هل يستويان مثلا

يعتقد المسيحيون واليهود على السواء أن الآيات التي ذكرها القرآن الكريم وتثني عليهم تكفيهم ومن ثم فلا عليهم أن يتبعوا القرآن ولا الإسلام ولا النبي محمد صلى الله عليه وسلم ؛ولم يكتفوا بذلك بل غرسوا في نفوس ابناءهم هذه الأفكار الضالة مما أوجد الابناء في أنفسهم علينا وجعلهم إما أن يتهموننا بالكذب وإما بالكفر ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وحين عجزوا عن إيجاد أدلة على كذبهم قاموا بشئ غاية في الغرابة ألا وهو  تقض كتبهم وتغيرها حتي لا توافق القرآن الكريم وليقولوا لابناءهم لو كان القرآن حقا لوافقنا . وهذا تصرف ينم عن غباء أصيل لأنهم فعلوا كالمرأة التي تقضت غزلها من بعد ما بذلت في اتقانه جهدا ووقتا  وفي هذا يقول القرآن الكريم {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا }
ولكن مع هذا شاء الله تعالى أن يعمي أعينهم عن بعض الحقائق لتظل شاهدة على أنه كانت هناك توراة حقيقية وإنجيل حقيقي إلا أنهم بغباءهم وحقدهم أضاعوهما ولذا رأيت أن أذكر النقاط التي ذكرها القرآن الكريم وذكرت في كتبهم مع بعض الاحتلافات.
ورأيت أن أستعين بعد عون الله تعالى بأوضح التفاسير ألا هو تفسير الإمام القرطبي وغيره من التفاسير الهامة لأننا بصدد الحديث عن قضايا لا يصلح معها الإجتهاد .
والله الموفق والهادي إلى سبيل الرشاد

بسم الله الرحمن الرحيم

{هل يستويان مثلا}

إعداد

/ أ / أحمد إسماعيل زيد 

محاضر بالأكاديمية الإسلامية

لدراسات الأديان والمذاهب

محاضر بقناة الأمة الفضائية

 

 

المقدمة

يعتقد المسيحيون واليهود على السواء أن الآيات التي ذكرها القرآن الكريم وتثني عليهم تكفيهم ومن ثم فلا عليهم أن يتبعوا القرآن ولا الإسلام ولا النبي محمد صلى الله عليه وسلم ؛ولم يكتفوا بذلك بل غرسوا في نفوس ابناءهم هذه الأفكار الضالة مما أوجد الابناء في أنفسهم علينا وجعلهم إما أن يتهموننا بالكذب وإما بالكفر ولا حول ولا قوة إلا بالله .

وحين عجزوا عن إيجاد أدلة على كذبهم قاموا بشئ غاية في الغرابة ألا وهو  تقض كتبهم وتغيرها حتي لا توافق القرآن الكريم وليقولوا لابناءهم لو كان القرآن حقا لوافقنا . وهذا تصرف ينم عن غباء أصيل لأنهم فعلوا كالمرأة التي تقضت غزلها من بعد ما بذلت في اتقانه جهدا ووقتا  وفي هذا يقول القرآن الكريم {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا }

ولكن مع هذا شاء الله تعالى أن يعمي أعينهم عن بعض الحقائق لتظل شاهدة على أنه كانت هناك توراة حقيقية وإنجيل حقيقي إلا أنهم بغباءهم وحقدهم أضاعوهما ولذا رأيت أن أذكر النقاط التي ذكرها القرآن الكريم وذكرت في كتبهم مع بعض الاحتلافات.

ورأيت أن أستعين بعد عون الله تعالى بأوضح التفاسير ألا هو تفسير الإمام القرطبي وغيره من التفاسير الهامة لأننا بصدد الحديث عن قضايا لا يصلح معها الإجتهاد .

والله الموفق والهادي إلى سبيل الرشاد

 

 

 محتويات الكتاب

أولا : نقاط ذكرها القرآن الكريم والعهد القديم والجديد مع بعض الاحتلافات.

1-خلق آدم ص//   4     2-العهد لإبراهيم ص//39

3-نبوءة يعقوب ص//46

4-سدوم ص// 51      5-داود وامراة اوريا ص//67

6-يوسف وامراة العزيز ص//69

7-تنبؤات يعقوب ص// 92     8-جالوت وطالوت ص//100

9-طلب موسى للرؤية ص//111

المراجع ص/113

 

 

 

 

النقاط التي ذكرها القرآن الكريم وذكرت في العهدين القديم والجديد مع بعض الإحتلافات

1-آدم عليه السلام

لقد تحدث العهد القديم عن أدم عليه السلام بطريقة تخالف ما جاء في القرآن الكريم وإن كان بها بعض الحقائق وحتى لا أسقط رأيي عليك عزيزي القارئ رأيت أن أبدأ الحديث بما جاء في العهد القديم ثم نعقب ونبين ما حكاه القرآن الكريم .              

7وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً. 8وَغَرَسَ الرَّبُّ الإِلهُ جَنَّةً فِي عَدْنٍ شَرْقًا، وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ الَّذِي جَبَلَهُ. 9وَأَنْبَتَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ شَجَرَةٍ شَهِيَّةٍ لِلنَّظَرِ وَجَيِّدَةٍ لِلأَكْلِ، وَشَجَرَةَ الْحَيَاةِ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ، وَشَجَرَةَ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.

 10وَكَانَ نَهْرٌ يَخْرُجُ مِنْ عَدْنٍ لِيَسْقِيَ الْجَنَّةَ، وَمِنْ هُنَاكَ يَنْقَسِمُ فَيَصِيرُ أَرْبَعَةَ رُؤُوسٍ: 11اِسْمُ الْوَاحِدِ فِيشُونُ، وَهُوَ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضِ الْحَوِيلَةِ حَيْثُ الذَّهَبُ. 12وَذَهَبُ تِلْكَ الأَرْضِ جَيِّدٌ. هُنَاكَ الْمُقْلُ وَحَجَرُ الْجَزْعِ. 13وَاسْمُ النَّهْرِ الثَّانِى جِيحُونُ، وَهُوَ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضِ كُوشٍ. 14وَاسْمُ النَّهْرِ الثَّالِثِ حِدَّاقِلُ، وَهُوَ الْجَارِي شَرْقِيَّ أَشُّورَ. وَالنَّهْرُ الرَّابعُ الْفُرَاتُ

15وَأَخَذَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا. 16وَأَوْصَى الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ قَائِلاً: «مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلاً، 17وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ». 18وَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ: «لَيْسَ جَيِّدًا أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِينًا نَظِيرَهُ». 19وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ وَكُلَّ طُيُورِ السَّمَاءِ، فَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ لِيَرَى مَاذَا يَدْعُوهَا، وَكُلُّ مَا دَعَا بِهِ آدَمُ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ فَهُوَ اسْمُهَا.

 20فَدَعَا آدَمُ بِأَسْمَاءٍ جَمِيعَ الْبَهَائِمِ وَطُيُورَ السَّمَاءِ وَجَمِيعَ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ. وَأَمَّا لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَجِدْ مُعِينًا نَظِيرَهُ. 21فَأَوْقَعَ الرَّبُّ الإِلهُ سُبَاتًا عَلَى آدَمَ فَنَامَ، فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلأَ مَكَانَهَا لَحْمًا. 22وَبَنَى الرَّبُّ الإِلهُ الضِّلْعَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ امْرَأَةً وَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ. 23فَقَالَ آدَمُ: «هذِهِ الآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هذِهِ تُدْعَى امْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ امْرِءٍ أُخِذَتْ». 24لِذلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَدًا وَاحِدًا. 25وَكَانَا كِلاَهُمَا عُرْيَانَيْنِ، آدَمُ وَامْرَأَتُهُ، وَهُمَا لاَ يَخْجَلاَن

1وَكَانَتِ الْحَيَّةُ أَحْيَلَ جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ الَّتِي عَمِلَهَا الرَّبُّ الإِلهُ، فَقَالَتْ لِلْمَرْأَةِ: «أَحَقًّا قَالَ اللهُ لاَ تَأْكُلاَ مِنْ كُلِّ شَجَرِ الْجَنَّةِ؟» 2فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ لِلْحَيَّةِ: «مِنْ ثَمَرِ شَجَرِ الْجَنَّةِ نَأْكُلُ، 3وَأَمَّا ثَمَرُ الشَّجَرَةِ الَّتِي فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ فَقَالَ اللهُ: لاَ تَأْكُلاَ مِنْهُ وَلاَ تَمَسَّاهُ لِئَلاَّ تَمُوتَا».

 4فَقَالَتِ الْحَيَّةُ لِلْمَرْأَةِ: «لَنْ تَمُوتَا! 5بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ». 6فَرَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ، وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضًا مَعَهَا فَأَكَلَ. 7فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ. فَخَاطَا أَوْرَاقَ تِينٍ وَصَنَعَا لأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ.

8وَسَمِعَا صَوْتَ الرَّبِّ الإِلهِ مَاشِيًا فِي الْجَنَّةِ عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ النَّهَارِ، فَاخْتَبَأَ آدَمُ وَامْرَأَتُهُ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ الإِلهِ فِي وَسَطِ شَجَرِ الْجَنَّةِ. 9فَنَادَى الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَقَالَ لَهُ: «أَيْنَ أَنْتَ؟». 10فَقَالَ: «سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ، لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ». 11فَقَالَ: «مَنْ أَعْلَمَكَ أَنَّكَ عُرْيَانٌ؟ هَلْ أَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ أَنْ لاَ تَأْكُلَ مِنْهَا؟» 12فَقَالَ آدَمُ: «الْمَرْأَةُ الَّتِي جَعَلْتَهَا مَعِي هِيَ أَعْطَتْنِي مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ».

 13فَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ لِلْمَرْأَةِ: «مَا هذَا الَّذِي فَعَلْتِ؟» فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: «الْحَيَّةُ غَرَّتْنِي فَأَكَلْتُ». 14فَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ لِلْحَيَّةِ: «لأَنَّكِ فَعَلْتِ هذَا، مَلْعُونَةٌ أَنْتِ مِنْ جَمِيعِ الْبَهَائِمِ وَمِنْ جَمِيعِ وُحُوشِ الْبَرِّيَّةِ. عَلَى بَطْنِكِ تَسْعَيْنَ وَتُرَابًا تَأْكُلِينَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكِ. 15وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ». 16وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: «تَكْثِيرًا أُكَثِّرُ أَتْعَابَ حَبَلِكِ، بِالْوَجَعِ تَلِدِينَ أَوْلاَدًا. وَإِلَى رَجُلِكِ يَكُونُ اشْتِيَاقُكِ وَهُوَ يَسُودُ عَلَيْكِ».

 17وَقَالَ لآدَمَ: «لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِ امْرَأَتِكَ وَأَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ قَائِلاً: لاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. 18وَشَوْكًا وَحَسَكًا تُنْبِتُ لَكَ، وَتَأْكُلُ عُشْبَ الْحَقْلِ. 19بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ».

20وَدَعَا آدَمُ اسْمَ امْرَأَتِهِ «حَوَّاءَ» لأَنَّهَا أُمُّ كُلِّ حَيٍّ. 21وَصَنَعَ الرَّبُّ الإِلهُ لآدَمَ وَامْرَأَتِهِ أَقْمِصَةً مِنْ جِلْدٍ وَأَلْبَسَهُمَا.

22وَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ: «هُوَذَا الإِنْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا عَارِفًا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَالآنَ لَعَلَّهُ يَمُدُّ يَدَهُ وَيَأْخُذُ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ أَيْضًا وَيَأْكُلُ وَيَحْيَا إِلَى الأَبَدِ». 23فَأَخْرَجَهُ الرَّبُّ الإِلهُ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَ الأَرْضَ الَّتِي أُخِذَ مِنْهَا. 24فَطَرَدَ الإِنْسَانَ، وَأَقَامَ شَرْقِيَّ جَنَّةِ عَدْنٍ الْكَرُوبِيمَ، وَلَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ

كيف تناول القرآن الكريم قصة آدم وحواء؟

هذا ما كان من شأن آدم وحواء وعن خلقهما والأكل من الشجرة والهبوط إلى الأرض من العهد القديم فيا ترى كيف تناول القرآن الكريم قصة آدم وحواء؟

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}
قوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}

فيه سبع عشرة مسألة : -
الأولى- قوله تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} إذ وإذا حرفا توقيت ، فإذ للماضي ، وإذا للمستقبل. وقول الله تعالى وخطابه للملائكة متقرر قديم في الأزل بشرط وجودهم وفهمهم.

الثانية- قوله تعالى : {لِلْمَلائِكَةِ} وخاطب الله الملائكة لا للمشورة ولكن لاستخراج ما فيهم من رؤية الحركات والعبادة والتسبيح والتقديس ، ثم ردهم إلى قيمتهم ، فقال عز وجل : {اسْجُدُوا لآدَمَ} [البقرة : 34].
الثالثة- قوله تعالى : {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} "جاعل" هنا بمعنى خالق و"خليفة" ، أي يخلف من كان قبله من الملائكة في الأرض ، أو من كان قبله من غير الملائكة – وهو  آدم عليه السلام ، وهو خليفة الله في إمضاء أحكامه وأوامره ، لأنه أول رسول إلى الأرض ، كما في حديث أبي ذر ، قال قلت : يا رسول الله أنبيا كان مرسلا ؟ قال : "نعم"  

ويقال : لمن كان رسولا ولم يكن في الأرض أحد ؟ فيقال : كان رسولا إلى ولده ، وكانوا أربعين ولدا في عشرين بطنا في كل بطن ذكر وأنثى ، وتوالدوا حتى كثروا ، كما قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} [النساء : 1]. وأنزل عليهم تحريم الميتة والدم ولم الخنزير.
الرابعة- هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع ، لتجتمع به الكلمة ، وتنفذ به أحكام الخليفة. ودليلنا قول الله تعالى : {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة : 30] ، وقوله تعالى : {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} [ص : 26] ، وقال : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} [النور : 55]

وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في التعيين ، حتى قالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير ، فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك ، وقالوا لهم : إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش ، ورووا لهم الخبر في ذلك ، فرجعوا وأطاعوا لقريش.. ثم إن الصديق رضي الله عنه لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الإمامة ، ولم يقل له أحد هذا أمر غير واجب علينا ولا عليك ، فدل على وجوبها وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين ، والحمد لله رب العالمين.
قوله تعالى : {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} قد علمنا قطعا أن الملائكة لا تعلم إلا ما أعلمت ولا تسبق بالقول ، وذلك عام في جميع الملائكة ، لأن قوله : {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} خرج على جهة المدح لهم ، فكيف قالوا : {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} ؟ فقيل : المعنى أنهم لما سمعوا لفظ خليفة فهموا أن في بني آدم من يفسد ، إذ الخليفة المقصود منه الإصلاح وترك الفساد ، لكن عمموا الحكم على الجميع بالمعصية .

 فبين الرب تعالى أن فيهم من يفسد ومن لا يفسد فقال تطييبا لقلوبهم : {إِنِّي أَعْلَمُ} وحقق ذلك بأن علم آدم الأسماء ، وكشف لهم عن مكنون علمه. وقيل : إن الملائكة قد رأت وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء. وذلك لأن الأرض كان فيها الجن قبل خلق آدم فأفسدوا وسفكوا الدماء ، فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم وألحقهم بالبحار ورؤوس الجبال ، فمن حينئذ دخلته العزة. فجاء قولهم : {أَتَجْعَلُ فِيهَا} على جهة الاستفهام المحض : هل هذا الخليفة على طريقة من تقدم من الجن أم لا ؟

إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ، فقالوا لذلك هذه المقالة ، إما على طريق التعجب من استخلاف الله من يعصيه أو من عصيان الله من يستخلفه في أرضه وينعم عليه بذلك ، وإما على طريق الاستعظام والإكبار للفصلين جميعا : الاستخلاف والعصيان. وقال قتادة : كان الله أعلمهم أنه إذا جعل في الأرض خلقا أفسدوا وسفكوا الدماء ، فسألوا حين قال تعالى : {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} أهو الذي أعلمهم عنه أم غيره.

وبتوضيح ذلك إليك ما رواه عبدالرزاق حين قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله "أتجعل فيها من يفسد فيها" قال : كان الله أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، فلذلك قالوا : {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا . وفي الكلام حذف على مذهبه ، والمعنى إني جاعل في الأرض خليفة يفعل كذا ويفعل كذا ، فقالوا : أتجعل فيها الذي أعلمتناه أم غيره ؟ والقول الأول أيضا حسن جدا ، لأن فيه استخراج العلم واستنباطه من مقتضى الألفاظ وذلك لا يكون إلا من العلماء

قوله : {مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ويسفك } والسفك : الصب. سفكت الدم: صببته ، قوله تعالى : {ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} أي ننزهك عما لا يليق بصفاتك. والتسبيح في كلامهم التنزيه من السوء على وجه التعظيم ؛ وروى طلحة بن عبيدالله قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير سبحان الله فقال : "هو تنزيه الله عز وجل عن كل سوء"

قوله تعالى : {بِحَمْدِكَ} أي وبحمدك نخلط التسبيح بالحمد ونصله به. والحمد : الثناء ، ويحتمل أن يكون قولهم : "بحمدك" اعتراضا بين الكلامين ، كأنهم قالوا : ونحن نسبح ونقدس ، ثم اعترضوا على جهة التسليم ، أي وأنت المحمود في الهداية إلى ذلك. والله أعلم.
قوله تعالى : {وَنُقَدِّسُ لَكَ} أي نعظمك ونمجدك ونطهر ذكرك عما لا يليق بك مما نسبك إليه الملحدون
قوله تعالى : {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} و قوله تعالى {مَا لا تَعْلَمُونَ} اختلف علماء التأويل في المراد بقوله تعالى : {مَا لا تَعْلَمُونَ} . فقال ابن عباس : كان إبليس - لعنه الله - قد أعجب ودخله الكبر لما جعله خازن السماء وشرفه ، فاعتقد أن ذلك لمزية له ، فاستخف الكفر والمعصية في جانب آدم عليه السلام.

 وقالت الملائكة : {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة : 30] وهي لا تعلم أن في نفس إبليس خلاف ذلك ، فقال الله تعالى لهم : {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة : 30]. وقال قتادة : لما قالت الملائكة {أَتَجْعَلُ فِيهَا} [البقرة : 30] وقد علم الله أن فيمن يستخلف في الأرض أنبياء وفضلاء وأهل طاعة قال لهم {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} .

 

{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}
الآية : 31 {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
فيه سبع مسائل :
الأولى -
قوله تعالى : {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} "علّم" عرّف. وتعليمه هنا إلهام علمه ضرورة. ويحتمل أن يكون بواسطة ملك وهو جبريل عليه السلام ؛ لو لم يكشف لآدم علم تلك الأسماء لكان أعجز من الملائكة في الإخبار عنها.
واختلف في اشتقاقه ، فقيل : أنه مشتق من أديم الأرض. قال سعيد بن جبير : إنما سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض ، وإنما سمي إنسانا لأنه نسي ، ذكره ابن سعد في الطبقات. وروى السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود في قصة خلق آدم عليه السلام قال : فبعث الله جبريل عليه السلام إلى الأرض ليأتيه بطين منها ، فقالت الأرض : أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني.

 فرجع ولم يأخذ وقال : يا رب إنها عاذت بك فأعذتها. فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها ، فرجع فقال كما قال جبريل ، فبعث ملك الموت فعاذت منه فقال : وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره. فأخذ من وجه الأرض وخلط ، ولم يأخذ من مكان واحد ، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء ، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين - ولذلك سمي آدم لأنه أخذ من أديم الأرض - فصعد به .

 فقال الله تعالى له : "أما رحمت الأرض حين تضرعت إليك" فقال : رأيت أمرك أوجب من قولها. فقال : "أنت تصلح لقبض أرواح ولده" فبل التراب حتى عاد طينا لازبا ، اللازب : هو الذي يلتصق بعضه ببعض ، ثم ترك حتى أنتن ، فذلك حيث يقول : {من حَمَأٍ مَسْنُونٍ} [الحجر : 26] ثم قال للملائكة : {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ. فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}  [ص : 71].

 فخلقه الله بيده لكيلا يتكبر إبليس عنه. يقول : أتتكبر عما خلقت بيدي ولم أتكبر أنا عنه! فخلقه بشرا فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة ، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه وكان أشدهم منه فزعا إبليس فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار تكون له صلصلة ، فذلك حين يقول : {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن : 14]. ويقول لأمر ما خلقت!. ودخل من فمه وخرج من دبره ، فقال إبليس للملائكة : لا ترهبوا من هذا فإنه أجوف ولئن سلطت عليه لأهلكنه.

ويقال : إنه كان إذا مر عليه مع الملائكة يقول : أرأيتم هذا الذي لم تروا من الخلائق يشبهه إن فضل عليكم وأمرتم بطاعته ما أنتم فاعلون! قالوا : نطيع أمر ربنا ، فأسر إبليس في نفسه لئن فضل علي فلا أطيعه ، ولئن فضلت عليه لأهلكنه .

 فلما بلغ الحين الذي أريد أن ينفخ فيه الروح قال تعالى للملائكة : إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له ، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس ، فقالت له الملائكة : قل الحمد لله ، فقال : الحمد لله ، فقال الله له : رحمك ربك ، فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة ، فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن يبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة ، فذلك حين يقول : {خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء : 37] {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ، إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف : 11]

وذكر القصة. وروى الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب" . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح.

الثانية- قوله تعالى : {الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} "الأسماء" هنا بمعنى العبارات ، فإن الاسم قد يطلق ويراد به المسمى ، كقولك : زيد قائم ، والأسد شجاع. وقد يراد به التسمية ذاتها ، كقولك : أسد ثلاثة أحرف ، ففي الأول يقال : الاسم هو المسمى بمعنى يراد به المسمى ، وفي الثاني لا يراد المسمى ، وقد يجرى اسم في اللغة مجرى ذات العبارة وهو الأكثر من استعمالها .

 ومنه قوله تعالى : {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة : 31] على أشهر التأويلات ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن لله تسعة وتسعين اسما" . ويجري مجرى الذات ، يقال : ذات ونفس وعين واسم بمعنى ، وعلى هذا حمل أكثر أهل العلم قوله تعالى : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى : 1] {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن : 78] {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} [النجم : 23].
الثالثة - واختلف أهل التأويل في معنى الأسماء التي علمها لآدم عليه السلام ، فقال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومجاهد وابن جبير : علمه أسماء جميع الأشياء كلها جليلها وحقيرها.
واللغة مأخوذة توقيفا ، وأن الله تعالى علمها آدم عليه السلام جملة وتفصيلا. وكذلك قال ابن عباس : علمه أسماء كل شيء حتى الجفنة والمحلب. وروى شيبان عن قتادة قال : علم آدم من الأسماء أسماء خلقه ما لم يعلم الملائكة ،وسمي كل شيء باسمه وأنحى منفعة كل شيء إلى جنسه. قال النحاس : وهذا أحسن ما روي في هذا. والمعنى علمه أسماء الأجناس وعرفه منافعها ، هذا كذا ، وهو يصلح لكذا

الرابعة- واختلف المتأولون أيضا هل عرض على الملائكة أسماء الأشخاص أو الأسماء دون الأشخاص ، فقال ابن مسعود وغيره :عرض الأشخاص لقوله تعالى:{عَرَضَهُمْ} وقوله : {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ} وتقول العرب : عرضت الشيء فأعرض ، أي أظهرته فظهر.
الخامسة- واختلف في أول من تكلم باللسان العربي ، فروي عن كعب الأحبار : أن أول من وضع الكتاب العربي والسرياني والكتب كلها بالألسنة كلها آدم عليه السلام. وقاله غير كعب الأحبار.
فإن قيل : قد روي عن كعب الأحبار من وجه حسن قال : أول من تكلم بالعربية جبريل عليه السلام وهو الذي ألقاها على لسان نوح عليه السلام وألقاها نوح على لسان ابنه سام ، ورواه ثور ابن زيد عن خالد بن معدان عن كعب. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل وهو ابن عشر سنين" .

وقد روي أيضا : أن أول من تكلم بالعربية يعرب بن قحطان ، وقد روي غير ذلك. و الصحيح أن أول من تكلم باللغات كلها من البشر آدم عليه السلام ، والقرآن يشهد له ، قال الله تعالى : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة : 31] واللغات كلها أسماء فهي داخلة تحته

 وبهذا جاءت السنة ، قال صلى الله عليه وسلم : "وعلم آدم الأسماء كلها حتى القصعة والقصيعة" وما ذكروه يحتمل أن يكون المراد به أول من تكلم بالعربية من ولد إبراهيم عليه السلام إسماعيل عليه السلام. وكذلك إن صح ما سواه فإنه يكون محمولا على أن المذكور أول من تكلم من قبيلته بالعربية بدليل ما ذكرنا ، والله أعلم. وكذلك جبريل أول من تكلم بها من الملائكة وألقاها على لسان نوح بعد أن علمها الله آدم أو جبريل ،
قوله تعالى : {هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} شرط ، والجواب محذوف تقديره : إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض فأنبئوني ، قاله المبرد. ومعنى "صادقين" عالمين ، ولذلك لم يسغ للملائكة الاجتهاد وقالوا : "سبحانك"! حكاه النقاش قال : ولو لم يشترط عليهم إلا الصدق في الإنباء لجاز لهم الاجتهاد كما جاز للذي أماته الله مائة عام حين قال له : {كَمْ لَبِثْتَ} فلم يشترط عليه الإصابة ، فقال ولم يصب ولم يعنف

السابعة- قال بعض العلماء : يخرج من هذا الأمر بالإنباء تكليف ما لا يطاق لأنه علم أنهم لا يعلمون. وقال المحققون من أهل التأويل : ليس هذا على جهة التكليف وإنما هو على جهة التقرير والتوقيف.
{قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}
قوله تعالى : {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} فيه ثلاث مسائل :
الأولى :
قوله تعالى أي تنزيها لك عن أن يعلم الغيب أحد سواك. وهذا جوابهم عن قوله : {أَنْبِئُونِي} فأجابوا أنهم لا يعلمون إلا ما أعلمهم به ولم يتعاطوا ما لا علم لهم به كما يفعله الجهال منا. و"ما" في "ما علمتنا" بمعنى الذي ، أي إلا الذي علمتنا ، ويجوز أن تكون مصدرية بمعنى إلا تعليمك إيانا.
الثانية- الواجب على من سئل عن علم أن يقول إن لم يعلم : الله أعلم ولا أدري ، اقتداء بالملائكة والأنبياء والفضلاء من العلماء ، لكن قد أخبر الصادق أن بموت العلماء يقبض العلم ، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون.

وأما ما ورد من الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين بعدهم في معنى الآية فروى البستي في المسند الصحيح له عن ابن عمر أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي البقاع شر ؟ قال : "لا أدري حتى أسأل جبريل" فسأل جبريل ، فقال : لا أدري حتى أسأل ميكائيل ، فجاء فقال : "خير البقاع المساجد ، وشرها الأسواق" .

وقال الصديق للجدة : ارجعي حتى أسأل الناس. وكان علي يقول : وأبردها على الكبد ، ثلاث مرات. قالوا وما ذلك يا أمير المؤمنين ؟ قال : أن يسأل الرجل عما لا يعلم فيقول : الله أعلم. وسأل ابن عمر رجل عن مسألة فقال : لا علم لي بها ، فلما أدبر الرجل. قال ابن عمر : نعم ما قال ابن عمر ، سئل عما لا يعلم فقال لا علم لي به!

الثانية : .قوله تعالى : {سُبْحَانَكَ} "سبحان" منصوب على المصدر عند الخليل وسيبويه ، يؤدي عن معنى نسبحك تسبيحا. وقال الكسائي : هو منصوب على أنه نداء مضاف. و {الْعَلِيمُ} فعيل للمبالغة والتكبير في المعلومات في خلق الله تعالى. و {الْحَكِيمُ} معناه الحاكم ، وبينهما مزيد المبالغة. وقيل معناه المحكم ويجيء الحكيم على هذا من صفات الفعل
الآية : 33 {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}
قووله تعالى : {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} فيه خمس مسائل :
الأولى-
قوله تعالى : {أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} أمره الله أن يعلمهم بأسمائهم بعد أن عرضهم على الملائكة ليعلموا أنه أعلم بما سألهم عنه تنبيها على فضله وعلو شأنه ، فكان أفضل منهم بأن قدمه عليهم وأسجدهم له وجعلهم تلامذته وأمرهم بأن يتعلموا منه. فحصلت له رتبة الجلال والعظمة بأن جعله مسجودا له ، مختصا بالعلم.
الثانية- في هذه الآية دليل على فضل العلم وأهله ، وفي الحديث : "وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم" أي تخضع وتتواضع وإنما تفعل ذلك لأهل العلم خاصة من بين سائر عباد الله ، لأن الله تعالى ألزمها ذلك في آدم عليه السلام فتأدبت بذلك الأدب.

فكلما ظهر لها علم في بشر خضعت له وتواضعت وتذللت إعظاما للعلم وأهله ، ورضا منهم بالطلب له والشغل به. هذا في الطلاب منهم فكيف بالأحبار فيهم والربانيين منهم جعلنا الله منهم وفيهم ، إنه ذو فضل عظيم.
الثالثة- قوله تعالى : {أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} دليل على أن أحدا لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله كالأنبياء أو من أعلمه من أعلمه الله تعالى فالمنجمون والكهان وغيرهم كذبة
الرابعة- قوله تعالى : {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} أي من قولهم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} حكاه مكي والماوردي. وقال الزهراوي : ما أبدوه هو بدارهم بالسجود لآدم. {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} قال ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير : المراد ما كتمه إبليس في نفسه من الكبر والمعصية. قال ابن عطية : وجاء "تكتمون" للجماعة ، والكاتم واحد في هذا القول على تجوز العرب واتساعها ، كما يقال لقوم قد جنى سفيه منهم : أنتم فعلتم كذا. أي منكم فاعله ، وهذا مع قصد تعنيف ، ومنه قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات : 4] وإنما ناداه منهم عيينة ،

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}
فيه عشر مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {وَإِذْ قُلْنَا} أي واذكر  و: "قلنا" ولم يقل قلت لأن الجبار العظيم يخبر عن نفسه بفعل الجماعة تفخيما وإشادة بذكره. والملائكة جمع ملك ،
الثانية- قوله تعالى : {اسْجُدُوا} السجود معناه في كلام العرب التذلل والخضوع

الثالثة- استدل من فضل آدم وبنيه بقوله تعالى للملائكة : {اسْجُدُوا لآدَمَ} . قالوا : وذلك يدل على أنه كان أفضل منهم. والجواب أن معنى {اسْجُدُوا لآدَمَ} اسجدوا لي مستقبلين وجه آدم. وهو كقوله تعالى : {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء : 78] أي عند دلوك الشمس

وكقوله : {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص : 72] أي فقعوا لي عند إتمام خلقه ومواجهتكم إياه ساجدين. والمسجود له لا يكون أفضل من الساجد بدليل القبلة.فإن قيل : فإذا لم يكن أفضل منهم فما الحكمة في الأمر بالسجود له ؟

 قيل له : إن الملائكة لما استعظموا بتسبيحهم وتقديسهم أمرهم بالسجود لغيره ليريهم استغناءه عنهم وعن عبادتهم. وقال بعضهم : عيروا آدم واستصغروه ولم يعرفوا خصائص الصنع به فأمروا بالسجود له تكريما. ويحتمل أن يكون الله تعالى أمرهم بالسجود له معاقبة لهم على قولهم : {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} لما قال لهم : {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة : 30] وكان علم منهم أنه إن خاطبهم أنهم قائلون هذا ، فقال لهم : {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} [ص : 71] وجاعله خليفة ، فإذا نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين.

 والمعنى : ليكون ذلك عقوبة لكم في ذلك الوقت على ما أنتم قائلون لي الآن. فإن قيل : فقد استدل ابن عباس على فضل البشر بأن الله تعالى أقسم بحياة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر : 72]. وأمنه من العذاب بقوله : {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح : 2].

وقال للملائكة : {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء : 29]. قيل له : إنما لم يقسم بحياة الملائكة كما لم يقسم بحياة نفسه سبحانه ، فلم يقل : لعمري. وأقسم بالسماء والأرض ، ولم يدل على أنهما أرفع قدرا من العرش والجنان السبع. وأقسم بالتين والزيتون. وأما قول سبحانه : {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} [الأنبياء : 29] فهو نظير قوله لنبيه عليه السلام : {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر : 65] فليس فيه إذا دلالة ، والله أعلم.

الرابعة- واختلف الناس في كيفية سجود الملائكة لآدم بعد اتفاقهم على أنه لم يكن سجود عبادة ، فقال الجمهور : كان هذا أمرا للملائكة بوضع الجباه على الأرض ، كالسجود المعتاد في الصلاة ، لأنه الظاهر من السجود في العرف والشرع ، وعلى هذا قيل : كان ذلك السجود تكريما لآدم وإظهارا لفضله ، وطاعة لله تعالى ، وكان آدم كالقبلة لنا. ومعنى "لآدم" : إلى آدم ، كما يقال صلى للقبلة ، أي إلى القبلة. وقال قوم : لم يكن هذا السجود المعتاد اليوم الذي هو وضع الجبهة على الأرض ولكنه مبقى على أصل اللغة ، فهو من التذلل والانقياد ، أي اخضعوا لآدم وأقروا له بالفضل. {فَسَجَدُوا} أي امتثلوا ما أمروا به.
واختلف أيضا هل كان ذلك السجود خاصا بآدم عليه السلام فلا يجوز السجود لغيره من جميع العالم إلا لله تعالى ، أم كان جائزا بعده إلى زمان يعقوب عليه السلام ، لقوله تعالى : {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} [يوسف : 100] فكان آخر ما أبيح من السجود للمخلوقين ؟ والذي عليه الأكثر أنه كان مباحا إلى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن أصحابه قالوا له حين سجدت له الشجرة والجمل : نحن أولى بالسجود لك من الشجرة والجمل الشارد ، فقال لهم : "لا ينبغي أن يسجد لأحد إلا لله رب العالمين" .

روى ابن ماجة في سننه والبستي في صحيحه عن أبي واقد قال : لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما هذا" فقال : يا رسول الله ، قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم ، فأردت أن أفعل ذلك بك .

 قال : "فلا تفعل فإني لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ؛ لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها حتى لو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه" .

