها يتخطفون فتُشنُّ عليهم الغارات ويقتَّلون ويؤسرون في كل وقت وحين ، أليست هذه نعمة من أعظم النعم تستوجب شكرهم لله تعالى بعبادته وترك عبادة ما سواه . ولذا قال تعالى عاتباً عليهم مندداً بسلوكهم : { أفبالباطل يؤمنون } اي بالشرك وعبادة الأصنام يصدقون ويعترفون { وبنعمة الله يكفرون } أي يجحدون إنعام ربهم عليهم فلا يشكرونه بعبادته وتوحيده فيها . وقوله تعالى في الآية الرابعة ( 68 ) رومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه } وصفهم بالظلم الفظيع في حالتين الأولى في كذبهم على الله بتحريم ما أحل وتحليل ما حرم واتخاذ شركاء الله زاعمين أنها تشفع لهم عند الله عز وجل والثانية في تكذيبهم للحق الذي جاءهم به رسول الله وهو الدين الإسلامي بعقائده وشرائعه حيث كذبوا بالقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم . وبعد هذا التسجيل لأكبر ظلم عليهم قال تعالى : { أليس في جهنم مثوى للكافرين } ؟ والاستفهام للتقرير اي إن في جهنم مثوى أي مسكناً للكافرين من أمثالهم وهم كافرون ظالمون وذلك جزاؤهم ولبئس الجزاء جهنم .
وقوله تعالى في الآية الخامسة ( 69 ) { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين } في هذه الاية بشرى سارة ووعد صدق كريم ، وذلك أن من جاهد في سبيل الله اي طلبا لمرضاة الله بالعمل على إعلاء كلمته بأن يعبد معه سواه فقاتل المشركين يوم يؤذن له في قتالهم يهديه الله تعالى أي يوفقه إلى سبيل النجاة من المرهوب والفوز بالمحبوب ، وكل من جاهد في ذات الله نفسه وهواه والشيطان وأولياءه فإِن هذه البشرى تنله وهذا الوعد ينجز له وذلك أن الله مع المحسنين بعونه ونصره وتأييده على من جاهدوهم في سبيل الله ، والمراد من المحسنين الذين يحسنون نياتهم وأعمالهم وأقوالهم فتكون صالحة مثمرة لزكاة نفوسهم وطارة أرواحهم . اللهم اجعلنا منهم وآتنا ما وعدتهم إنك جواد كريم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) بيان أن مشركي العرب لم يكونوا ملاحدة لا يؤمنون بالله تعالى وتقرير أنهم كانوا موحدين توحيد الربوبية مشركين في توحيد الألوهية اي العبادة .
2 ) إيقاظ ضمائر المشركين بتنبيههم بنعم الله تعالى عليهم لعلهم يشكرون .
3 ) لا ظلم أعظم من ظلم من افترى على الله الكذب ، وكذَّب بالحق لما جاءه وانتهى غليه وعرفه فانصرف عنه مؤثراً دنياه متبعا لهواه .
4 ) بشرى الله لمن جاهد المشركين وجاهد نفسه والهوى والشياطين بالهداية إلى سبيل الفوز والنجاة في الحياة الدنيا والآخرة .
5 ) فضل الإِحسان وهو إخلاص العبادة لله تعالى وأداؤها متقنة مُجوَّدة كما شرعها الله تعالى ، وبيان هذا الفضل للإِحسان بكون الله تعالى مع المحسنين بنصرهم وتأييدهم والإِنعام عليهم وإكرامهم في جواره الكريم .
(3/220)
________________________________________
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
شرح الكلمات :
{ آلم } : هذه أحد الحروف المقطعة تكتب آلم ، وتقرأ ألف ، لام ، ميم .
{ غُلبت } : أي غلبت فارس الروم .
{ الروم } : إسم رجل هو روم بن عيصو بن اسحق بن إبراهيم سميّت به قبيلة لأنه جدها .
{ في أدنى الأرض } : أي أقرب أرض الروم إلى فارس وهي أرضٌ يقال لها الجزيرة « بين دجلة والفرات » .
{ وهم من بعد غلبهم سيغلبون } : أي وهم أي الروم من بعد غلب فارس لهم سيغلبونها .
{ في بضع سنين } : أي في فترة ما بين الثلاث سنوات إلى تسع سنين .
{ لله الأمر من قبل ومن بعد } : أي الأمر في ذلك اي في غلب فارس أولاً ثم في غلب الروم أخيراً لله وحده إذ ما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن .
{ ويومئذ يفرح المؤمنون } : أي ويوم تَغلِب الروم فارسا يفرح المؤمنون بنصر أهل الكتاب على المشركين عبدة النار ، وبنصرهم هم على المشركين في بدر .
{ وعد الله } : أي وعدهم الله تعالى وعداً وأنجزه لهم .
{ لا يخلف الله وعده } : أي ليس من شأن الله خلف الوعد وذلك لكمال قدرته وعلمه .
{ ولكن أكثر الناس لا يعلمون } : كمال الله في قدرته وعلمه المستلزم لإِنجاز وعده .
{ يعلمون ظاهراً من الحياة : أي لا يعلمون حقائق الإِيمان وأسرار الشرع وإنما الدنيا } يعلمون ما ظهر من الحياة الدنيا كطلب المعاش من تجارة وزراعة وصناعة .
{ وهم عن الآخرة هم غافلون } : أي عن الحياة الآخرة ، وما فيها من نعيم وجحيم وما يؤدي إلى ذلك من عقائد وأفعال وتُروك .
معنى الايات :
قوله تعالى : { آلم } : أحسن أوجه التفسير لمثل هذه الحروف القول بأن الله اعلم بمراده به ، مع الإِشارة إلى أنه أفاد فائدتين الأولى أن هذا القرآن المؤلف من مثل هذه الحروف المقطعة قد عجز العرب على تاليف مثله فدل ذلك على أنه وحي الله وتنزيله ، وأن من نزل عليه نبي الله ورسوله وأن ما يحمل من تشريع هو حاجة البشرية ولا تصلح ولا تكمل ولا تسعد إلا به وعليه ، والثانية أنهما لما كان المشركون يمنعون من سماع القرآن مخافة تاثيره على المستمه له جاء تعالى بمثل هذه الفواتح للعديد من سور كتابه فكانت تضطرهم إلى الاستماع إليه لأن هذه الحروف لم تكن معهودة في مخاطباتهم .
وقوله تعالى : { غُلبت الروم } : اي غَلَبت فارس الروم في رأدنى الأرض } أي أرض الشام الأقرب إلى بلاد فارس وذلك في أرض الجزيرة الواقعة بين نهري دجلة والفرات وقولهك { وهم من بعد غلبهم سيغلبون } أي وهم من بعد غلب فارس الروم ستغلب الروم فارساً وقوله : { في بضع سنين } : أي في فترة زمانية ما بين الثلاث سنوات إلى تسع سنوات وقوله { لله الأمر من قبل ومن بعد } أي الأمر في ذلك لله تعالى من قبل الغلب ومن بعده إذ هو المتصرف في خلقه .
(3/221)
________________________________________
وقوله { ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله } اي ويوم يَغلِب الروم فارساً يفرح المؤمنون بانتصار الروم على فارس لأن الروم أهل كتاب وفارساً مشركون يعبدون النار ، كما يفرح المؤمنون أيضاً بانتصارهم على المشركين في بدر إذ كان القوت الذي انتصرت فيه الروم وهو وقت انتصر فيه المؤمنون على المشركين في بدر .
وهذا من الغيب الذي أخبر به القرآن قبل وقوعه فكان كما أخبر فأكد بذلك أن الإِسلام وكتابه ورسوله حق . وقوله تعالى : { ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم } أي ينصر تعالى من يشاء نصره من عباده وقد شاء نصر المؤمنين والروم فنصرهم في وقت واحد منجزاً بذلك وعده الذي واعد به منذ بضع سنين ، وهو العزيز أي الغالب على أمره القادر على إنجاز وعده الرحيم بأوليائه وصالحي عباده . وقوله ولكن { يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا } كتدبير الله وقدرته وعزته وفوائد شرعه وأسرار دينه ، ولكن يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا كتدبير معايشهم من زراعة وصناعة وتجارة ، وفي نفس الوقت هم عن الحياة الآخرة غافلون عما يجب عليهم فعله وتركه ليسعدوا فيها بالنجاة من النار وسكنان الجنان في جوار الرحمن سبحانه وتعالى .
هداية الآيات :
من هداية الايات :
1 ) تقرير صحة الإِسلام وأنه الدين الحق بِصِدْقِ ما يخبر به كتابه من الغيوب .
2 ) بيان أهل الكتاب من يهود ونصارى أقرب إِلى المسلمين من المشركين والملاحدة من بلاشفة شيوعيين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر .
3 ) بيان أكثر الناس لا يعلمون ما يسعدهم في الآخرة ويكملهم من العقائد الصحيحة والشرائع الحكيمة الرحيمة التي لا يكمل الإِنسان ولا يسعد إلا عليها ، ويعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا كتدبير المعاش من زراعة وصناعة وتجارة ، أما عن سر الحياة الدنيا ولماذا كانت فهم لا يعلمون شيئا كما هم عن الحياة الآخرة غافلون بالمرة فلا يبحثون عما يسعد فيها ولا عما يشقي . والعياذ بالله تعالى من الغفلة عن دار البقاء في السعادة أو الشقاء .
(3/222)
________________________________________
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
شرح الكلمات :
{ في أنفسهم } : أي كيف خُلقوا ولم يكونوا شيئا ، ثم كيف اصبحوا رجالا .
{ إلا بالحق } : أي لم يخلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق الذي هو العدل .
{ وأجل مسمى } : وهو نهاية هذه الحياة لتكون الحياة الثانية حياة الجزاء العادل .
{ بلقاء ربهم لكافرون } : اي بالبعث والوقوف بين يدي الله ليسألهم ويحاسبهم ويجزيهم .
{ وأثاروا الأرض وعمروها } : قلبوها للحرث والغرس والإِنشاء والتعمير .
{ وعمروها } : أي عمروا الأرض عمارة أكثر مما عمرها هؤلاء المشركون .
{ وجاءت رسلهم بالبينات } : أي بالدلائل والحجج والبراهين من المعجزات وغيرها .
{ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } : أي بتكذيبهم وشركهم ومعاصيهم فعرضوا أنفسهم للهلاك .
{ أساءوا السوأى } : أي بالتكذيب والشرك والمعاصى والسوءى هي الحالة الأسوأ .
{ أن كذبوا بآيات الله } : أي بتكذيبهم بآيات الله القرآنية واستهزائهم بها .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في دعوة المنكرين للبعث الآخر إلى الإِيمان به من طريق ذكر الأدلة العقلية التي تحملها الآيات القرآنية فقوله تعالى { أو لم يتفكروا في أنفسهم } أي أيُنكرون البعث ولم يتفكروا في أنفسهم كيف كانوا عدماً ثم وجدوا أطفالاً ثم شبابا ثم رجالا كهولا وشيوخا يموتون أليس القادر على خلقهم وتربيتهم إماتهم قادر على بعثهم وحسابهم ومجازاتهم على كسبهم في هذه الحياة الدنيا وقوله تعالى { ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إِلا بالحق وأجل مسمى } أي لم يخلقهما عبثاً بل خلقهما ليّذكر ويُشكر ، ثم إذا تم الأجل المحدد لهما افناهما ثم بعدث عبادة ليحاسبهم هل ذكروا وشكروا أو تركوا ونسوا وكفروا ثم يجزيهم بحسب إيمانهم وطاعتهم أو كفرهم وعصيانهم .
وقوله تعالى : { وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون } يخبر تعالى أنه مع ظهور الأدلة وقوة الحجج على صحة عقيدة البعث والجزاء فإِن كثيراً من الناس كافرون بالبعث والجزاء وقوله تعالى في الآية ( 9 ) { أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } اي أيكذِّب اولئك المشركون بالبعث والجزاء ولم يسيروا في الأرض شمالا وجنوبا فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم هلاكاً ودماراً ، { كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض } بالإِنشاء والتعمير والزراعة والفلاحة { وعمروها } عمارة أكثر مما عَمَرها هؤلاء ، { وجاءتهم رسلهم بالبيّنات } ، ولما أهلكهم لم يكن ظالماً لهم بل كانوا هم الظالمين نفسهم . الس في هذا دليلا على حكمة الله وعلمه وقدرته فكيف ينكر عليه بعثه لعباده يوم القيامة لحسابهم ومجازاتهم؟ .
وقوله تعالى { ثم كان عاقبة الذين أساءوا } اي الأعمال فلم يصلحوها حيث كذَّبوا برسل الله وشرائعه . وقوله : { السوأى } أي عاقبة الذين أساءوا السُّوأى أي العاقبة السوأى وهو خسرانهم وهلاكهم ، وقوله رأن كذبوا بآيات الله } أي من أجل أنهم كذبوا بآيات الله { وكانوا بها يستهزئون } وأصروا على ذلك ولم يتوبوا .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة العقلية المثبتة لها .
2 ) كفر أكثر الناس بالبعث مع كثرة الأدلة وقوتها .
3 ) مشروعية السير في الأرض للاعتبار مع اشتراط عدم حصول إثم في ذلك بترك واجب أو بفعل محرم .
4 ) بيان جزاء الله العادل في أنَّ عاقبة الإِساءة السوأى .
5 ) كفر الاستهزاء بالشرع وأحكامه والقرآن وآياته .
(3/223)
________________________________________
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
شرح الكلمات :
{ ثم إليه ترجعون } : أي بعد إعادة الخلق وبعث الناس .
{ يُبلس المجرمون } : أي ييأسوا من النَّجاة وتنقطع حجتهم فلا يتكلمون .
{ وكانوا بشركائهم كافرين } : أي يتبرَّءون منهم ولا يعترفون بهم .
{ يتفرَّقون } : أي ينقسمون إلى سعداء أصحاب الجنة وأشقياء أصحاب النار .
{ في روضة يحبرون } : أي في روضة من رياض الجنة يُسرَّون ويفرحون .
{ في العذاب محضرون } : أي مُدخلون لا يخرجون منه .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة وعرض صور حية صادقة لما يتم بعد البعث من جزاء ، فقوله تعالى { الله يبدأ الخلق يم يُعيده ، ثم غليه ترجعون } إعلان واضح صريح قاطع للشك مزيلٌ للَّبس بأن الله ربُّ السموات والأرض وما بينهما هو الذي بدأ الخلق فخلق ما شاء ثم يميته ثم يعيده ، وإليه لا إلى غيره ترجع الخليقة كلها راضية أو ساخطة محبّة أو كارهة ، هكذا قرر تعالى عقيدة البعث والجزاء مُدلالاً عليها بأقوى دليل وهو وجوده تعالى وقدرته التي لا تُحد وعلمه الذي أحاط بكل شيء وحكمته التي لا يخلو منها عمل ، فقال { الله يبدا الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون } .
وقوله عز وجل في الآية الثانية عشر ( 12 ) { ويوم تقوم الساعة يُبلسُ المجرمون } هذا عرض لما بعد البعث فذكر أنه لمَّا تقوم الساعة ويُبعث الناس يُبلس المجرمون أي يياسون من الرحمة وينقطعون عن الكلام لعدم وجود حجة يحتجون بها . وقوله { ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء } أي ولم يكن لهم من يشفع لهم من شركائهم الذين عبدوهم بحجة أنهم يشفعون لهم عند الله ، فايسوا من شفاعتهم وكفروا بهم أيضاً أي أنكروا أنهم كانوا يعبدونهم خوفا من زيادة العذاب . هذه حال المجرمين الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك والمعاصي ، الحامل عليها تكذيبهم بآيات الله ولقائه . وقوله تعالى { ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون } هذا عرض آخر يخبر تعالى أنه إذا قامت الساعة تفرق الناس على أنفسهم فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير ، وبين ذلك مقرونا بعلله فقال : { فأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي صدَّقوا بالله ربّاً وإلهاً وبمحمد رسولاً وبالإِسلام دينا لا دين يقبل غيره وبالبعث والجزاء حقاً . { وعلموا الصالحات } اي عبدوا الله تعالى بما شرع لهم من العبادات إذ الصالحات هي المشروع من الطاعات القولية والفعلية فهؤلاء المؤمنون العاملون للصالحات { فهم في روضة } من رياض الجنة { يحبرون } اي يُسرُّون ويفرحون بما لاقُوه من الرضوان والنعيم المقيم ، وذلك بفضل الله تعالى عليهم وبما هداهم إليه من الإِيمان ، وما وفقهم إليه من عمل الصالحات . وقوله : { وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون } فقد اخبر عن جزائهم مقروناً بعلة ذلك الجزاء وهو الكفر بتوحيد الله تعالى ، والتكذيب بالآيات القرآنية وما تحمله من حجج وشرائع وأحكام ، وبلقاء الآخرة وهو لقاء الله تعالى بعد البعث للحساب والجزاء ، فجزاؤهم أن يحضروا في العذاب دائماً وابداً لا يغيبون عنه ، ولا يفتر عنهم ، وهم فيه خالدون .
هداية الآيات :
{ من هداية الآيات :
1 ) تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة وعرض مشاهد القيامة .
2 ) تقرير عقيدة أن لا شفاعة لمشرك ولا كافر يوم القيامة ، وبطلان ما يعتقده المبطلون من وجود من يشفع لأهل الشرك والكفر .
3 ) تقرير مبدأ السعادة والشقاء يوم القيامة فأهل الإِيمان والتقوى في روضة يحبرون ، وأهل الشرك والمعاصي في العذاب محضرون .
(3/224)
________________________________________
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
شرح الكلمات :
{ فسبحان الله } : أي سبحوا الله أي صلوا .
{ حين تمسون } : أي تدخلون في المساء وفي هذا الوقت صلاة المغرب وصلاة العشاء .
{ وحين تصبحون } : وتدخلون في الصباح وفيه صلاة الصبح .
{ وله الحمد في السموات والأرض } : أي وهو المحمود دون سواه في اسلموات والأرض .
{ وعشيا } : أي حين تدخلون في العشي وفيه صلاة العصر .
{ وحين تظهرون } : أي تدخلون في الظهيرة وفيه صلاة الظهر .
{ ويخرج الحي من الميت } : أي يخرج الإِنسان الحي من النطفة وهي ميتة .
{ ويخرج الميت من الحي } : أي يخرج النطفة من الإِنسان الحي والبيضة الميتة من الدجاجة الحيّة .
{ ويحي الأرض بعد موتها } : أي يحييها بالمطر فتحيا بالنبات بعدما كانت يابسة ميتة .
{ وكذلك تخرجون } : أي من قبوركم أحياء بعدما كنتم ميتين .
{ ومن آياته } : أي ومن أدلة قدرته وعلمه وحكمته المقتضية لبعثكم بعد موتكم .
{ أن خلقكم من تراب } : أي خلقه غياكم من تراب ، وذلك بخلق آدم الب الأول .
{ تنتشرون } : أي في الأرض بشراً تعمرونها .
{ لتسكنوا إليها } : أي لتسكن نفوسكم إلى بعضكم بعضاً بحكم التجانس في البشرية .
{ وجعل بينكم مودة } : أي محبة ورحمة اي شفقة إذ كل من الزوجين يحب الآخر ويرحمه .
معنى الآيات :
قوله سبحانه وتعالى في هذه السياق : { فسبحان الله . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . } الآية لما بين تعالى بدء الخلق ونهايته باستقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار وهذا عمل يستوجب تنزيهه تعالى عما لا يليق بجلاله وكماله كما يستلزم حمده ، ولما كانت الصلوات الخمس تشتمل على ذلك أمر بإقامتها في المساء والصباح والظهيرة والعشيّ فقال تعالى { فسبحان الله } اي سبحوا الله { حين تمسون } اي تدخلون في المساء وهي صلاة المغرب والعشاء { وحين تصبحون } اي تدخلون في الصباح وهي صلاة الصبح . وقوله تعالى { وله الحمد في السموات والأرض } يخبر تعالى أن له الحمد مستحقا له دون سائر خلقه في السموات والأرض . وقوله { وعشيِّاً } معطوف على قوله { حين تصبحون } أي وسبحوه في العشي . وهي صلاة العصر { وحين تظهرون } اي وسبحوه حين تدخلون في الظهيرة وهي صلاة الظهر .
وقوله تعالى { يخرج الحي من الميت } اي ومن مظاهر الجلال والكمال الموجبة لحمده وطاعته والمقتضية لقدرته على بعث عباده ومحاسبتهم ومجازاتهم أنه يخرج الحيَّ كالإِنسان من النطفة والطير من البيضة والمؤمن من الكافر { ويخرج الميت من الحي } كالنطفة من الإِنسان والبيضة من الدجاجة وسائر الطيور التي تبيض . وقوله { ويحيي الأرض بعد موتها } اي ومن مظاهر وجوده وقدرته وعلمه ورحمته ايضاً أنه يُحيي الرض أي بالمطر بعد موتها بالجدب والقحط فإِذا هي رابية تهتز بأنواع النباتات والزروع وقوله : { وكذلك تخرجون } اي وكإِخراجه الحيّ من الميت والميّت من الحي وكإِحيائه الأرض بعد موتها : يُحييكُم ويخرجكم من قبوركم للحساب والجزاء إذ القادر على الأول قادر على الثاني . ولا فرق .
(3/225)
________________________________________
وقوله تعالى : { ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون } اي ومن آياته الدالة على وجوده وعلمه وقدرته المستوجبة لعبادته وحده والمقررة لقدرته على البعث والجزاء خَلْقُه للبشرية من تراب إذ خلق اباها الأول آدم عليه السلام من تراب ، وخلق حواء زوجه من ضلعه ثم خلق باقي البشرية بطريقة التناسل . فإِذا هي كما قال سبحانه وتعالى : بشر ينتشرون في الأرض متفرقين في أقطاهرا يعمرونها بإِذنه تعالى . وقوله تعالى : { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها } اي ومن ىياته اي حججه وأدلته الدالة على وجوده وعلمه ورحمته المستوجبة لعبادته وتوحيده فيها والدالة ايضاً على قدرته على البعث والجزاء خلقه لكم ايها الناس من انفسكم اي من جنسكم الآدمي أزواجاً اي زوجات لتسكنوا غليها بعامل التجانس ، إذ كل جنس من المخلوقات يطمئن إلى جنسه ويسكن غليه ، وقوله { وجعل بينكم مودة ورحمة } اي جعل بين الزوجين مودة اي محبة ورحمة أي شفقة إلا إذا ظلم أحدهما الآخر فإِن تلك المودة وتلك الرحمة قد ترتفع حتى يرتفع الظلم ويسود العدل والحق . وقوله تعالى : { إن في ذلك لآيات } اي دلائل وحجج واضحة { لقوم يتفكرون } باستعمال عقولهم في النظر والفكر فإِنهم يجدون تلك الأدلة على قدرة الله وعلمه ورحمته وكلها مقتضية لتوحيد الله ومحبته وطاعته بفعل محابه وترك مساخطه ، مع تقرير عقيدة البعث والجزاء التي أنركها المجرمون المكذبون .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) وجوب تنزيه الله عن كل مالا يليق بجلاله وكماله .
2 ) وجوب حمد الله على آلائه وإنعامه .
3 ) وجوب إقام الصلاة .
4 ) بيان أوقات الصلوات الخمس .
5 ) بيان مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه ورحمته المقتضية لتوحيده والمقررة لعقيدة البعث والجزاء .
(3/226)
________________________________________
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
شرح الكلمات :
{ ومن آياته } : أي حججه وبراهينه الدالة على قدرته على البعث والجزاء .
{ واختلاف ألسنتكم } : أي لغاتكم من عربية وعجمية والعجمية بينها اختلاف كثير .
{ وألوانكم } : أي من ابيض وأصفر وأحمر وأسود والكل أبناء رجل واحد وامرأة واحدة .
{ للعالمين } : أي للعقلاء على قراءة للعالمين بفتح اللام ، ولأولي العلم على قراءة كسر اللام .
{ وابتغاؤكم من فضله } : أي طلبكم الرزق باحضار أسبابه من زراعة وتجارة وصناعة وعمل .
{ لقوم يسمعون } : أي سماع تدبر وفهم وإدراك لا مجرد سماع الأصوات .
{ يريكم البرق خوفاً وطمعاً } : أي إراءته إياكم البرق خوفاً من اصواعق والطوفان وطمعاً من المطر .
{ أن تقوم السماء والأرض : أي قيام السماء والأرض على ما هما عليه منذ نشأتهما بأمره } بقدرته وتدبيره .
{ دعوة من الأرض } : أي دعوة واحدة لا تتكرر وهي نفخة اسرافيل .
{ إذا أنتم تخرجون } : اي من قبوركم أحياء للحساب والجزاء .
معنى الآيات :
ما زال السياق في تقرير عقيدة التوحيد والبعث والجزاء بذكر الدلة والبراهين العقلية فقوله تعالى : { ومن آياته } اي حججه الدالة على قدرته على البعث والجزاء وعلى وجوب توحيده { خلق السموات والأرض } فَخلْقُ بمعنى إِيجاد السموات والأرض وما فيهما وما بينهما من اكبر الأدلة وأقواها على وجود اللهوقدرته وعلمه وحكمته وكلها موجبة لتوحيده ومثبتة لقدرته على البعث والجزاء ، مقررة له ، وقوله : { واختلاف ألسنتكم } أي لغاتكم من عربية وعجمية ولهجاتكم بحيث لكل ناطق لهجة تخصه يتميز بها إذا سمع صوته عرف بها منبين بلايين البشرن { وألوانكم } واختلاف ألوانكم أيها البشر من أبيض إلى اسود ومن احمر غلى اصفر مع اختلاف الملامح واسمات بحيث لا يوجد اثنان من ملايين البشر لا يختلف بعضهما عن بعض حتى لا يتميز أحدهما عن الآخر إن في هذا وذاك { لآيات للعالمين } أي لحججا ظاهرة وبراهين قاطعة بعضها للعالمين وذلك البياض والسواد وبعضها للعلماء كاختلاف اللهجات وملامح الوجوه والسمات المميزة الدقيقة والكل أدلة على قدرة الله وعلمه ووجوب عبادته وتوحيده في ذلك مع تقري عقيدة البعث والجزاء .
وقوله { ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله } أي ومن آياته الدالة على قدرته على البعث والجزاء منامكم بالليل فالنوم كالموت والانتشار في النهار لطلب الرزق كالبعث بعد الموت فهذه عملية للبعث بعد الموت تتكرر كل يوم وليلة في هذه الحياة الدنيا ، وقوله { إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون } اي في ذلك المذكور من النوم والانتشار لطلب الرزق لدلائل وحجج على قدرة الله على البعث لقوم يسمعون نداء الحق والعقل يدعوهم غلى الإِيمان بالبعث والجزاء فيؤمنون فيصبحون يعملون للقاء ربهم ويستجيبون لكل من يدعوهم إلى ربهم ليعبدوه ويتقربوا إليه .
وقوله تعالى في الآية الثالثة 024 ) { ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً } اي ومن حججه تعالى الدالة على قدرته وعلمه وحكمته ورحمته وهي مقتضيات توحيده والإِيمان بلقائه إراءته إيّاكم ايها الناس البرق خوفاً للمسافرين من الأمطار الغزيرة ومن الصواعق الشديدة أن تصيبهم ، وطمعاً في المطر الذي تحيا به مزارعكم وتنبت به ارضكم فيتوفر لكم اسباب رزقكم ، وقوله : { وينزل من المساء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها } أي ومن آياته تنزيله تعالى من السماء ماءً وهو ماء المطر فيحيي به الأرض بالنباتات والزروع بعد ان كانت ميتة لا يحاة فيها لا زرع ولا نبت إن في ذلك المذكور من غنزال الماء وإحياء الأرض بعد غراءته عباده البرق خوفاً وطمعاً لآيات دلائل وحجج على قدرته على البعث والجزاء ولكن يرى تلك الدلائل ويعقل ويفهم تلك الحجج قوم يعقلون اي لهم عقول سليمة يستعملونها في النظر والاستدلال فيفهمون ويؤمنون .
(3/227)
________________________________________
وقوله تعالى : { ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره } أي ومن ىياته تعالى الدالة على قدرته وعلمه وحكمته والموجبة لتوحيده والمقررة لنبوة نبيه ولقائه للحساب والجزاء قيام السماء والأرض منذ خلقهما فلا السماء تسقط ، ولا ارض تغور فهما قائمتان منذ خلقهما بأمره تعالى اليس في ذلك أكبر دليل على قدرة الله تعالى على بعث الناس بعد موتهم أحياء لحسابهم على كسبهم ومجازاتهم .
وقوله تعالى : { ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون } أي اقام السماء والأرض للحياة الدنيا يحيي فيهما ويميت حتى تنتهي المدة المحددة للحياة فيهلك الكل ويفنيه { ثم إذا دعاكم دعوة } بِنَفْخِ اسرافيل في الصور { إذا أنتم تخرجون } من الأرض استجابة لتلك الدعوة ، وذلك للحساب والجزاء العادل على العمل في هذه الحياة الدنيا .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) بيان مظاهر قدرة الله تالى وعلمه وحكمته ورحمته الموجبة لعبادته وحجه وترك عبادة من سواه .
2 ) مشروعية طلب الرزق بالمشي في الأرض واستعمال الوسائل المشروعة لذلك .
3 ) تقرير أن الذين ينتفعون بأسماعهم وعقولهم هم أهل حياة الإِيمان إذ الإِيمان روح متى دخلت جسما حَيِي وأصبح صاحبه يسمع ويبصر ويفكر ويعقل .
4 ) تقرير عقيدة البعث والجزاء التي عليها مدار الإِصلاح البشري بعد عقيدة الإِيمان بالله ربّاً وإلهاً .
(3/228)
________________________________________
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
شرح الكلمات :
{ وله من في السموات والأرض } : أي خلقا ولكا وتصرفا وعبيداً .
{ كل له قانتون } : أي كل من في السموات والأرض من الملائكة والإِنس والجن منقادون له تجري عليهم أحكامه كما أرادها فلا يتعطل منها حكم .
{ وهو أهون عليه } : أي ايسر واسهل نظراً إلى أن الاعادة أسهل من البداية .
{ وله المثل الأعلى } : أي الوصف الأعلى في كل كمال فصفاته كلها عليا ومنها الوحدانية .
{ وهو العزيز الحكيم } : أي الغالب على أمره الحكيم في قضائه وتصرفه .
{ ضرب لكم مثلا } : أي جعل لكم مثلا .
{ من انفسكم } : أي منتزعا من أموالكم وما تعرفونه من أنفسكم .
{ كخيفتكم } : أي تخوفكم من بعضكم بعضاً ايها الأحرار .
{ نفصل الايات } : أي نبينها بتنويع الأسلوب وإيراد الحجج وضرب الأمثال .
{ بل اتبع الذين ظلموا : أي ليس الأمر قصوراً في البيان حتى لم يؤمن أهواءهم } المشركون وإنما العلة اتباع المشركين لأهوائهم وتجاهل عقولهم .
{ فمن يهدي من أضل الله } : أي لا أحد فالاستفهام للنفي .
معنى الآيات
ما زال السياق الكريم في تقرير قدرة الله تعالى على البعث الذي أنكره المشركون بذكر الأدلة العقلية وتصريف الايات فقال تعالى { وله } اي لله المحى والمميت الوارث الباعث سبحانه وتعالى { من في السموات والأرض } أي من ملائكة وجان وغنسان فهو خلقهم وهو يملكهم ويتصرف فيهم . وقوله : { كل له قانتون } اي مطيعون منقادون فالملائكة لا يعصونه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، والجن والإِنس منقادون لما اراده منهم من حياة وموت ونشور وأمّا عصيانهم في العبادات فهو غير مقصود لأنه التكليف الذي هو علة الحياة كلها ومع هذا فهم منفذون باختيارهم واراداتهم الحرة ما كتبه عليهم أزلا والله اكبر ولله الحمد وقوله تعالى : { وهو الذي يبدا الخلق ثم يعيده } اي هو الله الذي يبدا خلق ما أراد خلقه في كل يوم وساعة من غير شيء ويهبه الحياة ثم يسلبها منه في آجال سماها ثم يعيده يوم القيامة أحب الناس أم كرهوا . وقوله { وهو أهون عليه } اي الإِعادة ايسر واسهل عليه فليس على الله شيء صعب ولا شاق ولا عزيز ممتنعن وإنما خرج الخطاب على اسلوب المتعجبين من إعادة الخلق بعد فنائه فأعلمهم أن المتعارف عليه عندهم أن الإِعادة اسهل من البداءة ليفهموا ويقتنعوا ، وغلا فلا شيء صعب على الله تعالى ولا شاق ولا عسير ، إذ هو يقول للشيء متى اراده كن فيكون . وقوله تعالى { وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم } وله أي لله سبحانه وتعالى الوصف الأكمل في السموات والأرض وهو الألوهية والوحدانية فهو الرب الذي لا إله إلا هو المعبود في السماء والأرض لا إله إلا هو فيهما ولا ربّ غيره لهما وهو العزيز الغالب المنتقم ممن كفر به وعصاه الحكيم في تدبيره وتصريفه لشؤون خلقه .
