تيسير رب العباد شرح لمعة الاعتقاد

شرح لمعة الاعتقاد للإمام ابن قدامة المقدسي - رحمه الله -، وهي من الرسائل المهمة في تحقيق عقيدة أهل السنة والجماعة، وقد بدأها المصنف بمقدمة قرر فيها مسألة الربوبية، ثم ذكر عقيدة أهل السنة في صفات الله - تعالى -، مستدلًا على ذلك بجملة من الآيات والأحاديث الدالة على إثبات الصفات، ثم بيَّن - رحمه الله - عقيدة أهل السنة في مسائل الاعتقاد الأخرى: كالقضاء والقدر، والإيمان، واليوم الآخر، وأشراط الساعة، وغيرها من المسائل.

تيسير رب العباد شرح لمعة الاعتقاد

 

 
نبذة مختصرة عن ابن قدامة
اسمه ونسبه:
هو موفق الدِّين أبو محمد، عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، ثم الدِّمَشْقي، وُلِد في بلاد بيت المقدس (فِلَسْطين)، ثم انتقل إلى (دِمَشْق)، وهذا من حيث النسب إلى نشأته وسكناه فيما بعد، وإلاَّ فمِن حيث النسبُ إلى قبيلته فهو يرجعُ قرشيًّا عدويًّا، ومن حيثُ النسب إلى مذهبِه فهو حنبلي، وله مصنَّفات في المذهب الحنبلي، بل إليه المرْجع في عصْرِه في فقه الإمام أحمد؛ فهو ابن قُدامة المقدسي الدِّمَشْقي القرشي العدوي الحنبلي، كان صاحب ورَعٍ وزُهْد، وهيبة ووقار، استفرغ وقته في العلْم والعمَل.
مولده:
تقدَّم أنه وُلِد في (فِلَسْطين) في بلدة تسمى (جُمَّاعيل)، قرب (نابلس)، وكانتْ ولادتُه في شهْر شعبان سنة 541 هـ، وتوفِّي سنة 620 هـ في دمشق، ودُفِن في مقْبرة مشْهُورة بـ(جبل قاسيون).
رحلاته:
ارتحل ابن قُدامة من (فِلَسْطين) إلى (دِمَشْق)؛ حينما استولَى الصليبيون على (فِلَسْطين)، وعُمْرُ ابن قدامة حينئذٍ عشر سنوات، فقدم هو وأهله فقرأ القرآن، وحفظ "مختصر الخِرَقِي"، وارتحل إلى بغداد هو وابن خالته - صاحب "عمدة الأحكام"؛ عبدالغني المقدسي سنة 561 هـ، وسمع من مشايخ كثيرين في بغداد، ومكث ابن قدامة في بغداد أربع سنوات؛ طلبًا للعلم، فبرع في الفِقْه والحديث، والنحو واللغة، والحساب والنجوم السيَّارة، وغيرها منَ العلوم، ثم ارتحل إلى (دِمَشْق)، وهناك ذاع صيتُه، وصار يقيم حلقات العلم هناك بالجامع المظفري بـ(دمشق)؛ لنشْر المذهب الحنبلي، ويؤمّ الناس فيه بالصلاة.
شيوخه وتلاميذه:
لابن قدامة مشايخُ كُثُر، منهم: والده أحمد، وأبو زُرعة طاهر المقْدسي، وناصح الإسلام أبو الفتح نصر بن فتيان، وغيرهم.
وله تلاميذ كُثُر أيضًا؛ لكثْرة مَن يأتيه ويسمع منه في الجامع المظفري؛ منهم: سيف الدين أحمد بن عيسى المقدسي، وشمس الدين عبدالرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي - وهو ابن أخ صاحب الترجمة ابن قدامة - ولشمس الدين الكتاب المعروف بـ"الشرح الكبير في شرْح المقنع"، وهو مطبوع مع كتاب "المغني"؛ للموفق ابن قدامة.
تصانيفه:
له كثيرٌ من التصانيف التي لاقتْ قبولاً من العلماء، نذْكُر منها:
في الفقه: "المغني"، و"الكافي"، و"العُمْدة".
وفي العقيدة: "لُمْعة الاعتقاد"، و"ذم التأويل"، و"القدَر"، و"إثبات صفة العلُو".
وفي أصول الفقه: "روضةُ الناظر وجنَّة المناظر".
وفي الرقائق والزهد: كتاب "التوَّابين".
وفي الحديث: "مختصر عِلل الحديث للخَلاَّل".
وله مُصنفات أخرى.
عصر المُصَنِّف من حيث الاعتقاد:
عصر المُصنف هو النصف الثاني من القرن السادس، ويتمَيَّز من حيث الاعتقاد بأمرَيْن:
1- ظُهُور عقيدة الأشاعرة؛ فهي العقيدة السائدة بين الناس في ذلك الوقت بل الدولة، كان هذا منهجهم، وهي الدولة الأيوبية؛ ولذا من تأمَّل تصانيف ابن قدامة في العقيدة وَجَدَها تدور على توحيد الأسماء والصفات؛ لأنه في هذا النوع من التوحيد خالَف الأشاعرة.
2- وجود الرافضة في عصر المصنِّف، ولكن ليس في (دمشق)، وإنما في مصر، ودولتهم العبيدية التي قضى عليها صلاح الدين الأيوبي، يُضاف إليه وُجُود الصليبيين في فِلَسطين، واستيلاؤُهم عليها؛ ولذا خرج المصنف من (فِلَسْطين) في سنِّ العاشرة.
علاقة الاعتقاد السابق برسالة "لُمْعة الاعتقاد":
لَمَّا وجد في عصر المصنّف فرقتان خالفتا مذْهب أهل السُّنة والجماعة، وهما: الأشاعرة والرافضة؛ جاءت رسالة "لُمعة الاعتقاد" في بيان المذهب الصحيح فيما خالفت فيه الطائفتان؛ ولذا فإنَّ رسالة "لمعة الاعتقاد" في جملتها تناولتْ أمرَيْن:
أ- مذهب أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى وصفاته العُلَى، وفيه ردٌّ على الأشاعرة.
ب- مذهب أهل السنة والجماعة في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزوجاته - رضي الله عنهنَّ - وفيه ردٌّ على الرافضة.

"لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد"
اللمعة: تُطلَق في اللغة على معانٍ عدَّةٍ؛ منها: البُلغة من العيش، واللُّمْعَة هي: البياض والصفاء، و"لمعة الاعتقاد": بُلْغَتُه وصفاؤه، وصحته المستمَدَّة من الكتاب والسُّنَّة، وإذا كانتْ هذه العقيدة مستمدُّها الكتاب والسنة، فلا شك أنها طريقة للرَّشَاد في الدنيا بسلوك العقيدة الصحيحة، والبُعد عن البدَع والضلال، والهوى وأهله، وهي طريقة للرَّشَاد في الآخرة؛ فمَن مات على التوحيد الصحيح، أوصلته عقيدته - بفَضْلِ من الله - إلى جنَّات الخُلْد.
والمصنِّف قال: "لمعة الاعتقاد"؛ أي: إنه لَم يرد بذلك تفصيلٌ، وإنما هي بُلْغَة في الاعتقاد، نسأل الله أن يُثَبِّتَنا على الكتاب والسنة والعقيدة الخالصة.

* * * * * * * * *
1- قال المصنف - رحمه الله -:
"بسم الله الرحمن الرحيم، الحَمْدُ للهِ، المحمُودِ بِكُلِّ لِسان، المعبودِ في كُلِّ زَمان، الَّذِي لا يَخْلُو مِنْ عِلْمِهِ مَكان، ولا يشغَلُه شان عن شان، جلَّ عَنِ الأشباهِ والأنْداد، وتَنَزَّهَ عَنِ الصَّاحِبَةِ والأولاد، ونفذ حُكمُهُ في جميعِ العباد، لا تُمَثِّلُهُ العقولُ بالتفكير، ولا تَتَوَهَّمُهُ القلوبُ بالتصوير؛ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ ، له الأسماءُ الحسنَى، والصفاتُ العُلَى، ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ ، ﴿أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ ، وقهر كلَّ مخلوقٍ عِزَّةً وحُكْمًا، ووسِعَ كلَّ شيءٍ رحمةً وعِلمًا، ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ .

الشرح
تضمَّنَتْ مُقدِّمة المؤَلِّف عدة أُمُور:
- البداءة بالبسملة:
بدأ المصنِّف رسالته بـ"بسم الله الرحمن الرحيم"؛ وذلك:
1- اقتداءً بكتاب الله - عزَّ وجلَّ - العظيم.
2- اقتداءً بكتاب نبي الله سليمان - عليه السلام - إلى بلقيس وقومها؛ قال تعالى: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ .
3- اتِّباعًا لسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد ثبت في "صحيح البخاري"، من حديث أبي سفيان - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب كتابًا إلى هرقل ابتدأه بـ(بسم الله الرحمن الرحيم)، فالبداءة بالبسملة سُنَّةٌ، ومعناها:
أ- (بسم الله)؛ أي: أفعل الشيء - وهنا: أبدأ بتوضيح "لُمعة الاعتقاد" - مستعينًا ومُتَبَرِّكًا بكلِّ اسم من أسماء الله تعالى.
ولفظ (الله): اسم من أسماء الله الخاصَّة به؛ ومعناه: المألوه حبًّا وتعظيمًا.
(الرحمن): اسم من أسماء الله تعالى الخاصَّة به؛ ومعناه: ذو الرحمة الواسعة.
(الرحيم): اسم من أسماء الله تعالى؛ ومعناه: المُوصل رحمته إلى مَن يشاء مِن خلقه، وهو ليس خاصًّا بالله - عزَّ وجلَّ - فقد قال - تعالى - عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ﴾ .
والفرق بين (الرحمن) و(الرحيم): أنَّ الرحمن يُفيد بأن الرحمة وصفٌ له - سبحانه وتعالى - والرحيم يفيد بأن الرحمة فعلٌ له يُوصلها مَن يشاء مِن خلقه.
- الثناء على الله بالحمد:
البداءة بالحَمْدَلة والثناء عليه سُنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضًا في خُطبِه؛ لحديث جابر بن سمرة عند مسلم، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب حَمِدَ اللهَ، وأثنى عليه، قال ابن القيم: "وكان - أي: النبي صلى الله عليه وسلم - لا يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله" ، وأما حديث: ((كلُّ أمر ذي بال لا يُبْدَأ فيه بالحمد لله - وفي رواية: بحمد لله - فهو أقطع))، وفي رواية: ((فهو أبتر))، وفي رواية: ((فهو أجذم))، فهو حديث ضعيف؛ رواه أبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، والدارقطني، وضعَّفه الألباني؛ فلا يصح مرفوعًا، والصواب أنه مرسل عن الزهري، وكذلك اللفظ الآخر: ((كلُّ أمرٍ لا يبدأ فيه بـ(بسم الله الرحمن الرحيم)، فهو أبتر))؛ قال عنه الألباني: "ضعيف جدًّا" .
معنى (الحمد لله): الاعتراف للمَحْمود بصفات الكمال، مع محبته وتعظيمه، وقولنا: (مع محبته وتعظيمه): قيدٌ يفرق بين الحمد والمدْح، فالمدْح: فيه ذِكْر صفات الممدوح لكن لا يستلزم المحبة والتعظيم.
قال ابن القيم: "فالصواب في الفرْق بين الحمد والمدح أن يقال: الإخبار عن محاسن الغير، إما أن يكون إخبارًا مُجَرَّدًا من حبٍّ وإرادة، أو مقرونًا بحبٍّ وإرادته، فإن كان الأول فهو المدح، وإن كان الثاني فهو الحمد" .
وهناك فرقٌ آخر وهو: أن الحمد: الثناء بالصفات التي يُتَخلَّق بها: كالعلم، والحلم، والعدل، ونحوها، وأما المدح: فهو الثناء بالصفات التي جُبِل عليها، ولا صنع له فيها؛ كالجمال، والطول، والخلق، ونحو ذلك.
ولَمَّا كان الحمدُ يقتضي المحبة والتعظيم؛ افتتحت أعظم سورة بـ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ، وأُمِرْنا بحمد الله؛ قال تعالى: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّه﴾ ، والله - عزَّ وجلَّ - يُحمَدُ على كمالِه وإنعامه، وأمره ونهيه، وخلقه، وكل شيء يستحق الحمْدَ عليه.
و(أل) في (الحمد لله): للاستغراق؛ أي: إنَّ جميع المحامِد لله - عزَّ وجلَّ - فلا يستحق الحمد المطلق إلا الله - عزَّ وجلَّ - وحرف الجر (اللام) في (الله) يُفيد الاختصاص، فيُخَصُّ الله بالحمد المطلق.
- الحمد من حيث الذِّكر ينقَسِم إلى قسمَيْن:
أ- مقيَّد: يُقال في مَواطن وردتْ بها السنة: عند ابتداء الخطبة، وابتداء الدُّعاء، وختام المجلس: ((سبحانك اللهُمَّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك))، وفي الرُّكوع والسجود: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك))، وبعد الرفع من الرُّكوع، وأدبار الصلوات، وعند الاستيقاظ من النوم: ((الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، وإليه النُّشور))، وبعد الفراغ من الطعام، وغيرها من المواطن الواردة في السنة.
ب- مطلَق: وهو أن يحمد العبدُ ربَّه على كل حال، وهو يُحْمَد على كل سرَّاء وضرَّاء، فقد رَوَى ابنُ ماجه، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وقال النووي: إسناده جيِّد، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أصابته السرَّاء قال: ((الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات))، وإن أصابته الضرَّاء قال: ((الحمد لله على كل حال))".
- الله - عزَّ وجلَّ - محمودٌ بكل لسان:
- محمود بكل لسان يشمل أمرَيْن:
أ- لسان الحال: فإنه وإن كفر بعضهم، فلا يحمد الله بمقاله، بل ربما ينسب النعم لغير الله - عزَّ وجلَّ - بقوله، ولكن لسان حالهم أنهم معترفون بحاجتهم لله - عزَّ وجلَّ - وأن الفضْل له سبحانه؛ فهو أهلٌ أن يُحمَد، ولو أنكرتْ ذلك أقوالهم.
ب- لسان المقال: فهو محمودٌ على جميع الألْسنة، وإن اختلفت اللُّغات.
- محمود بكل لسان: يشمل جميع المخلوقات، فكلها تحمده وتسبحه؛ ودليل ذلك: قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ .
وتسبيحُ المخلوقات بحمد الله تسبيحٌ حقيقيٌّ، لا تدركه عقولنا؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ ، وسواء كانتْ هذه المخلوقات حيوانات أو جمادات، فكلُّها تسبِّح بحمد الله تسبيحًا لا نفقهه، فسبحان الله وبحمده.
- الله - عزَّ وجلَّ - معبودٌ في كل زمان:
- العبادة في اللغة: هي الذلُّ والخضوع، وفي الشرْع: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يُحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، والبراءة مما ينافي ذلك ويضاده.
- ومن خلال تعريف العبادة لغةً وشرعًا، يَتَبَيَّن لنا أنَّ عُبُودية الله - عزَّ وجلَّ - على قسمَيْن:
القسم الأول: عبودية عامَّة: وهي أن كلَّ الخلْق تحت قهره، فهم مقْهُورون خاضعون لله - سبحانه وتعالى - يفعل فيهم ما يشاء، ويحكم ما يُريد، وهذا النوع منَ العبودية يشمل جميع الخلْق، ولا يخرج منه أحد، ويدل على هذه العبودية:
1- قوله تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ .
2- قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير﴾ .
القسم الثاني: عبوديةٌٌ خاصَّة: وهي عُبُودية الطاعة، وهي التي يَتَميَّز بها المسلمون عن الكفار، ويدل عليها:
1- قوله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ .
2- قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ .
- ومن خلال قسمَي العبودية، فالله - عزَّ وجلَّ - معبودٌ في كلِّ زمان، وهذا ظاهر في العبودية العامة؛ فكل شيء في هذا الكون إلى قيام الساعة تحت قهره - سبحانه.
وأما العبودية الخاصة؛ فدلالة ذلك من وجهَيْن:
1- ما نقل إلينا من أخبار الرُّسُل وعبوديتهم لله - عزَّ وجلَّ - ومن تبعهم من أقوامهم، وأما آدم فقد أُهبِط إلى الأرض وهو على التوحيد، وأما خاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد قال: ((لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرُّهم مَن خذلهم، ولا مَن خالفهم، حتى يأتي أمرُ الله - تبارك وتعالى))، رواه مسلمٌ من حديث ثَوْبَان، وبِنَحْوه عن معاوية في الصحيحَيْن.
2- بقية المخلوقات التي تعبد الله - عزَّ وجلَّ - في كل زمان، ومن ذلك الملائكة؛ قال الله - عزَّ وجلَّ - عنهم: ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ﴾ ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عنهم: ((إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئط؛ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجد))، رواه الترمذي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه.
- الله - عزَّ وجلَّ - لا يخلو من علمه مكان:
فالله - عزَّ وجلَّ - يعلم كلَّ شيء؛ قال عن نفسه: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ، وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ .
- الله - عزَّ وجلَّ - لا يشغله شانٌ عنْ شان:
فهو - سبحانه - لكمال صفاته؛ لا ينشغل بسماع هذا عن هذا، بل يدعوه مئات الألوف وأكثر في لحظة واحدة، ويسمع دعاءَهم، ويعرف حاجاتهم، لا يختلف عليه شيء في شيء - سبحانه - ولا يخفَى عليه شي من أمْرِهم؛ قال تعالى: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِين﴾ .
- الله - عزَّ وجلَّ - جلَّ عن الأشباه والأنداد:
الأشباه: جمع (شبيه) وهو: الكُفْء، وجلَّ الله عن ذلك؛ قال تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ .
الأنداد: جمع (نِدّ)، وهو: المثيل، وجلَّ الله وتعالى عن ذلك؛ قال تعالى: ﴿فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ .
وأعظم ذنب أنْ يجعلَ الإنسان لله ندًّا؛ ويدلُّ على ذلك: ما جاء في الصحيحَيْنِ من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألتُ رسولَ الله: أي الذنب أعظم؟ فقال: ((أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك)).
- الله - عزَّ وجلَّ - مُنَزَّه عن الصاحبة والولد:
- الصاحبة: الزَّوْجة، والله - عزَّ وجلَّ - مُنَزَّهٌ عن اتِّخاذ زوجة أو ولد؛ وذلك لكماله - سبحانه - وغناه، وإنما يتخذ ذلك المخلوق لضعفه؛ قال تعالى: ﴿وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا﴾ ، وقال تعالى: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ﴾ ، وقال تعالى: ﴿لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار﴾ ، وقال تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾ .
- وزَعَم قومٌ أنَّ لله ولدًا وصاحبةً؛ فزعمتِ النصارى أن المسيح ابن الله، وزعمت اليهود أنَّ عُزيرًا ابن الله؛ قال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ ، وزعم المشركون من أهْل الجاهلية أنَّ الملائكة بنات الله؛ فقال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ﴾ ، تعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا، وما يقوله هؤلاء تَتَفَطَّر له المخلوقات العظيمة، وتنشق وتَخِر؛ قال تعالى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا﴾ ؛ وذلك لعِظَم شناعة ما قالوه؛ لأنَّ إثبات هذه الأشياء لله يستلزم أنه بحاجة إلى المساند والمُساعِد من الولد أو الصاحبة يعينه عند عجزه، ويساعده عند حاجته، تعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا؛ فله الكمال المطلَق.
ونفي الصاحبة والولد، وقبله نفي الكُفْء والنِّد، ونفي الشريك والظهير - أي: المُعِين - في قوله تعالى: ﴿وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ﴾ ، كل هذا يقتضي إثبات صفات الوحْدانية والتفَرُّد لله - جل شأنُه - فهو الواحد الأحد، الذي يصمَد إليه عند الحاجات، ولا يحتاج صاحبةً ولا ولدًا يعينُه؛ فله الكمال المطلق؛ قال تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ ، وقال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد﴾ ، فنفي الصاحبة والولد، والكُفْء والظهير، والشريك والنِّد، كل هذا يقتضي ويتضَمَّن إثبات الوحدانية والتفَرُّد، فلا إله إلا هو، الواحد الأحد الصمد، وسيأتي في قواعد الصفات: أنَّ الصفات السلبية التي تُنفَى عن الله - عزَّ وجلَّ - يجب إثبات ضدها على الوَجْه الأكمل؛ لأن النفي لا يكون كمالاً حتى يتضمن ثبوتًا.
- الله - عزَّ وجلَّ - نافذٌ حكمُه في جميع العباد:
وهذه صفةٌ ثبوتيةٌ، والمصنِّف بعدما ذكرَ صفات سلبيَّة، ذكر صفة ثُبُوتية، وهي: أن الله - عزَّ وجلَّ - نافذٌ حكمُه وأمرُه في جميع العباد؛ قال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ .
- فلا يَرُدُّ حكمَه أحدٌ إذا أراد شيئًا قال له: كن فيكون؛ قال تعالى: ﴿وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ .
- وأمره - سبحانه - لا يُؤَخِّره مُؤَخِّرٌ إذا قضاه؛ قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾ ؛ لا معقب؛ أي: لا مُؤخِّر.
- وأما المخلوق فقد يأمر وليس له حكمٌ أو أمرٌ، وقد يكون له أمرٌ وحكمٌ على غيره ولكن قد يُردُّ حكمه، وقد لا يُردُّ حكمه وأمره ولكنه يؤخَّر، فلا ينفذ بسرعة، ويعتريه النقْص؛ يكون في موطن آمرًا لغيره، وفي موطن آخر مأمورًا، وأما الحكم والأمر المطلق الذي لا يلحقه نقصٌ لله الواحد القهار: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّه﴾ .
- الله - عزَّ وجلَّ - لا تمثله العقول بالتفكير، ولا تتوهمه القلوب بالتصوير:
وهذه من الصِّفات السلبية، وهي نفْي تصوُّر العقول والقلوب لذاته - سبحانه - وذلك لعجْز المخلوقات عن الإحاطة به - سبحانه - قال تعالى: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ .
وقال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ .
- الله - عزَّ وجلَّ - مع كمال عظمتِه لَم يأمرْنا في التفكُّر بذاته؛ لعجْز عقولنا وقلوبنا عن تصوُّر ذلك، وأَمَرَنا بالتفكُّر في مخلوقاته وآياته؛ فقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ ، والآيات كثيرةٌ في هذا الباب.
- بل إنَّ عقولنا وقلوبنا تعجز عن تصوُّر ما في الجنة، فكيف تُتَصَوَّر ذات الله تعالى؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قال الله تعالى: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأتْ، ولا أذن سَمعتْ، ولا خطر على قلب بشَر، واقرؤوا إن شئتم: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾)) .
- الله - عزَّ وجلَّ - له الأسماء الحسنى، والصِّفات العُلَى:
وأسماءُ الله الحسنى وصفاته العلى موضوعان، يندرج تحتهما قواعد يَحْسُن بالمسلم معرفتُها، ولأن هذا المتن - لُمعة الاعتقاد - فيه نصيب كبيرٌ منَ الكلام على صفات الله تعالى؛ فمِنَ الأفضل معرفة أهمِّ هذه القواعد، قبل الوصول إلى آيات الصفات.
أولاً: أسماء الله:
فمن القواعد في أسماء الله تعالى ما يلي:
القاعدة الأولى: أسماء الله كلها حسنى:
ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ ، والمعنى: أنها بالِغة في الحُسن غايته؛ لأنها مُتَضَمِّنة لصفات كاملة لا نقص فيها بوَجْه من الوجوه.
مثال ذلك: اسم الله (العليم)، هذا الاسمُ بلَغ في الحسن غايته؛ فهو متضمِّن للعلْم الكامل الذي لَم يسبق بجهل، ولا يلحقه نسيان، بِخلاف الخلْق فقد تجد من الناس من عنده علْم، ولكن علمه يعتريه النقْص، ويسبقه جهْل، ويلحقه نقْص، والله - عزَّ وجلَّ - مُنَزَّه عن ذلك؛ لأن أسماءَه حسنى، تتضمن صفات كاملة لا نقص فيها بأيِّ وجهٍ.
القاعدة الثانية: أسماء الله تعالى أعلام وأوصاف:
فهي أعلامٌ تدلُّ على ذاته - سبحانه وتعالى - وهي أوصاف تدلُّ على معانٍ تضمنتها؛ دليل ذلك ومثاله: اسم الله (الرحيم): سمَّى الله - عزَّ وجلَّ - به نفسَه؛ فقال تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ ، وبيَّن الله - عزَّ وجلَّ - في آية أخرى ما يدلُّ على أن الرحيم هو المتَّصِف بالرحمة؛ فقال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَة﴾ .
مثال آخر: اسم الله (العظيم): هو اسمٌ من أسماء الله تعالى، سَمَّى به نفسه؛ فقال تعالى: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ ، وهذا الاسْمُ مُتضمِّن لصِفة العظَمة.
- وتحت هذه القاعدة قاعدتان:
الأولى: أنَّ أسماء الله - عزَّ وجلَّ - أعلامٌ مترادِفة، تدل على مسمى واحد، وهو الله - عزَّ وجلَّ - وهي أوصاف، كل وصْف يدلُّ على معنى خاصٍّ تضمَّنه ذلك الاسم؛ مثال ذلك: أسماء الله تعالى: (العليم، الرحمن، الرحيم، الحي، القدير، العزيز، الحكيم، السميع، البصير)... وغيرها من الأسماء الثابتة، كلُّها أسماء لِمسمى واحد وهو الله - سبحانه وتعالى - لكن المعنى الذي تضمَّنه (العليم) غير معنى (الرحمن)، ومعنى (الرحمن) غير معنى (البصير)... وهكذا.
الثانية: أنَّ هناك مِن أسماء الله تعالى ما يَتَضَمَّن وصْفًا متعدِّيًا لا بُدَّ من الإيمان به أيضًا.
مثال ذلك: اسم الله (الرحمن)، لا بُدَّ حين الإيمان به:
1- أن نؤمن بإثباته اسمًا لله - عزَّ وجلَّ - يدل على ذاته تعالى - كما تقدم بيان هذا - قال تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ .
2- أن نؤمنَ بما تضمَّنه هذا الاسم من معنى أو صفة: وهي الرحمة، وتقدَّم بيان هذا.
3- أن نؤمن بأنه يرحم مَن يشاء؛ لأن هذا وصفٌ مُتَعَدٍّ، يُوصله الله - عزَّ وجلَّ - إلى مَن يشاء مِن عباده؛ قال تعالى: ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ﴾ .
مثال آخر: اسم الله (السميع)، حين الإيمان به فإننا:
1- نؤمن بإثباته اسمًا لله - عزَّ وجلَّ - يدل على ذاته تعالى؛ قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ .
2- نؤمن بما تضمَّنه هذا الاسم من معنى، وهو إثبات صِفة السمْع لله تعالى.
3- نؤمن بِمُقْتَضى ذلك، وهو أنه يسمع ما يشاء؛ فيسمع السِّرَّ والنَّجوى؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ ، مثال على اسمٍ لله غير مُتَعَدٍّ: (العظيم)، وقد تقدَّم الكلامُ عليه.
القاعدة الثالثة: أسماء الله تعالى غير محصورة بعدد معين:
ويدلُّ على ذلك حديث ابن مسعود، وفيه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أسألك بكل اسم هو لك، سمَّيت به نفسك، أو أنزلتَهُ في كتابك، أو علَّمْتَهُ أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علْم الغَيْب عندك...)) .
ووجه الدلالة: أن ما استأثر الله به في علْم الغيب عنده كثيرٌ، لا يُمكن حصْره، ولا إحاطته.
إشكالٌ: كيف نجمع بين هذه القاعدة، وبين حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((إنَّ لله تسعةً وتسعين اسمًا، مَنْ أحصاها دخل الجنة)) ؟
الجمع بينهما أن يُقَال: ليس في حديث أبي هريرة ما يدل على حصْر أسماء الله تعالى في تسعة وتسعين اسمًا، وإنما يدل على أنَّ مَن أحصى لله تسعة وتسعين اسمًا من أسمائه دخَل الجنة؛ كمَن يقول عندي مائة درهم أعددتها للصدقة، فلا يمنع أن يكون عنده أكثر من ذلك، ولكن ما أعدَّه للصدقة هو مائة فقط، وأما ما رواه التِّرْمذي، وابن ماجه، في تَعْداد التِّسعة وتسعين اسمًا بعد الحديث السابق، فليست من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - باتفاق أهل المعرفة، كما قال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية في "مجموع الفتاوى" (6/ 382)؛ ولهذا قال الألباني في "ضعيف ابن ماجه" عن تعداد الأسماء: "صحيحٌ دون عَدِّ الأسماء" .
القاعدة الرابعة: أسماء الله تعالى توقيفية، لا مجال للعَقْل فيها:
فلا نثبت من أسمائه إلا ما جاء في الكتاب والسنة، فلا يُزَادُ ولا يُنقَصُ، إنما نثبت ما جاء به النَّص؛ ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ ، وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ .
القاعدة الخامسة: اجتناب الإِلْحاد في أسماء الله تعالى:
والإلحاد فيها: هو المَيْل بها عما يجب فيها، وهو على أنواع:
1- إنكار شيء مما دلَّت عليه وتضمنته الأسماء من صفات وأحكام، كما فعل أهل التعطيل.
2- جعْل أسماء الله تعالى متضمنة لصفات تُشابه صفات المخلوقين، كما فعل أهل التشبيه.
3- إطلاق اسم على الله لَم يُسَمِّ به نفسه، كتسمية النصارى له: (الأب)، وتسمية الفلاسفة له: (العلة الفاعلة)، فهذا إلحادٌ في أسمائه، وعدم تنزيه الله عما لا يليق به - سبحانه.
4- اشتقاق أسماء للأصنام والمعبودات من دونه من أسمائه - جل وعلا - كما فعل المشركون في اشتقاقهم العُزَّى من (العزيز)، واللات من (الله).
والإلحاد بأسمائه - جل وعلا - مُحَرَّمٌ، وأوعد الله الذي يُلْحِدُون في أسمائه؛ فقال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ، ومن هذا الإلحاد ما يكون شركًا أو كُفرًا، حسب الأدلة المقتضية له.
ثانيًا: صفات الله تعالى:
القاعدة الأولى: صفات الله تعالى كلُّها صفات كمال، لا نقص فيها بأيِّ وجْه من الوجوه:
ويدل على هذه القاعدة قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم﴾ ، والمثل الأعلى: هو الوصْفُ الأعلى، فصِفات الله تعالى صفات كمال لائقة به - سبحانه - لا نقص فيها ألْبَتَّة.
- وصفات النقْص على نوعَيْن:
1- صفات نقصٍ لا كمال فيها، فهذه مُمتنعةٌ في حقِّ الله تعالى، لا تُثبَتُ بأيِّ وجْه كان؛ كالموت؛ قال تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾ ، والجَهْل والنسيان؛ قال تعالى: ﴿لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى﴾ ، والعَجْز، والعمى، والصمَم، ونحوها.
2- صفات نقْص فيها كمال، فهي صفات نقْص من وجْهٍ، وصفات كمال من وجهٍ آخر، فهذه الصفات لا تُثبَت لله إثباتًا مطْلقًا، ولا تُنْفَى عنه نفيًا مطلقًا، وإنما تُثْبَتُ في حال الكمال، وتُنْفَى في حال النقص؛ مثال ذلك: صفة المكْر، والكيد، والخداع، فهذه صفات نقصٍ، لكنها صفات كمال من وجْه آخر، وذلك إذا كانت في مقابلة مثلها؛ لأنها حينئذٍ تدل على أن فاعلها ليس بعاجز عن مقابلة عدوِّه بمثل فعله، وتكون نقصًا في غير هذه الحال؛ ولذا أثبتها الله - عزَّ وجلَّ - لذاته حال الكمال، وهي حال المقابلة.
مثال ذلك: قال تعالى: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ ؛ قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ ، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ ، قال تعالى: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِم﴾ .
القاعدة الثانية: ليس كلُّ صفةٍ تكون اسمًا لله تعالى؛ فباب الصفات أَوْسَعُ مِن باب الأسماء:
تقدَّم في القاعدة الثانية من قواعد الأسماء: أنَّ كلَّ اسم يتضَمَّن صفةً لله تعالى ولا عكس في ذلك، فليس كل صفةٍ تكون اسمًا؛ لأنَّ باب الصفات أوسعُ، فمِن صفات الله ما يتعَلَّق بأفعال الله تعالى، وأفعالُه لا منتهى لها؛ مثال ذلك: صفة الله تعالى (المجيء)؛ قال تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ ، وصفة (الإتيان)؛ قال تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ ، وصفة (الأَخْذ)؛ قال تعالى: ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ ، وصفة (البطْش)؛ قال تعالى: ﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ﴾ ، وصفة (النزول)؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ينزل ربُّنا إلى السَّماء الدُّنيا)) ، وغيرها منَ الصِّفات الواردة.
هذه الصِّفاتُ نُؤمِنُ بها، ونثبتها لله تعالى، فنصفه بها على الوَجْه الوارد اللائق، ولكن لا نُسميه بها، فلا نقول مثلاً: إنَّ مِن أسماء الله تعالى: الجائي، والآتي، والآخِذ، والباطش، والنازل، وإن كنُّا نصفه بها، فبابُ الصفات أوْسَعُ من باب الأسماء؛ فكلُّ اسم يتضَمَّن صفةً، وليس كلُّ صفة نأخذ منها اسمًا له - سبحانه .
القاعدة الثالثة: صفات الله تعالى تنقسم إلى قسمين: ثُبُوتيَّة، وسلبيَّة:
فالثُّبُوتيَّة: ما أثبتها الله لنفسه في كتابه، أو على لسان رسولِه - صلى الله عليه وسلم - كالحياة، والعلم، والقُدْرة، فيجب إثباتُها على الوَجْه اللائق به - سبحانه.
والسلبيَّة: ما نفاها الله عنْ نفسِه في كتابه، أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - كالظُّلْم، والمَوْت، والنوم، فيجب نفيُها عن الله تعالى، مع وجوب إثبات ضدها على الوجه الأكْمَل؛ مثال ذلك:
- قال تعالى: ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ ، فيجب نفيُ الظلْم عن الله تعالى، مع وُجُوب إثبات العدْل لله على الوَجْه الأَكْمل.
- قال تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾ ، فيجب نفْيُ المَوْت عن الله تعالى، مع وُجُوب إثبات الحياةِ لله على الوَجْه الأكمل.
القاعدة الرابعة: صفات الله الثبوتيَّة تنقسم إلى قسمَيْن: ذاتيَّة، وفعليَّة:
فالصِّفات الذَّاتية: هي التي لا تَنفَكُّ عن الموصوف مُطلقًا، وهي في حقِّ الله تعالى لَم يزلْ ولا يزال الله - جلَّ وعلا - مُتَّصِفًا بها؛ يعني: أنه لا يتَّصِف بها في وقتٍ دون وقتٍ، بل هي مُلازمة له - سبحانه - مثال ذلك: صفة الوَجْه؛ قال تعالى: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ ، صِفة اليدَيْن: قال تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ ، وكذا السمْع والبَصَر، والعُلُو والعَظَمة.
والصِّفات الفعليَّة: هي التي تتعلَّق بمشيئته - سبحانه - فهي صفاتٌ قد تنفكُّ عنه، إن شاء فَعَلَهَا، وإن شاء لَم يفعَلْها، قد يتَّصف بها في حينٍ دون حين؛ كالنزول إلى السماء الدُّنيا، والاستواء على العَرْش، والمَجِيء.
القاعدة الخامسة: إثبات صفات الله تعالى يلزم منه التَّخَلِّي عن التمثيل والتكييف:
التخلِّي عن التمثيل يكون بعدَم مُماثَلة صفات المخلوقين بصفات الله، ولو تشابَهَتْ أسماء الصفات؛ كالوَجْه، واليدَيْن، ونحوها، فالله - عزَّ وجلَّ - لا تُماثِلُ صفاتُه صفات المخلوقين، تعالى الله عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا.
يدلُّ على ذلك قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ ، وقوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ .
والتخلِّي عن التكييف يكون بعدَم التعرُّض لكيفية صفات الله تعالى، ولو لَم يذكر مُمَاثِلاً لها؛ لأنه لا يُحِيطُ بكيفيتها أحدٌ؛ ولأنَّ الله تعالى أخْبَرَنا عن صفاته ولَم يُخبرْنا عن كيفيتها، ولأنَّ عُقُولَنا قاصرة عن إدراك كيفيتها؛ قال تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ .
- وأيضًا لا بُدَّ من الحذَر منَ التعطيل والتحريف:
التعطيل: هو إنكار ما يجب لله منَ الأسماء والصفات، إما كلها أو بعضها، والواجب التخلِّي عن هذا، والتعطيل ينافِي الإثبات، فيجب إثباتُ ما أثْبَتَه الله لنفْسه، أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويدل على ذلك قولُه تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾  ردٌّ على المُمَثِّلة، ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾  ردٌّ على المُعَطِّلة.
والتحريف: هو التبديلُ والتغييرُ، تبديلٌ باللفظ، أو تغييرٌ في المعنى، ويعبِّر عنه بعضُهم بـ: التأويل.
والواجب إثباتُ ما أثْبَتَه الله لنفْسه، أو على لِسَان رسولِه - صلى الله عليه وسلم - من غير تَمْثيل ولا تَكْييف، ومن غير تَعْطِيل ولا تَحْريف.
القاعدة السادسة: صفات الله تعالى توقيفية، لا مَجال للعقْل فيها:
كما أننا لا نُثبت لله تعالى من أسمائه إلاَّ ما دَلَّ عليه الكتابُ والسنة، فكذلك صفاته - سبحانه وتعالى - لا نثبت إلاَّ ما دلَّ عليه الكتاب والسنة، لا مجال للعقل فيها، فلا يزاد ولا ينقص، ويستدل لذلك بما تقَدَّم من أدلَّة القاعدة في الأسماء.
- فائدة: أدلَّة صفات الله تعالى من الكتاب والسنة على ثلاثة أوجُه:
1- إما أن يأتيَ الدليل مُصَرِّحًا بالصفة؛ كالعزة، والقوَّة، والرحمة، والوَجْه، واليدين، والبطش؛ قال تعالى: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَام﴾ ، وقال: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ .
2- أن يأتيَ الدليل مُصَِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّرِّحًا بالاسم، والاسم متضمنًا الصفة - كما تقدم في قواعد الأسماء - كالمغفرة تُؤخَذ من اسم (الغَفُور)، وصفة السمع تؤخذ من اسمه (السميع)؛ قال تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيم﴾ ، وقال: ﴿وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ .
3- أن يأتيَ الدليل مُصَرِّحًا بوصْفٍ أو فعل يدلُّ على الصفة؛ كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا؛ قال تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يَنْزل ربُّنا إلى السَّماء الدنيا)) .
القاعدة السابعة: صفاتُ الله لا حَصْر لها:
لأنَّ كلَّ اسم - كما تقدم - يَتَضَمَّن صفة، وأسماءُ الله لا حَصْر لها - كما تقدَّم في القاعدة الثالثة من قواعد الأسماء.
القاعدة الثامنة: ليس كلُّ ما أُضيف لله تعالى يَسْتَلْزِم أن يكونَ صفة له:
وتوضيح ذلك أن يُقَال:
أوَّلاً: كلُّ ما أُضيف إلى الله مما هو غير بائن عنه – أي: ليس مُستَقِلاًّ عنه - فهو صفة له غير مخلوقة، مثال ذلك: وجْه الله؛ قال تعالى: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَام﴾ ، يَدُ الله: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ ، وكذلك: سَمْع الله، وبَصَر الله، ورضاه، وسخطه.
ثانيًا: كل ما أضيف إلى الله وهو بائن عنه، فهو ليس بصفة له وهو مخلوق؛ مثال ذلك: (ناقة الله)؛ قال تعالى: ﴿فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا﴾ ، (بيت الله)؛ كما في الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((مَن تطهَّر في بيته، ثم مشى إلى بيت مِن بيوت الله))، فالناقة - وهي ناقة صالح، عليه السلام - والبيت - وهو المسجد - مخلوقان، وليسا صفةً لله تعالى، مع أنهما مضافان إليه؛ ولكن الإضافة هنا للتشريف والتعظيم.
والفرْق بين النوعَيْن: أنَّ الأول: لا يقوم بنفسه؛ فلا بُدَّ من إضافته لله تعالى، ويكون بإضافته صفة لله تعالى، والثاني: يقوم بنفسه، فالناقة ذات تقوم بنفسها من دون إضافة، وكذلك البيت، ولكنهما بالإضافة اكتسبا التشريف والتعظيم.
هذه جملةٌ من قواعد الأسماء والصفات وهي أهمها، وهناك قواعد أخرى تُراجَعُ في مَظَانِّها .