الخامسة- قوله : {إِلاَّ إِبْلِيسَ} نصب على الاستثناء المتصل ، لأنه كان من الملائكة على قول الجمهور : ابن عباس وابن مسعود وابن جريج وابن المسيب وقتادة وغيرهم ، وهو اختيار الشيخ أبي الحسن ، ورجحه الطبري ، وهو ظاهر الآية. قال ابن عباس : وكان اسمه عزازيل وكان من أشراف الملائكة وكان من الأجنحة الأربعة ثم أبلس بعد. روى سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان إبليس من الملائكة فلما عصى الله غضب عليه فلعنه فصار شيطانا. وحكى الماوردي عن قتادة : أنه كان من أفضل صنف من الملائكة يقال لهم الجنة. وقال سعيد بن جبير : إن الجن سبط من الملائكة خلقوا من نار وإبليس منهم ، وخلق سائر الملائكة من نور. وقال ابن زيد والحسن

وقتادة أيضا : إبليس أبو الجن كما أن آدم أبو البشر ولم يكن ملكا ، وروى نحوه عن ابن عباس وقال : اسمه الحارث. وقال شهر بن حوشب وبعض الأصوليين : كان من الجن الذين كانوا في الأرض وقاتلتهم الملائكة فسبوه صغيرا وتعبد مع الملائكة وخوطب ، وحكاه الطبري عن ابن مسعود. والاستثناء على هذا منقطع ، مثل قوله تعالى : {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء : 175] وقوله : {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة : 3]
واحتج بعض أصحاب هذا القول بأن الله جل وعز وصف الملائكة فقال : {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم : 6] ، وقوله تعالى : {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف : 50] والجن غير الملائكة. أجاب أهل المقالة الأولى بأنه لا يمتنع أن يخرج إبليس من جملة الملائكة لما سبق في علم الله بشقائه عدلا منه ، لا يسأل عما يفعل ، وليس في خلقه من نار ولا في تركيب الشهوة حين غضب عليه ما يدفع أنه من الملائكة.

وقول من قال : إنه كان من جن الأرض فسبي فقد روي في مقابلته أن إبليس هو الذي قاتل الجن في الأرض مع جند من الملائكة ، حكاه المهدوي وغيره. وحكى الثعلبي عن ابن عباس : أن إبليس كان من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم ، وخلقت الملائكة من نور ، وكان اسمه بالسريانية عزازيل ، وبالعربية الحارث .

 وكان من خزان الجنة وكان رئيس ملائكة السماء الدنيا وكان له سلطانها وسلطان الأرض ، وكان من أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما ، وكان يسوس ما بين السماء والأرض ، فرأى لنفسه بذلك شرفا وعظمة ، فذلك الذي دعاه إلى الكفر فعصى الله فمسخه شيطانا رجيما. فإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه ، وإن كانت خطيئته في معصية فارجه ، وكانت خطيئة آدم عليه السلام معصية ، وخطيئة إبليس كبرا. والملائكة قد تسمى جنا لاستتارها ، وفي التنزيل : {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} [الصافات : 158]
السادسة- قوله تعالى : {أَبَى} معناه امتنع من فعل ما أمر به ، ومنه الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله - وفي راوية : يا ويلي - أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار" . خرجه مسلم. يقال : أبي يأبى إباء ،

السابعة- قوله تعالى : {وَاسْتَكْبَرَ} الاستكبار : الاستعظام ، فكأنه كره السجود في حقه واستعظمه في حق آدم ، فكان ترك السجود لآدم تسفيها لأمر الله وحكمته. وعن هذا الكبر عبر عليه السلام بقوله : "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر" . في رواية فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال : "إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس" . أخرجه مسلم. ومعنى بطر الحق : تسفيهه وإبطاله. وغمط الناس : الاحتقار لهم والازدراء بهم.

وقد صرح اللعين بهذا المعنى فقال : { أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} [ص : 76]. {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء : 61]. {قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} [الحجر : 26] فكفره الله بذلك. فكل من سفه شيئا من أوامر الله تعالى أو أمر رسوله عليه السلام كان حكمه حكمه ، وهذا ما لا خلاف فيه.

 وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال بلغني أن أول معصية كانت الحسد والكبر ، حسد إبليس آدم ، وشح آدم في أكله من الشجرة. وقال قتادة : حسد إبليس آدم ، على ما أعطاه الله من الكرامة فقال : أنا ناري وهذا طيني. وكان بدء الذنوب الكبر ، ثم الحرص حتى أكل آدم من الشجرة ، ثم الحسد إذ حسد ابن آدم أخاه.
الثامنة- قوله تعالى : {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} قيل : كان هنا بمعنى صار ، ومنه قوله تعالى : {فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}
 فلذلك قال : أنا خير منه ، ولذلك قال الله عز وجل : {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص : 75] أي استكبرت ولا كبر لك ، ولم أتكبر أنا حين خلقته بيدي والكبر لي فلذلك قال : {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [ص : 74]. وكان أصل خلقته من نار العزة ، ولذلك حلف بالعزة فقال : {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص : 82] فالعزة أورثته الكبر حتى رأى الفضل له على آدم عليه السلام. وعن أبي صالح قال : خلقت الملائكة من نور العزة وخلق إبليس من نار العزة.
التاسعة- والعاشرة- الآية : 35 {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}
فيه ثلاث عشرة مسألة :
الأولى-
قوله تعالى : {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ} لا خلاف أن الله تعالى أخرج إبليس عند كفره وأبعده عن الجنة ، وبعد إخراجه قال لآدم : اسكن ، أي لازم الإقامة واتخذها مسكنا ، وهو محل السكون. وسكن إليه يسكن سكونا.والسكن : كل ما سكن إليه

الثانية_ في قوله تعالى : {اسْكُنْ} تنبيه على الخروج ، لأن السكنى لا تكون ملكا ، ولهذا قال بعض العارفين : السكنى تكون إلى مدة ثم تنقطع ، فدخولهما في الجنة كان دخول سكنى لا دخول إقامة.
الثالثة- قوله تعالى : {أَنْتَ وَزَوْجُكَ} "أنت" تأكيد للمضمر الذي في الفعل ، ومثله { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ} . ولا يجوز اسكن وزوجك ، ولا اذهب وربك ،
الرابعة- قوله تعالى : {وَزَوْجُكَ} لغة القرآن "زوج" بغير هاء ، وقد جاء في صحيح مسلم : "زوجة" حدثنا عبدالله بن مسلمة بن قعنب قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع إحدى نسائه فمر به رجل فدعاه فجاء فقال : "يا فلان هذه زوجتي فلانة" : فقال يا رسول الله ، من كنت أظن به فلم أكن أظن بك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم" .

وزوج آدم عليه السلام هي حواء عليها السلام ، وهو أول من سماها بذلك حين خلقت من ضلعه من غير أن يحس آدم عليه السلام بذلك ، ولو ألم بذلك لم يعطف رجل على امرأته ، فلما انتبه قيل له : من هذه ؟ قال : امرأة قيل : وما اسمها ؟ قال : حواء ، قيل : ولم سميت امرأة ؟ قال : لأنها من المرء أخذت ، قيل : ولم سميت حواء ؟ قال : لأنها خلقت من حي. روي أن الملائكة سألته عن ذلك لتجرب علمه ، وأنهم قالوا له : أتحبها يا آدم ؟ قال : نعم ، قالوا لحواء : أتحبينه يا حواء ؟ قالت : لا ، وفي قلبها أضعاف ما في قلبه من حبه. قالوا : فلو صدقت امرأة في حبها لزوجها لصدقت حواء.

وقال ابن مسعود وابن عباس : لما أسكن آدم الجنة مشى فيها مستوحشا ، فلما نام خلقت حواء من ضلعه القصرى من شقه الأيسر ليسكن إليها ويأنس بها ، فلما انتبه رآها فقال : من أنت ؟ قالت : امرأة خلقت من ضلعك لتسكن إلي ، وهو معنى قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الزمر : 6]. قال العلماء : ولهذا كانت المرأة عوجاء ، لأنها خلقت من أعوج وهو الضلع. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن المرأة خلقت من ضلع - في رواية : وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه - لن تستقيم لك على طريقة واحدة فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها
الخامسة- قوله تعالى : {الجنة} الجنة : البستان ، وقد تقدم القول فيها. ولا التفات لما ذهبت إليه المعتزلة والقدرية من أنه لم يكن في جنة الخلد وإنما كان في جنة بأرض عدن. واستدلوا على بدعتهم بأنها لو كانت جنة الخلد لما وصل إليه إبليس ، فإن الله يقول : {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} [الطور : 23] وقال {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً} [النبأ : 35] وقال : {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً. إِلاَّ قِيلاً سَلاماً} [الواقعة : 25]. وأنه لا يخرج منها أهلها لقوله : {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر : 48]. وأيضا فإن جنة الخلد هي دار القدس ، قدست عن الخطايا والمعاصي تطهيرا لها. وقد لغا فيها إبليس وكذب ، وأخرج منها آدم وحواء بمعصيتهما
قالوا : وكيف يجوز على آدم مع مكانه من الله وكمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد والملك الذي لا يبلى ؟ فالجواب : أن الله تعالى عرف الجنة بالألف واللام .

ومن قال : أسأل الله الجنة ، لم يفهم منه في تعارف الخلق إلا طلب جنة الخلد. ولا يستحيل في العقل دخول إبليس الجنة لتغرير آدم ، وقد لقي موسى آدم عليهما السلام فقال له موسى : أنت أشقيت ذريتك وأخرجتهم من الجنة ، فأدخل الألف واللام ليدل على أنها جنة الخلد المعروفة ، فلم ينكر ذلك آدم ، ولو كانت غيرها لرد على موسى .

 فلما سكت آدم على ما قرره موسى صح أن الدار التي أخرجهم الله عز وجل منها بخلاف الدار التي أخرجوا إليها. وأما ما احتجوا به من الآي فذلك إنما جعله الله فيها بعد دخول أهلها فيها يوم القيامة ، ولا يمتنع أن تكون دار الخلد لمن أراد الله تخليده فيها وقد يخرج منها من قضي عليه بالفناء. وقد أجمع أهل التأويل على أن الملائكة يدخلون الجنة على أهل الجنة ويخرجون منها ، وقد كان مفاتيحها بيد إبليس ثم انتزعت منه بعد المعصية ، وقد دخلها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ثم خرج منها وأخبر بما فيها وأنها هي جنة الخلد حقا.

وأما قولهم : إن الجنة دار القدس وقد طهرها الله تعالى من الخطايا فجهل منهم ، وذلك أن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدسة وهي الشام ، وأجمع أهل الشرائع على أن الله تعالى قدسها وقد شوهد فيها المعاصي والكفر والكذب ولم يكن تقديسها مما يمنع فيها المعاصي ، وكذلك دار القدس. قال أبو الحسن بن بطال : وقد حكى بعض المشايخ أن أهل السنة مجمعون على أن جنة الخلد هي التي أهبط منها آدم عليه السلام ، فلا معنى لقول من خالفهم.

 وقولهم : كيف يجوز على آدم في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد ، فيعكس عليهم ويقال : كيف يجوز على آدم وهو في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد في دار الفناء هذا ما لا يجوز على من له أدنى مسكة من عقل ، فكيف بآدم الذي هو أرجح الخلق عقلا ،
السادسة- قوله تعالى : {وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} والرغد : العيش الدار الهني الذي لا عناء
السابعة- قوله تعالى : {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} أي لا تقرباها بأكل ،وقال بعض أرباب المعاني قوله : "ولا تقربا" إشعار بالوقوع في الخطيئة والخروج من الجنة ، وأن سكناه فيها لا يدوم ، لأن المخلد لا يحظر عليه شيء ولا يؤمر ولا ينهى. والدليل على هذا قوله تعالى {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة : 30] فدل على خروجه منها.
الثامنة- قوله تعالى : {هَذِهِ الشَّجَرَةَ} الاسم المبهم ينعت بما فيه الألف واللام لا غير ، كقولك : مررت بهذا الرجل وبهذه المرأة وهذه الشجرة.
التاسعة : واختلف أهل التأويل في تعيين هذه الشجرة التي نهي عنها فأكل منها وقال القشيري أبو نصر : وكان الإمام والدي رحمه الله يقول : يعلم على الجملة أنها كانت شجرة المحنة.
العاشرة- واختلفوا كيف أكل منها مع الوعيد المقترن بالقرب وهو قوله تعالى : {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} ، فقال قوم أكلا من غير التي أشير إليها فلم يتأولا النهي واقعا على جميع جنسها ،
وفي هذا يقول القرطبي  : قد استنبط بعض العلماء نبوة آدم عليه السلام قبل إسكانه الجنة من قوله تعالى : {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة : 33] فأمره الله تعالى أن ينبئ الملائكة بما ليس عندهم من علم الله جل وعز. وقيل : أكلها ناسيا ، ومن الممكن أنهما نسيا الوعيد.
وأضاف : وهو الصحيح لإخبار الله تعالى في كتابه بذلك حتما وجزما فقال : { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه : 115]. ولكن لما كان الأنبياء عليهم السلام يلزمهم من التحفظ والتيقظ لكثرة معارفهم وعلو منازلهم ما لا يلزم غيرهم كان تشاغله عن تذكر النهي تضييعا صار به عاصيا ، أي مخالفا. وإن النهي إذا كان معلقا على فعلين لا تتحقق المخالفة إلا بهما .

 لأنك إذا قلت : لا تدخلا الدار ، فدخل أحدهما ما وجدت المخالفة منهما ، لأن قول الله تعالى {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة : 35] نهي لهما {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة : 35] جوابه ، فلا يكونا من الظالمين حتى يفعلا ، فلما أكلت لم يصبها شيء ، لأن المنهي عنه ما وجد كاملا.

وخفي هذا المعنى على آدم فطمع ونسي هذا الحكم ، وهو معنى قوله تعالى : {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه : 115] وقيل : نسي قوله : { إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه : 115]. والله أعلم.
الحادية عشرة- قوله تعالى : {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} "فتكونا" الظلم أصله وضع الشيء في غير موضعه. قوله تعالى { وَكُلا مِنْهَا رَغَداً} أي أكلا رغدا. {حَيْثُ} مبنية على الضم ، لأنها خالفت أخواتها الظروف في أنها لا تضاف ، فأشبهت قبل وبعد إذا أفردتا فضمت{وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ}{فَتَكُونَا} عطف علي "تقربا"  {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}

 


قوله تعالى : {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} وفيه عشر مسائل :
الأولى-
قوله تعالى : {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} قرأ الجماعة "فأزلهما" بغير ألف ، من الزلة وهي الخطيئة ، أي استزلهما وأوقعهما فيها. وقرأ حمزة "فأزالهما" بألف ، من التنحية ، أي نحاهما. يقال : أزلته فزال. قال ابن كيسان : فأزالهما من الزوال ، أي صرفهما عما كانا عليه من الطاعة إلى المعصية.
{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} والوسوسة إنما هي إدخالهما في الزلل بالمعصية ، وليس للشيطان قدرة على زوال أحد من مكان إلى مكان ، إنما قدرته [على] إدخاله في الزلل ، فيكون ذلك سببا إلى زواله من مكان إلى مكان يذنبه.
الثانية- قوله تعالى : {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} إذا جعل أزال من زال عن المكان فقوله : "فأخرجهما" تأكيد وبيان للزوال ، إذ قد يمكن أن يزولا عن مكان كانا فيه إلى مكان آخر من الجنة ، وليس كذلك ، وإنما كان إخراجهما من الجنة إلى الأرض ، لأنهما خلقا منها ، وليكون آدم خليفة في الأرض. ولم يقصد إبليس - لعنه الله - إخراجه منها وإنما قصد إسقاطه من مرتبته وإبعاده كما أبعد هو ، فلم يبلغ مقصده ولا أدرك مراده ، بل ازداد سخنة عين وغيظ نفس وخيبة ظن. قال الله جل ثناؤه : {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه : 122]

 فصار عليه السلام خليفة الله في أرضه بعد أن كان جارا له في داره ، فكم بين الخليفة والجار صلى الله عليه وسلم. ونسب ذلك إلى إبليس ، لأنه كان بسببه وإغوائه. ولا خلاف بين أهل التأويل وغيرهم أن إبليس كان متولي إغواء آدم ، واختلف في الكيفية ، فقال ابن مسعود وابن عباس وجمهور العلماء أغواهما مشافهة ، ودليل ذلك قوله تعالى : {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} والمقاسمة ظاهرها المشافهة.

الثالثة- أن إبليس لم يدخل الجنة إلى آدم بعد ما أخرج منها وإنما أغوى بشيطانه وسلطانه ووسواسه التي أعطاه الله تعالى ، كما قال صلى الله عليه وسلم : "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" . والله أعلم.
 روى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "خمس يقتلهن المحرم" فذكر الحية فيهن. وروى أن إبليس قال لها : أدخليني الجنة وأنت في ذمتي ، فكان ابن عباس يقول : أخفروا ذمة إبليس. وروت ساكنه بنت الجعد عن سراء بنت نبهان الغنوية قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اقتلوا" الحيات صغيرها وكبيرها وأسودها وأبيضها فإن من قتلها كانت له فداء من النار ومن قتلته كان شهيدا" .

قال علماؤنا : وإنما كانت له فداء من النار لمشاركتها إبليس وإعانته على ضرر آدم وولده ، فذلك كان من قتل حية فكأنما قتل كافرا. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدا" . أخرجه مسلم وغيره.
الرابعة- روى ابن جريج عن عمرو بن دينار عن أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم : بمنى فمرت حية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اقتلوها" فسبقتنا إلى حجر فدخلته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هاتوا بسعفة ونار فأضرموها عليه نارا" .

 وهذا الحديث يخص نهيه عليه السلام عن المثلة وعن أن يعذب أحد بعذاب الله تعالى ، قالوا : فلم يبق لهذا العدو حرمة حيث فاته حتى أوصل إليه الهلاك من حيث قدر.
فإن قيل : قد روي عن إبراهيم النخعي أنه كره أن تحرق العقرب بالنار ، وقال : هو مثلة. قيل له : يحتمل أن يكون لم يبلغه هذا الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعمل على الأثر الذي جاء : " لا تعذبوا بعذاب الله" فكان على هذا سبيل العمل عنده.
فإن قيل : فقد روى مسلم عن عبدالله بن مسعود قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار وقد أنزلت عليه : {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} [المرسلات : 1] فنحن نأخذها من فيه رطبة ، إذ خرجت علينا حية ، فقال : "اقتلوها" ، فابتدرناها لنقتلها فسبقتنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وقاها الله شركم كما وقاكم شرها" .

فلم يضرم نارا ولا احتال في قتلها. قيل له : يحتمل أن يكون لم يجد نارا فتركها ، أو لم يكن الحجر بهيئة ينتفع بالنار هناك مع ضرر الدخان وعدم وصوله إلى الحيوان. والله أعلم. وقوله : "وقاها الله شركم" أي قتلكم إياها "كما وقاكم شرها" أي لسعها.

الخامسة- الأمر بقتل الحيات من باب الإرشاد إلى دفع المضرة المخوفة من الحيات ، فما كان منها متحقق الضرر وجبت المبادرة إلى قتله ، لقوله : "اقتلوا الحيات واقتلوا ذا الطفيتين والأبتر فإنهما يخطفان البصر ويسقطان الحبل" . فخصهما بالذكر مع أنهما دخلا في العموم ونبه على ذلك بسبب عظم ضررهما.

وما لم يتحقق ضرره فما كان منها في غير البيوت قتل أيضا لظاهر الأمر العام ، ولأن نوع الحيات غالبه الضرر ، فيستصحب ذلك فيه ، ولأنه كله مروع بصورته وبما في النفوس من النفرة عنه ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : "إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية" . فشجع على قتلها.
السادسة- ما كان من الحيات في البيوت فلا يقتل حتى يؤذن ثلاثة أيام ، لقوله عليه السلام : "إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام" . وقد حمل بعض العلماء هذا الحديث على المدينة وحدها لإسلام الجن بها ، قالوا : ولا نعلم هل أسلم من جن غير المدينة أحد أو لا ، قاله ابن نافع. وقال مالك : نهى عن قتل جنان البيوت في جميع البلاد.

وهو الصحيح ، لأن الله عز وجل قال : {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف : 29] الآية. وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن" وفيه : وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة ،

السابعة- روى الأئمة عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته ، قال : فوجدته يصلي ، فجلست انتظره حتى يقضي صلاته ، فسمعت تحريكا في عراجين ناحية البيت ، فالتفت فإذا حية ، فوثبت لأقتلها ، فأشار إلي أن أجلس فجلست ، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال : أترى هذا البيت ؟ فقلت نعم ، فقال : كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس ، قال : فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق ، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله ، فاستأذنه يوما .

 فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة" . فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع ، فإذا امرأته بين البابين قائمة فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به وأصابته غيرة ، فقالت له : اكفف عليك رمحك ، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش ، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ، ثم خرج فركزه في الدار فاضطربت عليه ، فما يدرى أيهما كان أسرع موتا ، الحية أم الفتى

 قال : فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له ، وقلنا : ادع الله يحييه لنا ، فقال : "استغفروا لأخيكم - ثم قال : - إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان" . وفي طريق أخرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن لهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم شيئا منها فحرجوا عليها ثلاثا فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر - وقال لهم : - اذهبوا فادفنوا صاحبكم" .

قال علماؤنا رحمة الله عليهم : لا يفهم من هذا الحديث أن هذا الجان الذي قتله هذا الفتى كان مسلما وأن الجن قتلته به قصاصا ، لأنه لو سلم أن القصاص مشروع بيننا وبين الجن لكان إنما يكون في العمد المحض ، وهذا الفتى لم يقصد ولم يتعمد قتل نفس مسلمة ، إذ لم يكن عنده علم من ذلك ، وإنما قصد إلى قتل ما سوغ قتل نوعه شرعا ، فهذا قتل خطأ ولا قصاص فيه. فالأولى أن يقال : إن كفار الجن أو فسقتهم قتلوا بصاحبهم عدوا وانتقاما.

وقد قتلت سعد بن عبادة رضي الله عنه ، وذلك أنه وجد ميتا في مغتسله وقد اخضر جسده ، ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلا يقول ولا يرون أحدا
قد قتلنا سيد الخز ... رج سعد بن عباده
ورميناه بسهمي ... ن فلم نخط فؤاده
وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن بالمدينة جنا قد أسلموا" ليبين طريقا يحصل به التحرز من قتل المسلم منهم ويتسلط به على قتل الكافر منهم. روي من وجوه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قتلت جانا فأريت في المنام أن قائلا يقول لها : لقد قتلت مسلما .

 فقالت : لو كان مسلما لم يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ما دخل عليك إلا وعليك ثيابك. فأصبحت فأمرت باثني عشر ألف درهم فجعلت في سبيل الله. وفي رواية : ما دخل عليك إلا وأنت مستترة ، فتصدقت وأعتقت رقابا. وقال الربيع بن بدر : الجان من الحيات التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها هي التي تمشي ولا تلتوي ،
الثامنة- في صفة الإنذار ، قال مالك : أحب إلي أن ينذروا ثلاثة أيام. وقاله عيسى بن دينار ، وإن ظهر في اليوم مرارا. ولا يقتصر على إنذاره ثلاث مرار في يوم واحد حتى يكون في ثلاثة أيام. وقيل : يكفي ثلاث مرار ، لقوله عليه السلام : "فليؤذنه ثلاثا" ، وقوله : "حرجوا عليه ثلاثا" ولأن ثلاثا للعدد المؤنث ، فظهر أن المراد ثلاث مرات.

 وقول مالك أولى ، لقوله عليه السلام : "ثلاثة أيام" . وهو نص صحيح مقيد لتلك المطلقات ، ويحمل ثلاثا على إرادة ليالي الأيام الثلاث ، فغلب الليلة على عادة العرب في باب التاريخ فإنها تغلب فيها التأنيث. قال مالك : ويكفي في الإنذار أن يقول : أحرج عليك بالله واليوم الآخر ألا تبدوا لنا ولا تؤذونا. وذكر ثابت البناني عن عبدالرحمن بن أبي ليلى أنه ذكر عنده حيات البيوت

فقال : إذا رأيتم منها شيئا في مساكنكم فقولوا : أنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم نوح عليه السلام ، وأنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم سليمان عليه السلام ، فإذا رأيتم منهن شيئا بعد فاقتلوه.
وهذا يدل بظاهره أنه يكفي في الإذن مرة واحدة ، والحديث يرده. والله أعلم. وقد حكى ابن حبيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول : "أنشدكن بالعهد الذي أخذ عليكن سليمان - عليه السلام - ألا تؤذينا وألا تظهرن علينا"
التاسعة- روى جبير عن نفير عن أبي ثعلبة الخشني - واسمه جرثوم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الجن على ثلاثة أثلاث فثلث لهم أجنحة يطيرون في الهواء وثلث حيات وكلاب وثلث يحلون ويظعنون" .

 وروى أبو الدرداء - واسمه عويمر بن عامر الأنصاري- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خلق الجن ثلاثة أثلاث فثلث كلاب وحيات وخشاش الأرض وثلث ريح هفافة وثلث كبني آدم لهم الثواب وعليهم العقاب وخلق الله الإنس ثلاثة أثلاث فثلث لهم قلوب لا يفقهون بها وأعين لا يبصرون بها وآذان لا يسمعون بها إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا وثلث أجسادهم كأجساد بني آدم وقلوبهم قلوب الشياطين وثلث في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله
العاشرة- ما كان من الحيوان أصله الإذاية فإنه يقتل ابتداء ، لأجل إذايته من غير خلاف ، كالحية والعقرب والفأر والوزغ ، وشبهه. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم...". وذكر الحديث.
فالحية أبدت جوهرها الخبيث حيث خانت آدم بأن أدخلت إبليس الجنة بين فكيها ، ولو كانت تبرزه ما تركها رضوان تدخل به. وقال لها إبليس أنت في ذمتي ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها وقال : "اقتلوها ولو كنتم في الصلاة" يعني الحية والعقرب.والوزغة نفخت على نار إبراهيم عليه السلام من بين سائر الدواب فلعنت. وهذا من نوع ما يروى في الحية. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من قتل وزغة فكأنما قتل كافرا".

 وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من قتل وزغة في أول ضربة كتبت له مائة حسنة وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك" وفي راوية أنه قال : "في أول ضربة سبعون حسنة" .
والفأرة أبدت جوهرها بأن عمدت إلى حبال سفينة نوح عليه السلام فقطعتها. وروى عبدالرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يقتل المحرم الحية والعقرب والحدأة والسبع العادي والكلب العقور والفويسقة" . واستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذت فتيلة لتحرق البيت فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها.والغراب أبدى جوهره حيث بعثه نبي الله نوح عليه السلام من السفينة ليأتيه بخبر الأرض فترك أمره وأقبل على جيفة.
قوله تعالى {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} وفيه سبع مسائل :
الأولى-
{وَقُلْنَا اهْبِطُوا} والخطاب لآدم وحواء والحية والشيطان ، والهبوط : النزول من فوق إلى أسفل ، فأهبط آدم بسرنديب في الهند بجبل يقال له "بوذ" ومعه ريح الجنة فعلق بشجرها وأوديتها فامتلأ ما هناك طيبا ، فمن ثم يؤتى بالطيب من ريح آدم عليه السلام. وكان السحاب يمسح رأسه فأصلع ، فأورث ولده الصلع.    وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

"خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا" الحديث. وأخرجه مسلم  وأهبطت حواء بجدة وإبليس بالأبلة ، والحية ببيسان ، وقيل : بسجستان. وسجستان أكثر بلاد الله حيات ، ولولا العربد الذي يأكلها ويفني كثيرا منها لأخليت سجستان من أجل الحيات ، ذكره أبو الحسن المسعودي.
الثانية - قوله تعالى {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} "بعضكم" مبتدأ ، "عدو" خبره والتقدير وهذه حالكم. والعدو : خلاف الصديق ، وهو من عدا إذا ظلم. وذئب عدوان : يعدو على الناس. والعدوان : الظلم الصراح. وقيل : هو مأخوذ من المجاوزة ، من قولك : لا يعدوك هذا الأمر ، أي لا يتجاوزك. وعداه إذا جاوزه ، فسمي عدوا لمجاوزة الحد في مكروه صاحبه ، ومنه العدو بالقدم لمجاوزة الشيء ، والمعنيان متقاربان ، فإن من ظلم فقد تجاوز.
قال القرطبي : وقد حمل بعض العلماء قوله تعالى : {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة : 36] على الإنسان نفسه ، وفيه بعد وإن كان صحيحا معنى. يدل عليه قوله عليه السلام : "إن العبد إذا أصبح تقول جوارحه للسانه اتق الله فينا فإنك إذا استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا" .

فإن قيل : كيف قال "عدو" ولم يقل أعداء ، ففيه جوابان أحدهما : أن بعضا وكلا يخبر عنهما بالواحد على اللفظ وعلى المعنى ، وذلك في القرآن ، قال الله تعالى : {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم : 95] على اللفظ ، وقال تعالى : {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل : 87] على المعنى. والجواب الآخر : أن عدوا يفرد في موضع الجمع ، قال الله عز وجل : {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف : 50] بمعنى أعداء ، وقال تعالى : {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون : 4]. وقال ابن فارس : العدو اسم جامع للواحد والاثنين والثلاثة والتأنيث ، وقد يجمع.

الثالثة- لم يكن إخراج الله تعالى آدم من الجنة وإهباطه منها عقوبة له لأنه أهبطه بعد أن تاب عليه وقبل توبته وإنما أهبطه إما تأديبا وإما تغليظا للمحنة والصحيح في إهباطه وسكناه في الأرض ما قد ظهر من الحكمة الأزلية في ذلك وهي نشر نسله فيها ليكلفهم ويمتحنهم ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الأخروي إذ الجنة والنار ليستا بدار تكليف فكانت تلك الأكلة سبب إهباطه من الجنة ولله أن يفعل ما يشاء وقد قال {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} وهذه منقبة عظيمة وفضيلة كريمة شريفة
الرابعة- قوله تعالى : {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} أي موضع استقرار.
الخامسة- قوله تعالى : {وَمَتَاعٌ} المتاع ما يستمتع به من أكل ولبس وحياة  
السادسة- قوله تعالى : {إِلَى حِينٍ} اختلف المتأولون في الحين على أقوال ، فقالت فرقة إلى الموت وهذا قول من يقول المستقر هو المقام في الدنيا وقيل إلى قيام الساعة ، والحين أيضا : المدة ومنه قوله تعالى : {هَلْ أَتَى عَلَى الأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان : 1] والحين الساعة قال الله تعالى {أو تَقُولَ حِينَ تَرَى العَذَابَ} [الزمر : 58]

 قال ابن عرفة الحين القطعة من الدهر كالساعة فما فوقها وقوله "فذرهم في غمرتهم حتى حين} [المؤمنون : 54] أي حتى تفنى آجالهم وقوله تعالى {تؤتي أكلها كل حين} [إبراهيم : 25] أي كل سنة وقيل بل كل ستة أشهر وقيل بل غدوة وعشيا قال الأزهري { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ }

 حين : اسم كالوقت يصلح لجميع الأزمان كلها طالت أو قصرت. والمعنى أنه ينتفع بها في كل وقت ولا ينقطع نفعها البتة قال والحين يوم القيامة. والحين الغدوة والعشية قال الله تعالى {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم : 17] ويقال عاملته محاينة من الحين وأحينت بالمكان إذا أقمت به حينا وحان حين كذا أي قرب.

السابعة- لما اختلف أهل اللسان في الحين اختلف فيه أيضا علماؤنا وغيرهم في فقال الفراء الحين حينان حين لا يوقف على حده ؛ والحين الذي ذكر الله جل ثناؤه {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم : 25] ستة أشهر : قال ابن العربي الحين المجهول لا يتعلق به حكم والحين المعلوم هو الذي تتعلق به الأحكام ويرتبط به التكليف وأكثر المعلوم سنة.

الآية : 37 {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
قوله تعالى : {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} وفيه ثمان مسائل :
الأولى -
قوله تعالى {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} تلقى قيل معناه فهم وفطن. وقيل : قبل وأخذ وكان عليه السلام يتلقى الوحي أي يستقبله ويأخذه ويتلقفه. تقول خرجنا نتلقى الحجيج أي نستقبلهم.

الثانية- واختلف أهل التأويل في الكلمات ، فقال ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير والضحاك ومجاهد هي قوله {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف : 23] وعن مجاهد أيضا : سبحانك اللهم لا إله إلا أنت ربي ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم : وقالت طائفة رأى مكتوبا على ساق العرش "محمد رسول الله" فتشفع بذلك ، فهي الكلمات. وقالت طائفة : المراد بالكلمات البكاء والحياء والدعاء وقيل : الندم والاستغفار والحزن.

قال ابن عطية : وهذا يقتضي أن آدم عليه السلام لم يقل شيئا إلا الاستغفار المعهود. وسئل بعض السلف عما ينبغي أن يقول المذنب فقال يقول ما قاله أبواه {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} الآية وقال موسى {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص : 16] وقال يونس {لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء : 87]

 وعن ابن عباس ووهب بن منبه : أن الكلمات "سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي اغفر لي إنك خير الغافرين سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم"

وقال محمد بن كعب هي قوله : "لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم. لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت الغفور الرحيم. لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أرحم الراحمين"
الثالثة- قوله تعالى : {فَتَابَ عَلَيْهِ} أي قبل توبته ، أو وفقه للتوبة. وكان ذلك في يوم عاشوراء في يوم جمعة وتاب العبد : رجع إلى طاعة ربه وعبد تواب : كثير الرجوع إلى الطاعة وأصل التوبة الرجوع يقال : تاب وثاب وأب وأناب : رجع.

الرابعة- إن قيل : لم قال "عليه" لم يقل عليهما وحواء مشاركة له في الذنب بإجماع وقد قال {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة : 35] و {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف : 23] فالجواب : أن آدم عليه السلام لما خاطب في أول القصة بقوله "اسكن" خصه بالذكر في التلقي فلذلك كملت القصة بذكره وحده وأيضا فلأن المرأة حرمة ومستورة فأراد الله الستر لها ولذلك لم يذكرها في المعصية في قوله {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه : 121]

وأيضا لما كانت المرأة تابعة للرجل في غالب الأمر لم تذكر كما لم يذكر فتى موسى مع موسى في قوله {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} [الكهف : 75] وقيل : إنه دل بذكر التوبة عليه أنه تاب عليها إذ أمرهما سواء ، قاله الحسن. وقيل : إنه مثل قوله تعالى {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة : 11] أي التجارة لأنها كانت مقصود القوم فأعاد الضمير عليها ولم يقل إليهما والمعنى متقارب. وفي التنزيل {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة : 62] فحذف إيجازا واختصارا
الخامسة- قوله تعالى : {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وصف نفسه سبحانه وتعالى بأنه التواب ، وقد يطلق على العبد أيضا تواب قال الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة : 222]. قال ابن العربي : ولعلمائنا في وصف الرب بأنه تواب ثلاثة أقوال أحدها : أنه يجوز في حق الرب سبحانه وتعالى فيدعى به كما في الكتاب والسنة ولا يتأول

 وقال آخرون : هو وصف حقيقي لله سبحانه وتعالى وتوبة الله على العبد رجوعه من حال المعصية إلى حال الطاعة وقال آخرون : توبة الله على العبد قبوله توبته ، وذلك يحتمل أن يرجع إلى قوله سبحانه وتعالى قبلت توبتك وأن يرجع إلى خلقه الإنابة والرجوع في قلب المسيء وإجراء الطاعات على جوارحه الظاهرة.