(3/229)
________________________________________
وقوله تعالى { ضرب لكم مثلاً من أنفسكم } اي جعل لكم مثلا مأخوذاً منتزعاً من أنفسكم وهو : { هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء } اي انه ليس لكم من مماليككم وعبيدكم شريك منهم يشارككم في أموالكم إذ لا ترضون بذلك ولا تقرونه ابداً ، إذاً فكذلك الله تعالى لا يرضى أن يكون من عبيده من هو شريك له في عبادته التي خلق كل شيء من اجلها . . وقوله { تخافونهم كخيفتكم أنفسكم } أي تخافون عبيدكم كما تخافون بعضكم بعضا أيها الأحرار ، اي لا يكون هذا منكم ولا ترضون به إذاً فالله -وله المثل الأعلى- كذلك لا يرضى ابداً أن يكون مخلوق من مخلوقاته ملكاً كان أو نبيّاً أو وثنا أو صنماً شريكا له في عباداته . ، وقوله : { كذلك نفصل الايات } اي نبيّنها بتنويع الأساليب وضرب الأمثال { لقوم يعقلون } إذ هم الذين يفهمون معاني الكلام وما يراد من أخباره وقصصه وأمثاله وأوامره نواهيه . ، وقوله تعالى { بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم } اي ليس الأمر قصوراً في الأدلة ولا عدم وضوح في الحجج وإنما الظالمون اتبعوا أهواءهم اي ما يهوونه ويشتهونه بغير علم من نفعة وجدواه لهم فضلوا لذلك . فمن يهديهم ، وقد اضلهم الله حسب سنته في الإِضلال . وهو معنى قوله تعالى : { فمن يهدي من أضل الله } ؟ أي لا أحد وقوله { وما لهم من ناصرين } أي يهدونهم بعد ان أضلّهم الله ، والعياذ بالله تعالى .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) تقرير عقيدة البعث والتوحيد بذكر الأدلة وضرب الأمثال وتفصيل الآيات .
2 ) تَفَرُّدُ الربّ تعالى بالمثل العلى في كل جلال وكمال .
3 ) استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأفهام .
4 ) عظم فائدة هذا المثل { ضرب لكم مثلا من أنفسكم الاية } حتى قال بعضهم : فَهْمُ هذا المثل أفضل من حفظ كذا مسألة فقهيّة .
5 ) علَّة ضلال الناس اتباعهم لأهوائهم بغير علم وبانصرافهم عن الهدى بالاسترسال في اتباع الهوى .
(3/230)
________________________________________
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
شرح الكلمات :
{ فأقم وجهك للدين حنيفا } : أي سدد وجهك يا سرولنا للدين الإِسلامي بحيث لا تنظر إلا إِليه .
{ حنيفا } : أي مثلا عن سائر الأديان إليه ، وهو بمعنى مقبلاً عليه .
{ فطرة الله } : أي صنعة الله التي صنع عليها الإِنسان وهي قابليته للإِيمان بالله تعالى .
{ لا تبديل لخلق الله } : أي لا تعملوا على تغيير تلك القابلية للإِيمان والتوحيد فالجملة خبرية لفظاً انشائية معنى .
{ الدين القيم } : أي المستقيم الذي لا يضل الآخذ به .
{ منيبين إليه } : أي راجعين إليه تعالى بفعل محابه وترك مكارهه .
{ وكانوا شيعا } : أي طوائف وأحزاباً كل فرقة فرحة بما هي عليه من حق وباطل .
معنى الآيات :
لما قرر تعالى عقيدة التوحيد والبعث والجزاء بالأدلة وضمن ذلك عقيدة النبوة وإثباتها للنبيّ صلى الله عليه وسلم أمر رسوله والمؤمنون تبع له فقال { فأقم وجهك للدين حنيفاً } اي أنصبوا وجوهكم ايها الرسول والمؤمنون للدين الحق دين الإِسلام القائم على مبدأ التوحيد والعمل الصالح ، فلا تلتفتوا إلى غيره من الأديان المنحرفة الباطلة . وقوله { فطرة الله التي فطر الناس عليها } اي اقيموا وجوهكم للدّين الحق الذي فطر الله الإِنسان عليه تلك الفطرة التي هي خلق الإِنسان قابلا للإِيمان والتوحيد . وقوله : { لا تبديل لخلق الله } اي لا تبدلوا تلك الخلقة ولا تغيروها بل نموها وابرزوها بالتربية حتى ينشا الطفل على الإِيمان والتوحيد . فالجملة خبرية لفظاً إنشائية معنى نحو فهل أنتم منتهون فهي بمعنى انتهوا وهي أبلغ من انتهوا فكذا : لا تبديل أبلغ من لا تبدلوا . وقوله : { ذلك الدين القيم } أي لزوم ما فطر عليه المرء من الإِيمان بالله وتوحيده . . وابراز ذلك في الواقع بالإِيمان بالله وبما أمر بالإِيمان به من أركان الإِيمان وبعبادة الله تعالى وهي طاعته بفعل ما يأمر به وينهى عنه مخلصاً له ذلك لا يشاركه فيه غيره من سائر مخلوقاته هو الدين القيم الذي يجب أن يكون عليه الإِنسان وقوله : { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } يخبر تعالى بأن ما قرره من الدين القيم كما بيَّنه في الآيات أكثر الناس لا يعلمونه ولا يعرفونه وهو كما أخبر سبحانه وتعالى : وقوله { منيبين إِليه } اي اقيموا وجوهكم للدين القيم حال كونكم راجعين إليه تعالى تائبين إليه من كل دين غير هذا الدين ، ومن كل طاعة غير طاعته تعالى بفعل الأوامر واجتناب النواهي . وقوله : { واتقوه } اي خافوه تعالى إذ عذابه شديد فلا تتركوا دينه لأي دين ولا طاعته لأي مطاع غير الله تعالى ورسوله وقوله : { وأقيموا الصلاة } اي حافظوا عليها في أوقاتها وأدوها كما شرعها كميّة وكيفيّة فإِنها سقيا الإِيمان ومُمنمية الخشية والمحبة لله تعالى . وقوله تعالى : { ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً } ينهى تعالى المؤمنين أهل الدين القيم الذي هو الإِسلام أن يكونوا من المشركين في شيء من ضروب الشرك عقيدة أو قولا أو عملا .
(3/231)
________________________________________
فكل ملة غير الإِسلام أهلها مشركون كافرون سواء كانوا مجوساً أو يهوداً أو نصارى أو بوذة أو هندوكاً أو بلاشفة شيوعيين إذ جميعهم فرقوا دينهم الذي يجب أن يكونوا عليه وهو دين الفطرة وهو الإِسلام وكانوا شيعاً أي فرقاً وأحزاباً كل فرقة تنتصر لما هي عليه وتنحزب له . فأصبح كل حزب منهم بما لديهم من دين فرحين به ظناً منهم أنه الدين الحق وهو الباطل قطعاً ، لأنه ليس دين الفطرة التي فطر الله عليها الإِنسان وهو الإِسلام القائم على توحيد الله تعالى وعبادته بما شرع لعباده أن يعبدوه به ليَكْمُلُوا على ذلك ويسعدوا .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) وجوب الإِقبال على الله تعالى بعبادته والاخلاص له فيها .
2 ) الإِسلام دين الله الذي خلق الإِنسان متأهلا له ولا يقبل منه دين غيره .
3 ) وجوب الإِنابة إلى الله تعالى والرجوع إِليه في كل حال .
4 ) وجوب تقوى الله عز وجل وإقام الصلاة .
5 ) البراءة من الشرك والمشركين .
6 ) حرمة الافتراق في الدين الإِسلامي ووجوب الاتحاد فيه عقيدة وعبادة وقضاء .
(3/232)
________________________________________
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
شرح الكلمات :
{ وإذا مس الناس ضر } : أي إذا مس المشركين ضرٌ اي شدة من مرض أو فقر أو قحط .
{ منيبين إِليه } : أي راجعين بالضراعة والدعاء إليه تعالى دون غيره .
{ رحمة } : بِكَشْفِ ضُر أو إنزال غيث وإصابة رخاء وسعة رزق .
{ يشركون } : أي بربهم فيعبدون معه غيره بالذبح للآلهة والنذر وغيره .
{ ليكفروا بما آتيناهم } : أي ليكون شركهم لله كفرا بنعمه والعياذ بالله .
{ أم أنزلنا عليهم سلطانا } : أي حجة من كتاب وغيره ينطق بشركهم ويقرره لهم : ويأمرهم به .
{ بما قدمت أيديهم } : أي بذنوبهم وخروجهم عن سنن الله تعالى في نظام الحياة . { إذا هم يقنطون } : أي يياسون من الفرج بزوال الشدة .
{ يبسط الرزق لمن يشاء } : أي يوسعه امتحاناً له .
{ ويقدر } : أي يضيّق الرزق على من يشاء ابتلاء .
معنى الآيات :
لما أمر تعالى رسوله والمؤمنين بإِقامة الدين ونهاهم أن يكونوا من المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا أخبر تعالى عن المشركين أنهم إذا مسهم الضرّ وهو المرض والشدة كالقحط والغلاء ونحوها دعوا ربهم تعالى منيبين إليه أي راجعين إليه بالدعاء والضراعة لا يدعون غيره . وهو قوله تعالى { وإذا مس الناس ضرٌ دعوا ربهم منيبين غليه } وقوله : { ثُم إذا أذاقهم منه رحمة } أصابهم برحمة من عنده وهي الصحة والرخاء والخصب ونحوه { إذا فريق منهم } اي كثيرٌ { بربهم يشركون } فيعبدون الأصنام والأوثان بأنواع العبادات ، وقوله { ليكفروا بما آتيناهم } اي اشركوا بالله بعد إنعامه عليهم ليكفروا بما آتاهم من نعمة كشف الضر عنهم إذاً { فتمتعوا } أيها الكافرون بما خولكم الله من نعمة فسوف تعلمون عاقبة كفرهم لنعم الله وشرككم به يوم تردون عليه حفاة عراة لا وليَّ لكم من دونه تعالى ولا نصير .
وقوله تعالى : { أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون } أي مال الذي شجعهم على الشرك وجعلهم يصرون عليه حتى إذا تركوه ساعة الشدة عادوا إليه ساعة الرخاء أأنزلنا عليهم سلطاناً اي حجة من كتاب ونحوه فهو ينطق بشركهم ويقرره لهم ويأمرهم به اللهم لا ، لا ، وإنما هو الجهل والتقليد والعناد وقوله { وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها } هذه حال أهل الشرك والكفر والجهل من الناس غذا أذاقهم الله رحمة من خصب ورخاء وصحة فرحوا بها فرح البطر والأشر { وإن تصبهم سيئة } من جدب وقحط ومرض وفقر ، { بما قدمت ايديهم } من الذنوب والمعاصي ومنها مخالفة سنن الله في الكون { إذا هم يقنطون } اي يياسون من الفرج وذلك لكفرهم بالله وجهلهم بأسمائه وصفاته .
وقوله تعالى { أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } أي ألم يروا بأعينهم أن الله يبسط الرزق اي يوسعه لمن يشاء امتحاناً له ايشكر ام يكفر ، { ويقدر } اي يضيق الرزق على من يشاء ابتء أيصبر أم يضجر ويسخط .
(3/233)
________________________________________
إذ لو كانت لهم عيون يبصرون بها وقلوب يفقهون بها لما أيسوا من رحمة الله وفرَجِهِ ولا ما قنطوا . وقوله تعالى { إن في ذلك } أي المذكور من تدبير الله في خلقه بالإِعطاء والمنع { لآيات } أي حججا ودلائل تدل المؤمنين على قدرة الله ولطفه ورحمته وحكمته في تدبير ملكه وملكوته فسبحانه من غله عظيم ورب غفور رحيم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) بيان جهل المشركين وضلال عقولهم بما ذكر تعالى من صفاتهم وأحوالهم .
2 ) بيان تهديد الله تعالى للمصرين على الشرك والكفر بعذاب يوم القيامة .
3 ) بيان حال أهل الشرك والكفر والجهل في فرحهم بالنعمة فرح البطر والشر وياسهم وقنوطهم عند نزول البلاء بهم والشدة .
4 ) مظهر حكمة الله وتدبيره في الرزق توسعة وتقديرا وإدراك ذلك خاص بالمؤمنين لأنهم أحياء يبصرون ويفهمون بخلاف الكافرين فهم أموات لا إبصار ولا إدراك لهم .
(3/234)
________________________________________
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
شرح الكلمات :
{ فآت ذا القربى حقه } : أي أعط ذا القرابة حقه من البر والصلة .
{ والمسكين } : أي المعدوم الذي لا مال له أعطه حقه في الطعام والشراب والكساء .
{ وابن السبيل } : أي أعط ابن السبيل أي المسافر حقه في الإِيواء والطعام .
{ ذلك خير } : أي ذلك الإنفاق خير من عدمه للذين يريدون وجه الله تعالى إذ يثيبهم ربهم أحسن ثواب .
{ وما آتيتم من رباً } : أي من هدية أو هبة وسميت رباً لأنهم يقصدون بها زيادة أموالهم .
{ ليربوا في أموال الناس } : أي ليكثر بسبب ما يرده عليكم من أهديتموه القليل ليرد عليكم الكثير .
{ فلا يربوا عند الله } : أي لا يباركه الله ولا يضاعف أجره .
{ فأولئك هم المضعفون } : أي الذين يؤتون أموالهم صدقة يريدون بها وجه الله فهؤلاء الذين يضاعف لهم الأجر أضعافاً مضاعفة .
{ هل من شركائكم } : أي من أصنامكم التي تعبدونها .
{ من يفعل من ذلكم من شيء } : والجواب لا أحد ، إذاً بطلت ألوهيتها وحرمت عبادتها .
{ سبحانه وتعالى عما يشركون } : أي تنزه الرب عن الشرك وتعالى عن المشركين .
معنى الآيات :
لما بيّن تعالى في الآية السابقة لهذه أنه يبسط الرزق لمن يشاء امتحاناً ويقدر على من يشاء ابتلاء أمر رسوله وامته التابعة له بإِيتاء ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ، إذ منع الحقوق الواجبة لا يزيد في سعة الرزق ولا في تضييقه ، إذ توسعة الرزق وتضييقه مرده إلى تدبير الله تعالى الحكيم العليم هذا ما دل عليه قوله تعالى { فآت ذا القربى حقه } اي من البر والصلة { والمسكين } وهو من لا يملك قوته روابن السبيل } وهو المسافر ينزل البلد لا يعرف فيها أحداً ، وحقهما : إيواءهما وإطعامهما وكسوتهما وقوله تعالى { ذلك خير للذين يريدون وجه الله } أي ذلك الإِيتاء من الحقوق خير حالا ومآلا للذين يريدون وجه الله تعالى وما عنده من ثواب . وقوله : { وأولئك هم المفلحون } أي الفائزون بالنجاة من العذاب في الدنيا والآخرة ، وبدخول الجنة يوم القيامة وقوله تعالى : { وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله } أي وما أعطيتم من هبات وهدايا تريدون بها أن يُردَّ عليكم بأكثر مما أعطيتم فهذا العطاء لا يربوا عند الله ولا يضاعف أجره بل ولا يؤجر عليه وقوله : { وما آتيتم من زكاة } أ صدقات تريدون بها وجه الله ليرضى عنكم ويغفر لكم ويرحمكم ، { فأولئك } اي هؤلاء الذين ينفقون ابتغاء وجه الله { هم المضعفون } اي الذين يضاعف لهم الأجر والثواب .
وقوله تعالى : { الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحيكم } يخبر تعالى المشركين من عباده موبخا لهم على شركهم مقرعاً : الله لا غيره هو الذي خلقكم ولم تكونوا شيئا ثم رزقكم بما تنموا به أجسادكم وتحفظ به حياتكم من أنواع الأغذية ثم يميتكم عند نهاية آجالكم ، ثم يحييكم يوم القيامة للحساب والجزاء على الكسب في هذه الدنيا ثم يقول لهم { هل من شركائكم من يفعل من ذلكم } المذكور من الخلق والرزق والإِماتة والإِحياء { من شيء } ؟ والجواب لا وإذاً فلم تعبدونهم من دون الله ، فأين يذهب يعقزلكم ايها المشركون .
(3/235)
________________________________________
ثم نزه تعالى نفسه عن الشرك ، وتعالى عن المشركين فقال { سبحانه وتعالى عما يشركون } .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) وجوب اعطاء ذوى القربى حقوقهم من البر والصلة .
2 ) وجوب كفاية الفقراء وابناء السبيل في المجتمع الإِسلامي .
3 ) جواز هدية الثواب الدنيوي كأن يهدي رجل شيئاً يريد أن يُردّ عليه أكثر منه ولكن لا ثواب فيه في الآخرة ، وتسمى هذه الهدية : هدية الثواب وهي للرسول محرمة لقوله تعالى له : { ولا تمنن تستكثر } 4 ) بيان مضاعفة الصدقات التي يراد بها وجه الله تعالى .
5 ) ابطال الشرك والتنديد بالمشركين وبيان جهلهم وضلال عقولهم .
(3/236)
________________________________________
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
شرح الكلمات :
{ ظهر الفساد في البر والبحر } : أي ظهرت المعاصي في البر والبحر وتبعها الشر والفساد .
{ بما كسبت أيدي الناس } : أي بسبب ما كسبته أيدي الناس من ظلم واعتداء .
{ ليذيقهم بعض الذي عملوا } : أي تم ذلك وحصل ليذيقهم الله العذاب ببعض ذنوبهم .
{ لعلهم يرجعون } : كي يرجعوا عن المعاصي إلى الطاعة والاستقامة .
{ قل سيروا في الأرض } : أي قل يا رسولنا لأهل مكة المكذبين بك والمشركين بالله سيروا .
{ عاقبة الذين من قبل } : أي كيف كانت نهاية تكذيبهم لرسلهم وشركهم بربهم إنّها هلاكهم .
{ فأقم وجهك للدين القيم } : أي استقم على طاعة ربك عابداً له مبلغاً عنه منفذاً لأحكامه .
{ لا مرد له من الله } : أي لا يرده الله تعالى لأنه قضى بإِتيانه وهو يوم القيامة .
{ يصدعون } : أي يتفرقون فرقتين .
{ يمهدون } : أي يوطئون ويفرشون لأنفسهم في منازل الجنة بإِيمانهم وصالح أعمالهم .
معنى الآيات :
تقدم في السياق الكريم إبطال الشرك بالدليل العقلي إلا أن المشركين مصرون على الشرك وبذلك سيحصل فساد في الأرض لا محالة فأخبر تعالى عنه بقوله في هذه الآية الكريمة ( 41 ) فقال { ظهر الفساد في البر والبحر } أي انتشرت المعاصي في البر والبحر وفي الجو اليوم فعُبد غير الله واستبيحت محارمه وأوذي الناس في أموالهم وأبدانهم وأعراضهم وذلك نتيجة الإِعراض عن دين الله وإهمال شرائعه وعدم تنفيذ أحكامه . وقوله { بما كسبت أيدي الناس } أي بظلمهم وكفرهم وفسقهم وفجورهم . وقوله : ليذيقهم بعض الذي عملوا أي فما يصيبهم من جدب وقحط وغلاء وحروب وفتن إنما اصابهم الله به { ليذيقهم بعض الذي عملوا } من الشرك والمعاصي لا بكل ما فعلوا إذ لو أصابهم بكل ذنوبهم لأنهى حياتهم وقضى على وجودهم ، ولكنه الرحمن الرحيم بعباده اللطيف بهم . وقوله تعالى { قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل } قل يا رسولنا لكفار قريش المكذبين لك المشركين بربهم : سيروا في الأرض شمالاً أو جنوباً أو غرباً فانظروا بأعينكم كيف كان عاقبة الذين كذبوا رسلهم وكفروا بربهم من قبلكم إنها كانت دماراً وهلاكاً فهل ترضون أن تكونوا مثلهم . وقوله { كان أكثرهم مشركين } أي كان أكثر أولئك الأقوام الهالكين مشركين فالشرك والتكذيب الذي أ ، تم عليه هو سبب هلاكهم وخسرانهم وقوله تعالى : { فأقم وجهك للدين القيّم } اي استقم يا رسولنا أنت والمؤمنون معك على الدين الإِسلامي إذ لا دين يقبل سواه فاعتقدوا عقائده وامتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه وتأدبوا بآدابه وتخلقوا بأخلاقه واقيموا حدوده وأحلوا حلاله وحرموا حرامه وادعوا إليه وعلّموه الناس أجميعن ، واصبروا على ذلك فإِن العاقبة للمتقين وقوله : { من قبل أن يأتي يوم لا مردَّ له من الله } أي افعلوا ذلك الذي أمرتكم به قبل مجيئ يوم القيامة حيث لم يكن عمل وإنما جزاء ، وقوله { لا مرد له من الله } أي إنه لا يرده الله إذا جاء ميعاده لأنه قضى بإِتيانه لا محالة من أجل الجزاء على العمل في الدنيا .
(3/237)
________________________________________
وقوله { يومئذ يصدعون } أي يوم يأتي اليوم الذي لا مرد له يصدعون أي يتفرقون فرقتين كما يتصدع الجدار فرقتين فريق في الجنة وفريق في النار . وقوله : { فمن كفر فعليه كفره } اي من كفر اليوم فعائد كفره عليه يوم القيامة ، { ومن عمل صالحاً } أي اليوم { فلأنفسهم يمهدون } أي يوطئون فرشهم في الجنة إذ عائدة عملهم الصالح تعود عليهم لا على غيرهم ، وقوله { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله } أي يصدعون فرقتين من أجل أن يجزي الله تعالى أولياءه المؤمنين العالملين للصالحات من فضله إذ أعمالهم حسبها انها زكَّت نفوسهم فتأهلوا لدخول الجنة أما النعيم المقيم فيها فهو من فضل الله فقط ، وقوله { إنه لا يحب الكافرين } هذه الجملة علة لجملة محذوفة إذ التقدير ، ويجزي الكافرين بعدله وهو سوء العذاب لأنه لا يحب الكافرين .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) ظهور الفساد بالجدب والغّلاء أو بالحرب والأمراض يسبقه حسب سنة الله تعالى ظهور فساد في العقائد بالشرك ، وفي الأعمال بالفسق والمعاصي .
2 ) وجوب الاستقامة على الدين الإِسلامي عقيدة وعبادة وقضاء وحكماً .
3 ) تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحداثه ووقائعه .
4 ) بيان أن الله تعالى يحب المتقين ويكره الكافرين .
(3/238)
________________________________________
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
شرح الكلمات :
{ ومن آيَّاته أن يرسل الرياح } : أي ومن حججه الدالة على قدرته على البعث والجزاء والموجبة لعبادته وحده .
{ مبشرات } : أي تبشر العباد بالمطر وقربه .
{ وليذيقكم من رحمته } : أي بالغيث والخصب والرخاء وسعة الرزق .
{ ولتبتغوا من فضله } : أي لتطلبوا الرزق من فضله الواسع بواسطة التجارة في البحر .
{ ولعلكم تشركون } : أي كي تشكروا هذه النعم فتؤمنوا وتوحِّدوا ربكم .
{ رسلا إلى قومهم } : أي كنوح وهو وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم السلام .
{ فجاءوهم بالبينات } : أي بالحجج والمعجزات .
{ الذين أجرموا } : أي أفسدوا نفوسهم فخبثوها بآثار الشرك والمعاصي .
{ حقا علينا نصر المؤمنين } : أي ونصر المؤمنين أحققناه حقاً وأوجبناه علينا فهو كائن لا محالة .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تقرير ألوهية الله تعالى وعدله ورحمته ، فقال تعالى { ومن آياته } أي ومن آياتنا الدالة على ألوهيتنا وعدلنا في خلقنا ورحمتنا بعبادنا إرسالنا الرياح مبشرات عبادنا بقرب المطر الذي به حياة البلاد والعباد فإِرسال الرياح أمر لا يقدر عليه إلا الله ، وتدبير يقصر دونه كل تدبير ورحمة تعلو كل رحمة . وقوله : { وليذيقكم من رحمته } اي بإِنزال المطر المترتب عليه الخصب والرخاء ، وقوله : { ولتجري الفلك } اي السفن في البحر إذ الرياح كانت قبل اكتشاف البخار هي المسيرة للسفن في البحر صغيرها وكبيرها . وقوله { بأمره } أي بإِذنه وإرادته وتدبيره الحكيم ، وقوله : { ولتبتغوا من فضله } أي لتطلبوا الرزق بالتجارة في البحر من إقليم إلى آخر تحملون البضائع لبيعها وشرائها وقوله : { لعلكم تشكرون } أي فعل الله تعالى بكم ذلك فسخره لكم وأقدره عليه رجاء أن تشكروا ربكم بالإِيمان به وبطاعته وتوحيده في عبادته . فهل أنتم يا عباد الله شاكرون؟ ، وقوله : { ولقد أرسلنا من قبلك } يا رسولنا { رسلاً إلى قومهم } كنوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم السلام فجاءوا أقوامهم بالبيّنات والحجج النيرات كما جئت أنت وقومك فكذبت تلك الأقوام رسلهم { فانتقمنا من الذين أجرموا } فأهلكناهم ، ونجينا الذين آمنوا { وكان حقا علينا نصر المؤمنين } ألا فلتعتبر قريش بهذا وإلا فستحلُّ بها نقمة الله فيهلك الله المجرمين وينجي رسوله والمؤمنين كما هي سنته في الأولين والحمد لله رب العالمين .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) تقرير الربوبية لله المستلزمة لألوهيته بذكر مظاهر القدرة والعلم والرحمة والعدل .
2 ) بيان أن الله تعالى ينعم على عباده من أجل أن يشكره بعبادته وتوحيده فيها فإذا كفروا تلك النعم ولم يشكروا الله تعالى عليها عذبهم بما يشاء كيف ومتى يشاء .
3 ) بيان أن الله منتقم من المجرمين وإن طال الزمن ، وناصر المؤمنين كذلك .
(3/239)
________________________________________
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
شرح الكلمات :
{ فتثير سحاباً } : أي تحركه وتهيجه فيسير وينتشر .
{ ويجعله كسفا } : أي قطعا متفرقة في السماء هنا وهناك .
{ فترى الودق } : أي المطر يخرج من خلال السحاب .
{ إذا هم يستبشرون } : أي فرحون بالمطر النازل لسقياهم .
{ لمبلسين } : أي قنطين آيسين من إنزاله عليهم .
{ إن ذلك لمحيي الموتى } : أي القادر على إنزال المطر وإحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الموتى وهو الله تعالى .
{ فرأوه مصفرا } : أي رأوا النبات الزرع مصفراً للجائحة التي أصابته وهي ريح الدبور المحرقة .
{ لظلوا من بعده يكفرون } : أي أقاموا بعد هلاك زروعهم ونباتهم يكفرون نعم الله عليهم السابقة .
{ أن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا } : أي ما تسمع إلا المؤمنين بآيات الله .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر مظاهر قدرة الله تعالى في الكون قال تعالى : { الله الذي يرسل الرياح } اي نيشئها ويبعث بها من أماكن وجودها فتثير تلك الرياح سحاباً أي تزعجه وتحركه فيبسطه تعالى في السماء كيف يشاء منكثافة وخفّة وكثرة وقلة ، { ويجعله كسفاً } أي قطعاً فترى ايها الرائي الودق اي المطر يخرج من خلاله أي من بين أجزاء السحاب . وقوله { فإذا أصاب به } أي بالمطر { من يشاء من عباده إذا هم } اي المصابون بالمطر في أرضهم . { يستبشرون } أي يفرحون . { وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم } اي المطر { من قبله لمبلسين } أي مكتئبين حزينين قانطين وقوله تعالى { فانظر إلى آثار رحمة الله } اي فانظر يار سولنا إلى آثار رحمة الله أي إلى آثار المطر كيف ترى الأرض قد اخضرت بعد يبس وحييت بعد موت . فإِذا رأيت ذلك علمت أن الذي أحيا الأرض بعد موتها قادر على أن يحيي الموتى من قبورهم وذلك يوم القيامة وقوله { إن الله على كل شيء قدير } تعليل لعظم قدرته وأنه قادر على إحياء الموتى وعلى فعل كل شيء اراده . وقوله { ولئن أرسلنا ريحا } اي وعزتنا وجلالنا لئن أرسلنا ريحا فيه إعصار فيه نار فأحرقت تلك النباتات وأيبستها فرآها أولئك الذين هم بالأمس فرحون فرح بطر بالغيث { يكفرون } بربهم اي يقولون : ما هو كفر من ألفاظ السخط وعدم الرضا وذلك لجهلهم وكفرهم . وقوله تعالى : { إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين } أي انك يا رسولنا لا تقدر على هداية هؤلاء الكافرين لأنهم صم لا يسمعون وعمي لا يبصرون لما ران على قلوبهم من الذنوب فعطل حواسهم وأنت بحكم بشريتك وقدرتك المحدودة لا تستطيع اسماع الموتى كلامك فيفهموه ويعملوا به كما لا تستطيع إسماع الصم نداءك إذا هم ولَّوا مدبرين إذ لو كانوا مقبلين عليك قد تفهمهم ولو بالإِشارة أما إذا ولَّوا مدبرين عنك فلا يمكن إسماعهم .
(3/240)
________________________________________
إذاً فهون على نفسك ولا تحزن عليهم . وقوله : { إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون } أي إنك ما تسمع سماع قبول وانقياد وإدراك إلاّ من يؤمن بآياتنا أي إلا المؤمنين الذين آمنوا بآيات الله وعرفوا حججه فآمنوا به ووحدوه فهم مسلمون أي منقادون خاضعون مطيعون فهؤلاء في امكانك إسماعهم وهدايتهم بإِذن الله إلى ما يكملهم ويسعدهم في الدارين .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة والحجج العقلية .
2 ) بيان كيفية إنشاء السحاب ونزول المطر وهو مظهر من مظاهر القدرة والعلم الإِلهي .
3 ) بيان حال الكافر في أيام الرخاء وايام الشدة فهو في الشدة يقنط وفي الرخاء يكفر ، وذلك لفساد قلبه بالجهل بالله تعالى وآياته .
4 ) الاستدلال بالمحسوس الحاضر على المحسوس الغيبي .
5 ) بيان أن الكفار أموات ، ولذا هم لا يسمعون ولا يبصرون وأن المؤمنين أحياء لأنهم يسمعون ويبصرون ، إذ الحياة لها آثارها في الجسم الحي والموت كذلك .
(3/241)
________________________________________
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
شرح الكلمات :
{ الله الذي خلقكم من ضعف } : أي من نطفة وهي ماء مهين .
{ ثم جعل من بعد ضعف قوة } : أي من بعد ضعف الطفولة قوة الشباب .
{ ثم جعل من بعد قوة ضعفاً } : أي من بعد قوة الشباب والكهولة ضعف الكبر والشيب
{ وشيبة } : أي الهرم .
{ كذلك كانوا يؤفكون } : أي كما صرفوا عن معرفة الصدق في اللبث كانوا يصرفون في الدنيا عن الإِيمان بالبعث والجزاء في الآخرة فانصرافهم عن الحق في الدنيا سبب لهم عدم معرفتهم لمدة لبثهم في قبورهم .
{ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم } : أي في انكارهم للبعث والجزاء .
{ ولا هم يستعتبون } : أي لا يطلب منهم العتبى أي الرجوع إلى ما يرضي الله تعالى بالإِيمان والعمل الصالح .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى { الله الذي خلقكم } وحده { من ضعف } أي من ماء مهين وهي النطفة ثم جعل من بعد ضعف أي ضعف الطفولة { قوة } وهي قوة الشباب { ثم جعل من بعد قوة } أي قوة الشباب والكهولة { ضعفاً } أي ضعف الكبر { وشيبة } أي الهرم وقوله تعالى { يخلق ما يشاء وهو العليم } بخلقه { القدير } على ما يشاء ويريده فهو تعالى قادر على احياء الأموات وبعثهم ، إذ القادر على إيجادهم من العدم قادر على بعثهم من الرّمَم وقوله تعالى { ويوم تقوم الساعة } أي القيامة { يقسم المجرمون } اي يحلف المجرمون من أهل الشرك والمعاصي { ما لبثوا غير ساعة } أي لم يلبثوا في قبورهم إلا ساعة من زمن . وقوله تعالى { كذلك كانوا يؤفكون } أي كما صرفوا عن معرفة الصدق في اللبث في القبر كانوا يصرفون في الدنيا عن الإِيمان بالله تعالى ولقائه ، والصارف لهم ظلمة نفوسهم بسبب الشرك والمعاصى . وقوله تعالى : روقال الذين أوتوا العلم والإِيمان لقد لبثم في كتاب الله } اي في كتاب المقادير { إلي يوم البعث } وهو يوم القيامة { فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون } لعدم إِيمانكم بالله وبآياته والكتاب الذي أنزله .
وقوله فيومئذ اي يوم إذ يأتي يوم البعث { لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم } أي عن شركهم وكفرهم بلقاء ربهم ، { ولا هم يستعتبون } أي لا يطلب منهم العتبى أي الرجوع إلى ما يرضى الله تعالى من الإِيمان والعمل الصالح وترك الشرك والمعاصى .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة العقلية التي لا ترد بحال .
2 ) بيان اطوار خلق الإِنسان من نطفة إلى شيخوخة وهرم .
3 ) فضل العلم والإِيمان وأهلهما .
4 ) بيان ان معذرة الظالمين لا تقبل منهم ، ولا يستعتبون فيرضون الله تعالى فيرضى عنهم .
(3/242)
________________________________________
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
شرح الكلمات :
{ ولقد ضربنا للناس } : أي جعلنا للناس .
{ من كل مثل } : أي من كل صفة مستغربة تلفت الانتباه وتحرك الضمير كالأمثال لعلهم يذكرون فيؤمنوا ويوحدوا .
{ ولئن جئتهم بآية } : أي ولئن أتيت هؤلاء المشركين بكل حجة خارقة .