بيانُ طريقةِ السلف في صفات الله تعالى
2- قال المصنِّف - رحمه الله -:
"مَوْصوفٌ بما وصفَ به نفسَهُ في كتابِهِ العظيم، وعلى لسانِ نَبِيِّهِ الكريم، وكلُّ ما جاءَ في القرآنِ، أو صَحَّ عنِ المصطفى - عليه السلامُ - منْ صفاتِ الرحمنِ وَجَبَ الإيمانُ بِه، وتَلَقّيه بالتَّسْليمِ والقَبُول، وتَرْكِ التَّعَرُّضِ لَهُ بالرَّدِّ والتَّأْويل، والتَّشْبِيهِ والتَّمْثِيل، وما أَشْكَل مِنْ ذلك وَجَبَ إثْباتُه لفْظًا، وتَرْكُ التَّعَرُّضِ لِمعْناه، ونرُدُّ عِلْمَه إلى قائله، ونجعلُ عُهْدَته على ناقِلِه، اتِّباعًا لطريقِ الرَّاسِخِين في العِلْم، الذين أثْنَى اللهُ علَيْهِم في كتابِهِ المُبين بقوله - سبحانه وتعالى -: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ ، وقال في ذَمِّ مُبْتَغِي التَّأْوِيلِ لمتشابه تَنْزِيله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ ، فَجَعَلَ ابْتِغَاءَ التَّأْويلِ علامَة الزَّيْغِ، وقَرَنَهُ بابْتِغَاءِ الفِتْنَةِ في الذَّمِّ، ثم حَجَبَهُمْ عمَّا أَمَّلُوه، وقَطَعَ أَطْمَاعَهُمْ عمَّا قَصَدُوه، بقوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ .
الشرح
الكلام على طريقةِ السَّلَف في صفات الله تعالى - كما أوضح المصنِّف - من عِدَّةِ وجوه:
1- طريقتهم فيما وصَف الله به نفْسه في كتابه، أو على لسان رسولِه - صلى الله عليه وسلم -:
1- يصفون ويُثبِتون ما وصَف الله به نفْسه في كتابِه العظيم، وعلى لسان نبيِّه الكريم، فلا يصفونه بما لم يَرِد، ولا يردُّون ما ورد من صفاته في الكتاب والسنة، بل يثبتون ما ورد من الصفات في الكتاب والسنة، من غير زيادة ولا نقصان، وتقدم بيان ذلك في القاعدة السادسة من قواعد الصفات.
2- يؤمنون بها إيمانًا واجبًا مع تَلَقِّيها بالتسليم، وهو الانقياد لها، وبالقبول.
3- يتركون التَّعرُّض لها بالرد؛ كالتعطيل والتأويل، والتشبيه والتمثيل والتكييف، فالسلف في إثباتهم لصفات الله تعالى يجتنبون أربعة أمور:
الأول: الرد؛ كتعطيلها بإنكارها وتكذيبها.
التعطيل لغةً: الخُلُوّ والفراغ؛ قال تعالى: ﴿وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ﴾ ؛ أي: خَلَتْ، وهَجَرَها أهلُها، وفي الشرع: إنكار ما يجب لله تعالى من الأسماء والصفات، وذلك بنَفْي دلالة نُصُوص الكتاب والسنة على المراد بها، وهذا الإنكار إما أن يكون كليًّا؛ كتعطيل الجهمية، فهم يُنكرون جميع أسماء الله تعالى وصفاته، وإما أن يكون جزئيًّا؛ كتعطيل الأشعرية، الذين لم يثبتوا من الصفات إلا سبع صفات، دلَّ عليها العقل، وهي مجموعة في قول الناظم:
حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَالكَلاَمُ لَهُ = إِرَادَةٌ وَكَذَاكَ السَّمْعُ وَالبَصَرُ
وأهْلُ السُّنة والجماعة بعيدون عن هذا المسلك الضالِّ؛ فهم يُثبِتُون ولا يُعَطِّلون ما أثْبَتَهُ الله لنفْسِه في كتابه، أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أسماء وصفات.
الثاني: التأويل:
التأويل: في اللغة: الرجوع.
والمراد به هنا: تغْيير معنى نصوص الكتاب والسنة من المعنى الحق الذي دلَّتْ عليه، والذي هو إثبات الأسماء الحسنى والصفات العلى إلى معنى آخر لَم يُرِدْه الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - كما يفعل الجهمية والأشاعرة.
مثال ذلك: تأويل الاستواء في قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ، فيقولون: استوى بمعنى: استولَى.
مثال آخر: تأويل صفة اليدين في قوله تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ ، فيقولون: اليدان: النعمة، أو القدرة، أو النعمة والقدرة، وأهل السنة والجماعة بعيدون عن هذا المسلك الضالِّ، فهم يُثبتون الأسماء والصفات لله تعالى، كما يليق به وبعظمته من دون تأويل.
- فائدتان:
الفائدة الأولى: بعضُ العلماء يُعَبِّر بلفظ (التحريف) بدلاً عن (التأويل)، والتعبير بلفظ (التحريف) أفضل من التعبير بلفظ (التأويل)؛ لعدة أمور:
أولاً: لأن هذا هو تعبير القرآن؛ قال تعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِه﴾ ، والتعبير بما عبَّر القرآن أَوْلَى.
ثانيًا: لأن التعبير بالتحريف أدلُّ على الحال، وأبلغ في إظهار المعنى، فالنفْس حينما تسمع لفظ (التحريف) تعرف أنه لفظٌ لا يقبل صوابًا، بل جَانَبَه، بخلاف التأويل، ومَن خالَفَ طريق السلَف فالأفضل أن نطلقَ عليه: مُحَرِّفًا.
ثالثًا: لأن التأويل ليس مذمومًا كله - كما سيأتي بيانه - بل الأصلُ في إطلاق السلَف أنه ليس مذمومًا، بخلاف التحْريف فهو مذمومٌ كلُّه .
- تبيَّن مما تقَدَّم أنَّ التعبير بلفْظ التحريف أفضل، والتحريف نوعان:
1- تحريفٌ لفظي: وهو تبديل اللفْظ بلفظ آخر؛ كقول بني إسرائيل: (حِنْطَة)، بدل (حِطَّة).
2- تحريف معنوي: وهو تغيير معاني نُصُوص الكتاب والسنة إلى معنى لَم يُرِدْه الله تعالى، ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو التأويل الفاسد - كما تقدَّم - كتأويل صفة الاستواء بالاستيلاء، وصفة اليدين بالنِّعمة أو القُدرة.
الفائدة الثانية: لفْظ (التأويل) يُطلق على ثلاثة معان:
الأول: الحقيقة التي يؤول إليها الشيء؛ أي: المَآل والمرْجع والعاقبة في المستقبل:
مثال ذلك: الرُّؤيا حقيقتها ستَؤُول إلى شيء في المستقبل؛ كما أخْبَر الله عن يُوسُف - عليه السلام - أنه قال: ﴿وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ﴾ .
مثال آخر: اليوم الآخر حقيقته ستؤول إلى أحداثٍ ستَقَعُ فيه؛ كما قال تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ﴾ .
الثاني: بمعنى التفسير:
مثال ذلك: قولك: تأويل هذه الآية كذا وكذا؛ أي: تفسيرها، والمتتبِّع لـ"تفسير ابن جرير الطبري" يجده كثيرًا ما يقول: القول في تأويل قول الله تعالى؛ أي: تفسيرها، ومنه دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس: ((اللهم فقِّهْهُ في الدِّين، وعلِّمه التأويل))؛ أي: التفسير ، وهذان المعنيان صحيحان مشْهوران عن السلَف الصالح؛ بِخِلاف المعنى الثالث، فهو مُتَأَخِّر.
الثالث: صرْف اللفظ عن ظاهِره إلى معنى يُخالف الظاهِر، وهذا التأويلُ هو الذي وُجد مُؤَخَّرًا، فهو اصطلاحٌ متأخِّرٌ عند المتكلِّمين وغيرهم، وهو على نوعين: تأويل صحيح، وفاسد:
فالصحيح: هو ما دل الدليل على أنه لا يُراد به ظاهر اللفظ؛ مثاله: قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم﴾ ؛ أي: إذا أردت أن تقرأ القرآن.
مثال آخر: قوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ ، تأويله بمعية العلْم والإحاطة، كما دلَّت عليه أدلَّة أُخرى.
والفاسد: هو ما لَم يدل عليه دليلٌ يصرفه عن ظاهر اللفظ، مثال ذلك: تأويل الاستواء بالاستيلاء، واليدَيْن بالنِّعمة والقدرة، وهذا هو مراد المُصَنِّف، وهذا هو التأويل المذْموم، وما تقدَّم قبلُ فهو تأويل صحيح، ومن هنا يَتَبَيَّن أنَّ التعبير بلفْظ التحريف أفْضل من التعبير بلفْظ التأويل.
وأيضًا يُقال في التأويل الفاسد: هو أحد نوعي التعطيل؛ فإنَّ للتعطيل نوعَيْن:
الأول: تعطيل كَذِبٍ وجحد، وهو الذي تقدَّم.
والثاني: تعطيلُ تأويلٍ؛ لأنَّ مَن أثبت أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - على عرشه استوى، لكن قال: معناه استولَى، فهذا تعطيلُ تأويلٍ؛ لأنه بتأويله أنْكَر الاستواءَ الحقيقيَّ كما يليق به - سبحانه.
الثالث: التمثيل والتَّشْبيه:
المثيل في اللغة: هو النِّدُّ والنَّظير.
وفي الشرْع: هو مساواة - أي: مماثلة - غير الله بالله بصفاته أو ذاته؛ مثال ذلك: أن يساوي سمعَ الله بسمعِ المخلوق، فيقول: لله سمعٌ كسمعِ المخلوق، وله يدان كَيَدَي المخلوق، ونحو ذلك مما يُنَزَّهُ الله عنه، تعالى الله عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا.
وأهل السنة والجماعة يُثْبِتُون صفات الله تعالى، كما أثبتها لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - على الوجْه اللائق الأكْمل، من غير تَمْثيل بخلْقِه، فهم بعيدون عن هذا المسْلك الضالِّ؛ قال الله عن نفسه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير﴾ .
- فائدة: يُفَرِّقُ بعضُهم بين التمثيل والتشبيه، بأنَّ التمثيل: هو المماثلة من كلِّ وجهٍ على الإطلاق، والتشبيه: هو المشابَهة في أكثر الصِّفات لا كلها، ومن أهل العلم من يجعلهما بمعنى واحد، وأن التمثيل منه ما هو كُلِّي: وهي المماثلة من كلِّ وجه، ومنه ما هو تمثيل جزئي: وهو في بعض الصفات دون البعض الآخر - الذي هو التشبيه - ولا مشاحة في الاصطلاح ما دام المعنى واحدًا.
فإن قيل: أيهما أفضل: التعبير بالتمثيل، أم التعبير بالتشبيه؟
الأفضل هو التعبير بالتمثيل؛ لسَبَبَيْن:
1- لأنَّ هذا هو لفْظ القرآن؛ قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير﴾ ، ولم يَرِد في القرآن نفْي التشبيه، والتعبير باللَّفْظ الذي ورد في القرآن أَوْلَى.
2- أن المُعَطِّلة يسمون مَن يُثبت الصفات مُشَبِّهة - وأهل السنة والجماعة يثبتون صفات الله تعالى الوارِدة على الوَجْه اللائق به - سبحانه - فإن قُلت: من غير تشبيه، فَهِمَ المعطلةُ أن المراد: من غير إثبات صفة، ولذلك إقرارًا للمعتقد الصحيح الذي ينفي عن أهل الضلال معنى غير مراد، فإن التعبير بلفظ التمثيل أفضلُ من التعبير بالتشبيه .
الرابع: التكييف:
التكييف لغةً: مِن كَيَّفَ يُكَيِّف تكييفًا، إذا حكى الكيفية، وهي كُنْهُ الشيء.
وفي الشرْع: حكاية كيفية ما لا يعلمه إلا الله تعالى من المعاني؛ مثال ذلك: تكييف بعض صفات الأفعال الخاصة به - سبحانه - كأن يقول في قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ : كيفية استوائه على عرشه كَكَيْفِيَّة استواء الإنسان على الكرسي، أو ككيفية استوائه على السرير، تعالى اللهُ عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا.
وأهل السنة والجماعة بَعِيدُون عن هذا المسلك الضَّالِّ؛ فهم يُثْبِتُون صفات الله تعالى كما أثْبَتَهَا لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله، كما يليق به - سبحانه - من غير تكييفٍ؛ لأنَّ تكييف صفاته من القَوْل على الله بلا علْم؛ لأنه مما استأْثَر الله بعِلْمه، والله - عزَّ وجلَّ - يقول: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُون﴾ .
وسيأتي الكلام على صفة الاستواء، وكلامُ الإمام مالك المشهورُ لِمَن سألَه عن الكيفية، ويَتَبَيَّن مما تقَدَّم أن أهل السنة والجماعة يُثبتون ما أثبته الله لنفْسه في كتابه، أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تعطيلٍ ولا تحريفٍ، ومن غير تمثيلٍ ولا تكييفٍ.
- طريقة السَّلَف في المتشابه من نصوص الكتاب والسنة:
النصوص في الكتاب والسنة تنْقسم إلى قسْمَيْن:
نصوص مُحْكَمَة، ونصوص متشابهة، ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ ، فالنصوص المُحْكَمَة: هي الواضحة في معناها، التي لا إشْكال فيها.
والمتشابِهة: هي النُّصوص التي لَم يتَّضِح معناها؛ لقُصُورٍ في فَهْم قارئها، أو نقْصٍ في علمه، أو تقصيرٍ في طلب معناها، فالتشابُه فيها تشابهٌ نسبي، يَعرِض لبعض الناس دون البعض الآخر، هذا هو الراجح - والله أعلم في معناها - وليس المرادُ أن في معاني القرآن ما هو مُتشابه على جميع الأمة، فهذا القول قولُ أهْل البدَع، ويدل على ذلك:
1- قول ابن عباس في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ ، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أنا منَ الراسخين في العلْم، الذين يعلمون تأويله"؛ أي: تأويل هذا المتشابه، وكذا قال مثل قول ابن عباس مجموعةٌ من السلف؛ كمُجاهد، والربيع بن أنس، ومحمد بن جعفر بن الزبير، ونقلوا عن ابن عباس قولَه السابق.
2- إجماعُ السلَف؛ فإنهم فسَّروا جميعَ القرآن بما فيه المتشابه، ومن ذلك:
- قول أبي عبدالرحمن السُّلَمِي: حدَّثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن: عثمان بن عفان، وعبدالله بن مسعود، وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلَّمُوا منَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لَم يُجاوزوها؛ حتى يتَعَلَّمُوا ما فيها من العلْم والعمَل؛ قالوا: فتعَلَّمْنا القرآنَ، والعلْم والعمَل جميعًا.
- وقول مجاهد: عرضْتُ المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته، أوقِفُه عند كل آية، وأسأله عنها.
3- أن الله - عزَّ وجلَّ - أنْزَل القرآن بلسانٍ عربيٍّ مُبين، وما كان كذلك فلا يُمكن أن يستغلقَ على جميع الأمة، بل يستغلق على مَن قَصُرَ فهمُه عن بعض معانيه.
4- أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - أخْبَر أنَّ القرآن بيان وهدى، وشفاء ونور، ولم يَسْتَثْنِ منه شيئًا عن هذا الوصف، ولا يُمكن انطباقُ هذا الوَصْفِ على شيءٍ لا يُفهَمُ معناه.
قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة: "والمقصود هنا أنَّه لا يجوز أن يكونَ الله أنْزل كلامًا لا معنى له، ولا يجوز أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجميع الأمة لا يعلمون معناه، كما يقول ذلك مَن يقوله مِنَ المتأخِّرين، وهذا القولُ يجب القَطْع بأنه خَطأ".
وقيل: إنَّ التشابُه المقصود به حقيقة ما أخْبَر الله به عن نفسه من الصفات التي لا يعلم كيفيتها إلا الله تعالى؛ فالله - عزَّ وجلَّ - أخبرنا أنه (حي، عليم، قدير، سميع)، ونحو ذلك، نعلم معانيها، لكننا لا نعلم كيفية الصفات، فهي مما استأثر الله بعلمه، وهذا التشابُه ليس نسبيًّا، بل حقيقيًّا لا يعلمه إلا الله، وبهذا يُفَسِّر المعنى في الوقف على قوله تعالى: ﴿إِلَّا اللَّهُ﴾ من قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ ؛ أي: كيفيَّته، وهذا أرْجح الأقوال - والله أعلم - أنَّ التشابُه في القرآن نوعان:
1- تشابهٌ نسبيٌّ: فيكون مُشتبهًا على بعض الناس دون غيرهم؛ لقُصُور في فَهمهم، أو نقْص في علمهم، أو تقصيرٍ في طلَبهم.
2- تشابه حقيقي: وهو ما لا يعلمه إلا الله؛ كَكَيفيَّة الصفات، وهذا متشابه على جميع الأمة، لا يعلم تأويله إلا الله.
- وهل في آيات الصِّفات ما هو متشابه في معناه؟
لا يوجد في آيات الصفات ما يشتبه معناه ويخفى على جميع الأمة، وآيات الصِّفات الواردة في الكتاب والسنة على نوعَيْن:
1- آيات واضحات، لا تخفى في معناها على جميع الناس.
2- آيات مشكِلة، قد تَخْفى على بعضِ الناسِ دون بعضِهم الآخر، فلا شكَّ أنَّ لها معنى، والناسُ فيها على طريقَتَيْن:
أولاً: طريقة السلف فيها رد الذي ظاهره الخفاء إلى المُحْكَم من آيات الله تعالى، فُيفسَّر به ويزول الخفاء، فهم يؤمنون بها لفظًا ومعنًى.
ثانيًا: طريقة أهل الزَّيْغِ يتَّبِعون المتشابه من آيات الصفات وينشرونها؛ لسببين:
1- صد الناس عن الدين، والتلبيس عليهم، وتشكيكهم في دينهم؛ ابتغاء الفتنة.
2- تفسير هذه الآيات على مرادهم، فيُؤَوِّلونها ابتغاء تأويله؛ قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ .
مثال ذلك: قول الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾ ، أهْلُ الزَّيْغ يقولون: إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - مختلِطٌ بخلقه، ويقولون في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلَّى أحدُكم فلا يبصق قِبَل وجهه؛ فإن الله قِبَل وجهه))، قالوا: إن الله أمامنا في الجدار، تعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا.
وأما السلَف والراسخون في العلم يَرُدُّون ذلك إلى المُحْكَم من آيات الله تعالى فيفسِّرونها به؛ فيردونها إلى النصوص الكثيرة التي تثبت عُلُوَّ الله تعالى؛ كقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ ، وقوله: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ ، وقوله: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير﴾ ، وقوله: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه﴾ ، وقوله: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة﴾ ، وغيرها منَ الأدلة التي تُثْبت عُلُو الله تعالى، والتي تَزِيد على ثلاثة آلاف دليل، وسيأتي الحديث عن هذه الصِّفة قريبًا.
إشكال: هناك مَن يقف على قوْل الله تعالى: ﴿إِلَّا اللَّهُ﴾ في قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ ، وهو وقْفٌ صحيحٌ، عليه جمهورُ السَّلَفِ، وعليه فيكون ظاهرُ الآية أن هناك ألفاظًا لا يعلم معناها وتأويلَها إلا الله، وهذا يتناقض مع ما سبق بيانه؟
والجواب: أنها على هذا الوقف يكون المعنى لا يعلم كيفيَّتَها وما تؤول إليه إلا الله - عزَّ وجلَّ - كما هو مذهبُ أهل السنة والجماعة في كيفيَّة صفات الله تعالى، وأن هذا مما استأثر الله بعلمه، وأما معنى الصفات فهو معلومٌ ومفهومٌ - كما تقدَّم بيانُه - لكن على مُراد الله - عزَّ وجلَّ - ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم.
وأما القولُ بأننا نُؤمن بألفاظها دون إيمان بمعانيها؛ لأن الله استأثر بعلمها، استدلالاً بالوقف السابق، فهذا قولُ أهل البدع، وأما الوقف على قوله: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ في قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ ، فإن هذا الوقفَ قال به بعضُ السلَف، فيكون المعنى على هذا الوقف: أنه لا يعلم معناها إلا الله - عزَّ وجلَّ - والراسخون في العلم، وعليه يُحمَلُ قولُ ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أنا من الراسخين في العلْم، الذين يعلمون تأويله"، وقول غيره من السلَف .
- يجب الحذرُ من الذين يتَّبعون ما تشابه منه:
عن عائشة - رضي الله عنها - قالتْ: "تلا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ ، قالت: سمعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا رأيتم الذين يُجادلون فيه - وفي لفظ: في آيات الله - فهم الذين عنى الله، فاحذروهم)) ، وفي رواية: ((إذا رأيتم الذين يتَّبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم)).
وفي هذا الحديث بيان أخذ الحَذَر من الذين يتَّبِعُون المتشابه من الآيات، ويجادلون فيها على غير مُرادها، ويُفْهم منه الحث على العمَل بالمحكم، والإيمان بالمتشابه، ورد المتشابه إلى المحكم.
فائدة: القرآن محكم كلُّه، ومتشابه كله، ومنه محكم ومنه متشابه:
1- محكم كله؛ لقول الله تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِير﴾ ؛ أي: إنه في غاية الإتقان والإحكام؛ فهو واضحٌ بيِّن.
2- متشابهٌ كله؛ لقول الله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا﴾ ؛ أي: يُشْبُه بعضه بعضًا في الإتقان والإحكام، فهذا أمرٌ وهذا أمرٌ، وهذا نَهْي وهذا نهي، وهذا خبرٌ وهذا خبر، وهكذا يشبه بعضه بعضًا، وهذان النوعان في معناهما يختلفان عن النوْع الثالث.
3- منه محكم ومنه متشابه؛ لقَوْل الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ ، وهذا تقدَّم الحديثُ عنه، وأن القرآن منه المحكم: وهو الواضح الجليُّ، ومنه المتشابه: وهو الذي في دلالته خفاء، يَخْفى على بعض الأمة دون بعضها الآخر.
فائدة أخرى: مما انتُقِد على الإمام ابن قدامة في هذه العقيدة المختصرة قوله في المقطع السابق: "وما أشكَل مِنْ ذلك - أي: من آيات الصفات - وَجَبَ إثْباتُه لفْظًا، وتَرْك التعرُّض لِمَعْناه"، والصَّوابُ أن يُقال: وجَب الإيمان به لفظًا ومعنى، وإذا جهلنا المعنى فإنَّنا نُؤمن به على مُراد الله - جلَّ وعلا - أو على مُراد رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي من كلام الشافعي: "آمَنْتُ بالله وبما جاء عن الله على مُراد الله، وآمَنْتُ برسول الله وبما جاء به رسول الله على مُراد رسول الله".
وأما القولُ بأنا نؤمن به لفظًا مُجَرَّدًا عن المعنى، فهو قَوْل أهلِ البِدَع الذين يُثبتون اللفظ، ويسْكُتُون عن المعنى؛ لأن المعنى يختلف ويتشابه - على حدِّ زَعْمِهم - وهذا مذهب المُفَوِّضة من أهْلِ التجهيل وغيرهم، الذين يُثبتون اللفظ فقط دون أي معنى فيجهلونه.
وهم شرُّ المذاهب، ولا شك أن ابن قُدامة - رحمه الله - لَم يُرِد هذا أبدًا، وتشْهَد له مصنَّفاته الأخرى، فقد أوضحتُ ما يعتقدُ، ومِن أعظمها كتابه: "ذم التأويل"؛ الذي ردَّ به على المُفَوِّضة من أهْل التأويل، وعليه فإن مقصده في هذه العبارة: "وترك التَّعَرُّض لمعناه"؛ أي: ترْك التعرُّض لمعنى التأويل في الصِّفات والتكييف، مع الإيمان بالمعنى الحق الذي أرادَهُ الله ورسوله؛ كقول الإمام أحمد - وسيأتي -: "وما أشبه هذه الأحاديث نؤمن بها، ونصدق بها، لا كيف، ولا معنى"؛ أي: ولا معنى متأوَّل.

كلام أئمَّة السلَف في الصِّفات
3- قال المصنِّف - رحمه الله -:
"قالَ الإمامُ أبو عبداللهِ أحمدُ بنُ محمد بن حنبل - رضي الله عنه - في قولِ النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ اللهَ ينزِلُ إلى سماءِ الدُّنْيَا))، و((إنَّ الله يُرى في القيامَةِ))، وما أشبه هذه الأحاديثَ، قال: نؤمِنُ بها، ونُصَدِّقُ بها، لا كَيْف، ولا مَعْنَى، ولا نَرُدُّ شيئًا منْها، ونَعْلَمُ أنَّ ما جاءَ به الرَّسولُ حقٌّ، ولا نَرُدُّ على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ولا نَصِفُ اللهَ بأكْثَر مما وَصَفَ بِهِ نفسَهُ، بِلاَ حَدٍّ ولا غايَةٍ؛ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ ، ونقولُ كما قالَ، ونَصِفُهُ بما وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، لا نَتَعَدَّى ذلك، ولا يَبْلُغُهُ وصفُ الواصِفِينَ، نُؤْمِنُ بالقرآنِ كُلِّهِ، مُحْكَمِه ومُتَشَابِهِه، ولا نُزِيلُ عَنْهُ صفةً مِنْ صفاتِه لشَنَاعَةٍ شُنِّعَتْ، ولا نَتَعَدَّى القرآنَ والحديث، ولا نَعْلَمُ كيفَ كُنْه ذلك إلاَّ بتصديقِ الرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم - وتَثْبِيت القرآن".

الشرح
أولًا: قول الإمام أحمد:
- الإمام أحمد: إمام أهل السنة، هو أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، وُلِدَ في بغداد عام (164هـ)، وتُوفِّي سنة (241هـ)، توفِّي أبوه وهو صغير، وحضنه جده حنبل؛ ولذلك اشتهر بجده، فُتِن وعُذِّب في فتنة القول بخلق القرآن، ولكنه صمد وثبت في وجْه القائلين بذلك، حتى نصره الله؛ فكان ميزانًا للناس، وقائدًا لهم إلى الحق، قال علي بن المديني: "لقد عصم الله الأمة زمن الردة بأبي بكر الصديق، وزمن المحنة بأحمد بن حنبل".
- قول الإمام أحمد الذي أورده المصَنِّف يَتَضَمَّن عدَّة أُمُور:
1- وُجُوب الإيمان بصفات الله تعالى، والتصديق بها كما جاءت، وأن له نزولاً يليق بجلاله، وأنه يُرى - سبحانه.
2- ترْك التعرُّضِ لصفات الله تعالى بما لا يليق، مما وقع به أهلُ الضلال؛ كالتكييف، وكالتأويل بمعانٍ باطلة؛ ولذلك قال - رحمة الله -: "لا كيف، ولا معنى"، وكالتعطيل؛ ولذلك قال: "ولا نرد شيئًا منها".
3- ألاَّ يوصَف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله، فالمرجع في ذلك الكتاب والحديث، لا نخرج عما جاء بهما من غير تعدٍّ ولا زيادة.
4- وجوب الإيمان بالقرآن كله؛ محكمه - وهو ما ظهر لنا معناه واتَّضَح – ومتشابهه - وهو ما خفي علينا معناه وأشكَل - فنَرُدُّ المتشابه إلى المحكم؛ ليتَّضِح، وإنْ لَم يَتَّضِح نؤمن به لفظًا؛ وعلى المعنى الذي أراده الله تعالى، أو أراده رسوله - صلى الله عليه وسلم.
- في كلام الإمام أحمد إشْكالان، وهذا مما انتُقِدَ على ابن قدامة؛ حيث لَم يُوَضِّح المراد:
الأول: قوله: "بلا كيف ولا معنى": حقيقة هذا القول هو ما اشتهر عن أهْل البدَع، فهو مذهب المُفَوِّضة من أهل التجهيل، الذين يُثْبِتُون ألفاظ الصفات بلا معاني، فيُفَوِّضُون المعنى والكيفيَّة لله تعالى، وتقدَّم أن ألفاظ الصفات لها معانٍ لا بُدَّ من الإيمان بها، وأن طريق المسلم فيما أشكَل عليه وخفي على نَحْوَيْن:
أ- أن يردَّ المشكِل والمتشابه إلى المحكم؛ ليتَّضِح له المعنى.
ب- إذا لَم يتَّضِح له المعنى آمَن بها على المعنى الذي أراده الله تعالى، أو أراده رسوله - صلى الله عليه وسلم - حتى يسألَ فيه أهلَ العلم؛ فيُوَضِّحُوا له المعنى الحقّ الذي تضمَّنه هذا المُتشابه، وسيأتي كلامُ الشافعي.
وتقدَّم أنه لا يُمكن أن تكونَ معاني القرآن خافيةً على جميع الأمة، وتقدَّم بيانُه بالأدلة، وكلام الإمام أحمد لا شكَّ أنه بعيد كل البُعْد عن كلام المفوِّضة، ولو تشابهت العبارات، فمَن تَتَبَّعَ كلامه - رحمه الله - في غير هذا الموضع عرَف مقصده في هذه العبارة، وهو الرد على طائفتَيْن:
الأولى: المُشَبِّهة المُجَسِّمَة، رد عليهم بقوله: "بلا كيف"، فلا نُكَيِّف صفات الله تعالى، فهذا مما استأثر الله بعلْمه، فلا يعلم كيفية استوائه ونزوله ومجيئه وغيره من الصفات إلا هو - سبحانه.
الثانية: المعَطِّلة، ردَّ عليهم بقوله: "ولا معنى"؛ أي: ولا معنى باطل؛ لأنَّ كلَّ مَن أوَّل صفةً إلى غير معناها الحقيقي فقد عَطَّل المعنى الحقيقي، فمَن يقول في صفة اليدَيْن: المراد بهما النِّعمة والقدرة، وفي الاستواء الاستيلاء، وفي الغضب الانتقام، ونحوها، فقد عطَّل وُرُود المعنى الحقيقي لها.
فلا بُدَّ مِن تَنْزيل كلام الأئمة على العقيدة الصحيحة؛ لأنهم هم الذين نافحوا عنها؛ حتى لا يستشكل عليه ما نقلوه، فما جاء مُجْمَلاً من كلامِهم في موضعٍ يكون مُفَصَّلاً في موضع آخر؛ وعليه فلا بُدَّ لطالب العلم من الاهتمام بعقيدة أهل السنة والجماعة؛ ليفهمَ كلام الأئمة.
الإشكال الثاني: قوله: "بلا حَدٍّ ولا غاية":
قوله - رحمه الله -: "بلا حَدٍّ"؛ أي: بلا نهاية، وهذه العبارات لَم تظهر في كلام السلف، إلاَّ بعد أن وجد من الفِرَق الضالة مَن يَخُوض في صفات الله - سبحانه - فقوله: "بلا حد ولا غاية"؛ أي: إنَّ صفاته ليس لها مُنْتَهى، فعلمه ليس له مُنْتَهى، كما أنَّ كلامه ليس له منتهى؛ قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾ ، فهنا الإمام أحمد نفَى الحدَّ فقال: "بلا حد"، يقصد به المعنى السابق.
وجاء إثبات الحد في قول عبدالله بن المبارك حينما سُئِلَ: نُثْبِتُ أن الله تعالى على العرش استوى؟ قال: "نعم، نثبت أن الله على العرش استوى، قال السائل: بحدٍّ؟ قال: بحدٍّ" ، وفي هذا أراد ابن المبارك وغيرُه من السلف بإثباتهم الحد الرَّدَّ على مَن قال بالحلولية؛ حيث قال بعض أهل الضلال: ليس لله حدٌّ في عظمته، فهو في كل مكان؛ لأنه لا منتهى لعظمته، فهو يشمل حتى مخلوقاته، فليس هناك فارق بين الخالق والمخلوق - تعالى الله عما يقولون - فقال السلف ومنهم ابن المبارك: "بِحدٍّ"؛ من أجل أن يثبتوا أن الله بائنٌ عن خلقه، فقالوا: له حَدٌّ، لا يعلمه إلا هو؛ من أجل أن يفصلوا بين الخالق وخلقه، ويردُّوا على مَن أنكر علوَّ الله تعالى واستواءَه على عرشه، ومن قال: إنه مختلط بخلقه.
ومنَ السلَف مَن قال: "بلا حد"؛ أي: إننا لا نثبت هذه الصفة، ولا نتكلم بها؛ لأنها لَم ترِدْ في كتاب الله ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلا نثبت من الصفات إلا ما ورَد، ونقف عند هذا، فنقول: بلا حدٍّ، وهذا مَحْمَلٌ آخر عليه كلام الإمام أحمد، وهذا هو الصواب أن نقف عند ما لَم يردْ فيه نصٌّ، وإذا ناقشنا المبتدعَ أو السائل، نقول له: ما هو قصدك في عبارة: "بلا حد"، ثم نجيب عليه بحسب المعنى الذي يقول، فالسلَف اختلفتْ عباراتهم في النفي والإثبات عند قوله: "بلا حدٍّ" تَبَعًا لاعتقاد المخالف.
وهنا همسةٌ لطالب العلم: وهي أنه لا بد أن يفهم كلام السلف، وقبلَ ذلك لا بد أن يفهم معتقد أهل السنة والجماعة؛ لئلا تلتبسَ عليه عبارات الأئمة، ولكي ينزلها في منزلها الصحيح، فربما استدل أهل الضلال بعبارات بعض السلف؛ كقول الإمام أحمد: "بلا كيف، ولا معنى"، وقوله: "بلا حد"، وقول ابن قدامة: "وما أشكَل من ذلك وجب إثباته لفظًا، وترك التعرُّض لمعناه"؛ ليبرر ويُعَضِّد اعتقادَه الضالّ، دون الرجوع إلى مقْصد الإمام في قوله، ويجعل ذلك دليلاً له، وهذا مُشَاهَدٌ إلى يومِنا هذا، ففي بعض الكتابات مَن يستدلُّ ببعض كلام أئمة السلَف، وينزله في غير موضعه، وعلى غير حقيقته؛ ليلبسَ على البعض في مسائل العقيدة، وإذا فَهِمَ طالب العلم المنهج والاعتقاد الحق اسْتَطَاع أن يجيبَ عما ورد عن بعض أئمَّة السلَف من ألفاظ ربما خالف ظاهرها المعتقد.


4- قال المصنف - رحمه الله -:
"قالَ الإمامُ أبو عبدالله محمد بن إدريس الشَّافعي - رضي الله عنه -: "آمنتُ بالله، وبما جاءَ عَن الله، على مُرادِ الله، وآمنتُ برسولِ الله، وبما جاءَ عَن رسولِ الله، على مُرادِ رسولِ الله".
5- وعلى هذا دَرَجَ السَّلَفُ وأَئِمَّةُ الخَلَف - رحمهم الله - كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ على الإقْرارِ، والإمْرارِ، والإثْباتِ لما وَرَدَ مِن الصِّفاتِ في كتابِ الله، وسُنَّة رسوله، مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لتأْوِيلِهِ".

الشرح
ثانيًا: قول الإمام الشافعي:
- الإمام الشافعي: إمام السنة هو محمد بن إدريس الشافعي المُطَّلبي القرشي، وُلد بغزه سنة 150هـ، ونشأ بمكة، وأخذ العلم عن الإمام مالك بالمدينة، وهو شيخٌ للإمام أحمد في الفقه، وزار بَغْدَادَ وتُوُفِّي بمصر سنة 204 هـ، قال الإمام أحمد: "ما أحد ممن بيده محبرة أو ورق إلا وللشافعي في رقبته منَّة".
- قول الإمام الشافعي الذي أورده المصنف يَتَضَمَّن أمْرَيْن:
1- الإيمان بالله تعالى، وبما جاء عن الله في كتابه، على ما أراده الله تعالى، من غير نقص، ولا زيادة، ولا تحريف.
2- الإيمان برسول الله- صلى الله عليه وسلم - وبما جاء عنه، على ما أراده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير نقْصٍ، ولا زيادة، ولا تَحْريف.
وما قاله الشافعيُّ - رحمه الله - كلامٌ عظيم، مَن يقرأه يظن أنه كلام مُجملٌ، ولكنه ليس كذلك.
معناه: أننا نُؤمن بما جاء عن الله تعالى، فيما عَلِمنا معناه وما لا نعلمه على مُراد الله، وعلى مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما لا نعلمه نسأل عنه أهْل العلم؛ حتى يُبَيِّنُوا لنا معناه؛ فنعتقده على مُراد الله، وعلى مُراد رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا تمامُ الامتثالِ، وكمال التسليم لِما أُمِرْنا به، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكْييف ولا تمثيل.
- لماذا جاء المصنِّف بقول الشافعي على وجه الخصوص؟
لأن عصر المصنِّف عصر الأشاعرة، وكانوا في الفقه ينْتَسِبون للمذهب الشافعي، لكنهم خالَفوه في الأصول والعقائد، واعتَقَدُوا ما يعتقده أبو الحسن الأشعري، ثم إن أبا الحسن الأشعري رجع عن مذْهب الأشاعرة إلى المعتقد الصحيح في مذهب أهل السنة، وجاء المصنف ابنُ قُدامة بكلام الشافعي؛ ليقول: لماذا لَم تعتقدوا ما اعتقد إمامُكم الذي تتَّبِعُونه وتقتدون به؟
فقال الأشاعرة: إنَّ كلام الشافعي كلامٌ مجمَل، وهذا يدلُّ على أنه لَم يفهم المعنى وتَوَقَّفَ فيه.
والجواب عليه أن نقول: بل كلام الشافعي وإن كان ظاهره الإجمال، لكن المتأمِّل فيه يجده قَصَدَ الإيمان بالمعنى الحق الذي أراده الله، وأراده رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غَيْر تأويل للنُّصوص - كما تفْعل الأشاعرة - ومن غَيْر تمثيل، ولا تكييف، ولا تعطيل، فلا زيادة ولا نقْص، كما أراد الله، وأراد رسوله - صلى الله عليه وسلم.
- ثم بيَّن المصنِّفُ أنَّ هذا هو ما درج عليه السلَف، ومَن تبعهم من أئمة الخلَف في نُصُوص الصِّفات؛ حيث اعتقدوها بالإقرار بها، وأثبتوها، وأَمَرُّوها كما جاءتْ عن الله - تعالى - وكما جاءتْ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير تأويل لها، ومن غير تكييف، ولا تمثيل، ولا تعطيل.
* * * *
الترغيب بالسنة والتحذير من البدعة وأهلها
4- قال المصنف - رحمه الله -:
"وقد أُمِرْنا بالاقْتِفَاءِ لآثارِهِمْ، والاهتداءِ بمنارِهِم، وحُذِّرْنا المحْدَثات، وأُخْبِرْنا أنَّها مِنَ الضَّلالات؛ فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((عَلَيْكُم بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاء الرّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأمُور، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ)).

الشرح
تعريف السُّنَّة:
السُّنَّة لغةً: الطريقة.
واصطلاحًا: ما عَلَيْه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه من عقيدة أو عمل.
حكم اتباع السُّنَّة:
حكم اتِّباع الطريقة التي كان عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، واجبٌ على كل مسلم، ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ .
ما ذكره المصنِّف، وهو حديث العرباض بن سارية، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بسُنَّتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي، تَمَسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجِذ)) .
وضد السنة البدْعة، وهي المقْصُودة في قول المصنف في هذه العقيدة الموجزة، فهو يريد التحذير من أهْل الضلال، وعقيدتهم المُبْتَدعة.
والكلام على البدعة والتحذير منها ومن أهلها من عِدَّةِ وُجُوه:
أوَّلاً: تعريف البدْعة:
البدعة في اللغة مأخوذة من البدع، وهو الإنشاء، والاختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ؛ أي: مخترعها على غَيْر مثالٍ سابق، فالبدعة: هي الشيء المستحدَث .
واصطلاحًا: هناك عدة تعاريف عند أهْل العلم للبِدْعة، وأوضحها تعريفان: هي التعبُّد لله بما لَم يشرعه الله، أو هي: ما أُحْدِثَ في الدِّين على خلاف ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدون؛ من عقيدة، أو عمل.
ويدلُّ على هذَيْن التعريفَيْن قولُه تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه﴾ ، وحديث العرباض بن سارية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((عليكم بسُنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي، تَمَسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ مُحدثة بدْعة)) .
ولا يدخل في البدَع ما كان حديثًا، وليس من أمْرِ الدِّين، بل من أمور العادات، وإن كانت في اللغة هي أمورٌ مبتدعة؛ لأنها أشياء جديدة لَم يكنْ عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا خلفاؤه الراشدون؛ كالسيارات، والطائرات التي يركبها الناسُ اليومَ، ونحوها من المخترعات الحديثة، فلا تدخل في البدَع المذمومة والمقصودة في هذا الباب؛ لأنَّها ليست من أمر الدين والشرع.
وعليه؛ فإنَّ الابتداع على قسمَيْن:
1- ابتداع في العادات: كابتداع المُخْتَرَعَات الحديثة، وهذا مباحٌ؛ لأنَّ الأصل في العادات الإباحة، بل ربما يكون مطلوبًا.
2- ابتداع في الدين: وهذا مُحَرَّمٌ؛ لأنَّ الأصل فيه التوقيف، وهذا النوع هو المقصود في هذا الباب.
ثانيًا: حكم البدْعة:
كلُّ بدعة في الدِّين فهي مُحَرَّمةٌ وضلالة؛ ولذلك قال ابن قُدامة في هذه العقيدة: "وحُذِّرنا من المحدثات، وأُخْبِرنا أنها من الضلالات"، واستدل بحديث العرباض، وقد تقدَّم، ويدل على ذلك:
1- قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ .
2- حديث العرباض بن سارية المتقدِّم، وفيه: ((فإنَّ كُلَّ محدثةٍ بدْعة، وكل بدعة ضلالة)).
3- حديث عائشة مرفوعًا: ((مَنْ أحْدث في أَمْرِنا هذا ما ليس منه، فهو رد)) ، ولمسلم: ((مَن عمل عملاً ليس عليه أَمْرنا، فهو رد)).
وتحريم البدعة يتفاوَت بحسب نوعية البدعة:
- فمِنَ البِدَع ما هو كفرٌ: كالطواف على القبور؛ تَقَرُّبًا إلى أصحابها، وتقديم الذبائح، والنذُور لها، ودعاء أصحابها.
- ومنها ما هو وسيله إلى الشرك: كالبناء على القُبُور.
- ومنها ما هو فِسْق اعتقادي: كبِدَع الخوارج، والمرجئة، والقدرية، في أقوالهم واعتقاداتهم المخالفة لأدلة الشرع.
- ومنها ما هو معصية: كبِدْعة القيام في الشمس صائمًا، والتعبُّد بالخصاء؛ لقطع شهوة الجِماع.
ثالثًا: البدعة في الدين على نوعَيْن:
النوع الأول: بدعة في الاعتقادات:
وهذا النوع هو الذي قصده ابن قدامة في كلامِه؛ لأن الكلام في باب الاعتقاد، ومثال هذه البدعة: مقالات الجهمية، والمعتزلة، والرافضة، وغيرها من الفِرَق الضالَّة، تأويلاً، وتحريفًا، وتعطيلاً، وتكييفًا، وشركًا، وكل ما استحدثوه مِن أقوال في باب العقائد مما لَم يكنْ عليه السلَف الصالح - رحمهم الله.
النوع الثاني: بدعة في العبادات:
وهو التعبُّد لله بعبادة لَم يشرعها، ولهذا أنواع:
الأول: ما يكون في أصل العبادة؛ كأن يُحدِث عبادة ليس لها أصْل في الشرع؛ مثال ذلك: صلاة أو صيام غير مشروعين، أو أعيادًا غير مشروعة؛ كأعياد الموالد، وغيرها.
الثاني: ما يكون في الزيادة على العبادة المشروعة؛ مثال ذلك: التعبُّد لله بزيادة ركْعة خامسة في صلاة الظهر أو العصر.
الثالث: ما يكون في صفة أداء العبادة؛ كأن يؤديها على صفة غير مشروعة؛ مثال ذلك: أداء الأذكار المشروعة بأصوات جماعية مطربة.
الرابع: ما يكون بتخصيص وقتٍ للعبادة المشروعة لَم يَخصه الشرْع؛ مثال ذلك: تخصيص يوم النِّصف من شعبان بصيام، وليلته بقيام، فنقول: هذا التخْصيص يحتاج إلى دليل.
ويدل على هذَيْن النوعَيْن - بدع الاعتقادات والعبادات - حديثُ عائشة - رضي الله عنها -: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن أحْدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردٌّ)) ، ولفظ الحديث عامٌّ، يدخل فيه كل مَن أحدث في الدِّين من عقائد وعبادات، وفي لفظ مسلم: ((مَن عمل عملاً ليس عليه أَمْرنا، فهو رد))، وهذا خاصٌّ بالعمل، وهو العبادات، وفيه ردٌّ على مَن يقول: إنَّ البدَع فقط في العقائد.
رابعًا: كلُّ بدْعة ضلالة:
ذهب البعض إلى تقسيم البدعة إلى: بدعة حسنة، وبدعة سيئة، والصواب في هذه المسألة؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كل بدعة ضلالة))، ولا يوجد بدعة حسنة؛ لأنَّ مَن يَقُول بهذا القول سيقول: ليس كل بدعة ضلالة، والقول ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث العرباض بن سارية، الذي أورده المصنف؛ فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
قال ابنُ رجب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل بدعة ضلالة)): مِن جوامع الكَلِمِ، لا يخرج عنه شيء، وهو أصلٌ عظيمٌ من أصول الدين، وهو شبيه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ أحْدَثَ في أَمْرنا هذا ما ليس منه، فهو رد))، فكلُّ مَن أحْدث شيئًا ونسبه إلى الدين، ولَم يَكُنْ له أصْل مِنَ الدين يرجع إليه، فهو ضلالة، والدِّين برِيءٌ منه .
* * * * *
7- قال المصنِّف - رحمه الله -:
"وقالَ عبدالله بنُ مسعودٍ - رضي الله عنه -: "اتَّبِعُوا ولا تَبْتَدِعُوا؛ فَقَدْ كُفِيتُمْ".
لو وضعنا أقوالَ السَّلَف في المتْن متتابعةً أفضل؛ فينقل هنا قول عمر بن عبدالعزيز، وقول الأوزاعي فقط، ويترك الآذرمي في موضعه.
8- "وقالَ عمر بن عبدالعزيز - رضي الله عنه - كلامًا معناه: قِفْ حيثُ وَقَفَ القومُ، فَإِنَّهُم عَنْ عِلْمٍ وَقَفُوا، وبِبَصَر نافِذٍ كفوا، ولهم على كَشْفِها كانوا أَقْوَى، وبالفَضْل لوْ كانَ فيها أَحْرَى، فَلَئِنْ قُلْتُم: حَدَثَ بَعْدَهُم، فَمَا أَحْدَثَه إلا مَنْ خَالَفَ هَدْيَهُمْ، وَرَغِبَ عَنْ سُنَّتِهِمْ، ولقَدْ وَصَفُوا مِنْهُ ما يَشْفِي، وتَكَلَّمُوا مِنْه بما يَكْفي، فَما فَوْقَهُم مُحَسِّرٌ، وما دونهم مُقَصِّرُ، لَقَدْ قَصُرَ عَنْهُم قَوْمٌ فَجَفَوا، وَتَجاوَزَهُمْ آخَرُون فَغَلَوا، وإِنَّهُمْ فِيما بَيْنَ ذَلِكَ لَعَلَى هُدًى مستقيمٍ".
9- "وقالَ الإمامُ أبو عمرو الأوزاعيُّ - رضي الله عنه -: عليك بآثارِ مَنْ سَلَفَ وإنْ رَفَضَكَ الناسُ، وإيّاك وآراء الرِّجالِ وإنْ زَخْرَفُوه لَكَ بالقوْلِ".
الشرح
خامسًا: ما ذكره المصَنِّف من أقوال السلَف في ذم البدعة:
- قول ابن مسعود - رضي الله عنه -: "اتبعوا ولا تبْتدعوا؛ فقد كفيتم"، وهذا الأثرُ رواه عن ابن مسعود ثلاثةٌ من التابعين، أصحُّها ما أخرجه أبو خيثمة في "العلم" (54) من طريق العلاء، عن حماد، عن إبراهيم النخعي، وصحَّح إسنادَه الألباني، وأثر ابن مسعود تضمن أمرَيْن:
- الحث على التمسُّك بالسنة؛ وذلك بالتزام آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين، من غير زيادة ولا نقصان، وذلك في قوله - رضي الله عنه -: "اتَّبعوا".
2- التحذير منَ الابتداع في الدِّين، فقد كُفِينا بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد قال الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا﴾ ، وكفانا من قبلنا من الصحابة، ومن تبعهم من السلَف حَمْل الشريعة وبيانها، وذلك في قوله - رضي الله عنه -: "ولا تبتدعوا؛ فقد كُفِيْتُم".
- قول عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله -:
هو أميرُ المؤمنين الخليفة الراشد، اشتهرتْ خلافته بأنها خلافةٌ راشدة عادلة؛ فاشتهر بالعدْل - رحمه الله - وُلِدَ سنة 63هـ، وتوفِّي سنة 101 هـ في الشام، وكانت ولادتُه ونشأته في الشام.
وقوله - رحمه الله - تضمَّن عدَّة أمور:
1- اتباع ما كان عليه القوم؛ ويعني بهم السلَف الصالح من الصحابة والتابعين؛ وذلك لأنهم أخذوا هذا الدين من المبعوث بهذا الدين، نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - واتباع ما كان عليه القومُ يكون بأمرَيْن:
الأول: الوُقُوف عند ما وقفوا عليه من أمْر الدين؛ عقيدةً كان أو عملاً؛ لأنهم لم يقفوا عند ذلك إلا بعلْمٍ من كتاب الله - عزَّ وجلَّ - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهم أعْلَمُ الأمة، فهم أحْرَى الأمة بالفَضْل والعلم، وأصفاها عقولاً، مُسْتنيرةٌ أفهامُهم بكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم.
الثاني: الكَف عما كفُّوا عنه وسكتوا، فالذي خاض فيه المتأخِّرُون لَم يَكُن عند السلَف - رحمهم الله - ففي عهْد الصحابة - رضي الله عنهم - وعهد التابعين - رحمهم الله - لَم يحدثْ خلاف في الاعتقاد؛ كالخوض في الصفات تحريفًا وتعطيلاً، وتمثيلاً وتكييفًا، فكل ذلك لَم يخوضوا فيه، وإنما بدأ الخوضُ والاختلافُ في الاعتقاد في أواخر عهد التابعين - رحمهم الله - فظهرتْ ضلالاتُ الخوارج، ثم المعتزلة، ثم انتشرتْ في الأمة، فما كفَّ عنه السلَف لا بد أن نكفَّ عنه؛ لأنهم كفوا عن ذلك ببصرٍ نافذ؛ أي: ثاقب، وليس لأنها لم تحدث عندهم، فهم كانوا يعلَمُون من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها ستكون فتنٌ، وأمورٌ محدثةٌ مختلفة؛ فقد قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فإنه من يَعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي))... الحديث، وقد تقَدَّم.
2- أن ما حدث بعد السلف من بدَع وضلالات كان بسبب البُعد عن نَهْجهم، ومخالفة هديهم؛ لأنهم - رحمهم الله - وصفوا من الدين ما يشفي القلب المريض الذي وردت عليه الشبهات، وتكلموا بما جاء به الدين ما يكفي لكل من كان له عقل، وقلْب حي.
3- أن من الناس مَن فرَّط وقصَّر في اتباع نَهْج السلَف، فكان جافيًا بعيدًا عنهم، ومَن تَجاوز وأفْرط في نَهْجهم فكان غاليًا، وطريقهم - رحمهم الله - بيِّنٌ على صراط مستقيم، بين الغلُوِّ والتقصير، لا إفراط ولا تفريط، فمن كان دونهم فهو مقصِّرٌ، ومَن أراد أن يكون فوقهم وأفضل منهم فهو محسِّر؛ أي: منقطع، يرجع بلا شيء؛ لأنه لا أفضل من هديهم.
هذا ما تضمَّنه كلام الخليفة عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله.
وهذه الكلمات منهجٌ قويمٌ لكلِّ مسلم، وعلى هذا المنهج سار الأئمة - رحمهم الله.
- قول الأوزاعي - رحمه الله -:
هو أبو عمرو عبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي، من قبيلة الأوزاع، ولد في بَعْلَبَكَّ، وهو من كبار الفقهاء وأئمة التابعين، إمام الشام في الفقه والزهد، وتُوفِّي - رحمه الله - في بيروت سنة (157 هـ).
وقوله - رحمه الله - الذي أورده المصنِّف تضمَّن أمرَيْن:
1- التمَسُّك والسَّيْر على طريقة السلَف من الصحابة والتابعين - رحمهم الله - لأنها هي طريق الحق المبني على الكتاب والسنة، التي لا بد لكل مسلم التزامها، وإن أبعده الناس واجتنبوه.
2- التحذير من آراء الرجال التي لم تستند إلى الكتاب والسنة، وإن زخرفوها، وحسَّنوها، وأيَّدوها بحُجَج وأقوال باطلة، فهي مرْدودةٌ عليهم في الدنيا والآخرة، ولطالما زيَّن أهلُ الضلالات اليوم؛ كالمُتَصَوِّفة، والرافضة، وأهل التعطيل والتحريف، أقوالهم، وظنوا أنهم على طريق النجاة، ودعوا غيرهم لضلالاتهم، ويحسبون أنهم على شيء، وما هم كذلك - والله المستعان.
* * * * * *
10- قال المصنف - رحمه الله -:
"وقالَ محمد بن عبد الرحمن الآذرمي لرَجُلٍ تكَلَّمَ ببدْعَةٍ، وَدَعَا الناسَ إليها: هَلْ عَلِمَهَا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكْرٍ، وعمرُ، وعثمانُ، وعليٌّ، أوْ لَم يعلَموها؟ قال: لَم يعلَموها، قال: فَشَيْءٌ لَم يعلَمْه هؤلاء، أَعَلِمْتَهُ أنتَ؟! قال الرَّجلُ: فإنِّي أقولُ قدْ علِمُوها، قال: أَفَوَسِعَهُمْ ألا يتَكَلَّمُوا به، ولا يدْعُوا الناسَ إليه، أمْ لَم يَسَعْهُمْ؟ قال: بَلْ وَسِعهم، قال: فَشَيْءٌ وَسِعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفاءَه، لا يَسَعُكَ أنتَ؟! فانْقَطَعَ الرَّجلُ، فقال الخليفةُ، وكان حاضِرًا: لا وَسَّعَ اللهُ على مَنْ لَم يَسَعْهُ ما وَسِعَهُم".
الشرح
- قول الآذرمي - رحمه الله -:
هو أبو عبدالرحمن عبدالله بن محمد بن إسحاق الآذرمي، بالذال هكذا، لا الدال - كما يوجد في بعض النُّسَخ - فأكثر النسخ بالذال (الآذَرْمِي) نسبة إلى (آذَرْم)؛ كما ذكر السمعاني في "الأنساب" ، وظن أنها من قرى "أذنة" بلدة من الثغر منها الآذرمي.
والذي ناظَرَه فيما نقله المصنف هو أحمد بن أبي دُؤاد، القاضي البغدادي الجهمي عدو الإمام أحمد بن حنبل، كان داعية للقول بخلْق القران، كانت له حظوة ومنزلة عند الخليفة المأمون، ثم المعتصم، أبناء الرشيد، ثم الواثق بن المعتصم، الذي رجع عن فتنة القول بخلق القرآن في آخر حياته، كان يقول ابن أبي دؤاد للخليفة: "دعني أقتل هذا الضالَّ المضلَّ"، يقصد الإمام أحمد - على حدِّ زعمه.
والخليفة الذي حضر المناظرة هو الواثق بالله من خلفاء الدولة العباسية في العراق، كان يقول بخلق القرآن، وسَجَنَ جماعةً من الناس بسبب ذلك، ويظهر أنه تاب عن ذلك كما في ظاهر القصة التي نقلها المصنف، والبدعة التي كان الآذَرْمِي وابن أبي دُؤاد يتناظران فيها، هي بدعة القول بخلق القرآن، وهي محنةٌ عظيمةٌ، على رأس من امتُحِنَ فيها الإمامُ أحمد بن حنبل، فتبيَّن من خلال ما تقدَّم محاور المناظرة الأربعة:
(المناظِر: الآذَرْمي، وضده: ابن أبي دؤاد، والخليفة: هو الواثق بالله، والبدعة: هي القول بخلْق القُرآن).
وهذه المناظرة ذكرها المصنِّف - رحمه الله - في كتابه "التَّوَّابين"؛ بعنوان (توبة الواثق بالله وابنه المهتدي بالله) .
- هذه المناظرة التي أوردها المصنف للآذَرْمي - رحمه الله - مناظرةٌ أفحم فيها المبتدع ابن أبي دؤاد، وألجمه إلجامًا، وهكذا ينبغي لمن يناظر أهل الباطل أن يفْحِمهم بالرجوع إلى المرْجع الحقيقي، والمنهج القويم، هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين، وهذا ما فعله الآذَرْمي مع ابن أبي دؤاد؛ حيث قارن بين ما عنده وبين ما عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين في هذه الفتنة والبدعة التي دعا لها الناس؛ لأن هدْيهم هو الطريق المستقيم، والمنهل الصافي، ومَن جاء بغير ما جاؤوا به من أمر الدين فقد ابتدع؛ ولذا قال الخليفة الواثق بالله في آخر المناظرة: "لا وسَّع الله على مَن لم يسعه ما وسعهم"؛ أي: ما وسع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفاءَه الراشدين.