لا يجوز أن يقال في حق الله تعالى : تائب اسم فاعل من تاب يتوب ولا يجوز لنا أن نطلق عليه من الأسماء والصفات إلا ما أطلقه هو على نفسه أو نبيه عليه السلام أو جماعة المسلمين ،قال الله تعالى {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} [التوبة : 117]

وقال : {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة : 104] وإنما قيل لله عز وجل تواب ، لمبالغة الفعل وكثرة قبوله توبة عباده لكثرة من يتوب إليه.
السادسة- اعلم أنه ليس لأحد قدرة على خلق التوبة ، لأن الله سبحانه وتعالى هو المنفرد بخلق الأعمال ، خلافا للمعتزلة ومن قال بقولهم. وكذلك ليس لأحد أن يقبل توبة من أسرف على نفسه ولا أن يعفو عنه قال علماؤنا : وقد كفرت اليهود والنصارى بهذا الأصل العظيم في الدين {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة : 31] جل وعز ، وجعلوا لمن أذنب أن يأتي الحبر أو الراهب فيعطيه شيئا ويحط عنه ذنوبه {افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [الأنعام : 140]
السابعة- قرأ ابن كثير {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} والباقون برفع "آدم" ونصب "كلمات" والقراءتان ترجعان إلى معنى ، لأن آدم إذا تلقي الكلمات فقد تلقته.

الآية : 38 {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}
قوله تعالى : {قُلْنَا اهْبِطُوا} كرر الأمر على جهة التغليظ وتأكيده ، كما تقول لرجل : قم قم. وقيل : كرر الأمر لما علق بكل أمر منهما حكما غير حكم الآخر فعلق بالأول العداوة وبالثاني إتيان الهدى. وقيل : الهبوط الأول من الجنة إلى السماء والثاني من السماء إلى الأرض وعلى هذا يكون فيه دليل على أن الجنة في السماء السابعة كما دل عليه حديث الإسراء
{جَمِيعاً} نصب على الحال وقال وهب بن منبه : لما هبط آدم عليه السلام إلى الأرض قال إبليس للسباع إن هذا عدو لكم فأهلكوه فاجتمعوا وولوا أمرهم إلى الكلب وقالوا أنت أشجعنا وجعلوه رئيسا فلما رأى ذلك آدم عليه السلام تحير في ذلك فجاءه جبريل عليه السلام وقال له امسح يدك على رأس الكلب ففعل فلما رأت السباع أن الكلب ألف آدم تفرقوا واستأمنه الكلب فأمنه آدم فبقى معه ومع أولاده

وأن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض جاء إبليس إلى السباع فأشلاهم على آدم ليؤذوه وكان أشدهم عليه الكلب فأميت فؤاده فروي في الخبر أن جبريل عليه السلام أمره أن يضع يده على رأسه فوضعها فاطمأن إليه وألفه فصار ممن يحرسه ويحرس ولده ويألفهم وبموت فؤاده يفزع من الآدميين فلو رمي بمدر ولى هاربا ثم يعود آلفا لهم ففيه شعبة من إبليس وفيه شعبة من مسحة آدم عليه السلام فهو بشعبة إبليس ينبح ويهر ويعدو على الآدمي وبمسحة آدم مات فؤاده حتى ذل وانقاد وألف به وبولده يحرسهم ولهثه على كل أحواله من موت فؤاده ولذلك شبه الله سبحانه وتعالى العلماء السوء بالكلب
قوله تعالى : {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} اختلف في معنى قوله "هدى" فقيل : كتاب الله قاله السدي وقيل التوفيق للهداية ، وقالت فرقة : الهدى الرسل ، وهي إلى آدم من الملائكة وإلى بنيه من البشر كما جاء في حديث أبي ذر وخرجه الآجري وفي قوله "مني" إشارة إلى أن أفعال العباد خلق لله تعالى خلافا للقدرية وغيرهم كما تقدم.

قال النحاس : وعلة هذه اللغة عند الخليل وسيبويه أن سبيل ياء الإضافة أن يكسر ما قبلها فلما لم يجز أن تتحرك الألف أبدلت ياء وأدغمت و"ما" في قوله إِمَّا {إما} زائدة على "إن" التي للشرط وجواب الشرط الفاء مع الشرط الثاني في قوله {فَمَنْ تَبِعَ} و"من" في موضع رفع بالابتداء و"تبع" في موضع جزم بالشرط "فلا خوف" جوابه قال سيبويه الشرط الثاني وجوابه هما جواب الأول وقال الكسائي {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} جواب الشرطين جميعا
قوله تعالى : {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} الخوف هو الذعر ولا يكون إلا في المستقبل وخاوفني فلان فخفته أي كنت أشد خوفا منه والتخوف التنقص ومنه قوله تعالى {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل : 47] وقرأ الزهري والحسن وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق ويعقوب "فلا خوف" بفتح الفاء على التبرئة والاختيار عند النحويين الرفع والتنوين على الابتداء لأن الثاني معرفة لا يكون فيه إلا الرفع لأن "لا" لا تعمل في معرفة فاختاروا في الأول الرفع أيضا ليكون الكلام من وجه واحد ويجوز أن تكون "لا" في قولك فلا خوف بمعنى ليس.
والحُزن والحَزَن ضد السرور ، والمعنى في الآية فلا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الآخرة ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا. وقيل : ليس فيه دليل على نفي أهوال يوم القيامة وخوفها على المطيعين لما وصفه الله تعالى ورسوله من شدائد القيامة إلا أنه يخففه عن المطيعين وإذا صاروا إلى رحمته فكأنهم لم يخافوا والله أعلم.

2-العهد لإبراهيم عليه السلام

يذكر كتاب العهد القديم أمورا غاية في الغرابة ومنها العهد المزعزم الي وضعهد الأحبار كذبا وافتراء فقالوا :

وَقَعَ عَلَى أَبْرَامَ سُبَاتٌ، وَإِذَا رُعْبَةٌ مُظْلِمَةٌ عَظِيمَةٌ وَاقِعَةٌ عَلَيْهِ. 13فَقَالَ لأَبْرَامَ: «اعْلَمْ يَقِينًا أَنَّ نَسْلَكَ سَيَكُونُ غَرِيبًا فِي أَرْضٍ لَيْسَتْ لَهُمْ، وَيُسْتَعْبَدُونَ لَهُمْ. فَيُذِلُّونَهُمْ أَرْبَعَ مِئَةِ سَنَةٍ. 14ثُمَّ الأُمَّةُ الَّتِي يُسْتَعْبَدُونَ لَهَا أَنَا أَدِينُهَا، وَبَعْدَ ذلِكَ يَخْرُجُونَ بِأَمْلاَكٍ جَزِيلَةٍ. 15وَأَمَّا أَنْتَ فَتَمْضِي إِلَى آبَائِكَ بِسَلاَمٍ وَتُدْفَنُ بِشَيْبَةٍ صَالِحَةٍ. 16وَفِي الْجِيلِ الرَّابعِ يَرْجِعُونَ إِلَى ههُنَا، لأَنَّ ذَنْبَ الأَمُورِيِّينَ لَيْسَ إِلَى الآنَ كَامِلاً». 17ثُمَّ غَابَتِ الشَّمْسُ فَصَارَتِ الْعَتَمَةُ، وَإِذَا تَنُّورُ دُخَانٍ وَمِصْبَاحُ نَارٍ يَجُوزُ بَيْنَ تِلْكَ الْقِطَعِ.

18فِي ذلِكَ الْيَوْمِ قَطَعَ الرَّبُّ مَعَ أَبْرَامَ مِيثَاقًا قَائِلاً: «لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ. 19الْقِينِيِّينَ وَالْقَنِزِّيِّينَ وَالْقَدْمُونِيِّينَ 20وَالْحِثِّيِّينَ وَالْفَرِزِّيِّينَ وَالرَّفَائِيِّينَ 21وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْجِرْجَاشِيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ».

فكل الذي شغل بال اليهود والنصارى هو اغتصاب الأراضي وسرقة الشعوب والعجيب أنهم سجلوها في كتب يقدسونها والأعجب هو أنهم أوهموا أولادهم أن هذا فرض عليهم ولذا وجدناهم يقاتلون بشراسة في الحروب الصليبية وغيرها من الحروب التي نعاني منها الآن .

وهذا عهد مكذوب لأنه لم يقم أحدا من الأنبياء الذين جاءوا بعد نبي الله إبراهيم بتحقيق هذ العهد ولقد حظي عدد منهم بمكانة عالية مثل يوسف وداود وسليمان عليهم السلام فلما لم يحققوا هذا العهد ؟ إما أنهم لا علم لهم به وإما أنهم مقصرين؛ وحاشاهم ذلك .

هذا ماكان من العهد القديم فياترى كيف تناول القرآن الكريم هذا العهد؟

فيقول الحق تبارك وتعالى {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}
فيه عشرون مسألة :
الأولى : الابتلاء : الامتحان والاختبار ، ومعناه أمر وتعبد.
الثانية : قوله تعالى : {بِكَلِمَاتٍ} الكلمات جمع كلمة ، ويرجع تحقيقها إلى كلام الباري تعالى ، لكنه عبر عنها عن الوظائف التي كلفها إبراهيم عليه السلام ، ولما كان تكليفها بالكلام سميت به ، كما سمي عيسى كلمة ، لأنه صدر عن كلمة وهي "كن".
الثالثة : واختلف العلماء في المراد بالكلمات على أقوال : أحدها : شرائع الإسلام ، وهي ثلاثون سهما ، عشرة منها في سورة براءة : {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} [التوبة : 112] إلى آخرها ، وعشرة في الأحزاب : {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب : 35] إلى آخرها ، وعشرة في المؤمنون : {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون : 1] إلى قوله : {عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون : 9]

 وقوله في {سَأَلَ سَائِلٌ} : {إِلاَّ الْمُصَلِّينَ} إلى قوله : {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} . قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما ابتلى الله أحدا بهن فقام بها كلها إلا إبراهيم عليه السلام ، ابتلي بالإسلام فأتمه فكتب الله له البراءة فقال : {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم : 37].

وقال بعضهم : بالأمر والنهي ، وقال بعضهم : بذبح ابنه ، وقال بعضهم : بأداء الرسالة ، والمعنى متقارب. وقال مجاهد : هي قوله تعالى : إني مبتليك بأمر ، قال : تجعلني للناس إماما ؟ قال نعم. قال : ومن ذريتي ؟ قال : لا ينال عهدي الظالمين ، قال : تجعل البيت مثابة للناس ؟ قال نعم. قال : وأمنا ؟ قال نعم. قال : وترينا مناسكنا وتتوب علينا ؟ قال نعم.

 قال : وترزق أهله من الثمرات ؟ قال نعم. وعلى هذا القول فالله تعالى هو الذي أتم. وأصح من هذا ما ذكره عبدالرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن ابن عباس في قوله : {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}

 قال : ابتلاه الله بالطهارة ، خمس في الرأس وخمس في الجسد : قص الشارب ، والمضمضة ، والاستنشاق ، والسواك ، وفرق الشعر. وفي الجسد : تقليم الأظفار ، وحلق العانة ، والاختتان ، ونتف الإبط ، وغسل مكان الغائط والبول بالماء ، وعلى هذا القول فالذي أتم هو إبراهيم .
قلت : وفي الموطأ وغيره عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : إبراهيم عليه السلام أول من اختتن ، وأول من أضاف الضيف ، وأول من استحد ، وأول من قلم الأظفار ، وأول من قص الشارب .
الرابعة : واختلف العلماء في الختان ، فجمهورهم على أن ذلك من مؤكدات السنن ومن فطرة الإسلام التي لا يسع تركها في الرجال. وقالت طائفة : ذلك فرض ، لقوله تعالى : {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل : 123].

السادسة : فإن ولد الصبي مختونا فقد كفي مؤنة الختان. قال الميموني قال لي أحمد : إن ههنا رجلا ولد له ولد مختون ، فاغتم لذلك غما شديدا ، فقلت له : إذا كان الله قد كفاك المؤنة فما غمك بهذا.
السابعة : قال أبو الفرج الجوزي حدثت عن كعب الأحبار قال : خلق من الأنبياء ثلاثة عشر مختونين : آدم وشيث وإدريس ونوح وسام ولوط ويوسف وموسى وشعيب وسليمان ويحيى وعيسى والنبي صلى الله عليه وسلم.
الثامنة : واختلفوا متى يختن الصبي ، فثبت في الأخبار عن جماعة من العلماء أنهم قالوا : ختن إبراهيم إسماعيل لثلاث عشرة سنة. وختن ابنه إسحاق لسبعة أيام. وروي عن فاطمة أنها كانت تختن ولدها يوم السابع .
واستحب العلماء في الرجل الكبير يسلم أن يختن ، وكان عطاء يقول : لا يتم إسلامه حتى يختتن وإن بلغ ثمانين سنة.
التاسعة : في تقليم الأظفار. وتقليم الأظفار : قصها ، والقلامة ما يزال منها. وقال مالك : أحب للنساء من قص الأظفار وحلق العانة مثل ما هو على الرجال.  قال الترمذي : فأما قص الأظفار فمن أجل أنه يخدش ويخمش ويضر ، وهو مجتمع الوسخ ، فربما أجنب ولا يصل الماء إلى البشرة من أجل الوسخ فلا يزال جنبا. ومن أجنب فبقي موضع إبرة من جسده بعد الغسل غير مغسول فهو جنب على حاله حتى يعم الغسل جسده كله ، فلذلك ندبهم إلى قص الأظفار.

وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث سها في صلاته فقال : "وما لي لا أوهم ورفغ أحدكم بين ظفره وأنملته ويسألني أحدكم عن خبر السماء وفي أظافيره الجنابة والتفث" .

وذكر هذا الخبر أبو الحسن علي بن محمد الطبري المعروف بالكيا في "أحكام القرآن" له ، عن سليمان بن فرج أبي واصل قال : أتيت أبا أيوب رضي الله عنه فصافحته ، فرأى في أظفاري طولا فقال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن خبر السماء فقال : "يجيء أحدكم يسأل عن خبر السماء وأظفاره كأظفار الطير حتى يجتمع فيها الوسخ والتفث" .
وأما قوله : "ادفنوا قلاماتكم" فإن جسد المؤمن ذو حرمة ، فما سقط منه وزال عنه فحفظه من الحرمة قائم ، فيحق عليه أن يدفنه ، كما أنه لو مات دفن ، فإذا مات بعضه فكذلك أيضا تقام حرمته بدفنه ، كي لا يتفرق ولا يقع في النار أو في مزابل قذرة. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدفن دمه حيث احتجم كي لا تبحث عنه الكلاب.

يقول القرطبي :حدثنا بذلك أبي رحمه الله تعالى قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا الهنيد بن القاسم بن عبدالرحمن بن ماعز قال : سمعت عامر بن عبدالله بن الزبير يقول إن أباه حدثه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحتجم .

 فلما فرغ قال : " يا عبدالله اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد" . فلما برز عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمد إلى الدم فشربه ، فلما رجع قال : "يا عبدالله ما صنعت به ؟ " . قال : جعلته في أخفى مكان ظننت أنه خافيا عن الناس. قال : "لعلك شربته ؟ " قال نعم. قال : "لم شربت الدم ، وويل للناس منك وويل لك من الناس" . حدثني أبي قال : حدثنا مالك بن سليمان الهروي قال : حدثنا داود بن عبدالرحمن عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بدفن سبعة أشياء من الإنسان : الشعر ، والظفر ، والدم ، والحيضة ، والسن ، والقلفة ، والبشيمة.
وأما قوله : "نقوا براجمكم" فالبراجم تلك الغضون من المفاصل ، وهي مجتمع الدرن "واحدها برجمة" وهو ظهر عقدة كل مفصل ، فظهر العقدة يسمى برجمة ، وما بين العقدتين تسمى راجبة ، وجمعها رواجب ، وذلك مما يلي ظهرها ، وهي قصبة الأصبع ، فلكل أصبع برجمتان وثلاث رواجب إلا الإبهام فإن لها برجمة وراجبتين ، فأمر بتنقيته لئلا يدرن فتبقى فيه الجنابة ، ويحول الدرن بين الماء والبشرة.
وأما قوله : "نظفوا لثاتكم" فاللثة واحدة ، واللثات جماعة ، وهي اللحمة فوق الأسنان ودون الأسنان ، وهي منابتها. والعمور : اللحمة القليلة بين السنين ، واحدها عمر. فأمر بتنظيفها لئلا يبقى فيها وضر الطعام فتتغير عليه النكهة وتتنكر الرائحة ، ويتأذى الملكان ، لأنه طريق القرآن ، ومقعد الملكين عند نابيه. وروي في الخبر في قوله تعالى : {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق : 18]

 العاشرة : في قص الشارب. وهو الأخذ منه حتى يبدو طرف الشفة وهو الإطار ، ولا يجزه فيمثل نفسه ، قاله مالك. وذكر ابن عبدالحكم عنه قال : وأرى أن يؤدب من حلق شاربه. وذكر أشهب عنه أنه قال في حلق الشارب : هذه بدع ، وأرى أن يوجع ضربا من فعله. وقال ابن خويز منداد قال مالك : أرى أن يوجع من حلقه ضربا. كأنه يراه ممثلا بنفسه ، وكذلك بنتفه الشعر ، وتقصيره عنده أولى من حلقه.

الحادية عشرة : وأما الإبط فسنته النتف ، كما أن سنة العانة الحلق ، فلو عكس جاز لحصول النظافة ، والأول أولى ، لأنه المتيسر المعتاد.
الثانية عشرة : وفرق الشعر : تفريقه في المفرق ، وفي صفته صلى الله عليه وسلم : إن انفرقت عقيصته فرق ، يقال : فرقت الشعر أفرقه فرقا ، يقال : إن انفرق شعر رأسه فرقه في مفرقه ، فإن لم ينفرق تركه وفرة واحدة. خرج النسائي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسدل شعره .
الثالثة عشرة : وأما الشيب فنور ويكره نتفه ، ففي النسائي وأبي داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تنتفوا الشيب ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كانت له نورا يوم القيامة وكتب الله له حسنة وحط عنه خطيئة" .
الرابعة عشرة : قوله تعالى : {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} الإمام : القدوة ، ومنه قيل لخيط البناء : إمام ، وللطريق : إمام ، لأنه يؤم فيه للمسالك ، أي يقصد. فالمعنى : جعلناك للناس إماما يأتمون بك في هذه الخصال ، ويقتدي بك الصالحون. فجعله الله تعالى إماما لأهل طاعته ، فلذلك اجتمعت الأمم على الدعوى فيه - والله اعلم - أنه كان حنيفا.
الخامسة عشرة : قوله تعالى : {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} دعاء على جهة الرغباء إلى الله تعالى ، أي من ذريتي يا رب فاجعل. وقيل : هذا منه على جهة الاستفهام عنهم ، أي ومن ذريتي يا رب ماذا يكون ؟ فأخبره الله تعالى أن فيهم عاصيا وظالما لا يستحق الإمامة. قال ابن عباس : سأل إبراهيم عليه السلام أن يجعل من ذريته إمام ، فأعلمه الله أن في ذريته من يعصي فقال : {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}
السادسة عشرة : قوله تعالى : {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} أصل ذرية ، فعلية من الذر ، لأن الله تعالى أخرج الخلق من صلب آدم عليه السلام كالذر حين أشهدهم على أنفسهم. وقيل : هو مأخوذ من ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا خلقهم ، ومنه الذرية وهي نسل الثقلين ، إلا أن العرب تركت همزها ، والجمع الذراري. وقرأ زيد بن ثابت "ذرية" بكسر الذال و"ذرية" بفتحها.

السادسة عشرة : قوله تعالى : {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} اختلف في المراد بالعهد ، فروى أبو صالح عن ابن عباس أنه النبوة ، وقال السدي. مجاهد : الإمامة. قتادة : الإيمان. عطاء : الرحمة. الضحاك : دين الله تعالى. وقيل : عهده أمره. ويطلق العهد على الأمر . قال الله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا} [آل عمران : 183] أي أمرنا. وقال : {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} [يس : 60] يعني ألم أقدم إليكم الأمر به ، وإذا كان عهد الله هو أوامره فقوله : {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} أي لا يجوز أن يكونوا بمحل من يقبل منهم أوامر الله ولا يقيمون عليها .

. وروى معمر عن قتادة في قوله تعالى : {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} قال : لا ينال عهدي الله في الآخرة الظالمين ، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به ، وأكل وعاش وأبصر. قال الزجاج : وهذا قول حسن ، أي لا ينال أماني الظالمين ، أي لا أؤمنهم من عذابي. وقال سعيد بن جبير : الظالم هنا المشرك. وقرأ ابن مسعود وطلحة بن مصرف " لا ينال عهدي الظالمون " برفع الظالمون. الباقون بالنصب. وأسكن حمزة وحفص وابن محيصن الياء في "عهدي" ، وفتحها الباقون.
السابعة عشر : استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على أن الإمام يكون من أهل العدل والإحسان والفضل مع القوة على القيام بذلك ، وهو الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا ينازعوا الأمر أهله ، على ما تقدم من القول فيه. فأما أهل الفسوق والجور والظلم فليسوا له بأهل ، لقوله تعالى : {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}
3-نبوءة يعقوب عليه السلام

من القضايا العجيبة التى تناولها العهد القديم  والتى تثير العديد من التساؤلات هى قضية نبى الله يعقوب عليه السلام فنحن المسلمين نؤمن بان نبى الله يعقوب عليه السلام  نبى من أنبياء الله  صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين  وأن الله سبحانه وتعالى وهبه النبوة  وبشر جده ابراهيم عليه السلام بذلك فقال سبحانه وتعالى (  فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً  0  وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً )مريم 49/50 

 بهذه الكلمات الراقية  الهادفة  وصلت لنا الرسالة بأن نبى الله يعقوب نبى بأمر من الله سبحانه وتعالى  و آمنا بذلك   إلا أننا اصابتنا الدهشة حين اطلعنا على قصة نبى الله يعقوب  فى العهد القديم  وما اضافه الأحبار و الكهنه  من افعال واحداث  لا يقبلها  عقل ولا منطق  فذكروا ان النبوة آلت الى يعقوب عليه السلام بطريقة  عجيبة  فيزعمون أنه إحتال  على والده  وكذب عليه  لينل منه البركه  والنبوة  واليك عزيزى القارئ  القصة  كما وردت  فى العهد القديم

  وتبدا قصة  سيدنا يعقوب  حين تزوج نبى الله إسحاق من سيدة اسمها رفقه  وظلا فترة  دون إنجاب  إلى ان صلى نبى الله اسحاق الى الرب  ودعاه سبحانه ان يرزقه بذرية صالحه تتحمل معه الامانه  فقالوا (  وصلى إسحاق الى الرب لاجل امراته لانها كانت عاقرا )فاستجاب  له الرب فحبلت  رفقه امراته)

وبعد شهور الحمل ) فلما كملت  أيامها لتلد  اذا فى بطنها  تؤامان فخرج الاول احمر  كله  كفروة  شعر  فدعوا اسمه  عيسو  وبعد ذلك خرج  اخوه  ويده قابضة  بعقب عيسو فدعى اسمه يعقوب وكان إسحاق بن  ستين سنه لما ولدتهما )

 من هذا النص نفهم أن الابن الاكبر انما هو عيسو  وبنوا إسرائيل يقدسون الابن الأكبر  ويعرفون للبكر حقه  وقدره  حتى ولو كان ابن جاريه  أوامراة مكروه  فقالوا ) اذا كان لرجل  امراتان احداهما محبوبه  والاخرى مكروهه  فانجبتا له بنين المحبوبه والمكروه  فلا يقدم ابن المحبوبه البكر على ابن المكروه البكر بل يوم يقسم  يعطى ابن  المكروهه  البكر ضعف ابن المحبوبه البكر لانه اول قدرته  له حق البكورية

    وبناء على نصوصهم المقدسة  فإن لعيسو  النصيب الأكبر  إلا انهم ذكروا  ان يعقوب عليه السلام تحايل  على عيسو حتى اشترى البكوريه  من اخيه  وليته  قدرها حق قدرها  قال لاخيه( بعنى اليوم حق بكوريتك   فباع بكوريته ليعقوب   ( لا ادرى كيف تباع البكورية وتتحول  ومع هذا اشتراها بثمن بخس  ) فاعطى يعقوب  عيسو خبزا  وطبيخ عدس   ( حقا إن هذا لشئ عجيب  ولكن هذا ليس ببعيد على بنى إسرائيل  فهم يريدون أغلى الأشياء بأقل تكلفه  وبأرخص الأثمان  بعدما  يشعرون صاحبها بتفاهتها وعدم جدواها حتى يزهد فيها  ويتنازل عنها باى ثمن  ولكنه لايدرك قيمتها الا بعد فوات الاوان .

ويمضى العهد القديم فى سرد الاحداث  فيذكر ان نبى الله اسحاق  لما كبر فى السن اراد ان يمنح ابنه الاكبر البركه ليصبح هو النبى من بعده حسب شرائعهم  فقالوا ( حدث لما شاخ اسحاق  وكلت عيناه عن النظر  انه دعا عيسو  ابنه الاكبر  وقال له  فالان خذ عدتك  واخرج الى  البريه  وتصيد لى صيدا جيدا  واصنع لى اطعمه  كما احب  واتنى بها لاكل حتى تباركك نفسى قبل ان اموت )

  وما هى علاقة الأكل بالمباركة وبالنبوة  ؟ ولكنها طبيعة بنى إسرائيل  الذين حاولوا ان يؤصلوا لابنائهم  ان كل شى لابد له من مقابل  فلا يقدمون شيئا لاحد دون ان يبذل فيه الأخر قدر استطاعته  ولكن لولم يستطع عيسو احضار الطعام أو تاخر هل تضيع البركة وتذهب النبوة سدى ؟

   هيا نرى ما حدث  حين خرج عيسو ليحضر الصيد لابيه  حدث مالم يكن يتوقع وهو أن رفقه كانت تتصنت على اسحاقوكانت  رفقه سامعه  اذ تكلم اسحاق  مع عيسو ابنه ورغم أن كليهما ابنائها إلا أنها سارعت الى ابنها يعقوب واخبرته الخبر بل ورسمت له خطة يستطيع بها ان يخدع اباه وان يسرق النبوة من اخيه  فقالوا ) فاستدعت ابنها يعقوب  فقالت له اننى قد سمعت اباك  يكلم عيسو اخاك  قائلا  انت  تصيد  واصنع لى اطعمه لاكل واباركك امام الرب قبل وفاتى    

   ثم يذكرون انهما وضعا خطة عجيبةفقالت   اذهب الى الغنم  وخذ لى  من هناك جديين  جيدين من المعزى  فاصنعهما اطعمة لابيك  كما يحب فتحضرها الى ابيك  لياكل  حتى يباركك قبل وفاته وحين واجهتهم مشكلة ألا وهى أن يعقوب أملس بينما عيسو اخيه مشعرسأل امه ) قال يعقوب لرفقه هوذا عيسو  اخى رجل اشعر وانا رجل املس (الا ان رفقه) اخذت ثياب عيسو  ابنها  الاكبر  الفاخره  التى كانت عندها فى البيت  والبست يعقوب  ابنها الاصغر  والبست يديه  وملاسة عنقه  جلود جدى  المعزى واعطت الاطعمه  والخبز التى صنعت   فى يد يعقوب ابنها ( 

  ثم يذكر العهد القديم  أن يعقوب دخل على ابييه وكذب عليه قائلا  ) قال يعقوب  لابيه  أنا عيسو  بكرك قد فعلت كما كلمتنى  قم اجلس  وكل  من  صيدى  لكى تباركنى نفسك )إلا ان نبى الله اسحاق كاد أن يدرك الاختلاف فى الاصوات ) فقال الصوت صوت يعقوب  ولكن اليدين يد عيسو)   ولم يعرف   ) لان يديه  كانت مشعرتين  كيدى عيسو  اخيه فبارك

 ثم دعا له  قائلا  )فليعطك الله من ندى السماء  ومن دسم الارض  وكثرة حنطه  وخمر يستعبد لك شعوب  وتسجد لك قبائل  كن سيدا  لاخوتك  ويسجد لك بنوا امك   ليكن لاعنوك ملعونين  ومباركوك  مباركين  (

حقا صدق الله حين قالغُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُوا )  المائدة /64

 لأن ما ذكروه من نصوص غاية فى الغرابة اذ  كيف تتصنت زوجة نبى الله اسحاق على الحوار الذى دار بين زوجها وبين ابنهما عيسو؟  ثم  كيف تفضل رفقه ابنها الأصغر على الاكبر مخالفة بذلك تعاليم شريعتها كما ذكرنا  وكيف تسول لنبى الله يعقوب  نفسه ان يسرق  النبوة  من اخيه عيسو ؟ ألم يدرك نبى الله اسحاق ما فعله ابنه يعقوب  وأين  أسرار النبوة اذن ؟

 وإن كان هذا أو ذاك فأين الله جل وعلا  هل رضى بما فعله يعقوب عليه السلام   ووافق عليه واقره وجعله نبيا بهذه الطريقه  اين هذا من حديث المعصوم صلى الله عليه وسلم ) من غشنا فليس منا   [1] ( إذن بناء على ذلك فلا ينبغى أن يكون نبى الله يعقوب نبيا إن الكذب من شيم اللئيم   ولايليق بأحاد الناس فما بالك بالأنبياء  العظماء  ولاينبغى أن ينسب اليهم الكذب ولا الخداع  فكيف يجرؤ نبى الله يعقوب  على خداع والده حاشاهم ذلك

والأعجب من ذلك  أن بنى إسرائيل زعموا أن الرب جل وعلا  تابع هذه المسرحيه الهزلية  دون تدخل وترك الأنبياء  يكذبون  وكأن قدر الله جل وعلا ليس له مكان  انما اراد بنوا إسرائيل ان يؤصلوا لابنائهم بان يعقوب عليه السلام هو الأولى بالرسالة  وحين ادرك ان الأمر الإلهى سيخطئه  تحايل حتى نال ما يريد رغم انف القدر

  لقد أراد الأحبار والكهنه  أن يشوهوا صورة الانبياء وسيرتهم امام ابنائهم ليعلموهم ان (   الغايه تبرر الوسيله   وظهر هذا جليا  فى البروتوكول  الأول (  فقالوا   ان السياسة  لاتتفق مع الاخلاق  فى شى والحاكم المقيد بالاخلاق  ليس بسياسى بارع  وهو  لذلك غير راسخ  على عرشه  لابد لطالب الحكم  من الالتجاء  الى المكر  والرياء  فان الشمائل  الانسانيه  العظيمه   من الاخلاق  والامانه تصير رذائل فى السياسه )[2]

  أين ما سبق من قول المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم ) ان الرائد لا يكذب اهله [3]  (  فكيف يفترون على الله الكذب  ويبلغ بهم الهراء مبلغه  حتى يكذبوا على انبياء الله  بل ويسجلوا هذا الكذب فى كتاب ويسمونه  الكتاب المقدس فكيف ذلك ؟   

 نحن المسلمين نبرأ الى الله من هذا الهراء  لأننا نؤمن بان الله جل وعلا) أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ  (الانعام /124 كما أنه جل وعلا يعصم انبيائه من الوقوع فى الأخطاء فهم قدوة البشر  وصنعهم الله على عينه  والانبياء يعلمون  (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّة )الزمر /60 ومن ثم فإن ما ذكروه  فى حق نبى الله يعقوب  لا نقبله  ولانؤمن به  .

  وماذا على بنى إسرائيل  لو تركوا الامور على ما هى عليه  فنبى الله يعقوب  هو النبى  دون هذا الخداع و الكذب  ولكن كيف يعيش بنوا اسرائيل دون كذب اوخداع  فهم اهل الكذب والبهت  وكأنهم لايستطيعون العيش الا فى هذه الأجواء الحالكة الظالمة  .

وليس هذا فحسب  بل انهم بما ذكروه عن زوجة نبى الله اسحاق  وما قامت به من خداع  وتخطيط   أرادوا ان يؤصلوا لابنائهم ان المراة هى أساس كل الشرور فلو لم تتصنت رفقه  ولم تخطط ما حدث هذا المكر والخداع  ونحن نؤمن بان زوجة نبى الله اسحاق لا تقدم على مثل هذا الصنيع  فهى زوجة نبى وام  نبى

  فلا ينبغى  على سيدة تحيا فى  هذا البيت الطاهر ان تفعل هذا وتتسبب فى التفرقه بين ابنائها بل وتجعل من يحصل على النبوة يحصل عليها  بالسرقة والخداع وهى تعلم ان  هذا لايليق  بالانبياء   وصدق الحق حين قال عن بنى إسرائيل ) يبغونها عوجا)

 

 

 

 

4-سدوم

في هذه الفقرة نتحدث عن ما حدث لقرية سدوم وهي قرية نبي الله لوط حين عصوا الله جل وعلا وارتكبوا الفاحشة التي ما سبقهم بها أحد من العالمين . فلقد تناول القرآن الكريم هذا الحدث باسلوب يسير فترى الكلمات في موفعها دون شطط بينما تناولها العهد القديم بطريقة عجيبة نذكرها أولا ثم نبين ما جاء في القران الكريم

ما جاء في العهد القديم :

1وَظَهَرَ لَهُ الرَّبُّ { أي لإبراهيم عليه السلام} عِنْدَ بَلُّوطَاتِ مَمْرَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَابِ الْخَيْمَةِ وَقْتَ حَرِّ النَّهَارِ، 2فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا ثَلاَثَةُ رِجَال وَاقِفُونَ لَدَيْهِ. فَلَمَّا نَظَرَ رَكَضَ لاسْتِقْبَالِهِمْ مِنْ بَابِ الْخَيْمَةِ وَسَجَدَ إِلَى الأَرْضِ،

 3وَقَالَ: «يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتُ قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَلاَ تَتَجَاوَزْ عَبْدَكَ.

 4لِيُؤْخَذْ قَلِيلُ مَاءٍ وَاغْسِلُوا أَرْجُلَكُمْ وَاتَّكِئُوا تَحْتَ الشَّجَرَةِ، 5فَآخُذَ كِسْرَةَ خُبْزٍ، فَتُسْنِدُونَ قُلُوبَكُمْ ثُمَّ تَجْتَازُونَ، لأَنَّكُمْ قَدْ مَرَرْتُمْ عَلَى عَبْدِكُمْ». فَقَالُوا: «هكَذَا تَفْعَلُ كَمَا تَكَلَّمْتَ».

 6فَأَسْرَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الْخَيْمَةِ إِلَى سَارَةَ، وَقَالَ: «أَسْرِعِي بِثَلاَثِ كَيْلاَتٍ دَقِيقًا سَمِيذًا. اعْجِنِي وَاصْنَعِي خُبْزَ مَلَّةٍ».