{ إن أنتم مبطلون } : أي ما أنتم أيها الرسول والمؤمنون إلا مبطلون فيما تقولون وتدعون إليه من الإِيمان بآيات الله ولقائه .
{ الذين لا يعلمون } : أي ما أنزل الله على رسوله وما أوحاه إليه من الآيات البينات .
{ فاصبر إن وعد الله حق : أي اصبر يا رسولنا على أذاهم فإِن العاقبة لك إذ وعدك ربك بها ووعد الله حق .
{ لا يستخفنك الذين لا : أي لا يحملنك هؤلاء المشركون المكذبون بلقاء الله على يوقنون } الخفة والطيش فتترك دعوتك إلى ربك .
معنى الآيات :
بعد إيراد العديد من الأدلة وسوق الكثير من الحجج وعرض مشاهد القيامة في الايات السابقة تقريرا لعقيدة البعث والجزاء التي أنكرها المشركون من قريش قال تعالى : { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } أي جعلنا للناس في هذا القرآن من أساليب الكلام وضروب التشبيه ، وعرض الأحداث بصور مثيرة للدهشة موقظة للحس ، ومنبهة للضمير ، كل ذلك لعلهم يذكرون فيؤمنوا فيهتدوا للحق فينجوا ويسعدوا ، ولكن أكثرهم لم ينتفعوا بذلك ، { ولئن جئتهم بآية } أي بحجة من معجزة وغيرها تدل على صدقك وصحة دعوتك وما جئت به رليقولن الذين كفروا } اي منهم . { إن انتم } أي ما أنتم أيها الرسول والمؤمنون { إلا مبطلون } اي من أهل الباطل فيما تقولون وتدعون غليه من الدين الحق والبعث الآخر . وقوله { كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون } أي كذلك الطبع على قلوب الكافرين الذين لو جئتهم بكل آية لم يؤمنوا عليها لما ران على قلوبهم وما ختم به عليها ، يطبع على قلوب الذين لا يعلمون ، إذ ظلمة الجهل كظلمة الشرك والكفر تحجب القلوب عن الفهم والإِدراك فلا يحصل إِيمان ولا استجابة لدعوة الحق وقوله { فاصبر إن وعد الله حق } يامر تعالى رسوله أن يلتزم بالصبر على دعوته والثبات عليها في وجه هذا الكفر العنيد ، حتى ينصره الله تعالى إذا واعده بالنصر في غير ما آية ووعد الله حق فهو ناجز لا يتخلف . وقوله : { ولا يستخفنك الذين لا يوقنون } أي اصبر ولا يحملنك عناد المشركين وإصرارهم على الكفر والتكذيب على الخفة والطيش والاستجهال بترك الحلم والصبر . والمراد بالذين لا يوقنون كل من لا يؤمن بالله ولقائه إيمانا يقينا إذ هذا الصنف من الناس هو الذي يستفز الإِنسان ويحمله على أن يخرج عن اللياقة والأدب والعياذ بالله .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) اعذار الله تعالى إلى الناس بما ساقه تعالى في كتابه من أدلة الإِيمان وحجج الهدى .
2 ) أسوأ أحوال الإِنسان عندما يطبع على قلبه لكثرة ذنوبه فيصبح لا يفهم ولا يعقل شيئاً وفي الخبر حبك الشيء يعمي ويصم .
3 ) وجوب الصبر والتزام الحلم والأناة مهما جهل الجاهلون .
(3/243)
________________________________________
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
شرح الكلمات :
{ آلم } : هذا أحد الحروف المقطعة التي تكتب آلم ، وتقرأ : الف لام ميم .
{ تلك } : أي الآيات المؤلفة من مثل هذه الحروف هي آيات الكتاب الحكيم .
{ الحكيم } : أي المحكم الذي لا نسخ يطرأ عليه بعد تمام نزوله ، ولا خلل فيه ، وهو الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه فلا خلط ولا خبط فيما يحمل من هدى وتشريع .
{ هدى ورحمة } : أي هو هدى يهتدي به ورحمة يرحم بها .
{ للمحسنين } : أي الذين يراقبون الله تعالى في كل شؤونهم إذ هم الذين يجدون الهدى والرحمة في القرآن الكريم أما غيرهم من أهل الشرك والمعاصي فلا يجدون ذلك .
{ أولئك } : أي المحسنون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويوقنون بالآخرة .
{ على هدى من ربهم } : أي هم على هداية من الله تعالى فلا يضلون ولا يجهلون معها ابداً .
{ المفلحون } : أي الفائزون بالنجاة من كل مرهوب وبالظفر بكل مرغوب محبوب .
معنى الآيات :
قوله تعالى : { آلم } أحسن ما يفسر به مثل هذه الحروف المقطعة قول : الله أعلم بمراده به وقد أفادت هذه الحروف فائدة عظيمة ، وذلك من جهتين الأولى أنه لما كان المشركون يمنعون سماع القرآن خشية التأثر به فيهتدي إلى الحق من يحصل له ذلك ، وقالوا : { ا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } كانت هذه الحروف بنغمها الخاص ومُدودها العجيبة تضطر المشرك إلى الإِصغاء والاستماع فحصل ضد مقصودهم وكفى بهذه فائدة . والثانية أنهم لما ادعوا أن القرآن سحر وكهانة وشعر وأساطير الأولين كأنما قيل لهم هذا القرآن الذي ادعيتم فيه كذا وكذا قد تألف من هذه الحروف ص ، ن ، ق ، يس ، طس ، ألم ، فألفوا سورة مثله واتوا بها للناس فيصبح لكم كا تدعون فإِن عجزتم فسلموا أنه كلام الله أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم فآمنوا ووحدوا واستقيموا على ذلك تعزوا وتكرموا وتكملوا وتسعدوا .
وقوله : { تلك آيات الكتاب الحكيم } أي هذه الايات هي آيات القرآن الكريم الموصوف بالحكمة إذ هو لا يخلط ولا يغلط ولا يخبط بل يضع كل شيء في موضعه اللائق به في كل ما قال فيه وحكم به ، وأخبر عنه أو به من سائر المعارف والعلوم التي حواها كما هو حكيم بمعنى محكم لا نسخ يطرأ عليه بعد تمامه كما طرأ على الكتب السابقة ، ومحكم أيضاً بمعنى لا خلل فيه ، ولا تناقض بين أخباره وأحكامه على كثرتها وتنوع أسبابها ومقتضيات نزولها ، وقوله : { هدى ورحمة للمحسنين } أي هو بيان هداية ورحمة تنال المحسنين وهم الذين أحسنوا عبادتهم لربهم فخلصوها من الشرك والرياء وأتوا بها على الوجه المرضي لله تعالى وهو ما بينه رسوله صلى الله عليه وسلم من كيفيات العبادات وبيان فعلها وأدائها عليه . وقوله { الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون } أي المحسنين الذين يقيمون الصلاة أي يؤدون الصلوات الخمس مُراعى فيها شروطها مستوفاة أركانها وسننها الواجبة منها والمستحبة ، ويؤتون الزكاة أي يخرجون زكاة أموالهم الصامتة كالذهب والفضة أو الْعُمَلِ القائمة مقامهما والحرث من تمر وزيتون ، وحبوب مقتاة مدخرة والناطقة من إبل وبقر وغنم وذلك أن حال الحول في الذهب والفضة والعمل وفي بهيمة الأنعام أما الحرث والغرس فيوم حصاده وجداده .
(3/244)
________________________________________
وقوله : { وهم بالآخرة هم يوقنون } أي والحال هم موقنون بما أعده الله من ثواب وجزاء على الإحسان والإِيمان والإِسلام الذي دلت عليه صفاتهم في هذا السياق الكريم وقوله : { أولئك على هدىً من ربهم وأولئك هم المفلحون } يخبر تعالى عن المحسنين أصحاب الصفات الكريمة من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإِيمان باليوم الآخر والإِيقان بثواب الله تعالى فيه انهم على هدى أي طريق مستقيم وهو الإِسلام هداهم الله تعالى إليه ومكنهم من السير عليه وبذلك أصبحوا من المفلحين الذين يفوزون بالنجاة من النار ، وبدخول الجنة دار الأبرار . اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم انك برٌ كريم تواب رحيم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) بيان إعجاز القرآن حيث ألّف من مثل آلم ، وص ، وطس ، ولم يستطع خصومه تحديه .
2 ) بيان معنى الحكيم وفضل الحكمة .
3 ) بيان أن القرآن للهدى المنجي المسعد ورحمة لمن آمن به وعمل بما فيه .
4 ) فضل الصلاة والزكاة واليقين .
5 ) بيان مبنى الدين : وهو الإِيمان والإِسلام والإِحسان .
(3/245)
________________________________________
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
شرح الكلمات :
{ ومن الناس } : أي ومن بعض الناس إنسان هو النضر بن الحارث بن كلدة حليف قريش .
{ لهو الحديث } : أي الحديث الملهي عن الخير والمعروف وهو الغناء .
{ ليضل عن سبيل الله } : أي ليصرف النا سعن الإِسلام ويبعدهم عنه فيضلوا .
{ ويتخذها هزواً } : أي ويتخذ الإِسلام وشرائعه وكتابه هزوا اي مهزوءاً به مسخوراً منه .
{ ولَّى مستكبرا } : أي رجع في كبرياء ولم يستمع إليها كفراً وعناداً وكبراً كأن لم يسمعها .
{ في أُذنيه وقراً } : أي ثقل يمنع من السماع كالصمم .
{ رواسي } : أي جبال راسية في الأرض بها ترسو الأرض أي تثبت حتى لا تميل .
{ وبث فيها من كل دابة } : أي وخلق ونشر فيها من صنوف الدواب وهي كل ما يدب في الأرض .
{ من كل زوج كريم } : أي من كل صنف من النباتات جميل نافع لا ضرر فيه .
{ هذا خلق الله } : أي المذكور مخلوقه تعالى إذ هو الخالق لكل شيء .
{ من دونه } : أي من الآلهة المزعومة التي يعبدها الجاهلون .
{ بل الظالمون } : أي المشركون .
معنى الآيات :
لما ذكر تعالى عباده المحسنين وأثنى عليهم بخير وبشرهم بالفلاح والفوز المبين ذكر صنفا آخر على النقيض من الصنف الأول الكريم فقال : { ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم } اي ومن بعض الناس إنسان هو النضر بن الحارث الكلدي حليف قريش يشتري لهو الحديث أي الغناء إذ كان يشترى الجواري المغنيات ويفتح ناديا للهو والمجون ويدعو الناس إلى ذلك ليصرفهم عن الإِسلام حتى لا يجلسوا غلى نبيّه ولا يقرأوا كتابه بغير علم منه بعاقبة صنيعه وما يكسبه من خزي وعار وعذاب النار . وقوله { ويتخذها هزوا } اي يتخذ سبيل الله التي هي الإِسلام هزواً اي شيئا مهزوءاً به مسخوراً منه بما في ذلك الرسول والمؤمنون والآيات الكلّ يهزأ به ويسخر منه لجهله وظلمة نفسه . قال تعالى { أولئك } لهم عذاب مهين أي أولئك البعداء وهم كل من يشترى الغناء يغني به نساء ورجال أو آلات ممن اتخذوا الإِسم وشرائعه هزواً وسخرية ليصدوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله الموصلة إلى رضاه ومحبته وجنّته . أولئك مَنْ تِلك صفتهم لهم عذاب مهين بكسر أنوفهم وبذلهم يوم القيامة وقوله تعالى : { وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً } .
أي وإذا قُرئت على هذا الصنف من الناس آيات الله لتذكيره وهدايته رجع مستكبراً كأن لم يسمعها تتلى عليه وهي حالة من اقبح الحالات لدلالتها على خبث هذا الصنف من الناس وكبرهم . وقوله { كأن في أذنيه وقرا } كأن به صمم لا يسمع القول وهنا عَجَّلَ الله له بما يحزنه ويخزيه فقال رسوله محمد صلى الله عليه وسلم { فبشره بعذاب اليم } والتبشير بما يضر ولا يسر يحمل معه التهكم وهذا النوع من الناس مستحق لذلك وقوله تعالى { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها } هذا صنف آخر مقابل لما قبله وهم أهل الإِيمان والعمل الصالح بشرهم ربهم بجنات النعيم والخلود فيها وقوله { وعد الله حقاً } اي وعدهم بذلك وعداً صادقاً لا يخلف وأحقه لهم حقاً لا يسقط .
(3/246)
________________________________________
{ وهو العزيز } اي الغالب الذي لا يُحال بينه وبين مُراده الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه .
وقوله { خلق السموات بغير عمد ترونها } أي من مظاهر قدرته وعزته وحكمته خلقه السموات ورفعها بغير عمد مرئية لكم وفي هذا التعبير إشارة إلى أن هناك أعمدة غير مرئية وهي سنّة نظام الجاذبية التي خلقها بقدرته وجعل الأجرام السمواية متماسكة بها . وقوله : { والقى في الأرض رواسي } أي من مظاهر قدرته وحكمته إلقاء الجبال الرواسي على الأرض لتحفظ توازنها حتى لا تميل بأهلها فيفسد ويسقط ما عليها وتنعدم الحياة عليها وهو معنى { أن تميد بكم } أي تميل ، وإذا مالت تصدع كل ما عليها وخرب وقوله : { وبث فيها من كل دابة } وهذا مظهر آخر من مظاهر القدرة والعلم والحكمة الموجبة للإِيمان بالله ولقائه والمستلزمة لتوحيده تعالى في عبادته ، فسائر أنواع الدواب على كثرتها واختلافها الله الذي خلقها وفرقها في الأرض تعمرها وتزيّنها . وقوله { وأنزلنا من السماء ماء } وهو ماء المطر { فأنبت به من كل زوج } أي صنف من اصناف الزروع والنباتات مما هو نافع وصالح للإِنسان هذا المذكور أيضاً مظهر من مظاهر القدرة الإِلهية والعلم والحكمة الربّانية الموجبة للإِيمان بالله وآياته ولقائه وتوحيده في عباداته ومن هنا قال تعالى : { هذا خلق الله } أي كل ما ذكر من المخلوقات في هذه الآيات هو مخلوق لله والله وحده خالقه فأروني أيها المشركون المكذبون ماذا خلق الذين تعبدونهم من دونه من سائر المخلوقات يتحداهم بذلك . فعجزوا . وقوله تعالى { بل الظالمون في ضلال مبين } أي إنهم عبدوا غير الله وكذبوا بلقاء الله لا عن علم لديهم أو شبهة كانت لهم بل الظالمون وهم المشركون في ضلال مبين فهم تائهون في أودية الضلال حيارى بجهلهم في حياتهم فدواؤهم العلم والإِيمان فمتى آمنوا وعلموا لم يبق مجال لكفرهم وشركهم وعنادهم فلهذا فصَّل تعالى الآيات وعرض الأدلة والحجج عرضاً عجيباً لعلهم يذكرون فيؤمنوا ويوحدوا فيكملوا ويسعدوا فضلاً منه ورحمة . وهو العزيز الرحيم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) حرمة غناء النساء للرجال الأجانب .
2 ) حرمة شراء الأغاني في الأشرطة والاسطوانات التي بها غناء العواهر والخليعين من الرجال .
3 ) حرمة حفلات الرقص والغناء الشائعة اليوم في العالم كافره ومسلمه .
4 ) دعوة الله تقوم على دعامتي الترهيب والترغيب والبشارة والنذارة .
5 ) بيان شتَّى مظاهر القدرة والعلم والعز والحكمة الموجب للإِيمان والتوحيد .
6 ) لا قصور في الأدلة والحجج الإِلهية وإنما ضلال العقول بالشرك والمعاصي هو المانع من الاهتداء . والعياذ بالله تعالى .
(3/247)
________________________________________
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
شرح الكلمات :
{ ولقد آتينا لقمان الحكمة } : أي أعطينا لقمان القاضي : اي الفقه في الدين والعقل والإِصابة في الأمور .
{ أن اشكر لله } : أي اشكر لله ما أنعم به عليك بطاعته وذكره .
{ لابنه وهو يعظه } : أي ابنه ثاران وهو يعظه أي يأمره وينهاه مرغَّباً له مرهباً .
{ ووصينا الإِنسان } : أي عهدنا إليه ببرهما وهو كف الأذى عنهما والإِحسان إليهما وطاعتهما في المعروف .
{ وهناً على وهن } : أي ضعفاً على ضعف وشدة على شدة وهي الحمل والولادة والإِرضاع .
{ وفصاله في عامين } : أي مدة رضاعه تنتهي في عامين ، وبذلك يفصل عن الرضاع .
{ وإن جاهداك } : أي بذلا جهدهما في حملك على الشرك .
{ وصاحبهما في الدنيا معروفا } : أي واصحبهما في حياتهما بالمعروف وهو البر والإِحسان وكف الأذى والطاعة في غير معصية الله .
{ من أناب إليَّ } : أي رجع إليَّ بتوحيدي وطاعتي وطاعة رسولي محمد صلى الله عليه وسلم .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد والتنديد بالشرك والمشركين وهذه القصة اللقمانية اللطيفة مشوقة لذلك قال تعالى : { ولقد آتينا لقمان الحمكة } اي أعطينا عبدنا لقمان الحكمة وهي الفقه في الدين والإِصابة في الأمور وراسها مخافة الله تعالى بذكره وشكره الذي هو طاعته في عبادته وتوحيده فيها . وقوله : { أن اشكر لله } أي وقلنا له اشكر الله خالقك ما أنعم به عليك بصرف تلك النعم فيما يرضيه عنك ولا يسخطه عليك . وقوله تعالى { ومن يشكر فإِنما يشكر لنفسه } أي ومنشكر الله بطاعته فإِن ثمرة الشكر وعائدته للشاكر نفسه بحفظ النعمة والزيادة فيها أما الله فإِنه غني بذاته محمود بفعاله فلا يفتقر إلى خلقه في شيء إذ هم الفقراء إليه سبحانه وتعالى . وقوله تعالى : { وإذ قال لقمان } أي واذكر يا رسولنا لهؤلاء المشركين قول لقمان لابنه وأخص الناس به وهو ينهاه عن الشرك الذي نهيتكم أنا عنه فغضبتم واصررتم عليه عناداً ومكابره فقال له : بما أخبر به تعالى عنه في قوله : { وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه } اي يأمره وينهاه مرغباً له في الخير مرهباً له من الشر : { يا بنيَّ لا تشرك بالله } أي في عبادته أحداً . وعلل لنهيه ليكون أوقع في نفسه فقال : { إن الشرك لظلم عظيم } والظلم وضع الشيء في غير موضعه ويترتب عليه الفساد والخسران الكبير ، وعبادة غير الله وضع لها في غير موضعها إذ العبادة حق الله على عباده مقابل خلقهم ورزقهم وكلاءتهم في حياتهم وحفظهم وقوله تعالى : { ووصينا الإِنسان بوالديه } اي عهدنا إلى الإِنسان آمرين أياه ببرِّ والديه أي أمه وأبيه ، وبرُّهما بذل المعروف لهما وكف الأذى عنهما وطاعتهما في المعروف ، وقوله تعالى : { حملته } أي الإِنسان أمه أي والدته { وهنا على وهن } أي ضعفا على ضعف وشدة على أخرى وهي آلام وأتعاب الحمل والطلق والولادة والإِرضاع فلهذا تأكدَّ برُّهما فوق برِّ الوالد مرتين لحديث الصحيح :
(3/248)
________________________________________
« من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال : أمك ، قال ثم من؟ قال : أمك ، قال ثم من؟ قال : أمك ، قال : ثم من؟ قال : أبوك » وقوله { وفصاله في عامين } أي فطام الولد من الرضاع في عامين فأول الرضاع ساعة الولادة وآخره تمام الحولين ويجوز فصله عن الرضاع خلال العامين ، وقوله : { أن اشكر لي ولوالديك إليَّ المصير } هذا الموصى به وهو أن يشكر لله تعالى وذلك بطاعته تعالى فيما يأمره به وينهاه عنه ، وذكره بقلبه ولسانه وقوله { ولوالديك } إذ هما قدما معروفا وجميلا فوجب شكرهما ، وذلك ببرِّهما وصلتهما وطاعتهما في غير معصية الله ورسوله ، لأن طاعة الله كشكره قبل طاعة الوالدين وشكرهما وقوله { إلي المصير } أي الرجوع بعد الموت وهذه الجملة مؤكدة لواجب شكر الله تعالى وبر الوالدين لما تحمله من الترغيب والترهيب فالمطيع إذا رجع غلى الله أكرمه والعاصي أهانه . وما دام الرجوع إليه تعالى حتميّا فطاعته بشكره وشكر الوالدين متأكدة متعيّنة . وقوله تعالى { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا } اي وإن جاهداك أيها الإِنسان والداك وبذلا جهدهما في حملك على ن تشرك بي ما ليس لك به علم وهو عامة الشركاء إذ ما هناك من يصح إشراكه في عبادة الله قط . فلا تطعهما في ذلك ابداً ، { وصاحبهما في الدنيا } أي في الحياة بالمعروف وهو برهما وصلتهما وطاعتهما في غير معصية الله تعالى ورسوله ، وقوله : { واتبع سبيل من أناب إليَّ } أي اتبع طريق من أناب إليَّ بتوحيدي وعبادتي والدعوة إليّ وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم والآية نزلت في سعد ابن أبي وقاص حيث أمرته أمه أن يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ودينه وذلك قبل إسلامها وبذلت جهداً كبيراً في مراودة ابنها سعد رضي الله عنهما وقوله { إليَّ مرجعكم } أي جميعاً فأنبكم بما كنتم تعملون وأجيزكم بعملكم الخير بالخير والشر بالشر فاتقوني بطاعتي وتوحيدي والإِنابة إليّ في كل أموركم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) تقرير التوحيد والتنديد بالشرك .
2 ) بيان الحكمة وهي شكر الله تعالى بطاعته وذكره إذ لا يشكر إلا عاقل فقيه .
3 ) مشروعية الوعظ والإِرشاد للكبير والصغير والقريب والبعيد .
4 ) التهويل في شأن الشرك وإنه لظلم عظيم .
5 ) بيان مدة الرضاع وهي في خلال العامين لا تزيد .
6 ) وجوب بر الوالدين وصلتهما .
7 ) تقرير مبدأ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق بعدم طاعة الوالدين في غير المعروف .
8 ) وجوب اتباع سبيل المؤمنين من أهل السنة والجماعة وحرمة اتباع سبيل أهل البدع والضلالة .
(3/249)
________________________________________
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
شرح الكلمات :
{ إنها إن تك مثقال حبة } : أي توجد زنة حبة من خردل .
{ فتكن في صخرة } : أي في داخل صخرة من الصخور لا يعلمها أحد .
{ فتكن في صخرة } : أي لطيف باستخراج الحبة خبير بموضعها حيث كانت .
{ وأمر بالمعروف وانه عن المنكر } : أي مُر الناس بطاعة الله تعالى ، وانههم عن معصيته .
{ من عزم الأمور } : أي مما أمر الله به عزماً لا رخصة فيه .
{ ولا تصّعر خدك للناس } : أي ولا تُعرض بوجهك عمن تكلمه تكبراً .
{ مرحا } : أي مختالا تمشي خيلاء .
{ مختال فخور } : أي متبختر فخور كثير الفخر مما أعطاه الله ولا يشكر .
{ واقصد في مشيك } : أي إتَّئد ولا تعجل في مشيتك ولا تستكبر .
{ واغضض من صوتك } : أي اخفض من صوتك وهو الاقتصاد في الصوت .
{ إن أنكر الأصوات } : أي أقبح الأصوات واشدها نكارة عند الناس لأن أوله زفير وآخره شهيق .
معنى الآيات
ما زال السياق الكريم في قصص لقمان عليه السلام فقال تعالى مخبراً عن لقمان بقوله لابنه ثاران { يا بني إنها إن تك مثقال حبّة من خردل } أي إن تك زنة حبة من خردل من خير أو شر من حسنة أو سيئة { فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله } ويحاسب عليها ويجزي بها ، { إن الله لطيف } اي باستخراجها { خبير } بموضعها وعليه فاعمل الصالحات واجتنب السَّيئات وثق في جزاء الله العادل الرحيم هذا ما دلت عليه الاية الأولى ( 16 ) أما الآية الثانية ( 17 ) فقد تضّمنت أمر ولدِه باقام الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى في ذلك فقال له ما أخبر تعالى به عنه في قوله : { يا بني اقم الصلاة } اي أدها بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها ، { وأمر بالمعروف } اي بطاعة الله تعالى فيما أوجب على عباده { وانه عن المنكر } أي عما حرم الله تعالى على عباده من اعتقاد أو قول أو عمل . { واصبر على ما أصابك } من أذى ممن تأمرهم وتنهاهم ، وقوله { إن ذلك من عزم الأمور } اي إن اقام الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى في ذات الله من الأمور الواجبة التي هي عزائم وليست برخص . وقوله تعالى { ولا تصعِّر خدك للناس } هذا مما قاله لقمان لابنه نهاه فيه عن خصال ذميمة محرمة وهي التكبر على الناس بأن يخاطبهم وهو معرض عنهم بوجهه لا وعنقه ، وهي مشية المرح والاختيال والتبختر ، والفخر بالنعم مع عدم شكرها وقوله تعالى { إن الله لا يحب كل مختال فخور } هذا مما قاله لقمان لابنه لما نهاه عن التكبر والاختيال والفخر أخبره أن الله تعالى لا يحب من هذه حاله حتى يتجنبها ولده الذي يعظه بها وبغيرها وقوله في الاية ( 19 ) { واقصد في مشيك } أي إمش متَّئداً في غير عجلة ولا إسراع إذ الاقتصاد ضد الإِسراف .
(3/250)
________________________________________
وقوله : { واغضض من صوتك } أمره أن يقتصد في صوته ايضاً فلا يرفع صوته إلا بقدر الحاجة . كالمقتصد لا يُخرج درهمه إلا عند الحاجة وبقدرها وقوله { إن أنكر الأصوات كصوت الحمير } ذكر هذه الجملة لينفره من رفع صوته بغير حاجة فذكر له أنَّ أقبح الأصوات صوت الحمير لأنه عال مرتفع وأوله زفير وآخره شهيق . هذا آخر ما قص تعالى من نبأ لقمان العبد الصالح عليه السلام .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) وجوب مراقبة الله تعالى وعدم الاستخفاف بالحسنة والسيئة مهما قلت وصغرت .
2 ) وجوب إقام الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ما يلحق الآمر والناهي من أذى .
3 ) حرمة التكبر والاختيال في المشي ووجوب القصد في المشي والصوت فلا يسرع ولا يرفع صوته إلا على قدر الحاجة .
(3/251)
________________________________________
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)
شرح الكلمات
{ ألم تروا } : أي الم تعلموا أيُّها الناس .
{ سخر لكم ما في السموات } : أي من شمس وقمر وكواكب ورياح وأمطار لمنافعكم .
{ وما في الأرض } : أي من أشجار وأنهار وجبال وبحار وغيرها .
{ وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة } : أي أوسع وأتمّ عليكم نعمه ظاهرة وهي الصحة وكمال الخلق وتسوية الأعضاء .
{ وباطنة } : أي المعرفة والعقل .
{ من يجادل في الله } : أي يخاصم في توحيد الله منكراً له مكذباً به .
{ بغير علم } : أي بدون علم عنده من وحي ولا هو مستفاد من دليل عقلي .
{ ولا هدى ولا كتاب منير } : أي سنة من سنن الرسل ، ولا كتاب إلهي منير واضح بيّن .
{ أو لو كان الشيطان } : أي ايتبعونهم ولو كان الشيطان يدعو آباءهم إلى موجب عذاب السعير من الشرك والمعاصي .
معنى الآيات
عاد السياق بعد نهاية قصة لقمان غلى خطاب المشركين لهدايتهم فقال تعالى { الم تروا } ايها الناس الكافرون بالله وقدرته ورحمته اي الم تعلموا بمشاهدتكم { أن الله سخر لكم } اي من أجلكم { ما في السموات } من شمس وقمر وكواكب ومطر ، وسخر لكم ما في الأرض من أشجار وأنهار وجبال ووهاد وبحار وشتَّى الحيوانات ومختلف المعادن كل ذلك لمنافعكم في مطاعمكم ومشاربكم وكل شؤون حياتكم ، { وأسبغ عليكم نعمه } اي أوسعها وأتمها نعم الإِيجاز ونعم الإِمداد حال كونها ظاهرة كحسن الصورة وتناسب الأعضاء وكمال الخلق ، وباطنة كالعقل والإِدراك والعلم والمعرفة وغير ذلك مما لا يحصى ولا يعدن وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ، ومع هذا البيان والإِنعام والاستدلال على الخالق بالخلق وعلى المنعم بالنعم فإِن ناساً يجادلون في توحيد الله واسمائه وصفاته ووجوب طاعتهت وطاعة رسوله بغير علم من وحي ولا استدلال من عقل ، ولا كتاب منير واضح بين يحتجون به ويجادلون بأدلته .
وقوله تعالى { وإذا قيل } أي لأولئك المجادلين في الله بالجهل والباطل { اتبعوا ما أنزل الله } أي على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من هدىً ، قالوا لا ، بل نتّبع ما وجدنا عليه آباءنا من عقائد وثنيّة وتقاليد جاهلية ، قال تعالى : { أو لو كان الشيطان يدعوهم } اي أيتَّبعون ىباءهم ولو كان الشيطان يدعو ىباءهم { إلى عذاب السعير } أي النار المستعرة الملتهبة والجواب لا ، ولكن اتبعوهم فسوف يردون معهم النار وبئس الورد المورود .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) تعيين الاستدلال بالخلق على الخالق وبالنعمة على المنعم .
2 ) وجوب ذكر النعم وشكرها لله تعالى بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .
3 ) حرمة الجدال بالجهل ودون علم .
4 ) حرمة التقليد في الباطل والشر والفساد كتقليد بعض المسلمين اليوم للكفار في عاداتهم وأخلاقهم ومظاهر حياتهم .
(3/252)
________________________________________
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
شرح الكلمات :
{ ومن يسلم وجهه إلى الله } : أي أقبل على طاعته مخلصاً له العبادة لا يلتفت إلى غيره من سائر خلقه .
{ وهو محسن } : أي والحال انه محسن في طاعته اخلاصاً واتباعاً .
{ فقد استمسك بالعروة الوثقى } : أي تعلّق بأوثق ما يتعلق به فلا يخاف انقطاعه بحال .
{ وإلى الله عاقبة الأمور } : أي مرجع كل الأمور إلى الله سبحانه وتعالى .
{ نمتعهم قليلاً } : أي متاعاً في هذه الدنيا قليلا إي إلىنهاية آجالهم .
{ ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ } : أي ثم نُلجئهم في الآخرة إلى عذاب النار والغليظ : الثقيل .
{ قل الحمد لله } : أي إحمد الله على ظهور الحجة بأن تقول الحمد لله .
{ لا يعلمون } : أي من يستحق الحمد والشكر ومن لا يستحق لجهلهم .
معنى الآيات
بعد إقامة الحجة على المشركين في عبادتهم غير الله وتقليدهم لآبائهم في الشرك والشر والفساد قال تعالى مرغباً في النجاة داعياً إلى الإِصلاح : { ومن يُسلم وجهه إلى الله } أي يقبل بوجهه وقلبه على ربه يعبده مُتذللاً له خاضعاً لأمره ونهيه . { وهو محسن } اي والحال أنه محسن في عبادته اخلاصا فيها لله ، واتباعا في أدائها لرسول الله { فقد استمسك بالعروة الوثقى } اي قد أخذ بالطرف الأوثق فلا يخاف انقطاعاً ابداً وقوله تعالى : { وإلى الله عاقبة الأمور } يخبر تعالى أن مَردَّ الأمور كلها لله تعالى يقضي فيها بما يشاء فليفوِّض العبد أموره كلها لله إذ هي عائدة غليه فيتخذ بذلك له يداً عند ربه ، وقوله لرسوله : { ومن كفر فلا يحزنك كفره } اي اسلم وجهك لربك وفوض أمرك إليه متوكلا عليه ومن كفر من الناس فلا يحزنك كفره اي فلا تكترث به ولا تحزن عليه { إلينا مرجعهم } اي فإِن مردهم غلينا بعد موتهم ونشورهم { فننبئهم بما عملوا } في هذا الدار من سوء وشر ونجزيهم به . { إن الله عليم بذات الصدور } اي بما تكنه وتخفيه من اعتقادات ونيّات وبذلك يكون الحساب دقيقاً والجزاء عاجلاً . وقوله تعالى : { نمتعهم قليلاً } اي نمهل هؤلاء المشركين فلا نعاجلهم بالعقوبة فيتمتعون مدة آجالهم وهو متاع قليل { ثم نضطرهم } بعد موتهم ونشرهم { إلى عذاب غليظ } أي نلجئهم إلجاءً غلى عذاب غليظ ثقيل لا يحتمل ولا يطاق وهو عذاب النار . نعوذ بالله منها ومن كل عمل يؤدي إليها وقوله تعالى في الآية ( 25 ) { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } اي ولئن سألت يا رسولنا هؤلاء المشركين قائلا لهم : من خلق السموات والأرض لبادروك بالجواب قائلين الله إذاً قل الحمد لله على إقامة الحجة عليكم باعترافكم ، وما دام الله هو الخالق الرازق كيف يعبد غيره أو يعبد معه سواه أين عقول القوم؟ وقوله { بل أكثرهم لا يعلمون } اي لا يعلمون موجب الحمد ولا مقتضاه ، ولا منيستحق الحمد ومن لا يستحقه لأنهم جهلة لا يعلمون شيئاً .