* * * **
 
11- قال المصنف - رحمه الله -:
"وهكذا مَنْ لَم يَسَعْهُ ما وَسِعَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه، والتَّابعين لَهُم بإحسان، والأئمة مِنْ بَعْدِهِم، والرّاسِخين في العِلْم، مِنْ تِلاوَةِ آيات الصِّفاتِ، وقِراءَةِ أخْبارِها، وإِمْرارها كما جاءَت، فلا وَسَّعَ اللهُ عليه".
وهكذا قال ابن قدامة فيمن خاض في آيات الصفات، وقال فيها ببعض الضلالات: لا وسَّع الله على مَن لَم يسعه ما وسع رسول الله، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان، والأئمة من بعدهم، والراسخين في العلم، في قراءة أخبار آيات الصفات وإمرارها كما جاءت.
- هذه المناظرة التي أوردها المصنف، ذكرها غيرُ واحدٍ بأوسع مما ذكر ابنُ قدامة في هذه العقيدة، فقد ذكرها الذهبي في "سِيَر أعلام النبَلاء" عند ترجمة الإمام أحمد بن حنبل ، وتقدَّم أن ابن قُدامة ذكرها في كتابه "التوابين"، وذكرها الخطيب البغدادي في "تاريخه" ، ولما في هذه القصَّة من إلجام لأهل البدع، وظهور الحق وأهله؛ نذكرها برواية الخطيب البغدادي لها؛ قال - رحمه الله -: عن الخليفة المهتدي بالله أنه قال: "ما زلتُ أقول: إن القرآن مخلوق صدرًا من أيام الواثق، حتى أقدم أحمد بن أبي دؤاد علينا، شيخًا من أهل الشام من أهل أذنة، فأدخل الشيخ على الواثق مُقيدًا، وهو جميل الوجه، تامُّ القامة، حسن الشيبة، فرأيت الواثق قد استحيا منه، ورقَّ له، فما زال يُدْنِيه ويُقَرِّبُه؛ حتى قرب منه، فسلم الشيخ فأحسن، ودعا فأبلغ وأوجز.
فقال له الواثق: اجلس، فجلس، وقال له: "يا شيخ، ناظِر ابن أبي دؤاد على ما يناظرك عليه".
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، ابن أبي دؤاد يصبو ويضعف عن المناظرة.
فغضب الواثق، وعاد مكان الرقة له غضبًا عليه، وقال: أبو عبدالله بن أبي دؤاد يصبو ويضعف عن مناظرتك أنت؟!
فقال الشيخ: هوِّن عليك يا أمير المؤمنين ما بك، وائذن في مناظرته.
فقال الواثق: ما دعوتك إلا للمناظرة.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إن رأيت أن تحفظ علي وعليه ما نقول.
قال: أفعل.
فقال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن مقالتك هذه، هي مقالة واجبة داخلة في عقد الدين، فلا يكون الدين كاملاً حتى يقال فيه بما قلتَ؟
قال: نعم.
قال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بعثه الله إلى عباده، هل ستر رسولُ الله شيئًا مما أمره الله به في أمر دينهم؟
فقال: لا.
فقال الشيخ: فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمة إلى مقالتك هذه؟
فسكت ابن أبي دؤاد، فقال الشيخ: تكلَّم، فسكتَ، فالتفتَ الشيخُ إلى الواثق، فقال: يا أمير المؤمنين واحدة؟
فقال الواثق: واحدة.
فقال الشيخ: يا أحمد، أخْبِرْني عن الله - عز وجل - حين أنزل القرآنَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا﴾ ، كان الله - تعالى - الصادق في إكماله دينه، أو أنت الصادق في نقصانه؛ حتى يُقال فيه بمقالتك هذه؟
فسكت ابن أبي دؤاد، فقال الشيخ: أجِب يا أحمد، فلم يُجِبْ، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، اثنتان؟ فقال الواثق: نعم، اثنتان.
قال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن مقالتك هذه، أَعَلِمَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أم جهلها؟
قال ابن أبي دؤاد: علمها.
قال: فدعا الناس إليها؟
فسكت، قال الشيخ: يا أمير المؤمنين، ثلاث؟ فقال الواثق: ثلاث.
فقال الشيخ: يا أحمد، فاتَّسع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن علمها وأمسك عنها كما زعمت، ولم يطالبْ أمته بها؟
قال: نعم.
قال الشيخ: واتَّسع لأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي - رضي الله عنهم؟
قال ابن أبي دؤاد: نعم.
فأعْرَض الشيخُ عنه، وأقبل على الواثق، فقال: يا أمير المؤمنين، قد قدمتُ القولَ أن أحمد يصبو ويضعف عن المناظَرة، يا أمير المؤمنين، إن لَم يتسع لك من الإمساك عن هذه المقالة ما زعم هذا أنه اتَّسع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، فلا وسَّع الله على مَن لم يتسع له ما اتسع لهم - أو قال: فلا وسع الله عليك.
فقال الواثق: نعم، إنْ لَم يتسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة ما اتَّسع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، فلا وسَّع الله علينا، اقطعوا قيد الشيخ، فلما قطع القيد ضرب الشيخ بيده إلى القيد حتى يأخذه، فجاذبه الحدَّاد عليه.
فقال الواثق: دع الشيخ يأخذه، فأخذه فوضعه في كمِّه.
فقال له الواثق: يا شيخ، لِمَ جاذبت الحداد عليه؟
قال: لأني نويتُ أن أتقدَّم إلى من أوصي إليه إذا أنا متُّ أن يجعلَهُ بيني وبين كفني، حتى أخاصم به هذا الظالِم عند الله يوم القيامة، وأقول: يا رب، سَلْ عبدَك هذا لِمَ قيَّدني وروَّع أهلي، وولدي، وإخواني، بلا حق أوجب ذلك عليَّ، وبكى الشيخ، فبكى الواثق، وبكينا.
ثم سأله الواثق أن يجعله في حِلٍّ وسعة مما ناله، فقال له الشيخ: والله - يا أمير المؤمنين - لقد جعلتُك في حلٍّ وسعة من أول يوم؛ إكرامًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ كنتَ رجلاً من أهله.
فقال الواثق: لي إليك حاجة؟
فقال الشيخ: إن كانت ممكنة فعلتُ.
فقال له الواثق: تقيم قِبَلَنا؛ فننتفع بك، وينتفع بك فتيانُنا.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إن ردَّك إياي إلى الموضع الذي أخرجني عنه هذا الظالم أنفع لك من مقامي عليك، وأخبرك بما في ذلك أصير إلى أهلي وولدي، فأكُف دعاءهم عليك، فقد خلَّفتهم على ذلك.
فقال له الواثق: فتقبل منا صلة تستعين بها على دَهْرِك؟
قال: يا أمير المؤمنين، لا يحلُّ لي؛ أنا عنها غني، وذو مرة سوي.
فقال: سل حاجة.
قال: أتقضيها يا أمير المؤمنين؟
قال: نعم.
قال: تأذن أن يخلَّى لي السبيل الساعة إلى الثغر؟
قال: قد أذنتُ لك، فسلَّم عليه وخرج.
قال صالح بن علي: قال المهتدي بالله: فرجعتُ عن هذه المقالة، وأظنُّ أن الواثق قد كان رجع عنها منذ ذلك الوقت" .

باب ما جاء من آيات الصفات
12- قال المصنِّف - رحمه الله -:
فمِمَّا جاءَ مِنْ آياتِ الصِّفاتِ قولُ الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ .

الشرح
- ذَكَر ابنُ قدامة - رحمه الله - في هذه العقيدة ثماني عشرة صفة من صفات الله - تعالى - ونعرض الصفات التي ذكرها - رحمه الله - على حسب ترتيبه، ومما يُلاحظ أن ابن قدامة لَم يذكر مع هذه الصفات الصفات التي يثبتها الأشاعرة؛ لأنه لَم يكن بين أهل السنة الجماعة وبينهم خلاف في إثبات هذه الصفات، وعددها سبع، وهي: صفة العلْم، والحياة، والقُدرة، والكلام، والإرادة، والسمع، والبَصَر.
وهي مجموعة في قول الناظم:
حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَالكَلامُ لَهُ = إِرَادَةٌ وَكَذَاكَ السَّمْعُ وَالبَصَرُ
وإنما عرض ما ينكره الأشاعرةُ وغيرُهم من أهل الضلال من صفات، وهي:
الصفة الأولى: صفة الوجه:
وتحت هذه الصفة عدة مباحث:
- المبحث الأول: معتَقَد أهل السنة والجماعة في هذه الصِّفَة:
أهل السنة والجماعة يثبتون صفة الوجْه لله - تعالى - من غَيْر تكييف ولا تمثيل، ومن غير تَحْريفٍ ولا تعطيلٍ، وهي من الصِّفات الذاتية الخبَرية.
المبحث الثاني: صفة الوجه ثابتةٌ بالكتاب، والسنة، والإجماع:
- فمن الكتاب: ما استدل به المصنف؛ وهو قوله - تعالى -: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ .
- ومن السُّنَّة: حديث سعد بن أبي وقاص: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ((إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله، إلا أُجِرت عليها)) .
- ومن الإجماع: قال الإمام ابن خزيمة في كتاب "التوحيد" : "فنحن وجميع علمائنا، من أهل الحجاز، وتهامة، واليمن، والعراق، والشام، ومصر – مذهبنا: أنا نُثْبِتُ لله ما أثبته لنفسه، نقرُّ بذلك بألسنتنا، ونصدق ذلك بقلوبنا، من غير أن نُشَبِّه وَجْه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين، عَزَّ ربُّنا أن يشبه المخلوقين، وجَلَّ ربُّنا عن مقالة المُعَطِّلِين".
المبحث الثالث: المخالفون لأهل السنة:
المخالفون لأهل السنة والجماعة من المبتدعة أوَّلوا صفة الوجه بعدة تأويلات:
1- فقالوا المراد بها: (الثواب)، ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ ؛ أي: ويبقَى ثوابُ ربك، ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ ؛ أي: إلا ثوابه، وهذا قول الجهمية.
والرد عليهم من وجوه:
أوَّلاً: أن في هذا مُخالفة لظاهر لفْظ الآية، فالآيةُ ظاهرها بلفظ الوجه لا الثواب.
ثانيًا: أن فيه مخالفة لإجماع السلَف، فلا يُعْرَفُ أحدٌ منهم قال: إنَّ المراد بالوَجْه الثواب.
ثالثًا: أنه جاء في الآية بيان صفات عظيمة لهذا الوجه؛ فقال - تعالى -: ﴿ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَام﴾ ، فهل يمكن أن نقول عن الثواب: ذو الجلال والإكرام؟!
رابعًا: جاء في حديث أبي موسى- رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((حجابُه النورُ، لو كشفه لأحرقت سُبُحَاتُ وجهِه ما انتهى إليه بصره من خلقه)) ، فهل يمكن أن يقال: إن الثواب له النور الذي يحرق ما انتهى إليه بصر الله من الخلق؟!
خامسًا: جاء في "صحيح البخاري"، من حديث جابر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزل عليه قول الله - تعالى -: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أعوذ بوجهك))، ولو كان الثواب هو المقصود، فهل يصحُّ أنْ يُستعاذ به؟! وهل يُستَعَاذُ بمخلوق؟!
2- ومنهم مَن قال بأن المراد بها: (الذات)، وهو قول الجهمية أيضًا والمعتزلة، ومَن وافقهم من الرافضة، وهو قول الأشاعرة.
والرد عليهم من وُجُوه:
أولاً: أن هذا مخالف لظاهر الآية.
ثانيًا: أنه مخالف لإجماع السلف، فلا يُعْرَفُ أحدٌ منهم أوَّلها بالذات.
ثالثًا: أن الله - عزَّ وجلَّ - وصف وجهه بقوله: ﴿ذُو الجَلالِ وَالْإِكْرَامِ﴾، ولو كان ذلك وصفًا للذات لقال: (ذي الجلال والإكرام)؛ لأن لفظ (ربك) مجرورةٌ بالإضافة.
رابعًا: أن من المعلوم أن العطف يقتضي المُغَايَرَة والاختلافَ، ففي حديث ابن عمرو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل المسجد قال: ((أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، من الشيطان الرجيم))؛ رواه أبو داود، وهنا عطف الوجه على الله - جل وعلا.
تنبيهٌ وبيانٌ:
إطلاق الجزء ويراد به الكل أسلوبٌ صحيحٌ معروفٌ في اللغة العربية؛ ولذا تمسَّك به بعض المؤوِّلة لصفة الوجه، فقالوا: إن المراد بها ذات الله - جلَّ وعلا - فأطلق الجزء - وهو الوجه - والمراد به الكل، وهو الذات، فقالوا: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾؛ أي: ذاته - سبحانه - وقالوا: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ ؛ أي: كل شيء هالك إلا ذاته - سبحانه - والمعنى الذي قالوه صحيحٌ لو أنهم أثبتوا صفة الوجه لله - تعالى - في الآيات السابقة؛ لأنَّ النَّص ورد في صفة الوجه، وهي جزء من الذات، والنص على الوجه يدل على ثبوت الذات، لكن الخطأ الذي وقعوا فيه: أنهم جعلوا المراد بالوجه هو الذات، وهذا تأويل باطل، ولو قال قائل: لماذا نذكر الذات مع إثبات صفة الوجه؟
فالجواب: حتى لا نقع فيما ذهب إليه مَن لا يقدِّرون الله حقَّ قدره؛ حيث قالوا في قوله - تعالى -: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾، وقوله: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾، وقالوا: إن الله يفنى إلا وجهه - تعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا .
المبحث الرابع: وقفةٌ مع آيةٍ اختلف السلَف في تفسيرها:
وهي قولُ الله - تعالى -: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه﴾ ، اختلف السلفُ فيها مع إثباتهم لصفة الوجْه، على قولَيْن:
القول الأول: أنها ليست من آيات الصفات، وأن المراد هنا الجهة والقبلة، والمعنى: فثم جهة الله؛ أي: فثم الجهة التي يقبل الله صلاتكم فيها، وهذا قول مجاهد، والشافعي، وشيخ الإسلام ابن تيميَّة في الفتاوى عند كلامه عن العقيدة الواسطية، فقال: إنَّ المراد هنا القبْلة؛ لأنَّ الآيات جاءتْ في سياق بيان القبلة.
والقول الثاني: أنها من آيات الصفات، وتدل على صفة الوجه، وهذا قول الدارمي، وابن خُزيمة في كتاب: "التوحيد"، واختاره ابن القيم، ونَافَحَ عن هذا القول، وأطال في كتابه: "مختصر الصواعق المرسَلة" ، والخلاف محتملٌ ويسير، والمهمُّ أن نعرفَ أنهم جميعًا يُثْبِتُون صفة الوجه لله - تعالى.
والأظْهَر - والله أعلم -: أن المراد بالوجْه في الآية وجه الله الحقيقي؛ والمعنى: إلى أي جهة تتوجَّهون فثمَّ وجه الله - سبحانه وتعالى - لأنَّ الله محيطٌ بكلِّ شيءٍ، ففي هذه الآية إثباتُ صفة الوجه لله - تعالى.
هذا هو القولُ الأظْهر؛ لعدَّة أمور:
1- لأنه جاء في السُّنَّة ما يوافِق هذا المعنى؛ فقد جاء في الصحيحَيْن: أن المصلي إذا قام يُصَلِّي، فإن الله قِبَل وجهه؛ ولهذا جاء النهيُ عن البصْق جهة القبْلة؛ لأن الله قِبَل وجهه إذا صلى.
2- أن هذا هو المناسب لظاهر الآية، وأن المراد به: الوجْه المضاف إلى الله - تعالى.
3- أن فيه سَدًّا لباب التأويل، وإسكاتًا للمُؤَوِّلة الذين يجدون مثل هذا القول مستمسَكًا لهم على صحَّة تأويل آيات الصفات، كما فعلوا مع ابن تيميَّة، حينما ناظروه في العقيدة الواسطية، قائلين له: وجدنا عند السلف تأويلاً، وقبل أن يذكروه لشيخ الإسلام انقدح في ذهنِه - رحمه الله - هذه الآية، فقال: لعلكم تقصدون قول الله - تعالى -: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه﴾ ، قالوا: نعم نقصد هذه الآية، فردَّ عليهم - رحمه الله - بما يراه، وأن هذه الآية ليستْ من آيات الصفات .
المبحث الخامس: الآية التي استدل بها المصنف، وهي: قول الله - تعالى -: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ﴾، صفة لوجه الله - تعالى - بدليل أنها جاءت بالرفع (ذو)، ولو كانت صفةً للرب لجاءتْ بالجر (ذي)؛ لأن كلمة: (ربك) وقعتْ مضافًا إليه، و(ذو) صفة، والصفة تتبع الموصوف في الإعراب، وكلمة (وجه) جاءت مرفوعة؛ لأنها وقعت فاعلاً، (الجلال) معناه: العظمة والسلطان، (الإكرام) مصدرٌ من (أكرم، يُكرِم) صالحة للمُكْرَم والمُكْرِم، فالله - سبحانه - مُكرَم، وإكرامه القيامُ بطاعته، ومُكرِم لِمَن يستحق الإكرام مِن خلقه، بما أعدَّ لهم من الثواب .
المبحث السادس: الصورة صفة لله - تعالى -:
أهل السنة والجماعة يُثْبِتُون صفةَ الصورة لله - تعالى - كما يليق بجلاله وعظمته، من غير تَحْريف ولا تعطيل، ومن غير تمثيل ولا تكييف، وهي صفةٌ ذاتيةٌ.
ويدل عليها:
1- الحديث الطويل حديثُ أبي سعيد في رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وفيه: ((فيأتيهم الجبارُ في صورته التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربُّكم، فيقولون: أنت ربنا...)) .
2- حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((رأيت ربي في أحسن صورة)) .
* * * * * *
- قال المصنف - رحمه الله -:
وقولُه - سبحانَهُ وتعالى -: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ .
الشرح
الصفة الثانية: صفة اليدين:
وتحت هذا الصفة عدة مباحث:
المبحث الأول: معتقد أهل السنة والجماعة في هذه الصفة:
أهل السنة والجماعة يُثبتون صفة اليدين لله - تعالى - كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، من غير تكييفٍ ولا تمثيل، ومن غير تحريفٍ ولا تعطيل، وهي من الصفات الذاتية الخبرية.
المبحث الثاني: صفة اليدين ثابتةٌ بالكتاب، والسنة، والإجماع:
- فمن الكتاب: ما استدلَّ به المصنِّف، وهو قول الله - تعالى -: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ ، واستدلال المصنِّف بهذه الآية خصوصًا وجيهٌ؛ لأن فيه إثباتًا أن لله يدين اثنتين.
- ومن السُّنَّة: حديثُ أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله يبسط يده بالليل؛ ليتوبَ مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار؛ ليتوبَ مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)) ، وحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك وسعديك، والخير في يديك)) .
- ومن الإجماع: قال أبو الحسَن الأشعَري: "وأجمعوا على أنه - عزَّ وجلَّ - يَسْمَعُ ويَرَى، وأن له - تعالى - يدين مبسوطتَيْن" .
المبحث الثالث: المخالفون لأهل السنة:
المخالفون لأهل السنة والجماعة من المعطِّلة؛ كالجهمية والمعتزلة، يُؤَوِّلُون صفة اليدين، ويقولون: المراد بها: القدرة، أو النعمة، أو القدرة والنعمة، وتقدَّم أن من أَوَّل صفة من الصِّفَات فقد عطَّلها عن معناها الحقيقي؛ ولذا نقول: هم معطِّلة أيضًا، وهذا أشهر تأويلاتهم: أن المراد باليدين النعمة والقدرة، وهناك تأويلاتٌ أخرى لهم فيؤولونها بـ(القوة، والملك، والسلطان، والرزق، والخزائن، والبركة، والكرامة، والعناية)، ولكن كما تقدَّم: أن أشهر تأويلاتهم النِّعمة والقدرة، فهذا قول الجهمية، والمعتزلة، ومتأخري الأشاعرة، ويسمون (الأشاعرة المحضة)، بخلاف متقدمي الأشاعرة فهم يُثْبِتُون صفة اليدين ولا يُؤَوِّلونها.
والرد عليهم من وجوه:
1- أن تفسيرَ اليدِ بالقدرة والنعمة مخالفٌ لظاهر لفظ الآية، ولا دليل على هذا التأويل.
2- أنه مخالفٌ لإجماع السلَف، فلا يُعْرَفُ أحدٌ أَوَّلَهَا بالقدرة والنِّعمة.
3- أنَّ تأويلها بالقُدرة والنِّعمة ممتنعٌ في بعضِ الآيات؛ مثال ذلك قوله - تعالى -: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ ، اليد جاءت بالتثنية، وتأويلها بالنعمة يلزم أن تكونَ النعمة نعمتين فقط، وهذا ممتنع؛ لأن نعم الله لا تُحْصَى؛ قال - تعالى -: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾ ، وأيضًا تأويلها بالقدرة يستلزم أن يكون له - سبحانه - قدرتان، ولا يجوز أن يكون له - سبحانه - قدرتان بإجماع العلماء، فهذا لا يقوله أحدٌ، وكذلك في قوله: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ ، يلزم أن يكون له قدرتان - تعالى الله عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا.
4- أن الله - عزَّ وجلَّ - يقول: ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ ، ولو كان المراد القدرة، لَم يكن لآدم فضلٌ على غيره؛ لأنَّ الخلْق كلهم خُلِقُوا بقدرة الله، بل لَم يكن لآدم فضلٌ على إبليس في هذه الآية، فإبليس خُلِقَ بقدرة الله - تعالى - والله - عزَّ وجلَّ - في الآية أمره بالسجود لآدم ذاكرًا مزية لآدم: أنه خلق بيديه - سبحانه وتعالى.
5- أنَّ اليد التي أثبتها الله لنفسه جاءت في الأدلة مقرونة بأمور كثيرة تدل على أنها يد حقيقية، فجاءت على وجوه يمتنع تأويلها بالقدرة والنعمة، فجاءت مقرونةً بالطَّيِّ، والقبضِ، والبسط، واليمين.
قال ابن القيم: "وَرَدَ لفظ اليد في القرآن، والسنة، وكلام الصحابة والتابعين، في أكثر من مائة موضع ورودًا متنوِّعًا، متصرفًا فيه، مقرونًا بما يدل على أنها يدٌ حقيقية، من الإمساك، والطي، والقبض، والبسط، والمصافحة، والحثيات، والنضح باليد، والخلق باليدين، والمباشرة بهما، وكتب التوراة بيده، وغَرَس جنة عدن بيده، وتخمير طينة آدم بيده، ووقوف العبد بين يديه، وكون المقسطين عن يمينه، وقيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة عن يمينه، وتخيير آدم بين ما في يديه، فقال: ((اخترتُ يمينَ ربي))، وأخذ الصدقة بيمينه يربِّيها لصاحبها، وكتابته بيده على نفسه: أن رحمته تغلب غضبه، وأنه مَسَحَ ظهرَ آدم بيده، ثم قال له - ويداه مقبوضتان -: "اختر"، فقال: ((اخترتُ يمين ربي))، وكلتا يديه يمين مباركة، وأن يمينه ملأى، لا يغيضها نفقة، سَحَّاء الليل والنهار، وبيده الأخرى القسط، يرفع ويخفض، وأنه خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، وأنه يطوي السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليُمْنَى، ثم يطوي الأرض باليد الأخرى، وأنه خَطَّ الألواحَ التي كتبها لموسى بيده" .
وردَّ ابن القيم على مَن يؤوِّل اليد بالنعمة والقدرة من وُجُوه عديدة، تَصِلُ إلى عشرين وجهًا.
المبحث الرابع: أهل السنة والجماعة يثبتون أنَّ لله يدين اثنتَيْن:
يعتقد أهلُ السنة والجماعة أن لله يدين اثنتين، كما يليق بجلاله وعظمته - سبحانه - وهذا بإجماع السلف - رحمهم الله - ويدلُّ على ذلك:
1- قول الله - تعالى -: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ .
2- قول الله - تعالى -: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ ، فإنْ قيل: كيف نجمع بين معتقد أهل السنة والجماعة بأن لله يدين اثنتين، وبين ما ورد في بعض الآيات من وُرُود اليد بلفظ المُفْرَد؛ كقوله - تعالى -: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ ، ورودها بلفظ الجمْع؛ كقوله - تعالى -: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾ ؟
فالجواب كما يلي:
الجواب عن لفظ المفرد بثلاثة أجوبة:
الأول: أنه لَم يُسَق اللفظُ لبيان العدد، وإنما لبيان الجنس، ولبيان الجنس يكفي لفظ المفرد؛ لأن اسم الواحد يدل على الجنس المراد.
الثاني: أن لفظ المفرد في الآية جاء مضافًا؛ فقوله - تعالى -: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾، (بيده): اليد مضاف والهاء في محلِّ جر مضاف إليه، وكذلك في الآيات الأخرى؛ كقوله: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ ، فلفْظ اليد مضافٌ، ولفظ (الله) - جلَّ وعلا - إعرابه: مضاف إليه، ومعلوم أن المفرد المضاف يفيد العموم، فيعمُّ كل ما ثبت لله - تعالى - من يد، والثابت لله - تعالى - يدان.
الثالث: أن الله قال لبيان سعة عطائه، وكثرة جوده: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾، فبيَّن أن كثرة العطاء وسعة الجود وبسط النعمة باليدين كلتَيْهِما، رادًّا به على اليهود الذين قالوا: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾  أفردوها؛ لأن اليد الواحدة أقل من عطاء الاثنتين، ووصفوها بأنها مغلولة؛ أي: قليلة العطاء، ولو كانت يدًا واحدة لَرَدَّ عليهم ببيان أن البسط والجود في اليد الواحدة، ولو كانت أكثر من اثنتين لذكرها الله - عزَّ وجلَّ - لأن المقام يقتضي بيان كثرة العطاء بجميع ماله من يد - سبحانه - فقال - تعالى -: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾؛ ليُبَيِّنَ - سبحانه - أنَّ كل ما لديه من يد فهي مبسوطة، وهما اثنتان.
- الجواب عن لفظ الجمع بثلاثة أجوبة:
الأول: أن المراد بالجمْع هنا ليس بيان العدد، وإنما للتعظيم، وليس المُراد أنَّ لله أكثر مِن اثنتين.
الثاني: أن مِن لغة العرب استعمال لفْظ الجمع في الاثنتين، ويدل على ذلك قولُ الله - تعالى -: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ ، والمقصودُ عائشة وحفْصة - رضي الله عنهما - وهما اثنتان، والمتبادَر إلى الذِّهن أن يُقال: (قلباكما)؛ لأنَّ المقصود قَلْبان لعائشة وحفصة - رضي الله عنهما - ومع ذلك جاء بصيغة الجمع (قلوبكما)، وهذا دليلٌ على أنَّ استعمال لفْظ الجمع يكونُ للاثنين في لسان العرب.
الثالث: أنَّ في لسان العرب: أن المثنى إذا أُضيف إلى ضمير الجمع يجوز جمعُه من أجل خفَّةِ اللفظ، وهنا المثنى أضيف إلى ضمير الجمع: (نا)، فجاز جمعه (أيدينا)، بدلاً من: (يَدَيْنَا)؛ لِخفَّة النُّطق.
وبما سبق يزولُ الإشكالُ في وُرُود لفظ اليد مُفردًا ومَجْموعًا.
المبحث الخامس: هل توصَف إحدى يدي الله - تعالى - بالشمال:
هذه من المسائل التي اختلف فيها أهل العلم - رفع الله قدرهم - على قولَيْن، وقبل ذِكْرِ القولين لا بدَّ من معرفة أنهم متَّفقون على أن يدي الله - تعالى - يمين في البذْل والعطاء، وأن إحداهما يمين في الاسم، واختلفوا في اسم اليد الأخرى على قولَيْن:
القول الأول: أن الأخرى تُوْصَفُ بالشمال، واختار هذا القولَ الدارميُّ، وأبو يَعْلى، والشيخ محمد بن عبدالوهاب في آخر كتاب "التوحيد"، والشيخ عبدالله الغنيمان ، واستدلوا:
1- بحديث ابن عمر - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((يطوي الله - عزَّ وجلَّ - السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليُمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبِّرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله...)) .
2- الأحاديث الواردة بإثبات اليمين لله؛ كحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((يمين الله ملأى)) ، وحديث أبي هُريرة - رضي الله عنه - أيضًا مرفوعًا: ((ويطوي السماء بيمينه)) ، وغيرها من الأدلة التي جاءتْ بِوَصْف إحدى اليدين بأنها يمينٌ؛ وهذا يقْتضي أن إحدى اليدين ليست يمينًا؛ فتكون شمالاً.
ووصفها أيضًا الدارميُّ باليسار، والشمال، واستدل بحديث أبي الدرداء عند أحمد؛ وفيه: أن الله - عزَّ وجلَّ - قال للتي في يساره - أي: في يده اليسار -: ((إلى النار، ولا أبالي)).
القول الثاني: أن كلتا يدي الله يمينٌ، لا شمال، ولا يسار فيهما، واختار هذا القول الإمام ابن خُزيمة - في كتاب: "التوحيد" - والإمام أحمد، والبيهقي، والألباني ، واستدلوا:
1- بحديث عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - مرفوعًا: ((إنَّ المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن - عز وجل - وكلتا يديه يمين)) .
2- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند التِّرمذي، وفيه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين مباركة)).
وناقشوا أدِلَّة القولِ الأول: بأنَّ حديث ابن عمر - رضي الله عنه - وفيه لفظة: (الشمال)، هي لفظةٌ شاذَّةٌ، تفرَّد بها عمر بن حمزة، عن سالم، عن ابن عمر، والحديث عند البخاري من طريق عبيدالله، عن نافع، عن ابن عمر، وعند مسلم من طريق عبيدالله بن مقسم، عن ابن عمر، وليس عندهما لفظة (الشمال)، وأيضًا الحديثُ رواه أبو داود، وقال بدل (بشماله): (بيده الأخرى)، وهذا هو الموافق لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وكلتا يَدَيْه يمين)).
وأما استدلالهم الثاني، فليس بصريح؛ لأنه لا يمنع أن تكونَ اليد الأخرى يمينًا أيضًا؛ وعليه فالاستدلال الأول ليس بصحيح، والثاني ليس بصريح، ونَاقَشَ أصحابُ القول الأول أدلة أصحاب القول الثاني، بأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كلتا يديه يمين))، لا يمنع أنْ تكون إحدى يديه شمالاً في الاسم، وهي يمين في الخَيْر والبَرَكة والعَطاء.
والأظهرُ - والله أعلم - أن يُقال: إنَّ صِفات الله - تعالى - توقيفية؛ فنقول كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((كلتا يديه يمين))، حتى يصح عندنا خبر أن يده الأخرى تسمى شمالاً أو يسارًا؛ فنقول بهذا الوصف .
المبحث السادس: صفة الكَفِّ:
أهلُ السنة والجماعة يُثْبِتُون صفة الكف لله - تعالى - كما يليق بجلاله وعظمته، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غَيْر تكْييف ولا تمثيل، وهي صفة ذاتية خبرية.
ويدل على ذلك: حديثُ أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((ما تَصَدَّق أحدٌ بصدقة من طيِّبٍ - ولا يقبل الله إلا الطيِّبَ - إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرةً، فتربو في كفِّ الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل)) .
المبحث السابع: صِفة الأصابع:
أهل السنة والجماعة يُثبتون صفة الأصابع لله - تعالى - كما يليق بجلاله وعظمته، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وهي صفة ذاتية خبرية.
ويدل على ذلك:
1- حديث عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: أنه سمع رسول الله يقول: ((إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلبٍ واحدٍ، يُصَرِّفه كيف يشاء))، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهُمَّ مُصَرِّف القُلُوب، صَرِّفْ قُلُوبنا إلى طاعتك)) ، وهذا الحديث رواه جمعٌ منَ الصحابة؛ كالنواس بن سمعان، وعائشة، وأبي ذر - رضي الله عنهم أجمعين.
2- حديث ابن مسعود- رضي الله عنه - قال: أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ من اليهود فقال: يا محمد، إنَّ الله يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال والشجر على إصبع، فيهزهنَّ، فيقول: أنا الملك، قال: فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه؛ تصديقًا لما يقول الرجل، ثم قرأ: ((﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه﴾ )) .
وبعض أهلِ العلم يجعل الأصابع تابعة لليد؛ لأن هذا مقتضى اللغة العربية، وفهم العرب، إلا أن الأحْوط في المسألة أن يسكتَ الإنسانُ عن نسبة الأصابع إلى اليد، ويفعل كما يفعل السلف، يُثبتون الأصابع لله، ولا يخصصها بيد الله؛ إذ لا مستند من السنَّة لذلك، وإنما نُثبت صفة الأصابع لله، وهذا أَدَقُّ وأَحْوَط، فنُثبتها على الوَجْه اللائق به - سبحانه - لا يعلم كيفيتها إلا هو؛ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ .
المبحث الثامن: صفة الأنامل:
أهل السنة والجماعة يُثبتون صفة الأنامل لله - تعالى - كما يَلِيق بجلاله، من غَيْر تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وهي صفة ذاتية خبرية.
ويدل على ذلك: حديث معاذ بن جبل - حديث اختصام الملأ الأعلى - وفي الحديث: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فرأيتُه وضع كفه - أي: الله عزَّ وجلَّ - بين كتفي، حتى وجدت برد أنامله في صدري...)) .
وأثبت الأنامل استدلالاً بهذا الحديث شيخُ الإسلام ابن تيميَّة، في ردِّه على الرازي في كتابه "نقض أساس التقديس" .
المبحث التاسع: وقفة مع آية، وصفة اليد:
وهي قول الله - تعالى -: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ ، وهذه الآية ليستْ مِن آيات الصفات، فلا يؤخَذ منها صفة اليد لله - تعالى - لوجهَيْن:
الأول: أنها ليست مضافة لله - تعالى - بخلاف آيات الصفات، تجدها مضافةً لله - تعالى - فلا نثبت صفة حتى تكون مضافة لله - تعالى - وهذه قاعدة مهمة، وهنا لَم يقل الله: (بأيدينا)، فلم تُضَف.
الثاني: أن (أيد) هنا ليست من اليد، وإنما مصدر آد، يئيد، بمعنى: "قَوِي"، قال الشنقيطي: "قوله - تعالى -: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾، ليس من آيات الصِّفات المعروفة بهذا الاسم؛ لأن قوله: (بأيد) ليس جمع "يد"، وإنما الأيد القوة... والأيد والآد في لغة العرب بمعنى القوة، ورجل أيِّدٌ: قَوِيٌّ، ومنه قوله - تعالى -: ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ ؛ أي: قوَّيناه به، فمن ظنَّ أنها جمع يد في هذه الآية فقد غلط غَلَطًا فاحشًا، والمعنى: والسماء بَنَيْناها بقوة" ، وكذا قال ابن فارس، والفيروزآبادي في "القاموس المحيط"، وابن دريد في "الجمهرة": أن الأيد: مصدر آد يئيد، والأيد القوة، فلا مستمسك بها لأهل التحريف.
* * * * * *
- قال المصنف - رحمه الله -:
"وقولُهُ - تعالى - إخْبارًا عنْ عيسى - عليه السلام -: أنَّه قال: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ﴾ .