7ثُمَّ رَكَضَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الْبَقَرِ وَأَخَذَ عِجْلاً رَخْصًا وَجَيِّدًا وَأَعْطَاهُ لِلْغُلاَمِ فَأَسْرَعَ لِيَعْمَلَهُ. 8ثُمَّ أَخَذَ زُبْدًا وَلَبَنًا، وَالْعِجْلَ الَّذِي عَمِلَهُ، وَوَضَعَهَا قُدَّامَهُمْ. وَإِذْ كَانَ هُوَ وَاقِفًا لَدَيْهِمْ تَحْتَ الشَّجَرَةِ أَكَلُوا.

9وَقَالُوا لَهُ: «أَيْنَ سَارَةُ امْرَأَتُكَ؟» فَقَالَ: «هَا هِيَ فِي الْخَيْمَةِ». 10فَقَالَ: «إِنِّي أَرْجعُ إِلَيْكَ نَحْوَ زَمَانِ الْحَيَاةِ وَيَكُونُ لِسَارَةَ امْرَأَتِكَ ابْنٌ».

 وَكَانَتْ سَارَةُ سَامِعَةً فِي بَابِ الْخَيْمَةِ وَهُوَ وَرَاءَهُ. 11وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ وَسَارَةُ شَيْخَيْنِ مُتَقَدِّمَيْنِ فِي الأَيَّامِ، وَقَدِ انْقَطَعَ أَنْ يَكُونَ لِسَارَةَ عَادَةٌ كَالنِّسَاءِ.

 12فَضَحِكَتْ سَارَةُ فِي بَاطِنِهَا قَائِلَةً: «أَبَعْدَ فَنَائِي يَكُونُ لِي تَنَعُّمٌ، وَسَيِّدِي قَدْ شَاخَ؟» 13

فَقَالَ الرَّبُّ لإِبْرَاهِيمَ: «لِمَاذَا ضَحِكَتْ سَارَةُ قَائِلَةً: أَفَبِالْحَقِيقَةِ أَلِدُ وَأَنَا قَدْ شِخْتُ؟ 14هَلْ يَسْتَحِيلُ عَلَى الرَّبِّ شَيْءٌ؟ فِي الْمِيعَادِ أَرْجعُ إِلَيْكَ نَحْوَ زَمَانِ الْحَيَاةِ وَيَكُونُ لِسَارَةَ ابْنٌ». 15فَأَنْكَرَتْ سَارَةُ قَائِلَةً: «لَمْ أَضْحَكْ». لأَنَّهَا خَافَتْ. فَقَالَ: «لاَ! بَلْ ضَحِكْتِ».

16ثُمَّ قَامَ الرِّجَالُ مِنْ هُنَاكَ وَتَطَلَّعُوا نَحْوَ سَدُومَ. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ مَاشِيًا مَعَهُمْ لِيُشَيِّعَهُمْ. 17فَقَالَ الرَّبُّ: «هَلْ أُخْفِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ مَا أَنَا فَاعِلُهُ، 18وَإِبْرَاهِيمُ يَكُونُ أُمَّةً كَبِيرَةً وَقَوِيَّةً، وَيَتَبَارَكُ بِهِ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرْضِ؟

19لأَنِّي عَرَفْتُهُ لِكَيْ يُوصِيَ بَنِيهِ وَبَيْتَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ يَحْفَظُوا طَرِيقَ الرَّبِّ، لِيَعْمَلُوا بِرًّا وَعَدْلاً، لِكَيْ يَأْتِيَ الرَّبُّ لإِبْرَاهِيمَ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ». 20وَقَالَ الرَّبُّ: «إِنَّ صُرَاخَ سَدُومَ وَعَمُورَةَ قَدْ كَثُرَ، وَخَطِيَّتُهُمْ قَدْ عَظُمَتْ جِدًّا. 21أَنْزِلُ وَأَرَى هَلْ فَعَلُوا بِالتَّمَامِ حَسَبَ صُرَاخِهَا الآتِي إِلَيَّ، وَإِلاَّ فَأَعْلَمُ».

 22وَانْصَرَفَ الرِّجَالُ مِنْ هُنَاكَ وَذَهَبُوا نَحْوَ سَدُومَ، وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَكَانَ لَمْ يَزَلْ قَائِمًا أَمَامَ الرَّبِّ.

23فَتَقَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ وَقَالَ: «أَفَتُهْلِكُ الْبَارَّ مَعَ الأَثِيمِ؟ 24عَسَى أَنْ يَكُونَ خَمْسُونَ بَارًّا فِي الْمَدِينَةِ. أَفَتُهْلِكُ الْمَكَانَ وَلاَ تَصْفَحُ عَنْهُ مِنْ أَجْلِ الْخَمْسِينَ بَارًّا الَّذِينَ فِيهِ؟ 25حَاشَا لَكَ أَنَْفْعَلَ مِثْلَ هذَا الأَمْرِ، أَنْ تُمِيتَ الْبَارَّ مَعَ الأَثِيمِ، فَيَكُونُ الْبَارُّ كَالأَثِيمِ. حَاشَا لَكَ! أَدَيَّانُ كُلِّ الأَرْضِ لاَ يَصْنَعُ عَدْلاً؟»

 26فَقَالَ الرَّبُّ: «إِنْ وَجَدْتُ فِي سَدُومَ خَمْسِينَ بَارًّا فِي الْمَدِينَةِ، فَإِنِّي أَصْفَحُ عَنِ الْمَكَانِ كُلِّهِ مِنْ أَجْلِهِمْ». 27فَأَجَابَ إِبْرَاهِيمُ وَقَالَ: «إِنِّي قَدْ شَرَعْتُ أُكَلِّمُ الْمَوْلَى وَأَنَا تُرَابٌ وَرَمَادٌ. 28رُبَّمَا نَقَصَ الْخَمْسُونَ بَارًّا خَمْسَةً. أَتُهْلِكُ كُلَّ الْمَدِينَةِ بِالْخَمْسَةِ؟»

 فَقَالَ: «لاَ أُهْلِكُ إِنْ وَجَدْتُ هُنَاكَ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ». 29فَعَادَ يُكَلِّمُهُ أَيْضًا وَقَالَ: «عَسَى أَنْ يُوجَدَ هُنَاكَ أَرْبَعُونَ». فَقَالَ: «لاَ أَفْعَلُ مِنْ أَجْلِ الأَرْبَعِينَ». 30فَقَالَ: «لاَ يَسْخَطِ الْمَوْلَى فَأَتَكَلَّمَ. عَسَى أَنْ يُوجَدَ هُنَاكَ ثَلاَثُونَ».

فَقَالَ: «لاَ أَفْعَلُ إِنْ وَجَدْتُ هُنَاكَ ثَلاَثِينَ». 31فَقَالَ: «إِنِّي قَدْ شَرَعْتُ أُكَلِّمُ الْمَوْلَى. عَسَى أَنْ يُوجَدَ هُنَاكَ عِشْرُونَ». فَقَالَ: «لاَ أُهْلِكُ مِنْ أَجْلِ الْعِشْرِينَ».

 32فَقَالَ: «لاَ يَسْخَطِ الْمَوْلَى فَأَتَكَلَّمَ هذِهِ الْمَرَّةَ فَقَطْ. عَسَى أَنْ يُوجَدَ هُنَاكَ عَشَرَةٌ». فَقَالَ: «لاَ أُهْلِكُ مِنْ أَجْلِ الْعَشَرَةِ». 33وَذَهَبَ الرَّبُّ عِنْدَمَا فَرَغَ مِنَ الْكَلاَمِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ، وَرَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى مَكَانِهِ

1فَجَاءَ الْمَلاَكَانِ إِلَى سَدُومَ مَسَاءً، وَكَانَ لُوطٌ جَالِسًا فِي بَابِ سَدُومَ. فَلَمَّا رَآهُمَا لُوطٌ قَامَ لاسْتِقْبَالِهِمَا، وَسَجَدَ بِوَجْهِهِ إِلَى الأَرْضِ. 2وَقَالَ: «يَا سَيِّدَيَّ، مِيلاَ إِلَى بَيْتِ عَبْدِكُمَا وَبِيتَا وَاغْسِلاَ أَرْجُلَكُمَا، ثُمَّ تُبَكِّرَانِ وَتَذْهَبَانِ فِي طَرِيقِكُمَا».

 فَقَالاَ: «لاَ، بَلْ فِي السَّاحَةِ نَبِيتُ». 3فَأَلَحَّ عَلَيْهِمَا جِدًّا، فَمَالاَ إِلَيْهِ وَدَخَلاَ بَيْتَهُ، فَصَنَعَ لَهُمَا ضِيَافَةً وَخَبَزَ فَطِيرًا فَأَكَلاَ.

4وَقَبْلَمَا اضْطَجَعَا أَحَاطَ بِالْبَيْتِ رِجَالُ الْمَدِينَةِ، رِجَالُ سَدُومَ، مِنَ الْحَدَثِ إِلَى الشَّيْخِ، كُلُّ الشَّعْبِ مِنْ أَقْصَاهَا. 5فَنَادَوْا لُوطًا وَقَالُوا لَهُ: «أَيْنَ الرَّجُلاَنِ اللَّذَانِ دَخَلاَ إِلَيْكَ اللَّيْلَةَ؟ أَخْرِجْهُمَا إِلَيْنَا لِنَعْرِفَهُمَا». 6فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ لُوطٌ إِلَى الْبَابِ وَأَغْلَقَ الْبَابَ وَرَاءَهُ

 7وَقَالَ: «لاَ تَفْعَلُوا شَرًّا يَا إِخْوَتِي. 8هُوَذَا لِي ابْنَتَانِ لَمْ تَعْرِفَا رَجُلاً. أُخْرِجُهُمَا إِلَيْكُمْ فَافْعَلُوا بِهِمَا كَمَا يَحْسُنُ فِي عُيُونِكُمْ. وَأَمَّا هذَانِ الرَّجُلاَنِ فَلاَ تَفْعَلُوا بِهِمَا شَيْئًا، لأَنَّهُمَا قَدْ دَخَلاَ تَحْتَ ظِلِّ سَقْفِي». 9فَقَالُوا: «ابْعُدْ إِلَى هُنَاكَ». ثُمَّ قَالُوا: «جَاءَ هذَا الإِنْسَانُ لِيَتَغَرَّبَ،

 وَهُوَ يَحْكُمُ حُكْمًا. الآنَ نَفْعَلُ بِكَ شَرًّا أَكْثَرَ مِنْهُمَا». فَأَلَحُّوا عَلَى الْرَّجُلِ لُوطٍ جِدًّا وَتَقَدَّمُوا لِيُكَسِّرُوا الْبَابَ، 10فَمَدَّ الرَّجُلاَنِ أَيْدِيَهُمَا وَأَدْخَلاَ لُوطًا إِلَيْهِمَا إِلَى الْبَيْتِ وَأَغْلَقَا الْبَابَ. 11وَأَمَّا الرِّجَالُ الَّذِينَ عَلَى بَابِ الْبَيْتِ فَضَرَبَاهُمْ بِالْعَمَى، مِنَ الصَّغِيرِ إِلَى الْكَبِيرِ، فَعَجِزُوا عَنْ أَنْ يَجِدُوا الْبَابَ.

12وَقَالَ الرَّجُلاَنِ لِلُوطٍ: «مَنْ لَكَ أَيْضًا ههُنَا؟ أَصْهَارَكَ وَبَنِيكَ وَبَنَاتِكَ وَكُلَّ مَنْ لَكَ فِي الْمَدِينَةِ، أَخْرِجْ مِنَ الْمَكَانِ، 13لأَنَّنَا مُهْلِكَانِ هذَا الْمَكَانَ، إِذْ قَدْ عَظُمَ صُرَاخُهُمْ أَمَامَ الرَّبِّ، فَأَرْسَلَنَا الرَّبُّ لِنُهْلِكَهُ».

 14فَخَرَجَ لُوطٌ وَكَلَّمَ أَصْهَارَهُ الآخِذِينَ بَنَاتِهِ وَقَالَ: «قُومُوا اخْرُجُوا مِنْ هذَا الْمَكَانِ، لأَنَّ الرَّبَّ مُهْلِكٌ الْمَدِينَةَ». فَكَانَ كَمَازِحٍ فِي أَعْيُنِ أَصْهَارِهِ. 15وَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ كَانَ الْمَلاَكَانِ يُعَجِّلاَنِ لُوطًا قَائِلَيْنِ: «قُمْ خُذِ امْرَأَتَكَ وَابْنَتَيْكَ الْمَوْجُودَتَيْنِ لِئَلاَّ تَهْلَِكَ بِإِثْمِ الْمَدِينَةِ».

 16وَلَمَّا تَوَانَى، أَمْسَكَ الرَّجُلاَنِ بِيَدِهِ وَبِيَدِ امْرَأَتِهِ وَبِيَدِ ابْنَتَيْهِ، لِشَفَقَةِ الرَّبِّ عَلَيْهِ، وَأَخْرَجَاهُ وَوَضَعَاهُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ. 17وَكَانَ لَمَّا أَخْرَجَاهُمْ إِلَى خَارِجٍ أَنَّهُ قَالَ: «اهْرُبْ لِحَيَاتِكَ. لاَ تَنْظُرْ إِلَى وَرَائِكَ، وَلاَ تَقِفْ فِي كُلِّ الدَّائِرَةِ. اهْرُبْ إِلَى الْجَبَلِ لِئَلاَّ تَهْلَِكَ». 18فَقَالَ لَهُمَا لُوطٌ: «لاَ يَا سَيِّدُ.

19هُوَذَا عَبْدُكَ قَدْ وَجَدَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ، وَعَظَّمْتَ لُطْفَكَ الَّذِي صَنَعْتَ إِلَيَّ بِاسْتِبْقَاءِ نَفْسِي، وَأَنَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَهْرُبَ إِلَى الْجَبَلِ لَعَلَّ الشَّرَّ يُدْرِكُنِي فَأَمُوتَ. 20هُوَذَا الْمَدِينَةُ هذِهِ قَرِيبَةٌ لِلْهَرَبِ إِلَيْهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ. أَهْرُبُ إِلَى هُنَاكَ. أَلَيْسَتْ هِيَ صَغِيرَةً؟ فَتَحْيَا نَفْسِي».

 21فَقَالَ لَهُ: «إِنِّي قَدْ رَفَعْتُ وَجْهَك فِي هذَا الأَمْرِ أَيْضًا، أَنْ لاَ أَقْلِبَ الْمَدِينَةَ الَّتِي تَكَلَّمْتَ عَنْهَا. 22أَسْرِعِ اهْرُبْ إِلَى هُنَاكَ لأَنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَفْعَلَ شَيْئًا حَتَّى تَجِيءَ إِلَى هُنَاكَ». لِذلِكَ دُعِيَ اسْمُ الْمَدِينَةِ «صُوغَرَ».

23وَإِذْ أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ عَلَى الأَرْضِ دَخَلَ لُوطٌ إِلَى صُوغَرَ، 24فَأَمْطَرَ الرَّبُّ عَلَى سَدُومَ وَعَمُورَةَ كِبْرِيتًا وَنَارًا مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ مِنَ السَّمَاءِ. 25وَقَلَبَ تِلْكَ الْمُدُنَ، وَكُلَّ الدَّائِرَةِ، وَجَمِيعَ سُكَّانِ الْمُدُنِ، وَنَبَاتَِ الأَرْضِ. 26وَنَظَرَتِ امْرَأَتُهُ مِنْ وَرَائِهِ فَصَارَتْ عَمُودَ مِلْحٍ.

27وَبَكَّرَ إِبْرَاهِيمُ فِي الْغَدِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي وَقَفَ فِيهِ أَمَامَ الرَّبِّ، 28وَتَطَلَّعَ نَحْوَ سَدُومَ وَعَمُورَةَ، وَنَحْوَ كُلِّ أَرْضِ الدَّائِرَةِ، وَنَظَرَ وَإِذَا دُخَانُ الأَرْضِ يَصْعَدُ كَدُخَانِ الأَتُونِ. 29وَحَدَثَ لَمَّا أَخْرَبَ اللهُ مُدُنَ الدَّائِرَةِ أَنَّ اللهَ ذَكَرَ إِبْرَاهِيمَ، وَأَرْسَلَ لُوطًا مِنْ وَسَطِ الانْقِلاَبِ. حِينَ قَلَبَ الْمُدُنَ الَّتِي سَكَنَ فِيهَا لُوطٌ.

هذا ماكان من العهد القديم فكيف تناول القرآن الكريم هذا الحدث ؟

فيقول تعالى {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} هذه قصة لوط عليه السلام ؛ وهو ابن عم إبراهيم عليه السلام ، وكانت قرى لوط بنوا حي بالشام ، وإبراهيم ببلاد فلسطين ، فلما أنزل الله الملائكة بعذاب قوم لوط مروا بإبراهيم ونزلوا عنده ، وكان كل من نزل عنده يحسن ضيافته .

 وكانوا مروا ببشارة إبراهيم ، فظنهم أضيافا. "وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام" ؛ قاله ابن عباس. الضحاك : كانوا تسعة. السدي : أحد عشر ملكا على صورة الغلمان الحسان الوجوه ، ذو وضاءة وجمال بارع. "بالبشري" قيل : بالولد. وقيل : بإهلاك قوم لوط. وقيل : بشروه بأنهم رسل الله عز وجل ، وأنه لا خوف عليه. {قَالُوا سَلاماً} نصب بوقوع الفعل عليه ؛ كما تقول : قالوا خيرا.

وقيل : "قالوا سلاما" أي فاتحوه بصواب من القول. كما قال : {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان : 63] أي صوابا ؛ فسلاما معنى قولهم لا لفظه ؛ قال ، معناه ابن العربي واختاره. قال : ألا ترى أن الله تعالى لما أراد ذكر اللفظ قاله بعينه فقال ، مخبرا عن الملائكة : {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد : 24] {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} [الزمر : 73]

قوله تعالى : {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} فيه أربع عشر مسألة : -
الأولى : -قوله تعالى : {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ} "أن" بمعنى حتى والتقدير : فما لبث حتى جاء. { بِعِجْلٍ حَنِيذٍ }

و {حَنِيذٍ} مشوي. وقيل : هو المشوي بحر الحجارة من غير أن تمسه النار؛ وإنما جاء بعجل لأن البقر كانت أكثر أموال.
الثانية : - في هذه الآية من أدب الضيّف أن يعجل قراه ، فيقدم الموجود الميسر في الحال ، ثم يتبعه بغيره إن كان له جدة ، ولا يتكلف ما يضر به. والضيافة من مكارم الأخلاق ، ومن آداب الإسلام ، ومن خلق النبيين والصالحين. وإبراهيم أول من أضاف وليست بواجبة عند عامة أهل العلم ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "الضيافة ثلاثة أيام وجائزته يوم وليلة فما كان وراء ذلك فهو صدقة" .

الثالثة : - السنة إذا قدم للضيف الطعام أن يبادر المقدِّم إليه بالأكل ؛ فإن كرامة الضيف تعجيل التقديم ؛ وكرامة صاحب المنزل المبادرة بالقبول ؛ فلما قبضوا أيديهم نكرهم إبراهيم ؛ لأنهم خرجوا عن العادة وخالفوا السنة ، وخاف أن يكون وراءهم مكروه يقصدونه. وروي أنهم كانوا ينكتون بقداح كانت في أيديهم في اللحم ولا تصل أيديهم إلى اللحم ، فلما رأى ذلك منهم {نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} أي أضمر. وقيل : أحس ؛ والوجوس الدخول ؛
"خيفة" خوفا ؛ أي فزعا. وكانوا إذا رأوا الضيف لا يأكل ظنوا به شرا ؛ فقالت الملائكة {لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ}
{فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ}
الرابعة: -قوله تعالى : {فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} يقول : أنكرهم ؛ تقول : نكرتك وأنكرتك واستنكرتك إذا وجدته على غير ما عهدته ؛ قال الشاعر :
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا
{وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}
الخامسة - قوله تعالى : {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ} ابتداء وخبر ، أي قائمة بحيث ترى الملائكة. قيل : كانت من وراء الستر. وقيل : كانت تخدم الملائكة وهو جالس. وقال محمد بن إسحاق : قائمة تصلي. وفي قراءة عبدالله بن مسعود "وامرأته قائمة وهو قاعد".
السادسة: - {فَضَحِكَتْ}. وقال الجمهور : هو الضحك المعروف ، واختلفوا فيه ؛ فقيل : هو ضحك التعجب ؛ ويقال : كان إبراهيم عليه السلام إذا أراد أن يكرم أضيافه أقام سارة تخدمهم ، فذلك قوله : {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ} أي قائمة في خدمتهم. ويقال : "قائمة" لروع إبراهيم "فضحكت" لقولهم : "لا تخف" سرورا بالأمن.

 وقال الفراء : فيه تقديم وتأخير ؛ المعنى : فبشرناها بإسحاق فضحكت ، أي ضحكت سرورا بالولد ، وقد هرمت ، والله أعلم أي ذلك كان. قال النحاس فيه أقوال : أحسنها - أنهم لما لم يأكلوا أنكرهم وخافهم ؛ فلما قالوا لا تخف ، وأخبروه أنهم رسل الله ، فرح بذلك ، فضحكت امرأته سرورا بفرحه. وقيل : إنها كانت قالت له : أحسب أن هؤلاء القوم سينزل بهم عذاب فضم لوطا إليك ، فلما جاءت الرسل بما قالته سرت به فضحكت ؛ قال النحاس : وهذا إن صح إسناده فهو حسن. والضحك انكشاف الأسنان. ويجوز أن يكون الضحك إشراق الوجه ؛ تقول : رأيت فلانا ضاحكا ؛ أي مشرقا. وأتيت على روضة تضحك ؛ أي مشرقة.

 وفي الحديث "إن الله سبحانه يبعث السحاب فيضحك أحسن الضحك". جعل انجلاءه عن البرق ضحكا .

السابعة - ذكر الطبري أن إبراهيم عليه السلام لما قدم العجل قالوا : لا نأكل طعاما إلا بثمن ؛ فقال لهم : "ثمنه أن تذكروا الله في أوله وتحمدوه في آخره" فقال جبريل لأصحابه : بحق اتخذ الله هذا خليلا.
الثامنة - ودل هذا على أن التسمية في أول الطعام ، والحمد في آخره مشروع في الأمم قبلنا ؛ وقد جاء في الإسرائيليات أن إبراهيم عليه السلام كان لا يأكل وحده ؛ فإذا حضر طعامه أرسل يطلب من يأكل معه ؛ فلقي يوما رجلا ، فلما جلس معه على الطعام ، قال له إبراهيم : سم الله ، قال الرجل لا أدري ما الله ؟ فقال له : فاخرج عن طعامي ، فلما خرج نزل إليه جبريل فقال له : يقول الله إنه يرزقه على كفره مدى عمره وأنت بخلت عليه بلقمة ؛ فخرج إبراهيم فزعا يجر رداءه ، وقال : ارجع ، فقال : لا أرجع حتى تخبرني لم تردني لغير معنى ؟ فأخبره بالأمر ؛ فقال : هذا رب كريم ، آمنت ؛ ودخل وسمى الله وأكل مؤمنا.

التاسعة - قوله تعالى : {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} لما ولد لإبراهيم إسماعيل من هاجر تمنت سارة أن يكون لها ابن ، وأيست لكبر سنها ، فبشرت بولد يكون نبيا ويلد نبيا ، فكان هذا بشارة لها بأن ترى ولد ولدها.
العاشرة : - {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} وبشرناها من وراء إسحاق بيعقوب.
{قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ}
فيه مسألتان : -
الأولى : - قوله تعالى : {يَا وَيْلَتَى} قال الزجاج : أصلها يا ويلتي ؛ فأبدل من الياء ألف ، لأنها أخف من الياء والكسرة ؛ ولم ترد الدعاء على نفسها بالويل ، ولكنها كلمة تخف على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يعجبن منه ؛ وعجبت من ولادتها ومن كون بعلها شيخا لخروجه عن العادة ، وما خرج عن العادة مستغرب ومستنكر. و {أَأَلِدُ} استفهام معناه التعجب. {وَأَنَا عَجُوزٌ} أي شيخة. ولقد عجزت تعجز عجزا وعجزت تعجيزا ؛ أي طعنت في السن.

الثانية : قوله تعالى : {وَهَذَا بَعْلِي} أي زوجي. {شَيْخاً} {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} أي عن ترك غشيانه لها. وسارة هذه امرأة إبراهيم بنت هاران بن ناحور بن شاروع بن أرغو بن فالغ ، وهي بنت عم إبراهيم. {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} أي الذي بشرتموني به لشيء عجيب.
{قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ}
فيه أربع مسائل : -
الأولى : - قوله تعالى : {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} لما قالت : {وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} وتعجبت ، أنكرت الملائكة عليها تعجبها من أمر الله ، أي من قضائه. وقدره ، أي لا عجب من أن يرزقكما الله الولد ، وهو إسحاق. وبهذه الآية استدل كثير من العلماء على أن الذبيح إسماعيل ، وأنه أسن من إسحاق ؛ لأنها بشرت بأن إسحاق يعيش حتى يولد له يعقوب.

الثانية : - قوله تعالى : {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ} مبتدأ ، والخبر {عَلَيْكُمْ} ، المعنى : أوصل الله لكم رحمته وبركاته أهل البيت. وكونه دعاء إنما يقتضي أنه أمر يترجى ولم يتحصل به بعد. {أَهْلَ الْبَيْتِ}
الثالثة : - هذه الآية تعطي أن زوجة الرجل ، من أهل البيت ؛ فدل ، هذا على أن أزواج الأنبياء من أهل البيت ؛ فعائشة رضي الله عنها وغيرها من جملة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ممن قال الله فيهم : {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب : 33]
الرابعة : - ودلت الآية أيضا على أن منتهى السلام "وبركاته" كما أخبر الله عن صالحي عباده {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} . والبركة النمو والزيادة ؛ ومن تلك البركات أن جميع الأنبياء والمرسلين كانوا في ولد إبراهيم وسارة.

وروي عن علي رضى الله عنه أنه قال : دخلت المسجد فإذا أنا بالنبي صلى الله عليه وسلم في عصبة من أصحابه ، فقلت : السلام عليكم ؛ فقال : "وعليك السلام ورحمة الله عشرون لي وعشرة لك". قال : ودخلت الثانية ؛ فقلت : السلام عليكم ورحمة الله فقال : "وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ثلاثون لي وعشرون لك". فدخلت الثالثة فقلت : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : فقال : "وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ثلاثون لي وثلاثون لك أنا وأنت في السلام سواء" . {إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} أي محمود ماجد.

{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ}{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}{يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}
قوله تعالى : {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} أي الخوف ؛ يقال : ارتاع من كذا إذا خاف ؛
{وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى} أي بإسحاق ويعقوب. وقال قتادة : بشروه بأنهم إنما أتوا بالعذاب إلى قوم لوط ، وأنه لا يخاف. {يُجَادِلُنَا} أي يجادل رسلنا ، وأضافه إلى نفسه ، لأنهم نزلوا بأمره. ؛ وذلك أنهم لما قالوا : {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [العنكبوت : 31]

قال لهم : أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونهم ؟ قالوا : لا. قال : فأربعون ؟ قالوا : لا. قال : فثلاثون ؟ قالوا : لا. قال : فعشرون ؟ قالوا : لا. قال : فإن كان فيها عشرة - أو خمسة شك حميد - قالوا : لا. قال قتادة : نحوا منه ؛ قال فقال يعني إبراهيم : قوم ليس فيهم عشرة من المسلمين لا خير فيهم. وقيل إن إبراهيم قال : أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونها ؟ قالوا : لا.

فقال إبراهيم عند ذلك : {إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت : 32]. وقال عبدالرحمن ابن سمرة : كانوا أربعمائة ألف. ابن جريج. وكان في قرى قوم لوط أربعة آلاف ألف. ومذهب الأخفش والكسائي أن {يُجَادِلُنَا} في موضع "جادلنا". قال النحاس : لما كان جواب "لما" يجب أن يكون بالماضي جعل المستقبل مكانه ؛ كما أن الشرط يجب أن يكون بالمستقبل فجعل الماضي مكانه.

 وفيه جواب آخر : أن يكون "يجادلنا" في موضع الحال ؛ أي أقبل يجادلنا ؛ وهذا قول الفراء . {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [التوبة : 114] والمنيب الراجع ؛ يقال : إذا رجع. وإبراهيم صلى الله عليه وسلم كان راجعا إلى الله تعالى في أمور كلها. وقيل : الأواه المتأوه أسفا على ما قد فات قوم لوط من الإيمان.
قوله تعالى : {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} أي دع عنك الجدال في قوم لوط. {إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} أي عذابه لهم. {وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ} أي نازل بهم. {عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} أي غير مصروف عنهم ولا مدفوع.
{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ}
{وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ}{قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ}{قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}{قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}{ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ}{مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}
قوله تعالى : {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ} لما خرجت الملائكة من عند إبراهيم ، وكان بين إبراهيم وقرية لوط أربعة فراسخ بصرت بنتا لوط - وهما تستقيان – بالملائكة ورأتا هيئة حسنة ، فقالتا : ما شأنكم ؟ ومن أين أقبلتم ؟ قالوا : من موضع كذا نريد هذه القرية قالتا : فإن أهلها أصحاب الفواحش ؛ فقالوا : أبها من يضيفنا ؟ قالتا : نعم! هذا الشيخ وأشارتا إلى لوط ؛ فلما رأى لوط هيئتهم خاف قومه ، عليهم. {سِيءَ بِهِمْ} أي ساءه مجيئهم ؛ يقال : ساء بسوء فهو لازم ، وساءه يسوءه فهو متعد أيضا ، وإن شئت ضممت السين ؛ لأن أصلها الضم ، والأصل سوئ بهم من السوء ؛ قلبت حركة الواو على السين فانقلبت ياء ، وإن خففت الهمزة ألقيت حركتها على الياء فقلت : "سي بهم" مخففا ، ولغة شاذة بالتشديد.

 {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} أي ضاق صدره بمجيئهم وكرهه. وقيل : ضاق وسعه وطاقته. وأصله أن يذرع البعير بيديه في سيره ذرعا على قدر سعة خطوه ؛ فإذا حمل على أكثر من طوقه ضاق عن ذلك ، وضعف ومد عنقه ؛ فضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع. وقيل : هو من ذرعه القيء أي غابه ؛ أي ضاق عن حبسه المكروه في نفسه ، وإنما ضاق ذرعه بهم لما رأى من جمالهم ، وما يعلم من فسق قومه. {وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} أي شديد في الشر.
قوله تعالى : {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} في موضع الحال. {يُهْرَعُونَ} أي يسرعون. قال الكسائي والفراء وغيرهما من أهل اللغة : لا يكون الإهراع إلا إسراعا مع رعدة ؛ يقال : أهرع الرجل إهراعا أي أسرع في رعدة من برد أو غضب أو حمى ، وهو
وكان سبب إسراعهم ما روي أن امرأة لوط الكافرة ، لما رأت الأضياف وجمالهم وهيئتهم ، خرجت حتى أتت مجالس قومها ، فقالت لهم : إن لوطا قد أضاف الليلة فتية ما رئي مثلهم جمال ؛ وكذا وكذا ؛ فحينئذ جاؤوا يهرعون إليه. ويذكر أن الرسل لما وصلوا إلى بلد لوط وجدوا لوطا في حرث له.

وقيل : وجدوا ابنته تستقي ماء من نهر سدوم ؛ فسألوها الدلالة على من يضيفهم ، ورأت هيئتهم فخافت عليهم من قوم لوط ، وقالت لهم : مكانكم! وذهبت إلى أبيها فأخبرته ؛ فخرج إليهم ؛ فقالوا : نريد أن تضيفنا الليلة ؛ فقال لهم : أوما سمعتم بعمل هؤلاء القوم ؟ فقالوا : وما عملهم ؟ فقال أشهد بالله إنهم لشر قوم في الأرض - وقد كان الله عز وجل ، قال لملائكته لا تعذبوهم حتى يشهد لوط عليهم أربع شهادات - فلما قال لوط هذه المقالة .

 قال جبريل لأصحابه : هذه واحدة ، وتردد القول بينهم حتى كرر لوط الشهادة أربع مرات ، ثم دخل بهم المدينة. قوله تعالى : {وَمِنْ قَبْلُ} أي ومن قبل مجيء الرسل. وقيل : من قبل لوط. {كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} أي كانت عادتهم إتيان الرجال. فلما جاؤوا إلى لوط وقصدوا أضيافه قام إليهم لوط مدافعا ، وقال : {هَؤُلاءِ بَنَاتِي} ابتداء وخبر. وقد اختلف في قوله : {هَؤُلاءِ بَنَاتِي} فقيل : كان له ثلاث بنات من صلبه.

وقيل : بنتان ؛ زيتا وزعوراء ؛ فقيل : كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه. وقيل : ندبهم في هذه الحالة إلى النكاح ، وكانت سنتهم جواز نكاح الكافر المؤمنة ؛ وقد كان هذا في أول الإسلام جائزا ثم نسخ ؛ فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنتا له من عتبة بن أبي لهب ، والأخرى من أبي العاص بن الربيع قبل الوحي ، وكانا كافرين. وقالت فرقة - منهم مجاهد وسعيد بن جبير - أشار بقوله : "بناتي" إلى النساء جملة ؛ إذ نبي القوم أب لهم ؛ ويقوي هذا أن في قراءة ابن مسعود. "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم" [الأحزاب : 6].

وقالت طائفة : إنما كان الكلام مدافعة ولم يرد إمضاءه ؛ روي هذا القول عن أبي عبيدة ؛ كما يقال لمن ينهى عن أكل مال الغير : الخنزير أحل لك من هذا. وقال عكرمة : لم يعرض عليهم بناته ولا بنات أمته ، وإنما قال لهم هذا لينصرفوا.
قوله تعالى : {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} ابتداء وخبر ؛ أي أزوجكموهن ؛ فهو أطهر لكم مما تريدون ، أي أحل. والتطهر التنزه عما لا يحل.