(3/253)
________________________________________
وقوله تعالى : { لله ما في السموات والأرض } اي خلقا وملكا وعبيدا ولذا فهو غني عن المشركين وعبادتهم فلا تحزن عليهم ولا تبال بهم عبدوا أو لم يعبدوا { إن الله هو الغني } عن كل ما سواه { الحميد } اي المحمود بعظيم فعله وجميل صنعه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) بيان نجاة أهل لا إله إلا الله وهم الذين عبدوا الله وحده بما شرع لهم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم .
2 ) تقرير عقيدة البعث والجزاء .
3 ) بيان أن المشركين من العرب موحدون في الربوبيّة مشركون في العبادة كما هي حال كثير من الناس اليوم يعتقدون أن الله ربّ كل شيء ولا ربَّ سواه ويذبحون وينذرون ويحلفون بغيره ، ويخافون غيره ويرهبون سواه . والعياذ بالله .
(3/254)
________________________________________
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
شرح الكلمات :
{ ولو أن ما في الأرض } : أي من شجرة .
{ أقلام } : أي يكتب بها .
{ والبحر } : أي المحيط .
{ يمده سبعة أبحر } : أي تمده .
{ ما نفدت كلمات الله } : أي ما انتهت ولا نقصت .
{ إن الله عزيز حكيم } : أي عزيز في انتقامه غالب على ما أراده حكيم في تدبير خلقه .
{ ما خلقكم ولا بعثكم } : أي ما خلقكم ابتداء ولا بعثكم من قبوركم إعادة لكم إلا كخلق وبعث نفس واحدة .
معنى الآيتين
قوله تعالى { ولو أَن ما في الأرض من شجرة أقلام } اي لو أن شجر الأرض كله قطعت أغصانه شجرة شجرة حتى لم تبق شجرة ويُريت أقلاماً ، والبحر المحيط صار مداداً ومن ورائه سبعة أبحر أخرى تحولت إلى مداد وتُمد البحر الأول وكُتب بتلك الأقلام وذلك المداد كلمات الله لنفد البحر والأقلام ولم تنفد كلمات الله ، وذلك لأن الأقلام والبحر متناهية ، وكلمات الله غير متناهية فعلم الله وكلامه كذاته وصفاته لا تتناهى بحال ، نزلت هذه الاية رداً على اليهود لما قيل لهم { وما أُتيتم من العلم إلا قليلا } قالوا وكيف هذا وقد أُوتينا التوراة فيها تبيان كل شيء . كما نزل رداً على أُبي بن خلف قوله تعالى : { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة } إذ قال للنبي صلى الله عليه وسلم كيف يخلقنا الله خلقا جديدا في يوم واحد ليحاسبنا ويجزينا ، ونحن خلقنا اطواراً وفي قرون عديدة فأنزل تعالى قوله { ما خلقكم ولا بعثكم } إلا كخلق وبعث نفس واحدة { إن الله سميع بصير } فكما يسمع المخلوقات ولا يشغله صوت عن صوت ، ويُبصرهم ولا تحجبه ذات كذلك هو يبعثهم في وقت واحد ولو اراد خلقهم جملة واحدة لخلقهم لأنه يقول للشيء كن فيكون .
هداية الآيتين :
من هداية الآيتين :
1 ) بيان سعة علم الله تعالى وأنه تعالى متكلم وكلماته لا تنفد بحال من الأحوال .
2 ) بيان أن ما أوتيه الإِنسان من علوم ومعارف ما هو بشيء إلىعلم الله تعالى .
3 ) بيان قدرة الله تعالى وانها لا تحد ولا يعجزها شيء .
4 ) إثبات صفات الله كالعزة والحكمة والسمع والبصر .
(3/255)
________________________________________
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
شرح الكلمات :
{ ألم تر } : أي ألم تعلم أيها المخاطب .
{ ان الله يولج الليل في النهار } : أي يدخل جزءاً منه في النهار ، ويدخل جزءاً من النهار في الليل بحسب الفصول .
{ وسخر الشمس والقمر } : يسبحان في فلكيهما الدهر كله لا تكلان إلى يوم القيامة وهو الأجل المسمى لهما .
{ ذلك بأن الله هو الحق } : أي ذلك المذكور من الإيلاج والتسخير بسبب أن الله هو الإِله الحق .
{ وأن ما يدعون من دونه الباطل } : أي وأن ما يدعون من دونه من آلهة هي الباطل .
{ بنعمت الله } : أي بإِفضاله على العباد وإحسانه إليهم حيث هيأ اسباب جريها .
{ لكل صبار شكور } : أي صبار عن المعاصى شكور للنّعم .
{ وإذا غشيهم موج } : أي علاهم وغطاهم من فوقهم .
{ كالظلل } : أي كالجبال التي تظلل من تحتها .
{ فمنهم مقتصد } : أي بين الكفر والإِيمان بمعنى معتدل في ذلك ما آمن ولا كفر .
{ كل ختار كفور } : أي غدار كفور لنعم الله تعالى .
معنى الآيات
ما زال السياق في تقرير التوحيد وإبطال الشرك والكفر قال تعالى { ألم تر } أي الم تعلم أيها النبي أن الله ذا الألوهية على غيره { يولج الليل في النهار } بإِدخال جزء منه في النهار { ويولج النهار في الليل } بإِدخال جزء منه في الليل وذلك بحسب الفصول السَّنوية { وسخر الشمس والقمر } يسبحان في فلكيهما لمنافع الناس إلى أجل مسمى أي إلى وقت محدد معين عنده سبحانه وتعالى وهو يوم القيامة ، وأن الله تعالى بما تعملون خبير ، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم صالحها وفاسدها وسيجزيكم بها وقوله { ذلك بأن الله هو الحق } أي ذلك الإِيلاج لليل في النهار والنهار في الليل وتسخير الشمس والقمر ، وعلم الله تعالى بأعمال العباد ومجازاتهم عليها قاطع لكل شك بأن الله هو إله الحق ، وأن ما يدعون من دونه من أوثان هو الباطل ، وقاطع بأن الله تعالى ذا الألوهية الحقة هو العلي الكبير أي ذو العلو المطلق الكبير الذي ليس شيء أكبر منه إذ هو ربّ كل شيء ومالكه والقاهر له والمتحكم فيه لا إله إلا هو ولا رب سواه .
وقوله تعالى { ألم تر } يا محمد { أن الفلك } أي السفن { تجري في البحر بنعمت الله } تعالى على خلقه حيث يسَّر لها أسباب سيرها وجريها في البحر وهي تحمل السلع والبضائع والأقوات من إقليم إلى إقليم وهي نعم كثيرة . سخر ذلك لكم ليريكم من ىياته الدالة على ربوبيته وألوهيته وهي كثيرة تتجلى في كل جزء من هذا الكون . وقوله { إن في ذلك لآيات } أي علامات ودلائل على قدرة الله ورحمته وهي موجبات عبادته وتوحيده فيها ، وقوله { لكل صبار شكور } أي فيها عِبَرٌ لكل عبد صبور على الطاعات صبور عن المعاصي صبور عما تجرى به الأقدار شكور لنعم الله تعالى جليلها وصغيرها أما غير الصبور الشكور فإِنه لا يجد فيها عبرة ولا عظة .
(3/256)
________________________________________
وقوله تعالى : { وإذا غشيهم موج كالظلل } أي إذا غشي المشركين موج وهم على ظهر السفينة فخافوا { دعوا الله مخلصين له الدين } أي دعوا الله وحده ولم يذكروا آلهتهم .
فلما نجاهم بفضله { إلى البر } فلم يغرقوا { فمنهم مقتصد } أي في غيمانه وكفره لا يُغالي في كفره ولا يعلن عن إيمانه . وقوله { وما يجحد بآياتنا } القرآنية والكونية وهي مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته الموجبة لألوهيته { إلا كل ختار } أي غدار بالعهود { كفور } للنعم لا خير فيه البتَّة والعياذ بالله تعالى من أهل الغدر والكفر .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) تقرير التوحيد وإبطال الشرك بذكر الأدلة المستفادة من مظاهر قدرة الله وعلمه ورحمته وحكمته .
2 ) فضيلة الصبر والشكر والجمع بينهما خير من افتراقهما .
3 ) بيان أن المشركين أيام نزول القرآن كانوا يوحدون في الشدة ويشركون في الرخاء .
4 ) شر الناس الختار اي الغدار الكفور .
5 ) ذم الختر وهو أسوأ الغدر وذم الكفر بالنعم الإِلهية .
(3/257)
________________________________________
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
شرح الكلمات
{ اتقوا ربكم } : أي خافوا فآمنوا به واعبدوه وحده تنجوا من عذابه .
{ واخشوا يوما } : أي خافوا يوم الحساب وما يجري فيه .
{ لا يجزي والد عن ولده } : أي لا يغني والد فيه عن ولده شيئا .
{ إن وعد الله حق } : أي وعد الله بالحساب والجزاء حق ثابت لا محالة هو كائن .
{ لا تغرنكم الحياة الدنيا } : أي فلا تغتروا بالحياة الدنيا فإِنها زائلة فأسلموا تسلموا .
{ ولا يغرنكم بالله الغرور } : أي الشيطان يغتنم حلم الله عليكم وإِمهاله لكم فيجسركم على المعاصي ويسوفكم في التوبة .
{ وينزل الغيث } : أي المطر .
{ ويعلم ما في الأرحام } : أي من ذكر أو أنثى ولا يعلم ذلك سواه .
{ ماذا تكسب غدا } : أي من خير أو شر والله يعلمه .
معنى الآيتين الكريمتين
هذا نداء عام لكل البشر يدعوهم فيه ربهم تعالى ناصحاً لهم بأن يتقوه بالإِيمان به وبعبادته وحده لا شريك له وأن يخشوا يوماً عظيما فيه من الأهوال والعظائم مالا يقادر قدره بحيث لا يجزي فيه والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إذ كل واحد لا يريد غلا نجاة نفسه فيقول نفسي نفسي وهذا لشدة الهول يوم لا يغني أحد عن أحد شيئا ولو كان أقرب قريبن وهو يوم آت لا محالة حيث وعد الله به الناس ووعد الله حق والله لا يخلف الميعاد ، ويقول لهم بناءً على ذلك { فلا تغرنكم الحياة الدنيا } بملاذها وزخارفها وطول العمر فيها ، { ولا يغرنكم بالله } ذي الحلم والكرم { الغرور } اي الشيطان من الإِنس أو الجن يخ\حملكم على تأخير التوبة ومزاولة أنواع المعاصي بتنزيينها لكم وترغيبكم فيها فانتبهوا فإِن الموت لا بُد منه وقد يأتي فجأة فالتوبة يا عباد الله هذه نصيحة الرّب تبارك وتعالى لعباده فهل من مستجيب؟ هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 33 ) .
أما الآية الثانية ( 34 ) فالله جل جلاله يخبر عباده بأنه استقل بعلم الساعة متى تأتي والقيامة متى تقوم وليس لأحد أن يعلم ذلك كائناً من كان وهذه حال تتطلب من العبد أنيعجل التوبة ولا يؤخرها ، كما استقل تعالى بعلم وقت نزول المطر في يوم أو ليلة أوساعة من ليل أو نهار ، ويعلم ما في الأرحام أرحام الإناث من ذكر أو أونثى أو أبيض أو أحمر أو أسود ومن طول وقصر ومن غيمان أو كفر ولا يعلم ذلك سواه ويعلم ما يكسب كل إنسان في غده من خير أو شر أو غنى أو فقر ، ويعلم أين تموت كل نفس من بقاع الأرض وديارها ولا يعلم ذلك إلا الله ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « مفاتح الغيب خمسة » وقرأ : { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير } « في الصحيح » .
(3/258)
________________________________________
وقوله إن الله عليم اي بكل شيء وليس بهؤلاء الخمسة فقط خبير بكل شيء من دقيق أو جليل من ذوات وصفات وأحوال وببواطن الأمور كظواهرها وبهذا وجب أن يُعبد وحده بما شرع من أنواع العبادات التي هي سُلم النجاح ومرقى الكمال والإِسعاد في الدارين .
هداية الآيتين :
من هداية الآيتين :
1 ) وجوب تقوى الله عز وجل بالإِيمان به وتوحيده في عبادته .
2 ) تقرير عقيدة البعث والجزاء .
3 ) التحذير من الاغترار بالحياة الدنيا ، والتحذير من الشيطان اي من اتباعه والاغترار بما يُزينه ويحسنه من المعاصي .
4 ) بيان مفاتح الغيب الخمسة واختصاص الربّ تعالى بمعرفتها .
5 ) كل مدع لمعرفة الغيب من الجن والإِنس فهو طاغوت يجب لعنه ومعاداته .
6 ) ما ادّعى اليوم من أنه بواسطة الآلات الحديثة قد عرف ما في رحم المرأة فهذه المعرفة ليست داخلة في قوله تعالى { ويعلم ما في الأرحام } لأنها بمثابة من فتح البطن ونظر ما فيه فقال هو كذا وذلك لوجود أشعة عاكسة أمّا المنفيّ عن كل حد إلا الله أن يقول المرء : إن في بطن امرأة فلان ذكراً أو أنثى ولا يقربُ منها ولا يجرّبها في ولادتها السابقة ، ولا يحاول أن يعرف ما في بطنها بأيّة محاولة .
(3/259)
________________________________________
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)
شرح الكلمات { آلم } : هذا أحد الحروف المقطعة يكتب آلم ، ويقرأ ألف لام ميم .
{ لا ريب فيه } : أي لا شك في أنه نزل من ربّ العالمين .
{ أم يقولون افتراه } : أي بل ايقولون أي المشركون اختلقه وكذبه .
{ قوما ما أتاهم من نذير } : أي من زمن بعيد وهم قريش والعرب .
{ لعلهم يهتدون } : أي بعد ضلالهم إلى الحق الذي هو دين الإِسلام .
{ في ستة أيام } : هي الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة .
{ ثم استوى على العرش } : أي استوى على عرشه يدير أمر خليقته .
{ من ولي ولا شفيع } : أي ليس لكم أيها المشركون من دون الله وليّ يتولاكم ولا شفيع يشفع لكم .
{ أفلا تتذكرون } : أي أفلا تتعظون بما تسمعون فتؤمنوا وتوحدوا .
معنى الآيات
قوله تعالى { آلم } هذه الحروف المقطعة في فواتح عدة سور السلم أن لا تؤول ويكتفى فيها بقول الله أعلم بمراده بها . وقد اخترنا من أقاويل المفسرين أنها أفادت فائدتين : الأولى أنه لما كان المشركون من قريش في مكة يمنعون سماع القرآن مخافة أن يتأثر السامع به فيؤمن ويوحد فكانت هذه الحروف تستهويهم بنغمها الخاص فيستمعون فينجذبون ويؤمن من شاء الله إيمانه وهدايته والثانية بقرينة ذكر الكتاب بعدها غالباً : أن هذا القرآن الكريم قد تالف من مثل هذه الحروف آلم ، طس ، حم ، ق ، فألفوا أيها المكذبون سورة من مثله وإلاّ فاعلموا أنه تنزيل من الله رب العالمين فلما عجزوا قامت عليهم الحجة ولم يبق شك في أنه تنزيل الله وكتابه أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقوله تعلى : { تنزيل الكتاب } أي القرآن الكريم { لا ريب فيه } اي لاش ك في أنه نزل من رب العالمين على محمد صلى الله عليه وسلم . وليس بشعر ولا بسجع كهان ، ولا أساطير الأولين وقوله تعالى : { أم يقولون افتراه } أي بل أيقولون افتراه محمد واختلقه وأتى به من تلقاء نفسه اللهم لا إنه لم يفتره { بل هو الحق من ربّك } اي جاءك من ربك وحياً أوحاه إليك ، { لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك } وهم مشركوا العرب لتنذرهم بأس الله وعذابه إن بقوا على شركهم وكفرهم ، وقوله { لعلهم يهتدون } أي رجاء أن يؤمنوا ويوحدوا فيهتدوا إلى الحق بعد ضلالهم فينجوا ويكملوا ويسعدوا وقوله : { الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما } أي من مخلوقات { في ستة أيام } من مثل أيام الدنيا أولها الأحد وأخرها الجمعة ولذا كانت الجمعة من أفضل الأيام { ثم استوى على العرش } عرشه سبحانه وتعالى استوى استواء يليق به يدبر أمر مخلوقاته . الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما هو الذي أنزل الكتاب وأرسل الرسول وهو الإِله الحق الذي لا إله غيره ولا ربّ سواه ما للعرب ولا للبشرية كلها من إله غيره ، وليس لها من غيره من وليّ يتولاها بالنصر والإِنجاء إن أراد الله خذلانها وإهلاكها ، وليس لها شفيع يشفع لها عنده إذا أراد الانتقام منها لشركها وشرها وفسادها وقوله : { أفلا تتذكرون } فتعلموا أيها العرب المشركون أنه لا إله لكم إلا الله فتعبدوه وتوحدوه فتنجوا من عذابه وتكملوا وتسعدوا في دنياكم وآخرتكم .
(3/260)
________________________________________
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) تقرير النبوة المحمدية بتقرير أن القرآن تنزيل الله ووحيه أوحاه إلى رسوله .
2 ) إبطال ما كان المشركون يقولون في القرآن بأنه شعر وسجع كهان وأساطير الأولين .
3 ) بيان الحكمة من إنزال القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو الإِنذار .
4 ) بيان الزمان الذي خلق الله فيه السموات والأرض وما بينهما .
5 ) إثبات صفة الاستواء على العرش لله تعالى .
6 ) تقرير أنه ما للبشرية من إله إلا الله وأنه ليس لها من دونه من وليّ ولا شفيع فما عليها إلا أن تؤمن بالله وتعبده فتكمل وتسعد على عبادته .
(3/261)
________________________________________
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
شرح الكلمات :
{ يدبر الأمر من السماء إلى الأرض } : أي أمر المخلوقات طوال الحياة .
{ ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره } : أي يوم القيامة حيث تنتهي هذه الحياة وسائر شؤونها .
{ ألف سنة مما تعدون } : أي من أيام الدنيا .
{ عالم الغيب والشهادة } : أي ما غاب عن الناس ولم يروه وما شاهدوه ورأوه .
{ بدأ خلق الإِنسان من طين } : أي بدأ خلق آدم عليه السلام من طين .
{ من سلالة من ماء مهين } : أي خلق ذريّة آدم من علقة من ماء النطفة .
{ ثم سواه ونفخ فيه من روحه } : أي سوى الجنين في بطن أمه ونفخ فيه الروح فكان حياًّ كما سوى آدم ايضا ونفخ فيه من روحه فكان حياً .
{ والأفئدة } : أي القلوب .
{ قليلا ما تشكرون } : أي ما تشكرون الله على نعمة الايجاد والامداد إلا شكراً قليلا لا يوازي قدر النعمة .
معنى الآيات
ما زال السياق في تقرير التوحيد والنبّوة والبعث والجزاء يذكر مظاهر القدرة والعلم والرحمة والحكمة الإِلهية ، فقوله تعالى { يدبر الأمر } اي أمر المخلوقات { من السماء } حيث العرش وكتاب المقادير { إلى الأرض } حيث تتم الحياة والموت والصحة والمرض والعطاء والمنع ، والغنى والفقر والحرب والسلم ، والعز والذل فالله تعالى من فوق عرشه يدبر أمر الخلائق كلها في عوالمها المختلفة ، وقوله ثم يعرج أي الأمر إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما يعد الناس اليوم من ايام هذه الدنيا . ومعنى { يعرج إليه } في يوم القيامة أي يرد إليه حيث عم الكون الفناء ولم يبق ما يدبر في هذه الأرض لفنائها وفناء كل ما كان عليها . وقوله { ذلك عالم الغيب والشهادة } اي ما غاب عن الناس وما حضر فشاهدوه أي العالم بكل شيء وقوله العزيز الرحيم : أي الغالب على مراده من خلقه الرحيم بالمؤمنين من عباده ، وقوله { الذي أحسن كل شيء خلقه } أي أحسن خلق كل مخلوق خلقه أي جوّد خلقه وأتقنه وحسنه . وقوله { وبدأ خلق الإِنسان من طين } أي وبدأ خلق آدم من طين وهو الإِنسان الأول ، { ثم جعل نسله } اي نسل الإِنسان من { سلالة } وهي العلقة { من ماء مهين } وهو النطفة ، وقوله { ثم سواه ونفخ فيه من روحه } أي سوّى آدم ونفخ فيه من روحه ، كما سوى الإِنسان في رحم أمه أي سوى خلقه ثم نفخ فيه من روحه فكان إنساناً حياً ، وقوله : { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } أي القلوب أي لتسمعوا وتبصروا وتفقهوا لحاجتكم غلى ذلك لأن حياتكم تتطلب منكم مثل ذلك ومَعَ هذه النعم الجليلة { قليلاً ما تشكرون } أي لا تشكرون إلاّ شكراً قليلا .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) بيان جلال الله وعظمته في تدبيره أمر الخلائق .
2 ) بيان صفات الله تعالى من العلم والعزة والرحمة .
3 ) بيان كيفية خلق الإِنسان ومادة خلقه .
4 ) شكر العباد -إن شكروا- لا يوازي نعم الله تعالى عليهم .
5 ) وجوب شكر النعم بالاعتراف بها وذكرها وحمد الله تعالى عليها وصرفها في مرضاته .
(3/262)
________________________________________
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
شرح الكلمات
{ أئذا ضللنا في الأرض } : أي غبنا فيها حيث فنينا وصرنا ترابا .
{ أئنا لفي خلق جديد } : أي أنعود خلقا جديداً بعد فنائنا واختلاطنا بالتراب .
{ بل هم بلقاء ربهم كافرون } : أي لم يقف الأمر عند استبعادهم للبعث بل تعداه إلى كفرهم بلقاء ربهم ، وهو الذي جعلهم ينكرون البعث .
{ قل يتوفاكم ملك الموت } : أي يقبض أرواحكم ملك الموت المكلف بقبض الأرواح .
{ ثم إلى ربكم ترجعون } : أي بعد الموت ، وما دمتم لا تمنعون أنفسكم من الموت سوف لا تمننعونها من الحياة فرجوعكم حتمي لا محالة .
معنى الآيتين
ما زال السياق في تقرير اصول العقيدة فأخبر تعالى عن منكري البعث فقال { وقالوا } أي منكروا البعث الآخر { أئذا ضللنا في الأرض } أي غبنا فيها بحيث صرنا ترابا فيها { أئنا لفي خلق جديد } أي لعائدون في خلق جديد . وهذا منهم انكار للبعث واستبعاد له ، فقال تعالى مخبراً عن علة انكارهم للبعث وهي أنهم بلقاء ربهم كافرون إذ لو كانوا يؤمنون بلقاء الله الذي وعدهم به لما أنكروا البعث والحياة لذلك ، وقوله تعالى { قل يتوفاكم } أي قل يا رسولنا لهؤلاء المنكرين للبعث ولقاء الرب تعالى : يتوفاكم عند نهاية آجالكم { ملك الموت } الذي وكله ربُّه يقبض أرواحكم ، { ثم إلى ربكم ترجعون } بعد ذلك وما دمتم لا تدفعون الموت عن أ ، فسكم فكيف تدفعون الحياة عندما يريدها الله منكم؟ وهل دفعتموها عندما كنتم عدماً فأوجدكم الله وأحياكم .
هداية الآيتين :
من هداية الآيتين :
1 ) تقرير عقيدة البعث والجزاء .
2 ) الذنب الذي هو سببكل ذنب هو الكفر بلقاء الله تعالى .
3 ) بيان أن لقبض الأرواح ملكاً وله أعوان من الملائكة وأن الأرض جعلت لملك الموت كالطسن بين يديه يتناول منها ما يشاء .
(3/263)
________________________________________
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
شرح الكلمات :
{ إذ المجرمون } : أي المشركون المكذبون بلقاء ربهم .
{ ناكسوا رؤوسهم } : أي مطأطئوها من الحياء والذل والخزي .
{ ربنا أبصرنا } : أي ما كنا ننكر من البعث .
{ وسمعنا } : أي تصديق ما كانت رسلك تأمرنا به في الدنيا .
{ فارجعنا } : أي إلى دار الدنيا .
{ لآتينا كل نفس هداها } : أي لو اردنا هداية الناس قسراً بدون اختيار منهم لفعلنا .
{ ولكن حق القول مني } : أي وجب وهو لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين .
{ إنا نسيناكم } : أي تركناكم في العذاب .
{ عذاب الخلد } : أي العذاب الخالد الدائم .
{ بما كنتم تعملون } : من سيئات الكفر والتكذيب والشر والشرك .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحداثها وما يجري للمكذبين بها في الدار الآخرة قال تعالى : { ولو ترى } يا رسولنا { إذ المجرمون } وهم الذين أجرموا على أنفسهم فدنسوها بالشرك والمعاصي الحامل عليها التكذيب بلقاء الله ، { ناكسوا رؤوسهم } أي مطئطئوها خافضوها عند ربهم من الحياء والخزي الذي أصابهم عند البعث . لرايت أمرا فظيعاً لا نظير له . وقوله تعالى { ربنا أبصرنا وسمعنا } هذا قول المجرمين وهم عند ربهم أي يا ربنا لقد أبصرنا ما كنا نكذب به من البعث والجزاء وسمعنا منك أي تصديق ما كانت رسك تأمرنا به في الدنيا . { فارجعنا } اي إلى دار الدنيا { نعمل صالحاً } أي عملا صالحا { إنا موقنون } أي الآن ولم يبق في نفوسنا شك بأنك الإِله الحق ، وبأن لقاءك حق ، وقوله تعالى : { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } وذلك لما طالب المجرمون بالعودة إلى الدنيا ليعملوا صالحاً فأخبر تعالى انه ما هناك حاجة إلى ردهم إلى الدنيا ليؤمنوا ويعملوا الصالحات ، إذ لو شاء هدايتهم لهداهم قسراً منهم بدون اختيارهم ، ولكن سبق أن قضى بدخولهم جهنم فلا بد هم داخلوها وهو معنى قوله : { ولكن حق القول مني } أي وجب العذاب لهم وهو معنى قوله { لأملأن جهنم من الجنة } أي الجن { والناس أجميعن } أي من كفار ومجرمي الجن والإِنس معاً .
وقوله { فذوقوا } أي العذاب والخزي { بما نسيتم } أي بسبب نسيانكم { لقاء يومكم هذا } فلم تؤمنوا ولم تعملوا صالحاً إنا نسيناكم أي تركناكم في العذاب . { وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون } من الشرك والمعاصي هذا يقال لهم وهم في جهنم تبكيتاً لهم وتقريعاً زيادة في عذابهم ، والعياذ بالله من عذاب النار .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) التنديد بالإِجرام والمجرمين وبيان حالهم يوم القيامة .
2 ) بيان عدم نفع الإِيمان عند معاينة العذاب .
3 ) بيان حكم الله في امتلاء جهنم من كل من مجرمي الإِنس والجن .
4 ) تقرير حكم السببيّة فالأعمال سبب للجزاء خيراً كان أو شراً .
(3/264)
________________________________________
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
شرح الكلمات : { إذا ذكروا بها } : أي وعظوا بما فيها من أمر ونهي ووعد ووعيد .
{ خروا سجدا } : أي وقعوا على الأرض ساجدين بوضع جباههم وأنوفهم على الأرض .
{ وسبحوا بحمد ربهم } : أي نزهوه وقدسوه وهم ساجدون يقولون سبحان ربي الأعلى .
{ وهم لا يستكبرون } : أي عن عبادة ربهم في كل آحايينهم بل يأتونها خاشعين متذللين .
{ تتجافى جنوبهم } : أي تتباعد عن الفرش من أجل قيامهم للصلاة في جوف الليل .
{ خوفا وطمعا } : أي يسألونه النجاة من النار ، ودخول الجنة .
{ ما أخفي لهم من قرة : أي لا تعلم نفس ما أخفى الله تعالى لهم وادخر لهم عنده عين } من النعيم الذي تقر به أعينهم أي تسر به وتفرح .
معنى الآيات :
لما ذكر تعالى جزاء المجرمين وهم المكذبون بآيات الله ولقائه ذكر جزاء المؤمنين وهم الذين آمنوا بآيات الله ولقائه ذكرهم بأجمل صفاتهم فقال : { إنما يؤمن بآياتنا } حق الإِيمان { الذين إذا ذُكّروا بها } اي قرئت عليهم وكانت من الآيات التي فيها السجدات { خروا سجداً } أي وقعوا على الأرض ساجدين بوضع جباههم وأُنوفهم على التراب ، { وسبحوا بحمد ربهم } أي نزهوه وقدسوه أثناء سجودهم بقولهم سبحان ربي الأعلى ، والحال أنهم لا يستكبرون عن عبادة الله مطلقا بل يأتونها متذللين خاشعين .
وقوله { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } هذه بعض صفاتهم أيضاً وهي أنهم يباعدون جنوبهم عن فرشهم في الليل لصلاة التهجد . وقوله { يدعون ربّهم خوفاً وطمعاً } أي في حال صلاتهم وفي غيرها وهو دعاء تميّز بخوفهم من عذاب ربهم وطمعهم في رحمته فهم يسألون ربهم النجاة من النار ودخول الجنة . وقوله { ومما رزقناهم ينفقون } هذا وصفٌ آخر لهم وهو أ ، هم يتصدقون بفضول أموالهم زيادة على أداء الزكاة كتهجدهم بالليل زيادة على الصلوات الخمس .
وقوله تعالى { فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قُرة أعين } يخبر تعالى عن جزائهم عنده فيقول : فلا تعلم نفس ما خبّأ الله تعالى لهم من النعيم المقيم الذي تقر به أعينهم اي تُسر وتفرح وقوله { جزاءاً بما كانوا يعملون } أي جزاهم بذلك النعيم بعملهم الخيري الإِسلامي الذي كانوا في الدنيا يعملونه وقد ذكر بعضه في الآيات قبل كالصلاة والصدقات .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) فضيلة التسبيح في الصلاة وهو سبحان ربي العظيم في الركوع وسبحان ربي الأعلى في السجود .
2 ) ذم الاستكبار وأهله ومدح التواضع لله وأهله .
3 ) فضيلة قيام الليل وهو المعروف بالتهجد والدعاء خوفاً وطمعاً .
4 ) بشرى المؤمنين الصادقين من ذوي الصفات المذكورة في الآيات وهو انه تعالى [ أعد لهم مالا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كما جاء في الحديث « أُعدت لعبادي الصالحين مالا عين رأت » الخ .
(3/265)
________________________________________
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
شرح الكلمات :
{ أفمن كان مؤمنا } : أي مصدقا بالله ورسوله ولقاء ربّه .
{ كمن كان فاسقا } : أي كافراً لا يستوون .
{ جنات المأوى نزلا } : النزل ما يعد للضيف من قرىً .
{ من العذاب الأدنى } : أي عذاب الدنيا منمصاب القحط والجدب والقتل والأسر .
{ العذاب الأكبر } : هو عذاب الآخرة في نار جهنم .
{ لعلهم يرجعون } : أي يصيبهم بالمصائب في الدنيا رجاء أن يؤمنوا ويوحدوا .
{ ومن أظلم ممن ذكر بآيات : لا أحد أظلم منه ابداً .
ربه فأعرض عنها } { إنا من المجرمين منتقمون } : أي من المشركين أي بتعذيبهم اشد أنواع العذاب .
معنى الآيات :
قوله تعالى { أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً } اي كافراً ينفي تعالى إستواء الكافر مع المؤمن فلذا بعد الاستفهام الإِنكار أجاب بقوله تعالى : { لا يستوون } ثم بيّن تعالى جزاء الفريقين وبذلك تأكد بُعد ما بينهما فقال { أما الذين آمنوا } بالله ربَّاً وإلها وبمحمد نبيّاً ورسولا وبالإِسلام شرعاً وديناً { وعملوا الصالحات } بأداء الفرائض والنوافل في الغالب بعد اجتنابهم الشرك والمحارم { فلهم جنات المأوى نزلاً } اي ضيافة لهم { بما كانوا يعملون } وأما الذين فسقوا عن أمر الله فلم يوحدوا ولم يطيعوا فعاشوا على الشرك والمعاصي حتى ماتوا { فمأواهم النار } أي مقرهم ومحل مثواهم وإقامتهم لا يخرجون ركلما أرادوا } اي هموا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها من قبل الزبانية تدفعهم عن أبوابها ، { وقيل لهم } إذلالا وإهانة { ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون } إذ كانوا مكذبين بالبعث والجزاء وقالوا { أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد } وقوله تعالى { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى } وهو عذاب الدنيا بالقحط والغلاء والقتل والسر ردون العذاب الأكبر } وهو عذاب يوم القيامة { لعلهم يرجعون } يخبر تعالى أنه فاعل ذلك بكفار قريش لعلهم يتوبون إلى الإِيمان والتوحيد فينجوا من العذاب وينعموا في الجنة وفعلاً قد تاب منهم كثيرون وقوله { ومن أظلم ممن ذُكِّر بآيات ربّه ثم أعرض عنها } أي وُعظ بها وخُوِّف كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ عليهم القرآن وكان بعضهم يعرض عنها فلا يسمعها ويرجع وهو مستكبر والعياذ بالله فمثل هؤلاء لا أحد أشدّ منهم ظلما وقوله تعالى { إنّا من المجرمين منتقمون } يخبر تعالى أنه لا محالة منتقم من أهل الاجرام وهم أهل الشرك والمعاصي ، وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاثة اصناف من أهل الإِجرام الخاص وهم :
1 ) من اعتقد « عقد » لواء في غير حق اي حمل راية الحرب على المسلمين وهو مبطل غير محق .