الشرح
الصفة الثالثة: صفة النَّفْس (بسكون الفاء):
وتحت هذه الصِّفة عدة مباحث:
المبحث الأول: معتَقَد أهلِ السنة والجماعة في هذه الصفة:
أهل السنة والجماعة يُثْبِتُون لله نفسًا إثباتًا يليق بجلاله وعظمته، من غير تكييف ولا تحريف، ومن غير تمثيل ولا تعطيل.
المبحث الثاني: دلَّ الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع على أن لله نَفْسًا:
- فمن الكتاب: قوله - تعالى - عن عيسى: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ ، وهو ما استَدَلَّ به المُصَنِّفُ، وقوله تعالى: ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ .
- ومن السُّنَّة: حديثُ أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - عند مسلم، وفيه: قال الله تعالى: ((يا عبادي، إنِّي حرَّمْتُ الظُّلْمَ على نفسي))، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي)).
- وإجماع السلَف على أن لله - تعالى - نَفْسًا تليق به - سبحانه - من غير تحريف ولا تكييف، ومن غير ثَمْثيل ولا تعطيل.
- فائدة: قد يقول قائلٌ: ما الدليلُ على أن السلفَ مُجمعون على هذا؟ وكذلك ما تقدَّم ذكره من إجماع للسلَف في الرَّد على مَنْ أوَّل بعض الصفات، ما الدليل على إجماع السلف؟
الجواب: أنَّ إثبات السلف بأن لله نفسًا ولا يُعرف من ينكر ذلك، ولَم يُنكر ذلك إلا أهلُ البدَع - هو دليلٌ على إجماعهم - رحمهم الله - وكذلك في الرد على من أوَّل بعض الصفات، نقول لهم: خالفتُم إجماع السلَف، فإن قالوا: أين الدليلُ على إجماعهم؟ هات لي قولاً لأحد الصحابة، أو السلف، ينقل الإجماع، أو يقول بأنَّ المراد باليدين لله تعالى، والوجه، وغيرها من الصفات أنها صفات حقيقية لا تُؤوَّل.
نقول: إنَّ السلَف - رحمهم الله - لو كان عندهم معنى آخر يُخالف ظاهر الآية، والمعنى الحقيقي الذي دلت عليه الآية، لنُقِلَ إلينا عنهم، فلمَّا لَم يُنقَلْ شيء عُلِمَ أنهم يأخذون بظاهر اللفظ، ولا يُؤَوِّلون، فهذا كالإجماع؛ حيث لا يُعلم مخالف لذلك، وأنتم أعطونا قولاً لأحد الصحابة والتابعين يؤوِّل صفة الوجه بالثواب، وصفة اليدين بالنِّعمة والقدرة، فلن تجد لهم قولاً، وهذا يدلُّ على أنهم يأخذون - رحمهم الله، ورضي عنهم - بظاهر اللفظ، ولا يؤوِّلون .
المبحث الثالث: هل (النَّفْس) هي ذات الله - تعالى؟
وهذا مما اختلف فيه السلَف - رحمهم الله - على قولَيْن:
القول الأول: أنَّ النفْس بمعنى الذات، فليست صفة، بل هي ذاته - سبحانه - المُتَّصِفَة بصفاته، واختار هذا القولَ شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - وقال: هو قول جُمهور العلماء، وهو اختيارُ الشيخ ابن باز - رحمه الله .
وعلَّلُوا ذلك: بأنَّ هذا هو المعروف من لغة العرب، فأنت تقول: جاء زيد عينه ونفسه؛ أي: ذاته، وسقط الجدار نفسه؛ أي: ذاته، قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن نفس الله تعالى: "ونفسه هي ذاته المقدَّسة" ، وقال أيضًا : "ويُرَادُ بنَفْس الشيء: ذاتُه وعينه، كما يقال: رأيت زيدًا نفسَه وعينَه، وقد قال تعالى: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ ، فهذه المواضع المرادُ فيها بلفظ النَّفْس عند جمهور العلماء: الله نفسه، التي هي ذاته، المُتَّصِفَة بصفاته، ليس المراد بها ذاتًا مُنْفَكَّة عن الصفات، ولا المراد بها صفة للذات".
والقول الثاني: أن النَفْس صفةٌ لله - عزَّ وجلَّ - وليس المقصود بها الذات التي لها الصفات، واختار هذا القولَ ابنُ خزيمة في كتاب "التوحيد" ، وعبدالغني المقدسي في عقيدته ، والمصنِّف ابن قدامة المقدسي في هذه العقيدة؛ حيث أوردها مع الصفات؛ ولذا قولنا في أول الكلام عن النفس: (صفة النفس)، تَمَشِّيًا مع مقصود المصنف، وأيضًا إثباتًا يليق بجلاله – سبحانه - والخلافُ في هذه المسألة يسيرٌ، فأصحاب القولين يُثبتون أن لله نفسًا - جلَّ وعلا - والخلافُ هل النفس هي الذات التي لها الصفات، أو أن النفس صفة من الصفات؛ كالسمع، والبصر، والحياة، وغيرها من الصفات؟ وتحت هذا الخلاف تنبيهان:
الأول: القائلون بأن النفس هي ذاته - سبحانه - لا يقولون بأنها ذات مجرَّدة عن الصفات، كما يقوله أهلُ البدع - تعالى الله عن هذا القول عُلُوًّا كبيرًا - وبهذا افترقوا عن أهل البدع فتنبَّه، فما قاله أهل البدع هو الذي يُعَدُّ تأويلاً.
الثاني: القائلون بأن النفس صفةٌ من الصفات يثبتونها لله - تعالى - على الوجه اللائق به - سبحانه - فهي ليست كأنفس المخلوقين، فمُجَرَّد اتِّفاق الاسم لا يستلزم الاتفاق في الكيفية، فليس كما يُقال بالنسبة للمخلوق الذي له جسد وله روح تسمى نفسًا، فيقولون: خرجت نفسه؛ يعني: خرجت روحه - تعالى الله عن الشبيه والنظير -: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ .
المبحث الرابع: المخالفون لأهل السنة:
المخالفون لأهل السنة والجماعة من المعطلة؛ كالجهمية، والمعتزلة، وغيرهم - يؤوِّلون، ويقولون: إن المراد بالنفس هي الذات المجرَّدة عن الصفات.
والرد عليهم من وجوهٍ أشهرها:
1- أن تأويلهم مخالفٌ لطريقة السلف - رحمهم الله.
2- أنه لا يوجد ذاتٌ مُجردةٌ عن الصفات - فتعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا.
3- أن الذات المجردة عن الصفات ذاتٌ ناقصة، فلا يوجد ذاتٌ كاملةٌ مُجَرَّدةٌ عن الصفات - فتعالى الله جلَّ شأنُه.
4- أن هذا التأويل يقتضي تعطيلَ نصوص الصفات عن معناها الحقيقي، وتحريفها إلى معانٍ غير مرادة، فهو مخالف لظاهر النصوص، ولا دليل على هذا التأويل.
* * * * * *
قال المصنِّف - رحمه الله -:
وقوله - سبحانه -: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ ، وقوله - تعالى -: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ﴾ .
الشرح
الصفة الرابعة والخامسة: المجيء والإتيان:
وتحت هاتَيْن الصِّفَتَيْن عدَّة مباحث:
المبحث الأول: معتَقد أهل السُّنَّة والجماعة في هاتَيْن الصفتين:
أهل السنة والجماعة يُثبتون صفَتي المجيء والإتيان لله - تعالى - وأنه يجيء ويأتي بنفسه – سبحانه - مِن غير تكييف ولا تمثيل، ومِن غير تحريف ولا تعطيل، وهما من الصِّفات الفعليَّة الخبرية، وتقَدَّم في قواعد الصفات: أن الصفات الفعلية هي التي يتَّصف بها الله - تعالى - إذا شاء، وليس على الدَّوام، بل يتَّصف بها - سبحانه - في وقتٍ دون وقت.
المبحث الثاني: صفتا المجيء والإتيان ثابتتان بالكتاب، والسنة، والإجماع:
- فمِنَ الكتاب: ما استدلَّ به المصنِّف؛ قوله - تعالى -: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ .
وقوله - تعالى -: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ .
- ومن السنة: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: قال الله - تعالى -: ((وإن تقرَّب إليَّ ذراعًا، تقَرَّبْتُ إليه باعًا، وإن أتاني يَمْشي أتيتُه هرولة)) ، وفي رواية لمسلم: ((وإذا تلقاني بباعٍ، جئتُه - وفي رواية -: جئته؛ أتيته بأسرع)).
- وإجماع السلف على ذلك:
قال أبو حسن الأشعري: "وأجْمَعُوا على أنه - عزَّ وجل - يَجِيء يوم القيامة والملك صفًّا صفًّا" .
المبحث الثالث: المخالِفون لأهل السُّنَّة:
المخالفون لأهل السنة والجماعة مِن المعطِّلة؛ كالجَهْمِيَّة، والمعتزِلة، والأشاعرة، يُؤَوِّلُون المجيء والإتيان لله، فيُقَدِّرون محذوفًا، ويقولون: "جاء أمر ربك، وأتى أمر ربك"، فلا يثبتون المجيء والإتيان لله بنفسه، ويقولون في قوله - تعالى -: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾؛ أي: أمْرُ ربك، وفي قوله ﴿أَوْ يَأْتِي رَبُّكَ﴾؛ أي: أمْرُ ربك، مستدلِّين بقَوْلِه - تعالى -: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ ، وهذا تأويلٌ باطلٌ، وصَرْف للنَّصِّ عنْ ظاهرِه.
والرد عليهم:
1- أنَّ هذا التأويل مخالفٌ لطريقة السلَف - رحمهم الله.
2- أن تأويلَكم هذا مخالفٌ لظاهر النُّصوص، ولا دليل على هذا التأويل.
3- أنَّ قولكم بأن المراد: "جاء أمر الله، وأتى أمر الله"، واستدلالكم بقوله - تعالى -: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ ، هو استدلال عليكم لا لكم؛ لأنَّ فيه بيانًا بأنَّ الله - عزَّ وجل - لو أراد هذا المعنى لذَكَرَهُ في بقيَّة الآيات، كما ذكَرَهُ هنا، بل أصرح من ذلك: أنَّ الله - تعالى - في آية واحدة بيَّن صفة الإتيان لنفسه، والإتيان لغيره؛ فقال - تعالى -: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ﴾ ، وهذا التَّقْسيم والبيان لإتيان الملائكة، وإتيانه - سبحانه - وإتيان بعض آياته - تقْسيمٌ يبعد معه التقدير؛ لأنه لو أراد أمْرَه - سبحانه - كما تزْعمُون، لَذَكَرَهُ في هذه الآية، فليس هناك ما يمنع ذِكْره.
تنْبيه:
بعضُ المفَسِّرين المُتَأثِّرين بمذْهب الأشاعِرة في إثبات بعضِ الصفات، ينقلون إجماعًا وكلامًا عنِ السلَف لا يصِح، فمِمَّا نقلوه ونسبوه للسلَف: تنْزيه الله - تعالى - عن صفَتي المجِيء والإتيان، وأنَّ السلَف كانوا يسكتون ولا يعتَقِدون أنَّ لله - تعالى - مجيئًا حقيقيًّا، بل يقولون: لا نتكلَّم، ولا ندري ما معناها، ولا نبحث في دلالتها، وهذا القول نسْبتُه للسلَف غير صحيحة، بل السلَف - رحمهم الله - يُثبتون صفَتي المجيء والإتيان لله - تعالى - كما يليق بجلاله وعظمته - سبحانه - ولا يبحثون عن كيفية مجيئه وإتيانه - سبحانه - كما يثبتونها من غير تكييف ولا تحريف، ومن غير تعطيل ولا تمثيل .
فائدة:
كلُّ مَن سلك طريق التأويل في صفات الله - تعالى - اضْطربَ وتناقَض، وحار في أمرِه ومعتقده ذلك؛ فهُمْ أنكروا وعَطَّلُوا كثيرًا من الصفات؛ ليفِرُّوا بزَعْمهم من مُشابهة الخالق بالمخلوق، فعَطَّلُوا صفاتٍ كثيرة؛ كاليدين، والوجه، والمجيء، والإتيان، والرضاء، والمحبة، وغيرها من الصفات الذاتية والفعلية؛ لئلاَّ يشبهوا الخالق بالمخلوق، وبزَعْمهم أنهم لو أثبتوا هذه الصفات وقعوا في المحذور الذي منه يفرُّون.
ويُقال لهم: ماذا تقولون: هل الله موجود، أو غير موجود؟ فإن قالوا: غير موجود، فقد كفَروا، وإن قالوا: موجود، يُقال لهم: وقعتم بالذي منه تفرُّون، فالمخلوق أيضًا موجود، فأثبتُّم للخالق والمخلوق صفة الوجود، فإن قالوا: نحن نثبت وجود الله - تعالى - ولكن ليس كوجود المخلوق، الذي هو قابل للعدَم والنقْص، والله - عز وجل - له وجودٌ يليق بجلاله، فيقال لهم: ونحن كذلك نقول في صفات الله - تعالى - الثابتة في كتابه وسنة رسوله: نثبتها له كما يليق بجلالِه وعظمته، مِن غير تمثيلٍ وتشبيه بالمخلوق، فهو القائل: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ، ومن غير تكييف، ولا تحريف، ولا تعطيل، فهذا اعتقادُنا في صفة الوُجُود، وفي جميع الصفات، نُثبتها كما يليق به - سبحانه.
* * * * * * * *
- قال المُصَنِّف - رحمه الله -:
وقولُه - تعالى -: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ .
الشرح
الصفة السادسة:صفة الرضا:
وتحت هذه الصفة عدة مباحث:
المبحث الأول: مُعتَقد أهل السنة والجماعة في صفة الرضا:
أهل السنة والجماعة يُثبتون صفة الرضا لله - سبحانه وتعالى - مِن غير تكييف ولا تعطيل، ومن غير تمثيل ولا تحريف.
وهي من الصِّفات الفعليَّة الخَبَريَّة؛ فالله - عز وجل - يتَّصِف بها متى شاء، فليسَتْ صفة ذاتية، أي: ملازمة للذات، لا تنفصل عنه - سبحانه - بل هي صفة فعلية، يتَّصف بِها الله - تعالى - متى شاء، وتَقَدَّم في قواعد الصفات: تقسيم الصفات إلى: ذاتية، وفعلية، وبيان الفرْق بينهما بالأمثلة.
المبحث الثاني: صفة الرضا دلَّ عليها الكتاب، والسنة، والإجماع:
- فمِن الكتاب: ما استدل به المصنِّف، قوله - تعالى -: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ .
- ومن السنة: حديث عائشة - رضي الله عنها - عند مسلم مرفوعًا: ((اللهم إنِّي أعوذ برضاك مِن سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك)).
- وإجماع السلف على ذلك: حيث لا يُعلم فيهم مخالِف - رحمهم الله، ورضي عنهم.
قال أبو إسماعيل الصابوني: "وكذلك يقولون - أي: يثبتون - في جميع الصفات التي نزل بذِكْرها القرآن، ووردت بها الأخبار الصحاح؛ من: السمع، والبصر، والعين... والرضا، والسخط" .
المبحث الثالث: المخالفون لأهل السُّنَّة:
المخالفون لأهْل السنة والجماعة منَ المعَطِّلة؛ كالجهميَّة، والمعتزلة، والأشاعرة، وغيرهم - يُؤَوِّلون صفة الرضا بإرادة الثواب، فيقولون - رضي الله عنهم -: أي: أثابهم الله - تعالى.
والرد عليهم:
1- أنَّ هذا مخالِف لطريقة السلف.
2 - أن هذا التأويل مخالف لظاهر النصوص، ولا دليل على هذا التأويل.
3- أن إرادة الثواب ثَمَرة من ثمرات الرِّضا، وليس هو الرِّضا، ففَرْق بين الصفة وثمراتها.
المبحث الرابع: منَ الأعمال التي ينال بها المسلمُ رضا الله - تعالى:
1- الإيمان بالله، والعمل الصالح؛ لقوله - تعالى -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ .
2- نفَقة المال طلبًا لرضا الله - جل وعلا - لقوله - تعالى -: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ﴾ .
3- الرضا بالبلاء؛ لحديث أنس - رضي الله عنه -: ((إنَّ عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإنَّ الله إذا أحب قومًا ابتلاهُم، فمن رضي فله الرضا، ومن سَخِطَ فله السخط)) .
4 - حَمْد الله على الأكْل والشُّرْب؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((إنَّ الله ليرضَى عن العبد أن يأكلَ الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها)) .
5- السواك؛ لحديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعًا: ((السواك مطْهرة للفَم، مرْضاة للرَّبِّ)) .
* * * * * * * *
-قال المصنف - رحمه الله -:
"وقولُه - تعالى -: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ .
الشرح
الصفة السابعة: صفة المحبة:
وتحت هذه الصفة عدة مباحث:
المبحث الأول: مُعتقد أهل السنة والجماعة في صفة المحبة:
أهل السنة والجماعة يُثبتون صفة المحبة لله - تعالى - كما يليق بجلاله وعظمته، من غير تكييف ولا تعطيل، ومن غير تَمْثيل ولا تحريف، وهي من الصِّفات الفعلية الخبَريَّة.
المبحث الثاني: صفة المحبة دلَّ عليها الكتابُ والسنة والإجماع:
- فمن الكتاب: ما استدل به المصنِّف؛ قوله - تعالى -: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾.
- من السنة: حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((لأعطين الراية غدًا رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)) ، وفي الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - أعطاها عليًّا.
- وإجماع السلف على ذلك:
قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة: "إن الكتاب والسنة وإجماع المسلمين أثبتتْ محبة الله لعبادِه المؤمنين ومحبتهم له" .
المبحث الثالث: المخالفون لأهل السنة:
المخالفون لأهل السنة والجماعة منَ المعَطِّلة أنْكَرُوا صفة المحبة، وقالوا: لأنَّ المحبة لا تكون إلاَّ بين اثنين مُتجانسَيْن، فلا تكون بين الربِّ والمخلوق أبدًا، فهي تكون بين المخلوقات فقط، هذا هو زعمُهم، وأَوَّلُوا نصوص إثبات صفة المحبة بإرادة الثواب، فمَحَبَّة الله للمؤمنين إثابتهم؛ وهذا قول الأشاعرة وغيرهم من أهل التحْريف.
والرد عليهم:
1- أن هذا مخالِف لطريقة السلَف - رحِمهم الله.
2- أن هذا التأويل مخالف لظاهر القرآن، ولا دليل على هذا التأويل.
3- أن إرادة الثواب ثمرة من ثمرات المحبَّة، وليستْ هي المحبة، ففرْق بين الصِّفة وثمرتها.
4- أن قولكم: إنَّ المحبة لا تكون إلاَّ بين المتجانسَيْن، فلا تكون إلا بين المخلوقات - هي دعوى لا دليل عليها.
المبحث الرابع: أقوى أنواع المحبَّة هي الخُلَّة:
وصفة الخلَّة صفَة ثابتة لله - تعالى - بـ: الكتاب والسنَّة والإجماع، فمُعتَقد أهل السنة والجماعة إثبات صفة الخُلَّة لله - تعالى - بلا تكييف، ولا تمثيل، وبلا تعطيل، ولا تحريف، وهي صفة فعليَّة خبريَّة، ويدل عليها:
من الكتاب: قوله - تعالى -: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾ .
ومن السُّنَّة: ما جاء في "صحيح مسلم": أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ولقد اتَّخذ الله صاحبكم خليلاً))؛ يعني: نفسه - صلى الله عليه وسلم.
وإجماع السلف على إثبات هذه الصفة:
وتحت هذه الصفة عِدة فوائد:
الأولى: صفة الخلَّة لله - تعالى - صفة توقيفية، فلا يجوز أن نثبت لأحد من البشر أنه خليل لله - تعالى - ولو كان نبيًّا، إلا بدليل، ولَم يدل الدليل إلا على نبيَّيْن: إبراهيم، ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - فلا نثبتها إلا لهما، وتقَدَّم الدليل على ذلك، بخِلاف المحبة؛ فهي تكون لكثيرٍ من الناس، ولها أسباب سيأتي بيانُ بعضِها.
الثانية: الخلَّة هي نهاية المحبة وكمالها وأعلى أنواعِها، وسُمِّيَتْ بذلك؛ لأنَّها تخالل شغاف القلب، وتصل إلى السوَيْداء، ولذا هي عند المخلوق لا يتَّسع القلبُ لأكثر من خليل واحد، بخلاف المحبة فهي تسَع لكثير من الناس، ولهذا امتلأ قلْب النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلَّة الله - تعالى - فلم يتَّسِع لأحد حتى أحب الناس إليه، فقد قال نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم -: ((لو كنتُ متخذًا مِن أمتي خليلاً، لاتَّخذْت أبا بكر خليلاً))، وأما حبُّه - صلى الله عليه وسلم - فكان لكثيرٍ منَ الناس؛ منهم: أبو بكر، وابنته عائشة، وزيد بن حارثة، وابنه أسامة، وعمرو بن العاص - رضي الله عنهم - وغيرهم.
الثالثة: أول مَن أنكر المخالة هو رأسُ المعطِّلة الجهمية: الجعد بن درهم؛ فأنْكَرَ اتِّخاذ الله إبراهيم - عليه السلام - خليلاً، وأنكر تكليم الله لِموسى - عليه السلام - فقتله خالد بن عبدالله القسري؛ حيث خرج به موثقًا في يوم الأضحى، وخطب الناس، فقال: "أيها الناس، ضحوا تقبَّل الله ضحاياكم، فإنِّي مُضَحٍّ بالجَعْد بن درهم؛ لأنه زعَم أنَّ الله لَمْ يتَّخذ إبراهيم خليلاً، ولم يُكلِّم موسى تكليمًا، ثم نزل فذبحه، وفي هذا يقول ابن القيم - رحمه الله - في نونيته:
وَلِأَجْلِ ذَا ضَحَّى بِجَعْدٍ خَالِدُ الْـ = ـقِسْرِيُّ يَوْمَ ذَبَائِحِ الْقُرْبَانِ
إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لَيْسَ خَلِيلَهُ = كَلاَّ وَلاَ مُوسَى كَلِيمُ الدَّانِي
شَكَرَ الضَّحِيَّةَ كُلُّ صَاحِبِ سُنَّةٍ = لِلَّهِ دَرُّكَ مِنْ أَخِي قُرْبَانِ
الرابعة: قوله - تعالى -: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾ : اسم الله "الودود"، يؤخَذ منه صِفة الودِّ لله - تعالى - نُثبتها لله - تعالى - من غير تحريف، ولا تكييف، ومن غير تمثيل، ولا تعطيل، والودُّ هو: خالص المحبة، فصارتِ الصفةُ تحت هذا الباب ثلاثة: المحبة، والخُلَّة، والودّ.
المبحث الخامس: الأسباب الجالبة لمحبة الله - تعالى:
ذَكَر ابنُ القَيِّم - رحمه الله - عشرة أسباب تجلب محبَّة الله - تعالى - للعبد، أذْكُرها بإيجازٍ:
1- قراءة القرآن بالتدبُّر والتفهم لمعانيه وما أُريد به.
2- التقرُّب إلى الله بالنوافِل بعد الفرائض.
3- دوام ذِكْره على كلِّ حال؛ باللسان، والقلب، والعمل، والحال.
4- إيثار محابِّه على محابك عند غلبات الهوى.
5- مطالَعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها ومعرفتها، وتقلّبه في رياض هذه المعرفة.
6- مشاهَدة برّه وإحسانه وآلائه ونعمه الظاهرة والباطنة.
7- انكسار القلب بكُلِّيَّته بين يدي الله - تعالى - قال ابن القيم: "وهو أعجبها".
8- الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته، وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب، والتأدُّب بأدب العبودية بين يديه، ثم خَتْمُ ذلك بالاستغفار والتوبة.
9- مجالَسة المُحِبِّين الصادقين، والتِقاط أطايب ثَمرات كلامِهم؛ كما تُنتقى أطايب الثمَر.
10 - مباعَدة كل سبب يحول بين القلْب، وبَيْن الله - عزَّ وجَل .
وأيضًا يُضاف إليها أسباب أخرى يحب الله المتَّصفِين بها؛ منها:
1- اتِّباع هدْي النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال الله - تعالى -: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ .
2- التقْوى: قال الله - تعالى -: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله يُحب العبد الغني الخفي التَّقِي)) .
والتَّقْوى هي: أن تجعلَ بينك وبين عذاب الله وقاية، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
3- الصبر: قال - تعالى -: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ .
4- الإحسان: قال - تعالى -: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ .
5- العَدْل والقِسْط: قال - تعالى -: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ .
6- الإكْثار منَ التوبة: قال الله - تعالى -: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ ، ولا بُدَّ أن تكون التوبةُ صادقة.
7- الطهارة: قال الله - تعالى -: ﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ .
قال الشيخ السَّعْدي عند تفسيرِه لهذه الآية: "﴿وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ﴾؛ أي: المُتَنَزِّهين عنِ الآثام، وهذا يشمَل التطهُّر الحِسي من الأنجاس والأحداث، ففيه مشروعية الطهارة مُطلقًا، ويَشْمل التطهُّر المعنوي عن الأخلاق الرَّذيلة، والصفات القبيحة، والأفعال الخسيسة".
وقال تلميذُه شيخنا ابن عثيمين: "﴿وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ﴾: إذا غسلت ثوبك من النجاسة، تحس بأن الله أحبك؛ لأنَّ الله يحب المتطهِّرين، إذا توضأتَ تحس بأن الله أحبك؛ لأنك تطهَّرْت، وإذا اغتسلت تحس أن الله أحبك؛ لأنَّ الله يحب المتطهِّرين، ووالله إننا لغافِلون عن هذه المعاني، أكثر ما نستعمل الطهارة من النجاسة أو من الأحداث؛ لأنها شرْط لصحة الصلاة؛ خوفًا من أن تفسدَ صلاتنا، لكن يغيب عنَّا كثيرًا أن نشعرَ بأن هذا قرْبة وسبب لمحبَّة الله لنا، ولو كنَّا نستحضر عندما يغسل الإنسان نقطة بول أصابتْ ثوبَه أنَّ ذلك يجلب محبة الله له، لحصَّلنا خيراً كثيرًا، لكنَّنا في غفْلة" .
8- التوَكُّل على الله: قال الله - تعالى -: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ .
9- القتال في سبيل الله: قال الله - تعالى -: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ ، ويجتمع مع القتال خصلتان: الإخلاص؛ لقوله: ﴿فِي سَبِيلِهِ﴾، والمصاففة وإحكامها بالتعاون كالبنيان المرصوص، حِسًّا ومعنًى، فلا تختلف الأبدان ولا القلوب، وإنما أُلْفَةٌ وتعاوُن.
10- التقرُّب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض: وتَقَدَّم ذكرُها في كلام ابن القيم - لقول الله - عز وجل - كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - القدسي: ((ولا يزال عبدي يتقرَّب إلىَّ بالنوافل حتى أحبَّه)) .
11- محبَّة أسماء الله وصفاته: وتقَدَّمَ ذكرُها في كلام ابن القَيِّم؛ لحديث عائشة - رضي الله عنها -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلاً على سرية، فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ ، فلمَّا رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟))، فقال: لأنها صفةُ الرحمن، فأنا أحب أن أقرأ بها، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ((أخبروه أنَّ الله - تعالى - يحبه)) .
12- الحب في الله: لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة الرجل الذي زار أخًا له في الله، فأرصد الله على مَدْرَجَتِه ملكًا فقال: "هل لك عليه من نعمةٍ تربها؟ - أي: هل لك مصلحة في زيارتك؟ - قال: "لا، غير أنِّي أحببتُه في الله - عز وجل"، قال: "فإنِّي رسولُ الله إليك، بأن الله قد أحبك كما أحببته" .
13- قوة الإيمان: لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير)) .
14- غنى النفس: لحديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((إنَّ الله يُحب العبد التقي الغني الخفي)) ، والمقصود بالغنى هنا ليس كثرة المال، وإنما المقصود: غنى النفس، وهو القانع بما أعطاه الله - جل وعلا - ورزقه، يرضى بما قسم الله له، ولا يَلِحُّ في الطلب والازدياد، وإنما اقتنع بما عنده، فكأنه غني أبدًا، ويشهد لهذا المعنى مناسبةُ الحديث الذي رواه مسلم؛ فعن عامر بن سعد قال: كان سعد بن أبي وقاص في إبله، فجاءه عامر، فلمَّا رآه سعدٌ قال: أعوذ بالله من شرِّ هذا الراكب، فنزل فقال له: أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم؟! فضرب سعد في صدره، فقال: اسكت، سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي)) .
15- الخفاء في العمل والطاعة: للحديث السابق.
16- حُبُّ الأنصار: لحديث البراء؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأنصار: ((لا يحبهم إلا مؤمنٌ، ولا يُبْغِضُهم إلا منافق، مَنْ أَحَبَّهم أحبه الله، ومَن أبغضهم أبغضه الله)) .
17- الرِّفق: لحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "دخل رهطٌٌ من اليهود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السَّام عليكم، قالت عائشة - رضي الله عنها -: ففهمتُها، فقلتُ: عليكم السَّامُ واللعنة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مهلاً يا عائشة، إنَّ الله يحب الرِّفق في الأمر كله))، فقلت: يا رسول الله، أَلَم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قد قلتُ: وعليكم)) ؛ والرِّفق: هو لِيْنُ الجانب في القول والفعل.
18- اجتناب الأعمال التي لا يحب الله المتَّصِفين بها؛ ومنها:
اجتناب الرِّدة؛ قال - تعالى -: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ ، واجتناب الخيانة؛ لقوله - تعالى -: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾ ، وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾ ، وكذلك الاختيال والكبْر والفخر؛ لقوله - تعالى -: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ ، ﴿إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ﴾ ، والإفساد؛ لقوله - تعالى -: ﴿وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ ، وغيرها من الأعمال التي جاء النص بها؛ كقوله - تعالى -: ﴿وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ ، وكذلك المسرفين؛ قال - تعالى -: ﴿وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ ، والأعمال الجالبة لِمَحَبَّة الله - تعالى - كثيرة، وبالجُملة ترْجع للأسباب التي ذكرها ابن القيم - رحمه الله تعالى.
* * * * * * * *
- قال المصنف - رحمه الله -:
"وقولُه - تعالى - في الكفَّارِ: ﴿غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ ، وقولُه - تعالى -: ﴿اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ﴾ ، وقولُه - تعالى -: ﴿كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ﴾ .
الشرح
الصفة الثامنة والتاسعة والعاشرة: صفة الغضَب والسخط والكراهية:
وتحت هذه الصفات عدة مباحث:
المبحث الأول: معتَقَد أهل السنة والجماعة في هذه الصفات:
أهل السنة والجماعة يُثْبِتُون صفة الغضب والسخط والكراهية من الله - تعالى - لِمَن يستحقها، إثباتًا يليق بجلاله وعظمته، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، وهي من الصفات الفعلية، فمتى شاء - سبحانه - غضب وسخط وكره.
المبحث الثاني: هذه الصفات ثابتةٌ بالكتاب والسنة والإجماع:
أولًا: صفة الغضَب:
- من الكتاب: قوله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ .
- من السنة: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لما خلَق الله الخلْق، كتَب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إنَّ رحمتي تغلب غضبي)) .
- وأجْمع السلَف - رحمهم الله - على إثبات صفة الغضَب لله - تعالى - كما يليق به - سبحانه.
ثانيًا: صفة السخط: يقال: (السَّخط) بفتح السين، وبضمها (السُّخط).
- من الكتاب: قوله - تعالى -: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ .
- ومن السنة: حديث عائشة عند مسلم مرفوعًا: ((اللهم إنِّي أعوذ برضاك من سخطك)).
- وأجمع السلَف - رحمهم الله - على إثبات صفة السخط لله - تعالى - كما يليق به - سبحانه.
ثالثًا:صفة الكراهية:
- من الكتاب: قوله - تعالى -: ﴿وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ .
- ومن السُّنَّة: حديث المغيرة بن شعبة مرفوعًا: ((إنَّ الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)) .
- وأجمع السلف - رحمهم الله - على إثبات صفة الكُره لله - تعالى - كما يليق به - سبحانه.
 
المبحث الثالث: المخالفون لأهل السنة:
المخالفون لأهل السنة والجماعة من المعطِّلة؛ كالأشاعرة وغيرهم - يؤوِّلون صفَتَي: الغضب، والسخط، بالانتقام والكره بعدم التوفيق؛ فيقولون: ﴿كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ﴾؛ أي: لَم يوفِّقْهم.
والرد عليهم:
1- أن هذا مخالفٌ لطريقة السلَف - رحمهم الله.
2- أنه مخالفٌ لظاهر النصوص الدالة على هذه الصفات، ولا دليل على هذا التأويل.
3- أنكم بتأويلكم هذا لَم تُفَرِّقوا بين الصفة وثمرتها ونتيجتها، فالغضَب والسخط نتيجتهما الانتقام والكره نتيجته عدم التوفيق، وتأويلكم هذا جعل النتائج هي الصفات، ولا شك أن هناك فرقًا بينهما.
4- أنَّ الله - عز وجل - فرَّق بين صفة الغضب والانتقام؛ فقال - تعالى -: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ ، وآسفونا؛ أي: أغْضبونا، ومن هذه الآية نُثبت صفة الغضب، وصفة الانتقام لله - تعالى - كما يليق به - سبحانه.
فائدة:
قوله - تعالى -: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾؛ قوله: ﴿آسَفُونَا﴾ أخذ منه صفة (الأسف) لله - تعالى - التي هي الغضَب، فالأسَفُ في هذه الآية هو الغضَب، كما نقل ذلك ابن جرير الطبري في تفسيره عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي.
والأسف في اللغة على معنَيَيْن يأتي بمعنى: شدة الحزن، ويأتي بمعنى: شدة الغضب، والمعنى الثاني هو المراد في الآية، وهو الذي نثبته لله - تعالى - بخلاف الأول، فهو مُمتنع بالنِّسبة لله - تعالى .
- قال ابن القيم: "إن ما وصف الله - سبحانه - به نفسه من المحبة والرضا، والفرَح والغضب، والبُغض والسخط، من أعظم صفات الكمال" .


- قال المصنف - رحمه الله -:
"ومِنَ السُّنَّةِ قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((يَنزِلُ ربُّنا - تباركَ وتعالى - كلَّ ليلةٍ إلى سماءِ الدّنيا))، وقولُه: ((يَعْجَبُ رَبُّكَ مِنَ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَة))، وقوله: ((يَضحَكُ اللهُ إلى رجُلَين يَقُتلُ أحدُهما الآخرَ يَدخُلانِ الجنَّة)).
الشرح
الصفة الحادية عشرة: صفة النزول:
ما تقدَّم من صفاتٍ استدل عليها المصنف من كتاب الله - جل وعلا - وما سيأتي من صفات استدل عليها المصنف من السنة النبوية، وهو يريد بهذا أن يبيِّن أنَّ نُصُوص الصفات تؤخَذ من الكتاب والسنة، وبدأ بصفة النزول، وتحت هذه الصفة عدةُ مباحث:
المبحث الأول: معتَقَد أهل السُّنَّة والجماعة في صفة النُّزول:
أهل السنة والجماعة يُثبتون صفة النُّزول لله - جلَّ وعلا - كما يليق بجلاله وعظمته، من غير تكييف ولا تحريف، ومن غير تمثيل ولا تعطيل، وهي من الصفات الفعلية الخبَرية.
المبحث الثاني: صفة النزول دلَّ عليها السنة النبوية والإجماع:
- فمن السنة: حديث النزول المشهور، وهو حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((ينزل ربُّنا إلى السماء الدنيا كل ليلة، حين يبقى ثلثُ الليل الآخر...)) .
- وأجْمَعَ السلَف - رحمهم الله - على إثبات صفة النُّزول لله - تعالى - كما يَليق به - سبحانه.
المبحث الثالث: المخالفون لأهل السُّنَّة:
المخالفون لأهل السنة والجماعة من المبتدعة المُعَطِّلَة؛ كالمعتزلة، والجهمية، والأشاعرة، وغيرهم - يؤوِّلون صفة النزول لله - تعالى – ويقولون: المراد بها نزول رحمته، أو أمره، أو ملائكته، ولا شك أنَّ هذا تأويلٌ باطلٌ.
والرد عليهم:
1- أن هذا مخالفٌ لإجماع السلف، أو لطريقة السلف - رحمهم الله.
2- أنه مخالفٌ لظاهر النصوص، ولا دليل على هذا التأويل.
3- أنَّ تأويلَكم بأنَّ المراد نُزول الرحمة تأويلٌ باطل؛ لأنَّ الرحمة نازلة على العباد في كلِّ حين، وكذلك أمره ينزل في كل وقت، وليست الرحمة خاصَّة بالثلُث الأخير من الليل، بل إن العباد لا يستغنون عن رحمة الله - عز وجل - ولو كانتْ لا تنزل عليهم إلا في الثلُث الآخر من الليل، لفسدت معيشتهم، وهلَكَتْ أنفسُهم في الأوقات الأخرى.
4- أن تأويلكم بأن المراد نُزُول أمره أو ملائكته يردُّه آخر الحديث؛ ففي آخره أن الله - عز وجل - يقول: ((مَن يدْعوني فأستجيب له؟ مَن يسألني فأعطيه؟ مَن يستغفرني فأغفر له؟))، فهل يُعقل أن تقول الرحمة أو الأمر أو الملائكة هذا القول؟!
هذا لا يمكن أن يقوله إلا الله - عز وجل - وهذا يدلُّ على أنه - سبحانه - هو الذي ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر لا غيره.
المبحث الرابع: حديث النُّزول، والرد على إشكال:
حديث النزول هو حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: ((ينزل ربنا - تبارك وتعالى - كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: مَن يدعوني فأستجيب له؟ مَن يسألني فأعطيه؟ مَن يستغفرني فأغفر له؟)) ، وفي رواية لمسلم: ((فيقول: أنا الملك، أنا الملك، مَن ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ مَن ذا الذي يسألني فأعطيه؟ مَن ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يُضيء الفجر))، وفي رواية أخرى لمسلم: ((مَن يدعوني فأستجيب له؟ أو يسألني فأعطيه؟ ثم يقول: مَن يُقرِض غير عديم ولا ظلوم؟))، وهذا الحديث حديثٌ عظيم، ولشيخ الإسلام ابن تيميَّة رسالةٌ مستقلَّة فيه بعنوان: "شرح حديث النزول"، وتحت هذا الحديث إشكالٌٌ، وعدة فوائد عقدية.
أولاً: الإشكال:
بعض الناس يستشكل في نزول الله - عز وجل - حين يبقى ثلث الليل الآخر، كيف ينزل في ثلث الليل الآخر، والليل يختلف باختلاف البلاد؟ فقد يكون ثلث الليل الآخر في بلدنا مثلاً المملكة العربية السعودية، بينما البلاد الأخرى لَم يأتهم الثلث الآخر من الليل، وبعد ساعات ينتقل إليهم ثلث الليل الآخر، ثم إلى دولة أخرى، وهكذا، وهذا يقتضي أنَّ الله - جل وعلا - نازلٌ في كل وقت؟
والجواب على هذا الإشكال من ثلاثة وجوه:
أولاً: يقال: لا بدَّ للإنسان أن يؤمن بأن الله - تعالى - له نزول يليق بجلاله في هذا الوقت المعين، فهي صفةٌ من صفاته الفعلية - سبحانه - وأهل السنة والجماعة يؤمنون بالصفة وبمعناها من غير تكييف، فلا يسألون، ويقولون: كيف؟ وكيف؟ بل يؤمنون بها، ويثبتونها على الوجه اللائق به - سبحانه - وأن الله - عز وجل - ينزل حين يبقى ثلثُ الليل الآخر في بلدنا، وإذا انتقل الثلثُ الآخر لبلد آخر، فإننا نؤمن بأن الله - تعالى - ينزل فيه أيضًا، وإذا طلع الفجر في أي مكان انتهى وقت النزول فيه.
ثانيًا: أن مثل هذا الإشكال لَم يسأل عنه الصحابة - رضي الله عنهم - الذين عاصروا زمن الرسالة، ولا مَن اقتفى أثرهم منَ السلَف الصالح - رحمهم الله - لأنهم جمعوا في عقيدتهم الإيمان والتسليم، ولنا فيهم أسوة.
ثالثًا: أنَّ مثل هذه الخواطر والإشكالات ناشئةٌ مِن توَهُّم مشابَهة صفات الله - تعالى - بصفات المخلوقين، والله - عز وجل - قال عن نفسه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ ، فلا يُقاس الله - عز وجل - بخلقه؛ لأن مثل ذلك يقتضي أن يقولَ إنسان في صفة أخرى إشكالاً كهذا الإشكال، فيقول مثلاً: كيف يسمع الله - عز وجل - دعاءَ جميع الداعين في لحظةٍ واحدة؟ وكيف يحاسب الله - عز وجل - جميع الأمم في وقت واحد؟ وهكذا، وهذا لا شك أنه نشأ من هذا المنطلق، وهو مشابَهة الله - عز وجل - بخلقه - تعالى الله عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا - فمن تعظيم الله - عز وجل - الإيمان بصفاته، وعدم تصوُّر كيفيتها، تأمل قول الله - عز وجل -: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه﴾ ، تأمل الأرض جميعًا أين هي يوم القيامة؟ والسموات في ذلك اليوم أين هي؟ إنهما في صفتَيْن من صفاته - جل وعلا - لتعلم أنه - سبحانه - كما قال عن نفسه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ ، ثم تأمَّل كيف قرن الله - عز وجل - ذلك الوصف يوم القيامة بتعظيمه؛ فقال: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾، وهكذا المؤمن، فمن تعظيمه لله - جلَّ وعلا - إيمانُه بأنه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.
المبحث الخامس: فوائد عقدية في حديث النُّزول:
- من الفوائد العقدية في حديث النزول ما يلي:
أولاً: إثبات الصِّفات الفعلية لله - جل وعلا - ووجه ذلك: أن الله - عز وجل - ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، وصفة النزول من الصفات الفعلية التي يفعلها - عزَّ وجلَّ - متى شاء، كيف شاء.
ثانيًا: في الحديث إثبات صفة العُلُو لله - تعالى - وهذا يؤخذ من قوله: ((ينزل)).
ثالثًا: في الحديث إثبات القول لله - تعالى - وصفة الكلام، وهذا يؤخذ من قوله: ((يقول)).
رابعًا: في الحديث إثبات أن صفة الكلام من الصفات الفعلية له - سبحانه - وهي أيضًا من الصفات الذاتية، وسيأتي الحديث عن هذه الصفة قريبًا.
خامسًا: فيه الرد على الجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، وغيرهم، الذين أنكروا صفة النزول له - سبحانه.
سادسًا: فيه الرد على الجهمية وأمثالهم الذين يقولون بأن الله - تعالى - في كل مكان بذاته، ولو كان الله - عز وجل - بذاته في كل مكان، لَم يقل: ((ينزل ربنا)).
سابعًا: الإيمان بأن نزول الله - تعالى - يكون في ثلث الليل الآخر، وينتهي بطُلُوع الفجر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر)).
ثامنًا: في الحديث الرَّدُّ على جهَلة الصوفية، الذين يقولون: الدعاء لا ينفع الداعي، والله - عز وجل - يقول: ((مَن يدعوني فأستجيب له؟))، بل دلَّ الكتاب والسنة والعقل على نفْع الدعاء.
هذه جملةٌ منَ الفوائد العقدية، وأما الفوائد التربويَّة من هذا الحديث فليس هذا محل بسْطِها، وأجلُّها بيان كرم الله - تعالى - على عبده؛ حيث يبسط الله - عز وجل - ما عنده في هذه الساعة المباركة؛ من مغفرةٍ وعطاءٍ لمن يسأله، وإجابة لمن يدعوه في أيِّ حاجة من الحاجات، فما أكثر حاجاتنا! وما أعظم غفلتنا عن هذه الساعة المباركة! ففيها مغفرة وإجابة دعاء، وأيضًا يقول فيها: ((من يقرضُ غير عديم ولا ظلوم؟))، ولسعة ما عنده - سبحانه - قال: ((غير عديم))؛ والعديم - كما يقول أهل اللغة -: أعدم الرجل إذا افتقر، وفي هذا بيان كمال الغنى لله - سبحانه - وهو غير ظلوم، فلن ينقص العامل أجر عملٍ عَمِله لوجْهه - سبحانه - فله العدلُ الكاملُ، وقوله: ((مَنْ يُقرض))، سمَّاه - سبحانه وتعالى - قرضًا ملاطفةً لعباده، وتحريضًا لهم على المبادَرة إلى الطاعة وتفضُّلاً منه عليهم - سبحانه - وانظر كلام النووي في شرحه لهذا الحديث.
* * * * * * *
- قال المصنف - رحمه الله -:
وقولُه: ((يَعْجَبُ رَبُّكَ مِنَ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ)).
الشرح
الصِّفة الثانية عشرة: صفة العَجَب:
وتحت هذه الصفة عدة مباحث:
المبحث الأول: معتقد أهل السنة والجماعة في صفة العَجَب:
أهل السنة والجماعة يُثبتون صفة العَجَب لله - تعالى - كما يليق بجلاله وعظمته، من غير تكييف ولا تعطيل، ومن غير تحريف ولا تمثيل، وهي من الصفات الفعلية والخبرية.
المبحث الثاني: صفة العَجَب دلَّ عليها الكتاب والسنة والإجماع:
- فمن الكتاب: ﴿بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ﴾ ، بضَمِّ التاء، وسيأتي بيان هذه القراءة.
وقوله - تعالى -: ﴿وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ﴾ ، قال ابنُ جرير الطبَري في تفسيره: "قوله: ﴿وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ﴾؛ إن عجبت يا محمد، فَعَجب قولهم: ﴿أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ ، عجب الرحمن - تبارك وتعالى - من تكذيبهم بالبعث بعد الموت.
- من السنة: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((قد عجب الله من صنيعكما بضيفيكما الليلة)) ، وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند البخاري مرفوعًا: ((عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل))، والحديث الذي استدل به المصنف: ((يعجب ربك من الشاب ليست له صبوة)) ، ومعناه: أن الله - عز وجل - يعجب من شاب في قوته ونشاطه وشهواته لا تكون له صبوة؛ أي: لا يكون له ذنب، ولا يرْتَكِب كبيرة.
- وأجمع السلَف - رحمهم الله - على إثبات صفة العَجَب لله - تعالى - على الوجه اللائق به - سبحانه.
المبحث الثالث: المخالفون لأهل السنة:
المخالفون لأهل السنة والجماعة من المعطِّلة؛ كالمعتزلة، والجهمية، والأشاعرة - يؤوِّلون صفة العَجَب لله - تعالى - ويقولون: المراد بها إرادة الثواب والمجازاة، وهذا تأويل باطلٌ.
والرد عليهم:
1- أن هذا مخالف لطريقة السلف - رحمهم الله.
2- أن هذا مخالف لظاهر النَّص.
3- أنه لا دليل على تأويلكم هذا.
المبحث الرابع: العَجَب نوعان:
الأول: عجبٌ ناشئٌ عن جهل: وهو عجبُ الذهول عن السبب؛ لجهله وخفاء السبب على المتعجب، كأن يأتيه الأمر بغتةً، ولَم يتوقع حصول أمرٍ ما تعجب منه، وهذا النوع مستحيلٌ على الله - تعالى - لأنَّ الله بكلِّ شيء عليم.
الثاني: عجب ناشئ عن علم، فالمتعجب لَم يخفَ عليه الأمرُ والسبب؛ ولكن لأن هذا الأمر خرج عن نظائره تعجب منه، فسبب التعجب هو أن المتعجب منه جاء على خلاف المعهود، لا عن جهل، وهذا النوع هو المراد في صفة التعجب لله - جل وعلا.
فائدة:
قوله - تعالى -: ﴿بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ﴾: (عجبت) فيها قراءتان سبعيَّتان مشهورتان:
الأولى: بالفتح (عَجِبْتَ)؛ والمعنى: عجبتَ أنت يا محمد، ويسخرون من هذا القرآن.
الثانية: بالضم (عَجِبْتُ) وهي قراءةٌ قرأ بها الكسائيُّ، وحمزةُ، وثبت أن ابن مسعود - رضي الله عنه - قرأ بها كما روى الحاكم في "مُستدركه"، وهي على هذه القراءة يكون الاستدلال بها من القرآن على إثبات صفة العَجَب لله - تعالى.
* * * * * * * *
- قال المصنف - رحمه الله -:
وقولُه: ((يَضحَكُ اللهُ إلى رجُلَين، يَقُتلُ أحدُهما الآخرَ يَدخُلانِ الجنّة)).
الشرح
الصفة الثالثة عشرة: صفة الضَّحِك:
وتحت هذه الصفة عده مباحث:
المبحث الأول: معتَقَد أهل السنة والجماعة في صفة الضحك:
أهل السنة والجماعة يُثبتون صفة الضحك لله - تعالى - كما يليق بعظمته وجلاله، من غير تحريف ولا تكييف، ومن غير تعطيل ولا تمثيل، وهي صفة فعلية خبرية.
المبحث الثاني: صفة الضَّحِك دلَّ عليها السنة والإجماع:
- فمن السنة: ما استدل به المصنف، وهو حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة)) .
وهذا الحديث فُسِّر بأن أحدهما كافر يقتل المسلم، فالمسلم شهيد، والشهيد في الجنة، ثم يسلم الكافر، والمسلم مآله إلى الجنة، فصار كلاهما يدخل الجنة.
- أجمع السلف - رحمهم الله -: على إثبات صفة الضَّحك لله - تعالى - على الوجه اللائق به - سبحانه - قال الإمام ابن خزيمة في كتاب "التوحيد" : باب ذكر إثبات ضحك ربنا - عز وجل - بلا صفة تصف ضحكه؛ أي: بلا تكييف لضحكه - جلَّ ثناؤه - ولا يُشبه ضحكه بضحك المخلوقين، وضحكهم كذلك، بل نؤمن بأنه يضحك، كما أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - ونسكت عن صفة ضحكه - جل وعلا - إذ الله - عز وجل - استأثر بصفة ضحكه، لَم يطلعنا على ذلك، فنحن قائلون بما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مصدِّقون بذلك بقلوبنا، منصتون عمَّا لَم يبيِّن لنا مما استأثر الله بعمله".
المبحث الثالث: المخالفون لأهل السنة:
المخالفون لأهل السنَّة والجماعة منَ المبتدعة؛ كالجهميَّة، والمعتزلة، والأشاعرة - يُفَسِّرون صفة الضَّحِك بالقَبول والثواب، وهو تأويل باطل.
والرد عليهم:
1- أن هذا مخالفٌ لطريقة السلَف - رحمهم الله.
2- أن هذا مخالف لظاهر النصوص التي فيها إثبات لهذه الصِّفة.
3- أنَّ تأويلكم هذا لا دليل عليه.
* * * * * * * *
14- قال المصنِّف - رحمه الله -:
فهذا وما أشْبَهه مما صَحَّ سَنَدُهُ، وعُدِّلت رواته، نُؤْمِنُ بِهِ، ولا نرده، ولا نَجْحَده، ولا نَتَأَوَّله بِتَأْوِيلٍ يُخالِفُ ظاهِرَه، ولا نُشَبِّهه بصفات المخلوقين، ولا بسمات المحدثين، ونعلَم أنَّ اللهَ - سبحانَه وتعالى - لا شبيه له ولا نظير؛ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ ، وكلُّ ما تُخُيِّلَ في الذِّهن، أوْ خَطَرَ بالبَال، فإنَّ اللهَ - تعالى - بخلافه.
الشرح
- المصنِّف - رحمه الله - بعدما سرد آيات وأحاديث الصفات التي تقدَّم بيانُها، رجع مرة أخرى ليُذَكِّر بطريقة السلَف - رحمهم الله - مع هذه الصفات، وأن الأحاديث الواردة في الصفات إذا صحَّ سندُها، وكان رواتها ثقاتٍ عدولاً؛ فإننا نؤمن بما جاء في هذه الأحاديث، قال: "ولا نرده، ولا نجحده"؛ أي: بلا تعطيل، "ولا نتأوله بتأويل يخالف ظاهره"؛ أي: بلا تحريف عن ظاهر النص، "ولا نشبهه بصفات المخلوقين"؛ أي: بلا تمثيل أيضًا، فالله - عز وجل - لا شبيه له ولا نظير، هو القائل عن نفسه - جل وعلا -: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، وبِنَاءً على هذا ذكر المصنف قاعدةً عظيمة، وهي: أن كل ما يتخيَّله الذهن أو يخطر على البال، فإن الله - تعالى - بخلافه؛ لماذا؟ لأنه سبحانه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، والإنسان لا يستطيع أن يتخيَّل شيئًا ويتصوَّره ويكون قريبًا مما يخطر بباله، إلا إذا رأى هذا الشيء، أو رأى مثيله، أو وصفت له كيفيَّتُه، وكل هذا ممتَنع في حقِّ الله - جل وعلا.
فائدة:
قول الله - تعالى -: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ فيه عدَّة فوائد:
الأولى: هذه الآية منَ الأدلة على قاعدة عقدية معروفة في صفات الله - تعالى -: "أن النفي في الغالب يكون مجملاً، والإثبات مفصَّلاً"، ووجْه ذلك: أنَّ الله - عز وجل - حين النفي قال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، وهذا النفْي مُجمَل ليس فيه تفصيلٌ في نفي صفات معينة، وحين الإثبات قال: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، فأثبت السمع والبصر بأن ذكرهما في هذه الآية، وذكر بقية الصفات في نصوص أخرى، فالإثبات فيه تفصيل.
الثانية: هذه الآية فيها ردٌّ على طائفتين ضالَّتين، ففيها ردٌّ على المشبهِّة وذلك بقوله - تعالى -: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، وفيها ردٌّ على المعطلة الذين عطَّلوا صفات الله وأنكروها، وذلك بقوله - تعالى -: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.
الفائدة الثالثة: قوله - تعالى -: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، معلومٌ في اللغة العربية أن الكاف حرفٌ يفيد التشبيه، وكلمة (مثل) أيضًا تفيد التشبيه، وسُبِقَتَا بنفيٍ، فصار المعنى نفي المثيل لله - تعالى - واختلف في (الكاف) هنا؛ لأنها هي و(مثل) بمعنى واحد:
فقيل: هي زائدة؛ أي: زائدة لفظًا، وإلا من حيث المعنى فإنها تفيد التوكيد، فذكرها له فائدة التوكيد، وهذا معروفٌ عند العرب، أنهم يزيدون حرفًا أو كلمة من أجل تأكيد الجملة، وهذا مثل قوله - تعالى -: ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ ، (لا) هنا زائدة، تُفيد معنى تأكيد القسم، والمعنى: أقسم بيوم القيامة، أقسم بيوم القيامة.
وقيل: إن الكاف هنا حرفٌ بمعنى: (مثل)، فيكون المعنى: ليس مِثلَ مثله شيء، وهذا يقْتَضي المبالَغة في نفي المثيل.
الفائدة الرابعة: قوله - تعالى -: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، قيل: منَ الحكَم النَّصُّ على صفَتي السمع والبصر في هذه الآية؛ لأن كثيرًا من المخلوقات تشترك في هاتين الصفتين، والمتأمِّل لهذه المخلوقات يجدها تتفاوَت في قوة وضعف هاتين الصفتين، فسَمْعُ الهِرَّة ليس كسمع الإنسان، وكذا البصر، وبصر الذباب ليس كبصر الكلب، وهكذا في بقيَّة المخلوقات، فإذا كان هذا التفاوت يكون بين المخلوقات التي فيها من النقص في حواسِّها وصفاتها الشيء الكثير، فكيف بما لله - جلَّ وعلا - من الصفات؟! فلا مثيل له - سبحانه - ولا يعلم كيفية صفاته إلا هو - سبحانه - فنثبت له سمعًا وبصرًا يليقان بجلاله وعظمته - سبحانه.
* * * * * * * *
15- قال المصنف - رحمه الله -:
"ومِنْ ذَلكَ قولُه - تعالى -: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ، وقولُه - تعالى -: ﴿أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ ، وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((رَبُّنَا الله الذِي في السَّماءِ تَقَدَّسَ اسْمُكَ))، وقال للجارية: ((أيْنَ الله؟))، قالتْ: في السَّماءِ، قال: ((أَعْتِقْهَا؛ فَإِنَّهَا مُؤْمِنَة)) .
16- وقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِحُصَيْنٍ: ((كَمْ إلهًا تَعْبُدُ؟))، قال: سبْعة: سِتَّة في الأرض، وواحدًا في السَّماء، قال: ((مَنْ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِك؟))، قالَ: الذي في السَّماء، قال: ((فَاتْرُك السِّتَّة، وَاعْبُد الذي في السَّماء، وَأَنَا أُعَلِّمُكَ دَعْوَتَيْن))، فَأَسْلَمَ، وَعَلَّمَهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَقُول: ((اللَّهُمَّ ألْهِمْني رُشْدِي، وَقِني شَرَّ نَفْسِي)).
17- وَفيمَا نُقِلَ مِنْ عَلاماتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأصحابِه في الكُتُبِ المتقدِّمةِ: أنَّهم يَسْجُدون بالأرْضِ، ويَزْعُمون أنَّ إلههم في السَّماءِ".
الشرح
الصفة الرابعة عشرة: صفة الاستواء:
ومن هذه الصفة وما بعدها؛ كصفة الكلام، والعلو، وأن الله فعَّالٌ لما يريد، وأيضًا إثبات الرؤية، هي من الأمور التي أطال فيها المصنف؛ لأنها تحديدًا هي التي كثر النزاع والكلام عليها في زمن المصنف، لا سيما وقد كان يعيش - رحمه الله - في وسط الأشاعرة؛ ولذا أكثَرَ الاستدلالَ لهذه الأمور، بخلاف ما تَقَدَّمَ، فإنَّه اكتفى بدليلٍ واحد من الكتاب أو السنة، وأوَّلُ صفة أطال فيها صفةُ العُلُو والاستواء، وتحت هذه الصِّفة عدة مباحث:
المبحث الأول: معتَقَد أهل السنَّة والجماعة في صفة الاستواء:
أهلُ السنَّة والجماعة يُثبتون صفة الاستواء على العرْش لله - تعالى - كما يليق بعظمته وجلاله، من غير تَحْريف ولا تكييف، ومن غير تمثيل ولا تعطيل، وهي صفة فعليَّة خبرية.
المبحث الثاني: صفة الاستواء على العرش دلَّ عليها الكتاب والسنة والإجماع:
- فمن الكتاب: ما استدل به المصنف، وهو قوله - تعالى -: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ، وجاء إثباتُ صفة الاستواء على العرْش في سبعِ آياتٍ مِنْ كتاب الله - تعالى.
- ومن السنة: حديث قتادة بن النعمان - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله يقول: ((لما فرغ الله من خلقه، استوى على عرشه)) .
وأمَّا ما أَوْرَدَهُ المصنِّف من حديثٍ رواه أبو داود: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ ما بين سماء إلى سماء مسيرة كذا وكذا))، وذكر الخبَر إلى قوله -: ((وفوق ذلك العرْش، والله - سبحانه - فوق ذلك))، فهو حديثٌ رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حسَن غريب، وضعَّفه الألباني .
* * * * * * * *
19- قال المصنف - رحمه الله -:
فَهَذَا وَمَا أشْبَهه مِمَّا أَجْمَعَ السَّلَفُ - رَحِمَهم اللهُ - على نَقْلِهِ وقَبُولِه، ولَم يَتَعَرَّضُوا لِرَدِّهِ ولا تَأْويله، ولا تشبيهه ولا تمثيله.
الشرح
- وأجمع السلف على إثبات صفة الاستواء لله - تعالى -: ونقل الإجماعَ المُصَنِّفُ في هذه العقيدة؛ حيث قال بعد إيراده الحديث السابق: "فهذا وما أشبهه مما أجْمَع السلَف - رحمهم الله - على نقله وقبوله...".
ونقل الإجماعَ غيرُ واحدٍ من أهل العلم على ذلك؛ منهم الأئمة الأربعة في عصر تابعي التابعين وهم: "مالك" إمام أهل الحجاز، و"الأوزاعي" إمام أهل الشام، و"اللَّيث" إمام أهل مصر، و"الثَّوْري" إمام أهل العراق .
قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة: "مع أنَّ أصلَ الاستواء على العرش ثابتٌ بالكتاب والسنة، واتِّفاق سلَف الأمة، وأئمة السنة، بل ثابت في كلِّ كتاب أنزل على كل نبي أرسل" .
المبحث الثالث: معنى الاستواء:
الاستواء في اللغة: العُلُو والاستقرار .
وجاء معنى الاستواء في كلام السلَف - رحمهم الله - على أربعة معانٍ:
العلو، والارتفاع، والصعود، والاستقرار، والمعاني الثلاث الأُول - وهي: العلو، والارتفاع، والصعود - بمعنى واحد، وأما الاستقرار: فهو يختلف عنها، فيتحصل مما سبق أن الاستواء هو العُلُو والاستقرار.
- قال الله - عز وجل -: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾ ، قال بعض السلَف: إن معنى (استوى) هنا: (قصد)، وهذا التفسير يُسمى تفسير باللازم؛ فإنه - سبحانه - في قوله: ﴿اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾، مع ما أفادَه لفظ (استوى) من العلُو، فإنه مُتَضمِّنٌ للقَصْد أيضًا، والمعاني الأربعة السابقة هي المشهورةُ عند السلَف، وهناك معانٍ أخرى قال بها بعضُ السلَف، وكلها تُفيد العُلُو والاستقرار.
* * * * * * * *
18- قال المصنف - رحمه الله -:
"وروى أبو داود في سُننه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ مَا بَيْنَ سمَاءٍ إلىَ سَمَاءٍ مَسِيرَة كذا وكذا - وذَكَرَ الخَبَرَ إلى قَوْلهِ -: وَفوق ذلك العَرْشُ، وَالله - سُبْحَانَه - فَوْقَ ذَلِكَ))".
الشرح
المبحث الرابع: معنى العرش:
العرش في اللغة: هو سرير الملك ؛ قال - تعالى - عن يوسف: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ﴾ ، وقال عن ملكة سبأ: ﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ .
وعرش الرحمن: مَخْلوقٌ عظيمٌ، له قوائمُ تحمله الملائكة، وهو أعظمُ المخْلوقات، فهو سقفُ العالم؛ لأنه محيطٌٌ بالمخْلوقات، خلَقَهُ الله - جلَّ وعلا - ثم استوى عليه، ولَم يبيِّن اللهُ - جل وعلا - ممَّا خُلق هذا العرْش، ولم يَرِد دليلٌ صحيح عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - يبيِّن ذلك؛ فالله أعلم بذلك، والكرسي غير العرش؛ لأن العرش هو ما استوى عليه الله - جل وعلا - والكرسي موْضع القدَمَيْن؛ كما صَحَّ موقوفًا على ابن عباس عند الحاكم في "مستدركه"، والكرسيُّ خلق صغير بالنسبة للعرش، والله أخبرنا عن كرسيه فقال: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ ، فهو أعظمُ منَ السموات والأرض، فكيف بالعرش ووصفه؟!
وتحت هذا المبحث عدة فوائد:
أولاً: وُصِف هذا العرْش بأنه عظيم؛ قال - تعالى -: ﴿وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ ، وبأنه كريم؛ قال - تعالى -: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾ .
ثانيًا: مدح الله نفْسه بأنه ذو العرْش؛ فقال - تعالى -: ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ﴾ .
ثالثًا: أخبَرَ الله - عز وجل - أنَّ للعرش حَمَلَة، وأن عددهم ثمانية؛ فقال: ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ .
رابعًا: أخبر الله - سبحانه - أنَّ عرْشَه كان على الماء قبل خلْق السموات الأرض؛ فقال - تعالى -: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾ ، وجاء في "صحيح البخاري"، من حديث عمران بن حصين: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كان الله ولَم يكن شيء غيره، وكان عَرْشه على الماء)).
خامسًا: أخْبَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ للعرش قوائمَ؛ فعن أبي سعيد الخدري: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تخيِّروني من بين الأنبياء، فإن الناس يُصْعَقُون يوم القيامة؛ فأكون أول من يُفيق، فإذا أنا بموسى آخذٌ بقائمة من قوائم العرش...)) .
سادسًا: أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ العرش فوق الفِرْدَوْس؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن...)) .
سابعًا: أخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أن الشمس كلما غربتْ تسجد تحت العرْش؛ فعن أبي ذر- رضي الله عنه - قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر حين غربت الشمس: ((أتدري أين تذهب؟))، قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنها تذهب حتى تسجدَ تحت العرش، فتستأذن فيؤذَن لها)) .
المبحث الخامس: المخالفون لأهل السُّنَّة:
المخالفون لأهل السنة من المبتدعة؛ كالجهمية، والمعتزلة، ومتأخري الأشاعرة - يؤوِّلون صفة الاستواء بالاستيلاء، ويفَسِّرون العرش بالملك، فيقولون: (استوى على العرش)؛ أي: استولى على الملك، وهذا تأويل باطل.
واستدلوا ببيتٍ نسبوه للأخطل النصراني، وليس هذا البيت بمشهورٍ عنه، بل قُدِحَ في هذا البيت، وأنه مختلق مصْنوع لا يُعرف في اللغة، وهذا البيت هو قول الشاعر - إن صح -:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاْقِ = مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ أَوْ دَمٍ مُهْرَاقِ
فقالوا: استوى هنا بمعنى استولى بِشْر، وهو الملك على العراق، وليس المعنى: أن بشْرًا اعتلى وارتفع على العراق، كما يظن مَن يُفَسِّر الاستواء بالعلُو والارتفاع، فقالوا: هذا بيتٌ عربيٌّ دلَّ على معنى الاستيلاء، فنحن نستدلُّ بلغة العرب، هذا البيت هو حجتهم.
والرد عليهم من عده وجوه منها:
1- أن تأويلَكم مخالف لطريقة السلف وإجماعهم.
2- أنه مخالفٌ لظاهر النصوص.
3- أنه لا دليل عليه، فقد جاء إثبات الاستواء في سبع آيات من القرآن، ليس في واحدة منها أن استوى بمعنى استولى، ولو كان كذلك لبيَّن الله - عزَّ وجل - ذلك، ولو في آية واحدة.
4- أن استدلالكم في البيت نوقش بعدة أمور منها:
أ- أن هذا البيت مصنوعٌ ومختلقٌ على اللغة؛ فلا يعرف له سنَدٌ يَثْبُت، وهو غير معروفٍ في ديوان الأخْطل، وأنكره غيرُ واحد من أئمة اللغة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة .
ب- أنه لو صحَّ فيحتمل أن يكون قيل بعد تغيُّر اللسان العربي، وشيوع اللحن فيه؛ وحينئذ لا يصلح أن يكونَ حجة في لغة العرب، ودخل اللحن في اللغة بعدما اتسعت الفتوح، ودخل الأعاجم في الإسلام، واختلطوا مع المسلمين.
ج - أنه لو صح قوله قبل شيوع اللحن، فإنَّ القرينة في البيت تعضد أن يكون "استوى" بمعنى "استولى"؛ لأنه ليس من الممكن أن يكون بشْر اعتلى العراق وصعد فوقها.
4- أنه لو جاز تفسير "الاستواء" بـ"الاستيلاء"، لجاز أن نقول: إن الله - عز وجل - مستوٍ على السموات والأرض، وأنه مستوٍ على الهواء والبحار والجبال والإنسان والبعير وغيره من الحيوانات؛ لأن الله مستولٍ عليها؛ فهي تحت قهره وأمره، ولا شك أن المؤولة لا يقولون بهذا الاستواء - فتعالَى الله عمَّا يَقُولون عُلُوًّا كبيرًا.
5- أنَّ تفسير الاستواء بالاستيلاء يدلُّ على أن هناك مغالبة ومنازَعة في الاستيلاء على العرش، إذ يفهم منه أنَّ العرش قبل ذلك ليس تحت ملك الله - تعالى - ثم إنَّ الله - تعالى - استولى عليه وملكه، ولا يقول هذا عاقل - فتعالى ربُّنا عما يقولون.
6- أنه لا يُعرف في اللغة أن استوى بمعنى استولَى، فلم يَقُلْه أحد من أئمة اللغة المعتبَرين؛ قال ابن القيِّم: "ولفظ الاستواء في كلام العرب الذي خاطبنا الله به وأنزل به كلامه نوعان: مُطلقٌ، ومقيَّدٌ؛ فالمطلق: ما لَم يوصل معناه بحرْف؛ مثل قوله: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ ، وهذا معناه: كَمُلَ وتَمَّ، يُقال: استوى الزَّرع، واستوى الطعام.
وأما المقَيَّد: فثلاثة أَضْرُبٍ:
أحدها: مقيد بـ(إلى)؛ كقوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾ ، وهذا بمعنى: العُلُو والارتفاع بإجماع السلَف.
الثاني: مقيد بـ(على)؛ كقوله - تعالى -: ﴿لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ﴾ ، وقوله: ﴿وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ﴾ ، وقوله: ﴿فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ﴾ ، وهذا معناه أيضًا: العُلُو والارتفاع والاعتدال، بإجماع أهل اللغة.
الثالث: المقرون بواو المعية التي تُعَدِّي الفعْل إلى المفعول معه؛ نحو: استوى الماء والخشَبة، بمعنى: ساواها.
فهذه معاني الاستواء المعقولة في كلامهم، ليس فيها "استولى" ألبتة، ولا نقله أحدٌ من أئمة اللغة الذين يعتمد قولهم، وإنما قاله متأخِّرُو النحاة، ممن سلك طريق المعتزلة والجهمية.
والذين قالوه لَم يقولوه نقلاً، فإن ذلك مجاهرةٌ بالكذب، ولكن قالوه استنباطًا وحملاً منهم للفظة "استوى" على "استولى"؛ ولذلك لما سمع أهل اللغة ذلك أنْكَرُوه غاية الإنكار.
قال ابن الأعرابي وقد سُئل: هل يصح أن يكون "استوى" بمعنى "استولى"؟ فقال: لا تعرف العرب ذلك، وهو من أكابر أئمة اللغة" ، وردَّ ابنُ القيم على مَن يفسر الاستواء بالاستيلاء باثنين وأربعين وجهًا .
- وخلاصة الكلام: أن هؤلاء المبتدعة حرَّفوا في هذه الصفة، وزادوا لامًا فقالوا: (استوى) بمعنى: (استولى)، وهذا تحريفٌ لفظيٌّ ومعنويٌّ، وشابهوا اليهود بذلك حينما زادوا نونًا، لَمَّا قيل لهم: قولوا: (حطَّة)، فقالوا: (حنطة)، وفي هذا يقول ابن القيم:
نُونُ الْيَهُودِ وَلامُ جَهْمِيٍّ هُمَا = فِي وَحْيِ رَبِّ الْعَرْشِ زَائِدَتَانِ