قوله تعالى : {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} أي لا تهينوني ولا تذلوني.
 ثم وبخهم بقوله : {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} أي شديد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وقيل : "رشيد" أي ذو رشد. أو بمعنى راشد أو مرشد ، أي صالح أو مصلح ابن عباس : مؤمن. أبو مالك : ناه عن المنكر. وقيل : الرشيد بمعنى الرشد ؛ والرشد والرشاد الهدى والاستقامة. ويجوز أي يكون بمعنى المرشد ؛ كالحكيم بمعنى المحكم.
قوله تعالى : {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} روي أن قوم لوط خطبوا بناته فردهم ، وكانت سنتهم أن من رد في خطبة امرأة لم تحل له أبدا ؛ فذلك قوله تعالى : {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} وبعد ألا تكون هذه الخاصية. فوجه الكلام أنه ليس ، لنا إلى بناتك تعلق ، ولا هن قصدنا ، ولا لنا عادة نطلب ذلك. {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} إشارة إلى الأضياف.
قوله تعالى : {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} لما رأى استمرارهم في غيهم ، وضعف عنهم ، ولم يقدر على دفعهم ، تمنى لو وجد عونا على ردهم ؛ فقال على جهة التفجع والاستكانة. { لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} أي أنصارا وأعوانا. وقال ابن عباس : أراد الولد. و"أن" في موضع رفع بفعل مضمر ، تقديره : لو اتفق أو وقع. وهذا يطرد في "أن" التابعة لـ "لو". وجواب "لو" محذوف ؛ أي لرددت أهل الفساد ، وحلت بينهم وبين ما يريدون. "أو آوي إلى ركن شديد" أي ألجأ وأنضوي. وقرئ "أو آوي" بالنصب عطفا على "قوة" كأنه قال : "لو أن لي بكم قوة" أو إيواء إلى ركن شديد ؛ أي وأن آوي ،

 ومراد لوط بالركن العشيرة ، والمنعة بالكثرة. وبلغ بهم قبيح فعلهم إلى قوله هذا مع علمه بما عند الله تعالى ؛ فيروى أن الملائكة وجدت عليه حين قال هذه الكلمات ، وقالوا : إن ركنك لشديد. وفي البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد " الحديث

وخرجه الترمذي وزاد "ما بعث الله بعده نبيا إلا في ثروة من قومه". قال محمد بن عمرو : والثروة الكثرة والمنعة ؛ حديث حسن. ويروى أن لوطا عليه السلام لما غلبه قومه ، وهموا بكسر الباب وهو يمسكه ، قالت له الرسل : تنح عن الباب ؛ فتنحى وانفتح الباب ؛ فضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم ، وعموا وانصرفوا على أعقابهم يقولون : النجاء ؛ قال الله تعالى : {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} [القمر : 37].

وقال ابن عباس وأهل التفسير : أغلق لوط بابه والملائكة معه في الدار ، وهو يناظر قومه ويناشدهم من وراء الباب ، وهم يعالجون تسور الجدار ؛ فلما رأت الملائكة ما لقي من الجهد والكرب والنصب بسببهم ، قالوا : يا لوط إن ركنك لشديد ، وأنهم آتيهم عذاب غير مردود ، وإنا رسل ربك ؛ فافتح الباب ودعنا وإياهم ؛ ففتح الباب فضربهم جبريل بجناحه على ما تقدم.

وقيل : أخذ جبريل قبضة من تراب فأذراها في وجوههم ، فأوصل الله إلى عين من بعد ومن قرب من ذلك التراب فطمس أعينهم ، فلم يعرفوا طريقا ، ولا اهتدوا إلى بيوتهم ، وجعلوا يقولون : النجاء النجاء! فإن في بيت لوط قوما هم أسحر من على وجه الأرض ، وقد سحرونا فأعموا أبصارنا. وجعلوا يقولون : يا لوط كما أنت حتى نصبح فسترى ؛ يتوعدونه.
قوله تعالى : {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} لما رأت الملائكة حزنه واضطرابه ومدافعته عرفوه بأنفسهم ، فلما علم أنهم رسل مكن قومه من الدخول ، فأمر جبريل عليه السلام يده على أعينهم فعموا ، وعلى أيديهم فجفت. {لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} أي بمكروه {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} قرئ {فَأَسْرِ} بوصل الألف وقطعها ؛ لغتان فصيحتان. قال الله تعالى : {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر : 4] وقال : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} [الإسراء : 1]
{بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} قال ابن عباس : ببقية من الليل  فإن قيل : السرى لا يكون إلا بالليل ، فما معنى { بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} ؟ فالجواب : أنه لو لم يقل : {بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} جاز أن يكون أوله. {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} أي لا ينظر وراءه منكم أحد ؛ قال مجاهد. ابن عباس : لا يتخلف منكم أحد. لا يشتغل منكم أحد بما يخلفه من مال أو متاع.

{إِلاَّ امْرَأَتَكَ} بالنصب ؛ وهي القراءة الواضحة البينة المعنى ؛ أي فأسر بأهلك إلا امرأتك. وكذا في قراءة ابن مسعود "فأسر بأهلك إلا امرأتك" فهو استثناء من الأهل. وعلى هذا لم يخرج بها معه. وقد قال الله عز وجل : {كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [الأعراف : 83] أي من الباقين.

قال النحاس :  كأنه قال : انههم لا يلتفت منهم أحد إلا امرأتك فإنها تلتفت وتهلك ، وأن النهي عن الالتفات لأنه كلام تام ؛ أي لا يلتفت ، منكم أحد إلا امرأتك فإنها تلتفت وتهلك ، وأن لوطا خرج بها ، ونهى من معه ممن أسرى بهم ألا يلتفت ، فلم يلتفت منهم أحد سوى زوجته ؛ فإنها لما سمعت هدة العذاب التفتت وقالت : واقوماه! فأدركها حجر فقتلها .

 {إِنَّهُ مُصِيبُهَا} أي من العذاب ، والكناية في "إنه" ترجع إلى الأمر والشأن ؛ أي فإن الأمر والشأن والقصة. {مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} لما قالت الملائكة : {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [العنكبوت : 31] قال لوط : الآن الآن. استعجلهم بالعذاب لغيظه على قومه ؛ فقالوا : {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} وقرأ عيسى بن عمر "أليس الصبح" بضم الباء وهي لغة. ويحتمل أن يكون جعل الصبح ميقاتا لهلاكهم ؛ لأن النفوس فيه أودع ، والناس فيه أجمع.

وقال بعض أهل التفسير : إن لوطا خرج بابنتيه ليس معه غيرهما عند طلوع الفجر ؛ وأن الملائكة قالت له : إن الله قد وكل بهذه القرية ملائكة معهم صوت رعد ، وخطف برق ، وصواعق عظيمة ، وقد ذكرنا لهم أن لوطا سيخرج فلا تؤذوه ؛ وأمارته أنه لا يلتفت ، ولا تلتفت ابنتاه فلا يهولنك ما ترى. فخرج لوط وطوى الله له الأرض في وقته حتى نجا ووصل إلى إبراهيم.
قوله تعالى : {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} أي عذابنا. {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} وذلك أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط ، وهي خمس : سدوم - وهي القرية العظمى ، - وعامورا ، ودادوما ، وضعوه ، وقتم ، فرفعها من تخوم الأرض حتى أدناها من السماء بما في فيها ؛ حتى سمع أهل السماء نهيق حمرهم وصياح ديكتهم ، لم تنكفئ لهم جرة ، ولم ينكسر لهم إناء ، ثم نكسوا على رؤوسهم ، وأتبعهم الله بالحجارة.
قوله تعالى : {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} دليل على أن من فعل فعلهم حكمه الرجم ، وفي التفسير : أمطرنا في العذاب ، ومطرنا في الرحمة. وأما كلام العرب فيقال : مطرت السماء وأمطرت : حكاه الهروي. واختلف في "السجيل" السجيل الطين بدليل قوله {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} [الذاريات : 33]. وقال الحسن : كان أصل الحجارة طينا فشددت. والسجيل عند العرب كل شديد صلب.

{مَنْضُودٍ} قال ابن عباس : متتابع و هو مما أعده الله لأعدائه الظلمة. {مُسَوَّمَةً} أي معلمة ، من السيما وهي العلامة ؛ أي كان عليها أمثال الخواتيم. وقيل : مكتوب على كل حجر اسم من رمي به ،وفي قوله : {عِنْدَ رَبِّكَ} دليل على أنها ليست من حجارة الأرض ؛ قاله الحسن. {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} يعني قوم لوط ؛ أي لم تكن تخطئهم.

وقال مجاهد : يرهب قريشا ؛ المعنى : ما الحجارة من ظالمي قومك يا محمد ببعيد. وقال قتادة وعكرمة : يعني ظالمي هذه الأمة ؛ والله ما أجار الله منها ظالما بعد.

 

 

 

 

5-داود وامراة اوريا

زعم بنوا اسرائيل ان الرب جل وعلا ( حاشاه ) امر بارتكاب الفواحش .

                يزعم بنوا إسرائيل فى العهد القديم ان الله سبحانه وتعالى لم يعصم نبيه داود من الوقوع فى الخطيئه  حين استدعى سيدة اسمها  بثشبع بنت اليعام وزوجة لأوريا الحثى   زعموا  ( قاتلهم الله  ان نبى الله داود استغل فرصة وجود زوجها فى الحرب  وادخلها البيت وضاجعها 

فقالوا : (   فارسل داود رسلا واخذها  فدخلت اليه  فاضطجع معها  وهى مطهرة من طمثها  ثم رجعت الى بيتها  وحبلت المراة فارسلت  واخبرت داود  فقالت انى حبلى ) [4]   

ونحن المسلمين نبرا من هذا الهراء  ولكن مادامو يزعمون ان كتبهم مقدسة وانها من عند الله جل وعلا احببنا ان نبين لهم  ما يفترونه على انبياء الله  وانه لولا القران  الكريم الذى حفظه الحق سبحانه وتعالى لظل الناس فى ضلال مبين .وهذا دليل على فساد بنى اسرائيل الاخلاقى  وحبهم للرذيله  ورغبتهم فى انتشارها باى وسيله  ومن ثم نسبوها للانبياء صلوات الله وسلامه عليهم ليكون لهم فيهم القدوة  ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم .

 والأسوا من ذلك هو زعمهم أن الله جل وعلا  حين أراد أن يعاقب داود عليه السلام على صنيعه هذا  زعموا عذرا اقبح من ذنب فقالوا أن الرب جل وعلا عرض نساء النبى داود  لنفس الفعل الذى زعموه

  فذكروا ( هكذا قال الرب :هانذا  اقيم عليك الشر  من بيتك  واخذ نساءك امام عينيك  واعطيهن لقريبك  فيضطحع مع نساءك  فى عين هذه الشمس   )  [5]     ( قاتلهم الله)

             وانما ارادوا بذلك ان يؤصلوا لاولادهم  ان الرب هوالذى شرع القصاص فى هذه المسالة  وانهم لاذنب لهم انما هى نصوص مقسة , وصدق الحق حين قال عنهم  (وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا) الاعراف/28   

      وهنا يرد القران بكل قوة وحزم (قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) الاعراف /28     وليس هذا فحسب بل بين سبحانه وتعالى كذب هؤلاء  فقال جل وعلا (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)الشورى /13 

       والله جل وعلا شرع لنا البعد عن الفواحش بكل اشكالها والوانها فقال سبحانه وتعالى (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) الاعراف /33   

  فما كان لله جل وعلا ان يامر امة بترك الفواحش ويامر اخرى بارتكابها فى عين الشمس  حقا صدق ربى جل وعلا حين قال  (   كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) الكهف /5

 ولذا فانا اهيب بامتنا الحبيبه  واقول لهم ان من يكذب على الله جل وعلا وافترى الكذب على الانبياء   فمن السهل واليسير ان يكذب على البشر  ولذا حذرنا الحق جل وعلا منهم  حين قال سبحانه وتعالى (  وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ ) المائدة /49  

 

 

 

 

 

 

 

 

6-يوسف وامراة العزيز

أولا  : من القرآن الكريم

نعود لسيدنا يوسف عليه السلام وما حدث له فى بيت العزيز فلقد حكى القرآن الكريم {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ }يوسف23- 29

{وَرَاوَدَتْهُ } إنما تعنى أنها بذلت قبل ذلك العديد من الوسائل لإغرائه فلم ينتبه لها  لأنه نعم العبد ولما لا وهو ابن الأكرمين  وكذلك ينبغي على الآباء أن يراعوا أبناءهم ليكونوا على نفس القدر  والمكانة عملا بقول المعصوم "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته .... "

ولما كانت نشأة سيدنا يوسف عليه السلام  فى هذا البيت النبوي الكريم كان لديه رصيد إيماني ورصيد تربوي  من أبائه الأنبياء يجعل الجبال تزول أمامه وهو لا يزول  وكذلك العظماء وإن قيل فإن يوسف عليه السلام  نبي وابن أنبياء ولديه من التعليم والوراثة  ما يهيئه لاجتياز تلك العقبات  دون عناء فماذا عن الشباب الآخرين وليسوا من أولاد  الأنبياء  ؟ 

نقول :  إن الله جل وعلا ترك لهم من الدين ما يكفى  إن تمسكوا به اعتصموا من الوقوع  في الرذائل لقوله صلى الله عيه وسلم "  تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى أبدا كتاب الله وسنتي "  وليس هذا فحسب بل وعد الحق سبحانه وتعالى هؤلاء الشباب بما لا   يخطر لأحدهم على بال ؛  ترى ما هو  ؟ هو قول الحبيب صلى الله عليه وسلم  "

سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله  وذكر منهم " ورجل دعته امرأة ذات منصب  وجمال فقال إني أخاف الله "  و لك أن  تتخيل أن المكافأة تفوق ما  قام به الرجل الصالح   بكثير ولكنها رحمة الله وعطاءاته  التي تفوق الوصف والحصر  فقال سبحانه وتعالى " وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها "

 أرأيت كم  هي غيرة الله جل وعلا على أعراض عباده وكم يعطى لمن يحافظ عليها وكيف يكافئ من ابتعد عن المعصية وراعى الله سبحانه وتعالى فكان الجزاء على خوفه من الله    وصيانته لأعراض الناس أن يرفع الله جل وعلا قدره على رؤؤس الأشهاد بل ويؤمنه من    الفزع الأكبر  ويظله الله جل وعلا بظل عرشه  فى يوم يلجم فيه العرق أهل المحشر  إلجاما  وتقترب فيه الشمس من الرؤوس فيه قال جل وعلا  {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ  تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }البقرة281

وقال عنه الشاعر :

مثل لقلـبك أيها المـــغرور        *يوم القيامة والسماء تمـور

قد كورت شمس النهار وأضعفت        *حرا على رؤؤس العباد تفـور

وإذ النجوم تبدلت وتغيرت              * بعــد الضياء كـدور

وإذ الجبـــال تقــلعت          * فرايتها مثل السحاب تســير

وإذ الجنين متعلق بأمه خوف           * الحسـاب وقلبه مـذعـور

هذا بلا ذنب يخاف لهوله فكيف     * المقيم على الذنوب دهـور ؟

 ومن ثم فإن كان لدى سيدنا يوسف عليه السلام  من الإيمان والتربية ما عصمه من الوقوع   في الرذائل فإن لدى المؤمنين من الإيمان بالقرآن والسنة وتوجيهات المعصوم صلى الله عليه وسلم  ما ينبغي أن يكون رادع لهم عند الاقتراب من الفواحش  وبخاصة أن الحق سبحانه وتعالى  قال {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ     إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن    ِ اتَّقَى } النجم32

صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم  

 فلما أخفقت جميع محاولات زوجة العزيز فلم تجد بدا من الإفصاح فاستدعته إلى مخدعها وحجرة نومها ولم تأمر الخدم بإغلاق الأبواب بل أغلقتها بنفسها لتطمئن أن الأمر على ما يرام بالنسبة لها وانه ليس هناك ما يعكر صفوها . ولا حول ولا قوة إلا بالله .

 وإن قيل لماذا دخل يوسف عليه السلام  إلى هناك وهو يعلم من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ؟  نقول إن هذا امر عادى فهو فتاها وبمثابة الابن فهي من قامت على تربيته وكل    يوم يتحرك فى القصر يحمل  هذا  ويحضر ذاك دون حرج  .

 ولكن ليس السؤال كذلك  , بل ينبغي أن يكون ما الذي دفع امرأة العزيز على التفكير في  هذا الأمر  ؟ و هذا يدفعنا أن  نقول للمتشدقين والرافضين  لسنة المعصوم صلى الله عليه وسلم  أفيقوا  فهذا الموقف يستدعى إلى الذهن على الفور حديث المعصوم ( إياكم والدخول على المغيبات فقال رجل يا رسول الله أرأيت الحمو ؟ قال :  الحمو الموت  , الحمو الموت " حقا صدق رسول الله .

  فإن دخول من لا يخشى من دخولهم على النساء دون وازع أو محرم أمرا غير محمود العواقب  ولقد رأينا ما حدث من امرأة العزيز , فهب أن الرجل هنا هو أخر غير نبي الله يوسف عليه السلام  لحدثت الكارثة  ولذا قال صلى الله عليه وسلم فى حديث أخر منبها الجميع ومعلما إياهم بأن الشيطان يجري فى ابن آدم مجرى الدم فى العروق فقال صلى الله عليه وسلم  (  ما خلا رجل بامرأة  إلا وكان الشيطان ثالثهما ) 

فلك أن تتخيل رجل وامرأة ومعهما شيطان ولقد أخبرنا الرسول  صلى الله عليه وسلم من قبل  بأن الملائكة لا تكن فى مكان فيه شيطان فما النتيجة المتوقعة ؟  ولذا ينبغي الالتزام بما امر به  صلى الله عليه وسلم وصدق الحق حين قال وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }الحشر7

        الحياء بين القرآن الكريم والعهد القديم

 و من مظاهر البلاغة فى القرآن الكريم أن جمع الحق سبحانه وتعالى كل ما فعلته المرأة من تهيئه نفسية وجسدية فى (هَيْتَ لَكَ)  دون أن يخدش لأحد حياء فلو  اجتمع الأدباء والشعراء على أن يصفوا الموقف بكلمة واحدة تؤدى المعنى دون أن تخدش الحياء ما استطاعوا  .

ولدينا العديد من الأشعار والقصائد والقصص التي تحمل بين سطورها  ألفاظا  ما انزل الله بها  من سلطان بل إنها تهيج المشاعر  وتؤجج الغرائز  وإن أردت المزيد منها فعليك بما ذكره     العهد القديم وقدمه فى سفر كامل باسم نشيد الإنشاد فهم يزعمون أنه من عند الله ونقسم    بالله الذي لا إله إلا هو بأنه ليس من عند الله جل وعلا ؛ فإن رجلا لديه بقية حياء لا يستطيع  أن يكتب ما كتبوه وحتى لا نكون مفترين ومتحدثين بدون دليل

إليكم بعض الفقرات من نشيد الإنشاد  :-

في الإصحاح الرَّابعُ من نشيد الإنشاد يقولون :  1هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ يَا حَبِيبَتِي، هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ! عَيْنَاكِ حَمَامَتَانِ مِنْ تَحْتِ نَقَابِكِ. شَعْرُكِ كَقَطِيعِ مِعْزٍ رَابِضٍ عَلَى جَبَلِ جِلْعَادَ. 2أَسْنَانُكِ كَقَطِيعِ الْجَزَائِزِ الصَّادِرَةِ مِنَ الْغَسْلِ، اللَّوَاتِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مُتْئِمٌ، وَلَيْسَ فِيهِنَّ عَقِيمٌ. 3شَفَتَاكِ كَسِلْكَةٍ مِنَ الْقِرْمِزِ، وَفَمُكِ حُلْوٌ. خَدُّكِ كَفِلْقَةِ رُمَّانَةٍ تَحْتَ نَقَابِكِ. 4عُنُقُكِ كَبُرْجِ دَاوُدَ الْمَبْنِيِّ لِلأَسْلِحَةِ. أَلْفُ مِجَنٍّ عُلِّقَ عَلَيْهِ، كُلُّهَا أَتْرَاسُ الْجَبَابِرَةِ. 5ثَدْيَاكِ كَخِشْفَتَيْ ظَبْيَةٍ، تَوْأَمَيْنِ يَرْعَيَانِ بَيْنَ السَّوْسَنِ. 6إِلَى أَنْ يَفِيحَ النَّهَارُ وَتَنْهَزِمَ الظِّلاَلُ، أَذْهَبُ إِلَى جَبَلِ الْمُرِّ وَإِلَى تَلِّ اللُّبَانِ. 7كُلُّكِ جَمِيلٌ يَا حَبِيبَتِي لَيْسَ فِيكِ عَيْبَةٌ.

ونص أخر من الإصحاح السَّابعُ  من نشيد الإنشاد 1مَا أَجْمَلَ رِجْلَيْكِ بِالنَّعْلَيْنِ يَا بِنْتَ الْكَرِيمِ! دَوَائِرُ فَخْذَيْكِ مِثْلُ الْحَلِيِّ، صَنْعَةِ يَدَيْ صَنَّاعٍ. 2سُرَّتُكِ كَأْسٌ مُدَوَّرَةٌ، لاَ يُعْوِزُهَا شَرَابٌ مَمْزُوجٌ. بَطْنُكِ صُبْرَةُ حِنْطَةٍ مُسَيَّجَةٌ بِالسَّوْسَنِ. 3ثَدْيَاكِ كَخَشْفَتَيْنِ، تَوْأَمَيْ ظَبْيَةٍ. 4عُنُقُكِ كَبُرْجٍ مِنْ عَاجٍ. عَيْنَاكِ كَالْبِرَكِ فِي حَشْبُونَ عِنْدَ بَابِ بَثِّ رَبِّيمَ. أَنْفُكِ كَبُرْجِ لُبْنَانَ النَّاظِرِ تُجَاهَ دِمَشْقَ. 5رَأْسُكِ عَلَيْكِ مِثْلُ الْكَرْمَلِ، وَشَعْرُ رَأْسِكِ كَأُرْجُوَانٍ. مَلِكٌ قَدْ أُسِرَ بِالْخُصَلِ. 6مَا أَجْمَلَكِ وَمَا أَحْلاَكِ أَيَّتُهَا الْحَبِيبَةُ بِاللَّذَّاتِ! 7قَامَتُكِ هذِهِ شَبِيهَةٌ بِالنَّخْلَةِ، وَثَدْيَاكِ بِالْعَنَاقِيدِ. 8قُلْتُ: «إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى النَّخْلَةِ وَأُمْسِكُ بِعُذُوقِهَا». وَتَكُونُ ثَدْيَاكِ كَعَنَاقِيدِ الْكَرْمِ، وَرَائِحَةُ أَنْفِكِ كَالتُّفَّاحِ، 9وَحَنَكُكِ كَأَجْوَدِ الْخَمْرِ. لِحَبِيبِي السَّائِغَةُ الْمُرَقْرِقَةُ السَّائِحَةُ عَلَى شِفَاهِ النَّائِمِينَ.     

                                 لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم

أما  قول الحق سبحانه على لسان امرأة العزيز ليوسف عليه السلام  " هيئت لك " أدى المعنى وصور لنا الحالة  النفسية والرغبة التي وصلت إليها المرأة  دون إسفاف  أو إخلال بالمعنى فسبحان الله القائل " الحمد لله الذي انزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا والقائل جل وعلا  {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }النساء82

ولكن حدث ما لم تتوقعه فــ{ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } يوسف  23 

ألم أقل لك عزيزي القارئ أته قد صدق المعصوم صلى الله عليه وسلم حين قال : اصنع المعروف فى أهله وفى غير أهله فإن صادف أهله فهو أهله وإن لم يصادف أهله فأنت أهله "  فلقد رد يوسف عليه السلام الجميل لسيده فى وقت وموقف لا يستطيعه غير ابن الأكرمين فقال لها      { إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ }

 

أقول لبنى إسرائيل

وقد يتبادر إلى الذهن أن موقف يوسف عليه السلام إنما هو رد للجميل فحسب  لا حاشا لله فهم الأنبياء أكرمهم الناس أو خذلوهم فلو لم يكرمه العزيز ما تغيرت طباع نبي الله يوسف عليه السلام .

وتلك مناسبة طيبة أقول فيها لبنى إسرائيل : كذلك الأنبياء فصححوا المفاهيم عنهم وابلغوا أبناءكم الحقيقة ولا تقولوا على الله إلا الحق فإنه جل وعلا اختار الأنبياء وجعلهم الأصفياء وائتمنهم على رسالته فهم أطهر وأنقى الخلق على الإطلاق .

ومن ثم فينبغي على أهل الكتاب إعادة النظر فى ما لديهم من مصادر عن الأنبياء وكفى ما مضى حتى يستطيع ابناهم أن يروا الصورة النقية للأنبياء كما  أرادها الحق سبحانه ليكون لهم فيهم القدوة الحسنة  بدلا من الإقتداء بالقتلة والمجرمين  والشواذ وصدق الحق حين قال {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ }المائدة15

وان قالوا بأن يوسف عليه السلام حالة خاصة بين الأنبياء نقول لهم كلا  بل إن الأنبياء جميعا رباهم الحق جل وعلا وإن تعرضوا جميعا  لما تعرض له نبي الله يوسف لتصرفوا بنفس المنطق  ألم يقرأوا قول قوم ثمود وكانوا من طواغيت الأرض حين  قالوا  لنبي الله صالح كما حكي القرآن الكريم {قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ }هود62

 ألم يقرأوا  قول ابنتي نبي الله شعيب عن موسي عليه السلام {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ }القصص26

فلما أبى سيدنا يوسف عليه السلام  وكان وازع الإيمان لديه أقوى نجاه الله جل وعلا . ونحن نؤمن ببراءة نبي الله يوسف عليه السلام , ولكن هل معنى هذا انه بمجرد أن  قالت له "  هيئت لك " أسرع نحو الباب أو وقف متبلدا  ؟ فقد يقال بأنه ليس لديه ما يدفعه نحو النساء  اى أن يكون حصورا , وقتها فالحكمة لا توتي ثمارها  .

لأنه لكي يكون لنا فى هذا الموقف عبرة هو أن يكون لدى يوسف عليه السلام  القوة والشباب والرغبة  ويهيئ الموقف  له على أفضل ما يكون فيعزف عنه رغبة فى الثواب وبعدا عن المعصية   هنا يظهر الإيمان والاستعانة بالله العلى القدير  الذي يمن عليه ويرى انه حقا يستحق أن يُعصم , فتأتى العصمة ويكون التثبيت .

فالله جل وعلا  وحده ناصر من ينصره ومعين من استعان به ,  فالموقف كان يقتضى انه حين  رآها يوسف عليه السلام  على هذا الوضع وهو شاب قوى البنيان حسن الصورة وبلغ أشده من الكمال والجمال والعقل أن يتفاعل مع الموقف إلا أن الرصيد الإيماني والعصمة منعاه من ارتكاب الفاحشة .

فكأن يوسف عليه السلام  قارن بين الرذيلة وبين ما عند الله  فوجد أن ما عند الله خير وأبقى لأنه ما ترك عبد شيئا يريده لوجه  الله جل وعلا  إلا وأبدله الله سبحانه وتعالى  خير منه  فقال تعالى  { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }البقرة110

وتذكر نبي الله يوسف انه من ذرية رجال  وآباء  صالحين عهد الله إليهم بحمل الأمانة  قال عنهم الحق سبحانه  {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ }الأنعام89 وانه سليل نبي الله إبراهيم خليل الرحمن و نبي الله إسحاق  و نبي الله يعقوب عليهم جميعا وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام .

  فإن لم ينتبه  واخطأ ابن الأكرمين " لا قدر الله "  ولديه هذا الرصيد الإيماني والوراثي فمن  إذن ؟ وفوق وقبل كل هذا تذكر يوسف انه لا حول لأي إنسان ولا قوة إلا إذا استعان بالله رب العالمين  .

و الله جل وعلا نجاه من إخوته ,  وأنقذه من البئر ,   وجعله فى أفضل مكان يعامل معاملة   أبناء الملوك ,  وكما أنه أعلم الناس بقول الحق سبحانه  {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } الرحمن60 ولأن يوسف عليه السلام  لم يغفل عن ذكر الله جل وعلا لحظة فكل ما سبق من تفكير لم يستغرق ثوان معدودة  ولذا نراه على الفور قال " معاذ الله "

ثم  يبين لنا القرآن الكريم أن الأنبياء وإن كانوا فى أحلك الظروف وأشدها فهم لا ينسون الله جل وعلا بل وينسبون الفضل دائما وأبدا  لله رب العالمين  ويوسف  عليه السلام لا تفوته   هذه الفرصة دون أن يذكر فضل الله جل وعلا  عليه  فهو ليس من اللئام الذي إن أحسنت إليه تمردا  فــ{ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ }يوسف23

وعن قوله  " إنه ربي " فقد يقصد أن ينسب الفضل للحق جل وعلا وهذا امر طبيعي كما أوضحنا وإن كان  يقصد العزيز فهذا كرم منه لأنه رباه وأحسن مثواه فأقل ما ينبغي أن  يفعله هو أن يصون عرضه فى غيبته  كما يصونها فى حضوره . وهذا من  روائع القرآن  الكريم فإنه يعطى العقل حقه فى التفكير .

ولما لم ترتدع المراة اتجه يوسف عليه السلام ناحية الأبواب فإذا بها مغلقة فلم يرجع ويقول ماذا افعل؟  إنها ورطة ولكنه أقدم ناحية الأبواب  يفتحها بابا وراء الأخر ولم تكن حركة أو مشيا  عاديا ,  فيوسف عليه السلام لديه رغبة ملحة فى النجاة من الموقف و للمرأة رغبة   ملحة  في  جذب يوسف عليه السلام  إليها فكانت الحركة سباق فلم تجد أمامها  إلا القميص .

ولك أن تتخيل أن قميص يوسف وهو بمثابة ابن العزيز فلابد أن قميصه من الجودة بمكان  حتى لا يمزقه إلا التنافر الشديد فيوسف عليه السلام يسرع  نحو الباب بكل قوته والمرأة   تجذبه بكل قوتها فلم يتحمل القميص فقُطع.

سبحان الله الذي بين كل ما سبق فى آية  واحدة وفى  تصوير رائع فقال جل وعلا {وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ}يوسف 25

{وَاسُتَبَقَا الْبَابَ }وشاء الله جل وعلا أن يصل يوسف عليه السلام  الباب الرئيسي فى الوقت الذي يصل  فيه العزيز إلى القصر  بل ومعه رجل وليس أي رجل بل من أهل زوجته  وحسنا لم يخلع يوسف قميصه ( كما حكي أهل الكتاب فى العهد القديم ) لأن المفاجأة أذهلت العزيز فوقف صامتا جامدا .

و لأنه رأى من ماضي و تاريخ يوسف عليه السلام  ما يجعله يطمئن له ولوجوده فى المنزل دون رقيب ولكن ما حدث الآن يطيش له العقل ؛ الزوجة تتهم  فتاها بل  وتصدر القرار بالعقاب  لتؤكد أنه  أقدم على ارتكاب الخطأ  فقالت {مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }يوسف25

ولأن يوسف على حق فإذا به  يدافع عن نفسه فـــ{قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } " لك  أن تتخيل لو أن يوسف عليه السلام لا قدر الله اخطأ "  لعل أحدا يقول :  وما الذي دفعه    إلي ذلك ؟ ولكن السؤال الواجب ؛ ولماذا يصمت يوسف عليه السلام  فهل يخفي ما حدث ؟ أم أنه يريد العودة  ؟  "حاشاه ذلك"

 وبما أنه لا يريد هذا ولا ذاك فإذا به يعلنها  بمنتهى الصراحة {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي}  وليكون لنا فيه العبرة فمن تعرض لاتهام أو ظلم  ما  فلا ينبغي أن يصمت فالحق جل وعلا  يقول {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً }النساء148   وهنا شاء الله سبحانه وتعالى أن  يكسر الرجل المصاحب للعزيز  حاجز الصمت والدهشة  ويقدم حلا منطقيا  فالقرآن الكريم يقول{  وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ }يوسف26 {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ }يوسف27     

مع أننا نجده يقدم صدقها على صدق سيدنا يوسف عليه السلام   إلا   أن   الحق سبحانه وتعالى أراد أن يظهر براءة  نبيه يوسف عليه السلام  وبخاصة أنها الحقيقة {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ }يوسف28                      

فلما تبين لهم أن المرأة هي التي أخطأت  القي الله سبحانه وتعالى على العزيز  شيئا من البرد والسلام فإذا به يقول  { إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ  عَظِيمٌ }يوسف28 فقد يقول قائل إنه تصرف غريب لا ينبئ عن مرؤءة  ؛ أم  أن هذا هو طبع المترفين  ؟  ولكن الحقيقة :كأن الله  سبحانه وتعالى سلب منه الغيرة حتى يأمن يوسف بادرة العزيز فقد يأمر بنفيه أو  بقتله   وسبحان الله 1لذى يحول بين المرء وقلبه .      

ثانيا : من العهد القديم

رأينا كيف تناول القرآن الكريم هذا الموقف بحكمة منقطعة النظير ورأينا  كيف صور لنا الحالة النفسية ليوسف عليه السلام  وصموده صمود الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ورأينا ما حدث من زوجة العزيز والشاهد الذي كان  من أهلها,  وتصرف زوجها, فى اسلوب راق قدر منزله وقائله جل وعلا  ليأخذ كل جيل مسلم من الموقف الدروس والعبر التي ينظم  بها حياته ويعلمها أبناءه  لتكون لهم نورا ونبراسا على طول الزمان  .

ولكن يا ترى هل  تناول العهد القديم هذا الموقف بنفس الحكمة والموعظة الحسنة  ؟ فكثيرا  ما قالوا وزعموا انه من عند الله العزيز الحكيم ونحن نؤمن بأن الله جل وعلا كل شئ عنده بمقدار ,  فلا إطناب ولا ملل ولا حديث يفترى ولا أحداث تذكر فى كتاب مقدس للتسلية  وإنما للعبرة والحكمة وإلا فلا  .

ولقد قام القرآن الكريم بكل هذه المهام وأكثر  , فهيا بنا نتابع العهد القديم   لنري هل أوفى بما عاهد عليه الله: 

7وَحَدَثَ بَعْدَ هذِهِ الأُمُورِ أَنَّ امْرَأَةَ سَيِّدِهِ رَفَعَتْ عَيْنَيْهَا إِلَى يُوسُفَ وَقَالَتِ: «اضْطَجعْ مَعِي». 8فَأَبَى وَقَالَ لامْرَأَةِ سَيِّدِهِ: «هُوَذَا سَيِّدِي لاَ يَعْرِفُ مَعِي مَا فِي الْبَيْتِ، وَكُلُّ مَا لَهُ قَدْ دَفَعَهُ إِلَى يَدِي. 9لَيْسَ هُوَ فِي هذَا الْبَيْتِ أَعْظَمَ مِنِّي. وَلَمْ يُمْسِكْ عَنِّي شَيْئًا غَيْرَكِ، لأَنَّكِ امْرَأَتُهُ. فَكَيْفَ أَصْنَعُ هذَا الشَّرَّ الْعَظِيمَ وَأُخْطِئُ إِلَى اللهِ؟». 10وَكَانَ إِذْ كَلَّمَتْ يُوسُفَ يَوْمًا فَيَوْمًا أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ لَهَا أَنْ يَضْطَجعَ بِجَانِبِهَا لِيَكُونَ مَعَهَا.

فى هذه الفقرة عدة أمور غاية فى الغرابة :

أولا : ذكروا أن المرأة كانت تكلم يوسف عليه السلام  وتطلبه يوما فيوم ليضطجع معها ولو كان الأمر كذلك فهذا يدين يوسف عليه السلام وليس في صالحه لأن هذا فيه تلميح أن هناك لقاءات ومواقف بين يوسف وامرأة العزيز كما يقول الشاعر ابتسامة فموعد فلقاء وإلا فما الدرس المستفاد من هذه الفقرة .