2 ) من عق والديه أي آذاهما بالضرب ونحوه ومنعهما برهما ولم يطعهما في معروف .
3 ) من مشى مع ظالم ينصره رواه ابن جرير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) بيان خطأ من يسوي بين المؤمن والكافر والبار والفاجر والمطيع والفاسق .
2 ) بيان جزاء كل من المؤمنين والفاسقين .
3 ) بيان أن الله تعالى كان يأخذ قريشاً بألوان من المصائب لعلهم يتوبون .
4 ) بيان أنه لا أظلم ممن ذكر بآيات الله فيعرض عنها مستكبراً جاحداً معانداً .
(3/266)
________________________________________
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)
شرح الكلمات :
{ ولقد آتينا موسى الكتاب } : أي أنزلنا عليه التوراة .
{ فلا تكن في مرية من لقائه } : أي فلا تشك في لقائك بموسى عليه السلام ليلة الإِسراء والمعراج .
{ وجعلناه هدى لبني إسرائيل } : أي وجعلنا الكتاب « التوراة » هدىً أي هادياً لبني اسرائيل .
{ وجعلنا منهم أئمة يهدون : أي وجعلنا من بني اسرائيل ائمة أي قادة هداة يهدون بأمرنا } الناس بأمرنا لهم بذلك وإذننا به .
{ وكانوا بآياتنا يوقنون } : أي وكان أولئك الهداة يوقنون بآيات ربهم وحججه على عباده وما تحمله الآيات من وعد ووعيد .
{ إن ربك هو يفصل بينهم يوم : أي بين الأنبياء وأُممهم وبين المؤمنين والكافرين القيامة } والمشركين والموحدين .
{ فيما كانوا فيه يختلفون } : من أمور الدين .
{ أو لم يهد لهم } : أي أغفلوا ولم يتبيّن .
{ كم أهلكنا من قبلهم من : أي إهلاكنا لكثير من أهل القرون من قبلهم بكفرهم القرون } وشركهم وتكذيبهم لرسلهم .
{ يمشون في مساكنهم } : أي يمرون ماشين بديارهم وهي في طريقهم إلى الشام كمدائن صالح وبحيرة لوط ونحوهما .
{ إن في ذلك لآيات } : أي دلائل وعلامات على قدرة الله تعالى وأليم عقابه .
{ أفلا يسمعون } : أي أصمُّوا فلا يسمعوا هذه المواعظ والحجج .
معنى الآيات :
قوله تعالى { ولقد آتينا موسى الكتاب } أي أعطينا موسى بن عمران أحد أنبياء بني اسرائيل الكتاب الكبير وهو التوراة . إذاً فلم ينكر عليك المشركون أن يؤتيك ربك القرآن كما آتى موسى التوراة ، وفي هذا تقرير لأصل من أصول العقيدة وهي الوحي والنبوة المحمدية . وقوله { فلا تكن في مرية من لقائه } أي فلا تكن يا محمد في شك من لقائك موسى ليلة الإِسراء والمعراج فقد لقيه وطلب غليه أن يراجع ربّه في شأن الصلاة فراجع حتى اصبحت خمساً بعد أن كانت خمسين وقوله { وجعلناه هدى لبني اسرائيل } أي الكتاب أو موسى كلاهما كان هادياً لبني اسرائيل إلى سبيل السلام والصراط المستقيم .
وقوله { وجعلنا منهم أئمة } أي قادة هداة يهدون الناس إلى ربهم فيؤمنون به ويعبدونه وحده فيكملون على ذلك ويسعدون وذلك بأمره تعالى لهم بذلك . وقوله { لما صبروا } أي عن أذى أقوامهم ، { وكانوا بآياتنا } الحاملة لأمرنا ونهينا ، ووعدنا ووعيدنا { يوقنون } اي تأهلوا لحمل رسالة الدعوة بشيئين : الصبر على الأذى واليقين التام بصحة ما يدعون غليه ونفعه ونجاعته وقوله تعالى { إن ربّك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } يخبر تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه سبحانه وتعالى الذي يفصل بين المختلفين من الأنبياء وأممهم ، وبين الموحدين والمشركين والسّنيين والبدعيين فيحكم بإِسعاد أهل الحق وإشقاء أهل الباطل وفي الآية تسلية للرسول وتخفيف عليه مما يجد في نفسه من خلاف قومه له .
وقوله { أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون } اي أعموا فلم يُبيّن لهم إهلاكنا لأمم كثيرة { يمشون في مساكنهم } ما رّين بهم في أسفارهم إلى الشام كمدائن صالح ، وبلاد مدين ، وبحيرة لوط أنّا قادرون على إهلاكهم إن أصروا على الشرك والتكذيب كما أهلكنا القرون من قبلهم .
(3/267)
________________________________________
وقوله { إن في ذلك لآيات } أي في إهلاكنا أهل القرون الأولى لما أشركوا وكذبوا دلالات وحججا وبراهين على قدرة الله وشدة انتقامه ممن كفر به وكذب رسوله وقوله { أفلا يسمعون } أي أصموا فلا يسمعون هذه المواعظ التي تتلى عليهم فيتوبوا من الشرك والتكذيب فينجوا ويسعدوا .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) تقرير النبوة المحمدية وتأكيد قصة الإِسراء والمعراج .
2 ) الكتاب والسنة كلاهما هادٍ للعباد إن طلبوا الهداية فيهما .
3 ) بيان ما تُنال به الإِمامة في الدين . وهو الصبر وصحة اليقين .
4 ) كلا خلاف كان في هذه الحياة سينتهي بحكم الله تعالى فيه يوم القيامة .
5 ) في إهلاك الله تعالى للقرون السابقة أكبر واعظ لمن له قلب وسمع وبصيرة .
(3/268)
________________________________________
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
شرح الكلمات :
{ أو لم يروا أنا نسوق الماء } : أي أغفلوا ولم يروا سوقنا للماء للإِنبات والإِخصاب فيدلهم ذلك على قدرتنا .
{ إلى الأرض الجرز } : أي اليابسة التي لا نبات فيه .
{ تأكل منه أنعامهم } : أي مواشيهم من إبل وبقر وغنم .
{ أفلا يبصرون } : أي أعموا فلا يبصرون أن القادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على البعث .
{ متى هذا الفتح } : أي الفصل والحكم بيننا وبينكم يستعجلون العذاب .
{ ولا هم ينظرون } : أي ولا هم يمهلون للتوبة أو الاعتذار .
{ وانتظر إنهم منتظرون } : أي وانتظر يا رسولنا ما سيحل بهم من عذاب إن لم يتوبوا فإِنهم منتظرون بك موتاً أو قتلا ليستريحوا منك .
معنى الآيات :
ما زال السياق في تقرير عقيدة البعث والجزاء التي عليها مدار الإِصلاح الاجتماعي فيقول تعالى { أو لم يروا } أي أغفل أولئك المكذبون بالبعث والحياة الثانية ولم يروا { أنا نسوق الماء } ماء الأمطار أو الأنهار { إلى الأرض الجرز } اليابسة التي ما بها من نبات فنخرج بذلك الماء الذي سقناه إليها بتدابيرنا الخاصة { فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامكم } وهي إبلهم وأبقارهم وأغنامهم { وأنفسهم } فالأنعام تأكل الشعير والذرة وهم يأكلون البر والفول ونحوه { أفلا يبصرون } أي أعموا فلا يبصرون آثار قدرة الله على إحياء الموتى بعد الفناء والبلى كإِحياء الأرض الجزر فيؤمنوا بالبعث الآخر وعليه يستقيموا في عقائدهم وكل سلوكهم . وقوله { ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين } حكى تعالى عنهم ما يقولونه للمؤمنين لما يُخوفونهم بعذاب الله يقولون لهم متى هذا الفتح أي الحكم والفصل يستعجلونه لخفة أحلامهم وعدم إيمانهم .
وهنا أمر تعالى رسوله أن يقول لهم . فقال { قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم } أي إذا جاء يوم الفتح بيننا وبينكم لا ينفع نفساً كافرة إيمانهم عند رؤية العذاب { ولا هم ينظرون } اي يؤخرون ويمهلون ليتوبوا ويستغفروا فيتاب عليهم ويغفر لهم إذ سُنّة الله أنّ من عاين العذاب لا تقبل توبته . وقوله تعالى { فأعرض عنهم } أي فأعرض يا رسولنا عن هؤلاء المكذبين { وانتظر } ما سينزل بهم من عذاب { إنهم منتظرون } ما قد يصيبك من مرض أو موت أو قتل ليستريحوا منك في نظرهم . كما هم منتظرون أيضاً عذاب الله عاجلا أو آجلا .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة المقررة لها .
2 ) استعجال الكافرين العذاب دال على جهلهم وطيشهم .
3 ) بيان أن التوبة لا تقبل عند معاينة العذاب أو مشاهدة ملك الموت ساعة الاحتضار .
(3/269)
________________________________________
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)
شرح الكلمات :
{ اتق الله } : أي دم على تقواه بامتثالك أوامره واجتنابك نواهيه .
{ ولا تطع الكافرين } : أي المشركين فيما يقترحون عليك .
{ والمنافقين } : أي الذين يظهرون الإِيمان ويبطنون الكفر بما يخوفونك به .
{ إن الله كان عليما حكيما } : أي عليما بخلقه ظاهراً وباطناً حكيماً في تدبيره وصنعه .
{ واتبع ما يوحى إليك من ربك } : أي تقيد بما يشرع لك من ربك ولا تلتفت غلى مايقوله خصومك لك من اقتراحات أو تهديدات .
{ وتوكل على الله } : أي فوض أمرك إليه وامض في ما أمرك به غير مبالٍ بشيء .
معنى الآيات :
لقد واصل المشركون اقتراحاتهم التي بدأوها بمكة حتى المدينة وهي عروض المصالحة بينه وبينهم بالتخلي عن بعض دينه أو بطرد بعض أصحابه ، والمنافقون قاموا بدروهم في المدينة بتهديده صلى الله عليه وسلم بالقتل غيلة إن لم يكف عن ذكر ىلهة المشركين في هذا الظرف بالذات نزل قوله تعالى { يا ايها النبي } ناداه ربّه تعالى بعنوان النبوة تقريرا لها وتشريفا له ولم يناده باسمه العلم كما نادى موسى وعيسى وغيرهما بأسمائهم فقال { يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما } أي اتق الله فخفه فلا تقبل اقتراح المشركين ولا ترهب تهديد المنافقين بقتلك إن الله كان وما يزال عليما بكل خلقه وما يحدثون من تصرفات ظاهرة أو باطنة حكيما في تدبيره وتصريفه أمور خلقه وعباده فهو تعالى لعلمه وحكمته لا يخذلك ولا يتركك ، ولا يُمكن اعداءك وأعداءه منك بحال وقوله { واتبع ما يوحى إليك من ربك } من تشريعات خاصة وعامة ولا تترك منها صغيرة ولا كبيرة إذ هي طريق فوزك وسُلم نجاحط أنت وامتك تابعة لك في كل ذلك ، وقوله { إن الله كان بما تعملون خبيرا } هذه الجملة تعليلية تحمل الوعد والوعيد إذ علم الله بأعمال العباد صالحها وفاسدها يستلزم الجزاء عليها فمتى كانت صالحة كان الجزاء حسناً وفي هذا وعده ومتى كانت فاسدة كان الجزاء سوءاً وفي هذا الوعيد . وقوله { وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا } أمر تعالى رسوله وأُمته تابعة له أن يتوكل على الله في أمره ويمضي في طريقه منفذاً أحكام ربه غير مبال بالكافرين ولا بالمنافقين ، وأعلمه ضمناً أنه كافيه متى توكل عليه وكفى بالله كافيا ووكيلا حافظاً .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) وجوب تقوى الله تعالى بفعل المأمور به وترك المنهي عنه .
2 ) حرمة طاعة الكافرين والمنافقين فيما يقترحون أو يهدون من أجله .
3 ) وجوب اتباع الكتاب والسنة والتوكل على الله والمضي في ذلك بلا خوف ولا وجل .
(3/270)
________________________________________
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
شرح الكلمات :
{ ما جعل الله لرجل من قلبين : أي لم يخلق الله رجلاً بقلبين كما ادعى بعض في جوفه } المشركين .
{ تظاهرون منهن أمهاتكم } : يقول الرجل لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي .
{ وما جعل ادعياءكم أبناءكم } : أي ولم يجعل الدعيَّ إبناً لمن ادّعاه .
{ ذلكم قولكم بأفواهكم } : أي مجرد قول باللسان لا حقيقة له في الخارج فلم تكن المرأة أماً ولا الدعي ابنا .
{ هو أقسط عند الله } : أي أعدل .
{ فإخوانكم في الدين ومواليكم } : أي أُخوة الإِسلام وبنو عمكم فمن لم يعرف أبوه فقولوا له : يا أخي أو ابن عمي .
{ ليس عليكم جناح فيما أخطأتم : أي لا حرج ولا اثم في الخطأ ، فمن قال للدعي خطأ به } يا ابن فلان فلا إثم عليه .
{ ولكن ما تعمدت قلوبكم } : أي الاثم والحرج في التعمد بأن ينسب الدعي لمن ادعاه .
{ وكان الله غفوراً رحيما } : ولذا لم يؤاخذكم بالخطأ ولكن بالتعمد .
معنى الآيات :
لما كان القلب محط العقل والإِدراك كان وجود قلبين في جوف رجل واحد يحدث تعارضاً يؤدي إلى الفساد في حياة الإِنسان ذي القلبين لم يجعل الله تعالى لرجل قلبين في جوفه كما ادعى بعض أهل مكة أن أبا معمر جميل بن معمر الفهري كان له قلبان لما شاهدوا من ذكائه ولباقته وحذقه وغره ذلك فقال إن لي قلبين أعقل بهما أفضل من عقل محمد صلى الله عليه وسلم فكانت الآية رداً عليه قال تعالى { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } وفيه إشارة إلى أنه لا يجمع بين حب الله تعالى وحب أعدائه وطاعة الله وطاعة أعدائه ، وقوله ، { وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم } أي لم يجعل الله تعالى المرأة المظاهر ومنها أُماً لمن ظاهر منها كأن يقول لها أنت عليّ كظهر أُمي وكان أهل الجاهلية يعدون الظهار محُرِّماً للزوجة كالأم فأبطل الله تعالى ذلك وبيّن حكمه في سورة المجادلة ، وأن من ظاهر من امرأته يجب عليه كفارة : عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا .
وقوله تعالى { وما جعل ادعياءكم ابناءكم } أي لم يجعل الله الدعيّ إبناً إذ كانوا في الجاهلية وفي صدر الإِسلام يطلقون على المتبنَّي إبناً فيترتب على ذلك كامل حقوق البنوة من حرمة التزوج بامرأته إن طلقها أو مات عنها ، وقوله { ذلكم قولكم بأفواهكم } أي ما هو إلا نطق بالفم ولا حقيقة في الخارج له إذ قول الرجل للدعيّ أنت ولدي لم بُصيِّرة ولده وقول الزوج لزوجته أنت كأمي لم تكن أماً له . وقوله تعالى { والله يقول الحق } فلا يطلق على المظاهر منها لفظ أم ، ولا على الدعي لفظ ابن ، { وهو يهدي السبيل } أي الأقوام والأرشد سبحانه لا إله إلا هو .
(3/271)
________________________________________
وقوله تعالى في الآية ( 5 ) من هذا السياق { ادعوهم لآبائهم } أي ادعوا الأدعياء لآبائهم أي انسبوهم لهم يا فلان بن فلان . فإِن دعوتهم إلى آبائهم أقسط وأعدل في حكم الله وشرعه . { فإِن لم تعلموا آباءهم فإِخوانكم في الدين } فادعوهم باسم الإِخوة الإِسلامية فقولوا هذا أخي في الإِسلام . { ومواليكم } أي بنو عمكم فادعوهم بذلك فقولوا يا بن عمي وإن كان الدعي ممن حررتموه فقولوا له ملاي { وليس عليكم جناح } اي إثم أو حرج { فيما أخطأتم به } من قول أحدكم للدعي ليس ابن فلان لمن ادعاه خطأ لسان بدون قصد ، أو ظناً منكم أنه إبنه وهو في الواقع ليس ابنه ولكن الاثم في التعمد والقصد المتعمد ، وقوله { وكان الله غفورا رحيما } أي غفوراً لمن تاب رحيما لم يعاجل بالعقوبة من عصى لعله يتوب ويرجع .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) إبطال التحريم بالظهار الذي كان في الجاهلية .
2 ) ابطال عادة التبنّي ، وما يترتب عليها من حرمة نكاح امرأة المتبنّى .
3 ) وجوب دعاء الدعي المتبنَّى بأبيه إن عُرف ولو كان حماراً .
4 ) إن لم يعرف لمدعي اب دُعي بعنوان الإِخوة الإِسلامية ، أو العمومية أو المولوية .
5 ) رفع الحرج والإِثم في الخطأ عموما وفيما نزلت في الآية الكريمة خصوصا وهو دعاء الدعي باسم مُدعيه سبق لسان بدون قصد ، أو بقصد لأنه يرى أنه ابنه وهو ليس ابنه .
(3/272)
________________________________________
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
شرح الكلمات : { النبي أولى بالمؤمنين من : أي فيما يأمرهم به وينهاهم عنه ويطلب منهم هو أنفسهم } أحق به من أنفسهم .
{ وأزواجه أمهاتهم } : في الحرمة وسواء من طلقت أو مات عنها منهن رضى الله عنهن .
{ وأولوا الأرحام بعضهم أولى : أي في التوارث من المهاجرين ببعض } والمتعاقدين المتحالفين .
{ إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم : بأن توصوا لهم وصيَّة جائزة وهي الثلث فأقل .
معروفاً } { كان ذلك في الكتاب مسطورا } : أي عدم التوارث بالإِيمان والهجرة والحلف مكتوب في اللوح المحفوظ .
{ وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم } : أي أذكر لقومك أخذنا من النبيين ميثاقهم على أن يعبدوا الله وحده ويدعوا إلى عبادته .
{ ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى } : أي وأخذنا بخاصة منك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم ، وقدم محمد صلى الله عليه وسلم في الذكر تشريفا وتعظيما له .
{ وأخذنا منهم ميثاقا غليظا } : أي شديداً والميثاق : العهد المؤكد باليمين .
{ ليسال الصادقين عن صدقهم } : أي أخذ الميثاق من أجل أن يسأل الصادقين وهم الأنبياء عن صدقهم في تبليغ الرسالة تبكيتاً للكافرين بهم .
{ وأعدّ للكافرين عذابا أليما } : أي فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين عذابا أليماً أي موجعا .
معنى الآيات :
لما أبطل الله تعالى عادة التبنّي وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيد بن حارثة الكلبي فكان يعرف بزيد بن محمد صلى الله عليه وسلم وأصبح بذلك يدعى بزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم تعالى كافة المؤمنين أن نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وأن أزواجه أمهاتهم في الحرمة فلا تحل امرأة النبي لأحد بعده صلى الله عليه وسلم ، ومعنى أن { النبي أولى بالمؤمنين من انفسهم } أي فيما يأمرهم به وينهاهم عنه ويطلبه منهم هو أحق به من أنفسهم ، وبذلك أعطى الله تعالى رسوله من الرفعة وعلوّ الشأن ما لم يُعط أحداً غيره جزاء له على صبره على ما أُخذ منه من بنوَّة زيد رضي الله عنه الذي كان يُدعَى بزيد بن محمد فأصبح يعرف بزيد بن حارثة .
وقوله تعالى { وأولوا الرحام بعضهم أولى ببعض } يريد في الإِرث فأبطل تعالى بهذه الآية التوارث بالإِيمان والهجرة والحلف الذي كان في صدر الإِسلام واصبح التوارث بالنسب والمصاهرة والولاء لا غير . وقوله { كان ذلك في الكتاب مسطوراً } التوارث بالأرحام أي بالقرابات مكتوب في اللوح المحفوظ وقوله { غلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً } أي إلا أن توصوا بوصيّة جائزة وهي الثلث لأحد من المؤمنين والمهاجرين ومن حالفتم فلا بأس فهي جائزة ولا حرمة فيها ، وقوله { كان ذلك } اي المذكور من التوارث بالقرابات لا غير وجواز الوصيّة بالثلث لمن أبطل ارثهم بالإِيمان والهجرة والمؤاخاة ، في اللوح المحفوظ وهو كتاب المقادير مسطوراً أي مكتوباً مسطراً فلا يحل تبديله ولا تغييره .
(3/273)
________________________________________
وقوله تعالى { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم } اي اذكر يا رسولنا لقومك أخذنا الميثاق وهو العهد المؤكد باليمين من النبيين عامة بأن يعبدوا الله وحده ويدعوا أُممهم إلى ذلك ، ومن أُولى العزم من الرسل خاصة وهم أنت يا محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وقوله { وأخذنا منهم ميثاقاً غليظا } أُعيد اللفظ تكراراً لتقريره ، وليرتب عليه قوله { ليسأل } تعالى يوم القيامة { الصادقين } وهم الأنبياء { عن صدقهم } في تبليغ رسالتهم تقريعاً لأممهم الذين كفروا وكذبوا . فأثاب المؤمنين { وأعد للكافرين عذاباً اليما } أي موجعاً وهو عذاب النار .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) وجوب تقديم ما يريده الرسول من المؤمن على ما يريده المؤمن لنفسه .
2 ) حرمة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأنهن أُمهات المؤمنين وهو صلى الله عليه وسلم كالأب لهم .
3 ) بطلان التوارث بالمؤاخاة والهجرة والتحالف الذي كان في صدر الإِسلام .
4 ) جواز الوصيّة لغير الوارث بالثلث فأقل .
5 ) وجوب توحيد الله تعالى في عبادته ودعوة الناس إلى ذلك .
6 ) تقرير التوحيد بأخذ الميثاق به على كافة الأنبياء والمرسلين .
(3/274)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)
شرح الكلمات :
{ اذكروا نعمة الله عليكم } : أي اذكروانعمة الله أي دفاعنا عنكم لتشكروا ذلك .
{ جنود } : أي جنود المشركين المتحزبين .
{ ريحا وجنودا لم تروها } : هي جنود الملائكة والريح ريح الصبا وهي التي تهب من شرق .
{ بما تعملون بصيرا } : أي بصيراً بأعمالكم من حفر الخندق والاستعدادات للمعركة .
{ إذ جاءوكم من فوقكم } : أي بون أسد وغطفان أتوا من قبل نجد من شرق المدينة .
{ ومن أسفل منكم } : أي من غرب وهم قريش وكنانة .
{ وإذ زاغت الأبصار } : أي مالت عن كل شيء إلا عن العدو تنظر إليه من شدة الفزع .
{ وبلغت القلوب الحناجر } : أي منتهى الحلقوم من شدة الخوف .
{ وتظنون بالله الظنونا } : أي المختلفة من نصر وهزيمة ، ونجاة وهلاك .
{ هنالك ابتلى المؤمنون } : أي ثم في الخندق وساحة المعركة أُختبر المؤمنون .
{ وزلزلوا زلزالا شديدا } : أي حركوا حراكا قويا من شدة الفزع .
{ والذين في قلوبهم مرض } : أي شيء من النفاق لضعف عقيدتهم .
{ ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا } : أي ما وعدنا من النصر ما هو إلا غروراً وباطلاً { يا أهل يثرب لا مقام لكم } : أي يا أهل المدينة لا مقام لكم حول الخندق فارجعوا إلى دياركم .
{ إن بيوتنا عورة } : أي غير حصينة .
{ إن يريدون إلا فرارا } : أي من القتال إذ بيوتهم حصينة .
{ ولو دخلت عليهم } : أي المدينة أي دخلها العدو الغازي .
{ ثم سئلوا الفتنة } : أي ثم طلب إليهم الردة غلى الشرك لآتوها أي أعطوها وفعلوها .
{ وما تلبثوا بها إلا يسيرا } : أي ما تريثوا ولا تمهلوا بل أسرعوا الإِجابة وارتدوا .
معنى الآيات :
قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود } الآيات هذه قصة غزوة الخندق أو الأحزاب قصها تبارك وتعالى على المؤمنين في معرض التذكير بنعمه تعالى عليهم ليشكروا بالإِنقياد والطاعة لله ورسوله وقبول كل ما يشرع لهم لإِكمالهم وإسعادهم في الحياتين فقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا } أي يا من آمنتم بالله ربا وإلها وبمحمد نبيا ورسولا وبالإِسلام دينا وشرعاً { اذكروا نعمة الله عليكم } المتمثلة في دفع أكبر خطر قد حاق بكم وهو اجتماع جيوش عدَّة على غزوكم في عقر داركم وهم جيوش قريش وأسد وغطفان وبنو قريظة من اليهود الّبهم عليهم وحزّب أحزابهم حُيي بن أخطب النضري يريد الانتقام من الرسول والمؤمنين إذ أجلوهم عن المدينة وأخرجوهم منها فالتحقوا بيهود خيبر وتيما ، ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم أمر بحفر الخندق تحت سفح جبل سلع غربي المدينة ، وذلك بإِشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه إذ كانت له خبرة حربيّة علمها من ديار قومه فارس .
وتم حفر الخندق في خلال شهر من الزمن وكان صلى الله عليه وسلم يعطي لكل عشرة أنفار أربعين ذراعاً أي عشرين متراً ، وما إن فرغوا من حفره حتى نزلت جيوش المشركين وكانوا قرابة اثنى عشر ألفاً ولما رأوا الرسول والمسلمين وراء الخندق تحت جبل سلع قالوا هذه مكيدة لم تكن العرب تعرفها فتناوشوا بالنبال ورمى عمرو بن عبد ود القرشي بفرسه في الخندق فقتله علي رضي الله عنه ودام الحصار والمناوشة وكانت الأيام والليالي باردة والمجاعة ضاربة أطنابها قرابة الشهر .
(3/275)
________________________________________
وتفصيل الأحداث للقصة فيما ذكره تعالى فيما يلي :
فقوله تعالى { إذ جاءتكم جنودٌ } هي جنود المشركين من قريش ومن بني أسد وغطفان { فارسلنا عليهم ريحا وجنوداً لم تروها } لما جاءتكم جنود المشركين وحاصروكم في سفح سلع أرسلنا عليهم ريحاً وهي ريح الصبا المباركة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور وهي الريح الغربيّة . وفعلت بهم الصبا الأفاعيل حيث لم تبق لهم ناراً إلا أطفأتها ولا قدراً على الأثافي إلا أراقته ، ولا خيمة ولا قسطاطاً إلا أسقطته وأزالته حتى اضطروا إلى الرحيل وقوله { وجنوداً لم تروها } وهم الملائكة فأصابتهم بالفزع والرعب الأمر الذي أفقدهم كل رشدهم وصوابهم ورجعوا يجرون أذيال الخيبة والحمد لله وقوله تعالى { وكان الله بما تعملون بصيراً } أي بكل أعمالكم من حفر الخندق والمشادات والمناورات وما قاله وعمله المنافقون لم يغب عليه تعالى شيء وسيجزيكم به المحسن بالإِحسان والمُسيئ بالإِساءة .
وقوله تعالى : { إذ جاءوكم } أي المشركون { من فوقكم } أي من الشرق وهم غطفان بقيادة عيينة بن حصن وأسد ، { ومن أسفل منكم } وهم قريش وكنانة أي من الجنوب الغربي وهذا تحديد لساحة المعركة ، وقوله { وإذ زاغت الأبصار } أي مالت عن كل شيء فلم تبق تنظر إلا إلى القوات الغازية من شدة الخوف ، { وبلغت القلوب الحناجر } أي ارتفعت بارتفاع الرئتين فبلغت منتهى الحلقوم . وقوله { وتظنون بالله الظنونا } المختلفة من نصر وهزيمة وسلامة وعطب ، وهذا تصوير أبدع تصوير وهو كما ذكر تعالى حرفيّاً .
وقوله تعالى { هنالك } أي في ذلك المكان والزمان الذي حدّق العدو بكم { أُبتلي المؤمنون } أي اختبرهم ربهم ليرى الثابت على إيمانه الذي لا تزعزعه الشدائد والفتن من السريع الانهزام والتحول لضعف عقيدته وقلة عزمه وصبره . وقوله تعالى { وزلزلوا زلزالاً شديدا } أي أُزعجوا وحرّكوا حراكاً شديداً لعوامل قوة العدو وكثرة جنوده ، وضعف المؤمنين وقلة عددهم ، وعامل المجاعة والحصار ، والبرد الشديد وما أظهره المنافقون من تخاذل وما كشفت عنه الحال من نقض بني قريظة عهدهم وانضمامهم إلى الأحزاب .
وقوله تعالى : { وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض } أي النفاق لضعف إيمانهم { ما وعدنا الله ورسوله } أي من النصر { إلا غروراً } أي باطلا : وذلك أنهم لما كانوا يحفرون في الخندق استعصت عليهم صخرة فأبت أن تنكسر فدعي لها الرسول صلى الله عليه وسلم فضربها بالمعول ضربة تصدعت لها وبرق منها بريقٌ أضاء الساحة كلها فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبر المسلمون ، ثم ضربها ثانية فصدعها وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير الفتح وكبر المسلمون وضرب ثالثة فكسرها وبرقت لها برقة كسابقتيها وكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبر المسلمون ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد سلمان فرقى من الخندق فقال سلمان بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيته قط فالتفت رسول الله إلى القوم فقال هل رأيتم ما رأى سلمان؟ قالوا نعم يا رسول الله فأعلمهم أنه على ضوء ذلك البريق رأى قصور مدائن كسرى كأنياب الكلاب وإن جبريل أخبرني أن أُمتي ظاهرة عليها كما رأيت في الضربة الثانية القصور الحمراء من أرض الروم وأخبرني جبريل أن أُمتي ظاهرة عليها ، ورأيت في الثالثة قصور صنعاء وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا أبشروا أبشروا فاستبشر المسلمون وقالوا الحمد لله موعود صدق .
(3/276)
________________________________________
فلما طال الحصار واشتدت الأزمة واستبد الخوف بالرجال قال المنافقون وضعفاء الإِيمان { ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً } إذ قال معتب بن قشير يعدنا محمد بفتح فارس والروم وأحدنا لا يقدر أن يتبرّز فرقاً وخوفاً ما هذا إلا وعد غرورا!!
وقوله { وإذ قالت طائفة منهم } أي من المنافقين . وهو أُويس بن قيظى أحد رؤساء المنافقين { يا أهل يثرب } أي المدينة قبل أن يبطل الرسول هذا الإِسم لها ويسميها بالمدينة { لا مقام لكم } أي في سفح سلع عند الخندق { فارجعوا } إلى منازلكم داخل المدينة بحجة أنه لا فائدة في البقاء هُنا دون قتال ، وما قال ذلك إلا فراراً من القتال وهروباً من المواجهة ، وقوله تعالى { ويستأذن فريقٌ منهم النبي } أي يطلبون الإِذن لهم بالعودة إلى منازلهم بالمدينة بدعوى أن بيوتهم عورة أي مكشوفة أمام العدو وهم لا يأمنون عليها وأكذبهم الله تعالى في قولهم فقال { وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا } اي ما يريدون بهذا الاعتذار إلا الفرار من وجه العدو ، وقال تعالى فيهم ومن أصدق من الله قيلا . { ولو دخلت عليهم } المدينة { من أقطارها } أي من جميع نواحيها من شرق وغرب وشمال وجنوب { ثم سئلوا الفتنة } أي ثم طلب منهم العدو الغازي الذي دخل عليهم المدينة الردة أي العودة إلى الشرك { لآتوها } أعطوها فوراً { وما تلبثوا بها إلا يسيراً } حتى يرتدوا عن الإِسلام ويصبحوا كما كانوا مشركين والعياذ بالله من النفاق والمنافقين .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) مشروعية التذكير بالنعم ليشكرها المذكَّرون بها فتزداد طاعتهم لله ورسوله .
2 ) عرض غزوة الأحزاب أو الخندق عرضا صادقاً لا أمثل منه في عرض الأحداث للعبرة .
3 ) بيان أن غزوة الخندق كانت من أشد الغزوات وأكثرها ألماً وتعباً على المسلمين .
4 ) بيان حُسْنَ الظن بالله ممدوح ، وأن سوء الظن به تعالى كفر ونفاق .
5 ) بيان مواقف المنافقين الداعية إلى الهزيمة ليكون ذلك درساً للمؤمنين .
6 ) تقرير النبوة المحمدية بإِخبار الغيب التي أخبر بها رسول الله فكانت كما أخبر من فتح فارس والروم واليمن .
(3/277)
________________________________________
وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)
شرح الكلمات :
{ ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل } : أي من قبل غزوة الخندق وذلك يوم أحد قالوا : والله لئن اشهدنا الله قتالا لنقاتلن ولا نولي الأدبار .
{ وكان عهد الله مسؤلا } : أي صاحب العهد عن الوفاء به .
{ وإذا لا تمتعون إلا قليلا } : أي وإذا فررتم من القتال فإنكم لا تمتعون بالحياة إلا قليلا وتموتون .
{ من ذا الذي يعصمكم من الله } : أي من يجيركم ويحفظكم من الله .
{ إن أراد بكم سوءاً } : أي عذاباً تستاءُون له وتكربون .
{ قد يعلم الله المعوقين منكم } : أي المثبطين عن القتال المفشلين إخوانهم عنه حتى لا يقاتلوا مع رسول الله والمؤمنين .
{ هلم إلينا } : أي تعالوا إلينا ولا تخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ ولا يأتون الباس إلا قليلا } : أي ولا يشهدون القتال إلا قليلا دفعاً عن أنفسهم تهمة النفاق .