* * * * * * * *
20- قال المصنف - رحمه الله -:
"سُئِلَ الإمامُ مالك بن أنس - رحمه الله - فقيل: يا أبَا عبدالله، ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ، كيْف استوى؟ فقال: الاسْتِواءُ غيْرُ مجهولٍ، والكيْفُ غيْرُ معْقولٍ، والإيمانُ به واجبٌ، والسُّؤالُ عنْه بدعةٌ، ثُمَّ أَمَرَ بالرَّجُلِ فأُخْرِجَ".
الشرح
المبحث السادس: وقفةٌ مع كلام الإمام مالك في الاستواء:
قال الإمام مالك - رحمه الله - عندما جاءه رجل فقال: يا أبا عبدالله، ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ، كيف استوى؟ قال الراوي: فما رأينا مالكًا وَجَدَ من شيءٍ كوَجده من مقالته، وعلاه الرُّحَضَاء، وأَطْرَقَ، وجعلنا ننظر ما يأمر به فيه، قال: ثم سُرِّي عن مالك، فقال: "الكيفُ غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإني لأخاف أن تكون ضالاًّ، ثم أمر به فأخرج" .
- قوله: "الكيف غير معقول"؛ أي: إن كيفية استواء الله - تعالى - غير مُدْرَكَة بالعقل؛ لأن الله - تعالى - أعظمُ من أن تدركَ العقول كيفية صفاته، فهذا مما استأثر الله - تعالى - به.
- وقوله: "والاستواء منه غير مجهول"؛ أي: إنه معلوم معنى الاستواء، فهو العُلُو والاستقرار.
- وقوله: "والإيمان به واجب"؛ أي: إن الإيمان بالاستواء واجبٌ؛ لدلالة الكتاب والسنة والإجماع عليه.
- وقوله: "والسؤال عنه بدعة"؛ أي: إن السؤال عن كيفية الاستواء بدعةٌ؛ لأن السؤال لَم يكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
- ثم أمر بالسائل فأخرج؛ لئلا يَفْتِنَ الناس في عقيدتهم، وتأديبًا له بمنعه من مجالس العلم، وعبارة الإمام مالك عبارة عظيمة، يتَوَجَّه قولها في كلِّ صفة لله - تعالى - بأن نقول: كيفية الصفات لا تدركها عقولنا، فهي مما استأثر الله بعلمه، وأما معناها فغير مجهول بل نعلم معناها، ويجب أن نؤمن بما دلَّ عليه الكتابُ والسنة من صفات الله، والسؤال عن كيفيتها بدعةٌ؛ لأنه لَم يسأل عن ذلك من هم خيرٌ منَّا، وهم السلف من الصحابة والتابعين.

 
- قال المصنف - رحمه الله -:
"ومِنْ ذَلكَ قولُه - تعالى -: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ .
وقولُه - تعالى -: ﴿أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ ، وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((رَبُّنَا الله الذي في السماء، تَقَدَّسَ اسْمُكَ))، وقال للجارية: ((أيْنَ الله؟))، قالتْ: في السَّماءِ، قال: ((أَعْتِقْهَا؛ فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ))؛ رواه مالكُ بنُ أنَسٍ، ومسلمٌ، وغيرُهما مِنَ الأئمة.
16- وقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِحُصَيْنٍ: ((كَمْ إلهًا تَعْبُدُ؟))، قال:سبْعة؛ سِتَّة في الأرضِ، وواحِدًا في السَّماءِ، قالَ: ((مَنْ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ؟))، قالَ: الذي في السَّماء، قالَ: ((فَاتْرُكِ السِّتَّة، وَاعْبُدِ الذِي في السَّماءِ، وَأَنَا أُعَلِّمُكَ دَعْوَتَيْن))، فَأَسْلَمَ وَعَلَّمَهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَقُولَ: ((اللَّهُمَّ ألْهِمْني رُشْدِي، وَقِني شَرَّ نَفْسِي))".
الشرح
الصفة الخامسة عشرة: صفة العُلُو:
وهي من الصفات التي أطال فيها المصنف استدلالاً، وتحت هذه الصفة عدة مباحث:
المبحث الأول: معتقد أهل السنة والجماعة في صفة العُلُو:
أهل السنة والجماعة يثبتون صفة العُلُوِّ لله - تعالى - كما يليق به - سبحانه - من غير تحريف ولا تكييف، ومن غير تمثيل ولا تعطيل، وهي من الصفات الذاتية.
فائدة:
العُلُوُّ لله - تعالى - على ثلاثة أقسام:
الأول: عُلُوُّ شأن؛ أي: عُلُو شرف وقدْر وعظمة.
الثاني: عُلُوُّ قهر.
وهذان القسمان لَم يخالفْ فيهما أحدٌ ممن ينتسب للإسلام؛ سواء كان من أهل السنة أم أهل البدعة.
الثالث: عُلُوُّ الذات، وهذا هو الذي جرى فيه الخلاف بين أهل السنة فأثبتوه، وبين أهل البدعة فأنكروه، وهو المقصود في المباحث القادمة، يقول الحافظ حكمي:
عُلُوُّ قَهْرٍ وَعُلُوُّ شَانِ = جَلَّ عَنِ الْأَضْدَادِ وَالْأَعْوَانِ
كَذَا لَهُ العُلُوُّ وَالْفَوْقِيَّهْ = عَلَى عِبَادِهِ بِلا كَيْفِيَّهْ
ومن أهل العلم من يقسم العُلُوَّ إلى قسمين:
عُلُو صفة، وعُلُو ذات، وعُلُوُّ الصفة يدخل فيه عُلُوُّ الشأن وعُلُو القهر، ومنهم من يُقسمه إلى قسمين: عُلُو معنوي، وعُلُو ذاتي، والعلو المعنوي يدخل فيه علو الشأن وعلو القهر، والفرق فقط في طريقة التقسيم لا في المضمون.
المبحث الثاني: صفة العُلُو دلَّ عليها الكتابُ والسنة والإجماع:
- فمنَ الكتاب: ما استدل به المصنِّف، وهو قوله - تعالى -: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾ ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قد وصف الله - تعالى - نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله بالعلُو، والاستواء على العرش والفوقية، وفي كتابه في آيات كثيرة، حتى قال بعض أكابر أصحاب الشافعي: في القرآن ألفُ دليلٍ أو أَزْيد تدل على أنَّ الله - تعالى - عالٍ على الخلْق، وأنه فوق عباده، وقال غيره: فيه ثلاثمائة دليل يدل على ذلك" .
- ومن السنَّة أيضًا أدلة كثيرة؛ منها ما استدل به المصنِّف، وهو حديث معاوية بن الحكم السلَمي، وفيه قصة الجارية وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لها: ((أين الله؟))، قالت: في السماء، قال: ((أَعْتِقْها فإنها مؤمنة)) .
- وأجمع السلَف على إثبات عُلُو الله - تعالى - بذاته: فهو فوق جميع خلقه، بائنٌ عنهم، ونقل الإجماعَ على ذلك غيرُ واحد من أهل العلم؛ منهم المصنف في هذه العقيدة؛ حيث قال بعد ذكره لأدلة الاستواء على العرش والعلو: "فهذا وما أشبهه مما أجْمَعَ السلَف - رحمهم الله - على نقله وقبوله".
بل نقل عن بعض السلَف أنه يُكفَّر مَن يُنكر أنَّ الله في السماء، ففي "شرح كتاب التوحيد"؛ للغنيمان: "قال شيخ الإسلام: وفي "الفقه الأكبر" المروي عن الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - قال: "من قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض، فقد كفر؛ لأنَّ الله - تعالى - يقول: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ، وعرشه فوق سبع سماواته"، قلت: فإن قال: إنه على العرش استوى، ولكنه يقول: لا أدري، العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر؛ لأنه أنكر أن يكونَ في السماء؛ لأنه - تعالى - في أعلى عليين"، قال الشيخ الغنيمان: وهذا تصريح من أبي حنيفة - رحمه الله - بتكفير مَن أنكر أن يكونَ الله في السماء" .
- يتلخص مما سبق: أن عُلُوَّ الله - تعالى - ثابتٌ بالكتاب والسنة والإجماع، وأيضًا دلَّ على ذلك:
- العقل: لأنَّ نفي عُلُو ذات الله - تعالى - نفي لصفة كمال، وكونه - سبحانه - في السفل صفة نقص تجعل بعض المخلوقات فوقه.
- والفطرة: لأنَّ الخلق مفطورون على أنَّ الله - تعالى - في السماء، حتى البهائم والعجماوات، كما سيأتي في خبر النملة التي تستقي رافعة قوائمها إلى السماء، وكذلك ابن آدم إذا أراد أن يدعو الله - تعالى - ينصرف قلبُه إلى السماء، ويُذكر أنَّ أحد أئمة السلف - وهو أبو العلاء الهمذاني - دخل على الإمام الجويني - أحد الأشاعرة - وهو يلقي درسًا على المنبر، يُقَرِّر فيه عقيدة الأشاعرة، وكان مما قرَّر إنكار أن الله في العلو، وقال: إن الله كان ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه، ويقرر نَفْيَ العُلُوِّ عن الله - تعالى - فقال له أبو العلاء الهمذاني أمام الناس: يا إمام، دعنا من أقوالك وحججك، ما هذه الحاجة التي يجدها كل واحد منا، ما أراد أحدٌ ربَّه قطُّ إلا رفع بصره إلى السماء، فنزل الإمام الجويني من منبره يقول: حيَّرني الهمذاني، حيرني الهمذاني، وجلس بين أصحابه يبكي، وتاب في آخر أمره عن هذا التأويل.
فائدة:
تقدَّم أنَّ الأدلة على إثبات عُلُوِّ الله - تعالى - كثيرةٌ مستفيضةٌ، وتقدم كلامُ شيخ الإسلام ابن تيميَّة، وأيضًا ورد عن غيره من السلف، وهذه الأدلة تنوَّعت في دلالتها على عُلُو الله - تعالى -:
- فتارة تأتي بالتصريح بالفوقية؛ كقوله - تعالى -: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ .
- وتارة بالتصريح بالصعود إليه؛ كقوله - تعالى -: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ .
- وتارة بالعروج إليه؛ كقوله - تعالى -: ﴿تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾ .
- وتارة برفْع بعض المخلوقات إليه؛ كقوله - تعالى -: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾ .
- وتارة بأنه - سبحانه - في السماء؛ كقوله - تعالى -: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ .
- وتارة بالعُلُو المطلَق؛ كقوله - تعالى -: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ ، وقوله: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ .
- وتارة بالتصريح باستوائه على العرش؛ كقوله - تعالى -: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ .
- وتارة برفْع الأيدي إليه - سبحانه - كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن ربكم - تبارك وتعالى - حَيِيٌّ كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يَرُدهما صِفْرًا)) .
- وتارة بالتصريح بنزوله - جل وعلا - والنزول لا يكون إلا من عُلُو؛ كقوله النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ينزل ربنا - تبارك وتعالى - كل ليلة، حين يبقى ثلث الليل الآخر)) .
وكل الأدلة السابقة فيها دلالةٌ على عُلُو الله - تعالى - ولو تنوعت الطرُق، وهناك أنواع أخرى غير ما تقدم تزيد بمجموعها على العشرين نوعًا.
المبحث الثالث: المخالفون لأهل السنة:
المخالفون لأهل السنة من المبتدعة؛ كالجهمية، والمعتزلة، ومتأخري الأشاعرة - ينكرون عُلُو الذات، ويفسرون نصوصَ العُلُوِّ بعُلُوِّ الشأن وعُلُوِّ القهر والملك، وانقسموا في صفة عُلُو الذات بعد إنكارها إلى قسمين:
1- فالجهمية والمعتزلة يقولون: إن الله - عز وجل - في كل مكان - والعياذ بالله - وهذا معناه أن الله يَحِلُّ في كل شيء، وهذا مذهب الحلوليَّة، الذي أصله من المجوس، والبوذيين في الهند.
2- وأما الأشاعِرة فينفون عن الله جميع الجهات، ويقولون: لا نقول: إن الله داخل العالَم، ولا خارجه، يريدون بذلك نفْي جميع الجهات، فيقولون: إن الله لا داخل العالَم ولا خارجه، ولا تحته ولا أمامه ولا وراءه، ولا عن يمينه ولا عن شماله، وهذا مذهب الفلاسفة.
والرد عليهم:
1- أن هذا مخالف لطريقة السلف - رحمهم الله.
2- أنه مخالف لظاهر النصوص التي فيها إثبات عُلُو الله - تعالى.
3- أن الله - تعالى - أثبت لنفسه العُلُو المطلق، وهذا يشمل عُلُوَّ الذات، والقهرَ، والشأن، فمَن أثبت البعض ونفى البعض، فقد جحد بعض ما أثبته الله لنفسه.
4- أن تأويلكم للنصوص الدالة على عُلُوِّ ذات الله - تعالى - بعلو القهر والملك؛ كما في قوله: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء﴾ ، يَرُدُّه أن ملك الله وسلطانه ليس في السماء فقط، بل في الأرض، وعلى كل شيء هو قادر - سبحانه.
5- أن تأويلكم هذا يردُّه العقل؛ لأن نفي عُلُوِّ الذات نفيٌ لصفةِ كمال.
6- أن تأويلكم هذا تردُّه الفطرة؛ لأن الخلق مفطورون على أن الله في السماء، حتى البهائم فطرت على ذلك؛ فقد جاء في "مسند الإمام أحمد"، وصححه الحاكم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خرج سليمان - عليه السلام - يستسقي، فرأى نملةً مستلقيةً على ظهرها، رافعة قوائمها إلى السماء، تقول: اللهم إنا خلْقٌ من خلقك، ليس بنا غنى عن سقياك، فقال لهم سليمان: ارجعوا فقد سُقِيْتُم بدعوة غيركم)).
7- أن قول الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم بأن الله في كل مكان، مع إثباتهم أن لله - تعالى - ذاتًا، وافَقُوا بذلك قول الحلولية الذين يقولون بأن الله حالٌّ في كل مكان، وهم بهذا أشنع من النصارى الذين قالوا بالحلول في المسيح فقط، وأشنع من بعض الصوفية الذين قالوا بالحلول في بعض الأشخاص، ويلزم من قولهم هذا أن الله حالٌّ في كل مكان في السماء والأرض، والجبال والبحار، بل في ما ينزه الله عنه من أماكن الأقذار والأنجاس، ونحو ذلك - تعالى الله عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا، وجلَّ الله عن هذا اللزوم، ولكنه قِيلَ لإزهاق الباطل، فهذا لا يقوله عاقلٌ!
8 - أن قول الأشاعرة بأنَّ الله لا داخل العالَم ولا خارجه قول مُتناقضٌ؛ فلا يتصور أبدًا أن يكون الله لا داخل العالَم ولا خارجه، فهذا الوصْف ينطبق على من ليس موجودًا، فالذي ليس خارج العالم ولا داخله معدوم.
قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة: "فالجهميةُ وأشباههم لا يصفونه - سبحانه - بالعُلُو، بل إما أن يصفوه بالعلو والسُّفُول، وإما أن ينفوا عنه العُلُوَّ والسُّفُول؛ فهم نوعان:
قسمٌ يقولون: إنه في كلِّ مكان بذاته، والقسم الآخر يقولون: إنَّه لا داخل العالم ولا خارجه، فالقسم الأول: وصَفوه بالحلول في الأمكنة، ولم يُنَزِّهوه عن المحال المستقذرة، والقسم الثاني: وصفوه بالعدم" .
المبحث الرابع: سبب نفي المبتدعة عُلُو ذات الله - تعالى -:
المبتدعة من الجهمية والمعتزلة، والأشاعرة ومن شابههم، نَفَوا عُلُوَّ ذات الله - تعالى - ونفوا استواءَه على عرشه، حُجَّتُهم في ذلك: أنَّ إثبات ذلك يستلزم التجسيمَ والتحديدَ، بأن يكونَ الله - تعالى - جسمًا محدودًا يحمله العرش ويحتويه؛ ويستلزم أن يكونَ الله محصورًا في جهة السماء؛ وأن الجهة تحويه إلى غير ذلك من اللوازم الباطلة.
والرد عليهم:
1- أنه لا يجوز ردُّ الأدلة المثبتة لصفات الله - تعالى - كعلو ذاته، واستوائِه على عرْشِه من أجْل تعليلات لا دليل عليها.
2- أنَّه لو كانت نصوص إثبات عُلُوِّ ذات الله - تعالى - واستوائه على عرشه تستلزم معنى فاسدًا - كما تزعمون - لبيَّنه اللهُ - جلَّ وعلا - لأنَّه - سبحانه - هو الذي بيَّن صفاته في كتابه، فدلَّ هذا على أنَّ إثباتها لا يستلزم المعنى الفاسد الذي ذَكَرْتموه، فالله - جل وعلا - فوق عباده كلهم، ولا تحويه الجهة التي يُشار إليها، متَّصفٌ بما وصف به نفسه؛ ومن ذلك علوه - جل وعلا - واستواؤُه على عرْشِه.
المبحث الخامس: الفرق بين العُلُوِّ والاستواء على العرش:
الفرق بين العُلُوِّ والاستواء على العرش يتلخَّص فيما يلي:
أولاً: أنَّ صفة الاستواء على العرش وصفة العُلُو كلاهما تَدُلاَّن على إثبات العُلُوِّ لله - تعالى - لكن صفة الاستواء تدل على عُلُوٍّ خاص، وهو العُلُوُّ على العرْش.
ثانيًا: الاستواء على العرش منَ الصِّفات التي دلَّ عليها النقْل فقط - أي: النص - فلو لَم يأتِ دليل يدل على هذه الصفة لَم نعلم بها، فلما جاء نصٌّ أثبتناها، وأما صفة العُلُوِّ فقد دلَّ عليها النقل والعقل والفطرة، حتى البهائم مفطورة على معرفة هذه الصفة.
ثالثًا: أن صفة العُلُوِّ ذاتيةٌ؛ فهي مُلازمة لله - جل وعلا - لا تنفكُّ عنه بحالٍ من الأحوال، بخلاف صفة الاستواء فهي صفة فعلية؛ لأنها تَتَعَلَّق بمشيئته - سبحانه - وكانتْ بعد خلق السموات والأرض؛ لقوله - تعالى -: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ ، ومِن أهل العلم من قال: إنَّ الاستواء على العرش صفةٌ فعليةٌ من جهة، وذاتية من جهة أخرى؛ فهي فعليَّة باعتبار أنه - جل وعلا - لَم يزل مستويًا على عرشه منذ استوى عليه؛ بمعنى: أن وصف الاستواء على العرش لَم يَنْفَك عنه منذ أن استوى عليه - جل وعلا.
المبحث السادس: إشكالات وأجوبتها:
الإشكال الأول: قوله - تعالى -:﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾ ، معلومٌ أن (في) تدل على الظرفية، فلو قلت: زيد في المسجد، فهذا يعني أن زيدًا داخل في المسجد، والمسجد محيطٌ به؛ لأن الظرفَ محيطٌ بالمَظْرُوف، وكذا لو قلت: الماء في الكأس، فهذا يعني أن الكأس محيط بالماء ويحتويه؛ لأنه أوسع منه، وفي قوله - تعالى -: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ﴾، قد يقول قائل معنى باطلاً، فيقول: ظاهر الآية أنَّ السماء محيطة بالله - جل وعلا - ولا شك أنه معنى باطل، والجواب عن هذا الإشكال بأحد طريقين:
الأول: إما أن يُقَالَ: إنَّ السماء في الآية معناها العُلُوُّ، وهذا وارد في اللغة كقوله - تعالى -: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ ، والمراد بالسماء: العلو؛ لأنَّ الماء ينزل من السحاب لا من السماء الذي هو السقف المحفوظ، فيكون معنى: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء﴾؛ أي: من في العُلُو؛ فلا إشكال حينئذ.
الثاني: أو يقال: إن (في) بمعنى (على)، ومعروف في اللغة أنَّ الحروف تتداخل؛ أي: إن بعضها يأخذ معنى غيره؛ كقوله - تعالى - عن فرعون: ﴿فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ ؛ أي: على جُذُوع النخل، وبناءً على هذا المعنى يكون قوله: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء﴾؛ أي: من على السماء، ولا إشكال حينئذ.
الإشكال الثاني: قوله - تعالى -: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾ ، ليس معناه كما يفهم البعض من أهل الضلال: أن الله - جل وعلا - في الأرض كما أنه في السماء؛ بل المعنى: أنَّ الله - جل وعلا - أُلُوهيته ثابتة في السماء وفي الأرض، فحرفُ الجرِّ (في) يدل على الظرفية للألوهية، لا لذاته - سبحانه.
الإشكال الثالث: معلومٌ أنَّ السماء محيطةٌ بالأرض، والقول بأن الله - جل وعلا - في السماء لا يقتضي أن يكونَ الله - جلَّ وعلا - بذاته كَرِيًّا - أي: كرويًا - محيطًا بمخلوقاته، فهذا صنيعُ أهل الضلال، الذين يُكَيِّفُون صفاتِ الله - جل وعلا - والجواب عن ذلك أن يقال: إن هذه الأرض التي نعيش فيها ما هي إلا ذرَّة صغيرة في هذا الكون العظيم، الذي تحيط به ملايينُ المجَرَّاتِ، وتحيط بهذه المجَرَّات السموات، وفوق السموات عرش الرحمن، والله - جل وعلا - مستوٍ على عرشه، وهو أعظم منها، لا يقدر قدره إلا هو - سبحانه - بل إنَّ هذه السموات والمجرات يَتَبَيَّن قدرها في قوله - تعالى -: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ ، ولا شَكَّ أن هذا الإشكال ناتجٌ عن فَهْمٍ خاطئ؛ فعقولُنا قاصرة.
فائدة:
مما استدل به المصنِّف على إثبات عُلُو الله - تعالى - ما يلي:
- قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن عبيد الخزاعي: ((كم إلهًا تعبد؟))، قال: سبعة؛ ستة في الأرض، وواحد في السماء، قال: ((مَن لرغبتك ورهبتك؟))، قال: الذي في السماء، قال: ((فاترك الستة، واعبد الذي في السماء، وأنا أعلمك دعوتين))، فأسلم وعلَّمه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: ((اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي))؛ الحديث أخرجه ابن قدامة في "العلو"، وهو حديث ضعيف في سنده عمران بن خالد، قال عنه الذهبي: "ضعيف"، وفي سنده خالد بن طليق، قال عنه الدارقطني: "ليس بالقوي" .
- قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ربنا الذي في السماء تقدَّس اسمك))... الحديث؛ رواه أبو داود، وفي سنده زياد بن محمد الأنصاري، قال عنه البخاري: "منكر الحديث"؛ فالحديث ضعيفٌ .
- استدل بما نقل مِن علامات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الكتب المتقَدِّمة: "أنهم يسجدون بالأرض، ويزعمون أنَّ إلههم في السماء"، قال الذهبي في "العلو" : "هذا حديثٌ غريبٌ"، وقال عنه شيخُنا ابن عثيمين في شرحه لـ"لمعة الاعتقاد": "هذا النقل غير صحيح؛ لأنه لا سند له" .
- مسألة العُلُوِّ من المسائل المهمة التي أسهب السلَف في تقريرها قديمًا؛ لكثْرة مَن يُنكر هذه الصِّفة، ومن أشْهر ما أُلِّف فيها كتاب "العلو"؛ للذهبي، اختصره الألباني وخرَّج أحاديثه، وكذلك كتاب "إثبات صفة العلو"؛ لابن قدامة، حقَّقه الشيخ بدر البدر.
 