ثانيا : ثم إن عبارة اضطجع معي تعطى أكثر من معنى فلقد ذكرت فى  العهد القديم بأكثر من معنى: منها ما يفيد الجماع الغير مشروع والعجيب أنهم ذكروا تلك اللفظة مع الأنبياء فقالوا عن نبي الله داود. 2وَكَانَ فِي وَقْتِ الْمَسَاءِ أَنَّ دَاوُدَ قَامَ عَنْ سَرِيرِهِ وَتَمَشَّى عَلَى سَطْحِ بَيْتِ الْمَلِكِ، فَرَأَى مِنْ عَلَى السَّطْحِ امْرَأَةً تَسْتَحِمُّ. وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ جَمِيلَةَ الْمَنْظَرِ جِدًّا. 3فَأَرْسَلَ دَاوُدُ وَسَأَلَ عَنِ الْمَرْأَةِ، فَقَالَ وَاحِدٌ: «أَلَيْسَتْ هذِهِ بَثْشَبَعَ بِنْتَ أَلِيعَامَ امْرَأَةَ أُورِيَّا الْحِثِّيِّ؟». 4فَأَرْسَلَ دَاوُدُ رُسُلاً وَأَخَذَهَا، فَدَخَلَتْ إِلَيْهِ، فَاضْطَجَعَ مَعَهَا وَهِيَ مُطَهَّرَةٌ مِنْ طَمْثِهَا. ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا. 5وَحَبِلَتِ الْمَرْأَةُ، فَأَرْسَلَتْ وَأَخْبَرَتْ دَاوُدَ وَقَالَتْ: «إِنِّي حُبْلَى».

 لأن الجماع المشروع يشيرون إليه بكلمة أخرى وهى " عرف  " فقالوا عن آدم وحواء 1وَعَرَفَ آدَمُ حَوَّاءَ امْرَأَتَهُ فَحَبِلَتْ وَوَلَدَتْ قَايِينَ. وَقَالَتِ: «اقْتَنَيْتُ رَجُلاً مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ». 2ثُمَّ عَادَتْ فَوَلَدَتْ أَخَاهُ هَابِيلَ. وَكَانَ هَابِيلُ رَاعِيًا لِلْغَنَمِ، وَكَانَ قَايِينُ عَامِلاً فِي الأَرْضِ.

 وقد تفيد اضطجع معنى أخر وهو الدفن فقالوا عن نبي الله داود 10وَاضْطَجَعَ دَاوُدُ مَعَ آبَائِهِ، وَدُفِنَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ. 11وَكَانَ الزَّمَانُ الَّذِي مَلَكَ فِيهِ دَاوُدُ عَلَى إِسْرَائِيلَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. فِي حَبْرُونَ مَلَكَ سَبْعَ سِنِينٍ، وَفِي أُورُشَلِيمَ مَلَكَ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ سَنَةً. 12وَجَلَسَ سُلَيْمَانُ عَلَى كُرْسِيِّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَتَثَبَّتَ مُلْكُهُ جِدًّا.

الموقف كما حكاه العهد القديم

11ثُمَّ حَدَثَ نَحْوَ هذَا الْوَقْتِ أَنَّهُ دَخَلَ الْبَيْتَ لِيَعْمَلَ عَمَلَهُ، وَلَمْ يَكُنْ إِنْسَانٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ هُنَاكَ فِي الْبَيْتِ. 12فَأَمْسَكَتْهُ بِثَوْبِهِ قَائِلَةً: «اضْطَجعْ مَعِي!». فَتَرَكَ ثَوْبَهُ فِي يَدِهَا وَهَرَبَ وَخَرَجَ إِلَى خَارِجٍ. 13وَكَانَ لَمَّا رَأَتْ أَنَّهُ تَرَكَ ثَوْبَهُ فِي يَدِهَا وَهَرَبَ إِلَى خَارِجٍ، 14أَنَّهَا نَادَتْ أَهْلَ بَيْتِهَا، وَكَلَّمَتهُمْ قَائِلةً: «انْظُرُوا! قَدْ جَاءَ إِلَيْنَا بِرَجُل عِبْرَانِيٍّ لِيُدَاعِبَنَا! دَخَلَ إِلَيَّ لِيَضْطَجعَ مَعِي، فَصَرَخْتُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ. 15وَكَانَ لَمَّا سَمِعَ أَنِّي رَفَعْتُ صَوْتِي وَصَرَخْتُ، أَنَّهُ تَرَكَ ثَوْبَهُ بِجَانِبِي وَهَرَبَ وَخَرَجَ إِلَى خَارِجٍ».

أولا : علام تدل عبارة " نَحْوَ هذَا الْوَقْتِ" ؟ لا شك أنها دليل قطعي على أن الذي يتكلم هو أي أحد غير الله سبحانه وتعالى بدليل أن المتحدث يريد أن ببين لمن يحدثهم الوقت الذي تم فيه هذا الأمر.  وهذا دليل على أن الكاتب وهو يكتب هذه العبارة  كان فى وقت الظهيرة مثلا أو  أي وقت ما  , مما جعله يقول " وحدث نحو هذا الوقت "

ثانيا : لقد صور كتبة العهد القديم أن امرأة العزيز ليس وراءها ولا يشغل فكرها إلا كيف توقع يوسف عليه السلام فى شباكها وإن قيل لقد تحدث القرآن الكريم عن ذلك نقول نعم ولكن ليس بهذه الطريقة  وإنما أوجز القرآن الكريم ما حدث فى كلمات موجزة أدت المعنى وبينت انه كان فى موقف معين محدد وقد تتعرض له  بعض السيدات اللائي يتعرضن لمثل تلك الظروف وقد قيل لامرأة حسيبة من العرب ارتكبت الفاحشة ما أوقعك فى هذا فقالت " طول السواد وقرب الوساد " كما انه لم يستغرق دقائق معدودة ليقطع الطريق على المتشدقين .

أي منطق هذا ؟

 بخلاف العهد القديم الذي يحاول أهله أن يبثوا فى صدور أبناءهم كيف يداعبون وكيف يتغازلون, فهل من المنطق أن يخلع المرء ثوبه إن تعرض لمثل هذا الموقف ؟ لأنه وبدون تفكير إن راءه احد فلاشك  أنه سيدينه. فما ذكروه فى العهد القديم قدم لامرأة العزيز دليل برأتها واتهام يوسف عليه السلام " حاشاه " مما شجعها على أن تصرخ وتنادى أهل البيت .

ثالثا : ولم يكتف كتبة العهد القديم بذلك بل أعادوا ما ذكرته امرأة العزيز من قبل  وأفاضوا فى ذكر أمور لا طائل من وراءها ,  فما الدروس المستفادة إذن ؟  غير أنهم يريدون أن يطبقوا المثل القائل "ضربني وبكى وسبقني واشتكى" والعجيب أنهم صوروا امرأة العزيز وهى حزينة تأسف عما حدث ولم يذكروا ما حدث ليوسف عليه السلام  فهل هرب أم جلس بجوارها بدون ثياب " حاشاه " حتى حضر العزيز أم ماذا حدث لأنهم قالوا :

إطناب لا طائل من ورائه

 إذا يقولون ويعيدون على الأسماع ما قالوه من قبل ألا وهو :16فَوَضَعَتْ ثَوْبَهُ بِجَانِبِهَا حَتَّى جَاءَ سَيِّدُهُ إِلَى بَيْتِهِ. 17فَكَلَّمَتْهُ بِمِثْلِ هذَا الْكَلاَمِ قَائِلَةً: «دَخَلَ إِلَيَّ الْعَبْدُ الْعِبْرَانِيُّ الَّذِي جِئْتَ بِهِ إِلَيْنَا لِيُدَاعِبَنِي. 18وَكَانَ لَمَّا رَفَعْتُ صَوْتِي وَصَرَخْتُ، أَنَّهُ تَرَكَ ثَوْبَهُ بِجَانِبِي وَهَرَبَ إِلَى خَارِجٍ».19فَكَانَ لَمَّا سَمِعَ سَيِّدُهُ كَلاَمَ امْرَأَتِهِ الَّذِي كَلَّمَتْهُ بِهِ قَائِلَةً: «بِحَسَبِ هذَا الْكَلاَمِ صَنَعَ بِي عَبْدُكَ»، أَنَّ غَضَبَهُ حَمِيَ. 20فَأَخَذَ يُوسُفَ سَيِّدُهُ وَوَضَعَهُ فِي بَيْتِ السِّجْنِ، الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ أَسْرَى الْمَلِكِ مَحْبُوسِينَ فِيهِ. وَكَانَ هُنَاكَ فِي بَيْتِ السِّجْنِ.

أرأيت كيف أفاضوا فى عرض قضية المرأة رغم أنها ظالمة  ثم ما فائدة عبارة " بمثل هذا الكلام " فكانت تكفى هذه العبارة إلا أنهم جعلوها تعيد الكلام مرة أخرى ,والعجيب أنهم قالوا أن زوجها  "حمى غضبه " أين المرؤة والشهامة والدفاع عن الأعراض ؟ 

 أهل الكتاب وتهوين أمر الكبائر:-

فهذا شئ يسير بالنسبة لما حدث ؛ نحن تصورنا أن يفعل شيئا أخر وبخاصة أن يوسف عليه السلام وقف صامتا دون تبرير وجهة نظره . أم أنهم يريدون أن يغرسوا فى صدور ابناهم أن هذا شئ يسير .  ودليل ذلك أنهم ذكروا قصة زنا يهوذا ابن نبي الله يعقوب عليه السلام والذي يفتخر بنوا إسرائيل بالانتساب إليه بزوجة ابنه واسمها  ثامار.  ولم يستحي بنوا إسرائيل لا من ذكر القصة ولا من ذكر الأسماء والعجيب أنهم ذكروها في ثنايا ذكرهم قصة سيدنا يوسف وذكروها بإسلوب مستفز مقزز فقالوا :

1وَحَدَثَ فِي ذلِكَ الزَّمَانِ أَنَّ يَهُوذَا نَزَلَ مِنْ عِنْدِ إِخْوَتِهِ، وَمَالَ إِلَى رَجُل عَدُلاَّمِيٍّ اسْمُهُ حِيرَةُ. 2وَنَظَرَ يَهُوذَا هُنَاكَ ابْنَةَ رَجُل كَنْعَانِيٍّ اسْمُهُ شُوعٌ، فَأَخَذَهَا وَدَخَلَ عَلَيْهَا، 3فَحَبِلَتْ وَوَلَدَتِ ابْنًا وَدَعَا اسْمَهُ «عِيرًا». 4ثُمَّ حَبِلَتْ أَيْضًا وَوَلَدَتِ ابْنًا وَدَعَتِ اسْمَهُ «أُونَانَ». 5ثُمَّ عَادَتْ فَوَلَدَتْ أَيْضًا ابْنًا وَدَعَتِ اسْمَهُ «شِيلَةَ». وَكَانَ فِي كَزِيبَ حِينَ وَلَدَتْهُ.

6وَأَخَذَ يَهُوذَا زَوْجَةً لِعِيرٍ بِكْرِهِ اسْمُهَا ثَامَارُ. 7وَكَانَ عِيرٌ بِكْرُ يَهُوذَا شِرِّيرًا فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، فَأَمَاتَهُ الرَّبُّ. 8فَقَالَ يَهُوذَا لأُونَانَ: «ادْخُلْ عَلَى امْرَأَةِ أَخِيكَ وَتَزَوَّجْ بِهَا، وَأَقِمْ نَسْلاً لأَخِيكَ». 9فَعَلِمَ أُونَانُ أَنَّ النَّسْلَ لاَ يَكُونُ لَهُ، فَكَانَ إِذْ دَخَلَ عَلَى امْرَأَةِ أَخِيهِ أَنَّهُ أَفْسَدَ عَلَى الأَرْضِ، لِكَيْ لاَ يُعْطِيَ نَسْلاً لأَخِيهِ. 10فَقَبُحَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ مَا فَعَلَهُ، فَأَمَاتَهُ أَيْضًا. 11فَقَالَ يَهُوذَا لِثَامَارَ كَنَّتِهِ: «اقْعُدِي أَرْمَلَةً فِي بَيْتِ أَبِيكِ حَتَّى يَكْبُرَ شِيلَةُ ابْنِي». لأَنَّهُ قَالَ: «لَعَلَّهُ يَمُوتُ هُوَ أَيْضًا كَأَخَوَيْهِ». فَمَضَتْ ثَامَارُ وَقَعَدَتْ فِي بَيْتِ أَبِيهَا.

12وَلَمَّا طَالَ الزَّمَانُ مَاتَتِ ابْنَةُ شُوعٍ امْرَأَةُ يَهُوذَا. ثُمَّ تَعَزَّى يَهُوذَا فَصَعِدَ إِلَى جُزَّازِ غَنَمِهِ إِلَى تِمْنَةَ، هُوَ وَحِيرَةُ صَاحِبُهُ الْعَدُلاَّمِيُّ. 13فَأُخْبِرَتْ ثَامَارُ وَقِيلَ لَهَا: «هُوَذَا حَمُوكِ صَاعِدٌ إِلَى تِمْنَةَ لِيَجُزَّ غَنَمَهُ». 14فَخَلَعَتْ عَنْهَا ثِيَابَ تَرَمُّلِهَا، وَتَغَطَّتْ بِبُرْقُعٍ وَتَلَفَّفَتْ، وَجَلَسَتْ فِي مَدْخَلِ عَيْنَايِمَ الَّتِي عَلَى طَرِيقِ تِمْنَةَ، لأَنَّهَا رَأَتْ أَنَّ شِيلَةَ قَدْ كَبُرَ وَهِيَ لَمْ تُعْطَ لَهُ زَوْجَةً. 15فَنَظَرَهَا يَهُوذَا وَحَسِبَهَا زَانِيَةً، لأَنَّهَا كَانَتْ قَدْ غَطَّتْ وَجْهَهَا. 16فَمَالَ إِلَيْهَا عَلَى الطَّرِيقِ وَقَالَ: «هَاتِي أَدْخُلْ عَلَيْكِ». لأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا كَنَّتُهُ. فَقَالَتْ: «مَاذَا تُعْطِينِي لِكَيْ تَدْخُلَ عَلَيَّ؟» 17فَقَالَ: «إِنِّي أُرْسِلُ جَدْيَ مِعْزَى مِنَ الْغَنَمِ». فَقَالَتْ: «هَلْ تُعْطِينِي رَهْنًا حَتَّى تُرْسِلَهُ؟». 18فَقَالَ: «مَا الرَّهْنُ الَّذِي أُعْطِيكِ؟» فَقَالَتْ: «خَاتِمُكَ وَعِصَابَتُكَ وَعَصَاكَ الَّتِي فِي يَدِكَ». فَأَعْطَاهَا وَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَحَبِلَتْ مِنْهُ. 19ثُمَّ قَامَتْ وَمَضَتْ وَخَلَعَتْ عَنْهَا بُرْقُعَهَا وَلَبِسَتْ ثِيَابَ تَرَمُّلِهَا.

20فَأَرْسَلَ يَهُوذَا جَدْيَ الْمِعْزَى بِيَدِ صَاحِبِهِ الْعَدُلاَّمِيِّ لِيَأْخُذَ الرَّهْنَ مِنْ يَدِ الْمَرْأَةِ، فَلَمْ يَجِدْهَا. 21فَسَأَلَ أَهْلَ مَكَانِهَا قَائِلاً: «أَيْنَ الزَّانِيَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي عَيْنَايِمَ عَلَى الطَّرِيقِ؟» فَقَالُوا: «لَمْ تَكُنْ ههُنَا زَانِيَةٌ». 22فَرَجَعَ إِلَى يَهُوذَا وَقَالَ: «لَمْ أَجِدْهَا. وَأَهْلُ الْمَكَانِ أَيْضًا قَالُوا: لَمْ تَكُنْ ههُنَا زَانِيَةٌ». 23فَقَالَ يَهُوذَا: «لِتَأْخُذْ لِنَفْسِهَا، لِئَلاَّ نَصِيرَ إِهَانَةً. إِنِّي قَدْ أَرْسَلْتُ هذَا الْجَدْيَ وَأَنْتَ لَمْ تَجِدْهَا».

24وَلَمَّا كَانَ نَحْوُ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، أُخْبِرَ يَهُوذَا وَقِيلَ لَهُ: «قَدْ زَنَتْ ثَامَارُ كَنَّتُكَ، وَهَا هِيَ حُبْلَى أَيْضًا مِنَ الزِّنَا». فَقَالَ يَهُوذَا: «أَخْرِجُوهَا فَتُحْرَقَ». 25أَمَّا هِيَ فَلَمَّا أُخْرِجَتْ أَرْسَلَتْ إِلَى حَمِيهَا قَائِلَةً: «مِنَ الرَّجُلِ الَّذِي هذِهِ لَهُ أَنَا حُبْلَى!» وَقَالَتْ: «حَقِّقْ لِمَنِ الْخَاتِمُ وَالْعِصَابَةُ وَالْعَصَا هذِهِ». 26فَتَحَقَّقَهَا يَهُوذَا وَقَالَ: «هِيَ أَبَرُّ مِنِّي، لأَنِّي لَمْ أُعْطِهَا لِشِيلَةَ ابْنِي». فَلَمْ يَعُدْ يَعْرِفُهَا أَيْضًا.  أرى أن القصة واضحة وليست بحاجة إلى تعليق وبخاصة أننا لسنا بصددها ولكن كما يقال أن الشئ بالشئ يذكر .

لولا القرآن الكريم:-

كما أنهم لم يذكروا اى دليل على براءة يوسف عليه السلام  أو انه اُخذ إلي السجن ظلما لأنه بهذا يكون قد دخل السجن بسبب ما أراد أن يرتكبه من آثام "حاشاه " ثم هل الغضب فى مثل هذه الأمور ينتهي إلى السجن فحسب .

فجزاء السجن لا يتفق مع الموقف وإلا فإنما يدل على أن هذه الأمور لم يكن لدى كتبة العهد القديم  ما يدعوهم للوقوف عندها بالتوضيح مثل القرآن الكريم الذي بين بوضوح هذا الموقف ولم ينتقل القرآن الكريم للحدث التالي له إلا بعد أن تيقن الجميع من براءة يوسف عليه السلام فلم يترك الأمر غامضا للأفكار والهواجس والشياطين يسبحون فيه كيفما يشاؤن.

 ثم ماذا عن المجتمع والنسوة المجاورين لهم هل مر الحدث عليهم  مرور الكرام أم أنهم كانوا يعيشون منفصلين عن العالم  بل وأين من كانت تشكو إليهم قبل مجئ زوجها ؟

 ألم تعلق النسوة والجيران على الحدث ؟ فلم يقدم لنا كتبة العهد القديم  تصورا عن المجتمع ثم أين يوسف عليه السلام ولما لم يتحدث ويدافع عن نفسه. كما أنهم  لم يذكروا أن يوسف عليه السلام  تذكر الرب جل وعلا فى هذه اللحظة مع أن الله سبحانه وتعالى  بارك له فى كل شئ ألا يستحق جل وعلا  أن يذكره يوسف عليه السلام  أو أن يدعوه ليخلصه مما هو فيه .مع أنهم دائما يذكرون أن الرب معه وباركه وبسط إليه لطفا ونعمه .

21وَلكِنَّ الرَّبَّ كَانَ مَعَ يُوسُفَ، وَبَسَطَ إِلَيْهِ لُطْفًا، وَجَعَلَ نِعْمَةً لَهُ فِي عَيْنَيْ رَئِيسِ بَيْتِ السِّجْنِ. 22فَدَفَعَ رَئِيسُ بَيْتِ السِّجْنِ إِلَى يَدِ يُوسُفَ جَمِيعَ الأَسْرَى الَّذِينَ فِي بَيْتِ السِّجْنِ. وَكُلُّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ هُنَاكَ كَانَ هُوَ الْعَامِلَ. 23وَلَمْ يَكُنْ رَئِيسُ بَيْتِ السِّجْنِ يَنْظُرُ شَيْئًا الْبَتَّةَ مِمَّا فِي يَدِهِ، لأَنَّ الرَّبَّ كَانَ مَعَهُ، وَمَهْمَا صَنَعَ كَانَ الرَّبُّ يُنْجِحُهُ

 وللمرة الثانية أرادوا أن يبينوا لأبنائهم أنهم إذا حلوا بمكان عليهم أن يستحوذوا على ما فيه  وأن يتجاهلوا أهله بكل السبل وأن يجعلوا صاحب المكان لا علم له بما يحدث .فما علاقة أن يدفع رئيس السجن الأسرى إلى يد يوسف عليه السلام ,ألم يكن سجينا مثلهم ؟ وما معنى أن يقوم بأعمالهم وخدمتهم ؟ هل ليكون هو كل شئ ؟ أم ليكون عالما بكل تحركاتهم ؟

ومن المعلوم أن يدور بين من بداخل أي مكان وخاصة السجن حوار وأن يسال كل منهم الأخر عن سبب سجنه فيا ترى هل سالوا يوسف عليه السلام عن سبب سجنه ؟ وبماذا أجابهم ؟ فهل قال الحقيقة أم ظل صامتا ؟ وكيف وثقوا به ؟ إذن لولا القرآن الكريم لظل الناس يظنون فى يوسف الظنونا . فالحمد لله رب العالمين الذي حفظ القرآن الكريم وحفظ فيه سير الأنبياء العظماء ليكون لنا فيهم القدوة الحسنة .

فهيا نعود إلى القرآن الكريم سريعا لنبين ما أخفاه بنوا إسرائيل إما عمدا وإما جهلا وصدق الحق حين قال {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ }المائدة15 صدق ربنا سبحانه وتعالى حين قال {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ }يوسف3

السجن أحب إلى الأنبياء من ......

فهيا بنا نتابع ما حدث لأنه لم بكن يوسف وبيت العزيز وحدهم في الدنيا بل إن هناك مجتمع ولعل المجاورين لهم  سمعوا بما حدث فماذا كان رأيهم وما هي نظرتهم للموقف  وماذا حدث من امرأة العزيز حين تعلم بحديث النسوة أو المجاورين لها ؟

{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا  فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ }يوسف30- 32   

{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ }يوسف33- 35

{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ }فمن أين علمت النسوة ؟ لا شك انه حين جاء العزيز لم يأت بمفرده , ومن ثم فإن من معه لابد أن يكونوا قد نقلوا إلى أسرهم ما حدث .إلا أن القرآن الكريم  ينأ   عن الحديث عما يفهمه القارئ ليعطى القارئ فرصة للتفكير والتصور  .

أما عن " شَغَفَهَا حُبّاً " فإن له أكثر من معنى الأول : ربما أصابتهن الدهشة فتسألن: كيف لامرأة مثلها وفى مكانتها أن تقع فى هذا الأمر؟ و الثاني :  إما أن تكن لديهن رغبة في رؤية هذا الشاب فقلن تلك الكلمة لتصل إلى امرأة العزيز فتستدعيهن إليها في القصر ليرين بأنفسهن هذا الشاب الذي أخذ بلب وقلب امرأة العزيز.

وهذا ما وصل إلى فهم امرأة العزيز ويبدوا أنها كانت على قدر من الدهاء والذكاء{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } يوسف31

فدبرت لهن مكيدة لم تخطر لهن على بال فهي أدرى ببنات جنسها وفيما يفكرن وظهر مكرها  ودهائها في أكثر من موضع. فأعدت لهن متكئا ومجلسا مريحا وأعطت كل واحدة منهن طبقا وسكينا ليقطعن ما سيأتي إليهن من طعام فهن في بيت الأمراء فلابد أن هناك طعاما خاصا يحتاج في أكله إلى أن يقطع إلى قطع صغيرة  وحتى لا ينكرن وجود هذه الآلات الحادة . ولكن كان لامرأة العزيز هدفا أخر أرادت أن تلقنهن درسا غاليا .

 فليس من رأى كمن سمع  فهاهن وبعد قليل سيرين هذا الشاب الجميل صاحب الخلق الكريم الذي آبى أن يستسلم لإغرات امرأة العزيز , فيا ترى كيف سيكون تصرفهن حين تقع أعينهن لأول مرة على رجل بهذا القدر من الجمال  المصحوب بالأدب والأخلاق الرفيعة  وهيبة الأنبياء وعظمتهم ؟    

كما أنها في الأغلب حين استدعت النسوة كان في داخل حجرات القصر و أجلستهن في مكان مغلق حتى لا يشغل بالهن شئ إلا أن يرين طلعة هذا الشاب الكريم وكذلك ليكون انسب للبساط والمتكئات ودليل ذلك أنها قالت {اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} فكلمة {اخْرُجْ} تدل على أنها احتجزته داخل القصر ليتشوقن أكثر فأكثر .وكلمة {عَلَيْهِنَّ} تدل على أن طلعة يوسف عليه السلام كإطلال القمر.

 وقد كان فلما خرج يوسف عليه السلام وأطل عليهن فإذا بهن وقد اخذ جماله عليه السلام بقلوبهن وأصبحن في حالة اللاوعى حتى أنهن لم يشعرن بأنفسهن{وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} فلك أن تتخيل كيف انتصرت امرأة العزيز لنفسها واستطاعت وبالتجربة أن  تسد أفواه النسوة فلن يعدن لمثل هذا الحديث مرة أخرى فهن لمجرد رؤيته مرة واحدة بمكر امرأة العزيز أحدثت لهن عاهة مستديمة لن تنساها النسوة أبدا  .

هيبة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم :-

ولقد عبر القرآن الكريم عن الموقف بمنتهى الروعة والدقة فقال جل وعلا {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ }يوسف31

وكلمة {أَكْبَرْنَهُ} من الكلمات الرائعة والتي تحمل في طياتها أعلى معاني الإعجاب والتقدير والاحترام والهيبة ولنقرب المسالة إلى الأذهان نذكر ما قاله أبرهة لعبد المطلب جد المعصوم صلى الله عليه وسلم فيروى ابن هشام :‏ أن أبرهة بن الصباح الحبشى، النائب العام عن النجاشى على اليمن، لما رأي العرب يحجون الكعبة بني كنيسة كبيرة بصنعاء، وأراد أن يصرف حج العرب إليها، وسمع بذلك رجل من بني كنانة، فدخلها ليلًا فلطخ قبلتها بالعذرة‏.‏ ولما علم أبرهة بذلك ثار غيظه، وسار بجيش عرمرم ـ عدده ستون ألف جندى ـ إلى الكعبة ليهدمها، واختار لنفسه فيلا من أكبر الفيلة، وكان في الجيش 9 فيلة أو 13 فيلا، وواصل سيره حتى بلغ المُغَمَّس، وهناك عبأ جيشه وهيأ فيله، وتهيأ لدخول مكة .

وأرسل سرايا لتأخذ ما تجده في طريقها ليعلم أهل مكة بقدومه فيستسلموا له دون قتال . وكان مما استاقوه  أمامهم مائتي بعير لعبد المطلب جد المعصوم صلى الله عليه وسلم فذهب إليه  فلما رآه أبرهة استعظمه وقام واقفا له إجلالا وإكبارا إلا أن عبد لمطلب رأى أن أبرهة اقل  من أن يحدثه في أمر الكعبة فقال له عبد المطلب : رد علي إبلي :

فقال له أبرهة : لقد أكبرتك حين رأيتك وتعلم أنى جئت لهدم بيتكم الذي فيه عزكم  وفخركم وتسألني عن الإبل فقال عبد المطلب قولته المشهورة  فأنا رب الإبل أما البيت فله رب يحميه فقال أبرهة ما كان ليمنعه منى قال عبد المطلب : أنت وذاك .

 فلما كان في وادي مُحَسِّر بين المزدلفة ومنى برك الفيل، ولم يقم ليقدم إلى الكعبة، وكانوا كلما وجهوه إلى الجنوب أو الشمال أو الشرق يقوم يهرول، وإذا صرفوه إلى الكعبة برك، فبيناهم كذلك إذ أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول‏.‏ وكانت الطير أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كل طائر ثلاثة أحجار؛ حجر في منقاره، وحجران في رجليه أمثال الحمص، لا تصيب منهم أحدًا إلا صارت تتقطع أعضاؤه وهلك، وليس كلهم أصابت، وخرجوا هاربين يموج بعضهم في بعض، فتساقطوا بكل طريق وهلكوا على كل منهل، وأما أبرهة فبعث الله عليه داء تساقطت بسببه أنامله، ولم يصل إلى صنعاء إلا وهو مثل الفرخ، وانصدع صدره عن قلبه ثم هلك‏.‏

{إن كيدهن عظيم }

ونعود لامرأة العزيز فلما تأكد لديها بغريزتها أن النسوة ما قلن ما سبق إلا لأنهن يردن رؤية يوسف عليه السلام هنا ولأمر أراده الله جل وعلا , ألا وهو : أن الحق سبحانه وتعالى قد يجعل العبد يصل بصلفه وغروره إلى الاعتراف بما أقدم عليه ظنا منه أنها الجرأة والقوة .وفى هذا المعنى يقول تعالى {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ }الرعد13

 وهذا ما حدث لامرأة العزيز ؛ ففي وسط هذه النشوة الغامرة أسفرت عما بداخلها فـــ{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ }  الله اكبر وهذا هو المراد ليسمع من معها ولتسمع النسوة ومن بالقصر براءة يوسف عليه السلام مما ألصقته به أنفا  ولكنها عقبت بما يدل على أن رغبتها لم تنطفئ بعد وأصرت على أن تنل منه ما تريد فقالت     { وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ }يوسف32 سبحان الله  قدمت الحل ليوسف عليه السلام وهى تريد  له الهلاك وهذا لا يستنبطه إلا قليل من الناس ممن منّ الله جل وعلا عليهم بالفهم والقلب السليم .

فعلى الفور اتجه إلى ربه سبحانه وتعالى و{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ }يوسف33  وهنا سؤال ما الذي دفع بيوسف عليه السلام أن يدخل النسوة في الأمر؟ والمتوعدة هي امرأة العزيز؟ نقول وهل بعد تقطيع الأيدي من حجة ؟

فلابد أن يوسف عليه السلام رأى منهن مالا يطمئن. فهن إن اجتمعن مع امرأة العزيز فبعدما كانت امرأة واحدة تدبر وتكيد فستجتمع إليها أقرانها ليدبرن ويكدن ليوسف عليه السلام   وهو عليه السلام لم يخلق لهذا اللهو والعبث إنما خلق لرسالة أخرى وقضية أهم ؛ وهى إعلام من حوله من عبدة الأوثان أن للكون رب يدبر أمره , عالم بما فيه , ويُجرى كل شئ بقدر. فما كان ليوسف أن يبلغ تلك الرسالة وهو بين نسوة لا شغل لهن إلا الغمز واللمز .

 ولصدقه في دعائه ورغبته الحقيقية في الابتعاد عنهن صرف عنه الحق جل وعلا كيد النساء     بما فيهن امرأة العزيز وجعل أصحاب الرأي يرون أنه لا حل لهذه القضية إلا بإدخال يوسف عليه السلام السجن مع أنهم متأكدون من برأته بعد الأدلة التي ذكرناه والتي لا تخفى على احد ولابد أنهم فهموها وأدركوها جيدا وأدركوا أن الخطورة ليست من جانب يوسف عليه السلام  وإنما من جانبهم هم فماذا إذن فهل يقومون بعزل نساء المجتمع ويلقين بهن في السجن أم يلقون بيوسف عليه السلام في السجن ؟

براءة يوسف عليه السلام:-

فعلى الأقل هو اخف وطأة ولن يترتب على دخوله السجن مشاكل لهم بخلاف إن ألقوا بالنسوة في السجن ولذا بين القرآن الكريم هذا الموقف{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ } يوسف34- 35

أي بعدما تبين لهم أدلة برأته والتي كان ينبغي معها إكرامه والثناء عليه  ومع هذا ادخلوه السجن . يا سبحان الله

 ومن ينظر إلى السياقات السابقة يرى عجبا فيرى القرآن الكريم وقد مر على بعض الأحداث مرور الكرام وأحداثا أخرى وقف عندها بالتفصيل لأن القرآن الكريم وكما قلنا من قبل كل شئ عنده بمقدار فما يفهمه القارئ دون أن يختل المعنى فلا داعي لذكره لان القرآن الكريم يرفض أن يقدم حشوا زائدا لا ضرورة له.

أما إذا كان فيه درس وعبرة فنجد القرآن الكريم يقدمه وبالتوضيح حسما للطامعين وردعا للمضلين  فالحق جل وعلا يعلم أن الأمر لن ينتهي إلا بدخول يوسف عليه السلام السجن لأن هذا أمر بديهي لمن كان له قلب لماذا ؟ لأن العزيز ومن معه أدركوا أن يوسف عليه السلام برئ فقد كان الخطر متوقفا عند امرأة العزيز أما وقد تحركت النسوة فقد يحدث مالا يحمد عقباه فهل نحجب النسوة وفكرهن ؟

فهذا غير مستطاع أم أن نحجب يوسف عليه السلام وهو فرد واحد وهو فى نهاية الأمر إنسان على دين وخلق وسيقدر خطورة الموقف ثم شاء الله جل وعلا أن لا يدخل يوسف السجن وهناك أدنى شبهه ضده .

فرأينا امرأة العزيز سافرة وهى تعبر عن رغبتها على مرأى ومسمع من الجميع ومن ثم لم        تجد امرأة العزيز حرجا فى أن تقول وتعلن عن رغبتها دون حياء فـ{ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ } يوسف32

فوجدنا بفضل الله العديد من الأدلة على براءة يوسف عليه السلام

أولا : قول يوسف غليه السلام كما حكى القرآن  {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي }

ثانيا: شهادة الرجل كما أوردها القرآن الكريم { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ } يوسف26- 27

ثالثا : واهم من ذلك والذي أراده القرآن الكريم والدرس المستفاد من حضور النسوة هو أن جعل الحق سبحانه وتعالى غرور المراة يدفعها في الاعتراف بأنها هي التي دعت يوسف عليه السلام وانه آبى اشد الإباء فــ{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ }يوسف32الله اكبر حقا إن الله جل وعلا شديد المحال

 أرأيت أن كل شي في القرآن الكريم إنما جاء لحكمة وموعظة ودرس مستفاد ومن ثم حين رأى يوسف عليه السلام أن ما حل بالنسوة أمرا غير محمود العواقب ومن يدرى فكما قطعن أيديهن دون أن يدرين لمجرد رؤيته مرة واحدة فماذا لو طلبن من امرأة العزيز مجاورتها فى القصر حتى لا يحرمن من رؤية هذا الملاك وربما يدبرن مع امرأة العزيز ما يعجز فيما بعد عن إثبات براءته بسهولة وبخاصة إن كيدهن عظيم وليس هذا فحسب بل إنها أعلنتها دون حرج أو حياء بأنه إن ظل يوسف على اعتصامه وتدينه وتمسكه بالمبادئ فسيتعرض للعذاب المهين إما السجن وإما أن يكون من الصاغرين.