{ أشحة عليكم } : أي بخلاء لا ينفقون على مشاريعكم الخيرية كنفقة الجهاد وعلى الفقراء .
{ تدور أعينهم كالذي يغشى : أي تدور أعينهم من شدة الخوف لجبنهم كالمحتضر عليه من الموت } الذي يغشى عليه أي يغمى عليه من آلام سكرات الموت .
{ سلقوكم بألسنة حداد } : أي آذوكم بألسنة حادة كأنها الحديد وذلك بكثرة كلامهم وتبجحهم بالأقوال دون الأفعال .
{ أشحة على الخير } : أي بخلاء بالخير لا يعطونه ولا يفعلونه بل ولا يقولونه حتى القول .
{ أولئك لم يؤمنوا } : أي إنهم لم يؤمنوا الإِيمان الصحيح فلذا هم جبناء عند اللقاء بخلاء عند العطاء .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في عرض أحداث غزوة الأحزاب فقوله تعالى : { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار } اي ولقد عاهد أولئك المنافقون الله من قبل غزوة الأحزاب وذلك يوم فروا من غزوة أُحد إذ كانت قبل غزوة الأحزاب بقرابة السَّنتين فقالوا والله لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن ولا نوليّ الأدبار ، فذكرهم الله بعهدهم الذي قطعوه على أنفسهم ثم نكثوه ، { وكان عهد الله مسئولا } اي يُسال عه صاحبه ويؤاخذ به . وقوله تعالى : { قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل } أي قل لهم يا رسولنا إنه لن ينفعكم الفرار أي الهروب من الموت أو القتل لأن الآجال محددة ومنلم يمت بالسيف مات بغيره فلا معنى للفرار من القتال إذا وجب وقوله { وإذاً لا تمتعون إلا قليلا } أي وإذا فررتم من القتال فإِنكم لا تمتعون بالحياة إلا قليلا من الزمن ثم تموتون عند نهاية أعماركم وهي فترة قليلة ، فالفرار لا يطيل أعماركم والقتال لا ينقصها ، وقوله تعالى { قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة } أي قل لهم يا رسولنا تبكيتا لهم ، وتأنيبا وتعليما ايضا : من ذا الذي يعصمكم أي يجيركم ويحفظكم من الله { إن أراد بكم سوءاً } أي ما يسوءكم من بلاء وقتل ونحوه { أو أراد بكم رحمة } أي سلامة وخيراً فليس هناك من يحول دون وصول ذلك عليكم لأن الله تعالى يجير ولا يُجار عليه وقوله تعالى { ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً } أي ولا يجد المخالفون لأمر الله العصاة له ولرسوله من دون الله ولياً يتولاهم فيدفع عنهم ما أراد الله بهم منسوء ، ولا نصيراً ينصرهم إذا أراد الله إذلالهم وخُذلانهم لسوء افعالهم ، وقوله تعالى في الآية ( 18 ) في هذا السياق { قد يعلم الله المعوقين منكم } أخبرهم تعالى بأنه قد علم المعوقين أي المثبطين عن القتال والمخذلين بما يقولونه سراً في صفوف المؤمنين كالطابور الخامس في الحروب وهم أناس يذكرون في الخفاء عظمة العدو وقوته يرهبون منه ويخذلون عن قتاله .
(3/278)
________________________________________
وقوله { والقائلين لإِخوانهم هلم إلينا } اي إلينا إلى المدينة واتركوا محمداً واصحابه يموتون وحدهم فإِنهم لا يزيدون عن أكلة جزور . وقوله { ولا يأتون البأس إلا قليلاً } اي ولا يشهد القتال ويحضره أولئك المنافقون المثبطون والذين قالوا إن بيوتنا عورة إلا قليلا إذ يتخلفون في أكثر الغزوات وإن حضروا مرة قتالا فإنما هم يدفعون به معرة التخلف ودفعاً لتهمة النفاق التي لصقت بهم .
وقوله تعالى { أشحة عليكم } وصفهم بالبخل بعد وصفهم بالجبن وهما شر صفات المرء اي الجبن والبخل أشحة عليكم اي بخلاء لا ينفقون معكم لا على الجهاد ولا على الفقراء والمحتاجين وقوله تعالى { فإِذا جاء الخوف } أي بسبب هجوم العدو { رأيتهم } أيها الرسول { ينظرون إليك } لائذين بك { تدور أعينهم } من الخوف { كالذي يغشى عليه من الموت } وهو المحتضر يُغمى عليه لما يعاني من سكرات الموت وهذا تصوير هائل لمدى ما عليه المنافقون من الجبن والخوف وعلة هذا هو الكفر وعدم الإِيمان بالقدر والبعث والجزاء .
وقوله { فإِذا ذهب الخوف } اي راحت أسبابه بانتهاء الحرب { سلقوكم بألسنة } أي سلقكم أولئك الجبناء عند اللقاء أي ضربوكم بألسنة ذربة حادة كالحديد بالمطالبة بالغنمية أو بالتبجح الكاذب بأنهم فعلوا وفعلوا . وهذا حالهم إلى اليوم .
وقوله { أشحة على الخير } أي بخلاء على مشاريع الخير وما ينفق في سبيل الله فلا ينفقون لأنهم لا يؤمنون بالخلف ولا بالثواب والأجر وذلك لكفرهم بالله ولقائه . ولذا قال تعالى { أولئك لم يؤمنوا } فسجل عليهم وصف الكفر ورتب عليه نتائجه فقال { فأحبط الله أعمالهم } أي أبطلها فلا يثابون عليها لأنها أعمال مشرك وأعمال المشرك باطلة ، وقوله { وكان ذلك على الله يسيرا } اي إبطال أعمالهم وتخييبهم فيها وحرمانهم من جزائها يسير على الله ليس بالعسير . ولذا هو واقع كما أخبر تعالى .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) وجوب الوفاء بالعهد إذ نقض العهد من علامات النفاق .
2 ) ترك الجهاد خوفاً من القتل عمل غير صالح إذ القتال لا ينقص العمر وتركه ولا يزيد فيه .
3 ) الشح والجبن منصفات المنافقين وهما شر الصفات في الإِنسان .
4 ) الثرثرة وكثرة الكلام والتبجح بالأقوال من صفات أهل الجبن والنفاق .
5 ) الكفر محبط للأعمال .
(3/279)
________________________________________
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)
شرح الكلمات :
{ يحسبون الأحزاب } : أي يحسب أولئك المنافقون الجبناء الأحزاب وهم قريش وغطفان .
{ لم يذهبوا } : أي لم يعودوا إلى بلادهم خائبين .
{ وإن يأت الأحزاب } : اي مرة أخرى فرضاً .
{ يودوا لو أنهم بادون في : أي من جبنهم وخوفهم يتمنَّون أن لو كانوا في البادية مع الأعراب } سكانها .
{ يسألون عن أنبائكم } : أي إِذَا كانوا في البداية لو عاد الأحزاب يسألون عن أنبائكم أي أخباركم هل انهزمتم أو انتصرتم .
{ ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا } : أي لو كانوا بينكم في الحاضرة ما قاتلوا معكم إلا قليلا .
{ أسوة حسنة } : أي قدوة صالحة تقتدون به صلى الله عليه وسلم في القتال والثبات في مواطنه .
{ هذا ما وعدنا الله ورسوله } : من الابتلاء والنصر .
{ وصدق الله ورسوله } : في الوعد الذي وعد به .
{ وما زادهم إلا إيماناً وتسليما } : أي تصديقا بوعد الله وتسليما لأمر الله .
{ صدقوا ما عاهدوا الله عليه } : أي وفوا بوعدهم .
{ فمنهم من قضى نحبه } : أي وفى بنذره فقاتل حتى استشهد .
{ ومنهم من ينتظر } : أي ما زال يخوض المعارك مع رسول الله وهو ينتظر القتل في سبيل الله .
{ وما بدلوا تبديلا } : أي في عهدهم بخلاف المنافقين فقد نكثوا عهدهم .
{ ورد الله الذين كفروا بغيظهم } : أي ورد الله الأحزاب خائبين لم يظفروا بالمؤمنين .
{ وكفىلله المؤمنين القتال } : أي بالريح والملائكة .
معنى الآيات :
ما زال السياق في سرد أحداث غزوة الأحزاب فقوله تعالى { يحسبون الأحزاب لم يذهبوا } أي بحسب أولئك المنافقون الجبناء الذين قالوا إن بيوتنا عورة وقالوا لإِخوانهم هلم إلينا أي اتركوا محمداً في الواجهة وحده إنهم لجبنهم ظنوا أن الأحزاب لم يعودوا إلى بلادهم مع أنهم قد رحلوا وهذا منتهى الجبن والخوف وقوله تعالى { وإن يأت الأحزاب } اي مرة أخرى على فرض وتقدير { يودوا } يومئذ { لو أنهم بادون في الأعراب } أي خارج المدينة مع الأعراب في البادية لشدة خوفهم من الأحزاب الغزاة ، وقوله تعالى { يسألون عن أنبائكم } أي أخباركم هل ظَفِرَ بكم الأحزاب أو لا ، { ولو كانوا فيكم } اي بينكم ولم يكونوا في البادية { وما قاتلوا إلا قليلا } وذلك لجبنهم وعدم إيمانهم بفائدة القتال لكفرهم بلقاء الله تعالى وما عنده من ثواب وعقاب هذا ما تضمنته الآية الأولى ( 20 ) .
وقوله تعالى في الآية الثانية ( 21 ) { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا } أي : لقد كان لكم أيها المسلمون اي : من مؤمنين صادقين ومنافقين كاذبين في رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة أي قدوة صالحة فاقتدوا به في جهاده وصبره وثباته ، فقد جاع حتى شد بطنه بعصابة وقاتل حتى شُجّ وجهه وكسرت رباعيته ومات عمه وحفر الخندق بيديه وثبت في سفح سلع أمام العدو قرابة شهر فأتسوا به في الصبر والجهاد والثبات إن كنتم ترجون الله أي تنظرون ما عنده من خير في مستقبل أيامكم في الدنيا والآخرة وترجون اليوم الآخر أي ترتقبونه وما فيه من سعادة وشقاء ، ونعيم مقيم أو جحيم وعذاب أليم .
(3/280)
________________________________________
وتذكرون الله تعالى كثيرا في كل حالاتكم وأوقاتكم ، فاقتدوا بنبيكم فإِن الاقتداء به واجب لايسقط إلاّ عن عجز والله المستعان .
وقوله تعالى في الآية الثالثة في هذا السياق ( 22 ) { ولما رأى المؤمنون الأحزاب } اي لما رأى المؤمنون الصادقون جيوش الأحزاب وقد أحاحطت بهم { قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله } بخلاف ما قاله المنافقون حيث قالوا { ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراؤ وقوله { وما زادهم } أي رؤيتهم للأحزاب على كثرتهم { إلاّ إِيماناً } بصادق وعد الله { وتسليما } لقضائه وحكمه ، وهذا ثناء عطر على المؤمنين الصادقين من ربهم عز وجل .
وقوله تعالى { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } هذا ثناء آخر على بعض المؤمنين الذين لما تخلفوا عن بدر فتأسفوا ولما حصل انهزام لهم في أُحد عاهدوا الله لئن أشهدهم الله قتالاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقاتلن حتى الاستشهاد فأخبر تعالى عنهم بقوله فمنهم من قضى نحبه اي وفي بنذره فقاتل حتى استشهد ومنهم من ينتظر القتل في سبيل الله ، وقوله تعالى { وما بدَّلوا تبديلا } أدنى تبديل في موقفهم فثبتوا على عهدهم بخلاف المعوقين من المنافقين فإِنهم بدلوا وغيروا ما عاهدوا الله عليه وقوله تعالى { ليجزي الله الصادقين بصدقهم } أي أجرى تعالى تلك الأحداث فكانت كما قدرها في كتاب المقادير ، ليجزي الصادقين بصدقهم فيكرمهم وينعمهم في جواره ويعذب المنافقين بناره إن شاء ذلك فيميتهم قبل توبتهم ، أو يتوب عليهم فيؤمنوا ويوحدوا ويدخلوا الجنة مع المؤمنين الصادقين وهو معنى قوله : { ويعذب المنافقين إن شاء } ذلك لهم قضاء وقدراً أو يتوب عليهم فيتوبوا فلا يعذبوا ، وقوله { إن الله كان غفوراً رحيما } إخبار منه تعالى عن نفسه بأنه كان ذا ستر على ذنوب التائبين من عباده رحيما بهم فلا يعاقبهم بعد توبتهم .
وقوله تعالى في آخر هذا السياق ( 25 ) { ورد الله الذين كفروا } وهم قيرش وكنانة وأسد وغطفان ردهم بغيظهم اي بكربهم وغمهم حيث لم يظفروا بالرسول والمؤمنين ولم يحققوا شيئا مما أمّلوا تحقيقه ، وكفى الله المؤمنين القتال حيث سلط على الأحزاب الريح والملائكة فانهزموا وفروا عائدين إلى ديارهم لم ينالوا خيراً . وكان الله قوياً على إيجاد ما يريد إيجاده عزيزاً أي غالباً على أمره لا يمتنع منه شيء أراده .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) تقرير أن الكفر والنفاق صاحبهما لا يفارقه الجبن والخور والشح والبخل .
2 ) وجوب الائتساء برسول الله في كل ما يطيقه العبد المسلم ويقدر عليه .
3 ) ثناء الله تعالى على المؤمنين الصادقين لمواقفهم المشرفة ووفائهم بعهودهم .
4 ) ذم الانهزاميين الناكثين لعهودهم الجبناء من المنافقين وضعاف الإِيمان .
5 ) بيان الحكمة في غزوة الأحزاب ، ليجزي الصادقين . . . . . . الخ .
(3/281)
________________________________________
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
شرح الكلمات :
{ ظاهروهم } : أي ناصروهم ووقفوا وراءهم يشدون أزرهم .
{ من صياصيهم } : أي من حصونهم والصياصي جمع صيصيَّة وهي كل ما يمتنع به .
{ وقذف في قلوبهم الرعب } : أي ألقى الخوف في نفوسهم فخافوا .
{ وأرضاً لم تطأوها } : أي لم تطأوها بعد وهي خبير إذ فتحت بعد غزوة الخندق .
معنى الآيات :
قوله تعالى { وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب } هذا شروع في ذكر غزوة بني قريظة إذ كانت بُعيد غزوة الخندق في السنة الخامسة من الهجرة في آخر شهر القعدة وخلاصة الحديث عن هذه الغزوة أنه لما ذهب الأحزاب واد الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون إلى المدينة وكان بنو قريظة قد نقضوا عهدهم وانضموا إلى الأحزاب من المشركين عوناً لهم على رسول الله والمؤمنين فلما ذهب الأحزاب وانصرف الرسول والمؤمنون من الخندق إلى المدينة فما راع الناس إلا ومنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي إلى بني قريظة فلا يصليّن أحدكم العصر إلا ببني قريظة وهي على أميال من المدينة وذلك أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم ظهر ذلك اليوم فقال يا رسول الله وضعت السلاح إن الله يأمرك بالسير غلى بني قريظة فقام رسول الله وأمر منادياً ينادي بالذهاب إلى بني قريظة وذهب رسول الله والمسلمون فحاصروهم قرابة خمس وعشرين ليلة وجهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب فقال لهم رسول الله « أتنزلون على حكمي » فأبوا فقال « أتنزلون على حكم سعد بن معاذ؟ » فقالوا نعم فحكمه فيهم فحكم بأن يُقتل الرجال وتسبى الذراري والنساء وتقسم الأموال ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرراً للحكم « لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات » . فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار بنت الحارث من نساء بني النجار وخرج إلى سوق المدينة فحفر فيها خندقاً ثم جيء بهم وفيهم حيي بن أخطب الذي حزّب الأحزاب وكعب بن اسد رئيس بني قريظة ، وأمر علياً والزبير بضرب أعناقهم وطرحهم في ذلك الخندق .
وبذلك انتهى الوجود اليهودي المعادي بالمدينة النبويّة . والحمد لله .
فقزله تعالى { وأنزل } أي الله تعالى بقدرته { الذين ظاهروهم من أهل الكتاب } أي ظاهروا الأحزاب وكانوا عوناً لهم على الرسول والمؤمنين وهم يهود بني قريظة { من صياصيهم } أي أنزلهم من حصونهم الممتنعين بها ، { وقذف في قلوبهم الرعب } ولذا قبلوا التحكيم فحكّم فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الأوس سعد بن معاذ رضي الله عنه فحكم فيهم بقتل المقاتلة من الرجال وسبي النساء والذراري وهو معنى قوله تعالى { فريقا تقتلون } وهم الرجال { وتأسرون فريقا } وهم النساء والأطفال ، وقوله { وأورثكم أرضهم } الزراعية { وديارهم } السكنيّة { وأموالهم } الصامتة والناطقة وقوله { وأرضاً لم تطئوها } أي أورثكم أرضاً لم تطئوها بعد وهي أرض خبير حيث غزاهم رسول الله في السنة السادسة بعد صلح الحديبية وفتحها الله عليهم وقوله { وكان الله على كل شيء قديرا } تذييل المراد به تقرير ما أخبر تعالى به من نصر أوليائه وهزيمة أعدائه .
(3/282)
________________________________________
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) بيان عاقبة الغدر فإِن قريظة لما غدرت برسول الله انتقم منها فسلط عليها رسوله والمؤمنين فأبادوهم عن آخرهم ولم يبق إلاّ الذين لا ذنب لهم وهم النساء والأطفال .
2 ) بيان صادق وعد الله إذ أورث المسلمين أرضاً لم يكونوا قد وطئوها وهي خيبر والشام والعراق وفارس وبلاد أخرى كبيرة وكثيرة .
3 ) تقرير أن قدرة الله لا تحد أبداً فهو تعالى على كل شيء قدير لا يعجزه شيء .
(3/283)
________________________________________
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
شرح الكلمات :
{ قل لأزواجك } : أي اللائي هن تحته يومئذ وهن تسع طلبن منه التوسعة في النفقة عليهن ولم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوسع به عليهن .
{ فتعالين } : أي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يومئذ قد اعتزلهن شهرا .
{ امتعكن } : أي متعة الطلاق المشروعة على قدر حال المطلق سعة وضيقاً .
{ اسرحكن سراحاً جميلا } : أي اطلقطن طلاقاً من غير إضرار بكن .
{ تردن الله ورسوله والدار الآخرة } : أي تردن رضا الله ورسوله والجنة .
{ فإِن الله أعدّ للمحسنات } : أي عشرة النبي صلى الله عليه وسلم زيادة على الإِحسان العام .
{ بفاحشة مبيّنة } : أي بنشوز خلق يتأذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ يضاعف لها العذاب ضعفين } : أي مرَّتين على عذاب غيرهن ممن آذين أزواجهن .
{ وكان ذلك على الله يسيرا } : أي مضاعفة العذاب يسيرة هيّنة على الله تعالى .
معنى الآيات :
شاء الله تعالى أن يجتمع نساء الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأين نساء الأنصار والمهاجرين قد وُسّع عليهن في النفقة لوجود يسر وسعة رزق بين أهل المدينة ، أن يطالبن بالتوسعة في النفقة عليهن أسوة بغيرهن وكن يومئذ تسعا وهن عائشة بنت ابي بكر ، وحفصة بنت عمر ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأم سلمة بنت ابي أميّة ، وزينب بنت جحش ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية ، وصفيّة بنت حيي بن أخطب النضريّة فأبلغت عائشة ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأثر لذلك ، لعدم القدرة على ما طُلب منه وقعد في مشربة له واعتزلهن شهراً كاملا حتى أنزل الله تعالى آية التخيير وهي هذه { يا ايها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردنّ الحياة الدنيا وزينتها } من لذيذ الطعام والشراب وجميل الثياب وحلي الزينة ووافر ذلك كله فتعالين إلى مقام الرسول الرفيع { أمتعكن } المتعة المشروعة في الطلاق { وأسرحكن } أي أُطلقكن { سراحاً جميلا } أي لا إضرار معه ، { وإن كنتن تردن الله ورسوله } أي رضاهما { والدار الآخرة } اي الجنة { فإِن الله أعدّ } أي هيأ وأحضر { للمحسنات } طاعة الله ورسوله { منكن أجراً عظيما } وهو المقامات العالية في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم في دار السلام .
وخيّرهن صلى الله عليه وسلم امتثالا لأمر الله في قوله { قل لأزواجك } وبدأ بعائشة فقال لها : إني أريد أن أذكر لك أمراً فلا تقضي فيه شيئاً حتى تستأمري أبويك اي تطلبين أمرهما في ذلك وقرأ عليها الآية فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة ، وتتابعن على ذلك فما اختارت منهنّ امرأة غير الله ورسوله والدار الآخرة فأكرمهن الله لذلك وأنزل على رسوله : { لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيباً }
(3/284)
________________________________________
وقوله تعالى { يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبيّنة } أي بخصلة قبيحة ظاهرة كسوء عشرة النبي صلى الله عليه وسلم فإِن الله تعالى { يضاعف لها العذاب } يوم القيامة لأنّ أذيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابواب الكفر والعياذ بالله تعالى . { وكان ذلك على الله يسيرا } أي وكان تضعيف العذاب على من أتت بفاحشة مبيّنة شيئا يسيرا على الله لا يعجزه حتى لا يفعله وهذا لأمرين الأول لأن أذيّة الرسول من ابواب الكفر والثاني لعلو مقامهن وشرفهن فإِن ذا الشرف والمنزلة العالية يُستقبحُ منه القبيح أكثر مما يستقبح من غيره .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1 ) مشروعية تخيير الزوجات فإِن اخترن الطلاق تَطَلّقن وإن لم يخترنه فلا يقع الطلاق .
2 ) كمال أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حيث اخترن الله ورسوله والدار الآخرة عن الدنيا وزينتها .
3 ) مشروعية المتعة بعد الطلاق وهي أن تعطى المرأة شيئا من المال بحسب غنى المطلّق وفقره لقوله تعالى { على الموسع قدره وعلى المقتر قدره } .
4 ) وجوب الإِحسان العام والخاص ، الخاص بالزوج والزوجة والعام في طاعة الله ورسوله .
5 ) بيان أن سيئة العالم الشريف اسوأ من سيئة الجاهل الوضيع . ولذا قالوا حسنات الأبرار سيّئات المقربين كمثل من الأمثال السائرة للعظة والاعتبار .
(3/285)
________________________________________
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
شرح الكلمات :
{ ومن يقنت منكن لله ورسوله } : أي ومن يطع منكن الله ورسوله .
{ نؤتها أجرها مرتين } : أي نضاعف لها أجر عملها الصالح حتى يكون ضعف عمل امرأة أخرى من غير نساء النبي .
{ واعتدنا لها رزقا كريما } : أي في الجنة .
{ يا نساء النبي لستن كأحد من النساء } : أي لستن في الفضل كجماعات النساء .
{ إن اتقيتن } : بل أنتن أشرف وأفضل بشرط تقواكنّ لله .
{ فلا تخضعن بالقول } : أي نظراً لشرفكن فلا ترققن العبارة .
{ فيطمع الذي في قلبه مرض } : أي مرض النفاق أو مرض الشهوة .
{ وقلن قولا معروفا } : أي جرت العادة أن يقال بصوت خشن لا رقة فيه .
{ وقرن في بيوتكن } : أي أقررن في بيوتكن ولا تخرجن منها إلا لحاجة .
{ ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } : أي ولا تتزين وتخرجن متبخترات متغنجات كفعل نساء الجاهلية الأولى قبل الإسلام .
{ إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس } : أي إنما أمركُنَّ بما أمركن به من العفة والحجاب ولزوم البيوت ليطهركن من الأدناس والرذائل .
{ واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة } : أي الكتاب والسنة لتشكرن الله على ذلك بطاعته وطاعة رسوله .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم مع أزواج النبي أمهات المؤمنين فبعد أن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة عن الحياة الدنيا وزينتها اصبحن ذوات رفعة وشأن عند الله تعالى ، وعند رسوله والمؤمنين . فأخبرن الرب تبارك وتعالى بقوله : { ومن يقنت منكن لله ورسوله } أي تطع الله بفعل الأوامر وترك النواهي وتطع رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم فلا تعص له أمراً ولا تسئ إليه في عشرة ، وتعمل صالحاً من النوافل والخيرات نؤتها أجرها مرتين أي نضاعف لها أجر عملها فيكون ضعف أجر عاملة أخرى من النساء غير أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم . وقوله : { واعتدنا لها رزقاً كريما } أي في الجنة فهذه بشارة بالجنة لنساء النبي أمهات المؤمنين التسع اللاتى نزلت هذه الآيات في شأنهن .
هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 31 ) وقوله تعالى : { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن } اي يا زوجات النبي أمهات المؤمنين إنكن لستن كجماعات النساء إن شرفكن أعظم ومقامكن أسمى وكيف وانتن أمهات المؤمنين وزوجات خاتم النبيين فاعرفن قدركن بزيادة الطاعة لله ولرسوله ، وقوله إن اتقيتن اي إن هذا الشرف حصل لكن بتقواكن لله فلازمن التقوى إنكن بدون تقوى لا شيء يذكر شأنكن شأن سائر النساء . وبناء عليه { فلا تخضعن بالقول } أي لا تليِّن الكلمات وترققن الصوت إذا تكلمتن مع الأجانب من الرجال . وقوله تعالى : { فيطمع الذي في قلبه مرض } نفاق أو ضعف غيمان مع شهوة عارمة تجعله يتلذذ بالخطاب وقوله : { وقلن قولا معروفا } وهو ما يؤدي المعنى المطلوب بدون زيادة ألفاظ وكلمات لا حاجة إليها .
(3/286)
________________________________________
وقوله : { وقرن في بيوتكن } اي اقررن فيها بمعنى اثبتن فيها ولا تخرجن إلا لحاجة لا بد منها وقوله : { ولا تبرجن } اي إذا خرجتن لحاجة { تبرج الجاهلية الأولى } أي قبل الإِسلام إذ كانت المرأة تتجمل وتخرج متبخترة متكسرة متغنجة في مشيتها وصوتها تفتن الرجال .
وقوله تعالى : { واقمن الصلاة } بآدائها مستوفاة الشروط والأركان والواجبات في أوقاتها مع الخشوع فيها { وآتين الزكاة ، وأطعن الله ورسوله } بفعل الأمر واجتناب النهى . أمرهن بقواعد الإِسلام وأهم دعائمه . وقوله : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } أي إنما أمرناكن ونهيناكن إرادة إِذهاب الدنس والإِثم ابقاءً على طهركن يا أهل البيت النبوى .
وقوله تعالى : { ويطهركم تطهيراً } اي كاملاً تاماً من كل ما يؤثم ويدس النفس ويدنسها .
وقوله تعالى { واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة } من الكتاب والسنة وهذا أمر لهنَّ على جهة الموعظة وتعدد النعمة .
وقوله تعالى : { إن الله كان لطيفاً } اي بكم يا أهل البيت خبيراً بأحوالكم فثقوا فيه وفوضوا الأمر غليه . والمراد من أهل البيت هنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة وأبْنَاهَا الحسن والحسين وعليٌّ الصهر الكريم رضي الله عن آل بيت رسول الله أجمعين وعن صحابته اكتعين أبتعين أبصعين . .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- لا شرف الا بالتقوى . ان اكرمكم عند الله أتقاكم .
2- بيان فضل نساء النبي وشرفهن .
3- حرمة ترقيق المرأة صوتها وتليين عباراتها إذا تكلمت مع أجنبي .
4- وجوب بقاء النساء في منازلهن ولا يخرجن غلا من حاجة لا بد منها .
5- حرمة التبرج وهى أن تتزين المرأة وتخرج بادية المحاسن متبخترة في مشيتها .
6- على المسلم أن يذكر ما شرفه الله به من الإِيمان والإِسلام ليترفع عن الدنايا والرذائل .
7- بيان أن الحكمة هي السنة النبوية الصحيحة .
8- الإِشارة إلى وجود جاهلية ثانية وقد ظهرت منذ نصف قرن وهى تبرج النساء بالكشف عن الرأس والصدور والسيقان وحتى الأفخاذ .
(3/287)
________________________________________
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
شرح الكلمات :
{ إن المسلمين والمسلمات } : إن الذين أسلموا لله وجوههم فانقادوا لله ظاهراً وباطناً والمسلمات أيضاً .
{ والمؤمنين والمؤمنات } : أي المصدقين بالله رباً وإلهاً والنبي محمد نبياً ورسولاً والإِسلام دينا وشرعاً والمصدقات .
{ والقانتين والقانتات } : أي المطيعين لله ورسوله من الرجال والمطيعات من النساء .
{ والصادقين والصادقات } : أي الصادقين في أقوالهم وأفعالهم والصادقات .
{ والصابرين والصابرات } : أي الحابسين نفوسهم على الطاعات فلا يتركوها وعن المعاصى فلا يقربوها وعلى البلاء فلا يسخطوه ولا يشتكوا الله إلى عباده والحابسات .
{ والخاشعين والخاشعات } : أي المتذللين لله المخبتين له والخاشعات من النساء كذلك .
{ والمتصدقين والمتصدقات } : أي المؤدين الزكاة والفضل من أموالهم عند الحاجة إليه والمؤديات كذلك .
{ والحافظين فروجهم } : أي عن الحرام والحافظات كذلك الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم بالنسبة للرجال أما النساء فالحافظات فروجهن الا على ازواجهن فقط .
{ والذاكرين الله كثيرا والذاكرات } : أي بالألسن والقلوب فعلى اقل تقدير يذكرن الله ثلاثمائة مرة في اليوم والليلة زيادة على ذكر الله في الصلوات الخمس .
{ أعد الله لهم مغفرة } : أي لذنوبهم وذنوبهن .
{ وأجراً عظيماً } : أي الجنة دار الأبرار .
معنى الآيات :
هذه الآية وإن نزلت جواباً عن تساؤل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إذ قلن للنبي صلى الله عليه وسلم : ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال فأنزل الله تعالى هذه الآية المباركة إن المسلمين والمسلمات ، فإن مناسبتها لما قبلها ظاهرة وهي أنه لما أثنى على آل البيت بخير فإن نفوس المسلمين والمسلمات تتشوق لخير لهم كالذى حصل لآل البيت الطاهرين فذكر تعالى أن المسلمين والمسلمات الذين انقادوا لأمر الله ورسوله وأسلموا وجوههم لله فلا يلتفتون إلى غيره ، كالمؤمنين والمؤمنات بالله رباً وإلهاً ومحمداً نبياً ورسولاً والإِسلام ديناً وشرعا ، كالقانيتن أي المطيعين لله ورسوله والمطيعات في السراء والضراء والمنشط والمكره في حدود الطاقة البشرية ، كالصادقين في أقوالهم وأفعالهم والصادقات كالصابرين اي الحابسين نفوسهم على الطاعات فعلا ، وعن المحرمات تركا ، وعلى البلاء رضاً وتسليماً والصابرات كالخاشعين في صلاتهم وسائر طاعاتهم والخاشعات لله تعالى كالمتصدقين بأداء زكاة أموالهم وبفضولها عند الحاجة غليها والمتصدقات كالصائمين رمضان والنوافل كعاشوراء والصائمات ، كالحافظين فروجهم عما حرم الله عليهم من المناكح وعن كشفها لغير الأزواج والحافظات ، كالذاكرين الله كثيراً بالليل والنهار ذكر القلب واللسان والذاكرات الكل الجميع أعد الله تعالى لهم مغفرة لذنوبهم إذ كانت لهم ذنوب ، وأجراً عظيماً اي جزاء عظيماً على طاعاتهم بعد إِيمانهم وهو الجنة دار السلام جعلنا الله منهم ومن أهل الجنة .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بشرى المسلمين والمسلمات بمغفرة ذنوبهم ودخول الجنة إن اتصفوا بتلك الصفات المذكورة في هذه الآية وهي عشر صفات أولها الإِسلام وآخرها ذكر الله تعالى .
2- فضل الصفات المذكورة إذ كانت سبباً في دخول الجنة بعد مغفرة الذنوب .
3- تقرير مبدا التساوى بين الرجال والنساء في العمل والجزاء في العمل الذي كلف الله تعالى به النساء والرجال معاً وأما ما خص به الرجال أو النساء فهو على خصوصيته للرجال نصيب مما امتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن والله يقول الحق ويهدي السبيل .
(3/288)
________________________________________
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
شرح الكلمات :
{ ما كان لمؤمن ولا مؤمنة } : أي لا ينبغي ولا يصلح لمؤمن ولا مؤمنة .
{ أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } : أي حق الاختيار فيما حكم الله ورسوله فيه بالجواز أو المنع .
{ فقد ضل ضلالاً مبيناً } : أي أخطأ طريق النجاة والفلاح خطأً واضحاً .
{ أنعم الله عليه وأنعمت عليه } : أي أنعم الله عليه بالإِسلام ، وأنعمت عليه بالعتق وهو زيد بن حارثة .
{ واتق الله } : أي في أمر زوجتك فلا تحاول طلاقها .
{ وتخفى في نفسك } : أي وتخفى في نفسك وهو علمك بأنك إذا طلق زيد زينب زوجكها الله إبطالاً لما عليه الناس من حرمة الزواج من امرأة المتبنَّى .
{ ما الله مبديه } : أي مظهرهُ حتماً وهو زواج الرسول من زينب بعد طلاقها .
{ وتخشى الناس } : أي يقولوا تزوج محمد مطلقة مولاه زيد .
{ والله أحق أن تخشاه } : وهو الذي اراد لك ذلك الزواج .