فصل
من صفات الله - تعالى - الكلام
21- قال المصنِّف - رحمه الله -:
"ومِنْ صِفات الله - تعالى - أنَّه مُتَكَلِّمٌ بكلامٍ قَديمٍ، يُسْمِعُه مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِه، سَمِعَهُ مُوسى - عليْه السلامُ - مِنْهُ، مِنْ غير وَاسِطَة، وسَمِعَه جِبْريلُ - عليْه السلامُ - وَمَنْ أَذِنَ لَهُ مِنْ ملائكتِهِ، وَرُسُلِه.
 22- وأنَّه - سُبْحَانَه - يُكَلِّمُ المؤمنين في الآخِرَة، ويُكلِّمُونَهُ، ويَأْذَن لهم فَيَزُورُونَه؛ قال الله - تعالى -: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ ، وقال - سبْحانه -: ﴿يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلَامِي﴾ ، وقال - سبحانه -: ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾ ، وقال - سبحانه -: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ ، وقال - سبحانه -: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ﴾ ، وقال سبحانه: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي﴾ ، وغيْرُ جائِز أنْ يقول هذا أَحَدٌ غيْر الله.
 23- وقالَ عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: إذَا تَكَلَّمَ اللهُ بالوَحْيِ سَمِعَ صَوْتَهُ أَهْلُ السَّماءِ؛ رُوي ذلك عَنِ النبي- صلى الله عليه وسلم.
 24- وَرَوى عبدالله بن أُنَيْسٍ عَنِ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قالَ: ((يَحْشُرُ الله الخلائِقَ يوْمَ القيامَةِ عُرَاةً حُفاةً غُرْلاً بُهْمًا، فَيُنَادِيهم بصوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ، كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الملِكُ، أنَا الدَّيَّان))؛ رواهُ الأئمةُ، واسْتَشْهَدَ به البخاريُّ".
الشرح
الصفة السادسة عشرة: صفة الكلام:
وهي منَ الصِّفات التي أطال المصنِّف فيها، وتحت هذه الصفة عدة مباحث:
المبحث الأول: معتقد أهل السنة والجماعة في صفة الكلام:
أهل السنة والجماعة يثبتون صفة الكلام لله - تعالى - كما يليق بجلاله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فيعتقد أهل السنة والجماعة أن الله - عز وجل - يتكلم، ويقول، وينادي، وأن كلامه بصوت وحرف، وأن القرآن كلامه، منزل غير مخلوق، وصفة الكلام لله - تعالى - صفة ذاتية فعلية - كما سيأتي بيانُه.
المبحث الثاني: صفة الكلام دلَّ عليها الكتاب والسنة والإجماع:
- فمن الكتاب: على الكلام قوله - تعالى -: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ ، وعلى القَوْل قوله - تعالى -: ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي﴾ ، وعلى النداء قوله - تعالى -: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى﴾ ، وهناك أدلَّة أخرى وما سبق مما استدل به المصنف - رحمه الله.
- ومن السنة: على الكلام، قصة الإفك وقول عائشة - رضي الله عنها -: "...ولشأني في نفسي أحقر من أن يَتَكَلَّم الله فيَّ بأمرٍ يُتْلَى"؛ رواه البخاري، ومسلم.
وعلى القول والنداء حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((يقول الله: يا آدم، فيقول: لبَّيك وسعديك، فيُنَادي بصوت: إنَّ الله يأمرك أن تخرجَ من ذريتك بعثًا إلى النار))؛ رواه البخاري.
وأيضًا ما استدل به المصنِّف، من حديث عبدالله بن أُنَيْس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: ((يحشر الله الخلائق يوم القيامة عراةً حفاةً غُرْلاً بُهمًا، فيناديهم بصوت يسمعه من بَعُد كما يسمعه مَنْ قَرُب: أنا الملِك، أنا الديَّان)) .
قال الإمام البخاري في "خلْق أفعال العباد" عن هذا الحديث: "وإن الله - عز وجل - ينادي بصوت يسمعه مَن بَعُد كما يسمعه من قَرُب، فليس هذا لغَيْر الله - جلَّ ذِكْره - وفي هذا دليلٌ على أنَّ صوت الله لا يُشبه أصوات الخلق؛ لأنَّ صوت الله - جلَّ ذكرُه - يُسمع من بُعْدْ، كما يُسمَع مِن قُرْب، وأنَّ الملائكة يُصعقون مِن صوته فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا".
- وأجمع السلَف على إثبات صفة الكلام لله - تعالى - وأن كلامه بصوت وحرف:
قال الأصبهاني في "الحجة": "وخَاطَر أبو بكر - رضي الله عنه - أي: راهن قومًا - من أهل مكة فقرأ عليهم القرآن، فقالوا: هذا من كلام صاحبك، فقال: "ليس بكلامي، ولا كلام صاحبي، ولكنه كلام الله - تعالى"، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على المنبر: "إن هذا القرآن كلام الله"، فهو إجماع الصحابة، وإجماع التابعين بعدهم، وفي قول أبي بكر - رضي الله عنه -: "ليس بكلامي، ولا كلام صاحبي، إنما هو كلام الله - تعالى"، إثبات الحرف والصوت؛ لأنه إنما تلا عليهم القرآن بالحرف والصوت".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" : "واستفاضت الآثار عنِ النبي - صلَّى الله عليه وسلم - والصَّحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة السنة: أنه - سبحانه - ينادي بصوت، ولم ينقل عن أحدٍ من السَّلَف أنه قال: إن الله يتكلَّم بلا صوت أو بلا حرف، ولا أنه أنكر أن يتكلم الله بصوت أو بحرف".
- وأيضًا دلَّ العقل على إثبات صفة الكلام: ووجه ذلك أن عدم الكلام صفةُ نقْص في مقاييس البشَر، فكيف بربِّ البشَر؟! فعند البشَر الأخرس الذي لا يتكلَّم فيه علَّة ونقص، والله - عز وجل - جعل عَجْزَ الآلهة عن الكلام دليلاً على أنها لا تصلح آلهة؛ فقال عن عجل بني إسرائيل: ﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ﴾ ، وقال عن الأصنام: ﴿فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾ .
المبحث الثالث: المخالفون لأهل السنة:
أشهر مَن خالف السنة في صفة الكلام من المبتدعة طائفتان:
الأولى: المعتزلة والجهميَّة، وهؤلاء ينكرون صفة الكلام، ويقولون: إنه ليس من صفات الله - تعالى - وإنما هو خلقٌ من خلقِ الله كسائر المخلوقات؛ كالسموات والجبال وغيرها، مخلوقاتٌ منفصلةٌٌ، فكذلك الكلام هو من خلْق الله، خلقه في الهواء، أو في المكان الذي يُسمع منه، وأما إضافته لله - تعالى - فهي إضافةُ تشريفٍ، فكما تقول: ناقة الله، وبيت الله، أيضًا نقول: كلام الله من باب إضافة التشريف، ومن هنا جاءت مقالتهم الضالة المشهورة بخلق القرآن، وقصتهم مع الإمام أحمد مشهورة.
والرد عليهم:
1- أن هذا الاعتقاد مخالفٌ لطريقة السلَف وإجماعهم الذي تَقَدَّمَ بيانُه.
2- أن هذا مخالف لظاهر النصوص الدالة على إثبات صفة الكلام لله - تعالى - ومنها: أنَّ موسى - عليه السلام - سمع الله - جل وعلا - يقول: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي﴾ ، ولا يُمكن ولا يجوز أن يقول ذلك أحدٌ إلا الله، كما ذكر المصنِّف.
3- أن قولكم هذا يَرُدُّه العقل، فلا يمكن أن يكون الكلام وصفًا قائمًا بنفسه، بل الكلام دليل على المتكلِّم، فهو صفة للمتكلم لا تنْفَصِل عنه.
4- أن نفْيَ صفة الكلام عن الله - تعالى - نفي لصفة كمال، فالقولُ بنفي صفة الكلام وصف ناقص، فإذا كان المخلوق الذي لا يتكلم كأن يكون أخرسَ، تعتبر في حقِّه صفة نقص، فكيف بالخالق؟! ولله المثَل الأعلى، وتعالى الله عما تقولُه المبتدِعة، والله - عزَّ وجلَّ - عاب عجل بني إسرائيل بقوله: ﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً﴾ ، وقد استفاضَت الأدلة على إثبات هذه الصفة.
5- نقول مما يدل على أن كلام الله غير مخلوق: إنه ثبَت في "الصحيح"، من حديث خولة بنت حكيم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَنْ نَزَل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامَّات من شرِّ ما خلَق، لَم يَضُرُّه شيءٌ حتى يرحل من منزله ذلك))، ولو كانتْ كلماتُ الله مخلوقة لما جازت الاستعاذة بها؛ لأنَّ الاستعاذة بالمخلُوق شركٌ.
فائدة:
تقدَّم أنَّ أول مَن أنكر التكليم، وابتدع هذا الاعتقاد الضالَّ - هو الجعْدُ بنُ درهم، وذلك في أوائل المائة الثانية، فضَحَّى به أميرُ العراق والمشرق خالد بن عبدالله القسري يوم الأضحى، بعد أَمْرِ العلماء في ذلك الوقت كالحسن البصري وغيره بقتْله، فخرج القسري يوم الأضحى وقال: "أيها الناس ضَحُّوا - تقبَّل الله ضحاياكم - فإنِّي مُضَحٍّ بالجَعْد بن درهم؛ فإنه زعم أنَّ الله لَم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يُكَلِّم موسى تكليمًا"، فقَتَلَهُ؛ لأنه أول مَن أنكر التكليم والمخالَّة، وتقدَّم بيان ذلك تحت مباحث صفة المحبة.
الطائفة الثانية: الأشاعرة، وهم يثبتون صفة الكلام؛ فهي من الصفات السبع التي يُثبتونها، لكنهم يقولون: إنَّ الكلام الذي نثبته هو الكلام القائم بذاته - سبحانه - لا ينفصل عنه، فالكلام عندهم هو المعنى القائم في النفس فقط، فالله مُتَّصفٌ بالكلام أَزَلاً، ولا يَتَكَلَّم بمشيئته - سبحانه - ثم إن كلام الله عندهم من غير صوت ولا حرف، وإذا قيل: ماذا تقولون في القرآن الذي هو كلام الله - تعالى؟ قالوا: هذا ليس هو كلام الله، وإنما هو عبارةٌ أو حكايةٌ عن كلام الله، عبَّر به جبريلُ أو محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - وليس كلام الله حقيقة، وهذا اعتقادٌ باطلٌ وفاسدٌ يقتضي أن يقولوا: إنَّ القرآن مخلوق؛ لأنه إذا كان القرآن الذي بين أيدينا هو من كلام محمد أو جبريل، فهو عندهم مخلوق، فلا فرق بهذا الاعتبار بينهم وبين المعتزلة والجهمية.
إذًا؛ مُلَخَّصُ معتقدهم في صفة الكلام:
1- أنهم يُثبتون صفة الكلام، ولكن هذا الكلام هو القائم في ذات الله - سبحانه - لا ينفصل عنه، فهو معنى قائم في النفس من غير صوت ولا حرف، أشبه بخواطر النفس ونحو ذلك، وما يوجد في القرآن هو حكاية عن كلام الله لا حقيقته.
2- أنهم يثبتون أنَّ الله تَكَلَّم أزلاً؛ أي: إن نوعه قديم، وإنه لا يتكلَّم بمشيئته وإرادته - سبحانه.
والرد عليهم:
1- أن هذا خلافُ طريقةِ السلف وإجماعهم الذي تقدم بيانه.
2- أن هذا خلاف ظاهر النصوص التي تدل على أنه - سبحانه - يتكلم بصوت وحرف.
3- أن اعتقادكم يخالف الأدلة التي تدل على أنَّ كلام الله يُسْمَع، ولا يسمع إلا الصوت، فلو كان معنى قائم بالنفس - كما تظنون - لما سُمع، وتقدَّم حديث عبدالله بن أنيس، وأنَّ الله ينادي الخلائق يوم القيامة بصوت مسموع.
4- أنَّ المعروف منَ الكلام هو ما ينطق به المتكلم، لا ما يضمره في نفسه.
5- أنَّ بعض العلماء يقول ردًّا على هذا الاعتقاد الباطل: مَن زعم أن كلام الله هو المعنى النفسي، فقد زعم أن الله لَم يرسل رسولاً، ولم ينزِّل كتابًا؛ لأنه إذا كان بلا صوت ولا حرف، فكيف يرسل رسولاً أو ينزل كتابًا؟!
6- أنَّ مَن زعم أن كلام الله هو معنى نفسي، فقد زعم أن الله أخرس، وهذه صفة نقص كما تقدم - تعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا.
وقد ردَّ شيخُ الإسلام ابن تيميَّة على مَن زعم أنَّ كلام الله هو المعنى النفسي، كما تعتقد الأشاعرة من تسعين وجهًا؛ ولذا يقول ابن القيم في نونيته:
تِسْعُوْنَ وَجْهًا بَيَّنَتْ بُطْلانَهُ = أَعْنِيْ كَلامَ النَّفْسِ ذِي الْبُطْلانِ
وهناك فِرَقٌ وطوائفُ خاضَتْ في صفة الكلام بعقيدة باطلة، فخالَفوا السلَف؛ منهم: الكُلاَّبيَّة، والاتحاديَّة، وفلاسفة المتأخِّرين، وغيرهم.
* * * * * * * *
- قال المصنِّف - رحمه الله:
ومِنْ صِفات الله - تعالى -: أنَّه مُتَكَلِّمٌ بكلامٍ قَديمٍ.
الشرح
المبحث الرابع: كلام الله - جل وعلا - قديمُ النوع، حادث الآحاد:
وهذا هو معنى قول المصنف: "ومن صفات الله - تعالى - أنه متكلِّم بكلام قديم"؛ أي: قديم النوع، حادث الآحاد، وإن كان كلام المصنف يحتمل أنه قديم النوع والآحاد، وهذا العموم مما انتقد في هذه العقيدة، ولكن لا شك أنه - رحمه الله - يريد مذهب أهل السنة والجماعة، وأنَّ كلام الله - تعالى - قديم النوع حادث الآحاد.
- قديم النوع؛ أي: إن جنس الكلام قديم - ليس له بداية - فالله مُتَّصِفٌ بصفة الكلام أَزَلاً.
- حادث الآحاد؛ أي: إنَّ الله - عز وجل - يتكلم متى شاء، وكيف شاء، فالكلامُ متعلِّق بمشيئته وإرادته أيضًا، وهذا ما ينكره الأشاعرة كما تقدم، ويثبتون قديم النوع.
* * * * * * * *
- قال المصنف - رحمه الله -:
"يُسْمِعُهُ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، سَمِعَهُ مُوسى - عليْه السلامُ - مِنْهُ، مِنْ غير وَاسطة، وسَمِعَهُ جِبْريلُ - عليْه السلامُ - وَمَنْ أَذِنَ لَهُ مِنْ ملائكتِهِ وَرُسُلِه".
الشرح
المبحث الخامس: الأدلة على أنَّ كلام الله بصوت وحرف، وهو كلام مسموع:
هذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة.
- أن كلام الله بصوت؛ ويدل على ذلك:
1- قوله - تعالى -: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ ، وقوله: ﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ .
ووجه الدلالة: المناداة في قوله: ﴿وَنَادَيْنَاهُ﴾، والمناجاة في قوله: ﴿نَجِيََّا﴾ لا تكون إلا بصوت، فالمناداة للبعيد، والمناجاة للقريب.
2- حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - مرفوعًا - وقد تقدم -: ((يقول الله: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك))؛ والحديث متفق عليه.
ووجه الدلالة: أن قوله: ((فينادي))، والنداء لا يكون إلا بصوت بإجماع أهل اللغة، وأكَّد ذلك بقوله: ((بصوت)).
- وكلام الله بحرف: فكلمات القرآن حروفٌ، وهو من كلام الله، وجاء في "سنن الترمذي" من حديث ابن مسعود مرفوعًا: ((من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشرة أمثالها، لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)).
- وكلام الله مسموع؛ ويدل على ذلك:
1- أنَّ موسى - عليه السلام - سمعه مِن غير واسطة؛ قال - تعالى -: ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾ ، وسمعه جبريل - عليه السلام - ومن أَذِنَ الله له منَ الملائكة والرسُل؛ قال - تعالى -: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ ، وفي الصَّحيحَيْن من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، وهو العلي الكبير))، وأيضًا كلَّم الله - عز وجل - محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج.
وأيضًا في الآخرة تسمع كلامه الخلائقُ، كما تقدم من حديث عبدالله بن أُنَيْسٍ، وفيه: ((فيناديهم بصوت يسمعه مَنْ بَعُدَ، كما يسمعه مَنْ قَرُبَ))، وأيضًا ما جاء في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله يقول: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك وسعديك)).
وأيضًا: ما استشهد به المصنِّف من كلام ابن سعود: ((إذا تَكَلَّم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء)) ، وكلام ابن مسعود مما لا يُقال بالرأي، فله حكم الرفع.
والأدلة والآثار مستفيضَة في أنَّ الله يَتَكَلَّم بصوتٍ وحرفٍ مسموعٍ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، وتقدَّم نقل كلامه، وأن هذا بإجماع السلف، ولا يعرف فيهم مُنكر لهذا الاعتقاد.
المبحث السادس: قوله - تعالى -: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً﴾ .
هذه الآية استَدَلَّ بها المصَنِّف - رحمه الله - واشتملتْ هذه الآية على أنواع الوحي الثلاثة:
الأول: أن يُلْقَى الوحيُ في قلْب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من غير إرسال ملك، ولا تكليم منه - سبحانه؛ قال - تعالى -: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا﴾.
الثاني: أن يكلمه الله - جلَّ وعلا - ولكن مِن وراء الحجاب، كما كلَّم اللهُ موسى - عليه السلام - وكلَّم محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج، حين فرض الصلاة مباشرة بلا واسطة؛ قال - تعالى -: ﴿أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾.
الثالث: أن يرسلَ مَلكًا يبلغ عن الله كلامه؛ كجبريل - عليه السلام - قال - تعالى -: ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً﴾.
ومقصود المصنِّف من إيراد هذه الآية هو النوعُ الثاني، وهو تكليمُ الله - عز وجل - لرسوله بلا واسطة.
* * * * * * * *
25- قال المصنِّف - رحمه الله -:
"وفي بعْضِ الآثارِ: أنَّ موسى - عليْه السلامُ - ليْلةَ رأى النار فَهَالَتْهُ، فَفَزِعَ منْها، فَنَاداهُ رَبُّهُ: يا موسى، فأجابَ سريعًا اسْتِئْناسًا بالصَّوْتِ، فَقَالَ: لبَّيْكَ لبَّيْكَ، أسْمَعُ صوْتَكَ، ولا أَرَى مكانَكَ، فأين أنتَ؟ فقال: أنا فَوْقَكَ، وَأَمَامك، وعَنْ يَمِينك، وعَنْ شِمَالِكَ، فَعَلِمَ أنَّ هذِهِ الصِّفَةَ لا تَنْبَغِي إلاَّ للهِ - تعالى - قال: كَذَلِكَ أنْتَ يَا إِلهي، أفَكلامك أسمعُ أمْ كلام رسولك؟ قال: بلْ كلامي يا موسى".
الشرح
فائدة:
مما استَدَلَّ به المصنِّف على إثبات كلام الله - تعالى - وأن له صوتًا مسموعًا: أن موسى - عليه السلام - ليلة رأى النار فهَالَتْه وفزع منها، ناداه ربه: "يا موسى، فأجاب سريعًا استئناسًا بالصوت: لبيك لبيك، أسمع صوتك، ولا أرى مكانك، فأين أنت؟ فقال: أنا فوقك، ووراءك، وعن يمينك، وعن شمالك"، فَعَلمِ أن هذه الصفة لا تنبغي إلا لله - تعالى - قال: "فكذلك أنت يا إلهي، أفكلامك أسمع أم كلام رسولك؟ قال: بل كلامي يا موسى".
وهذا أثرٌ ضعيفٌ من الإسرائيليات، فهو من رواية وهب بن مُنَبِّه، وهو معروف بأَخْذِه عن الإسرائيليات، وفي الأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة الكثير مما يُغني عن هذا الأثر؛ للاستدلال لهذا الاعتقاد الصحيح.
* * * * * * * *
قال المصنِّف - رحمه الله -:
وأنَّه - سُبْحَانَه - يُكَلِّمُ المؤمنين في الآخِرَة، ويُكلِّمُونَهُ، ويَأْذَنُ لهم فَيَزُورُونَهُ.
وتقدم بيان أنَّ الله - جل وعلا - يُكَلِّم عباده في الآخرة، وأما الزيارة فالمصنِّف أورد ذلك استدلالاً بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن أهل الجنة إذا دخلوا فيها نزلوا بفضل أعمالهم، ثم يؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون ربَّهم)) .
 
فصل
القرآن كلام الله
26- قال المصنِّف - رحمه الله -:
"ومِنْ كلامِ الله - سبْحانه - القرآنُ العظيم، وهو كتابُ الله المبين، وحَبْلُه المتين، وصراطُهُ المستقيم، وتَنْزِيلُ رَبِّ العَالَمِين، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِين، عَلَى قَلْبِ سَيِّدِ المرسَلِينَ، بلسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين، مُنَزَّلٌ غيْرُ مخلوق، مِنْهُ بَدَأَ وإِليْهِ يَعُود.
27- وهُوَ سُوَرٌ مُحْكَمَات، وآياتٌ بَيِّنَات، وحُرُوفٌ وكَلِمات، مَنْ قَرَأَهُ فَأَعْرَبَهُ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْف عشْرُ حسَنات، لَهُ أَوَّلٌ وآخِر، وأجْزاءٌ وأَبْعاض، مَتْلُوٌّ بالألسِنَة، محْفوظٌ في الصُّدور، مَسْمُوع بالآذان، مَكْتوبٌ في المصاحِف، فِيهِ مُحْكَمٌ ومُتَشابِه، ونَاسِخٌ ومنْسُوخ، وخاصٌّ وعام، وأمْرٌ ونَهْي؛ ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ ، وقَوله - تعالى -: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ .
28- وهَذَا هُو الكتابُ العربيُّ الذي قال فيه الذين كَفَرُوا: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ﴾ ، وقال بعضُهم: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ ، فَقال الله - سُبْحانه -: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾ ، وقَال بَعْضُهم: هو شِعْرٌ؛ فقال الله - تعالى -: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ ، فَلَمَّا نَفَى اللهُ عنْهُ أنَّهُ شِعْرٌ وأثبتَهُ قُرْآنًا، لَم يُبقِ شُبْهةً لِذِي لُبٍّ في أنَّ القرآنَ هو هذا الكتابُ العرَبيُّ الَّذي هُوَ حُرُوفٌ، وكلِمات، وآيات؛ لأنَّ ما ليْس كذلِك لا يقُولُ أحَدٌ: إنَّه شعِْرٌ.
29- وقال - عز وجل -: ﴿وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ، ولا يجوزُ أنْ يَتَحَدَّاهُمْ بِالإتْيانِ بِمِثْلِ ما لا يُدْرَى ما هُوَ ولا يُعْقَل.
30- وقالَ - تعالى -: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي﴾ ، فأَثْبَتَ أَنَّ القُرْآنَ هُوَ الآياتُ الَّتي تُتْلَى عَلَيْهِم.
31- وقال - تعالى -: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ ، وقال - تعالى -: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ ، بَعْدَ أنْ أَقْسَمَ عَلَى ذَلِك.
32- وقال - تعالى -: ﴿كهيعص﴾ ، ﴿حم * عسق﴾ ، وافْتَتَحَ تِسْعًا وعِشْرينَ سُورةً بالحروفِ المقطَّعَةِ.
الشرح
ابن قدامة - رحمه الله - بعدما أورد ما يدل على إثبات صفة الكلام لله - تعالى - انتقل إلى مسألة أخرى لها علاقة بكلام الله - تعالى - وهي القرآن الكريم، فذكر ما يعتقده أهل السنة والجماعة في القرآن العظيم، وما ذكره ابن قدامة يتلَخَّص في الأمور الآتية:
أولاً: عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن:
أهل السنة والجماعة يقولون: إن القرآن المَتْلُوَّ والمسْمُوعَ والمكتوبَ بين دفَّتَي المصحف هو كلام الله حقيقةً، مُنَزَّلٌ غير مَخْلوق، منه بدأ وإليه يعود.
وفي هذا ردٌّ على الذين قالوا: إنه ليس كلام الله حقيقة، بل عبارة أو حكاية عن كلام الله، وردٌّ على الذين يقولون: إن القرآن مخلوق غير منزل، وتقدَّم بيان عقيدتهم من الجهميَّة والمعتزلة والأشاعرة، ويدل على اعتقاد أهل السنة والجماعة في القرآن ما يلي:
- أنه كلام الله؛ قال - تعالى -: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ .
- مُنَزَّل؛ قال - تعالى -: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ .
 وقال – تعالى -: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ .
 وقال - تعالى -: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ ، وأدلة أخرى.
- غير مخلوق:
1- لأن الأدلة السابقة وغيرها دلَّت على أنه مُنَزَّل غير مخلوق.
2- ولأن الله - عز وجل -يقول: ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ ، فجعل الخلق غير الأمر، والقرآن من الأمر؛ لقوله - تعالى -: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ ، وقال: ﴿ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ﴾ ، وأما ما احتج به مَن قال بخلْق القرآن: وهو قوله - تعالى -: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ ، فهذا نصٌّ عامٌّ مخصوصٌ بما تقدَّم من أدلة.
3- ولأن كلام الله - جلَّ وعلا - صفة من صفاته غير مخلوقة، منه بدأ؛ أي: من الله - جل وعلا - بدأ؛ بدليل أن الله - عز وجل - أضافَهُ إليه، ولا يضاف الكلام إلا إلى قائله.
ولا بُدَّ من هذه العبارة في تعريف القرآن؛ لأن المبتدعة لا يقولون بأن بداية القرآن من الله؛ لأنهم يُنْكِرُون صفةَ الكلام، فيقولون: إن جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ، وأنزله على محمد؛ لينفوا أن الله تكلم به.
- وإليه يعود: وذلك في آخر الزمان يُرْفَعُ القرآنُ من الصدور والمصاحف؛ فلا يبقى منه ولا آية، دلَّ عليه حديث حذيفة بن اليمان؛ قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((يَدْرُس الإسلامُ كما يَدْرُسُ وَشْيُ الثوبِ، حتَّى لا يُدْرَى ما صيامٌ، ولا صلاةٌ، ولا نُسُكٌ، ولا صدقةٌ، ولَيُسْرَى على كتابِ الله - عز وجل - في الليلة فلا يَبْقَى في الأرض منه آية)) .
ثانيًا: القرآن العظيم ردَّه الكفارُ وتحدَّاهم اللهُ به:
وهم رَدُّوه تصريحًا فقالوا: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ ، وقدحوا فيه؛ فنسبوه لغَيْر الله، فقال بعضهم: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾ ، وقال بعضهم: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ ، فقال الله لهم تكذيبًا لزَعْمهم: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾ ، وأراد المصنِّف أن يَرُدَّ على مَنْ يقول: إن الألفاظ الموجودة في القرآن هي ألفاظ البشَر؛ كمحمد - صلى الله عليه وسلم - والمعاني هي من الله - جل وعلا - كما يعتقد الأشاعرة.
وقال بعضُ الكفار عن القرآن: إنه شعر؛ فردَّ الله عليهم وكذَّبهم فقال: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ .
بل تَحَدَّاهم الله - عز وجل - ما داموا يُشَكِّكُون فيه بأن يأتوا بمثله؛ فقال - تعالى -: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ ، وقال - تعالى - مُبَيِّنًا أنهم لن يقدروا على ذلك: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ .
وبَيَّن الله - عز وجل - أن هذا القرآن حقٌّ لا يأتيه باطلٌ من أيِّ جهة كان؛ فقال - تعالى -: ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ .
وهذه أوصافٌ للقرآن ذكرها المصَنِّف، وهي أوصاف عظيمة، وذكر قبلها: أنه كتاب الله المبين، وحبله المتين، فيه سورٌ محكمات، وآياتٌ بيِّنات، وغيرها من الأوصاف؛ أراد بها الرد على أهل البدع، وأن القرآن كلام الله - جل وعلا - امتلأتْ به صدورُ أهل العلم؛ فقال - تعالى -: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ ، وهو في كتاب محفوظ؛ قال - تعالى -: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴾ ؛ أي: محفوظ.
واختلف في هذا الكتاب المكنون؛ فقيل:
- هو اللوح المحفوظ، فيكون المقصودُ بقوله: ﴿لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾: الملائكة.
وقيل: هو المصحف الذين بين أيدينا، فيكون المقصود بالمطهرين هم مَن تَطَهَّرَ من الحدَث والجنابة.
ومقصود المصنِّف من إيراد هذه الآيات كلها: الردُّ على أهل البدع، الذين خالفوا الاعتقاد الصحيح في كتاب الله - تعالى - فبيَّن لهم بالأدلة أن هذا هو كلام الله - تعالى - المنزَّل، حتى ما فيه من الحروف المقطعة؛ كقوله - تعالى -: ﴿كهيعص﴾ ، ﴿حم * عسق﴾ ، وغيرها من السور التي افتتحت بالحروف المقطعة هي من كلام الله - تعالى - وفي القرآن تسعٌ وعشرون سورة مفتتحة بالحروف المُقَطَّعة.
ثالثًا: الحذر من قوم يَتَعَجَّلُون القرآنَ ولا يتأجَّلُونه:
أَوْرَدَ المصنف حديثَ سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اقرؤوا القرآن قبل أن يأتيَ قومٌ يُقِيْمُون حروفَهُ إقامةَ السهم، لا يجاوز تَرَاقِيَهم، يَتَعَجَّلون أجرَه ولا يتأجَّلونه)) .
- والحديث فيه تحذيرٌ من التَّشَبُّه بقوم يتعاملون مع القرآن على غير الغاية التي من أجلها أنزل، وأوصافهم كما يلي:
1- يقيمون حروفه؛ أي: إقامةً صحيحةً دقيقةً، متقنةً طيبةً في ظاهرها؛ فيقرؤونه صحيحًا بلا لحن ومجوَّدًا، ولكن هذا القرآن الذي يقرؤونه:
2- لا يجاوز تراقيهم: والتُّرْقُوَة: الحلقُ، أو الحلقوم؛ أي: إن هذا القرآن الذي يقرؤونه لا يجاوز حلوقهم؛ أي: لا يقرؤونه بقلوبهم؛ فيتدبرونه مع التلفظ به، بل يقرؤونه بألسنتهم فقط؛ وذلك لضعف إيمانهم، فهم لم يقرؤوه لله - تعالى - مخلصين، بل قرؤوه ليقال: قارئ، أو مُجَوِّد، أو حسن الصوت؛ فيتفاخرون بذلك، ومعلوم أن من كان هذا حاله فهو أحد الثلاثة الذين هم أول من تُسَعَّر بهم النار؛ كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند مسلم، فهو قرأ القرآن ليقال: قارئ، وقد قيل، ثم يسحب على وجهه إلى نار جهنم - نسأل الله السلامة والعافية.
3- يَتَعَجَّلون أَجْرَه: فهذا من أوصافهم أنهم يتعجلون أجره في الدنيا، إما عن طريق أخذ الأجرة عليه، أو عن طريق أخذ الشهرة؛ ليقال: قارئ، أو مجود، ونحو ذلك.
4- ولا يَتَأَجَّلُونه؛ أي: لا يقرؤون القرآن يقصدون به وجه الله فيتأجلون؛ أي: ينتظرون أجره في الآخرة؛ لأنهم قرؤوه لغَيْر الله - نسأل الله السلامة والعافية.
* * * * * * * *
33- قال المصنف - رحمه الله -:
"وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ، فَلَهَ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمَنْ قَرَأَهُ وَلَحَنَ فِيهِ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ حَسَنَةٌ))؛ حديثٌ صحيحٌ.
34- وقال - عليْه الصّلاةُ والسّلامُ -: ((اقْرَؤوا القُرْآنَ قَبْلَ أَنْ يَأتِيَ قَوْمٌ يُقِيمُونَ حُرُوفَهُ إِقَامَةَ السَّهْمِ، لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُم؛ يَتَعَجَّلُونَ أَجْرَهُ وَلاَ يَتَأَجَّلُونَهُ)).
35- قال المصنف - رحمه الله -:
"وقَالَ أَبُو بَكْرٍ وعُمَرُ - رضيَ اللهُ عنْهُما -: إِعْرابُ القُرآنِ أَحَبُّ إليْنَا مِنْ حِفْظِ بعْضِ حُرُوفِهِ.
الشرح
ما ذكره المصنِّف من آثارٍ في فضْل إعراب القرآن لا تَصِحُّ؛ ومن ذلك:
أ - ما رواه الطبراني في "الأوسط"، من حديث ابن مسعود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أعربوا القرآن، فإن مَنْ قرأ القرآن فأعربه، فله عشر حسنات، وكفارة عشر سيئات، ورفع عشر درجات)) .
ب - ما ذكره من الآثار، عن أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - أنهما قالا: "إعراب القرآن أحبُّ إلينا من حفْظ بعض حروفه" .
* * * * * * * *
36- قال المصنف - رحمه الله -:
"وقالَ عليٌّ - رضي الله عنه -: مَنْ كَفَرَ بِحَرْفٍ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ كُلَّهُ.
37- واتَّفَقَ المسلمون على عَدِّ سُوَرِ القرآنِ وآياتِهِ وكلِماتِهِ وحُروفِهِ.
38- ولا خِلافَ بيْن المسلمين في أنَّ مَنْ جَحَدَ مِنَ القُرآنِ سُورَةً أو آيَةً، أو كلِمَةً أو حرْفًا، مُتَّفَقًا عليْه أنَّه كافِرٌ، وفي هذا حُجَّةٌ قاطِعَةٌ على أنَّهُ حُروفٌ.
الشرح
رابعًا: مَنْ جَحَد آية منَ القرآن الكريم فقد كفر:
وهذا آخر ما أورده المصنِّف في هذا الفصل، وهذا الاعتقاد هو بإجماع المسلمين - كما ذكر المصنف - ونقل الإجماعَ غيرُ واحدٍ من أهل العلم، ومن ذلك ما أورده المصنِّف، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - موقوفًا: "مَنْ كَفَر بحرفٍ منه، فقد كفر به كله" .
وختم المصنِّف بهذا؛ ليبيِّن من جميع ما تقدم أنَّ هذا القرآن بسوره وكلماته وحروفه إنما هو من عند الله - جلَّ وعلا - بإجماع أهل العلم؛ ليُقَرِّر بذلك مُعْتَقَد أهل السنة والجماعة.
تنبيه:
تقدَّم في الفصل الذي قبله مُعْتَقَدُ المبتدعة في القرآن، وأنه مخلوقٌ، وتقدَّم الرُّدُّ على مَن يقول بخلق القرآن تحت مباحث صفة الكلام التي هي المباحث في الصفات - والله أعلم.
* * * * * * * *

 
فصلٌ
رؤية المؤمنين لربِّهم في الآخرة
39- قال المصنِّف - رحمه الله -:
"والمؤمنون يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الآخرةِ بأبْصارِهِم، ويَزُورُونَهُ، ويُكَلِّمُهُم ويُكَلِّمُونَهُ؛ قال اللهُ - تعالى -: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ .
40- وقالَ - تعالى -: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ ، فلمَّا حَجَبَ أولئك في حالِ السُّخْطِ، دَلَّ على أنَّ المؤمنين يَرَوْنَهُ في حالِ الرِّضَا، وإِلَّا لم يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ.
الشرح
وتحت هذا الفصل عِدَّةُ مباحث:
المبحث الأول: تقسيم مسألة رؤية الله - تعالى - إلى ثلاثة أقسام:
أولًا: رؤية الله - تعالى - في الدنيا:
رؤية الله - تعالى - في الدنيا مستحيلةٌ، دلَّ على ذلك الكتاب والسنة والإجماع:
فمن الكتاب: قولُ الله - تعالى - لموسى: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾ ، وكان قد طلَب رؤية الله - تعالى.
ومن السُّنَّة: حديث النَّوَّاس بن سمعان في ذكر الدَّجَّال، وفيه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربَّه حتى يموت))؛ رواه مسلم.
وأجمع العلماء على أن الله - عز وجل - لا يراه أحد في الدنيا بعينيه:
نقل الإجماع غير واحد من أهل العلم، ولو كان الله - جلَّ وعلا - يُرى في الدنيا؛ أي: لو كان ذلك حاصلاً لأحد من العباد، لَحَصَل لكليم الله - تعالى - موسى - عليه السلام - حين سأل ربَّه ذلك، وإن تعجَب فعَجَبٌ من أولئك السفهاء من المبتدعة، الذين يعتقدون أنه قد تحصل رؤية الله - تعالى - في الدنيا لبعض أوليائهم، كما هو موجودٌ في كُتُب الزنادقة والصوفيَّة، وأفتى بعضُ علماء الإسلام - ومنهم شيخ الإسلام ابن تيميَّة - أن مَن قال: إنَّ أحدًا من الأولياء يرى الله - سبحانه وتعالى - بعينه في الدنيا، فإنه يبيَّن له الدليلُ؛ فإن تاب وإلا قُتل، وإن اعتقد بهذا الاعتقاد مع اعتقاده التفضيل؛ أي: يعتقد بأن أولياءه الذين يزعم أنهم يرون الله في الدنيا أفضل من الأنبياء الذين لَم تَحصُل لهم الرؤيا في الدنيا؛ كموسى - عليه السلام - وغيره من الأنبياء، فإنه يكفر بهذا الاعتقاد، ويقتل مُرْتَدًّا إن كان مُصِرًّا على هذا القول، فالحاصل أن رؤية الله في الدنيا ممتنعة بإجماع العلماء.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة : "وكذلك كل مَن ادَّعى أنه رأى ربه بعينيه قبل الموت، فدعواه باطلة باتفاق أهل السنة والجماعة؛ لأنهم اتفقوا جميعهم على أن أحدًا من المؤمنين لا يرى ربه بعيني رأسه حتى يموت، وثبت ذلك في "صحيح مسلم" عن النوَّاس بن سمعان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه لما ذكر الدجال قال: ((واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت)).
مسألة: وهل رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربَّه؟
هذه المسألة على قسمين:
الأول: هل رأى محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - ربَّه في الأرض؟
الجواب: لم يَرَه أبدًا باتفاق العلماء، وتقدم أنه لَم يره، ولن يراه أحد بعينيه في الأرض حتى يموت.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" : "وكل حديث فيه أنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربَّه بعينه في الأرض، فهو كَذِبٌ باتفاق المسلمين وعلمائهم، هذا شيء لم يَقُلْه أحدٌ من علماء المسلمين، ولا رواه أحد منهم".
الثاني: هل رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربَّه ليلة المعراج؟
فهذا فيه خلاف، قال شيخ الإسلام بعد كلامه السابق: "وإنما كان النِّزاع بين الصحابة في أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - هل رأى ربه ليلةَ المعراج؟ فكان ابن عباس - رضي الله عنه - وأكثر علماء السنة يقولون: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه ليلة المعراج، وكانت عائشة - رضي الله عنها - وطائفةٌ معها تُنْكِر ذلك".
وبِنَاءً عليه يُقال:
القول الأول: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه؛ وهذا هو قولُ ابن عباس - رضي الله عنهما - من الصحابة، واختاره ابن خُزيمة في كتاب "التوحيد" ، والنووي في "شرح مسلم" .
واستدلُّوا بما رواه التِّرمذي، وقال: "حسن غريب"، ورواه النسائي في "الكبرى"، أن ابن عباس ذكر أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه، ولكن جاء في "صحيح مسلم" من حديث ابن عباس- رضي الله عنه - أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بفؤاده مرتين.
وتعددت الروايات عن الإمام أحمد؛ ففي رواية: أنه رأى ربه بعيني رأسه، وفي رواية: أنه رأى ربه بعيني قلبه - أي: رآه بفؤاده - وفي رواية: أنه توقَّف فلا يقال: رآه بعيني رأسه، ولا بعيني قلبه.
والقول الثاني: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يَرَ ربه؛ وهذا قول عائشة - رضي الله عنها - وابن مسعود من الصحابة، وهو قول جمهور العلماء.
واستدلوا:
1- بحديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "مَنْ حدَّثكم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله"؛ متفق عليه.
2 - حديث أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل رأيتَ ربك؟ قال: ((نورٌ أنَّى أراه))؛ رواه مسلم؛ ((أنَّى أراه؟!))؛ أي: كيف أراه؟! وهذا نصٌّ في المسألة.
3- حديث أبي موسى الأشعري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرْفَع إليه عملُ الليل قبل عمل النهار، وعملُ النَّهار قبل عمل الليل، حجابُه النُّور، لو كشفه لأحرقت سُبُحَات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه))؛ رواه مسلم.
ووجه الدلالة: أن الله - عز وجل - لو كشف حجابه لأحرقت سُبُحَاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، ومن ذلك مَنْ رآه - لو كان أحدٌ رآه - وهذا دليل على أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يره.
وهذا القول هو الراجح - والله أعلم - على أنه يقال: إنه لا تَعَارُضَ بين القولين، ولا اختلاف بين الصحابة أصلاً - كما قال جمع من أهل العلم؛ منهم: الإمام أحمد، وشيخ الإسلام ابن تيمية - وأن الخلاف خلاف لفظي .
والجمع بين القولين: بأن يُحْمَل قول ابن عباس: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه ليلة المعراج، أنه رآه بعيني قلبه لا بعيني رأسه - أي: رآه بفؤاده - لأن الذي رُوِيَ عن ابن عباس حديثٌ مطلقٌ بأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه، وحديث آخر مقيَّد بأنه رآه بفؤاده، فيحمل المطلق على المقيَّد؛ لأنه لَم يُرْوَ عن ابن عباس أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بعينَي رأسه، ويحمل قول عائشة - رضي الله عنها - أنه لَم يرَهُ بعيني رأسه، فلا خلاف حينئذٍ، فيكون مَنْ نَفَى الرؤية حملها على رؤية البصر، ومَنْ أثبتها حملها على رؤية الفؤاد.
- قال شيخ الإسلام: "وليس في الأدلة ما يقتضي بأنه رآه بعينه، ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة صريحًا، ولا في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك، بل النُّصوص الصحيحة على نفيه أدلُّ؛ كما في "صحيح مسلم"، عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل رأيتَ ربك؟ فقال: ((نور أنَّى أراه؟!))، وليس في شيء من أحاديث المعراج الثابتة ذكر ذلك، ولو كان قد وقع ذلك لذكره كما ذكر ما دونه" .
مسألة أخرى: هل يُمكن لأحد أن يرى الله في المنام؟
الصحيح: أنه قد يرى المؤمن ربه في المنام.
ويدل على ذلك: ما رواه أحمد والترمذي من أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((رأيت ربي في المنام في أحسن صورة))، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد يرى المؤمن ربه في المنام في صورٍ متنوِّعة على قدْر إيمانه ويقينه، فإذا كان إيمانه صحيحًا لَم يره إلا في صورة حسنة، وإذا كان في إيمانه نقص رأى ما يشبه إيمانه، ورؤيا المنام لها حكم غير رؤيا الحقيقة في اليقظة، ولها تعبيرٌ وتأويل؛ لما فيها من الأمثال المضروبة للحقائق".
وبناء على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: فمَنْ أنعم الله عليه بأن رأى ربه في المنام، فليتذكر أن رؤيا المنام غير رؤية الحقيقة، فلا يذهب لذهنه ما يراه من الأوصاف في منامه بأنها كأوصاف الحقيقة أبدًا؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت)) ، فهذه هي الرؤية الحقيقية العيانية.
ثانيًا: رؤية الله في الآخرة قبل دخول الجنة:
اختلف أهلُ العلم في رؤية الله - تعالى - في المحشر وقبل الحساب: هل هي خاصة للمؤمنين؟ أو أنها عامة لأهل المحشر كلهم؛ مؤمنهم ومنافقهم وكافرهم؟ وقبل ذكر الخلاف لا بد من معرفة عدة أمور:
الأول: أهل السنة والجماعة متَّفقون على أن المؤمنين يرَوْن ربهم في المحشر، فلم يخالفْ في ذلك أحد.
الثاني: أهل السنة والجماعة مُتَّفِقون على أن رؤية الله في عَرَصَات يوم القيامة لا تكون رؤية نعيمٍ وتكريمٍ وتلذُّذٍ إلا للمؤمنين، بخلاف غيرهم من الكفار والمنافقين، فعلى قول أنهم يرونه، فإنها ليست رؤية نعيم وتكريم.
الثالث: أن الخلاف في هذه المسألة نشأ بعد المائة الثالثة؛ أي: في بداية القرن الرابع، وأما قبل ذلك فلَم يكُن الخلاف مَوْجُودًا عند السلف - رحمهم الله - وإنما كانت المسألة السائغة عندهم: هل يُرى الله - جل وعلا - أو لا يُرى؟
الرابع: أن الخلاف في هذه المسألة ليس من الخلاف الذي يؤثِّر في الاعتقاد، فسواء قيل بأن الكفار والمنافقين يرونه أو لا يرونه؛ فالقضية قضيةُ نظرٍ واجتهادٍ، ولا تؤثِّر في الاعتقاد، ولشيخ الإسلام ابن تيمية قصة في هذه المسألة، حينما حصل النزاع والفرقة والعداوة بين أهل البحرين بسبب هذه المسألة، فكتبوا لشيخ الإسلام يسألونه، وبيَّن لهم أن هذه المسألة من المسائل التي لا يحصل بها هجران وتبديع وافتراق، فليستْ من مسائل الأصول التي يكون فيها موالاة أو معاداة، وإنما هي من المسائل الاجتهادية.
وخلاف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال ثلاثة:
القول الأول: إن رؤية الله في المحشر تكون لأهل الموقف جميعًا للمؤمنين والكافرين، ومنهم المنافقون.
وقالوا بأن الكفار يرَوْنه ابتداءً، ثم يحجبون عن رؤيته؛ لقوله - تعالى -: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ ، ولكنهم قالوا: إنَّ رؤية الكفَّار لله - تعالى - رؤية عذاب، واستدلُّوا بالأحاديث التي فيها تكليم الله - تعالى - لأهل المحشر وقت الحساب؛ كحديث أبي سعيد وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وكلاهما في الصحيحين، وفيه: أنَّ الله - عز وجل - يقول لأهل المحشر: ((من كان يعبد شيئًا فليتبعه، فيذهب الذين يعبدون الطواغيت، ويأتي اليهود والنصارى فيمثل لهم شيطان عزير، وشيطان المسيح))، والحديث فيه دلالة على تكليم الله لهم؛ حيث قال: "مَنْ كان يعبُد شيئًا فليتبعه"، فقالوا: ما دام أنه يكلمهم فهم يَرَوْنه، فجعلوا من التكليم دليلاً على الرؤية، والصواب أنه لا يلزم من التكليم الرؤية؛ فهذا قول مرجوح - والله أعلم.
والقول الثاني: إنه يراه المؤمنون والمنافقون دون الكافرين الأصليين، واختار هذا القول ابن خُزيمة في "التوحيد".
واستدلوا بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في الصحيحين بعدما ذكر ذهاب كل طائفة من الكفار مع معبودهم فيلقون في النار - كما تقدم - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله - تبارك وتعالى - في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله - تبارك وتعالى - في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه))؛ الحديث.
القول الثالث: إن الرؤية في المحشر خاصة بالمؤمنين فقط، واختار هذا القولَ النوويُّ، وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمهما الله .
واستدلوا بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في الصحيحين الذي تقدم؛ ففي أوله: أن ناسًا قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هل تُضَارُّون في رؤية القمر ليلة البدر؟))، قالوا: لا يا رسول الله، قال: ((هل تُضَارُّون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟)) قالوا: لا، قال: ((فإنكم تَرَوْنَه كذلك))، وأما غير المؤمنين فلا يَرَوْنَ ربهم؛ لقوله - تعالى -: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ .
وردَّ أصحابُ هذا القول على أصحاب القول الثاني بأن استدلالهم ليس فيه دلالة على أن المنافقين يرَوْن ربهم.
قال النووي: "ثم اعلم أنَّ هذا الحديث قد يُتَوَهَّمُ منه أنَّ المنافقين يرَوْن الله - تعالى - مع المؤمنين، وقد ذهب إلى ذلك طائفةٌ، حكاه ابن فورك؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وتبقى هذه الأمةُ فيها منافقوها فيأتيهم الله - تعالى)) وهذا الذي قالوه باطل، بل لا يراه المنافقون؛ بإجماع من يُعْتَدُّ به من علماء المسلمين، وليس في هذا الحديث تصريحٌ برؤيتهم الله - تعالى - وإنما فيه أن الجمع الذي فيه المؤمنون والمنافقون يرون الصورة، ثم بعد ذلك يرون الله - تعالى - وهذا لا يقتضي أن يراه جميعهم، وقد قامتْ دلائلُ الكتاب والسنة على أنَّ المنافق لا يراه - سبحانه وتعالى - والله أعلم".
ثالثًا: رؤية الله - تعالى - في الجنة:
باتفاق أهل السنة والجماعة: أن المؤمنين يرَوْن ربهم في الجنة، والجنة لا يدخلها إلا نفسٌ مؤمنةٌ، ورؤية الله في الجنة أعظم نعيم، ورؤية المؤمنين لربهم في الجنة دلَّ عليها الكتاب والسنة والإجماع:
فمن الكتاب:
1- قوله - تعالى -: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ ؛ ﴿نَاضِرَة﴾؛ أي: حسنة من النضارة، و﴿نَاظِرَة﴾ من النظر.
قال الإمام البيهقي في كتابه "الرؤية": "هذا تفسيرٌ قد استفاض واشتهر فيما بين الصحابة والتابعين، ومثله لا يقال إلا بتوقيف، وفسَّروا قوله - تعالى -: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾، قال ابن عباس: ﴿ناضرة﴾: حسنة، ﴿إلى ربها ناظرة﴾: ناظرة إلى الخالق، وقال عكرمة: ناضرة من النعيم، إلى ربها ناظرة تنظر إلى الله نظرًا".
2- وقوله - تعالى -: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ ، فالحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم، كما سيأتي.
من السنة:
فالأحاديث متواترة عن الصحابة في إثبات هذا المعتقد، ومن ذلك:
1- حديث صهيب قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾، قال: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى منادٍ: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا، يريد أن يُنْجِزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يُثَقِّل موازيننا، ويبيِّض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويُجرنا من النار؟! فيكشف الحجاب؛ فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة))؛ رواه مسلمٌ، وهكذا فسرها الصحابة - رضوان الله عليهم - كأبي بكر الصديق، وحذيفة، وأبي موسى، وابن عباس.
2- حديث جرير بن عبدالله، قال: كُنَّا جُلُوسًا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: ((إنكم ستَرَون ربكم عيانًا، كما ترون هذا القمر لا تُضَامُّون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تُغلبوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا))؛ يعني بذلك: صلاة الفجر والعصر؛ والحديث متفق عليه.
3- حديث أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن يروا ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن))؛ متفق عليه.
- وأجمع المسلمون على إثبات رؤية الله - تعالى - في الجنة ولم يخالف ذلك إلا مبتدع.
- قال الإمام أحمد: "ومَن لَم يقل بالرؤية فهو جهميٌّ، وقال مرَّة: هو زنديق، وقال أيضًا: وقد بلغه عن رجل قال: إن الله لا يُرى في الآخرة، فغضب غضبًا شديدًا وقال: مَنْ قال: إن الله لا يُرى في الآخرة، فهو كافر - أو فقد كفر - عليه لعنة الله وغضبه، كائنًا من كان من الناس، أليس يقول الله - عز وجل -: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾، وقال: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾؟! وقال أيضًا: "يُسْتَتَاب، فإن تاب وإلا قُتل"، وقال أيضًا: "نؤمن بها - أي: الرؤية - وأحاديثها، ونعلم أنها حق".
 
41- قال المصنِّف - رحمه الله -:
وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّكُمْ ستَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ، لاَ تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ)) .
42- وهذا تشبيه للرؤيةِ بالرؤيةِ، لا للمرئيِّ بالمرئيِّ؛ فإنَّ الله - تعالى - لا شبيهَ له ولا نظير.
الشرح
قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُضَامُّون في رؤيته))؛ أي: لا يلحقكم ضَيْمٌ ولا مَشَقَّةٌ في رؤيته، وفي حديث آخر: ((لا تُضَارُّون))؛ أي: لا يلحقكم ضررٌ، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المتقدِّم: ((هل تُضَارُّون في رؤية القمر؟))؛ أي: هل يلحقكم ضررٌ في رؤيته؟
والمعنى: أنَّ المؤمنين حين يَرَوْن ربهم فإنَّهم لا يَتَزاحَمُون، كما أنهم لا يتزاحمون في رؤية القمر والشمس ليس دونها سحاب، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فإنكم ترونه كذلك كما تَرَوْنَ هذا القمر))، ليس معناه: أنه يُشبه القمر؛ فالله - جل وعلا - ليس كَمِثْله شيء، فلا شبيه له ولا نظير - كما قال المصنِّف - وإنما التَّشْبيه في الرؤية، فكما أن الناس اليوم لا يَتَزاحَمون، ولا يلحقهم ضررٌ ولا ضَيْمٌ ولا مشقةٌٌ في رؤية القمر ليلة البدْر، وفي رؤية الشمس ليس دونها سحاب، فكذلك سَيَرَوْن ربَّهم دون أن يلحقَهم ضررٌ أو ضَيْمٌ أو مشقَّةٌ في ذلك.
المبحث الثاني: المخالِفون لأهْل السنَّة:
المخالِفون لأهل السنَّة في مسألة الرُّؤية على قسمَيْن:
1- قسم أنكروا الرؤية صَرَاحة، وهم: الجهمية، والمعتزلة، والرافضة، والإباضية - وهي إحدى طوائف الخوارج - وغيرهم، فهؤلاء يُنْكِرُون الرؤية، ويُؤَوِّلون الأدلة المُثْبِتَة للرؤية، فيقولون في قوله - تعالى -: ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ ؛ أي: إلى ثوابِ ربِّها ناظرة.
والرد عليهم:
1- أن هذا مخالِف لطريقة السلَف وإجماعهم على إثبات الرؤية - كما تقدَّم بيانُه.
2- أن هذا مخالِف لظاهر النَّصِّ، فظاهِرُ النصوص دالَّةٌ على إثبات الرُّؤية.
3- أن تأويلَكُم ضعيفٌ جدًّا، ومخالفٌ لقواعد اللغة، ووجه ذلك: أن لفظ: (نظر) إذا عُدِّي بحرف الجر (إلى) كما في قوله - تعالى -: ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾  - لا يُمكن أن يكونَ المقصود منه إلا النظَر البصري مُعاينة؛ بخلاف ما لو عُدِّي بحرف الجر (في)، فإنه يكون بمعنى التَّفَكُّر؛ كقوله - تعالى -: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ، وقوله - تعالى -: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ، وأما إذا عُدِّي بنفسه فإنه يكون بمعنى التوقُّف والانتظار؛ كقوله - تعالى -: ﴿انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾ ، والمُهِمُّ أنه إذا عُدِّي بنفسه أو بـ(إلى)، فإنه يكون بمعنى النظَر بالعين؛ كقوله - تعالى -: ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ ، وقوله - تعالى -: ﴿وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾ ، وقوله: ﴿انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ﴾ [الأنعام: 99].
المبحث الثالث: هناك فَرْقٌ بين الرؤية والإدراك:
وهذا المبحثُ هو تنبيهٌ إلى أنه لا يعْنِي من إثبات الرؤية، وأن المؤمنين يَرَوْنَ ربهم: أنهم يحيطون به؛ بل الله - جلَّ في علاه - يراه المؤمنون بأبصارهم، لكن لا تُحيط به الأبصار؛ ويدلُّ على ذلك قوله - تعالى -: ﴿لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ ؛ ولذا فإنَّ المعتزلة ومَن نَهَج نهجهم يستدلون بهذه الآية على إنكارِ رُؤية الله - تعالى.
والرد عليهم:
أن يقال: إن هناك فرقًا بين الرُّؤية والإدراك، ونحن نُثبت الرُّؤية؛ لدلالة الأدلة على هذا المعتقد، ولا نثبت الإدراك؛ لأنَّ الله - جلَّ وعلا - لا تُدركه الأبصار ولا تحيط به.
ومما يدل على هذا الفرق بين الرؤية والإدراك:
1- قول أصحاب موسى - عليه السلام - حينما لحقهم فرعون وقومه، وكانوا يرون فرعون وقومه ويراهم، لكن حينما خشوا أن يمسك بهم، ويتمكن منهم، قالوا: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ .
ووجه الدلالة: أنه لو كان الإدراك بمعنى الرؤية، لوقع هذا الإدراك من أول الأمر، لا حينما خافوا أن يَتَمَكَّن منهم فرعون وقومه؛ لأنه رآهم من حين اللحاق بهم.
2- وأيضًا يُقال: مما يدل على الفرْق بين الرؤية والإدراك: أنَّ كثيرًا من الأشياء في الواقع نراها لكن لا ندركها؛ فنحن نرى الشمس والقمَر، والنجوم والجبال، والبحار الواسعة، لكننا لا ندركها في عظمها، وكبر حجمها، وما فيها من أسرار؛ فلا نُدرك حقيقتها.
 