 وصدق المعصوم حين قال " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذ لم تستح فأصنع ما شئت " ودون أن تدرى قدمت ليوسف الحل فحين سمع كلمة السجن فبه ونعم ففي السجن سيختلي بربه جل وعلا وسيقابل أناسا مظلومين وآخرين ظالمين فقد يعظ الظالمين ويعلمهم أن السجن قد يطهرهم من الذنوب , ويواسى المظلومين  ويخبرهم بان بالابتلات يرفع الله درجات عباده  فيعلمهم الصبر وان الله جل وعلا يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب فالسجن أهون ألف مرة من مصاحبة ومجالسة الأشرار.

 الم ينصح العالم الجليل  الرجل الذي قتل مائة نفس بأن يترك بلده فإنها بلد سوء وأن يذهب إلى بلد كذا فإن بها رجالا صالحين يعبدون الله وقد كانت فاتحة خير عليه فمات الرجل فى الطريق فدخل الجنة بنيته الحسنة ورغبته فى التوبة .

 فالسجن أهون من الاغتراب فقد تغرب يوسف مرة فإلى أين يذهب ثانية ؟ ثم إن هناك مهمة أخرى من اجلها  جاء به الحق جل وعلا إلى مصر ولن يقم بها غيره  فإذا به يقول لربه جل وعلا {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ }يوسف33

وسبحان الله القائل وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة216لنتعلم العفاف وليصير أصحاب الابتلاءات لقول المعصوم للشباب " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فانه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع  فعليه بالصوم فانه له وجاء .

 العفاف من الفطرة السليمة :-

وليس الأنبياء فحسب بل رأينا هند  بنت عتبة وهى من هي في العداوة والانتقام قبل الإسلام  واكبر دليل على قسوتها أنها دبرت لقتل سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم بل ومزقت جسده وقطعت انفه وأذنه وكادت تأكل كبده فلم تستسيغه  ومع كل هذه العداوة حين من الله جل وعلا عليها بالإسلام يوم فتح مكة واخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها وغيرها من النسوة العهد فكان مما قال لهن :  أن لا يشركن بالله شيئا ولا يقتلن أولادهن  وحين قال صلى الله عليه وسلم ولا يزنين فقالت هند :أو تزني الحرة ؟

  ونصح الإمام الشافعي الأمة بأبيات رائعة أراد أن ينبه فيها أن الإنسان الذي يعف نفسه عن الفواحش  هو إنسان رابح لأنه عف نفسه وحمى أهله كذلك روحه وجسده من النيران ولم يقدم معصية أو ذنبا يدفع من بعده من أهله  ثمنه فيكون العار والذنب مرتين فقال

       عفوا تعف نساءكم فى المحرم            وتجنبوا مالا يليق بمسلم

       من يزني في بيت بالفى درهم          في بيته يزني بغير الدرهم

       من يزني يزني به ولو بجداره          إن كنت يا هذا لبيبا فافهم

       إن الزنا دين فان أقرضته          كان الوفي من أهل بيتك فاعلم

      يا هاتكا ستر الرجال وقاطعا       سبيل المودة عشت غير مكرم

      لو كنت حرا من سلالة طاهر      ما كنت هتاك لعرضة مسلم

فماذا حدث لسيدنا يوسف عليه السلام في السجن هذا ما نتعرف عليه فى الباب التالي

7-تنبؤات يعقوب

1وَدَعَا يَعْقُوبُ بَنِيهِ وَقَالَ: «اجْتَمِعُوا لأُنْبِئَكُمْ بِمَا يُصِيبُكُمْ فِي آخِرِ الأَيَّامِ. 2اجْتَمِعُوا وَاسْمَعُوا يَا بَنِي يَعْقُوبَ، وَاصْغَوْا إِلَى إِسْرَائِيلَ أَبِيكُمْ:

 3رَأُوبَيْنُ، أَنْتَ بِكْرِي، قُوَّتِي وَأَوَّلُ قُدْرَتِي، فَضْلُ الرِّفْعَةِ وَفَضْلُ الْعِزِّ. 4فَائِرًا كَالْمَاءِ لاَ تَتَفَضَّلُ، لأَنَّكَ صَعِدْتَ عَلَى مَضْجَعِ أَبِيكَ. حِينَئِذٍ دَنَّسْتَهُ. عَلَى فِرَاشِي صَعِدَ.

 5شِمْعُونُ وَلاَوِي أَخَوَانِ، آلاَتُ ظُلْمٍ سُيُوفُهُمَا. 6فِي مَجْلِسِهِمَا لاَ تَدْخُلُ نَفْسِي. بِمَجْمَعِهِمَا لاَ تَتَّحِدُ كَرَامَتِي. لأَنَّهُمَا فِي غَضَبِهِمَا قَتَلاَ إِنْسَانًا، وَفِي رِضَاهُمَا عَرْقَبَا ثَوْرًا. 7مَلْعُونٌ غَضَبُهُمَا فَإِنَّهُ شَدِيدٌ، وَسَخَطُهُمَا فَإِنَّهُ قَاسٍ. أُقَسِّمُهُمَا فِي يَعْقُوبَ، وَأُفَرِّقُهُمَا فِي إِسْرَائِيلَ.

8يَهُوذَا، إِيَّاكَ يَحْمَدُ إِخْوَتُكَ، يَدُكَ عَلَى قَفَا أَعْدَائِكَ، يَسْجُدُ لَكَ بَنُو أَبِيكَ. 9يَهُوذَا جَرْوُ أَسَدٍ، مِنْ فَرِيسَةٍ صَعِدْتَ يَا ابْنِي، جَثَا وَرَبَضَ كَأَسَدٍ وَكَلَبْوَةٍ. مَنْ يُنْهِضُهُ؟ 10لاَ يَزُولُ قَضِيبٌ مِنْ يَهُوذَا وَمُشْتَرِعٌ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ شِيلُونُ وَلَهُ يَكُونُ خُضُوعُ شُعُوبٍ. 11رَابِطًا بِالْكَرْمَةِ جَحْشَهُ، وَبِالْجَفْنَةِ ابْنَ أَتَانِهِ، غَسَلَ بِالْخَمْرِ لِبَاسَهُ، وَبِدَمِ الْعِنَبِ ثَوْبَهُ. 12مُسْوَدُّ الْعَيْنَيْنِ مِنَ الْخَمْرِ، وَمُبْيَضُّ الأَسْنَانِ مِنَ اللَّبَنِ.

 13زَبُولُونُ، عِنْدَ سَاحِلِ الْبَحْرِ يَسْكُنُ، وَهُوَ عِنْدَ سَاحِلِ السُّفُنِ، وَجَانِبُهُ عِنْدَ صَيْدُونَ.

14يَسَّاكَرُ، حِمَارٌ جَسِيمٌ رَابِضٌ بَيْنَ الْحَظَائِرِ. 15فَرَأَى الْمَحَلَّ أَنَّهُ حَسَنٌ، وَالأَرْضَ أَنَّهَا نَزِهَةٌ، فَأَحْنَى كَتِفَهُ لِلْحِمْلِ وَصَارَ لِلْجِزْيَةِ عَبْدًا.

 16دَانُ، يَدِينُ شَعْبَهُ كَأَحَدِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ. 17يَكُونُ دَانُ حَيَّةً عَلَى الطَّرِيقِ، أُفْعُوانًا عَلَى السَّبِيلِ، يَلْسَعُ عَقِبَيِ الْفَرَسِ فَيَسْقُطُ رَاكِبُهُ إِلَى الْوَرَاءِ. 18لِخَلاَصِكَ انْتَظَرْتُ يَا رَبُّ.

19جَادُ، يَزْحَمُهُ جَيْشٌ، وَلكِنَّهُ يَزْحَمُ مُؤَخَّرَهُ.

20أَشِيرُ، خُبْزُهُ سَمِينٌ وَهُوَ يُعْطِي لَذَّاتِ مُلُوكٍ.

21نَفْتَالِي، أَيِّلَةٌ مُسَيَّبَةٌ يُعْطِي أَقْوَالاً حَسَنَةً.

22يُوسُفُ، غُصْنُ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ، غُصْنُ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ عَلَى عَيْنٍ. أَغْصَانٌ قَدِ ارْتَفَعَتْ فَوْقَ حَائِطٍ. 23فَمَرَّرَتْهُ وَرَمَتْهُ وَاضْطَهَدَتْهُ أَرْبَابُ السِّهَامِ. 24وَلكِنْ ثَبَتَتْ بِمَتَانَةٍ قَوْسُهُ، وَتَشَدَّدَتْ سَوَاعِدُ يَدَيْهِ. مِنْ يَدَيْ عَزِيزِ يَعْقُوبَ، مِنْ هُنَاكَ، مِنَ الرَّاعِي صَخْرِ إِسْرَائِيلَ، 25مِنْ إِلهِ أَبِيكَ الَّذِي يُعِينُكَ، وَمِنَ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ الَّذِي يُبَارِكُكَ، تَأْتِي بَرَكَاتُ السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَبَرَكَاتُ الْغَمْرِ الرَّابِضِ تَحْتُ. بَرَكَاتُ الثَّدْيَيْنِ وَالرَّحِمِ.

 26بَرَكَاتُ أَبِيكَ فَاقَتْ عَلَى بَرَكَاتِ أَبَوَيَّ. إِلَى مُنْيَةِ الآكَامِ الدَّهْرِيَّةِ تَكُونُ عَلَى رَأْسِ يُوسُفَ، وَعَلَى قِمَّةِ نَذِيرِ إِخْوَتِهِ. 27بَنْيَامِينُ ذِئْبٌ يَفْتَرِسُ. فِي الصَّبَاحِ يَأْكُلُ غَنِيمَةً، وَعِنْدَ الْمَسَاءِ يُقَسِّمُ نَهْبًا».

28جَمِيعُ هؤُلاَءِ هُمْ أَسْبَاطُ إِسْرَائِيلَ الاثْنَا عَشَرَ. وَهذَا مَا كَلَّمَهُمْ بِهِ أَبُوهُمْ وَبَارَكَهُمْ. كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ بَرَكَتِهِ بَارَكَهُمْ. 29وَأَوْصَاهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: «أَنَا أَنْضَمُّ إِلَى قَوْمِي. اِدْفِنُونِي عِنْدَ آبَائِي فِي الْمَغَارَةِ الَّتِي فِي حَقْلِ عِفْرُونَ الْحِثِّيِّ.

 30فِي الْمَغَارَةِ الَّتِي فِي حَقْلِ الْمَكْفِيلَةِ، الَّتِي أَمَامَ مَمْرَا فِي أَرْضِ كَنْعَانَ، الَّتِي اشْتَرَاهَا إِبْرَاهِيمُ مَعَ الْحَقْلِ مِنْ عِفْرُونَ الْحِثِّيِّ مُلْكَ قَبْرٍ. 31هُنَاكَ دَفَنُوا إِبْرَاهِيمَ وَسَارَةَ امْرَأَتَهُ. هُنَاكَ دَفَنُوا إِسْحَاقَ وَرِفْقَةَ امْرَأَتَهُ، وَهُنَاكَ دَفَنْتُ لَيْئَةَ.

 32شِرَاءُ الْحَقْلِ وَالْمَغَارَةِ الَّتِي فِيهِ كَانَ مِنْ بَنِي حِثَّ». 33وَلَمَّا فَرَغَ يَعْقُوبُ مِنْ تَوْصِيَةِ بَنِيهِ ضَمَّ رِجْلَيْهِ إِلَى السَّرِيرِ، وَأَسْلَمَ الرُّوحَ وَانْضَمَّ إِلَى قَوْمِهِ

هذا ما أوصى به نبي الله يعقوب بنيه من العهد القديم ونحن نشهد الله انه برئ من هذه الإتهامات الباطلة لأنه لا يليق بنبي كريم مثله وهو في أخر حياته أن يوصى ابناءه بمثل هذه الترهات. ولكنها أوهام الصهاينة وأعوانهم من النصارى الصليبين لأنه وبمنتهى البساطة إن كانت هذه هي وصايا الأنبياء فلا حرج إذن على عوام الناس إن يرتكبوا المذابح والقتل والسرقة ليل نهار .

وهذا ما يفسر لنا النهم الفظيع الذي نجده عند الصهاينة وأعوانهم الصليبين فهم انما سجلوا هذه الترهات في كتبهم والصقوها زورا وبهتانا بنبي الله يعقوب ليظن ابناءهم انها دستورا لا ينبغي أن يحيدون عنه قيد انملة .

ولذا نحن نناشد اليهود والمسيحين ومن يتبعهم من عوام المسلمين أن يعيدوا النظر كرة بعد كرة وليحمدوا الله رب العالمين أن أرسل إلينا محمد صلى الله عليه وسلم وأن أنزل عليه خيركتبه ؛ بل وتولى سبحانه وتعالى حفظه لأنه لولم يكن لدينا القرآن الكريم ربما كنا صدقناهم فيما يزعمون ولكن الحمد لله .

أما بالنسبة لنبؤات سيدنا يعقوب من القرآن الكريم فكانت كالتالي :

ونحن إذ نتحدث عن نبي الله يعقوب بهذه الطريقة فنحن لا نزايد عليه ؛ انما هو حقه فهو نبي كريم ابن نبي كريم وحفيد نبي كريم و هو نبي الله إبراهيم عليه السلام  الذي حكى عنه القرآن الكريم أنه كان مثالا في الإلتزام والطاعة وفي هذا يقول القرآن الكريم {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}. والإسلام في كلام العرب : الخضوع والإنقياد . وليس كل إسلام إيمانا ، وكل إيمان إسلام ، لأن من آمن بالله فقد استسلم وانقاد لله. وليس كل من أسلم آمن بالله .

وأن من ليس بمسلم فليس بمؤمن. ودليلنا قوله تعالى : {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات : 14] الآية. فأخبر الله تعالى أنه ليس كل من أسلم مؤمنا ، فدل على أنه ليس كل مسلم مؤمنا .

 وقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص لما قال له : اعط فلانا فإنه مؤمن ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أو مسلم" الحديث ، خرجه مسلم ، فدل على أن الإيمان ليس الإسلام ، فإن الإيمان باطن ، والإسلام ظاهر ، وهذا بين. وقد يطلق الإيمان بمعنى الإسلام ، والإسلام ويراد به الإيمان ، للزوم أحدهما الآخر وصدوره عنه ، كالإسلام الذي هو ثمرة الإيمان ودلالة على صحته ، فاعلمه.
{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}

قوله تعالى : {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ} أي بالملة ، وقيل : بالكلمة التي هي قوله : {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} "ويعقوب" عطف عليه ، والمعنى : وأوصى يعقوب وقال يا بني إن الله اصطفى لكم الدين ، فيكون إبراهيم قد وصى بنيه ، ثم وصى بعده يعقوب بنيه.
"بنيه" وهو بعيد ، لأن يعقوب لم يكن فيما بين أولاد إبراهيم لما وصاهم ، ولم ينقل أن يعقوب أدرك جده إبراهيم ، وإنما ولد بعد موت إبراهيم ، وأن يعقوب أوصى بنيه أيضا كما فعل إبراهيم.
قال الكلبي : لما دخل يعقوب إلى مصر رآهم يعبدون الأوثان والنيران والبقر ، فجمع ولده وخاف عليهم وقال : ما تعبدون من بعدي ؟
عاش عليه السلام مائة وسبعا وأربعين سنة ومات بمصر ، وأوصى أن يحمل إلى الأرض المقدسة ، ويدفن عند أبيه إسحاق ، فحمله يوسف ودفنه عنده.
قوله تعالى : {يَا بَنِي إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى } أي : اختار. {لَكُمُ الدِّينَ} أي الإسلام ، والألف واللام في "الدين" للعهد ، لأنهم قد كانوا عرفوه. {فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} إيجاز بليغ. والمعنى : الزموا الإسلام ودوموا عليه ولا تفارقوه حتى تموتوا. فأتى بلفظ موجز يتضمن المقصود ، ويتضمن وعظا وتذكيرا بالموت ، وذلك أن المرء يتحقق أنه يموت ولا يدري متى ، فإذا أمر بأمر لا يأتيه الموت إلا وهو عليه ،. {إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ابتداء وخبر في موضع الحال ، أي محسنون بربكم الظن ، وقيل مخلصون ، وقيل مفوضون ، وقيل مؤمنون.
{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}
قوله تعالى : {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ}. والخطاب لليهود والنصارى الذين ينسبون إلى إبراهيم ما لم يوص به بنيه ، وأنهم على اليهودية والنصرانية ، فرد الله عليهم قولهم وكذبهم .

 وقال لهم على جهة التوبيخ : أشهدتم يعقوب وعلمتم بما أوصى فتدعون عن علم ، أي لم تشهدوا ، بل أنتم تفترون. و"أم" بمعنى بل ، أي بل أشهد أسلافكم يعقوب. والعامل في "إذ" الأولى معنى الشهادة ، و"إذ" الثانية بدل من الأولى. و"شهداء" جمع شاهد أي حاضر.

ومعنى {ذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} أي مقدماته وأسبابه ، وإلا فلو حضر الموت لما أمكن أن يقول شيئا. وعبر عن المعبود "ب "ما" ولم يقل من ، لأنه أراد أن يختبرهم ، ولو قال "من" لكان مقصوده أن ينظر من لهم الاهتداء منهم ، وإنما أراد تجربتهم فقال "ما". وأيضا فالمعبودات المتعارفة من دون الله جمادات كالأوثان والنار والشمس والحجارة .

 فاستفهم عما يعبدون من هذه. ومعنى {مِنْ بَعْدِي} أي من بعد موتي. وحكي أن يعقوب حين خير كما تخير الأنبياء اختار الموت وقال : أمهلوني حتى أوصي بني وأهلي ، فجمعهم وقال لهم هذا ، فاهتدوا وقالوا : {نَعْبُدُ إِلَهَكَ} الآية. فأروه ثبوتهم على الدين ومعرفتهم بالله تعالى.

قوله تعالى : {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ}  وسمى الله كل واحد من العم والجد أبا ، وبدأ بذكر الجد ثم إسماعيل العم لأنه أكبر من إسحاق. قوله تعالى : {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ابتداء وخبر ، ويحتمل أن يكون في موضع الحال والعامل "نعبد".
{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قوله تعالى : {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} "تلك" مبتدأ ، و"أمة" خبر ، "قد خلت" نعت لأمة ، وإن شئت كانت خبر المبتدأ ، وتكون "أمة" بدلا من "تلك". {لَهَا مَا كَسَبَتْ} "ما" في موضع رفع بالابتداء "ولكم ما كسبتم" مثله ، يريد من خير وشر.

وفي هذا دليل على أن العبد يضاف إليه أعمال وأكساب ، وإن كان الله تعالى أقدره على ذلك ، إن كان خيرا فبفضله وإن كان شرا فبعدله ، وهذا مذهب أهل السنة ،
قوله تعالى : {وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي لا يؤاخذ أحد بذنب أحد ، مثل قوله تعالى : {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام : 164] أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى
{وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
قوله تعالى : {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} دعت كل فرقة إلى ما هي عليه ، فرد الله تعالى ذلك عليهم فقال : {بَلْ مِلَّةَ} أي قل يا محمد : بل نتبع ملة ، فلهذا نصب الملة. وقيل : المعنى بل نهتدي بملة إبراهيم . و"حنيفا" مائلا عن الأديان المكروهة إلى الحق دين إبراهيم .
{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}
قوله تعالى : {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} خرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل" الآية. وقال محمد بن سيرين : إذا قيل لك أنت مؤمن ؟ فقل : {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} الآية.

 وسئل بعض المتقدمين عن رجل قيل له : أتؤمن بفلان النبي ، فسماه باسم لم يعرفه ، فلو قال نعم ، فلعله لم يكن نبيا ، فقد شهد بالنبوة لغير نبي ، ولو قال لا ، فلعله نبي ، فقد جحد نبيا من الأنبياء ، فكيف يصنع ؟ فقال : ينبغي أن يقول : إن كان نبيا فقد آمنت به. والخطاب في هذه الآية لهذه الأمة ، علمهم الإيمان.

قال ابن عباس : جاء نفر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الأنبياء ، فنزلت الآية. فلما جاء ذكر عيسى قالوا : لا نؤمن بعيسى ولا من آمن به
{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ}
والأسباط : ولد يعقوب عليه السلام ، وهم اثنا عشر ولدا ، ولد لكل واحد منهم أمة من الناس ، واحدهم سبط. والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد إسماعيل. وسموا الأسباط من السبط وهو التتابع ، فهم جماعة متتابعون.

حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة : نوحا وشعيبا وهودا وصالحا ولوطا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمدا صلى الله عليه وسلم ولم يكن أحد له اسمان إلا عيسى ويعقوب. والسبط : الجماعة والقبيلة الراجعون إلى أصل واحد. {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} قال الفراء : أي لا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم كما فعلت اليهود والنصارى.

{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
قوله تعالى : {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته. المعنى : فإن آمنوا مثل إيمانكم ، وصدقوا مثل تصديقكم فقد اهتدوا ، فالمماثلة وقعت بين الإيمانين ، وقيل : إن الباء زائدة مؤكدة. وكان ابن عباس يقرأ فيما حكى الطبري : "فإن آمنوا بالذي آمنتم به فقد اهتدوا" وهذا هو معنى القراءة وإن خالف المصحف ، "فمثل" زائدة كما هي في قوله : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى : 11] أي ليس كهو شيء. وروى بقية حدثنا شعبة عن أبي حمزة عن ابن عباس قال : لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فإن الله ليس له مثل ، ولكن قولوا : بالذي آمنتم به

 والمعنى : أي فإن آمنوا بنبيكم وبعامة الأنبياء ولم يفرقوا بينهم كما لم تفرقوا فقد اهتدوا ، وإن أبوا إلا التفريق فهم الناكبون عن الدين إلى الشقاق {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ}

قوله تعالى : {وَإِنْ تَوَلَّوْا} أي عن الإيمان {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} قال زيد بن أسلم : الشقاق المنازعة. وقيل : الشقاق المجادلة والمخالفة والتعادي. وأصله من الشق وهو الجانب ، فكأن كل واحد من الفريقين في شق غير شق صاحبه.
قوله تعالى : {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} أي فسيكفي الله رسوله عدوه. فكان هذا وعدا من الله تعالى لنبيه عليه السلام أنه سيكفيه من عانده ومن خالفه من المتولين بمن يهديه من المؤمنين ، فأنجز له الوعد ، وكان ذلك في قتل بني قينقاع وبني قريظة وإجلاء بني النضير.

 و {السَّمِيعُ} لقول كل قائل {الْعَلِيمُ} بما ينفذه في عباده ويجريه عليهم. وحكي أن أبا دلامة دخل على المنصور وعليه قلنسوة طويلة ، ودراعة مكتوب بين كتفيها {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، وسيف معلق في وسطه ، وكان المنصور قد أمر الجند بهذا الزي ، فقال له : كيف حالك يا أبا دلامة ؟ قال : بشر يا أمير المؤمنين قال : وكيف ذاك ؟ قال : ما ظنك برجل وجهه في وسطه ، وسيفه في أسته ، وقد نبذ كتاب الله وراء ظهره فضحك المنصور منه ، وأمر بتغيير ذلك الزي من وقته.

 

 

 

8-جالوت وطالوت

القصة من العهد القديم :

12وَدَاوُدُ هُوَ ابْنُ ذلِكَ الرَّجُلِ الأَفْرَاتِيِّ مِنْ بَيْتِ لَحْمِ يَهُوذَا الَّذِي اسْمُهُ يَسَّى وَلَهُ ثَمَانِيَةُ بَنِينَ. وَكَانَ الرَّجُلُ فِي أَيَّامِ شَاوُلَ قَدْ شَاخَ وَكَبِرَ بَيْنَ النَّاسِ. 13وَذَهَبَ بَنُو يَسَّى الثَّلاَثَةُ الْكِبَارُ وَتَبِعُوا شَاوُلَ إِلَى الْحَرْبِ.

 وَأَسْمَاءُ بَنِيهِ الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى الْحَرْبِ: أَلِيآبُ الْبِكْرُ، وَأَبِينَادَابُ ثَانِيهِ، وَشَمَّةُ ثَالِثُهُمَا. 14وَدَاوُدُ هُوَ الصَّغِيرُ. وَالثَّلاَثَةُ الْكِبَارُ ذَهَبُوا وَرَاءَ شَاوُلَ. 15وَأَمَّا دَاوُدُ فَكَانَ يَذْهَبُ وَيَرْجعُ مِنْ عِنْدِ شَاوُلَ لِيَرْعَى غَنَمَ أَبِيهِ فِي بَيْتِ لَحْمٍ.

16وَكَانَ الْفِلِسْطِينِيُّ يَتَقَدَّمُ وَيَقِفُ صَبَاحًا وَمَسَاءً أَرْبَعِينَ يَوْمًا. 17فَقَالَ يَسَّى لِدَاوُدَ ابْنِهِ: «خُذْ لإِخْوَتِكَ إِيفَةً مِنْ هذَا الْفَرِيكِ، وَهذِهِ الْعَشَرَ الْخُبْزَاتِ وَارْكُضْ إِلَى الْمَحَلَّةِ إِلَى إِخْوَتِكَ. 18وَهذِهِ الْعَشَرَ الْقِطْعَاتِ مِنَ الْجُبْنِ قَدِّمْهَا لِرَئِيسِ الأَلْفِ، وَافْتَقِدْ سَلاَمَةَ إِخْوَتِكَ وَخُذْ مِنْهُمْ عُرْبُونًا». 19وَكَانَ شَاوُلُ وَهُمْ وَجَمِيعُ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ فِي وَادِي الْبُطْمِ يُحَارِبُونَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ.

20فَبَكَّرَ دَاوُدُ صَبَاحًا وَتَرَكَ الْغَنَمَ مَعَ حَارِسٍ، وَحَمَّلَ وَذَهَبَ كَمَا أَمَرَهُ يَسَّى، وَأَتَى إِلَى الْمِتْرَاسِ، وَالْجَيْشُ خَارِجٌ إِلَى الاصْطِفَافِ وَهَتَفُوا لِلْحَرْبِ. 21وَاصْطَفَّ إِسْرَائِيلُ وَالْفِلِسْطِينِيُّونَ صَفًّا مُقَابَِلَ صَفّ. 22فَتَرَكَ دَاوُدُ الأَمْتِعَةَ الَّتِي مَعَهُ بِيَدِ حَافِظِ الأَمْتِعَةِ،

وَرَكَضَ إِلَى الصَّفِّ وَأَتَى وَسَأَلَ عَنْ سَلاَمَةِ إِخْوَتِهِ. 23وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُهُمْ إِذَا بِرَجُل مُبَارِزٍ اسْمُهُ جُلْيَاتُ الْفِلِسْطِينِيُّ مِنْ جَتَّ، صَاعِدٌ مِنْ صُفُوفِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ وَتَكَلَّمَ بِمِثْلِ هذَا الْكَلاَمِ، فَسَمِعَ دَاوُدُ. 24وَجَمِيعُ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ لَمَّا رَأَوْا الرَّجُلَ هَرَبُوا مِنْهُ وَخَافُوا جِدًّا. 25فَقَالَ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ:

«أَرَأَيْتُمْ هذَا الرَّجُلَ الصَّاعِدَ؟ لِيُعَيِّرَ إِسْرَائِيلَ هُوَ صَاعِدٌ! فَيَكُونُ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي يَقْتُلُهُ يُغْنِيهِ الْمَلِكُ غِنًى جَزِيلاً، وَيُعْطِيهِ بِنْتَهُ، وَيَجْعَلُ بَيْتَ أَبِيهِ حُرًّا فِي إِسْرَائِيلَ».

26فَكَلَّمَ دَاوُدُ الرِّجَالَ الْوَاقِفِينَ مَعَهُ قَائِلاً: «مَاذَا يُفْعَلُ لِلرَّجُلِ الَّذِي يَقْتُلُ ذلِكَ الْفِلِسْطِينِيَّ، وَيُزِيلُ الْعَارَ عَنْ إِسْرَائِيلَ؟ لأَنَّهُ مَنْ هُوَ هذَا الْفِلِسْطِينِيُّ الأَغْلَفُ حَتَّى يُعَيِّرَ صُفُوفَ اللهِ الْحَيِّ؟» 27فَكَلَّمَهُ الشَّعْبُ بِمِثْلِ هذَا الْكَلاَمِ قَائِلِينَ: «كَذَا يُفْعَلُ لِلرَّجُلِ الَّذِي يَقْتُلُهُ». 28وَسَمِعَ أَخُوهُ الأَكْبَرُ أَلِيآبُ كَلاَمَهُ مَعَ الرِّجَالِ، فَحَمِيَ غَضَبُ أَلِيآبَ عَلَى دَاوُدَ

 وَقَالَ: «لِمَاذَا نَزَلْتَ؟ وَعَلَى مَنْ تَرَكْتَ تِلْكَ الْغُنَيْمَاتِ الْقَلِيلَةَ فِي الْبَرِّيَّةِ؟ أَنَا عَلِمْتُ كِبْرِيَاءَكَ وَشَرَّ قَلْبِكَ، لأَنَّكَ إِنَّمَا نَزَلْتَ لِكَيْ تَرَى الْحَرْبَ». 29فَقَالَ دَاوُدُ: «مَاذَا عَمِلْتُ الآنَ؟ أَمَا هُوَ كَلاَمٌ؟». 30وَتَحَوَّلَ مِنْ عِنْدِهِ نَحْوَ آخَرَ، وَتَكَلَّمَ بِمِثْلِ هذَا الْكَلاَمِ، فَرَدَّ لَهُ الشَّعْبُ جَوَابًا كَالْجَوَابِ الأَوَّلِ. 31وَسُمِعَ الْكَلاَمُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ دَاوُدُ وَأَخْبَرُوا بِهِ أَمَامَ شَاوُلَ، فَاسْتَحْضَرَهُ.

32فَقَالَ دَاوُدُ لِشَاوُلَ: «لاَ يَسْقُطْ قَلْبُ أَحَدٍ بِسَبَبِهِ. عَبْدُكَ يَذْهَبُ وَيُحَارِبُ هذَا الْفِلِسْطِينِيَّ». 33فَقَالَ شَاوُلُ لِدَاوُدَ: «لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَذْهَبَ إِلَى هذَا الْفِلِسْطِينِيِّ لِتُحَارِبَهُ لأَنَّكَ غُلاَمٌ وَهُوَ رَجُلُ حَرْبٍ مُنْذُ صِبَاهُ». 34فَقَالَ دَاوُدُ لِشَاوُلَ: «كَانَ عَبْدُكَ يَرْعَى لأَبِيهِ غَنَمًا، فَجَاءَ أَسَدٌ مَعَ دُبٍّ وَأَخَذَ شَاةً مِنَ الْقَطِيعِ،

35فَخَرَجْتُ وَرَاءَهُ وَقَتَلْتُهُ وَأَنْقَذْتُهَا مِنْ فِيهِ، وَلَمَّا قَامَ عَلَيَّ أَمْسَكْتُهُ مِنْ ذَقْنِهِ وَضَرَبْتُهُ فَقَتَلْتُهُ. 36قَتَلَ عَبْدُكَ الأَسَدَ وَالدُّبَّ جَمِيعًا. وَهذَا الْفِلِسْطِينِيُّ الأَغْلَفُ يَكُونُ كَوَاحِدٍ مِنْهُمَا، لأَنَّهُ قَدْ عَيَّرَ صُفُوفَ اللهِ الْحَيِّ». 37وَقَالَ دَاوُدُ: «الرَّبُّ الَّذِي أَنْقَذَنِي مِنْ يَدِ الأَسَدِ وَمِنْ يَدِ الدُّبِّ هُوَ يُنْقِذُنِي مِنْ يَدِ هذَا الْفِلِسْطِينِيِّ». فَقَالَ شَاوُلُ لِدَاوُدَ: «اذْهَبْ وَلْيَكُنِ الرَّبُّ مَعَكَ».

 38وَأَلْبَسَ شَاوُلُ دَاوُدَ ثِيَابَهُ، وَجَعَلَ خُوذَةً مِنْ نُحَاسٍ عَلَى رَأْسِهِ، وَأَلْبَسَهُ دِرْعًا. 39فَتَقَلَّدَ دَاوُدُ بِسَيْفِهِ فَوْقَ ثِيَابِهِ وَعَزَمَ أَنْ يَمْشِيَ، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ جَرَّبَ. فَقَالَ دَاوُدُ لِشَاوُلَ: «لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَمْشِيَ بِهذِهِ، لأَنِّي لَمْ أُجَرِّبْهَا». وَنَزَعَهَا دَاوُدُ عَنْهُ. 40وَأَخَذَ عَصَاهُ بِيَدِهِ، وَانْتَخَبَ لَهُ خَمْسَةَ حِجَارَةٍ مُلْسٍ مِنَ الْوَادِي وَجَعَلَهَا فِي كِنْفِ الرُّعَاةِ الَّذِي لَهُ، أَيْ فِي الْجِرَابِ، وَمِقْلاَعَهُ بِيَدِهِ وَتَقَدَّمَ نَحْوَ الْفِلِسْطِينِيِّ.

 41وَذَهَبَ الْفِلِسْطِينِيُّ ذِاهِبًا وَاقْتَرَبَ إِلَى دَاوُدَ الْرَّجُلُ وَحَامِلُ التُّرْسِ أَمَامَهُ. 42وَلَمَّا نَظَرَ الْفِلِسْطِينِيُّ وَرَأَى دَاوُدَ اسْتَحْقَرَهُ لأَنَّهُ كَانَ غُلاَمًا وَأَشْقَرَ جَمِيلَ الْمَنْظَرِ. 43فَقَالَ الْفِلِسْطِينِيُّ لِدَاوُدَ: «أَلَعَلِّي أَنَا كَلْبٌ حَتَّى أَنَّكَ تَأْتِي إِلَيَّ بِعِصِيٍّ؟».

وَلَعَنَ الْفِلِسْطِينِيُّ دَاوُدَ بِآلِهَتِهِ. 44وَقَالَ الْفِلِسْطِينِيُّ لِدَاوُدَ: «تَعَالَ إِلَيَّ فَأُعْطِيَ لَحْمَكَ لِطُيُورِ السَّمَاءِ وَوُحُوشِ الْبَرِّيَّةِ». 45فَقَالَ دَاوُدُ لِلْفِلِسْطِينِيِّ: «أَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ بِسَيْفٍ وَبِرُمْحٍ وَبِتُرْسٍ، وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ بِاسْمِ رَبِّ الْجُنُودِ إِلهِ صُفُوفِ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ عَيَّرْتَهُمْ. 46هذَا الْيَوْمَ يَحْبِسُكَ الرَّبُّ فِي يَدِي، فَأَقْتُلُكَ وَأَقْطَعُ رَأْسَكَ. وَأُعْطِي جُثَثَ جَيْشِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ هذَا الْيَوْمَ لِطُيُورِ السَّمَاءِ وَحَيَوَانَاتِ الأَرْضِ، فَتَعْلَمُ كُلُّ الأَرْضِ أَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ لإِسْرَائِيلَ.