{ فلما قضى زيدٌ منها وطراً } : أي حاجته منها لم يبق له رغبة فيها لتعاليها عليه بشرف نسبها ومحتد آبائها .
{ زوجناكها } : إذ تولى الله عقد نكاحها فدخل النبي صلى الله عليه وسلم بدون إذن من أحدٍ وذلك سنة خمس وأُشبع الناس لحماً وخبزاً في وليمة عرسها .
{ كيلا يكون على المؤمنين حرج } : أي إثم في تزوجهم من مطلقات أدعيائهم .
{ وكان أمر الله مفعولا } : أي وما قدره الله في اللاوح المحفوظ لا بد كائن .
{ ولا يخشون أحداً إلا الله } : أي يفعلون ما أذن لهم فيه ربهم ولا يبالون بقول الناس .
{ وكفى بالله حسيباً } : أي حافظاً لأعمال عباده ومحاسباً لهم عليها يوم الحساب .
{ ما كان محمدٌ ابا أحد من رجالكم } : أي لم يكن أباً لزيد ولا لغيره من الرجال إذ مات أطفاله الذكور وهم صغار .
{ وخاتم النبيين } : أي لم يجئ نبي بعده إذ لو جاء نبي بعده لكان ولده أهلا للنبوة كما كان أولاد إبراهيم ويعقوب ، وداود مثلا .
معنى الآيات :
قوله تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة } الآيات هذا شروع في قصة زواج زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بنت عمة النبي أميمة بنت عبد المطلب إنه لما أبطل الله التبني وحرمه بقوله : { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } وقوله : { ادعوهم لآبائهم } تبع ذلك أن لا يرث المدعى ممن ادعاه ، وان لا تحرم مطلقته على من تبنَّاه وادعاه وهكذا بطلت الأحكام التي كانت لازمة للتَّبنِّي ، وكون هذا نزل به القرآن ليس من السهل على النفوس التي اعتادت هذه الأحكام في الجاهلية وصدر الإِسلام أن تتقبلها وتذعن لها بسهولة فأراد الله تعالى أن يخرج ذلك لحيز الوجود فألهم رسوله أن يخطب زينب لمولاه زيد ، واستجابت زينب للخطبة فهماً منها أنها مخطوبة لرسول الله لتكون أُماً للمؤمنين ولمن تبين لها بعد ليال أنها مخطوبة لزيد بن حارثة مولى رسول الله وليست كما فهمت وهنا أخذتها الحمية وقالت لن يكون هذا لن تتزوَّج شريفة مولى من موالى الناس ونصرها أخوها على ذلك وهو عبد الله بن جحش .
(3/289)
________________________________________
فنزلت هذه الآية وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم الاية فما كان منها الا أن قبلت عن رضى الزواج من زيد وتزوجها زيد وبحكم الطباع البشرية فان زينب لم تخف شرفها على زيد واصبحت تترفع عليه الأمر الذي شعر معه زيد بعدم الفائدة من هذا الزواج فأخذ يستشير رسول الله مولاه ويستأذنه في طلاقها والرسول يابى عليه ذلك علماً منه أنه إذا طلقها سيزوجه الله بها إنهاءً لقضية جعل أحكام الدَّعى كأحكام الولد من الصُّلب فكان يقول له : اتق الله يا زيد لا تطلق بغير ضرورة ولا حاجة إلى الطلاق واصبر على ما تجده من امرأتك ، وهنا عاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم ربُّه عز وجل إذ قال له : { وإذ تقول } اي اذكر إذ تقول { للذي أنعم الله عليه } أي بنعمة الإِسلام ، { وأنعمت عليه } بأن عتقته { أمسك عليك زوجك واتق الله ، وتخفى في نفسك } وهو أمر زواجك منها ، { ما الله مُبديه } اي مظهره لا محالة من ذلك { وتخشى الناس } أن يقولوا محمد تزوج امرأة ابنه زيد ، { والله أحق أن تخشاه } . وقد اراد منك الزواج من زينب بعد طلاقها وانقضاء عدتها هدماً وقضاء على الأحكام التي جعلت الدَّعى كابن الصُّلب .
وقوله تعالى : { فلما قضى زيد منها وطراً } أي حاجته منها بالزواج بها وطلقها { زوجناكها } إذ تولينا عقد نكاحها منك دون حاجة إلي وليّ ولا غلى شهود ولا إلى مهر أو صداق وذلك من أجل أن لا يكون على المؤمنين حرج أي إثم في أزوةاج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً ، وقوله تعالى : { وكان أمر الله معولا } أي وما قضى به الله واقعٌ لا محالة وقوله تعالى : { ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له } اي من إثم أو تضييق في قول أو فعل شيء افترضه الله تعالى عليه وألزمه به سنة الله في الذين خلوا من قبل من الأنبياء ، وكان أمر الله اي مقضيه قدراً مقدوراً أي واقعاً نافذاً لا محالة . وقوله : { الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله } أي هؤلاء الأنبياء السابقون طريقتهم التي سنها الله لهم هي أنهم ينفذون أمر الله ولا يتلفتون إلى الناس يقولون ما يقولون ، ويخشون ربهم فيما فرض عليهم ولا يخشون غيره ، وكفى بالله حسيباً أي حافظاً لأعمال عباده ومحاسباً عليها ومُجازٍ بها ، وقوله تعالى في ختام السياق { ما كان محمد ابا أحد من رجالكم } لا زيد ولا غيره إذ لم يكن له ولد ذكر قد بلغ الحلم إذ مات الجميع صغاراً وهم أربعة ثلاثة من خديجة وهم القاسم والطيب والطاهر وإبراهيم وهو من مارية القبطية ، فلذا لا يحرم عليه أن يتزوج مطلقة زيد لأنه ليس بابنه وان كان يدعى زيد بن محمد قبل إنهاء التبني وأحكامه ولكن رسول الله وخاتم النبيين فلا نبى بعده فلو كان له ولد ذكر رجلاً لكان يكون نبياً ورسولاً كما كان أولاد إبراهيم واسحق ويعقوب وداود ، ولما اراد الله أنيختم الرسالات برسالته لم يأذن ببقاء أحد من أولاد نبيِّه بل توفاهم صغاراً ، أما البنات فكبرن وتزوجن وأنجبن ومتن حال حياته الا فاطمة فقد ماتت بعده بستة أشهر وقوله تعالى : { وكان الله بكل شيء عليما } فما أخبر به هو الحق وما حكم به هو العدل وما شرعه هو الخير فسلموا لله في قضائه وحكمه فإن ذلك خير وأنفع .
(3/290)
________________________________________
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان أن المؤمن الحق لا خيرة عنده في أمر قضى فيه الله ورسوله بالجواز أو المنع .
2- بيان أن من يعص الله ورسوله يخرج عن طريق الهداية إلى طريق الضلالة .
3- جواز عتاب الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم .
4- بيان شدة حياء الرسول صلى الله عليه وسلم .
5- بيان إِكرام الله لزيد بأن جعل اسمه يقرأ على ألْسِنَة المؤمنين إلى يوم الدين .
6- بيان إِفضال الله على زينب لما سلمت أمرها لله وتركت ما اختارته لما اختاره الله ورسوله فجعلها زوجة لرسول الله وتولى عقد نكاحها في السماء فكانت تفاخر نساءها بذلك .
7- تقرير حديث ما ترك عبد شيئاً لله الا عوضه الله خيراً منه .
8- إِبطال أحكام التَّبني التي كانت في الجاهلية .
9- تقرير نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وكونه خاتم الأنبياء فلا نبيّ بعده .
(3/291)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
شرح الكلمات :
{ يا أيها الذين آمنوا } : أي يا من آمنتم بالله رباً وبالإِسلام ديناً وبمحمد رسولاً .
{ اذكروا الله ذكراً كثيراً } : أي بقلوبكم والسنتكم .
{ وسبحوه بكرة واصيلاً } : أي نزهوه بقول سبحان الله وبحمده صباحاً ومساء .
{ هو الذي يصلي عليكم } : أي يرحمكم .
{ وملائكته } : أي يستغفرون لكم .
{ ليخرجكم من الظلمات } : أي يرحمكم ليديم اخراجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان .
{ تحيتهم يوم يلقونه سلام } : أي سلام عليكم فالملائكة تسلم عليهم .
{ وأعد لهم أجراً كريما } : أي وهيأ لهم أجراً كريماً وهو الجنة .
معنى الآيات :
هذا النداء الكريم من رب رحيم يوجه إلى المؤمنين الصادقين ليعلمهم ما يزيد به إيمانهم ونورهم ، ويحفظون به من عدوهم وهو ذكر الله فقال تعالى لهم { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً } لا حد ولا حصر إذ هو الطاقة التي تساعد على الحياة الروحية ، وسبحوه بكرة وأصيلاً بصلاة الصبح وصلاة العصر . ويقول سبحان الله والحمد لله والله اكبر دبر كل صلاة من الصلوات الخمس . وقوله تعالى : { هو الذي يصلى عليكم وملائكته } وصلاته تعالى عليهم رحمته لهم ، وصلاة ملائكته الاستغفار لهم وقوله ليخرجكم من الظلمات أي من ظلمات الكفر والمعاصى إلى نور الإِيمان والطاعات . فصلاته تعالى وصلاة ملائكته هي سبب الإِخراج من الظلمات إلى النور . وقوله تعالى { وكان بالمؤمنين رحيما } وهذه علاوة أخرى زيادة على الإِكرام الأول وهو الصلاة عليهم وإنه بالمؤمنين عامة رحيم فلا يعذبهم ولا يشقيهم . وقوله { تحيتهم يوم يلقونه سلام } أي وتحيتهم يوم القيامة في دار السلام السلام إذْ الملائكة يدخلون عليهم من كل باب قائلين سلام عليكم أي أمان وأمنةٌ لكم فلا خوف ولا حزن . وقوله { وأعد لهم أجراً كريماً } أي هيأ لهم وأحضر أجراً كريماً وهي الجنة . فسبحان الله ما أكرمه وسبحان الله ما أسعد المؤمنين . فيا لفضيلة الإِيمان وطاعة الرحمن طلب منهم أن يذكروه كثيراً وأن يسبحوه بكرة واصيلاً وأعطاهم مالا يقادر قدره فسبحان الله ما أكرم الله . والحمد لله .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- وجوب ذكر الله تعالى كثيراً ليل نهار ووجوب تسبيحه صباح مساء .
2- بيان فضل الله على المؤمنين بصلاته عليهم وصلاة ملائكته ورحمته لهم .
3- تقرير عقيدة البعث بذكر بعض ما يتم فيها من سلام الملائكة على أهل الجنة .
4- بشرى المؤمنين الصادقين بالجنة .
(3/292)
________________________________________
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
شرح الكلمات :
{ شاهدا } : أي على من ارسلناك إليهم .
{ ومبشراً } : أي من آمن وعمل صالحاً بالجنة .
{ ونذيراً } : اي لمن كفر وأشرك بالنار .
{ وداعيا إلى الله بإذنه } : أي وداعياً إلى الإِيمان بالله وتوحيده وطاعته بأمره تعالى . { وسراجاً منيرا } : أي وجعلك كالسراج المنير يهتدي به من أراد الهداية إلى سبيل الفلاح .
{ ولا تطع الكافرين والمنافقين } : أي فيما يخالف أمر ربك وما شرعه لك ولأُمتك .
{ ودع اذاهم } : أي اترك أذاهم فلا تُقابلهُ بأذىً آخر حتى تُأْمر فيهم بأمر .
{ وتوكل على الله } : أي فوض أمرك إليه فإنه يكفيك .
معنى الآيات :
هذا نداء خاص بعد ذلك النداء العام فالأول كان للمؤمنين والرسول إمامهم على رأسهم وهذا نداء خاص لمزيد تكريم الرسول وتشريفه وتكليفه ايضاً فقال تعالى : { يا أيها النبي } محمد صلى الله عليه وسلم { إنا أرسلناك } حال كونك شاهداً على من ارسلناك غليهم يوم القيامة تشهد على من أجاب دعوتك ومن لم يجبها ، ومبشراً لمن استجاب لك فآمن وعمل صالحاً بالجنة ، ونذيراً لمن أعرض فلم يؤمن ولم يعمل خيراً بعذاب النار ، وداعياً إلى الله تعالى عباده إليه ليؤمنوا به ويوحدوه ويطيعوه بأمره تعالى لك بذلك ، وسراجاً منيراً يهتدي بك من اراد الاستهداء إلى سبيل السعادة والكمال .
وقوله تعالى : { وبشر المؤمنين } أي أنظر بعد دعوتك إياهم ، وبشر المؤمنين منهم أي الذين استجابوا لك وآمنوا وعملوا الصالحات بأن لهم من الله فضلا كبيراً ألا وهو مغفرة ذنوبهم وإدخالهم الجنة دار النعيم المقيم والسلام التام . وقوله تعالى : { ولا تطع الكافرين والمنافقين } فيما يقترحون عليك من أمور تتنافى مع دعوتك ورسالتك ، ودع أذاهم أي اترك أذيتهم واصبر عليهم حتى يأمرك ربك بما تقوم به نحوهم ، وتوكل على الله في أمرك كله ، فإنه يكفيك وكفى بالله وكيلاً أي حافظاً وعاصماً يعصمك من الناس .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان الكمال المحمدي الذي وهبه إياه ربّه تبارك وتعالى .
2- مشروعية الدعوة إلى الله إذا كان الداعى متأهلاً بالعلم والحلم وهما الإِذن .
3- حرمة طاعة الكافرين والمنافقين والفجرة والظالمين فيما يتنافى مع مرضاة الله تعالى .
(3/293)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
شرح الكلمات :
{ يا أيها الذين آمنوا } : أي يا من صدقوا بالله ورسوله وكتابه وشرعه .
{ إذا نكحتم المؤمنات } : أي إذا عقدتم عليهن ولم تبنوا بهن .
{ من قبل أن تمسوهن } : أي من قبل الخلوة بهن ووطئهن .
{ فما لكم عليهن من عدة } : أي ليس لكم مطالبتهن بالعدة إذ العدة على المدخول بها .
{ فمتعوهن } : أي أعطوهن شيئاً من المال يتمتعن به جَبْراً لخاطرهن .
{ وسرِّحوهن سراحا جميلا } : أي اتركوهن يذهبن إلى أهليهن من غير إضرارٍ بهن .
معنى الآية الكريمة :
ينادى الله تعالى عباده المؤمنين المسلمين فيقول لهم معلماً مشرعاً لهم : { إذا نكحتم المؤمنات } أي عقدتم عليهن ، { ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } أي من قبل الدخول عليهن الذي يتم بالخلوة في الفراش ، { فما لكم عليهن من عدة } تعتدونها عليهن لا بالاقراء ولا بالشهور إذْ العدة لمعرفة ما في الرحم وغير المدخول بها معلومة أن رحمها خالية ، فإن سميتم لهنّ مهراً فلهن نصف المُسمَّى والمتعة على سبيل الاستحباب ، وإن لم تسموا لهن مهراً فليس لهن غير المتعة وهى هنا واجبة لهن بحسب يسار المُطلِّق وإعْساره وقوله : { وسرحوهن سراحا جميلاً } اي خلوا سبيلهن يذهبن غلى ذويهن من غير إضرار بهن ولا أذى تلحقونه بهن .
هداية الآية الكريمة :
من هداية الآية الكريمة :
1- جواز الطلاق قبل البناء .
2- ليس على المطلقة قبل الدخول بها عدة بل لها أن تتزوج ساعة ما تطلق .
3- المطلقة قبل البناء إن سمى لها صداق فلها نصفه ، وإن لم يسم لها صداق فلها المتعة واجبة يقدرها القاضي بحسب سعة المطلق وضيقه .
4- حرمة أذية المطلقة بأي أذى ، ووجوب تخلية سبيلها تذهب حيث شاءت .
5- مشروعية المتعة لكل مطلقة .
(3/294)
________________________________________
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
شرح الكلمات :
{ آتيت أجورهن } : أي أعطيت مهورهن .
{ مما أفاء الله عليك } : أي مما يسبى كصفية وجويرية .
{ اللاتى هاجرن معك } : أي بخلاف من لم تهادر وبقيت في دار الكفر .
{ وهبت نفسها للنبي } : أي وأراد النبي أن يتزوجها . بغير صداق .
{ خالصة لك من دون المؤمنين } : أي بدون صداق .
{ قد علمنا ما فرضنا عليهم } : أي على المؤمنين .
{ في أزواجهم } : أي من الأحكام كأن لا يزيدوا على أربع ، وأن لا يتزوجوا الا بولى ومهر وشهود .
{ وما ملكت ايمانهم } : أي بشراء ونحوه وأن تكون المملوكة كتابية ، وأن تستبرأ قبل الوطء .
{ لكيلا يكون عليك حرج } : أي ضيق في النكاح .
معنى الآية الكريمة :
هذا النداء الكريم لرسول ربّ العالمين يحمل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إجازة ربانية تخفف عنه أتعابه التي يعانيها صلى الله عليه وسلم لقد علم الله ما يعاني رسوله ومايعالج من أمور الدين والدنيا فمنَّ عليه بالتخفيف ورفع الحرج فقال ممتناً عليه { يا أيها النبي إنا أحللنا أزواجك اللاتي آتيت أجورهن } أي مهورهن وأحللنا لك { ما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك } من سبايا الجهاد كصفية بنت حبيب وجويرية بنت الحارث ، { وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك } من مكة إلى المدينة .
أما اللاتي لم تهاجر فلا تَحِلّ لك ، وامرأة مؤمنة اي وأحللنا لك امرأة مؤمنة لا كافرة إن وهبت نفسها للنبي بدون مهر وأراد النبي أن يستنكحها حال كون هذه الواهبة خالصة لك دون المؤمنين فالمؤمن لو وهبت له امرأة نفسها بدون مهر لم تحل له بل لا بد من المهر والولي والشهود .
وقوله تعالى { قد علمنا ما فرضنا عليهم } اي على المؤمنين في أزواجهم من أحكام كأن لا يزيد الرجل على أربع ، وأن لا يتزوج إلا بولي ومهر وشهود ، والمملوكة لا بد أن تكون كتابية أو مسلمة ، وأن لا يطأها قبل الاستبراء بحيضة قد علمنا كل هذا وأحللنا لك ما أحللنا خصوصية لك دون المؤمنين وذلك تخفيفاً عليك لكيلا يكون عليك حرج أي ضيق ومشقة وكان الله غفوراً لك ولمن تاب من المؤمنين رحيماً بك وبالمؤمنين .
هداية الآية :
من هداية الآية :
1- بيان إكرام الله تعالى لنبيه في التخفيف عليه رحمة به فاباح له أكثر من أربع ، وقصر المؤمنين على أربع اباح له الواهبة نفسها أن يتزوجها بغير مهر ولا ولي ولم يبح ذلك للمؤمنين فلا بد من مهر وولي وشهود .
2- تقرير أحكام النكاح للمؤمنين وأنه لم يطرأ عليها نسخ بتخفيف ولا بتشديد .
3- بيان سعة رحمة الله ومغفرته لعباده المؤمنين .
(3/295)
________________________________________
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
شرح الكلمات :
{ ترجى من تشاء منهن } : أي تؤخر من نسائك .
{ وتؤوي إليك من تشاء } : أي وتضم إليك من نسائك من تشاء فتأتيها .
{ ومن ابتغيت } : أي طلبت .
{ ممن عزلت } : أي من القسمة .
{ فلا جناح عليك } : اي لا حرج عليك في طلبها وضمها إليك خيره ربه في ذلك بعد أن كان القسم واجبا عليه .
{ ذلك أدنى أن تقر أعينهن } : أي ذلك التخيير لك في إِيواء من تشاء وترك من تشاء اقرب إلى أن تقر أعينهن ولا يحزن .
{ ويرضين بما آتيتهن } : أي مما أنت مخير فيه من القسم وتركه ، والعزل والايواء .
{ والله يعلم ما في قلوبكم } : أي من حب النساء -أيها الفحول- والميل إلى بعض دون بعض وإنما خير الله تعالى رسوله تيسيراً عليه لعظم مهامه .
{ وكان الله عليما حليما } : أي عيما بضعف خلقه حليما عليهم لا يعاجل بالعقوبة ويقبل التوبة .
{ لا يحل لك النساء من بعد } : أي لا يجوز لك أن تتزوج بعد هؤلاء التسعة اللاتي اخترنك إكراماً لهن وتخفيفاً عنك .
{ ولا أن تبدل بهن من أزواج } : أي بأن تطلق منهن وتتزوج أخرى بدل المطلقة لا . لا .
{ ولو أعجبك حسنهن } : ما ينبغي أن تطلق من هؤلاء التسع وتتزوج من أعجبك حسنها .
{ إلا ما ملكت يمينك } : أي فالأمر في ذلك واسع فلا حرج عليك في التسرى بالمملوكة ، وقد تسرى صلى الله عليه وسلم بمارية المهداة إليه من قبل ملك مصر وولدت له إبراهيم ومات في سن رضاعه عليه السلام .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في شأن التيسير على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد تقدم أنه أُحل له النساء يتزوج من شاء مما ذكر له وخصه بالواهبة نفسها يتزوجها بدون مهر ولا ولي وفي هذه الآية الكريمة ( 51 ) { ترجى من تشاء منهن } الآية وسع الله تعالى عليه بأن أذن له في أن يعتزل وطء من يشاء ، وأن يرجئ من يشاء ، وأن يؤوي إليه ويضم من يشاء وأن يطلب من اعتزلها إن شاء فلا حرج عليه في كل ذلك ، ومع هذا فكان يقسم بَيْنَ نسائه ، ويقول اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك اللهم إلا ما كان من سودة رضي الله عنها فإنها وهبت ليلتها لعائشة رضى الله عنها . هذا ما دل عليه قوله تعالى : { ترجى من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك } وقوله ذلك أدنى أي ذلك التخيير لك في شأن نسائك اقرب أن تقر أعينهن أي يفرحن بك ، ولا يحزن عليك ، ويرضين بما تتفضل به عليهن من إيواء ومباشرة .
وقوله تعالى { والله يعلم ما في قلوبكم } أي أيها الناس من الرغبة في المخاطبة ، وميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض ، وإنما خيَّر الله رسوله هذا التخيير تيسيراً عليه وتخفيفاً لما له من مهام لا يطمع فيها عظماء الرجال ولو كان في القوة والتحمل كالجبال أو الجمال .
(3/296)
________________________________________
وقوله تعالى { وكان الله عليما } اي بخلقه وحاجاتهم . حليماً عيهم لا يعاجل بالعقوبة ويقبل ممن تاب التوبة .
وقوله تعالى في الآية ( 52 ) { لا يحل لك النساء من بعد } أي لا يحل لك يا رسولنا النساء بعد هؤلاء التسع اللائى خيرتهن فاخترن الله واخترنك وأنت رسوله واخترن الدار الآخرة فاعترافا بمقامهن قصرك الله عليهن بعد الآن فلا تطلب امرأة أُخرى ببدل أو بغير بدل ، ومعنى ببدل : أن يطلق منهن واحدة أو أكثر ويتزوج بدلها . وهو معنى قوله تعالى : { ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن } وقوله { إلا ما ملكت يمينك } أي فلا باس بأن تتسرى بالجارية تملكها وقد تسرى بمارية القبطية التي أهداها له المقوقس ملك مصر مع بغلة بيضاء تسمى الدُّلْدُلْ وهي أول بغلة تدخل الحجاز ، وقد أنجبت مارية إبراهيم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفى في أيام رضاعه عليه وعلى والده ألف ألف سلام .
وقوله تعالى : { وكان الله على كل شيء رقيباً } اي حفيظاً عليما فخافوه وراقبوه ولا تطلبوا رضا غيره برضاه فإِنه إلهكم الذي لا إله لكم سواه به حياتكم وإليه مرجعكم بعد مماتكم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان إكرام الله تعالى لرسوله بالتيسير والتسهيل عليه لكثرة مهامه .
2- ما خير الله فيه رسوله لا يصح لأحد من المسلمين اللهم إلا أن يقول الرجل للمرأة كبيرة السن أو المريضة أي فلانة إنى أريد أن أتزوج أحصن نفسي وأنت كما تعلمين عاجزه فإن شئت طلقتك ، وإن شئت تنازلت عن ليلتك فإن اختارت البقاء مع التنازل عن حقها في الفراش فلا بأس بذلك .
3- في تدبير الله لرسوله وزوجاته من الفوائد والمصالح مالا يقادر قدره .
4- تقرير مبدأ ( ما ترك أحد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه ) تجلَّى هذا في اختيار نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم لله ورسوله والدار الآخرة .
5- وجوب مراقبة الله تعالى وعدم التفكير في الخروج عن طاعته بحال من الأحوال .
[ تنبيه هام ]
إذنُ الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بالزواج بأكثر من اربع كان لحكم عالية ، وكيف والمشرع هو الله العليم الحكيم من تلك الحكم العالية ما يلي :
( 1 ) اقتضاء التشريع الخاص بالنساء ومنه مالا يطلع عليه إلا الزوجان تَعَدُّدَ الزوجات ليروين الأحكام الخاصة بالنساء ، ولصحة الرواية وقبولها في الأمة تعدد الطرق وكثرة الرواة والروايات .
( 2 ) تطلُّب الدعوة الإِسلامية في أيامها الأولى مناصرين لها أقوياء ولا أفضل من أصهار الرجل الداعى فإنهم بحكم العرف يقفون إلى جنب صهرهم محقاً أو مبطلاً كان .
(3/297)
________________________________________
( 3 ) أن المؤمنين لا أحب إليهم من مصاهرة نبي الله ليظفروا بالدخول عليه في بيته والخلوة به وماأعزها . فأي المؤمنين من لا يرغب أن تكون أمه أو أخته أو بنته أما لكل المؤمنين إني والله لا أحب إليّ من أن أكون أنا وزوجتي وسائر أولادي خدماً في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلذا وسع الله على رسوله ليتَّسع على القل للأرامل وربات الشرف حتى لا يدنس شرفهن .
( 4 ) قد يحتاج رسول الله صلى الله عليه سولم إلى مكافأة بعض من أحسن إليه ولم يجد ما يكافئه به ويراه راغباً في مصاهرته فيجيبه لذلك ومن هذا زواجه بكل من عائشة بنت الصديق وحفصة بنت الفاروق رضي الله عنهم أجمعين .
( 5 ) قد زوجه ربّه بزينب وهو كاره لذلك يتهرب منه خشية قالة الناس وما كانوا يعدونه منكراً وهو التزوج بامرأة الدعى المتبنى بعد طلاقها أو موت زوجها هذه بعض الحكم التي اقتضت الإِذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في التزوج أكثر من اربع مع عامل آخر مهم وهو قدرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على العدل والكفاية الأمر الذي لن يكون لغيره ابداً .
(3/298)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
شرح الكلمات :
{ يا أيها الذين آمنوا } : أي يا من صدقوا بالله وعده ووعيده وبالرسول وما جاء يه .
{ إلا أن يؤذن لكم } : أي في الدخول بأن يدعوكم إلى طعام .
{ غير ناظرين إناه } : أي غير منتظرين وقت نضجه اي فلا تدخلوا قبل وقت إحضار الطعام وتقدم المدعوين إليه بأن يستغل أحدكم الاذن بالدعوة للطعام فيأتي قبل الوقت ويجلس في البيت فيضايق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله .
{ فاذا طعمتم فانتشروا } : أي إذا أكلتم الطعام وفرغتم فانتشروا عائدين الي بيوتكم أو أعمالكم ولا يبق منكم أحد .
{ ولا مستأنسين لحديث } : أي ولا تمكثوا مستأنسين لحديث بعضكم بعضاً .
{ إن ذلكم كان يؤذي النبي } : أي ذلكم المكث في بيوت النبي كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم .
{ فيستحي منكم } : أي أن يخرجكم .
{ والله لا يستحي من الحق } : أن يقوله ويأمر به ولذا أمركم أن تخرجوا .
{ من وراء حجاب } : أي ستر كباب ورداء ونحوه .
{ أطهر لقلوبكم وقلوبهن } : أي من الخواطر الفاسدة .
{ إن ذلكم كان عند الله عظيما } : أي إن اذاكم لرسول الله كان عند الله ذنباً عظيما .
{ إن تبدوا شيئاً و تخفوه } : أي إن تظهروا رغبة في نكاح أزواج الرسول بعد وفاته أو تخفوه في نفوسكم فسيجزيكم الله به شر الجزاء .
{ لا جناح عليهن في آبائهن الخ } : أي لا حرج على نساء الرسول في أن يظهرن لمحارمهن المذكورين في الآية .
{ ولا نسائهن } : أي المؤمنات أما الكافرات فلا .
{ ولا ما ملكت أيمانهن } : أي من الإِماء والعبيد في أن يرونهن ويكملونهن من دون حجاب .
{ واتقين الله } : أي يا نساء النبي فيما أُمرتن به من الحجاب وغيره .
معنى الآيات :
لما بين تعالى لرسوله ما ينبغي له مراعاته من شأن أزواجه أمهات المؤمنين بين تعالى بهذه الآية ( 54 ) ما يجب على المؤمنين مراعاته أيضا نحو أزواج النبي أمهاتهم فقال { يا أيها الذين آمنوا } حقا وصدقا { لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } بالدخول غلى طعام تطعمونه غير ناظرين إناه أي وقته ، وذلك أن هذه الآية والمعروفة بآية الحجاب نزلت في شأن نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أكلوا طعام الوليمة التي أقامها رسول الله لما زوجّه الله بزينب بنت جحش رضى الله عنها ، وكان الحجاب ما فرض بعد على النساء مكثوا بعد انصراف الناس يتحدثون فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج أمامهم لعلهم يخرجون فما خرجوا وتردد رسول الله على البيت فيدخل ويخرج رجاء أن يخرجوا معه فلم يخرجوا واستحى صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هيا فاخرجوا . فأنزل الله تعالى هذه الآية فقوله تعالى غير ناظرين إناه يعني ذلك النفر ومن يريد أن يفعل فعلهم فإذا وجه إليه أخوه استدعاء لحضور وليمة بعد الظهر مثلاً أتى إلى المنزل من قبل الظهر يضايق أهل المنزل فهذا معنى غير ناظرين إناه اي وقته لأن الإِنى هو الوقت .
(3/299)
________________________________________
وقوله ولكن إذا دعيتم فادخلوا أي فلا تدخلوا بدون دعوة أو إذن فإذا طعمتم أي فرغتم من الأكل فانصرفوا منتشرين في الأرض فهذا إلى بيته وهذا إلى بيت ربه وهذا إلى عمله . وقوله : { ولا مستأنسين لحديث } أي ولا تمكثوا بعد الطعام يحدث بعضكم بعضاً مستأنسين بالحديث . حرم تعالى هذا عليكم أيها المؤمنون لأنه يؤذى رسوله . وان كان الرسول لكمال أخلاقه لا يأمركم بالخروج حياءً منكم فالله لا يستحي من الحق فلذا أمركم بالخروج بعد الطعام مراعاة لمقام رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى : { وإذا سألتموهن متاعاً } اي طلبتم شيئاً من الأمتعة التي توجد في البيت كإِناء ونحوه فاسألوهن من وراء حجاب أي باب وستر ونحوهما لا مواجهة لحرمة النظر إليهن . وقوله ذلكم أطهر لقلوبكم أنتم أيها الرجال وقلوبهن ايتها الأمهات أطهر أي من خواطر السوء الفاسدة التي لا يخلو منها قلب الإِنسان إذا خاطب فحل أنثى أو خاطبت امرأة فحلا من الرجال .
وقوله تعالى : { وما كان لكم } أي ما ينبغي ولا يصح أن تؤذوا رسول الله أي أذىً ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أي ولا أن تتزوجوا بعد وفاته نساءه فإنهن محرمات على الرجال تحريم الأُمهات تحريماً مؤبداً لا يحل بحال ، وقوله تعالى : { إن ذلكم } اي المذكور من اذى رسول الله والزواج من بعده بنسائه كان عند الله أي في حكمه وقضائه وشرعه ذنباً عظيماً لا يقادر قدره ولا يعرف مدى جزائه وعقوبته إلا الله .
هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 53 ) وقوله تعالى إن تبدوا شيئاً أي تظهروه أو تخفوه أي تستروه يريد من الرغبة في الزواج من نساء الرسول بعد موته صلى الله عليه وسلم فإن الله كان بكل شيء عليماً وسيجزيكم بتلك الرغبة التي أظهرتموها وأخفيتموها في نفوسكم شرَّ الجزاء واسوأه . فاتقوا الله وعظموا ما عظم من حرمات رسوله صلى الله عليه وسلم . هذا ما دلت عليه الآية ( 54 ) .
وقوله تعالى في الآية ( 55 ) لا جناح عليهن أي لا تضييق ولا حرج ولا إثم على النساء المؤمنات من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن من نساء المؤمنين في أن يظهرن وجوههن ويكلمن بدون حجاب أي وجها لوجه آباءهن الأب والجد وان علا ، وابناءهن الابن وابن الابن وان نزل وابن البنت كذلك وان نزل . واخوانهن وابناء اخوانهن وان نزلوا وأبناء أخواتهن وان نزلوا ، ومما ليكهن من إماء وعبيد .
وقوله تعالى { واتقين الله إن الله بكل شيء عليماً } أمر من الله لنساء النبي ونساء المؤمنين بتقوى الله فيما نهاهن عنه وحرمه عليهن من ابداء الوجه للأجانب غير المحارم المذكورين في الآية وتذكيرهم بشهود الله تعالى لكل شيء واطلاعه على كل شيء ليكون ذلك مساعاداً على التقوى .