فائدة:
مما استدل به المعتزلة على إنكار الرؤية أيضًا: قوله - تعالى - لِمُوسى - عليه السلام - حينما طلب رؤيته، قال - تعالى -: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾ ، فقالوا: هذا دليل على نفْي الرُّؤية في الدُّنيا والآخرة.
والرَّد عليهم من عشرة أوجه، ذَكَرَها شيخُ الإسلام ابن تيميَّة، وكذا ذَكَرَها ابن أبي العز شارح الطحاوية؛ منها:
1- أن الله - عز وجل - تجلَّى للجبل؛ فقال - تعالى -: ﴿وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ .
ووجه الدلالة:
أن الله - عز وجل - تَجَلَّى للجبل فاندكَّ، وفي هذا دلالة على أنَّ الله - عزَّ وجل - قد يَتَجَلَّى لبعض عبادِه فيَرونه، لا كما يعتَقِد المعتزلة بأنَّه - سبحانه - لا يُرى.
2- أنَّ الله - عز وجل - لم يقلْ لموسى - عليه السلام - بأن رؤيتي غير مُمكنة، أو أنك لن تراني في الدنيا والآخرة، أو أنني لا أُرَى - كما يعتقد المعتزلة - بلْ أخْبَرَهُ - جلَّ وعلا - بأنه لا يَقْوى على رؤيته - جلَّ وعلا - في الدنيا.
3- أن قولكم في قوله - تعالى -: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾: فيه النفْي بـ(لن)، وهو نفْيٌ مؤبَّدٌ للرُّؤية في الدنيا والآخرة - يردُّه لغةُ العرب؛ حيث إن (لن) لا تفيد النفي المؤبَّد - كما تقوله المعتزلة - بل هذا لا يُعْرَف في باب النحو، وغلط على العربية؛ ولذا يقول ابن مالك في "الكافية الشافية"، ردًّا على هذا المعتَقد، ومبينًا أن (لن) لا تُفيد النفْي المؤبد:
وَمَنْ يَرَى النَّفْيَ بِـ(لَنْ) مُؤَبَّدَا = فَقَوْلَهُ ارْدُدْ وَسِوَاهُ فَاعْضُدَا
2- والقسم الثاني:
أنكروا الرؤية ليس صراحة، وإنما في مفهوم معتقدهم، وهم: الأشاعرة، والماتريدية، فهؤلاء باعتقادهم أنهم يثبتون الرؤية، ويقولون: نُثْبِت رؤية المؤمنين لربِّهم، ولكن حينما ننْظُر كيف يثبتون الرؤية؛ فإننا نجدهم كمَن ينكرها.
ووَجْه ذلك أنهم يقولون: إنَّ الله - عز وجل - يُرى يوم القيامة، ولكنه لا يُرى عن مواجهة ومعاينة، بأن ينظروا إليه بأبصارهم، وإنما الرؤية عندهم رؤية علميَّة؛ بمعنى: العلم واليقين والكَشْف، وهذا نفيٌ للرؤية في حقيقة معناه؛ لأنهم يقولون: نحن نُثبت الرؤية، وأنَّ المؤمنين يَرَوْنَ ربهم، لكنَّهم يَرَوْنَه بقُلُوبهم لا بأبْصارهم، وهم اعتقدوا الرُّؤية بهذا المفهوم؛ لأنهم - كما سبق - يُنكرون العلوَّ الذاتيَّ لله - تعالى - فوَقَعُوا في تناقُضٍ؛ لأنهم إذا أثبتوا الرؤية البَصَرِيَّة لا بدَّ أن يُثْبِتُوا العلُو الذاتي لله - تعالى - فوقعوا في هذا الحَرَج، وهم عند أنفسهم أنهم يثبتون رؤية الله، بل إنَّ هؤلاء الأشاعرة ألَّفوا المؤلَّفات في إثبات الرؤية، وردُّوا على المعتزلة، والمعتزلة ردُّوا عليهم بأن اعتقادكم متناقِض؛ لأنَّ مَن أثبت الرؤية لا بد أن يُثبت العلُوَّ، هذا هو ملخَّص اعتقادِ الأشاعرة ومَن تبِعَهم.
والرَّد عليهم كما سبق:
1- أن هذا مخالف لطريقة السلَف وإجماعهم.
2- أن هذا مخالفٌ لظاهرِ النصوص الدالة على إثبات حقيقة الرؤية؛ فالآياتُ تدل على النظر بالبصر لا بغيره مِن تأويلاتكم الباطلة.
3- أن مفهومكم في إثباتكم للرُّؤية مفهوم خاطئٌ؛ فهو في حقيقتِه إنكار للرُّؤية، مع ما فيه من التناقُض والفساد.
4- أن مما يدلُّ على أن الرؤية تكون بالبصَر قولَه - تعالى -: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ .
ووجه الدلالة: أنَّ الله - عزَّ وجل - جعل الوجوه هي الناظرة لربها، والوجوه عُبِّر بها؛ لأنها محلٌّ للأبصار.
المبحث الرابع: من أسباب رؤية الله تعالى:
1- أن يسأل العبدُ ربَّه النظرَ إلى وجْهه الكريم؛ لحديث عمار بن ياسر، وفيه دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنه: ((وأسألك لذَّةَ النظر إلى وجهك الكريم، والشوْق إلى لقائك في غَيْر ضرَّاء مُضِرَّة، ولا فتنة مُضلة)) .
2- المحافَظة على صلاة الفجْر والعصر؛ لحديث جرير بن عبدالله - الذي تقدَّم - قال: كُنَّا جلوسًا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: ((إنكم سَتَرَوْن ربَّكم عيَانًا كما ترون هذا القمر، لا تُضَامُّون في رؤيته، فإنِ اسْتَطَعْتُم ألا تُغْلَبُوا على صلاةٍ قبل طُلُوع الشمس وقبل غروبها، فافعلوا)) ، والمقصود بهما: صلاة الفجر والعصر.
 
في القضاء والقدر
43- قال المصنِّف - رحمه الله -:
"ومِنْ صِفاتِ اللهِ - تعالى - أنَّهُ الفَعَّالُ لِمَا يُريدُ، لا يَكُونُ شَيءٌ إلَّا بِإرادَتِه، وَلا يَخْرُجُ شَيءٌ عَنْ مَشِيئَتِه، وَلَيْسَ في العالَمِ شيْءٌ يَخْرُجُ عَنْ تَقْدِيرِه، ولا يَصْدُرُ إِلا عَنْ تدبِيرِه، ولا مَحِيدَ عَن القدَر المقدور، ولا يتجاوَزُ ما خُطَّ في اللَّوح المسْطور، أرَاد ما العالم فاعِلوه، وَلَوْ عَصَمَهُم لما خالَفوه، وَلَوْ شاءَ أنْ يُطِيعُوه جَمِيعًا لأَطاعُوه، خَلَقَ الخَلْقَ وأفعالَهم، وقَدَّرَ أرْزَاقَهُم وآجَالَهُم، يَهْدِي مَنْ يَشاءُ بِحِكْمَتِه؛ قال اللهُ - تعالى -: ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ ، وقال اللهُ - تعالى -: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ ، وقال - تعالى -: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ ، وقال - تعالى -: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾ ، وقال - تعالى -: ﴿فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ .
44- ورَوَى ابنُ عُمَرَ أنَّ جِبْرِيلَ - عليه السلامُ - قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما الإيمان؟ قال: ((أنْ تُؤْمِنَ بِالله، وَمَلائِكَتِه، وَكُتُبِهِ، وَرُسُِله، وَاليَوْمِ الآخِر، وَتُؤْمِن بِالْقَدَرِ خَيْرِه وَشَرِّه))، فقال جبريل: "صَدَقْتَ" .
46- ومِنْ دُعَاءِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الَّذي علَّمَهُ الحسَنَ بن عَلِيٍّ، يَدْعُو به في قُنُوتِ الوِتْر: ((وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ)).
47- ولا نجعلُ قضاءَ اللهِ وقدَرَه حُجَّةً لنا في تَرْكِ أوامِرِه، واجْتِناب نَوَاهِيه؛ بلْ يجبُ أنْ نُؤمِنَ ونَعْلَمَ أنَّ لله علينا الحُجَّةَ بإنزال الكتُب، وبَعْثَة الرُّسُل؛ قال اللهُ - تعالى -: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ .
48- ونعلَمُ أنَّ اللهَ - سبحانه وتعالى - ما أَمَرَ ونَهى إلَّا المستطيعَ للفِعْلِ والتَّرْكِ، وأنَّه لمْ يُجْبِرْ أَحَدًا على معصيةٍ، ولا اضْطَرَّهُ إلى تَرْكِ طَاعَة، وقال اللهُ - تعالى -: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ ، وقال - تعالى -: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ ، وقال - تعالى -: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾ .
49- فَدَلَّ على أنَّ للعبْدِ فِعْلاً وكَسْبًا، يُجْزَى على حَسَنِه بالثَّواب، وعلى سَيِّئِه بالعِقاب، وهو واقِعٌ بقضاء الله وقَدَرِه".
الشرح
وتحت هذا الفصل عدة مباحث:
المبحث الأول: إثبات صفة الإرادة لله - تعالى -:
ابتدأ المصنِّف - رحمه الله - هذا الفصل بإثبات صفة الإرادة لله - تعالى - وأنَّ الله فعَّال لِما يريد، وهو ابتداء مناسِب من المصنف؛ حيث ربط هذا الفصل بما ذكره قبل ذلك من الصفات، فذكر صفة الإرادة في مَعْرِضِ بيانه: أن الله على كلِّ شيء قدير، وأن كل شيء بقُدْرته وإرادته، لا يخرج شيء عن ذلك، ثم ذكَر الآيات التي تدلُّ على قدرة الله - تعالى - وأهلُ السنة والجماعة يُثبتون صفةَ الإرادة لله - تعالى - كما يَليق بجلاله، وعظيم سلطانه، مِن غير تحريف، ولا تكييف، ومن غير تعطيل ولا تمثيل، وهي صفةٌ ثابتة بالكتاب، والسنة، والإجماع:
- فمن الكتاب: قوله - تعالى -: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ .
ومن السنة: حديث ابن عمر- رضي الله عنهما - مرفوعًا: ((إذا أراد اللهُ بقوم عذابًا، أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم)) .
وأجمع السلَف على إثبات هذه الصِّفة.
ويجب إثباتُ الإرادة بقسمَيْها: الكوني والشرعي - كما سيأتي.
المبحث الثاني:
للإرادة قسمان: إرادة كونية، وإرادة شرعية:
القسم الأول: الإرادة الكونية:
والإرادة الكونية: هي ما يلزم وُقُوعه مما أراده الله - تعالى - ولو لَم يكنْ محبوبًا إليه - سبحانه - فكلّ ما في هذا الكون؛ من خيرٍ أو شر، فإنه كان بإرادة الله - تعالى - وقدره، ومن أمثلة هذه الإرادة والدليل عليها:
1- قوله - تعالى -: ﴿وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾ .
2- وقوله - تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ .
فكلُّ شيء خلقَه الله - عزَّ وجل - وقدَّره؛ من خير أو شر، فهو داخل تحت الإرادة الكونية؛ ولذلك تسمى: (إرادة كونية خلقية قدرية)، ولا شك أنَّ الله - عز وجل - لا يُقدِّر ولا يخلق إلا ما يشاء - سبحانه - فهذه الإرادة الكونية تُرادف المشيئة، وهي إرادة تَعُمُّ المؤمن والكافر.
القسم الثاني: الإرادة الشرعية:
والإرادة الشرعية: هي ما يلزم أن يكونَ محبوبًا لله - جلَّ وعلا - ولا يلزم وُقُوعه، فهي كلُّ ما أحبه الله - عزَّ وجَلَّ - ورَضِيَه من أحكام الشرْع في الكتاب والسنة؛ سواءٌ كان أمرًا أم نَهْيًا من أحكام الشرْع، ولكن هذه الإرادة لا يلزم وقوعها، فمِنَ الناس مَن أطاع الله - عز وجل - وامْتَثَلَ إرادته الشرعية، ومنهم من لَم يُطِع الله - جل وعلا - ولم يستجبْ، ومن أمثلة هذه الإرادة والدليل عليها:
1- قوله - تعالى -: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ .
2- وقوله - تعالى -: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا﴾ .
فكلُّ شيء شرَعَهُ الله - عز وجل - وأمَرَ به، فهو داخلٌ تحت الإرادة الشرعية؛ ولذلك تسمَّى: (إرادة شرعية أَمْرية)، ولا شك أنَّ الله - عز وجل - لا يأمُر إلا بما يُحبه - سبحانه – ويرْضاه، وعليه فإن الإرادة الشرعية تُرادف المحبة والرضا، وهي خاصَّةٌ بالمؤمن؛ لأنَّ الكافر لا يَمْتَثِل لأوامر الله - تعالى.
ومن خلال ما تقدَّم، فالفرْق بين الإرادة الكونيَّة والشرعيَّة:
1- أن الإرادة الكونية لا بُدَّ مِن وقوعها، فهي كلُّ ما خلقَه الله وقدَّره، بِخِلاف الإرادة الشرعية، فلا يلزم وقوعها.
2- أن الإرادة الكونية لا يَلْزم أن تكون محبوبة لله - تعالى - بخلاف الإرادة الشرعية، فهي ما أحبَّهُ - سبحانه - ورضيه.
3- أن الإرادة الكونية عامَّة للمؤمن والكافر، بخلاف الإرادة الشرعية فلا ينالها إلا المؤمن؛ لأنه هو الذي يَمْتَثِل لما شرَعه الله - تعالى - فتجتمع الإرادتان في حقِّ المؤمن كونًا وشرعًا، وتختلف في حق الكافر، فلا يدخُل إلا في الإرادة الكونية؛ لأنه لا يَمْتثل لما شرَعه الله - تعالى.
فائدة:
تبيَّن مما تقدَّم أن الإرادة الكونية تُرَادِفُ المشيئة، وبهذا يَتَبيَّن الفرقُ بين الإرادة والمشيئة، وأنَّ المشيئة لا تكون إلا كونية قدرية، بخلاف الإرادة فإنها تكون إرادة كونية، وتكون إرادة شرعية، وهذا الفرقُ هو الذي دلَّت عليه نُصُوص الكتاب والسُّنَّة، فالمتأملُ للنصوص الواردة في المشيئة يجدها كلها كونيَّة قدرية؛ ومن ذلك قوله - تعالى -: ﴿مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ ، وأمَّا الإرادة فقد جاءتْ في النصوص على قسمَيْن، تقدَّمَ إيرادُها مع أدلتها.
- قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله -: "الإرادة إرادتان: كونية قدرية، وشرعية دينية، وأما المشيئةُ فلم ترد في النصوص إلا كونية قدرية، فلا تنقسم" .
المبحث الثالث: المخالفون لأهل السنة في هذه الصفة:
خالَف أهلَ السنة من المبْتَدِعة في هذه الصفة طائفتان مشهورتان:
1- الجبرية: فلم يثبتوا إلا الإرادة الكونية فضلُّوا.
2- المعتزلة: فلم يثبتوا إلا الإرادة الشرعية فضلُّوا.
ولا شك أن هاتين الطائفتين خالفتا النصوص الدالة على إثبات الإرادتين الكونية والشرعية؛ ولذا جاء مذهبُ أهل السنة وَسَطًا بين هاتَيْن الطائفتَيْن الضالَّتَيْن في هذه الصفة، وتقدَّم بيانُ الأدلة على إثبات الإرادتَيْن - والله أعلم.
المبحث الرابع: الإيمان بالقدَر:
الإيمان بالقدر واجبٌ، وهو أحد أركان الإيمان الستَّة، وقد استدل المصنِّف بما يدل على أنَّ الله - عز وجل - قدَّر كل شيء تقْديرًا؛ كقوله - تعالى -: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ ، وقوله: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان: 2]، وقوله: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾ ، واستدلَّ المصنِّف بما يدلُّ على أنَّ الإيمان بالقدَر - خيره وشرِّه - واجبٌ، وأنه أحد أركان الإيمان الستة، فاستدل بما رواه مسلم، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن جبريل - عليه السلام - قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما الإيمان؟ قال: ((أن تؤمنَ بالله، وملائكته، وكُتُبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره))، فقال جبريل - عليه السلام -: صدقت، وبدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي علَّمه الحسن بن علي؛ ليدعو به، وفيه: ((وقِني شر ما قضَيْت)) .
* * * * * * * *
45- قال المصنِّف - رحمه الله -:
"وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((آمنْتُ بالقدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَحُلْوِه وَمُرِّه))".
فائدة:
وأما الحديث الذي أوْرَدَهُ المصنف، وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((آمنتُ بالقدر؛ خيرِه وشرِّه، وحُلوِه ومرِّه))، فهو حديث ضعيفُ الإسناد، في سنده يزيد الرقاشي ضعيفٌ، قال النسائي عنه: متْروك، وقال أحمد: منكر الحديث .
- كيف يكون المسلمُ مؤمنًا بالقدَر؟
الإيمان بالقدر لا يكون تامًّا إلا بالإيمان بأربعة أمور، هي مراتب القدر الأربع:
أولًا: الإيمانُ بعلم الله الشامل لكلِّ شيء، جُملةً وتفصيلاً:
فيؤمن العبدُ بأن الله - عز وجل - أحاط بكلِّ شيء علمًا، فعَلِمَ ما كان، وما لَم يكن لو كان كيف يكون، فعلم ما سبق، وما سيأتي؛ أي: إنَّ علْمه - جل وعلا - أَزَلِيٌّ وأَبَدِيٌّ.
ومن أدلة هذه المرتبة:
1- قوله - تعالى -: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ .
2- وقوله - تعالى -: ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ .
ثانيًا: الإيمان بأنَّ الله - تعالى - كَتَب في اللوح المحفوظ مقادير كلِّ شيء:
فيُؤمِنُ العبدُ بأنه ما من شيء كان في السابق، أو يكون في المستقبل، إلا وهو مكتوبٌ في اللوح المحفوظ قبل أن يكون؛ فيؤمن بأنَّ الله كَتَب في اللَّوح المحفوظ مقاديرَ كل شيء إلى قيام الساعة.
ومِن أدلة هذه المرتبة:
1- قوله - تعالى -: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾ .
2- حديث عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: سمعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((كَتَب الله مقاديرَ الخلائق قبل أن يخلقَ السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشُه على الماء)) .
3- وأيضًا قوله - تعالى -: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ ، وهذه الآيةُ فيها دلالة على المرتَبَتَيْن الأولى والثانية.
ثالثًا: الإيمان بأنه لا يكونُ شيء إلا بمشيئة الله - تعالى - وإرادته:
فيؤمن العبدُ بأنه لا يكونُ شيءٌ في السموات والأرض إلا بمشيئة الله - تعالى - وإرادته، يهْدِي مَن يشاء برحمته، ويُضل مَن يشاء بحكمته.
ومن أدلة هذه المرتبة:
1- قوله - تعالى -: ﴿وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ .
2- وقوله - تعالى -: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾.
رابعًا: الإيمانُ بأن الله خالِق كلِّ شيء لا خالق غيره:
فيؤمن العبد بأن الله - جل وعلا - خلَق كلَّ ما في السموات وما في الأرض وما في سواهما، لا خالق سواه - جلَّ في علاه.
ومن أدلة هذه المرتبة:
1- قوله - تعالى -: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ .
2-وقوله - تعالى -: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ .
هذه هي مراتِبُ القدَر الأربع:
1- العلم.        2- الكتابة.         3- المشيئة.          4- الخلق.
مجموعة في قول الشاعر:
عِلْمٌ كَتَابَةُ مَوْلانَا مَشِيئَتُهُ = وَخَلْقُهُ وَهْوَ إِيْجَادٌ وَتَكْوِينُ
ومن أهلِ العلم مَن يُقَسِّم هذه المراتب الأربع على مرتَبَتَيْن:
الأولى: ما يسبق حصول المقدَّر، وهما: العلم، والكتابة.
الثانية: ما يكون حال وقوع المقدَّر، وهما: المشيئة، والخلق.
والمراتب الأربع: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق، ذَكَرَها المصنِّف في أول الفصل ضمن كلامه؛ ليُبَيِّن عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة، فمَن آمن بهذه المراتب الأربع، فقد آمن بالقضاء والقدر الذي هو ركنٌ من أركان الإيمان الستَّة؛ كما قال عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - حيث قال: "والذي يحلف به عبدالله بن عمر، لا يؤمن أحدهم حتى يعلمَ أن ما أصابه لَم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لَم يكن ليصيبه" .
- ومن خلال مراتب القدر الأربع، نُعَرِّف القَدَر فنقول: هو علْمُ الله - جل وعلا - الأزليُّ بالأشياء قبل وُقُوعها، وكتابته لها في اللوح، قبل خلْق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم مشيئته - جل وعلا - لها، وخلقه - جل وعلا - لجميع الأشياء.
المبحث الخامس: المخالفون لأهل السنة في القدر:
خالَف أهلَ السنة منَ المبتدِعة طائفتان في مسألة الإيمان بالقدَر:
الأولى: القدرية: وهم المعتزلة، الذين يقولون بنَفْي القدَر؛ أي: إن الله - عز وجل - لم يُقدِّر شيئًا، وهؤلاء القدرية على قسمَيْن:
1- غلاة القدرية: وهم نفاة العلْم، فنفوا المرتبة الأولى مِن مراتب القدر، وهي العلم، فقالوا: إنَّ الله - عز وجل - لا يعلَم بما يحدث وما حدث قبل أن يحدث، ولا شك أن نفْيَهم للعلم يقتَضي نفي ما بعده من المراتب؛ كالكتابة، والمشيئة، والخلْق، وهذه الطائفة انقرضَتْ، ومَن أنكر علْم الله فقد كفر، وهؤلاء هم الذين كفَّرهم ابن عمر - رضي الله عنهما - كما في "صحيح مسلم"، حين قيل له عن قوم: "يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أُنُف - أي: مستأنف - فقال: إذا لقيت أولئك؛ فأخبرهم أنِّي برِيءٌ منهم، وأنهم بَرَاء مني، والذي نفسي بيده، لو أنْفَقَ أحدهم مثل أُحُدٍ ذهبًا ما قَبِلَه الله منه حتى يؤمِنَ بالقدَر".
2- القدرية غير الغلاة: وهم معتزلة اليوم، الذين يُثْبِتون المرتبة الأولى والثانية؛ فيثبتون العلم والكتابة، وينفون الخلْق والمشيئة، فيقولون: كل شيء خَلَقَهُ الله - تعالى - وشاءه إلا أفعال العباد؛ فإن الله - تعالى - عَلِمها وكتَبَها، ولكنه لَم يشأها، ولم يخلقها، فالعبد هو الذي خلَق أفعال نفسه وليس لله - تعالى - مشيئةٌ فيها ولا قدرة ولا خلق - تعالى عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا.
والرد عليهم من طريق النقل والعقل:
أولًا: من طريق النقل: دلَّت النصوصُ الكثيرةُ على إثبات قدْرة الله - تعالى - ومشيئته وخلقه لأفعال عباده؛ ومن ذلك قوله - تعالى - في المشيئة: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ ، وقوله: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ ، وقوله: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ .
وقوله - تعالى - في الخلق: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ ، وقوله: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ ، فهذه النُّصوص وغيرها دلَّتْ على أنَّ العبد لا يفْعل إلا ما شاء الله - تعالى - وأنَّ أفعالَه خَلَقَها الله - تعالى.
ثانيًا: من طريق العقل: حيث لا يُعقَل أن مَنْ يملك السموات والأرض ومَن فيهن أن يكون في ملكِه ما لا تتعَلَّق فيه مشيئته وإرادته، ومن ذلك الإنسان، فهو وأفعاله تحت مشيئة الله - تعالى.
الطائفة الثانية: الجبرية: وهم الجهمية، وكذلك الأشاعرة، وإن كان الأشاعرةُ يُفَصِّلون في اعتقادهم بين الباطن والظاهر في الجبْر، وفصَّلوا تفصيلاً هم لَم يتَّفقوا عليه، ولَم يجدوا له تفسيرًا؛ فهم في النهاية جبريَّة.
والجبرية يقولون: إن العبد مَجْبور، وليس له اختيار في ذلك أبدًا، فالله - عزَّ وجل - أجْبَرَهُم على أفعالهم فجَعَلُوا الإنسان كالريشة في مَهَبِّ الرِّيح.
والرد عليهم مِن طريقين أيضًا؛ النقل والعقل:
أولًا: من طريق النقل:
فيُقال: دلَّت النُّصُوص على إثبات أنَّ للعبد مشيئة، ومِن ذلك:
- ما استدل به المصنِّف: قوله - تعالى -: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ ، وقوله: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ ، وقوله:﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ .
ووجه الدلالة: أنَّ الله - عزَّ وجل - في الآيات السابقة جعَل له عملاً يجازى به عقابًا أو ثوابًا، ولو كان مَجْبورًا، لكان عقابه منَ الظلْم، وكذلك كلَّفه وأَمَرَهُ بما يستطيع مما يدلُّ على أن له مشيئة، ولو كان مجبورًا لما جعل له عملاً يجازى به حسبما يختار من عمل، ولما جعله مستطيعًا على فِعْل ما أمر به.
ثانيًا: من طريق العقل: أنَّ كل إنسان يُدرك الفرق بين الأفعال الاختيارية، والأفعال الاضطرارية، وفي واقع العبدِ منَ الأمثلة ما لو احتجَّ فيه بالقدر، وأنه مجبور، لعُدَّ ذلك من السَّفَه وقلَّة العقل، فلو قَتَل رجلٌ رجلاً آخر، واحتجَّ بأنه مجبور، لَم يُقبَل منه؛ لأنها حجَّة واهية، وكذا لو قيل لإنسانٍ: أغلق تجارتك، واجلسْ في بيتك، وإذا سُئِلْتَ: لماذا لا تتكسب؟ فقل: أنا مجبور - لعُدَّ ذلك منَ السفه، وقلة العقل، وكذا في سائر الأُمُور الدنيوية التي للإنسان فيها مصلحة دنيوية ظاهرة، فإنه لا يحتج فيها بالقدَر بتاتًا، ويرى أنَّ ذلك من السفه، وقلة العقل، وعند أهوائه فإنه يحتج بالقدَر؛ فيقال له: لماذا تحتج في القدر في هذا دون هذا؟!
ولهذا يقول ابن القيم في الميميَّة:
وَعِنْدَ مُرَادِ اللهِ تَفْنَى كَمَيِّتٍ = وَعِنْدَ مُرَادِ النَّفْسِ تُسْدَى وَتُلْحَمُ
وَعِنْدَ خِلافِ الْأَمْرِ تَحْتَجُّ بِالْقَضَا = ظَهِيرًا عَلَى الرَّحْمَنِ لِلْجَبْرِ تَزْعُمُ
- وأهل السنة والجماعة وَسَطٌ بين القدرية والجبرية، فهم يقولون: للعبد قدرةٌ وإرادةٌ وبحسبها يُثَابُ ويُعَاقَبُ، وقدرته ومشيئته تحت قدرة الله ومشيئته.
فلا يقولون: ليس لله قدرة أصلاً، فهذا قول القدرية المعتزلة.
ولا يقولون: ليس للعبد قدرة أصلاً، فهذا قول الجبرية.
بل يقولون: إن لله قدرةً عامَّةً، وللعبد قدرة خاصة تحت قدرة الرب - سبحانه - فقدرةُ الرب غالبة على قُدْرة العبد.
ودليل هذا المعتقد الحق:
1 - قوله - تعالى -: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ ؛ ففي الآية الأُولى: إِثْبات أنَّ للعبد مشيئة، وفي الثانية: إثبات أنَّ مشيئة العبد تحت مشيئة الله - تعالى.
2- قوله - تعالى -: ﴿وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ .
3- قوله - تعالى -: ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ .
فيُقال أيضًا في الاستدلالَيْن: في الآية الأولى منهما: إثبات أنَّ للعبد مشيئة، وفي الثانية: إثبات أن مشيئة العبد تَحْت مشِيئة الله - تعالى - ولهذا المعتقد آيات أُخَر تَقَدَّم بَعْضُها.
هذا هو مبْحث مسألة الإيمان بالقدَر بين أهْلِ السنَّة والمبتدعة، وتحت هذا المبْحَث عدة فوائد:
الفائدة الأولى:
يُقال في القدرية: إنهم مَجُوسُ هذه الأمة، وَوَرَدَتْ في ذلك أحاديث مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ما رواه أبو داود في "سننه"، عن ابن عمر - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((القدَرية مجوس هذه الأمة))، وعند أبي داود أيضًا، عن حُذَيفة مرفوعًا: ((لكلِّ أمة مجوسٌ، ومجوسُ هذه الأمة الذين يقولون: لا قدَر))؛ والحديث وكل الأحاديث المرفوعة في هذا الباب ضعيفة، والصحيح هو المَوْقُوف على ابن عباس.
ووَجْه الشَّبَه بين القدَرية والمَجُوس هو: أنَّ المجوس يُثْبِتُون خالقَيْنِ: آلهة للخير، وآلهة للشَّرِّ، وكذلك القدَرية، فإنهم يثبتون خالقَيْنِ، فيثبتون أنَّ الله - تعالى - خلقهم، ويثبتون أنهم خلقوا أفعالهم، فلم يخلقْها اللهُ - تعالى.
واختلفَ أهلُ العلم في تكْفير هؤلاء، وأما غُلاة القدَرية الذين أنْكَرُوا علْم الله - تعالى - بالأشياء حتى تَحْدُث، فنَصَّ الشافعيُّ وأحمدُ وغيرهما منَ الأئمة على تكفيرهم، وتقدَّمَتِ الإشارة إلى أن ابن عمر - رضي الله عنهما - كَفَّرَهُم.
الفائدة الثانية:
يُقال في الجبْرية: إنهم شابَهوا بقولهم قول المشركين، وإنهم مَجْبُورون على عبادة الأوثان؛ فقالوا: ﴿لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ﴾ ، وكذا هي حُجَّةُ إبليس؛ حيث قال: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ ، ووَجْه الشاهد قوله: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾، فكأنه مَجْبورٌ على الغَواية، وهو بهذه الحجة يُخاصم الله - تعالى - ولن تنفعه لبُطْلانها.
قال ابن القَيِّم: "سمعْتُ الشيخ تقيَّ الدين يقول: القدَرية المذمومون في السُّنَّة وعلى لسان السلَف: هم هؤلاء الفِرَق الثلاثة نُفَاتُه وهم: القدَرية المجوسيَّة، والمعارضون به للشريعة، الذين قالوا: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا﴾ ، وهم القدَرية المشركيَّة، والمخاصمون به للرب، وهم أعداءُ الله وخصومه، وهم القدَرية الإبليسية، وشيخهم إبليس، وهو أول مَن احتج بالقدَر؛ فقال: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾، ولَم يعترفْ بالذنب ويبوء به كما اعترف به آدم، فمَن أَقَرَّ بالذنب، وبَاءَ به، ونَزَّهَ ربه، فقد أشبه أباه، ومَن أشبه أباه فما ظَلَم، ومَن برَّأ نفسه، واحتج على ربِّه بالقدَر، فقد أشبه إبليس" .
الفائدة الثالثة:
ظهر وَفْقَ الخلاف في القدر وقول المبتدعة فيه مسألة، كثيرًا يُخاض فيها، وهي:
- هل الإنسان مخيَّر أو مُسيَّر؟
والجواب: أنَّ مَن تأمَّل مذهب الجبرية والرد عليهم، عرف أن يجيب على هذا السؤال، والجبرية هم الذين يقولون: إنَّ العبدَ مسيَّر فليس له اختيارٌ، والقدَرية والمعتزلة هم الذين يقولون: إن العبد هو الذي يختار أفعالَ نفسه، وليس لله - تعالى - قدرة ولا خلق في أفعال العبد، وبهذا يتبيَّن لك القول الصحيح، وهو أن العبد مُسيَّر ومخيَّر، ويمكن إيجاز الجواب عن هذا السؤال بهذه النقاط التالية:
أولاً: هذا السؤال لَم يَرِد عن الصحابة - رضي الله عنهم - ولا عن السلَف الصالح - رحمهم الله - لأنَّ عُقُولَهم وقلوبهم اطمأنَّتْ بالمعتقد الصحيح، وإنما يرد هذا السؤال في كُتُب مَن تعمَّق في قضايا عميقة دقيقة، ليست من الشرع؛ كَكُتُب الفلسفة.
ثانيًا: أنَّ على المسلم مَعْرفة مُجْمَل اعتقاد أهلِ السنة والجماعة في مسألة القدَر بالأدلَّة، ويجتنب الخَوْض في دقائقه؛ لأنه إذا سار على غَيْر بصيرة وقَع في الضلال، واشتبه عليه الأمر؛ لأنَّ مَن ضلَّ في مسألة القدَر كان ضلالُه بسبب خوضه في أفعال الله - تعالى - وتعليلها، فعلى المسلم أن يسيرَ على ما دلَّتْ عليه النصوص؛ ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في تائيته القدَرية، التي ردَّ بها على اليهودي الذي شكَّك في قدَر الله وأفعالِه:
وَأَصْلُ ضَلالِ الْخَلْقِ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ = هُوَ الْخَوْضُ فِي فِعْلِ الْإِلَهِ بِعِلَّةِ
فَإِنَّهُمُ لَمْ يَفْهَمُوا حِكْمَةً لَهُ = فَصَارُوا عَلَى نَوْعٍ مِنَ الجَاهِلِيَّةِ
وبالمناسبة، فقصةُ هذه التائية عجيبة؛ فقد نظمها شيخ الإسلام ردًّا على نظم اليهودي، الذي قال أبياتًا يُشكِّك في قدَر الله - تعالى - وجعل شيخ الإسلام يكتب، وهم يظنُّون أنه يكْتُب نثرًا؛ فإذا هو يكتب تائية منظومة، مرتجلاً بها، ردًّا عليه، زادتْ على مائة وثلاثين بيتًا ابتدأها بقوله:
سُؤَالُكَ يَا هَذَا سُؤَالُ مُعَانِدٍ = مُخَاصِمِ رَبِّ الْعَرْشِ بَارِي الْبَرِيَّةِ
ثالثًا: أن القول بأنَّ العبد مسيَّر - أي: مَجْبُور - على الإطلاق - خطأ، والقَوْل بأنه مُخيَّرٌ على الإطلاق خطأٌ، وتبيَّن لك مَنْ ضلَّ في هذا من المبتدعة مع الرد عليهم، وبيان المعتقد الصحيح الذي عليه نصوص الكتاب والسنة، وهو: أن للإنسان إرادة ومشيئة، وأنه فاعل حقيقة؛ لكن ذلك كله لا يخرج عن علم الله وإرادته ومشيئته؛ ويدل على ذلك قوله - تعالى -: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ ، وغير ذلك من النُّصوص التي تقَدَّم بيانُها.
- قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "وكذلك لفظ الجبر، إذا قال: هل العبد مَجْبور، أو غير مجبور؟ قيل: إن أراد بالجبر أنه ليس له مشيئة، أو ليس له قدرة، أو ليس له فعل - فهذا باطلٌ؛ فإنَّ العبدَ فاعل لأفعاله الاختيارية، وهو يفعلها بقدرته ومشيئته، وإن أراد بالجبْر أنه خالق مشيئته وقدرته وفعله، فإنَّ الله - تعالى - خالق ذلك كله" .
- وسُئِلَ شيخُنا ابن عثيمين: هل الإنسان مخيَّرٌ أو مسيَّرٌ؟
فأجاب بقوله: "على السائل أن يسأل نفسه: هل أجبره أحد على أن يسأل هذا السؤال؟ وهل هو يختار نوع السيارة التي يقتنيها؟ إلى أمثال ذلك من الأسئلة؛ وسيَتَبيَّن له الجواب هل هو مسيَّر أو مخيَّر.
ثم يسأل نفسه: هل يصيبه الحادث باختياره؟ هل يصيبه المرض باختياره؟ هل يموت باختياره؟ إلى أمثال ذلك من الأسئلة؛ وسيتبيَّن له الجواب هل هو مسيَّر أو مخيَّر.
والجواب: أنَّ الأمور التي يفعلها الإنسان العاقل يفعلها باختياره بلا ريب، واسمع إلى قول الله - تعالى -: ﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ ، وإلى قوله: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَة﴾ ، وإلى قوله: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ ، وإلى قوله: ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ ؛ حيثُ خيَّر الفادي فيما يفدي به.
ولكن العبدَ إذا أراد شيئًا وفعله، علِمْنا أن الله - تعالى - قد أراده؛ لقوله - تعالى -: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ ، فلِكَمال ربُوبيته؛ لا يقع شيءٌ في السموات والأرض إلا بمشيئته، وأمَّا الأمور التي تقع على العبد أو منه بغير اختياره؛ كالمرض، والموت، والحوادث، فهي بمَحْض القدَر، وليس للعبد فيها اختيارٌ ولا إرادة، والله الموفِّق". اهـ .
الفائدة الرابعة:
من خلال ما تقدَّم من بيان اعتقاد الجبْرية في القدَر والرد عليهم، نعرف كيف نرد على مَن يحتجُّ بالقدَر على فِعْل المعاصي، وبيَّن المصنِّف - رحمه الله - أنه لا يحتج بقضاء الله وقَدَرِه في فعل المعاصي؛ من ترْك أوامر، أو فِعْل نواهٍ؛ كمَن يُقال له: لماذا تركتَ الصلاة؟ أو لماذا سرقت؟ فيقول: قضاء وقدَرٌ، هذا شيء مكتوبٌ عليَّ، ولا شك أنَّ هذه حُجَّة باطلة، والرد عليه من عدة وجوه:
1- أن الله - عز وجل - بعث الرُّسُل إلى أقوامهم؛ لئلا يكون للناس حجةٌ؛ فقطع بهم أي حُجَّة، ولو كان الاحتجاجُ بالقدَر صحيحًا، لكان مخالفًا لهذه الآية، في قوله: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ .
2- أن الله - عز وجل - جعل للعبد عملاً يجازى به يوم القيامة ثوابًا وعقابًا؛ فقال - تعالى -: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ ، فأضاف الكسْبَ من العمل إلى العبد، وهذا يدل على أن له اختيارًا يُجازى به، فلا حُجَّة بالقدر حينئذٍ؛ لأنَّ هذا اختياره.
3- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما منكم من أحد إلا وقد كُتِبَ مقعده من النار أو من الجنة))، فقال رجل: ألا نتَّكل يا رسول الله؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا، اعملوا؛ فكلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ له)) .
ووجه الدلالة:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالعمل، ونهى عن الاتِّكال على القدَر، وهذا يدل على أنه لا حجة فيه على عمل المعصية.
4- أن نقول لهذا الذي يحتجُّ بالقدَر على فِعْل المعاصي: ما رأيك لو أنَّ إنسانًا سرَق من بيتك أو سيارتك شيئًا، واحتج بالقدَر، فهل ستعذره بحجته؟ وكذلك لو أنه ضربك أو قتل آخر، واحتج بالقدَر، فهل حجته قوية، أو أنها باطلة؟
لا شك أنه سيقول: إنَّ هذه الحجة باطلة؛ بل منَ السَّفَه الاحتجاج بها، وكذلك في سائر أمور الدنيا لا يحتج بالقدر، فلو قيل له: لا تذهب لوظيفتك، واجْلِس في بيتك، وإذا سألك مُديرُك عن غيابك، فقل: قضاء وقدَرٌ، لا شك أنه لن يقول ذلك، وسَيَرَى أنه من السفَه الاحتجاج بذلك؛ فيقال له: لماذا تحتَجُّ بالقدر في أمور دينك، ولا تحتج به في أمور دنياك، ففرَّقتَ بين هذا وهذا؟! فكما أن لك مشيئة في أمور دنياك في فعلك وتركك، تُجَازَى عليها، فكذلك الحال في أمور دينك - والله أعلم.
وتقدَّم قول ابن القيم في ميميته:
وَعِنْدَ مُرَادِ اللهِ تَفْنَى كَمَيِّتٍ = وَعِنْدَ مُرَادِ النَّفْسِ تُسْدَى وَتُلْحَمُ
وَعِنْدَ خِلافِ الْأَمْرِ تَحْتَجُّ بِالْقَضَا = ظَهِيرًا عَلَى الرَّحْمَنِ لِلْجَبْرِ تَزْعُمُ
الفائدة الخامسة: شبهة في حديثَيْن، والرد عليها:
- الحديث الأول: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((احتجَّ آدمُ وموسى، فقال له موسى: يا آدم، أنت أبونا، خيَّبتنا وأخرَجْتنا من الجنة، قال له آدم: يا موسى، اصطفاك الله بكلامه، وخطَّ لك بيده، أتلومني على أمرٍ قدَّره الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟! فحجَّ آدمُ موسى، فحجَّ آدمُ موسى)) .
وموطن الشبْهة: أنَّ آدم - عليه السلام - احتج بالقدَر على فِعْله، فأثبَتَ له النبي - صلى الله عليه وسلم - صحَّة الاحتجاج، وقال: ((فحَجَّ آدمُ موسى))، وهذا يدلُّ على جواز الاحتجاج بالقدَر على فِعْل المعاصي.
والجواب عن هذه الشبهة أن يُقال: آدم - عليه السلام - لَم يحتج بالقدَر على المعصية؛ لأن الله قد غفر له أَكْلَه من الشجرة، وإنما احتجَّ بالقدَر على المصيبة، وهي الإنزال من الأرض، فموسى - عليه السلام - لم يَقُل لآدم - عليه السلام -: لِمَ تَعْصي ربك؟ ولا يُتَصَوَّر أن موسى يَسْأل ذلك، فضلاً على أن آدم - عليه السلام - قد غفر الله - تعالى - له ذنبه، والإنزال إلى الأرض مصيبةٌ كَتَبَها الله على آدم - عليه السلام - ولذا جاء في رواية الشعبي: "أَلَم تقرأ في التوراة: أنَّ الله - تعالى - كتب أنه سوف ينزلني إلى الأرض، وأنه سيجعلني خليفة في الأرض؟!"؛ وأصل الحديث في البخاري؛ ولذا استدل آدم بالمكتوب المقدَّر على هذه المصيبة، ومن هذا الحديث أَخَذ مذهبُ أهل السنة والجماعة قاعدةً عقدية، وهي: "أنه يحتج بالقدَر على المصائب، ولا يحتج بالقدر على المعايب"، التي هي المعاصي والذنوب؛ ويدل على الاحتجاج بالقدَر على المصائب قوله - تعالى -: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾ ، وأَمَر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأن نقول: "قل: قدَّر الله، وما شاء فعل" .
- الحديث الثاني: حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من نفس منفوسة إلا وكتب الله مقعدها منَ الجنة أو النار))، قالوا: يا رسول الله، أفلا نتَّكل على الكتاب، وندع العمل؟ قال: ((لا، بل اعملوا؛ فكلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِق له)) ، وفي روايةٍ لمسلم ثم قرأ: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ .
وموطن الشُّبهة: أنَّ منَ الناس مَن يحتج بالقدَر على ترْك العمل، فيقول: ما دام أنه كُتِب في اللوح المحفوظ أهل الجنة من أهل النار، فلماذا نعمل؟
والجواب عن هذه الشبهة أن يقال:
أولاً: لا غرابة في هذا السؤال؛ حيث ورد عن الصحابة - كما في الحديث السابق - فقالوا: "يا رسول الله، أفلا نتَّكل على الكتاب وندع العمل؟ وكذلك في حديث جابر عند مسلم؛ حيث قالوا: ففيم العمل؟
ثانيًا: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاب عن هذه الشبهة، فقال لهم: ((اعملوا))، ولَم يجعل ما قالوه حجة تستوقف الإنسان عن العمل، بل أرْشَدَهُم إلى العمل، وهكذا نقول للمسلم، وتَقَدَّم أن العبد لا يُوغل في مسائل القدر؛ حتى لا يدعَ للشيطان مجالاً فيشكِّكه في عقيدته؛ ليدع العمل، فهو إما أن يفسدَ عمل العبد بالشهوات، أو يجعله لا يعمل بإلقاء الشبهات، فعلى العبد أن يؤمن ويعمل وَفْقَ ما جاء من نصوص الكتاب والسنة، فالعبدُ لا يدري ما الذي كُتِب له في اللوح المحفوظ؛ قال الله - تعالى -: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ ، ولكن جاءت النصوص الكثيرة التي تحثُّ على العمل، وأن الإنسان سيُجَازَى بعمله؛ فعليه الاجتهاد.
ثالثًا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الإنسان يُيَسَّر لِمَا خُلِق له بعمله، فيوفِّقه الله لعمل أهل الجنة إن كان من أهلها، ويوفقه لعمل أهل النار إن كان من أهلها، إلا أنه - سبحانه وتعالى - لا يظلم أحدًا، فمَن سعى لعمل أهل الجنة وفَّقَه الله لعملها، ومَن أعرض واستكبر سهَّل الله له طريقًا إلى النار - والعياذ بالله - ولذا في رواية مسلم قرأ قوله - تعالى -: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ .
المبحث السادس: التقدير الكتابي على أقسام:
والمقصود: أنَّ تقدير الله - تعالى - للأشياء وكتابة ذلك في اللوح المحفوظ هو الأصل في هذه الأقسام، وما يأتي بعده من أقسام إنما هو كالتفصيل له:
أولاً: التقدير العام الشامل لكل شيء (التقدير الأصلي):
وهو المكتوب في اللوح المحفوظ من مقادير كل شيء إلى قيام الساعة.
ويدل عليه: حديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقَ السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشُه على الماء)) .
فما كتب في اللوح المحفوظ هو الأصل، وما سيأتي من تقسيمٍ إنما هو بمثابة التفصيل لما كُتِب في اللوح المحفوظ.
ثانيًا: التقدير العمري:
وهذا النوع من التقدير أو الكتابة إنما هو خاصٌّ بكلِّ إنسانٍ على حِدَة، فيُكتب ما يكون في عمره من حيث الرِّزق، والأجَل والعمل، والسعادة أو الشقاء.
ويدل عليه: حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: حدَّثنا الصادق المصدوق: ((إنَّ أحدَكم يجمع خلْقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الرُّوح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد)) .
ثالثًا: التقدير السنَوي (الحولي):
وهو ما يكون في ليلة القدر، ففيها تُكتب مقادير السنة من مَوْت وحياة، ورِزْق ومطر ونحوه، إلى السنة التي تليها؛ ويدل عليه:
1- قوله - تعالى -: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ ، فسُمِّيَت ليلة القدر؛ لأن بها يكون تقدير ما يحصل في تلك السنة، وقوله - تعالى -: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ ، و﴿يُفْرَق﴾؛ أي: يفصل منَ اللَّوْح المحفوظ إلى الصُّحُف التي هي في أيدي الملائكة - كما في أحد أَوْجُه التفسير - وذلك كل سنة في ليلة القدْر.
رابعًا: التقدير اليَوْمي:
وهو التقدير الذي يحصل في كلِّ يَوْم؛ ويدل عليه قوله - تعالى -: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ .
ووجه الدلالة:
أنَّ جمعًا من المفسِّرين قالوا في تفسير هذه الآية: "إنَّ الله - عز وجل - من شأنه في كلِّ يوم أن يُحيي ويُميت، ويخلق ويَرْزُق، ويُعِزَّ قومًا، ويُذِلَّ آخرين، ويَشْفي مريضًا، ويفك عانيًا، ويفرج مكروبًا، ويُجيب داعيًا، ويعطي سائلاً، ويغفر ذنبًا، إلى ما لا يُحصى من أفعاله وأحداثه في خلقه" .
قال ابن القَيِّم: "وكلُّ واحد من هذه التقادير كالتفصيل من القدَر السابق، وفي ذلك دليل على كمال علْمه - سبحانه - وقدرته وحكمته، وزيادة تعريفه الملائكة وعباده المؤمنين بنفسه وأسمائه"، قال: "فاتَّفَقَتْ هذه الأحاديث ونظائرها على أنَّ القدَر السابق لا يمنع العمل، ولا يوجب الاتِّكال عليه؛ بل يوجب الجد والاجتهاد" .
- وتحت هذا المبْحَث مسألتان:
المسألة الأولى: هل يَتَغَيَّر المكتوبُ في التقديرات السابقة؟
فالجوابُ: أنَّ المكتوب الذي بأيدي الملائكة؛ كالتقدير العمري ونحوه، فإنه يَتَغَيَّر، فيزيد وينقص بحسب الأسباب؛ لقول الله - تعالى -: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ ، وأما المكتوب في أُمِّ الكتاب الذي هو عند الله - جلَّ وعلا - في اللوح المحفوظ فلا يَتَغَيَّر؛ قال - تعالى -: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾، فالذي يقبل التغيير من مَحْوٍ وإثبات وتغيير، هو ما كان مكتوبًا في صُحُف الملائكة، كالذي تكتبه الملائكة حين ينفخ في الجنين الروح من أَجَلٍ، ورزقٍ، وعملٍ، وشقي أم سعيد، فإن شاء الله تغييره فَعَلَ - سبحانه وتعالى - بخلاف ما في اللوح المحفوظ فلا يَتَغَيَّر، بل كل ما يحدث من تغيُّر في صُحُف الملائكة، فإنَّه مكتوب في اللوح المحفوظ، لا يُمكن تغييره - والله أعلم.
- قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة:
"الرزق نوعان: أحدهما: ما علمه الله أنه يرزقه، فهذا لا يَتَغَيَّر، والثاني: ما كتبه وأعلم به الملائكة، فهذا يزيد وينقص بحسب الأسباب؛ فإن العبد يأمر الله الملائكة أن تكتبَ له رزقًا، وإن وصل رَحِمَه زاده الله على ذلك؛ كما ثبت في "الصحيح"، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((مَنْ سرَّه أن يُبْسَطَ له في رزقه، وينسأ له في أَثَرِه، فلْيَصِل رحِمه))، وكذلك عُمر داود زاد ستين سنةً، فجعله الله مائة بعد أن كان أربعين، ومن هذا الباب قولُ عمر- رضي الله عنه -: "اللهم إن كنتَ كتبتني شقيًّا، فامحني واكتبني سعيدًا؛ فإنك تمحو ما تشاء وتثبت"، ومن هذا الباب قولُه - تعالى - عن نوح: ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ ، وشواهِده كثيرةٌ.
والأسباب التي يحصُل بها الرزق هي من جُملة ما قدَّره اللهُ وكتَبَه، فإن كان قد تقدَّم بأنه يَرْزق العبد بسَعْيه واكتسابه، ألْهَمَهُ السعي والاكتساب، وذلك الذي قدَّره له بالاكتساب، وما قدَّره له بغَيْر اكتساب؛ كموت موروثه يأتيه به بغَيْر اكتساب.
والسعي سَعْيان:
- سعيٌ فيما نُصِبَ للرِّزْق؛ كالصِّناعة، والتجارة.
- وسعي بالدُّعاء والتوَكُّل، والإحسان إلى الخلْق، ونحو ذلك، فإنَّ الله في عَوْن العبد ما كان العبدُ في عون أخيه". اهـ .
- وقال شيخُنا ابن عثيمين: "هذا المكتوب الذي بأيدي الملائكة عُرْضَةٌ للمَحْو والإثبات؛ لقول الله - تعالى -: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ ؛ أي: أصل أمِّ الكتاب هو اللوح المحفوظ، مكتوبٌ فيه ما يَسْتَقِرُّ عليه العبدُ، لكن ما كان قابلاً للمَحْو والإثبات، فهذا الذي في أيدي الملائكة؛ قال الله - عزَّ وجل -: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ ، انظر: حسنة تُذهب سيئة، تمحوها بعد أن كتبتْ، وهذا باعتبار ما في أيدي الملائكة، أما أمُّ الكتاب الأصل، فمكتوب فيه ما يستقِرُّ عليه العبدُ.
المسألة الثانية: كيف يكون الدُّعاء رادًّا للقضاء والقدَر؟
- قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "قول بعضِهم: إنَّ الدعاء ليس هو إلا عبادة مَحْضة؛ لأنَّ المقدور كائنٌ، دعا أو لَم يدعُ، فيُقال له: إذا كان اللهُ قد جعل الدعاء سببًا لنَيْل المطلوب المقدَّر، فكيف يقعُ بدون الدعاء؟!" .
- وقال ابن القيم: "الدُّعاء من أنفع الأدوية، وهو عَدُوُّ البلاء؛ يُدافعه ويُعالجه، ويمنع نُزوله، ويرفعه أو يخفضه إذا نزل، وهو سلاح، وله مع البلاء ثلاثُ مقامات:
أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه.
الثاني: أن يكونَ أضعف من البلاء؛ فيقوى عليه البلاء، فيصاب به العبد، لكن قد يخففه وإن كان ضعيفًا.
الثالث: أن يتقاوَما، ويمنع كل واحد منهما صاحبه" .
- وقال شيخُنا ابن عثيمين: "الدُّعاء منَ الأسباب التي يحصل بها المدعو، وهو في الواقع يردُّ القضاء، ولا يرد القضاءَ إلا الدعاءُ؛ يعني: له جهتان، فمثلاً: هذا المريض قد يدعو الله - تعالى – بالشِّفاء، فيشفى، فهنا لولا هذا الدعاء لبقي مريضًا، لكن بالدُّعاء شُفِيَ، إلا أنا نقول: إن الله - سبحانه وتعالى - قد قضى بأن هذا المرض يشفى منه المريض بواسطة الدعاء، فهذا المكتوب" .
فائدة:
لا يجوز الدعاء بـ: "اللهم إنِّي لا أسألك رد القضاء، ولكنِّي أسألك اللطف به"؛ لسببَيْن:
الأول: لما فيه منَ التعَدِّي؛ حيث إنَّ هذا اللفظ يُوحي بأن بعض القضاء لا لُطف فيه، وهذا خلاف الصواب؛ فالله - تعالى - لطيفٌ بعباده في كل قضاء قضاه.
الثاني: لأنَّ الدُّعاء يرد القضاء - كما تقَدَّم - والداعي لا يسأل الله ردَّ القضاء، وهذا فيه عدمُ عزيمة على الدعاء، فالواجبُ أن يسأل الله ردَّ القضاء مع ما في دعائه ذلك من مواجهة لقضاء الله - تعالى - ورجح عدمَ الجواز شيخُنا ابنُ عثيمين في فتوى له.
المبحث السابع: الفرْق بين القدَر والقضاء:
اختلف العلماءُ في الفرْق بين القضاء والقدَر:
فقيل: هما بمعنى واحد، ولا فرْق بينهما، واختار هذا القول ابن القيِّم - رحمه الله - وكثيرٌ من أهل العلم.
وقيل: إنهما إذا اجتمعا فكلُّ واحد له معنى، وإذا افترقا بأن ذكر القدر، فإن القضاء يدخل في معناه، وإذا ذكر القضاء، فإن القدَر يدخل في معناه، وإذا اجتمعا بأن ذكر القضاء والقدر، فكلُّ واحد منهما له معنى، فإذا افترقا اجتمعا - أي: في المعنى - وإذا اجتمعا افترقا، فيكون كلُّ واحد له معنى، فيكون معنى القدَر: هو علمُ الله السابق الذي يسبق وُقُوع المقدَّر، فإذا وقع المقدَّر سُمِّي قضاءً؛ ولذا يقول الله - عز وجل -: ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ ، وقال: ﴿وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ﴾ ، فالقدَر هو تقدير الله - تعالى - للشيء في الأزَل، والقضاء قضاؤه به عند وقوعه، واختار هذا القول الشيخ ابن عثيمين .
وأيضًا مما ينبغي ذكرُه تحت هذا المبحث: أن الإيمان بالقدَر يستلزم أن يؤمن العبد بأن الله لا يخلق شرًّا مَحْضًا - أي: لا خير فيه - فهذا لا يُمكن؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والخير كلُّه إليك، والشر ليس إليك)) .
وأما القضاءُ: فقد يكون فيه شرٌّ بالنسبة للإنسان، لا لقضاء الله - عز وجل - ذلك؛ ولذا جاء في دعاء القنوت، الذي رواه الإمام أحمد وغيره: ((وقني شر ما قَضَيْت؛ فإنك تقضي ولا يُقضى عليك))، فقضاءُ الله - تعالى - ليس فيه شرٌّ أبدًا؛ لأنه صادرٌ عن رحمةٍ وحكمةٍ، ولكنه بالنسبة للمخلوقين قد يكون شرًّا، ولو انكشفَ الغيب للعبد؛ لتمَنَّى كثيرًا مما كرهه، وظن أنه شرٌّ، والواقع يشهد لكثيرٍ من ذلك؛ ولذلك قال الله - عز وجل -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ ؛ ولذا ينبغي التَّأدُّب مع الله - جل وعلا - فلا يُنسَبُ الشر إليه - جل وعلا - كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والشر ليس إليك))، وقال الله - عز وجل - عن نبيِّه إبراهيم - عليه السلام -: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ ، فنَسَبَ المرضَ لغير الله، مع أنَّ كل شيء من عند الله - عز وجل - بخلاف عديم الأدب إبليس؛ فإنه قال: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ ، فنسب الغَواية لله في خطابِه؛ ولذا لَم يأت في النصوص نسبة الشر لله - تعالى - مفردًا، فإما ينسب للسبب وهو الخلْق؛ كقوله - تعالى -: ﴿مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ ، ويحذف فاعل الشَّر؛ كقوله - تعالى -: ﴿وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾ .
ويتلخص مما سبق:
أولاً: ينبغي التَّأدُّب مع الله - تعالى - فلا يُنسَب الشَّر إليه - جل وعلا - ويشهد لذلك أمران:
1- أنَّ المتأمِّل لنُصُوص الكتاب والسنة يجد أنَّ الشَّرَّ لا يُنسب لله - تعالى - مفردًا.
2- تأدب الأنبياء مع ربِّهم - جل وعلا - ومن ذلك قول إبراهيم - عليه السلام - كما في قوله - تعالى -: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ .
ثانيًا: أنه ليس في قَدَرِ الله - تعالى - شرٌّ محضٌ، بل قد يكون شرًّا للمخلوقين، وأما بالنسبة للخالق فليس في قدره شرٌّ محضٌ؛ لأنه صادر عن رحمةٍ وحكمةٍ، فإن كان شرًّا من وجه فيما يراه المخلوق، فهو خيرٌ من وجهٍ آخر قد يخفى على المخلوق، وقد أطال في هذه المسألة وأجاد طبيبُ القلوبِ ابنُ القيِّم - رحمه الله - في كتابه: "شفاء العليل في مسائل القضاء والحكمة والتعليل"، فكان مما قال ابن القيم: "أما الشرُّ المحض الذي لا خير فيه، فذاك ليس له حقيقةٌ؛ بل هو العدمُ المحض، فإن قيل: فإبليس شرٌّ محضٌ، والكفر والشرك كذلك، وقد دخلوا في الوجود، فأيُّ خير في وجود إبليس ووجود الكفر؟! قيل: في خلق إبليس من الحِكَمِ والمصالح والخيرات التي ترتَّبَتْ على وجوده ما لا يعلمه إلا الله، كما سننبِّه على بعضه..."، ثم بيَّن ما في ذلك مِنْ خَيْر، فرَاجِعْه في كتابه - رحمه الله .
فائدة:
قول بعض الناس في دعائه: "الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروهٍ سواه" - خلافُ السنة، فالأفضل اجتنابه؛ لسببَيْن:
الأول: لأنه خلاف السُّنَّة؛ فالسنَّة أن يقولَ فيما يكره: "الحمدُ لله على كلِّ حال".
الثاني: لأنَّ هذا يوحي بعدم الرِّضا بالقدَر .