 47وَتَعْلَمُ هذِهِ الْجَمَاعَةُ كُلُّهَا أَنَّهُ لَيْسَ بِسَيْفٍ وَلاَ بِرُمْحٍ يُخَلِّصُ الرَّبُّ، لأَنَّ الْحَرْبَ لِلرَّبِّ وَهُوَ يَدْفَعُكُمْ لِيَدِنَا». 48وَكَانَ لَمَّا قَامَ الْفِلِسْطِينِيُّ وَذَهَبَ وَتَقدَّمَ لِلِقَاءِ دَاودَ أَنَّ دَاوُدَ أَسْرَعَ وَرَكَضَ نَحْوَ الصَّفِّ لِلِقَاءِ الْفِلِسْطِينِيِّ. 49وَمَدَّ دَاوُدُ يَدَهُ إِلَى الْكِنْفِ وَأَخَذَ مِنْهُ حَجَرًا وَرَمَاهُ بِالْمِقْلاَعِ، وَضَرَبَ الْفِلِسْطِينِيَّ فِي جِبْهَتِهِ، فَارْتَزَّ الْحَجَرُ فِي جِبْهَتِهِ، وَسَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى الأَرْضِ.

 50فَتَمَكَّنَ دَاوُدُ مِنَ الْفِلِسْطِينِيِّ بِالْمِقْلاَعِ وَالْحَجَرِ، وَضَرَبَ الْفِلِسْطِينِيَّ وَقَتَلَهُ. وَلَمْ يَكُنْ سَيْفٌ بِيَدِ دَاوُدَ. 51فَرَكَضَ دَاوُدُ وَوَقَفَ عَلَى الْفِلِسْطِينِيِّ وَأَخَذَ سَيْفَهُ وَاخْتَرَطَهُ مِنْ غِمْدِهِ وَقَتَلَهُ وَقَطَعَ بِهِ رَأْسَهُ. فَلَمَّا رَأَى الْفِلِسْطِينِيُّونَ أَنَّ جَبَّارَهُمْ قَدْ مَاتَ هَرَبُوا. 52فَقَامَ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا وَهَتَفُوا وَلَحِقُوا الْفِلِسْطِينِيِّينَ حَتَّى مَجِيئِكَ إِلَى الْوَادِي، وَحَتَّى أَبْوَابِ عَقْرُونَ.

فَسَقَطَتْ قَتْلَى الْفِلِسْطِينِيِّينَ فِي طَرِيقِ شَعَرَايِمَ إِلَى جَتَّ وَإِلَى عَقْرُونَ. 53ثُمَّ رَجَعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ الاحْتِمَاءِ وَرَاءَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ وَنَهَبُوا مَحَلَّتَهُمْ. 54وَأَخَذَ دَاوُدُ رَأْسَ الْفِلِسْطِينِيِّ وَأَتَى بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَوَضَعَ أَدَوَاتِهِ فِي خَيْمَتِهِ.

55وَلَمَّا رَأَى شَاوُلُ دَاوُدَ خَارِجًا لِلِقَاءِ الْفِلِسْطِينِيِّ قَالَ لأَبْنَيْرَ رَئِيسِ الْجَيْشِ: «ابْنُ مَنْ هذَا الْغُلاَمُ يَا أَبْنَيْرُ؟» فَقَالَ أَبْنَيْرُ: «وَحَيَاتِكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ لَسْتُ أَعْلَمُ». 56فَقَالَ الْمَلِكُ: «اسْأَلِ ابْنُ مَنْ هذَا الْغُلاَمُ». 57وَلَمَّا رَجَعَ دَاوُدُ مِنْ قَتْلِ الْفِلِسْطِينِيِّ أَخَذَهُ أَبْنَيْرُ وَأَحْضَرَهُ أَمَامَ شَاوُلَ وَرَأْسُ الْفِلِسْطِينِيِّ بِيَدِهِ. 58فَقَالَ لَهُ شَاوُلُ: «ابْنُ مَنْ أَنْتَ يَا غُلاَمُ؟» فَقَالَ دَاوُدُ: ابْنُ عَبْدِكَ يَسَّى الْبَيْتَلَحْمِيِّ

1وَكَانَ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الْكَلاَمِ مَعَ شَاوُلَ أَنَّ نَفْسَ يُونَاثَانَ تَعَلَّقَتْ بِنَفْسِ دَاوُدَ، وَأَحَبَّهُ يُونَاثَانُ كَنَفْسِهِ. 2فَأَخَذَهُ شَاوُلُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَمْ يَدَعْهُ يَرْجعُ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ. 3وَقَطَعَ يُونَاثَانُ وَدَاوُدُ عَهْدًا لأَنَّهُ أَحَبَّهُ كَنَفْسِهِ.

 4وَخَلَعَ يُونَاثَانُ الْجُبَّةَ الَّتِي عَلَيْهِ وَأَعْطَاهَا لِدَاوُدَ مَعَ ثِيَابِهِ وَسَيْفِهِ وَقَوْسِهِ وَمِنْطَقَتِهِ. 5وَكَانَ دَاوُدُ يَخْرُجُ إِلَى حَيْثُمَا أَرْسَلَهُ شَاوُلُ. كَانَ يُفْلِحُ. فَجَعَلَهُ شَاوُلُ عَلَى رِجَالِ الْحَرْبِ. وَحَسُنَ فِي أَعْيُنِ جَمِيعِ الشَّعْبِ وَفِي أَعْيُنِ عَبِيدِ شَاوُلَ أَيْضًا.

6وَكَانَ عِنْدَ مَجِيئِهِمْ حِينَ رَجَعَ دَاوُدُ مِنْ قَتْلِ الْفِلِسْطِينِيِّ، أَنَّ النِّسَاءَ خَرَجَتْ مِنْ جَمِيعِ مُدُنِ إِسْرَائِيلَ بِالْغِنَاءِ وَالرَّقْصِ لِلِقَاءِ شَاوُلَ الْمَلِكِ بِدُفُوفٍ وَبِفَرَحٍ وَبِمُثَلَّثَاتٍ. 7فَأَجَابَتِ النِّسَاءُ اللاَّعِبَاتُ وَقُلْنَ: «ضَرَبَ شَاوُلُ أُلُوفَهُ وَدَاوُدُ رِبْوَاتِهِ.

 8فَاحْتَمى شَاوُلُ جِدًّا وَسَاءَ هذَا الْكَلاَمُ فِي عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: «أَعْطَيْنَ دَاوُدَ رِبْوَاتٍ وَأَمَّا أَنَا فَأَعْطَيْنَنِي الأُلُوفَ! وَبَعْدُ فَقَطْ تَبْقَى لَهُ الْمَمْلَكَةُ». 9فَكَانَ شَاوُلُ يُعَايِنُ دَاوُدَ مِنْ ذلِكَ الْيَوْمِ فَصَاعِدًا. 10وَكَانَ فِي الْغَدِ أَنَّ الرُّوحَ الرَّدِيءَ مِنْ قِبَلِ اللهِ اقْتَحَمَ شَاوُلَ وَجُنَّ فِي وَسَطِ الْبَيْتِ. وَكَانَ دَاوُدُ يَضْرِبُ بِيَدِهِ كَمَا فِي يَوْمٍ فَيَوْمٍ، وَكَانَ الرُّمْحُ بِيَدِ شَاوُلَ. 11فَأَشْرَعَ شَاوُلُ الرُّمْحَ وَقَالَ: «أَضْرِبُ دَاوُدَ حَتَّى إِلَى الْحَائِطِ».

 فَتَحَوَّلَ دَاوُدُ مِنْ أَمَامِهِ مَرَّتَيْنِ. 12وَكَانَ شَاوُلُ يَخَافُ دَاوُدَ لأَنَّ الرَّبَّ كَانَ مَعَهُ، وَقَدْ فَارَقَ شَاوُلَ. 13فَأَبْعَدَهُ شَاوُلُ عَنْهُ وَجَعَلَهُ لَهُ رَئِيسَ أَلْفٍ، فَكَانَ يَخْرُجُ وَيَدْخُلُ أَمَامَ الشَّعْبِ. 14وَكَانَ دَاوُدُ مُفْلِحًا فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ وَالرَّبُّ مَعَهُ. 15فَلَمَّا رَأَى شَاوُلُ أَنَّهُ مُفْلِحٌ جِدًّا فَزِعَ مِنْهُ. 16وَكَانَ جَمِيعُ إِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا يُحِبُّونَ دَاوُدَ لأَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ وَيَدْخُلُ أَمَامَهُمْ.

17وَقَالَ شَاوُلُ لِدَاوُدَ: «هُوَذَا ابْنَتِي الْكَبِيرَةُ مَيْرَبُ أُعْطِيكَ إِيَّاهَا امْرَأَةً. إِنَّمَا كُنْ لِي ذَا بَأْسٍ وَحَارِبْ حُرُوبَ الرَّبِّ». فَإِنَّ شَاوُلَ قَالَ: «لاَ تَكُنْ يَدِي عَلَيْهِ، بَلْ لِتَكُنْ عَلَيْهِ يَدُ الْفِلِسْطِينِيِّينَ». 18فَقَالَ دَاوُدُ لِشَاوُلَ: «مَنْ أَنَا، وَمَا هِيَ حَيَاتِي وَعَشِيرَةُ أَبِي فِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَكُونَ صِهْرَ الْمَلِكِ؟».

19وَكَانَ فِي وَقْتِ إِعْطَاءِ مَيْرَبَ ابْنَةِ شَاوُلَ لِدَاوُدَ أَنَّهَا أُعْطِيَتْ لِعَدْرِيئِيلَ الْمَحُولِيِّ امْرَأَةً. 20وَمِيكَالُ ابْنَةُ شَاوُلَ أَحَبَّتْ دَاوُدَ، فَأَخْبَرُوا شَاوُلَ، فَحَسُنَ الأَمْرُ فِي عَيْنَيْهِ. 21وَقَالَ شَاوُلُ: «أُعْطِيهِ إِيَّاهَا فَتَكُونُ لَهُ شَرَكًا وَتَكُونُ يَدُ الْفِلِسْطِينِيِّينَ عَلَيْهِ». وَقَالَ شَاوُلُ لِدَاوُدَ ثَانِيَةً: «تُصَاهِرُنِي الْيَوْمَ». 22وَأَمَرَ شَاوُلُ عَبِيدَهُ: «تَكَلَّمُوا مَعَ دَاوُدَ سِرًّا قَائِلِينَ: هُوَذَا قَدْ سُرَّ بِكَ الْمَلِكُ، وَجَمِيعُ عَبِيدِهِ قَدْ أَحَبُّوكَ. فَالآنَ صَاهِرِ الْمَلِكَ

23فَتَكَلَّمَ عَبِيدُ شَاوُلَ فِي أُذُنَيْ دَاوُدَ بِهذَا الْكَلاَمِ. فَقَالَ دَاوُدُ: «هَلْ هُوَ مُسْتَخَفٌّ فِي أَعْيُنِكُمْ مُصَاهَرَةُ الْمَلِكِ وَأَنَا رَجُلٌ مَِسْكِينٌ وَحَقِيرٌ؟» 24فَأَخْبَرَ شَاوُلَ عَبِيدُهُ قَائِلِينَ: «بِمِثْلِ هذَا الْكَلاَمِ تَكَلَّمَ دَاوُدُ».

 25فَقَالَ شَاوُلُ: «هكَذَا تَقُولُونَ لِدَاوُدَ: لَيْسَتْ مَسَرَّةُ الْمَلِكِ بِالْمَهْرِ، بَلْ بِمِئَةِ غُلْفَةٍ مِنَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ لِلانْتِقَامِ مِنْ أَعْدَاءِ الْمَلِكِ». وَكَانَ شَاوُلُ يَتَفَكَّرُ أَنْ يُوقِعَ دَاوُدَ بِيَدِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ. 26فَأَخْبَرَ عَبِيدُهُ دَاوُدَ بِهذَا الْكَلاَمِ، فَحَسُنَ الْكَلاَمُ فِي عَيْنَيْ دَاوُدَ أَنْ يُصَاهِرَ الْمَلِكَ. وَلَمْ تَكْمُلِ الأَيَّامُ

27حَتَّى قَامَ دَاوُدُ وَذَهَبَ هُوَ وَرِجَالُهُ وَقَتَلَ مِنَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ مِئَتَيْ رَجُل، وَأَتَى دَاوُدُ بِغُلَفِهِمْ فَأَكْمَلُوهَا لِلْمَلِكِ لِمُصَاهَرَةِ الْمَلِكِ. فَأَعْطَاهُ شَاوُلُ مِيكَالَ ابْنَتَهُ امْرَأَةً. 28فَرَأَى شَاوُلُ وَعَلِمَ أَنَّ الرَّبَّ مَعَ دَاوُدَ. وَمِيكَالُ ابْنَةُ شَاوُلَ كَانَتْ تُحِبُّهُ. 29وَعَادَ شَاوُلُ يَخَافُ دَاوُدَ بَعْدُ، وَصَارَ شَاوُلُ عَدُوًّا لِدَاوُدَ كُلَّ الأَيَّامِ.

30وَخَرَجَ أَقْطَابُ الْفِلِسْطِينِيِّينَ. وَمِنْ حِينِ خُرُوجِهِمْ كَانَ دَاوُدُ يُفْلِحُ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ عَبِيدِ شَاوُلَ، فَتَوَقَّرَ اسْمُهُ جِدًّا

 

القصة في القرآن الكريم:

   
ورد ذكر القصة في سورة البقرة الآيات 246-251.
   
قال تعالى : (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251

نسب نبي الله داود  :

داود بن ايشا بن عويد بن عابر بن سلمون بن نحشون بن عويناذب بن ارم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عبد الله ونبيه، وخليفته في أرض بيت المقدس.

 

دخل بنو إسرائيل الأرض المقدسة (فلسطين) واستقروا بها، وكان ذلك على يد يوشع بن نون، وصاروا يعبدون الله على المنهج الذي جاء به موسى، وبعد مدة عادوا إلى طبائعهم الفاسدة مرة أخرى، فكفروا بأنعم الله، وانحرفوا عن الطريق المستقيم فسلَّط الله عليهم ملكًا جبارًا اسمه جالوت فقتل رجالهم، وسبى نساءهم وأطفالهم، وأخرجهم من بيوتهم، وأخذ منهم التابوت المقدس وبه الألواح الخاصة بالتوراة، وعصا موسى وبعض الأشياء الخاصة بهارون.
وأراد بنو إسرائيل قتال جالوت وجنوده، ولم يكن لهم في هذه الفترة ملك يوحد صفوفهم لقتال هذا الملك الجبار، وكان من بينهم آنذاك نبي من أنبياء الله فذهبوا إليه وأخبروه أنهم يريدون ملكًا عليهم لمحاربة جالوت، فتعجب نبيهم من هذا الطلب، وذكرهم من أنه يخشى إن فرض عليهم القتال أن يرفضوا القتال، ولكنهم أكدوا له عزمهم على القتال، فقد طردوا من بيوتهم، وابتعدوا عن أبنائهم، فأوحى الله إلى نبيهم أن يخبرهم أن الله قد بعث لكم طالوت ملكًا.

 فلما أخبرهم بذلك تعجبوا، وغضبوا من هذا الاختيار، حيث كان الكثير منهم خاصة الأغنياء يطمع أن يكون هو الملك الذي يوحد الصفوف لقتال جالوت، وتكون له الهيمنة والسلطان، ويحظى بشرف الحكم والقيادة، ومن أجل ذلك اعترض الكثير منهم على اختيار طالوت ليتولى الـمُلك من بينهم..
فأخبرهم نبيهم أن هذا اختيار الله، وأنه -سبحانه- قد أعطى طالوت قوة في الجسم، وسعة في العلم، وأن علامة ملك طالوت أن تأتيه الملائكة بالتابوت الذي كان قد أخذه جالوت من قبل، وفي لحظات كانت الملائكة قد أتت بالصندوق ووضعته أمام طالوت، فلما رأى بنو إسرائيل ذلك رضوا به، ووافقوا على حكمه لهم، ثم أوحى الله لنبي بني إسرائيل أن يخبرهم بأن الله يأمرهم بالخروج مع طالوت لقتال عدوهم الذي أذلهم، وأسر وسبى أبناءهم.
ولكنهم امتنعوا عن القتال إلا قليلاً منهم تشجعوا، واستعدوا للقتال، فساروا مع طالوت للقاء جالوت الجبار وجنوده، وبهذه القلة التى آمنت، خرج طالوت وسار في طريق صحراوى ليس فيه ماء، فاشتكى بنو إسرائيل من الظمأ والعطش فطمأنهم ملكهم طالوت وطلب منهم الصبر ومواصلة السير، وبعد لحظات اقترب طالوت وجنوده من نهر من الأنهار.

 فقال لهم طالوت مبينًا أنهم سيمرون على نهر فمن شرب منه بكثرة، فقد خرج عن طاعته إلا من اغترف غرفة بيده يروى بها ظمأه، ومن خالف هذا الأمر فعليه أن يترك الجيش ويرجع من حيث جاء، فلما وصل طالوت وبنو إسرائيل إلى النهر، لم يستجب أكثرهم لما أمرهم به الملك طالوت، فشربوا من النهر حتى امتلأت بطونهم إلا قليلاً منهم.
فأمر طالوت كل من شرب من النهر حتى شبع أن يترك الجيش ويعتزل الباقين، ثم واصل سيره بالبقية الباقية من بني إسرائيل، وعبر النهر ليلتقي مع جيش جالوت وحتى هذه القلة التى ثبتت تراجع بعضهم وأصابهم الخوف عندما رأوا كثرة جنود جالوت، ولم يصبر معه إلا المؤمنون الصادقون الذين يعلمون أن الله ينصر المؤمنين بقوة إيمانهم لا بكثرة عددهم، ولما ظهر جالوت وجنوده أمامهم، واقترب منهم دعوا الله فقالوا: {ربنا افرغ علينا صبرًا وثبت أقدامنا وانصرنا علي الكافرين} [البقرة:250].
وفي الميدان المخصص للقتال وقف جالوت وجنوده في ناحية، وطالوت وبنو إسرائيل في ناحية أخرى، ثم تقدم جالوت على حصانه، مسلحًا بكافة الدروع ونادى بأعلى صوته، هل من مبارز؟ هل من مقاتل؟ وكان في جيش طالوت جندي عظيم، هو نبي الله داود.

 والذي يرجع نسبه إلى إبراهيم -عليه السلام- فخرج من بين الصفوف ليبارز جالوت الجبار بعد أن امتنع جميع بني إسرائيل عن الخروج إليه، فضرب داود جالوت بحجارة عن طريق مقلاعه، فوقع قتيلاً، ففر الجيش هاربًا، وانتصرت القلة المؤمنة بحول الله وقوته على الكثرة الكافرة المشركة.وانتهت المعركة، وبدأ عهد نبي جديد وملك جديد.

 قال تعالى: {فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه ممايشاء} [البقرة:251].؟وجمع الله لداود الملك والنبوة، فكان ملكًا نبيًّا، وأنزل عليه الزبور، وهو كتاب مقدس فيه كثير من المواعظ والحكم، قال تعالى: {وآتينا داود زبورًا}[النساء:163]  

وأعطى الله لداود صوتًا جميلاً لم يعطه لأحد من قبله، فكان إذا قرأ كتابه الزبور، وسبح الله، وقف الطير في الهواء يسبح الله معه، وينصت لما يقرؤه وكذلك الجبال فإنها كانت تسبح معه في الصباح والمساء، قال تعالى:{إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق . والطير محشورة كل له أواب} [ص:18-19]

 وأيد الله داود بمعجزات كثيرة دالة على نبوته، فألان له الحديد، حتى يسهل عليه صنع الدروع والمحاريب التى تستخدم في الحروب والقتال.وأراد الله -سبحانه- أن يعلم داود درسًا في العدل حين يحكم، فبينما كان يجلس في محرابه يصلى ويتعبد، فوجئ باثنين من الرجال يصعدان على سور محرابه حتى وصلا إليه، فدخلا عليه، فخاف منهما وفزع.

 فقال الرجلان: يا داود لا تخف، خصمان بغى بعضنا على بعض فجئنا لتحكم بيننا بالحق، فسألهم داود عن قضيتهم، فقال أحد الخصمين: إن هذا أخى له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة، فأراد أن يأخذها مني ليكمل المائة، فتسرع داود في الحكم لهذه القضية قبل أن يسمع كلام الآخر، فقال: {لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلي نعاجه وإن كثيرًا من الخلطاء ليبغي بعضهم علي بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} _[ص: 42]

وما إن أكمل داود حكمه حتى اختفي هذان الرجلان فجأة دون أن يخرجا من الباب أو يعودا كما جاءا، فأدرك داود أن هذين ملكان أرسلهما الله ليعلماه أن يسمع من الخصمين قبل أن يحكم بينهما، فاستغفر داود ربه.
وكان داود يتقرب إلى الله بالذكر والدعاء والصلاة، لذلك مدحه الله بقوله تعالى: {واذكر عبدنا داود ذي الأيدِ إنه أواب } [ص:17] وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول عنه: (كان أعبد البشر) [البخارى] وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه) [متفق عليه].

وكان داود لا يأكل إلا من عمل يده، لأنه يعلم أن أفضل الكسب هو ما يكسبه الإنسان من صنع يده، قال -صلى الله عليه وسلم-: (ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده) [البخارى] وقد مات داود -عليه الصلاة والسلام- وتولى من بعده ابنه سليمان -عليه السلام- الحكم وجعله الله نبيًّا، قال تعالى: {وورث سليمان داود}

  وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وقال تعالى: {... وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ}

أعانه الله على عمل الدروع من الحديد ليحصن المقاتلة من الأعداء، وأرشده إلى صنعتها وكيفيتها فقال: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} أي: لا تدق المسمار فيفلق، ولا تغلظه فيفصم  

قال الحسن البصري، وقتادة، والأعمش: كان الله قد ألان له الحديد حتى كان يفتله بيده، لا يحتاج إلى نار ولا مطرقة. قال قتادة: فكان أول من عمل الدروع من زرد، وإنما كانت قبل ذلك من صفائح. قال ابن شوذب: كان يعمل كل يوم درعاً يبيعها بستة آلاف درهم، وقد ثبت في الحديث: ((أن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وأن نبي الله داود كان يأكل من كسب يده)).

    وقال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} .

قال ابن عباس، ومجاهد: الأيد: القوة في الطاعة، يعني: ذا قوة في العبادة والعمل الصالح. قال قتادة: أُعطي قوة في العبادة، وفقهاً في الإسلام. قال: وقد ذكر لنا أنه كان يقوم الليل، ويصوم نصف الدهر. وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود: كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان يصوم يوماً، ويفطر يوماً، ولا يفر إذا لاقى)).

  وقوله: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} .   كما قال: {يا جبال أوبي معه والطير} أي: سبحي معه. {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ}

أي: عند آخر النهار وأوله. وذلك أنه كان الله تعالى قد وهبه من الصوت العظيم ما لم يعطه أحداً، بحيث أنه كان إذا ترنم بقراءة كتابه يقف الطير في الهواء، يُرجع بترجيعه، ويسبح بتسبيحه، وكذلك الجبال تجيبه وتسبح معه، كلما سبح بكرة وعشياً صلوات الله وسلامه عليه.

  وقال الأوزاعي: حدثني عبد الله بن عامر قال: أعطي داود من حُسن الصوت ما لم يعط أحد قط، حتى أن كان الطير والوحش ينعكف حوله، حتى يموت عطشاً وجوعاً، وحتى إن الأنهار لتقف.

  وقال وهب بن منبه: كان لا يسمعه أحد إلا حجل كهيئة الرقص، وكان يقرأ الزبور بصوت لم تسمع الآذان بمثله، فيعكف الجن، والإنس، والطير، والدواب على صوته، حتى يهلك بعضها جوعاً. عن عائشة قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت أبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال: ((لقد أوتي أبو موسى من مزامير آل داود)).

وقد كان داود عليه السلام مع هذا الصوت الرخيم، سريع القراءة لكتابه الزبور كما قال الإمام أحمد: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((خفف على داود القراءة، فكان يأمر بدابته فتسرج، فكان يقرأ القرآن من قبل أن تسرج دابته، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه)).

  والمراد بالقرآن ههنا الزبور: الذي أنزله عليه، وأوحاه إليه، وقد كان ملكاً له أتباع، فكان يقرأ الزبور بمقدار ما تسرج الدواب، وهذا أمر سريع مع التدبر والترنم والتغني به على وجه التخشع، صلوات الله وسلامه عليه.

  وقد قال الله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} والزبور: كتاب مشهور، أنزل في شهر رمضان، وفيه من المواعظ والحكم ما هو معروف لمن نظر فيه.

  وقوله: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} أي: أعطيناه ملكاً عظيماً، وحكماً نافذاً. روى ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس:

أن رجلين تداعيا إلى داود عليه السلام في بقر: ادعى أحدهما على الآخر أنه اغتصبها منه، فأنكر المدعى عليه، فأرجأ أمرهما إلى الليل، فلما كان الليل أوحى الله إليه أن يقتل المدعي،

فلما أصبح قال له داود: إن الله قد أوحى إلي أن أقتلك، فأنا قاتلك لا محالة، فما خبرك فيما ادعيته على هذا؟ قال: والله يا نبي الله إني لمحق فيما ادعيت عليه، ولكني كنت اغتلت أباه قبل هذا، فأمر به داود فقتل، فعظم أمر داود في بني إسرائيل جداً وخضعوا له خضوعاً عظيماً.

قال ابن عباس: وهو قوله تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} وقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} أي: النبوة. {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} قال شريح، والشعبي، وقتادة، وأبو عبد الرحمن السلمي، وغيرهم: فصل الخطاب: الشهود والأيمان، يعنون بذلك البينة على المدعي، واليمين على من أنكر. وقال مجاهد والسدي: هو إصابة القضاء وفهمه. وقال مجاهد: هو الفصل في الكلام، وفي الحكم

   9-طلب موسى للرؤية

ان نبي الله موسى (عليه السلام) يعتقد بعدم رؤية الله سبحانه وتعالى في الدنيا والاخرة، لانه يلزم منه التجسيم وسؤاله (عليه السلام) عن رؤية المولى عز وجل لم يكن بدافع من نفس موسى (عليه السلام) ، بل بضغط من قومه .ونذكر لكم رواية واحدة عن الامام علي الرضا (عليه السلام) تؤيد ما نقوله :
قال عليّ بن محمّد بن الجهم : حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليّ بن موسى (عليهما السلام) ، فقال له المأمون : يا بن رسول الله أليس من قولك انّ الأنبياء معصومون ؟ قال : بلى ، فسأله عن آيات من القرآن ، فكان فيما سأله أن قال له : فما معنى قول الله عزّ وجلّ (( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربّه قال ربّ أرني أنظر إليك قال لن تراني ))

كيف يجوز أن يكون كليم الله موسى بن عمران (عليه السلام) لا يعلم أنّ الله ـ تعالى ذكره ـ لا تجوز عليه الرؤية حتى يسأله هذا السؤال ؟فقال الرضا (عليه السلام) : إنّ كليم الله موسى بن عمران (عليه السلام) علم أنّ الله تعالى عن أن يرى بالأبصار ، ولكنّه لما كلّمه الله عزّ وجلّ وقرّبه نجيّاً ، رجع إلى قومه فأخبرهم أنّ الله عزّ وجلّ كلّمه وقرّبه وناجاه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت ، وكان القوم سبعمائة ألف رجل ، فاختار منهم سبعين ألفاً ، ثمّ اختار منهم سبعة آلاف ثمّ اختار منهم سبعمائة ثمّ اختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربّه .

 فخرج بهم إلى طور سينا ، فأقامهم في سفح الجبل ، وصعد موسى (عليه السلام) إلى الطور وسأل الله تبارك وتعالى أن يكلّمه ويسمعهم كلامه ، فكلّمه الله تعالى ذكره وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام ، لأنّ الله عزّ وجلّ حدَثه في الشجرة ، ثمّ جعله منبعثاً منها حتى سمعوه من جميع الوجوه .

فقالوا : لن نؤمن لك بأنّ هذا الذي سمعناه كلامَ الله حتى نرى الله جهرةً ، فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا بعث الله عزّ وجلّ عليهم صاعقةً فأخذتهم بظلمهم فماتوا ، فقال موسى : يا ربّ ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا : إنّك ذهبت بهم فقتلتهم لأنّك لم تكن صادقاً فيما ادّعيت من مناجاة الله إيّاك ، فأحياهم الله وبعثهم معه .

 فقالوا : إنّك لو سألت الله أن يريك أن تنظر إليه لأجابك وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حقّ معرفته ، فقال موسى (عليه السلام) : يا قوم إنّ الله لا يرى بالأبصار ولا كيفية له ، وإنّما يعرف بآياته ويعلم باعلامه، فقالوا : لن نؤمن لك حتى تسأله ، فقال موسى (عليه السلام) : ياربّ إنّك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم .

 فأوحى الله جلّ جلاله إليه : يا موسى إسألني ما سألوك فلن أؤاخذك بجهلهم ، فعند ذلك قال موسى (عليه السلام) : (( ربّ أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقرَّ مكانه فسوف تراني فلمّا تجلّى ربّه للجبل (بآية من آياته) جعله دكّاً وخرَّ موسى صعقاً فلمّا أفاق قال سبحانك تبت إليك )) , يقول : رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي ـ وأنا أوّل المؤمنين) منهم بأنّك لا تفرى ..
وأما بالنسبة الى تجلي الله عز وجل للجبل، فان ظاهر الآية أنه سبحانه تجلّى للجبل وهو لم يتحمّل تجلّيه لا أنّه رآه وشاهده ، وعندئذ فمن المحتمل جداً ان يكون تجلّيه بآثاره وقدرته وأفعاله، فعند ذلك لا يدل أنّ تجلّيه للجبل كان بذاته .

قائمة أهم المصادر والمراجع

1-             القرآن الكريم

2-             الجامع لاحكام القرآن – أبو عبد الله محمد بن أحمد الانصاري القرطبي – دار الفكر للطباعة والنشر 1991

3-             مختصر الطبري للامام محمد بن جرير الطبري

4-             البخاري

5-             الموطأ للامام مالك

6-             المسند للامام أحمد

7-             الترمذي

8-             رياض الصالحين للامام شرف الدين النووي الدمشقي – دار المنار للطباعة والنشر

9-             نور القبس المختصر من المقتبس للحافظ اليغموري

10-        أسرار اللغة – د - ابراهيم أنيس – القاهرة 1966

11-        الرحيق المختوم – صفي الرحمن المباركفوري

12-        الجامع لأحداث الراوي وآداب السامع – الخطيب البغدادي

13-        ديوان ألفية محمد – د. -  صلاح القوسي

14-        ديوان هاشم الرفاعي

15-        اظهار الحق – رحمت الله الهندي

 

 

16- سير أعلام النبلاء – الإمام الذهبى

17- سيدنا أبو هريرة – محمد عبده يمانى

18- الفرقان  -ابن تيمية

19- فتح البارئ – محى الدين الخطيب

20- الإصابة فى معرفة الصحابة – ابن حجر

21- تذكرة الحفاظ – الذهبى

22- الجامع – معمر بن راشد

23- منهاج السنة – ابن تيمية

24- تهذيب الأسماء –الإمام النووى

25- المعجم الوسيط – إبراهيم أنيس وأخرون

26- أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها. ط1. دار القلم. بيروت. دمشق، 1395هـ.

27- الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي. هنري كلود و اندريه برينان و ايف لاكوست. ترجمة : محمد عيتاني مكتبة المعارف. بيروت.

28- الاستعمار. أحقاد وأطماع. محمد الغزالي. ط2. الدار السعودية للنشر. جدة، 1389هـ.

29- الإسلام والتحدي التنصيري. عمر بابكور. معهد البحث العلمي. جامعة أم القرى، 1407هـ.

30-التبشير والاستشراق، محمد عزت الطهطاوي، ط1، الزهراء للإعلام العربي، 1411هـ.

31- التبشير والاستعمار في البلاد العربية، مصطفى خالدي وعمر فروخ، منشورات المكتبة العصرية، صيدا، 1983م.

32- حقيقة التبشير بين الماضي والحاضر. أحمد عبد الوهاب. ط1. مكتبة وهبة، 1401هـ.

33- رسالة الطريق إلى ثقافتنا، محمود شاكر، دار المدني، جدة، مكتبة الخانجي، مصر، 1407هـ.

34- العالم الإسلامي والاستعمار السياسي والإجتماعي والثقافي، أنور الجندي ط1، دار المعرفة، 1970م..

35- غارة تبشيرية جديدة على أندنوسيا، أبو هلال الأندنوسي، ط3، دار الشروق، جدة، 1399هـ.

36- الغارة على العالم الإسلامي. أ. ل. شاتليه. تاخيص وتعريب : محب الدين الخطيب ومساعد اليافي. ط4. الدار السعودية للنشر والتوزيع. جدة، 1405هـ.

37- الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار، محمد البهي، ط4، مكتبة وهبة، القاهرة، 1384هـ.

38- المسيحية، أحمد شلبي، ط10، مكتبة النهضة المصرية، 1993م.

* المعجم الوسيط، إبراهيم أنيس وآخرون، ط2، دار الفكر.

39 - ملامح عن النشاط التنصيري في الوطن العربي، إبراهيم عكاشة، إدارة الثقافة والنشر بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1407هـ.

40ـ المسلمون في الهند ـ أحمد بخش الهروي ترجمة أحمد عبد القادر الشاذلي ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة ـ 1995م.

41ـ تاريخ المسلمين في شبه القارة الهندوباكستانية ـ  أحمد محمود الساداتي -مكتبة نهضة الشرق ـ القاهرة ـ 1970م.

42 ـ تاريخ الإسلام في الهند ـ عبد المنعم النمر -  المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر ـ بيروت  (1401 هـ= 1981م).

43ـ الشعوب الإسلامية ـ عبد العزيز سليمان نوار

44- الاحتلال الصليبى والعالم الاسلامى- محمد المقدسى

45- الاحتلال الصليبى والعالم الاسلامى د. منقذ بن محمود السقار

46- كشف الأثار فى قصص أنبياء بنى إسرائيل  القسيس مزبك

 47- صدق الإخبارات عن الحوادث المستقبلية                            

48-        هداية الحيارى – ابن قيم الجوزية

49-  قصة الحضارة . ويل ديورانت – ترجمة محمد بدران

50-        سفر  التكوين

51-                    سفر الخروج

 

 

 



 

 

[2] بروتوكولات حكماء صهيون ص19

[3] -الكامل لابن الاثير  1/584

[4]صموئيل الثانى  11/4-5

[5] صموئيل الثانى  13/11

 

هل يستويان مثلا

Download

About the book

Author :

أحمد إسماعيل زيد

Publisher :

www.islamland.com

Category :

Biographies & Scholars