(3/300)
________________________________________
هدى الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان ما ينبغي للمؤمنين أن يلتزموه من الآداب في الاستئذان والدخول على البيوت لحاجة الطعام ونحوه .
2- بيان كمال الرسول صلى الله عليه وسلم في خلقه في أنه ليستحي أن يقول لضيفه أُخرج من البيت فقد انتهى الطعام .
3- وصف الله تعالى نفسه بأنه لا يستحي من الحق أن يقوله ويأمر به عباده .
4- مشروعية مخاطبة الأجنبية من وراء حجاب ستر ونحوه .
5- حرمة أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم وانها جريمة كبرى لا تعادل بأخرى .
6- بيان أن الإِنسان لا يخلو من خواطر السوء إذا كلم المرأة ونظر إليها .
7- حرمة نكاح أزواج الرسول بعد موته وحرمة الخاطر يخطر بذلك .
8- بيان المحارم الذين للمسلمة أن تكشف وجهها أمامهم وتخاطبهم بدون حجاب .
9- الأمر بالتقوى ووعيد الله لمن لا يتقه في محارمه .
(3/301)
________________________________________
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
شرح الكلمات :
{ يصلون على النبي } : صلاة الله على النبي هي ثناؤه ورضوانه عليه ، وصلاة الملائكة دعاء واستغفار له ، وصلاة العباد عليه تشريف وتعظيم لشأنه .
{ صلوا عليه وسلموا تسليما } : أي قولوا : اللهم صل على محمد وسلم تسليما .
{ يؤذون الله ورسوله } : أي بسبب أو شتم أو طعن أو نقد .
{ يؤذون المؤمنين والمؤمنات : أي يرمونهم بأمور يوجهونها غليهم تهماً باطلة لم يكتسبوا بغير ما اكتسبوا } منها شيئاً .
{ فقد احتملوا بهتاناً واثما مبينا } : أي تحملوا كذباً وذنباً ظاهراً .
{ يدنين عليهن من جلابيبهن } : أي يرخين على وجههن الجلباب حتى لا يبدو من المرأة إلا عين واحدة تنظر بها الطريق إذا خرجت لحاجة .
{ ذلك أدنى أن يعرفن } : أي ذلك الإِدناء من طرف الجلباب على الوجه أقرب .
{ فلا يؤذين } : أي يعرفن أنهن حرائر فلا يتعرض لهن المنافقون بالأذى .
{ وكان الله غفوراً رحيماً } : أي غفوراً لمن تاب من ذنبه رحيما به بقبول توبته وعدم تعذيبه بذنب تاب منه .
معنى الآيات :
لما ذكر تعالى في الآيات السابقة ما يجب على المؤمنين من تعظيم نبيّهم واحترامه حياً وميتاً أعلن في هذه الآية ( 56 ) عن شرف نبيّه الذي لا يدانيه شرف وعن رفعته التي لا تدانيها رفعة فأخبر أنه هو سبحانه وتعالى يصلى عليه وأن ملائكته كذلك يصلون عليه وأمر المؤمنين كافة أن يصلوا عليه فقال : { إن الله وملائكته يصلون علىلنبيّ يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } فكان واجباً على كل مؤمن ومؤمنة أن يصلى على النبي صلى الله عليه سولم ولو مرة في العمر يقول : اللهم صل على محمد وسلم تسليماً . وقد بينت السنة أنواعاً من صيغ الصلاة والسلام على الرسول أعظمها أجراً الصلاة الإِبراهيمية وهي واجبة في التشهد الأخير من كل صلاة فريضة أو نافلة ، وتستحب استحباباً مؤكداً عند ذكره صلى الله عليه وسلم وفي مواطن أُخرى . هذا ما دلت عليه الآية الأُولى ( 56 ) أما الآية الثانية ( 57 ) فقد أخبر تعالى عباده أن الذين يؤذون الله بالكذب عليه أو انتقاصة بوصفه بالعجز أو نسبة الولد إليه أو الشريك وما غلى ذلك من تصوير الحيوان إذ الخلق اختص به الله فلا خالق إلا هو فلا تجوز محاكاته في الخلق ، ويؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم بسب أو شتم أو انتقاص أو تعرض له أو لآل بيته أو أُمته أو سنته أو جينه هؤلاء لعنهم الله في الدنيا والآخرة أي طردهم من رحمته ، وأعد لهم اي هيأ واحضر لهم عذاباً مهينا لهم يذوقونه بعد موتهم ويوم بعثهم يوم القيامة . هذا ما دلت عليه الآية الثالثة ( 58 ) أما الآية الرابعة ( 59 ) فإنه لما كان المؤمنات يخرجن بالليل لقضاء الحاجة البشرية إذ لم يكن لهم مراحيض في البيوت وكان بعض سفهاء المنافقين يتعرضون لهن بالغمز والكلمة السفيهة وهم يقصدون على عادتهم الإِماء لا الحرائر فتأذى بذلك المؤمنات وشكون غلى أزواجهن ما يلقين من تعرض بعض المنافقين لهن فأنزل الله تعالى هذه الآية { يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن } والجلباب هو الملاءة أو العباءة تكون فوق الدرع السابغ الطويل ، أي مُرْهُنَّ بأن يدنين من طرف الملاءة على الوجه حتى لا يبقى إلا عين واحدة ترى بها الطريق ، وبذلك يعرفن انهن حرائر عفيفات فلا يؤذين بالتعرض لهن أولئك المنافقون والسفهاء عليهم لعائن الله .
(3/302)
________________________________________
وقوله تعالى { وكان الله غفوراً رحيماًْ } أخبر عباده أنه تعالى كان وما زال غفوراً لمن تاب من عباده رحيماً به فلا يعذبه بعد توبته .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان شرف الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ووجوب الصلاة والسلام عليه في التشهد الأخير في الصلاة .
2- بيان ما يتعرض له من يؤذى الله ورسوله من غضب وعذاب .
3- بيان مقدار ما يتحمله من يؤذي المؤمنين والمؤمنات بالقول فينسب إليهم ما لم يقولوا أو لَمْ يفعلوا أو يؤذيهم بالفعل بضرب جسم أو أخذ مال أو انتهاك عرض .
4- وجوب تغطية المؤمنة وجهها إذا خرجت لحاجتها الا ما كان من عين ترى بها الطريق ، واليوم بوجود الأقمشة الرقيقة لا حاجة إلى ابداء العين إذ تسبل قماشا على وجهها فيستر وجهها وترى معه الطريق واضحاً والحمد لله .
(3/303)
________________________________________
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
شرح الكلمات :
{ لئن لم ينته المنافقون } : أي عن نفاقهم وهو إظهار الإِيمان واخفاء الكفر .
{ والذين في قلوبهم مرض } : أي مرض حب الفجور وشهوة الزنا .
{ والمرجفون في المدينة } : أي الذين يأتون بالأخبار الكاذبة لتحريك النفوس وزعزعتها كقولهم العدو على مقربة من المدينة أو السرية الفلانية قتل أفرادها وما إلى ذلك .
{ لنغرينك بهم } : أي لنسلطنك عليهم ولنحرشنك بهم .
{ ثم لا يجاورنك فيها إلا قليلا } : أي في المدينة الا قليلا من الأيام ثم يخرجوا منها أو يهلكوا .
{ ملعونين } : أي مبعدين عن الرحمة .
{ اينما ثقفوا أخذوا } : أينما وجدوا أخذوا أسرى وقتلوا تقتيلاً .
{ سنة الله في الذين خَلَوْا من قبل } : أي سن الله هذا سنة في الأمم الماضية أينما ثقف المنافقون والمرجفون أخذوا وقتلوا تقتيلاً .
{ ولن تجد لسنة الله تبديلا } : أي منه تعالى إذ هي ليست أحكاماً يطرأ عليها التبديل والتغيير بل هي سر التشريع وحكمته .
معنى الآيات :
لقد تقدم أن بعض النسوة اشتكين ما يلقينه من تعرض المنافقين لهن عند خروجهن ليلاً لقضاء الحاجة ، وأن الله تعالى أمر نساء المؤمنين أن يدنين من جلابيبهن وعلة ذلك أن يعرفن أنهن حرائر فلا يتعرض لهن المنافقون وكان ذلك إجراءً وقائيا لا بد منه ، ثم اقسم الجبار بقوله { لئن لم ينته المنافقون } اي وعزتي وجلالي لئن لم ينته هؤلاء المنافقون من نفاقهم وأعمالهم الاستفزازية والذين في قلوبهم مرض الشهوة وحب الفجور والمرجفون الذين يكذبون الأكاذيب المرجفة أي المحركة للنفوس كقولهم : العدو زاحف على المدينة والسرية الفلانية انهزمت أو قتل أكثر أفرادها لئن لم ينته هؤلاء لنغرينك بهم أي لنحرشنَّك بهم ثم لنسلِّطنَّك عليهم . ثم لا يجاورونك فيها أي في المدينة إلا قليلا ، ثم يُخرجوا منها أو يُهلكوا ملعونين أي يخرجون ملعونين أي مطرودين من الرحمة الإِلهية التي تصيب سكان المدينة النبوية ، وحينئذٍ اينما ثقفوا أي وجدوا وتُمكن منهم أخذوا اي اسرى وقتلوا تقتيلاً حتى لا يبقى منهم أحد .
هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 60 ) { لئن لم ينته المنافقون . . } والثانية ( 61 ) { ملعونين . . . } الخ . أما الآية الثالثة ( 62 ) سنة الله في الذين خلوا من قبل ، أي لقد سن الله تعالى هذا سنة في المنافقين من أنهم إذا لم ينتهوا يلعنون ثم يُسلط عليهم من يأخذهم ويقتلهم تقتيلاً ، وقوله : ولن تجد لسنة الله تبديلاً يُخبر تعالى أن ما كان من قبل السنن كالطعام يشبع والماء يورى والنار تحرق والحديد يقطع لا يبدله تعالى بل يبقى كذلك لأنه مبْني على أساس الحكم التشريعية .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- التنديد بالمنافقين وتهديدهم بامضاء سنة الله تعالى فيهم إذا لم يتوبوا .
2- مشروعية إبعاد أهل الفساد من المدن الإِسلامية أو يتوبوا بترك الفساد والإِفساد ، وخاصة المدينة النبوية الشريفة .
3- بيان ان ما كان من الأشياء من قبل السنن لا يتبدل بتبدل الأحوال والظروف بل يبقى كما هو لا يبدله الله تعالى ولا بغيره .
(3/304)
________________________________________
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
شرح الكلمات :
{ يسألك الناس عن الساعة } : أي يهود المدينة كما سأله أهل مكة فاليهود سألوه امتحاناً والمشركون تكذيباً لها واستعجالاً لها .
{ قل إنما علمها عند الله } : أي أجب السائلين قائلاً انما علمها عند ربي خاصة فلم يعلمها غيره .
{ وما يدريك } : أي لا أحد يدريك أيها الرسول أي يخبرك بها إذ علمها لله وحده .
{ لعل الساعة تكون قريبا } : أي وما يشعرك أن الساعة قد تكون قريبة القيام .
{ واعد لهم سعيرا } : أي ناراً متسعرة .
{ خالدين فيها } : أي مقدراً خلودهم فيها إذ الخلود يكون بعد دخولهم فيها .
{ تقلب وجوههم في النار } : أي تصرف من جهة إلى جهة كاللحم عند شيّه يقلب في النار .
{ يا ليتنا اطعنا الله } : أي يتمنون بأقوالهم لو أنهم أطاعوا الله وأطاعوا الرسول .
{ وقالوا ربَّنا إنا اطعنا سادتنا } : هذا قول الأتباع يشكون إلى الله سادتهم ورؤساءهم .
{ فأضلونا السبيلا } : أي طريق الهدى الموصل إلى رضا الله عز وجل بطاعته .
{ آتهم ضعفين من العذاب } : أي اجعل عذابهم ضعفي عذابنا لأنهم أضلونا .
{ والعنهم لعناً كبيراً } : أي أخزهم خزياً متعدد المرات في عذاب جهنم .
معنى الآيات :
قوله تعالى { يسألك الناس عن الساعة } أي ميقات مجيئها والسائلون مشركون وأهل الكتاب فالمشركون يسألون عنها استعباداً لها فسؤالهم سؤال استهزاء واليهود يسألون امتحاناً للرسول صلى الله عليه وسلم ، فأمره تعالى أن يجيب السائلين بجواب واحد وهو إنما علمها عند الله ، أي انحصر علمها في الله تعالى إذ أخفى الله تعالى أمرها عن الملائكة والمقربين منهم والأنبياء والمرسلين منهم كذلك فضلاً عن غيرهم فلا يعلم وقت مجيئها إلا هو سبحانه وتعالى . وقوله تعالى : { وما يدريك } أي لا أحد يعلمك بها أيها الرسول ، وقوله { لعل الساعة تكون قريبا } أي وما يشعرك يا رسولنا لعل الشاعة تكون قريبة القيام وهي كذلك قال تعالى : { اقترب الناس حسابهم } وقال { اقتربت الساعة } فأعلَمَ بالقرب ولم يعلم بالوقت لحكم عالية منها استمرار الحياة كما هي حتى آخر ساعة .
وقوله تعالى : { إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً } المكذبين بالساعة المنكرين لرسالتك الجاحدين بنبوتك لعنهم فطردهم من رحمته أعد لهم ناراً مستعرة في جهنم خالدين فيها إذا دخلوها لم يخرجوا منها أبداً { لا يجدون ولياً } اي يتولاهم فيدفع العذاب عنهم { ولا نصيراً } أي ينصرهم ويخلصهم من محنتهم في جهنم . وقوله : { يوم تقلب وجوههم في النار } تصرف من جهة غلى جهة كما يقلب اللحم عند شيّة يقولون عند ذلك يا ليتنا اطعنا الله وأطعنا الرسول يتحسرون متمنين لو أنهم أطاعوا الله وأطاعوا الرسول في الدنيا ولم يكونوا عصوا الله والرسول . وقوله تعالى : { وقالوا ربنا انا اطعنا سادتنا وكبراءنا } هذه شكوى منهم واعتذاراً وانى لهم أن تقبل شكواهم وينفعهم اعتذارهم . اطعناهم فيما كانوا يأمروننا به من الكفر والشرك وفعل الشر فاضلونا السبيلا أي طريق الهدى فعشنا ضالين ومتنا كافرين وحشرنا مع المجرمين .
(3/305)
________________________________________
{ ربنا } اي يا ربنا آتهم ضعفين من العذاب أي ضاعف يا ربنا لسادتنا وكبراءنا الذين أضلونا ضاعف لهم العذاب فعذبهم ضِعْفى عذابنا ، والعنهم أي واخزهم في العذاب خزياً كبيراً يتوالى عليهم دائماً وأبداً .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان أن علم الساعة استأثر الله به فلا يعلم وقت مجيئها غيره .
2- بيان أن الساعة قريبة القيام ، ولا منافاة بين قربها وعدم علم قيامها .
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحوال الكافرين فيها .
4- بيان أن طاعة السادة والكبراء في معاصي الله ورسوله يعود بالوبال على فاعليه .
(3/306)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
شرح الكلمات :
{ يا أيها الذين آمنوا } : أي يا من صدقوا بالله ورسوله ولقاء الله وما جاء به رسول الله .
{ لا تكونوا كالذين آذوا موسى } : أي لا تكونوا مع نبيكم كما كان بنو اسرائيل مع موسى إذ آذوه بقولهم إنه ما يمنعه من الاغتسال معنا إلا أنه آدر .
{ فبرأه الله مما قالوا } : أي أراهم أنه لم يكن به أدرة وهي انتفاخ احدى الخصيتين .
{ وكان عند الله وجيهاً } : أي ذا جاهٍ عظيم عند الله فلا يُخيِّبُ له مسعىً ولا يرد له مطلباً .
{ وقولوا قولا سديداً } : أي صدقاً صائباً .
{ يصلح لكم أعمالكم } : أي الدينيَّة والدنيوية إذْ على الصدق والموافقة للشرع نجاح الأعمال والفوز بثمارها .
{ فقد فاز فوزاً عظيماً } : أي نال غاية مطلوبة وهو النجاة من النار ودخول الجنة .
{ إنا عرضنا الأمانة } : أي ما ائتمن عليه الإِنسان من سائر التكاليف الشرعية وما ائتمنه عليه أخوه من حفظ مال أو قول أو عرض أو عمل .
{ فأبين أن يحملنها وأشفقن منها } : أي رفضن الالتزام بها وخفن عاقبة تضييعها .
{ وحملها الإِنسان } : أي آدم وذريَّته .
{ إنه كان ظلوما جهولاً } : أي لأنه كان ظلوماً اي كثير الظلم لنفسه جهولاً بالعواقب .
{ ليعذب الله المنافقين } : أي وتحملها الإِنسان قضاء وقدراً ليرتب الله تعالى على ذلك عذاب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب على المؤمنين والمؤمنات يغفر لهم ويرحمهم وكان الله غفوراً رحيماً .
معنى الآيات :
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى ينادى الله تعالى مؤمنى هذه الأُمة ناهياً لهم عن أذى نبيّهم بأدنى أذى ، وأن لا يكونوا كبنى اسرائيل الذين آذوا موسى في غير موطن ومن ذلك ما ذكره صلى الله عليه وسلم عنه في قوله من رواية مسلم أن بنى اسرائيل كانوا يغتسلون عراة ينظر بعضهم غلى بعض ، وكان موسى يغتسل وحده فقالوا : ما منعه أن يغتسل معنا إلا أنه آدر ، فذهب يوماً يغتسل فوضع ثوبه على حجر وأخذ يغتسل وإذا بالحجر يهرب بالثوب فيجرى موسى وراءه حتى وقف به على جميع من بنى اسرائيل فرأوا أنه ليس به أُدره ولا برص كما قالوا فهذا معنى فبرَّأه الله مما قالوا ، وكان عند الله وجيهاً أي ذا جاه عظيم .
ومما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى أذاه في إتهام زوجه بالفاحشة من قبل أصحاب الإِفك وقول بعضهم له وقد قسم مالاً هذه قسمة ما أُريد به وجه الله .
وقول بعضهم اعدل فينا يا رسول الله فقال له ويحك إذا لم أعدل أنا فمن يعدل؟
وكان يقول يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر!! هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 69 ) اما الآية الثانية ( 70 ) فقد نادى تعالى عباده المؤمنين الذين نهاهم عن أذيِّة نبيهم وأن لا يكونوا في ذلك كقوم موسى بن عمران ناداهم ليأمرهم بأمرين الأول بتقواه عز وجل إذ قال { يا أيها الذين آمنوا } أي صدقوا الله ورسوله .
(3/307)
________________________________________
{ اتقوا الله } أي خافوا عقابه . فأدوا فرائضه واجتنبوا محارمه . والثاني بالتزام القول الحق الصائب السديد ، ورتَّب على الأمرين صلاح أعمالهم ومغفرة ذنوبهم إذ قول الحق والتزام الصدق مما يجعل الأقوال والأعمال مثمرة نافعة ، فتثمر زكاة النفس وطهارة الروح . ثم أخبرهم مبشراً إِياهم بقوله : { ومن يطع الله ورسوله } في الأمر والنهي فقد فاز فوزاً عظيماً وهي سعادة الدارين : النجاة من كل مخوف والظفر بكل محبوب مرغوب ومن ذلك النجاة من النار ودخول الجنة . هذا ما تضمنه قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما } وقوله تعالى : { إنا عرضنا الأمانة } يخبر تعالى منبهاً محذراً فيقول : { إنا عرضنا الأمانة } وهي شاملة للتكاليف الشرعية كلها ولكل ما ائتمن عليه الإِنسان من شيء يحفظه لمن ائتمنه عليه حتى يرده إليه عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال بعد أن خلق لها عقلاً ونطقاً ففهمت الخطاب وردت الجواب فأبت تحملها بثوابها واشفقت وخافت من تبعتها ، وعرضت على الإِنسان آدم فحملها بتبعتها من ثواب وعقاب لأنه كان ظلوماً لنفسه يوردها موارد لاسوء جهولاً بعواقب الأمور . هذا ما دلت عليه الآية الرابعة ( 72 ) وهي قوله تعالى إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبَيْنَ أن يحملنها وأشفقن منها ، وحملها الإِنسان إنه كان ظلوماً جهولاً . وقوله تعالى : { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } أي بتبعة النفاق والشرك ، ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات اي تَمَّ عرضُ الأمانة وقبول آدم لها ليؤول الأمر إلى أن يكفر بعض أفراد الإِنسان فيعذبوا بكفرهم الذي نجم عن تضييع الأمانة ، ويؤمن بعض آخر فيفرط بعض التفريط ويتوب فيتوب الله عليه فيغفر له ويدخله الجنة وكان الله غفوراً رحيماً ومن آثار ذلك أن تاب الله على المؤمنين والمؤمنات وغفر لهم ورحمهم بإدخالهم الجنة فسبحان الله المدبر الحكيم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- وجوب تقوى الله عز وجل بفعل الأوامر واجتناب المناهى .
2- صلاح الأعمال لتثمر للعاملين الزكاة للنفس ، وطيب الحياة متوقف على التزام الصدق في القول والعمل وهو القول السديد المنافى للكذب والانحراف في القول والعمل .
3- طاعة الله ورسوله سبيل الفوز والفلاح في الدارين .
4- وجوب رعاية الأمانة وأدائها ، ولم يخل أحد من أمانة .
5- وصف الإِنسان بالظلم والجهل وبالكفر والمهانة والضعف في آيات أخرى يستلزم طلب علاج لهذه الصفات . وعلاجها جاء مبيناً في سورة المعارج في قوله { إلا المصلين } إلى قوله { والذين هم على صلاتهم يحافظون . }
(3/308)
________________________________________
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
شرح الكلمات :
{ الحمد لله } : أي الوصف بالجميل واجب لله مستحق له .
{ الذي له ما في السموات وما في الأرض } : أي خلقاً وملكاً وتصريفاً وتدبيراً .
{ وله الحمد في الآخرة } : أي يحمده فيها أولياؤه وهم في رياض الجنان ، كما له الحمد في الدنيا .
{ وهو الحكيم الخبير } : أي الحكيم في أفعاله الخبير بأحوال عباده .
{ يعلم ما يلج في الأرض } : أي ما يدخل فيها من مطر وأموات وكنوز .
{ وما يخرج منها } : أي من نبات وعيون ومعادن .
{ وما ينزل من السماء } : أي من ملائكة وأمطار وأرزاق ونحوها .
{ وما يعرج فيها } : اي وما يصعد فيها من ملائكة وأعمال العباد وأرواحهم بعد الموت .
{ وهو الرحيم الغفور } : أي الرحيم بالمؤمنين الغفور للتائبين .
معنى الآيتين :
يخبر تعالى عباده بأن له الحمد والشكر الكاملين التامين ، دون سائر خلقه ، فلا يحمد على الحقيقة إلا هو أما مخلوقاته فكل ما يُحمد له هو من عطاء الله تعالى لها وإفاضته عليها فلا يستحق الحمد على الحقيقة إلا الله ، كما أخبر تعالى بموجب حمده وشكره وهو أن له ما في السموات وما في الأرض خلقاً وملكاً وتدبيراً وتصريفاً وليس لأحد سواه من ذلك شيء هذا في الدنيا ، { وله الحمد في الآخرة } إذ يكرم أولياءه فينزلهم دار السلام فيحمدونه على ذلك { وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء } وقوله تعالى { وهو الحكيم الخبير } في تصريف أمور عباده وسائر مخلوقاته وتدبيرها الخبير بأحوالها العليم بصفاتها الظاهرة والباطنة .
وقوله { يعلم ما يلج } أي ما يدخل في الأرض من مطر وكنوز وأموات ، { وما يخرج منها } أي من الأرض مننبات ومعادن ومياه ، وما ينزل من السماء من أمطار وملائكة وأرزاق ، { وما يعرج فيها } أي يصعد من ملائكة وأعمال العباد . وهو مع القدرة والجلال والكمال هو وحده الرحيم بعباده المؤمنين الغفور للتائبين . بهذه الصفات الثابتة للذات الإِلهية وهي صفات جلال وجمال وكمال استحق الرب تعالى العبادة دون سواه فكل تأليه لغيره هو باطل ومنكر وزور يجب تركه والتخلى عنه ، والتنديد بفاعله حتى يتركه ويتخلى عنه .
هداية الآيتين :
من هداية الآيتين :
1- وجوب حمد الله تعالى وشكره بالقلب واللسان والجوارح والأركان .
2- بيان أن الحمد لا يصح إلا مع مقتضيه من الجلال والجمال .
3- لا يحمد في الآخرة إلا الله سبحانه وتعالى .
4- بيان علم الله تعالى بالظواهر والبواطن في كل خلقه .
5- تقرير توحيد الله تعالى في ربوبيته وأُلوهيته .
(3/309)
________________________________________
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
شرح الكلمات :
{ لا تأتينا الساعة } : أي القيامة .
{ لا يعزب عنه } : أي لا يغيب عنه .
{ مثقال ذرة } : أي وزن ذرة : أصغر نملة .
{ ولا أصغر من ذلك ولا أكبر } : أصغر من الذرة ولا أكبر منها .
{ إلا في كتاب مبين } : أي موجود في اللوح المحفوظ مكتوب فيه .
{ ليجزي الذين آمنوا } : أي اثبته في اللوح المحفوظ ليحاسب به ويجزى صاحبه .
{ والذين سعوا في آياتنا } : أي عملوا على إبطالها وسعوا في ذلك جهدهم .
{ معاجزين } : أي مغالبين لنا ظانين عجزنا عنهم ، وأنهم يفوتوننا فلا نبعثهم ولا نحاسبهم ولا نجزيهم .
{ عذاب من رجز أليم } : أي عذاب من اقبح العذاب وأسوأه .
{ ويرى الذين اوتوا العلم } : أي ويعلم الذين اوتوا العلم وهم علماء أهل لكتاب كعبدالله ابن سلام وأصحابه .
{ الذي أنزل إليك من ربك هو الحق : أي القرآن هو الحق الموحى به من الله تعالى .
ويهدي إلى صراط العزيز } { الحميد } : أي القرآن يهدي إلى صراط الله الموصل إلى رضاه وجواره الكريم وهو الإِسلام . والعزيز ذو العزة والحميد المحمود .
معنى الآيات :
بعد ما قررت الآيات السابقة توحيد الله في ربوبيته وأُلوهيته ذكر تعالى في هذه الآيات تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى مخبراً بما قاله منكراً البعث والجزاء : { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة } وهو انكار منهم للبعث إذ الساعة هي ساعة الفناء والبعث بعدها ، وأمر رسوله أن يقول لهم : { بلى وربّي لتأتينكم } أي أقسم لهم بالله تعالى ربه ورب كل شيء لتأتينهم أحبوا أم كرهوا ثم أثنى الرب تبارك وتعالى على نفسه بصفة العلم إذ البعث يتوقف على العلم كما يتوقف على القدرة والقدرة حاصلة ، إذ خلقهم ورزقهم ويميتهم . فذكر تعالى أنه عالم الغيب وهو كل ما غاب في السموات وفي الأرض . وأخبر أنه لا يعزب أي لا يغب عن علمه مثقال ذرة أي وزن ذرة في السموات ولا في الأرض ، ولا أصغر من الذرة ولا أكبر أيضاً إلا في كتاب مبين أي بيِّن وهو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل احداث العالم فلا حركة ولا سكون وقع أو يقع في الكون الا وله صورته ووقته في اللوح المحفوظ .
هذا ما تضمنته الآية الثالثة وقوله تعالى في الآية ( 4 ) ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي إذ الحكمة من كتابة الأحداث صغيرها وكبيرها ومنالبعث الآخر هي ليجزي تعالى الذين آمنوا أي صدقوا الله ورسوله وعملوا الصالحات وهي أداء الفرائض والسنن بما ذكر من جزائهم في قوله : { ألئك لهمم مغفرة } أي لذنوبهم { ورزق كريم } في الجنة وقوله في الآية ( 5 ) { والذين سعوا في آياتنا } بيَّن فيه جزاء الكافرين بعد أن بين جزاء المؤمنين ذلك الجزاء الذي هو حكمة وعلَّة البعث وكتابة الأعمال في اللوح المحفوظ فقال : { والذين سعوا في آياتنا معاجزين } أي والذين عملوا جهدهم في إِبطال آيات الله إذ قالوا فيها أنها من كلام الكهان وانها شعر وأساطير الأولين حتى لا يؤمنوا ولا يوحدوا أولئك البعداء في الخسِّة والانحطاط لهم جزاء ، عذاب من رجز أليم والرجز سيء العذاب واشده ومعنى أليم أي ذي الم وإيجاع شديد .
(3/310)
________________________________________
وقوله تعالى : في الاية ( 6 ) ويرى الذين أوتوا العلم ، أي ويعلم علماء أهل الكتاب كعبد الله بنس لام وأصحابه من مؤمني أهل الكتاب . الذي أنزل إليك من ربك وهو القرآن الكريم هو الحق ويهدى إلى صراط العزيز الحميد ، وعلم أهل الكتاب بأن القرآن حقٌّ ناتج عن موافقته لما في كتاب الله التوراة من عقيدة القدر وكتابة الأعمال دقيقها وجليلها في اللوح المحفوظ ليجزى بها الله تعالى المؤمنين والكافرين يوم القيامة .
هذا ما دلت عليه الآية ( 6 ) والأخيرة وهي قوله تعالى : { ويعلم } أي وليعلم { الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد } وهو الإِسلام .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بعد تقرير توحيد الألوهية .
2- تقرير عقيدة القضاء والقدر وكتابة الأعمال والأحداث في اللوح المحفوظ .
3- طلب شهادة أهل الكتاب على صحة الإِسلام والحصول عليها لموافقة التوراة للقرآن .
4- تقرير النبوة إذ القرآن فرع نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم المقرر لها .
(3/311)
________________________________________
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
شرح الكلمات :
{ وقال الذين كفروا } : أي قال بعضهم لبعض على جهة التعجيب .
{ هل ندلكم على رجل } : أي محمد صلى الله عليه وسلم .
{ إذا مُزقتم كل ممزق } : أي قطعتم كل التقطيع .
{ إنكم لفي خلق جديد } : أي تبعثون خلقاً جديداً لم ينقص منكم شيء .
{ أم به جنة } : أي جنون تخيّل له بذلك .
{ بل الذين لا يؤمنون باللآخرة : أي ليس الأمر كما يقول المشركون من افتراء الرسول أو في العذاب والضلال البعيد } جنونه بل الأمر الثابت والواقع أن الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب في الآخرة ، وفي الضلال البعيد في الدنيا .
{ أفلم يروا } : أي ينظروا .
{ إلى ما بين أيديهم وما خلفهم } : أي من أمامهم وورائهم وفوقهم وتحتهم إذ هم محاطون من كل جهة من السماء والأرض .
{ أو نسقط عليهم كسفاً } : أي قطعاً جمع كسِفة اي قطعة .
{ إن في ذلك لآية } : أي علامة واضحة ودليلاً قاطعاً على قدرة الله عليهم .
{ لكل عبد منيب } : أي لكل مؤمن منيب إلى ربّه رجَّاع إليه في أمره كله .
معنى الآيات :
ما زال السياق في تقرير عقيدة البعث والجزاء إنه لما قررها تعالى في الآيات قبل أورد هنا ما يتقاوله المشركون بينهم في تهكم واستهزاء واستبعاد للحياة الآخرة . فقال تعالى حاكيا قولهم : { وقال الذين كفروا } وهم مشركو مكة أي بعضهم لبعض متعجبين { هل ندلكم على رجل } يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم { ينبئكم } أي يخبركم بأنكم إذا متم وتمزقت لحومكم وتكسرت عظامكم وذهبتم في الأرض تراباً تبعثون في خلق جديد بعد أن مزقتم كل ممزق اي كل التمزيق فلم يبق شيء متصل ببعضه بعضاً . { أفترى على الله كذباً } أي محمد فكذب على الله هذا القول وزوره عنه وادعى أنه أخبره بوجود بعث جديد للناس بعد موتهم لحسابهم وجزائهم؟! أم به جنة أي به مس منجنون فهي تخيل له صور البعث وما يجرى فيه وهو يخبر به ويدعو إلى الإِيمان به؟ وهنا رد الله تعالى عليهم كذبهم وباطلهم فقال { بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد } اي ليس الأمر كما يقولون من أن النبي افترى على الله كذباً ، أو به جنون فتخيل له البعث وانما الأمر الثابت والواقع المقطوع به ان الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب يوم القيامة . وفي الضلال البعيد اليوم في الدنيا وشؤمهم أتاهم من تكذيبهم بالآخرة .
ثم قال تعالى مهدداً لهم لعلهم يرتدعون عن التهجم والتهكم بالنبي صلى الله عليه وسلم { أفلم يروا } اي أعموا فلم يروا الي ما بين ايديهم وما خلفهم من السماء والأرض أفلم ينظروا كيف هم محاطون من فوقهم ومن تحتهم ومن أمامهم ومن ورائهم أي الأرض تحتهم والسماء فوقهم { إن نشأ نخسف بهم الأرض } فيعودون فيها { أو نسقط عليهم كسفاً } اي قطعاً من السماء فتهلكهم عن آخرهم فلا يجدون مهرباً والجواب لا ، لأنهم مهما جروْا هاربين لا تزال السماء فوقهم والأرض تحتهم والله قاهر لهم متى شاء خسف بهم أو أسقط السماء عليهم .
(3/312)
________________________________________

اس حجم میں

أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير- ط: التفاسير - المجلد السادس

ڈاؤن لوڈ کریں

کتاب کے بارے میں