 
فصل
في الإيمان
50 - قال المصنِّف - رحمه الله -:
"والإيمانُ قوْلٌ باللسان، وعمَلٌ بالأرْكان، وعَقْدٌ بالجَنَان، يزيدُ بالطاعة، وينْقُصُ بالعصيان.
51- قال الله - تعالى -: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ ، فجعَلَ عبادَةَ الله - تعالى - وإخلاص القلب، وإقامَ الصَّلاة، وإيتاءَ الزَّكاة، كُله مِن الدِّين.
52- وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَة، أَعْلاَهَا شَهَادَةُ أَن لاَ إِلَهَ إِلا الله، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَن الطرِيق))، فجعَلَ القَوْلَ والعَمَلَ مِن الإيمان.
53- وقال - تعالى -: ﴿فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ ، وقال: ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا﴾ .
54- وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلهَ إِلاَّ الله وَفِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ بُرَّةٍ أَوْ خَرْدَلَةٍ أَوْ ذَرَّةٍ مِنَ الإيمانِ))، فجعَلَهُ متفاضلاً.
الشرح
الإيمان ومعتقد أهل السنة والجماعة فيه هو من أوائل المسائل التي وقع فيها الخلافُ بعد عصر الصحابةِ والتابعين لهم بإحسان، فاختلَفُوا: هل يدخل العملُ في مسمَّى الإيمان؟ وما الذي يدخل في مسمى الإيمان؟ وهل يزيد وينقص؟ إلى غير ذلك مما سيأتي في المباحث القادمة، ففي هذا الفصل عدة مباحث:
المبحث الأول: معتَقَد أهل السنة والجماعة في الإيمان:
- الإيمان في اللغة: هو التصديق والإقرار، وأما في الشرع فكما سيأتي في معتقد أهل السنة والجماعة.
- معتقد أهل السنة والجماعة في الإيمان: أنه - كما قال المصنِّف -: "الإيمان قولٌ باللسان، وعملٌ بالأركان، وعَقْدٌ بالجَنَان"، والمقصود بالأركان: الجوارح، والجَنان هو: القلب، فيكون الإيمان: اعتقاد وقول وعمل؛ اعتقاد بالقلْب، وقوْل باللِّسان، وعمَل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهذا التعريف مما أجْمَعَ علَيْه السلَف - رحمهم الله - ونقل الإجماع غيرُ واحد من أهل العلم؛ كالشافعي، وأحمد، والبخاري، وابن عبدالبر، والبغَوي، وغيرهم، نقلُوا الإجماع بدُخُول العمل والقول في مفهوم الإيمان.
قال البخاري في كتابه "خلق أفعال العباد": "أدركتُ ألفًا من العلماء، كلُّهم يقولون: الإيمان قول وعمل" .
ومثال ذلك ودليله كما يلي:
- مثال الاعتقاد بالقلْب ودليله: حديث عمر بن الخطاب عند مسلمٍ الطويلُ، وسؤال جبريل - عليه السلام - للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام والإحسان؛ فقال - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان: ((أن تؤمنَ بالله، وملائكته، وكُتُبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدَر خيره وشره)) .
- مثال العمَل بالجوارح ودليله: حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - المتَّفق عليه، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبدالقيس: ((أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وتعطوا الخمس منَ المغنم)).
ووجه الدلالة: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث فسَّر الإيمان بالأعمال الظاهرة؛ كإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وإعطاء الخمس، بينما في الحديث الذي قبله فسَّر الإيمان بالأعمال الباطنة التي يعقد عليها القلْب من المغيبات، وأيضًا ما استدل به المصنِّف وهو قول الله - عز وجل -: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ ، حيث جعل الدين - وهو الإيمان - عمل القلب؛ كالإخلاص، وعمل الجوارح؛ كالصلاة والزكاة.
- مثال القول باللِّسان ودليله: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند مسلم؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((الإيمان بضْع وسبْعون شُعبة؛ فأعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياءُ شُعبة من الإيمان)).
ووجه الدلالة: أنه - صلى الله عليه وسلم - جعل منَ الإيمان ما هو قول باللسان؛ كقول: لا إله إلا الله، وأيضًا هو دليل على أنَّ الإيمان عمل بالجوارح؛ كإماطة الأذى عن الطريق، وهو دليلٌ أيضًا على أنَّ الإيمان عمل القلب كالحياء.
- (يزيد بالطاعة) دليله: ما استدل به المصنِّف، وهو قول الله - تعالى -: ﴿فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ في قول الله - تعالى -: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ ، وأيضًا استدل بقوله - تعالى -: ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا﴾ في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾ .
- (ينقص بالمعصية)، دليله: حديث أنَس - رضي الله عنه - المتَّفق عليه في خروج الموحِّدين من النار، يقول الله - عز وجل - لِمُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم -: "انطلق فأَخْرِجْ منها من كان في قلبه مثقال ذرةٍ أو خردلة من إيمان فأَخْرِجْه" الحديث.
ووجه الدلالة: أنَّ من الناس مَن ينقُص إيمانُه، حتى يصيرَ إلى هذا القدر اليسير، وهو الذرة أو الخردلة من الإيمان، وأيضًا ما جاء في الصحيحَيْن: أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلم - وَعَظَ النِّساء فقال: ((ما رأيتُ مِن ناقصات عقْل ودِين أذهبَ لِلُبِّ الرجل الحازم من إحداكن))، فأثبت نُقصان الإيمان وهو الدِّين، والأدلَّة على كلِّ جزئيَّة في هذا التعريف كثيرةٌ وما تقَدَّم بعضُها.
تنْبيه:
في تعريف الإيمان لا يظنُّ ظانٌّ أنَّ القلب لا يتعَلَّق به إلا الاعتقاد، وأنَّ القول والعمل يكون فقط باللِّسان والجوارح، فهذا ليس هو مُراد السلف، بل هذا فَهم المرجئة وغيرهم، حينما نقلوا معتقد أهل السنة والجماعة في الإيمان، وهذا فَهم خاطئ، فقول القلب وعمله يدخل في مفهوم الإيمان؛ ولذا أثر عن السلف أنهم قالوا: "الإيمان قول وعمل"، ويجعلونه شاملاً للظاهر والباطن؛ فالباطنُ: قول القلب وعمله، والظاهر: قول اللسان وعمله وعمل الجوارح؛ ولذا شيخ الإسلام ابن تيمية في "العقيدة الواسطية" جاءَ بتعريف السلَف مُجمَلاً، ثم فصَّله فقال: "ومِن أُصُول أهل السنة والجماعة أنَّ الدين والإيمان قولٌ وعملٌ، قول القَلْب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح".
- فيقال على التَّفصيل مع التمثيل والاستدلال: إن الإيمان:
قول القلب: وهو الاعتقاد والتصديق.
ويدل عليه: حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - السابق وفيه: ((أن تؤمنَ بالله، وملائكته، وكُتُبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)).
- وعمل القلب: وهي الأعمال القلبية؛ كالإخلاص، والخوف، والرجاء، والحياة، وغيرها من الأعمال القلبية.
ويدل عليه: ما استدلَّ به المصَنِّف قول الله - تعالى -: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ ، فالإخلاص عمَلٌ قلبي، وكذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - السابق، وفيه: ((والحياء شُعْبَةٌ منَ الإيمان))، فالحياء عمل قلبي.
- وقول اللسان وعمله: فقول اللسان هو نطقه، وعمله حركاته التي ينشأ عنها النُّطق، ومن أهل العلم من يجعلهما أمرًا واحدًا.
ويدل عليه: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - السابق وفيه: ((الإيمان بضْع وسبعون شُعبة؛ فأعلاها: قول: لا إله إلا الله...)) الحديث، فقول: لا إله إلا الله من شُعَبِ الإيمان، وكذا ذكر الله بالتهليل والتسبيح، والتحميد والتكبير، وسائر أنواع الذِّكر تدخُل في قول اللسان وعمله.
- وعمل الجوارح: ما يقع مِن عمل في أعضاء البدَن؛ كاليدَيْن، والقدمَيْن، وبقية أجزاء البدَن؛ كالقيام، والرُّكوع، والسجود، والصلاة عامة، والحج، وغيرها من الأعمال البدنية.
ويدل عليه: ما استدل به المصنِّف، وهو قولُ الله - عز وجل -: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5]، وكذلك حديث ابن عباس وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبدالقيس في الإيمان: ((شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصَوْم رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم))، فذكر له أعمالاً بدنية.
وأردتُ بهذا التنبيه أنْ أُبيِّن أنَّ عمَل القلب يدْخُل في مفْهوم الإيمان - كما دلَّ علَيْه التفصيلُ السابق - لأنَّ التعريف السابق والذي جاء به المصَنِّف جعل لبعض الفِرَق مدخلاً في إخراج عمَل القلب من مفهوم الإيمان، ولا يعني هذا أنَّ التعريف الذي جاء به المصنف تعريف ناقص، لا، ولكنه قد يسوِّغ لمن عنده فَهْم ناقص في معرفه اعتقاد السلف في الإيمان أن يدخل فيه ما يدخل، والتعريف الذي جاء به المصنف تعريفٌ مشهورٌ متداوَلٌ عند أهْلِ العلم، ولا يُخْرِجُ أحدٌ منهم عملَ القلب من هذا التعريف، بل قول المصنف: "وعمل بالأركان" - أي: الجوارح - فيه دلالة على عمَل القلب؛ لأنَّ القلب أحد جوارح البدَن - والله أعلم.
المبحث الثاني: المخالفون لأهل السنة في الإيمان:
المخالفون لأهل السنة والجماعة في مفهوم الإيمان عدةُ طوائف ندخلها تحت طائفتَيْن:
الطائفة الأولى المرجئة: وهم على أقسام يتفاوتون في إرجائهم:
أولاً: غُلاة المرجئة:
وهؤلاء يقولون: إن الإيمان هو المعرفة فقط؛ أي: معرفة القلب لا غير.
ويلزم من كلامهم أن إبليس مؤمن؛ لأنه يعرف الله، وكذلك فرعون، وقريش، وأبو طالب، وغيرهم من رؤوس الضلال؛ لأنهم يعرفون الله، وهذه طائفة منغَمِسة في الإرجاء؛ ولذلك سُمُّوا غلاةَ المرجئة، وهذا المفهوم للإيمان مَوْجُود اليوم عند غلاة الصُّوفية والجهمية ومَن وافَقهم.
ثانيًا: الكَرَّامية:
وهم يأتون بعد غلاة المرجئة في مفهوم الإيمان؛ فالإيمان عندهم المعرفة وقول اللسان فقط؛ فلا يُدْخِلُون فيه التصديق فضلاً عن العمل، فعندهم أنَّ مَن عرَف الله ونطَق بلسانه كلمة التوحيد فهو مؤمن، فهم يُدْخِلُون المنافق مع المؤمنين؛ فالمنافقون عندهم مؤمنون في الدُّنيا؛ لأنهم ينْطِقون بكلمة التوحيد، ولو أنَّ تصديقهم بقلُوبهم يخالف قولهم، وأما في الآخرة فكفَّار مُخَلَّدُون، هذا اعتقادهم في المنافقين بناءً على مفهومهم للإيمان.
ثالثًا: الأشاعرة:
فهم يُعْتَبَرُون مرجئة في باب الإيمان، فالإيمان عندهم التصديق - أي: الاعتقاد - ووافقهم في ذلك الماتريدية، فمَن اعتقد وصدَّق بقلبه فهو مؤمن، ولو ترك أقوالاً وأعمالاً عِظَامًا فلا تخرجه من الإيمان، ويقال لهم: بناء على قولكم يكون فِرْعون مؤمنًا؛ لأنه كان مُصَدِّقًا، بل تصديقه كان تصديقًا جازمًا؛ لأنَّ الله - عزَّ وجل - سمَّاه يقينًا، واليقين هو التصديق الجازم؛ فقال - تعالى -: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾ ، وكذا اليهود كانوا مصدِّقين بقلوبهم أنَّ محمدًا رسول الله، ومع ذلك لا شَكَّ في كُفْر هؤلاء.
رابعًا: مرجئة الفقهاء:
ومذهبهم أنَّ الإيمان تصديق وقول، فيخرجون العمل، فالإيمانُ عندهم هو اعتقادٌ بالقلْب وقول باللسان فقط، فلم يُدخلوا العمَل في مُسمَّى الإيمان، وهؤلاء يسمَّون مرجئة الفقهاء؛ لأنه مذهب كثير منَ الحنفية، فقد قال به أبو حنيفة - رحمه الله تعالى.
ويُرَدُّ على طوائف المرجئة بأن النصوص الصريحة دلَّت على دخول الاعتقاد والقول والعمل في مسمى الإيمان، وتقدم بعض النصوص في المبحث الأول.
وهناك مَن يعتقد اعتقاد أهل السنة في الإيمان، إلا أن عنده إرجاء، فالإيمان عنده اعتقادٌ وقولٌ وعملٌ، إلا أنَّ العمل عنده ليس شرطَ صحةٍ، وإنما هو شرط كمال، فلا يكفِّر بالأعمال حتى يستحل.
الطائفة الثانية: الخوارج والمعتزلة:
وهؤلاء الإيمان عندهم كأهل السنة والجماعة اعتقاد وقول وعمل، إلا أن الأعمال عندهم شرطٌ في بقاء الإيمان، فمَن فعل معصيةً من كبائر الذنوب خرَج من الإيمان، لكن الخوارج يقولون: إنه كافر، والمعتزلة يقولون: هو في منْزلة بين منْزلتَيْن، لا نقول مؤمن ولا كافر، بل نقول: خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر؛ فهو في منْزلة بين هاتين المنزلتَيْن.
أما أهل السنة والجماعة فإنَّ الأعمال عندهم منها ما هو شرطٌ يكفر بتَرْكه، ومنها ما هو واجبٌ يفسق بتَرْكه، ومنها ما هو مستحبٌّ يجوز له تركه حسب ما تقْتضيه الأدلة.
ويُرَدُّ على الخوارج والمعتزلة بأنه جاءت النصوص الدالة على أن مَنْ فَعَل بَعَضَ الكبائر يبقى مؤمنًا؛ كالقاتل مثلاً، والزاني، والسارق، وشارب الخمر، فهم مؤمنون وإن أُقِيمَتْ عليهم الحدود التي جاء بها الشرع في حقِّهم، ولو كانوا كفَّارًا لوَجَب قتلهم ارتدادًا عن الدين، وهذا يدل على عدم خروجهم عن الإيمان بما فعلوا.
وأهل السنة والجماعة في مفهوم الإيمان وَسَطٌ بين هاتَيْن الطائفتَيْن، بين المرجئة والخوارج معهم المعتزلة.
المبحث الثالث: المخالفون لأهل السنة في زيادة الإيمان ونقصانه:
أيضًا خالف الخوارج والمرجئة مذهب أهل السنة والجماعة في زيادة الإيمان ونقصانه:
- فالمرجئةُ بجميع أقسامها الإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص؛ فالناس فيه سواءٌ؛ لأنَّ الإيمان عندهم التصديق بالقلب فقط؛ فلا يزيد ولا ينقص، فعندهم العبد التقي الذي يعبد الله آناء الليل وأطراف النهار، هو في إيمانه كمن يعصي الله آناء الليل وأطراف النهار بأعماله، فيزني ويسرق ويشرب الخمر وغيرها من المعاصي؛ لأن الأعمال عندهم غير داخله في الإيمان.
- والخوارج والمعتزلة: أيضًا الإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص، وإنما إما أن يذهب جميعه وذلك بفعل الكبيرة، وإما أن يبقى جميعُه، فهو ليس متفاضلاً يزيد وينقص، هذا هو أصْل اعتقادِهم في زيادة ونُقصان الإيمان، على أنَّ المعتزلة يرَوْن أن الإيمان قد يزيد حسب التكليف؛ فالغني الذي عنده مالٌ، التكليفُ عليه أكثر، فهو إن أدى زكاته فهو أكثر إيمانًا من الفقير الذي لا تَجِب عليه الزكاة.
وتقدَّم مذهبُ أهلِ السنة والجماعة، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وتقدَّم الاستدلال على هذا؛ ولذا فإنَّ أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - أعلى الصحابة إيمانًا، بل لن يصلَ أحدٌ لدرجة إيمانِه - رضي الله عنه - قال بكر المُزَني: "ما فاق أبو بكر أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - بصومٍ ولا صلاة، ولكن بشيءٍ وقَرَ في قلبِه" .
المبحث الرابع: من أسباب زيادة الإيمان ونقصانه:
الإيمان يزيد بأمور وبضدها ينقص الإيمان، فمما يزيد الإيمان عشرة أسباب، أسوقها لك مع أدلَّتِها:
أولًا: معرفة الله - جلَّ وعلا - بأسمائه الحُسْنى وصفاته العلى:
ومما يدلُّ على ذلك: قول الله - عز وجل -: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ ، وَوَجْه ذلك أنَّ العلماء أعرفُ الناس بأسماء الله - تعالى - وصفاته، فاستحضروها في دعائهم وفي جميع شؤون حياتهم، حتى كانوا أخْشى الناس، والخشية أثر لقوة الإيمان في قلوبهم، وإلا فالعلْمُ الذي لا يورث هذه الخشية علم مدخولٌ - نسأل الله السلامة والعافية.
قال ابن رجب: "العلم النافعُ يدل على أمرَيْن:
أحدهما: على معرفة الله، وما يستحقه من الأسماء الحسنى والصفات العُلَى والأفعال الباهرة، وذلك يستلزم إجلاله وإعظامه، وخشْيته ومهابته، ومحبته ورجاءه، والتوَكُّل عليه، والرضا بقضائِه، والصبْر على بلائه.
والأمر الثاني: المعرفة بما يُحبه ويرضاه، وما يكرهه وما يسخطه منَ الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة والأقوال، فيوجب ذلك لِمن علمه المسارَعة إلى ما فيه محبة الله ورضاه، والتباعُد عما يكرهه ويسخطه، فإذا أثْمر العلْم لصاحبه هذا فهو علمٌ نافعٌ، فمتى كان العلم نافعًا ووَقَر في القلْب؛ فقد خشع القلب لله وانْكَسر له، وذلَّ هيبةً، وإجلالاً، وخشيةً، ومحبةً، وتعظيمًا" .
وقال أيضًا: "فالعلم النافع ما عرَّف العبدَ بربِّه، ودلَّه عليه حتى عرفه ووحَّده، وأَنِسَ به واستحى من قربه، وعَبَده كأنه يراه" . اهـ.
وإذا وصل العبد إلى عبادة ربه كأنه يراه، لا شك أنَّه وصل إلى مرتبةٍ عظيمةٍ من الإيمان؛ لأنه وصل إلى أعظم المراتب، وهي الإحسان.
ثانيًا: طلب العلْم الشَّرْعي:
ويدل عليه ما تقَدَّم: قول الله - عز وجل -: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ ، فالعلمُ طريق للخشْية التي هي علامةٌ لِمَا وقَرَ في القلْب من إيمان، وذلك يأتي بالعلم النافع - كما تقدَّم - ولذا يقول الإمام أحمد: "أصل العلم الخشية".
وأيضًا لما تكَلَّم أحد الناس عن الإمام الزاهد العابد معروف الكرخي - رحمه الله - في مجلس الإمام أحمد وقال عنه: إنه قصير العلم، نهره الإمام أحمد، وقال: "أمْسِك - عافاك الله - وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف"؛ ولذا جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - طريقًا إلى الجنة فقال: ((مَن سَلَكَ طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة)) .
ثالثًا: التأمُّل في آيات الله الكونية ومخلوقاته - جل وعلا -:
ويدل على ذلك: قول الله - تعالى -: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ ، وقوله - تعالى -: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ ، وقوله: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ﴾ ، فإن العبدَ إذا تفكَّر في آيات الله - تعالى - في هذا الكون، عرف عظمة الله - تعالى - فازْداد إيمانُه، قال عامر بن عبدقيس: "سمعتُ غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - يقولون: إنَّ ضياء الإيمان - أو نور الإيمان - التفَكُّر" .
رابعًا: قراءة القرآن وتدبُّره:
ففي قراءته وتلاوته يزْداد الإيمان، ويدل على ذلك: قول الله - عز وجل - في وصف المؤمنين الصادقين: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ ، وكذلك تدبُّره؛ ففيه أعظم النفع لزيادة الإيمان.
وأما القلوب الغافلة فلا تتدبَّره؛ ويدل على ذلك قول الله - تعالى -: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ ، قال ابن القيِّم - رحمه الله -: "قراءة آية بتَفَكُّرٍ وتفهُّمٍ خيرٌ من قراءة ختْمة بغير تدبُّر وتفَهُّم، وأنفع للقلب، وأدعى في حصول الإيمان، وذوق حلاوة القرآن"، وقال أيضًا: "فليس شيءٌ أنفع للعبد في معاشِه ومعاده، وأقرب إلى نجاته - من تدبُّر القرآن، وإطالة التأمُّل، وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالِم الخير والشر بحذافيرها، وتُثَبِّت قواعد الإيمان في قلبه، وتُشَيِّد بُنيانه، وتُوَطِّد أركانه" .
فإذا تدبَّر العبدُ آيات الله - تعالى - وما فيها من وعدٍ ووعيد، وجنَّة ونار، والأعمال التي تسوق إليهما - زاد إيمانه ويقينه بوَعْد ربِّه ووعيده.
خامسًا: الإكثار من ذِكْر الله - تعالى -:
ويدل على ذلك: قول الله - تعالى -: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي موسى: ((مَثَلُ الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت)) ، فذِكْر الله - عزَّ وجَلَّ - فيه حياةٌ للقلْب؛ فيزداد إيمان العبْد كلما أَكْثَرَ من ذكر ربِّه، ويموت القلب وينقص إيمانُ العبد كلما كان بعيدًا عن ذِكْر ربه، وفي هذا علامة على الغفْلة؛ قال - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ، وقال في وصْف المنافقين الذين مُلِئَت قلوبُهم كفرًا وبُعدًا عن الله - تعالى -: ﴿وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً﴾ ، قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: "لكل شيء جلاءٌ، وإن جلاء القلوب ذكْر الله - عز وجل" .
قال عمير بن حبيب: "الإيمان يزيد وينقص"، فقيل: فما زيادته وما نقصانه؟ قال: إذا ذكرنا ربَّنا وخشيناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسيناه وضيَّعنا فذلك نقصانه" .
وقال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة: "الذكْر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء" .
سادسًا: تقديم ما يُحبه الله ورسوله على هوى النفس:
ويدل على ذلك: حديث أنس قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثٌ مَن كنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان: أن يكونَ الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرءَ لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقْذَفَ في النار)) ، قال ابنُ حجَر: "قال البَيْضاوي: وإنما جعل هذه الأمور الثلاثة عنوانًا لكَمال الإيمان؛ لأنَّ المرء إذا تأمَّلَ أنَّ المنعم بالذات هو الله - تعالى - وأن لا مانح ولا مانع في الحقيقة سواه، وأن ما عداه وسائط، وأنَّ الرسول هو الذي يُبَيِّن مُراد ربه - اقتضى ذلك أن يَتَوَجَّه بكُليَّته نحوه؛ فلا يحب إلا ما يحب، ولا يحب مَن يحب إلا من أجله..." .
ومِن أعظم علامات محبَّة الله ورسوله: تقديمُ ما يُحبُّه الله ورسوله على هوى نفسه؛ قال - تعالى -: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ، وكذا مما يزيد الإيمان الحب في الله، وكراهة الوقوع في الكفر؛ فيبتعد عن كلِّ ما يهوي به إلى ذلك.
سابعًا: حضور مجالس الذكر، والحرص عليها:
ويدل على ذلك حديث حنظلة الأُسيدي قال: "قلت: نَافَقَ حنظلةُ يا رسول الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((وما ذاك؟)) قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنَّا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافَسْنَا الأزواج والأولادَ والضَّيْعَات، نَسِينا كثيرًا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر، لصافَحَتْكم الملائكة على فُرُشِكم وفي طرُقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة)) .
والضَّيعات: هي معاش الرجل؛ من مال، أو حرفة، أو صناعة.
وقال معاذ بن جبل لأحد أصحابه يتذاكر معه: ((اجلس بنا نؤمن ساعة)) ، وقال ابنُ حجَر في "الفتح": "وهو عنِ الأسود بن هلال قال: قال لي معاذ بن جبل: "اجلِسْ بنا نؤمن ساعة"، وفي رواية: "كان معاذ بن جبل يقول للرجُل من إخوانه: "اجلِس بنا نؤمن ساعة، فيجلسان فيذكران الله - تعالى - ويحمدانه" .
قال أبو الدرداء: "كان ابن رواحة يأخذ بيدي ويقول: "تَعَالَ نؤمن ساعة، إن القلب أسرعُ تَقَلُّبًا من القِدْرِ إذا استجمعت غليانها" .
وفي "شُعَبِ الإيمان" للبيهقي: عن عطاء بن يسار: أن عبدالله بن رواحة قال لصاحب له: "تَعَالَ حتى نؤمن ساعة"، قال: أَوَلَسْنا مؤمنين؟! قال: "بلى، ولكنا نذكر الله، فنَزداد إيمانًا".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى": "كان الصحابة - رضي الله عنهم - يجتمعون أحيانًا: يأمرون أحدهم يقرأ والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: يا أبا موسى ذكِّرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون".
ولأنَّ العبد في مجالس الذكر يسمع ما يحُثُّه على طاعةٍ غفل عنها، وما يذكره في معصيةٍ وَقَع فيها؛ لينتهي.
- ويدخل تحت هذا السبب سببٌ آخر من مقوِّيَات الإيمان، وهو مصاحبة الأخيار، وتقدم نماذج للصحابة في ذلك.
ويدل عليه: قول الله - تعالى -: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ ، وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((المرءُ على دين خليله، فلينظر أحدكم مَن يُخالل)) .
قال المباركفوري: "((على دين خليله))؛ أي: على عادة صاحبه، وطريقته، وسيرته، ((فلْيَنْظُر))؛ أي: فليتأمل وليتدبر، ((مَنْ يُخَالل))؛ من المخالَّة، وهي: المصادقة والإخاء، فمَن رضي دينه وخُلُقه، خالِلْه، ومَن لا، تَجنَّبْه، فإن الطباع سرَّاقةٌ، والصحبة مؤثرةٌ في إصلاح الحال وإفساده، قال الغزالي: مجالسة الحريص ومخالطته تحرك الحرص، ومجالسة الزاهد ومخاللته تزهد في الدنيا؛ لأنَّ الطباع مجبولة على التشبُّه والاقتداء" .
قال الشاعر:
عَنِ الْمَرْءِ لا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ = فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي
وقال آخر :
فَصَاحِبْ تَقِيًّا عَالمًا تَنْتَفِعْ بِهِ = فَصُحْبَةُ أَهْلِ الْخَيْرِ تُرْجَى وَتُطْلَبُ
وَإِيَّاكَ وَالْفُسَّاقَ لا تَصْحَبَنَّهُمْ = فَقُرْبُهُمُ يُعْدِي وَهَذَا مُجَرَّبُ
فَإِنَّا رَأَيْنَا الْمَرْءَ يَسْرِقُ طَبْعَهُ = مِنَ الْإِلْفِ ثُمَّ الشَّرُّ لِلنَّاسِ أَغْلَبُ
وفي المثَل: (الصاحب ساحب)، فصاحب الإيمان يسحبه إلى ما فيه زيادة الإيمان، والعكس بالعكس.
وفي الصحيحَيْن، مِن حديث أبي موسى - رضي الله عنه - عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مثَل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسْك ونافخ الكير؛ فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أنْ تَبْتاع منه، وإما أن تجدَ منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يَحْرِقَ ثيابَك، وإما تَجِد ريحًا خبيثة))، و((يحذيك))؛ أي: يعطيك.
والأدلة وأقوال السلف كثيرةٌ في أثر الصُّحْبة الصالحة في زيادة الإيمان.
ثامنًا: البُعد عن المعاصي:
لا شك أنَّ اقتراف المعاصي سببٌ في نقصان الإيمان، والبُعد عنها ومدافعتها سبب زيادته، فمِنْ عقيدة أهْل السنَّة والجماعة: أنَّ الإيمان يَزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وأنَّ من طاعة الله - تعالى - أن يبتعدَ الإنسان عن المعاصي والفتن، فأيُّ عبدٍ أراد أن يعيشَ قلبُه سليمًا من الأمراض لا تضرُّه الفتن ما دامت السموات والأرض؛ فليبتعدْ عنها ولينكرها.
ويدل عليه: حديثُ حذيفة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((تُعْرَض الفتَن على القلوب كالحصير عُودًا عُودًا، فأيُّ قلبٍ أشربها، نُكِتَ فيه نكتةٌ سوداء، وأيُّ قلبٍ أنكرها نُكِتَ فيه نكتةٌ بيضاء؛ حتى تصير القلوب على قلبين؛ على أبيض مثل الصفا، فلا تَضُرُّه فتنةٌ ما دامت السموات والأرض، والآخر أسودُ مرْبَادًّا، كالكوز مُجَخِّيًا، لا يعرف معروفًا ولا يُنكر منكرًا، إلا ما أُشْرِبَ من هواه)) ، و(مُرْبَادًّا)؛ أي: مخلوطًا حمرة بسواد، (كالكوز مُجَخِّيًا)؛ أي: كالكأس المنكوس المقلوب الذي إذا انصبَّ فيه شيءٌ لا يدخل فيه.
قال القاضي عياض: "ليس تشبيهه بالصفا بيانًا لبياضه، لكن صفة أخرى لشدَّته على عقد الإيمان وسلامته من الخلَل، وأن الفتن لم تلصق به، ولم تؤثِّر فيه، كالصفا: وهو الحجر الأملس" .
وهكذا المؤمن كُلَّما كان من الفتن والمعاصي أبعد، كان حفاظه على سلامة قلبه وازدياد إيمانه أكثر، وكلَّما تهاوَن بالذنوب وتَعَرَّض للفتن، كلما نقص إيمانه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "غَضُّ البصر يُورِث ثلاثَ فوائد: حلاوة الإيمان ولذته، ونور القلب، والفراسة، وقوة القلب وثباته وشجاعته" .
قال ابن المبارك:
رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ = وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ = وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا
تاسعًا: الإكثار من النوافل والطاعات:
فكُلَّما أكثر العبدُ مِنَ النوافل، نال ثمراتٍ كثيرةً؛ منها: محبة الله له ومَعِيته؛ فلا يصدر مِن جوارحه إلا ما يرضي الله - جل وعلا - وأيضًا يكون مُجَابَ الدَّعوة، وإذا نال العبدُ هذه الثمرات، زاد إيمانُه؛ لأنه نال محبَّة الله ورضاه عنه، مع ما في النوافل مِن ثمرات.
ويدل عليه: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند البخاري، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله - عز وجل -: ((وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه، كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذَني لأُعيذنه))، فلْيَجْتَهد العبد ويُكثر من النوافل في الصيام، والصلاة، والذكر، وسائر أعمال البر.
عاشرًا: سؤال الله - تعالى - زيادة الإيمان وتجديده:
ويدل عليه: حديث عبدالله بن عمرٍو - رضي الله عنه - وعبدالله بن عُمر - رضي الله عنه - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الإيمان لَيَخْلَقُ في جَوْف أحدكم كما يَخْلَقُ الثَّوب، فاسألوا الله - تعالى - أن يُجَدِّد الإيمان في قلوبكم)) ، وقوله: ((إن الإيمان ليخلق))؛ أي: إنه ليبْلى، فالمؤمن إذا أَحَسَّ بقسْوة في قلْبِه وفتور ونقص في الإيمان، سأل الله - تعالى - أن يُجَدِّدَ الإيمان ويزيده في قلبه، فقد كان السلفُ يحرصون على هذا الجانب، فيسألون الله - عز وجل - زيادة الإيمان، فهذا عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول: "اللهم زِدْنا إيمانًا، ويقينًا، وفقهًا" ، وتقدَّم قولُ معاذ لبعض أصحابه: "اجلس بنا نؤمن ساعة"، وكذلك قول ابن رواحة لأبي الدرداء: "تَعالَ نؤمن ساعة"، وكان أبو الدرداء يقول: "مِنْ فِقْهِ العبد أن يعلم أمُزْدَادٌ هو أو مُنتَقص - أي: من الإيمان - وإن من فقه العبد أن يعلم نزغات الشيطان أنَّى تأتيه".
ما تقدَّم من الأسباب العشرة هي من أهم أسباب زيادة الإيمان، وهناك أسباب أخرى؛ كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وزيارة القبور.
وتأمَّل سيرة النبي - صلَّى الله عليه وسلم - والقراءة في سِيَر السلَف، والاهتمام بأعمال القلوب؛ كالخوف والرجاء، والمحبة والتوكُّل، وغيرها، والدعوة إلى الله - تعالى - والتَّقَلُّل من الدنيا ومن المباحات، والفضول في الطعام والكلام والنظر، وتنويع العبادة، وتَذَكُّر منازل الآخرة، ومناجاة الله - تعالى - والانكسار بين يديه، وتعظيم حُرُماته، والولاء والبَراء.
وبِضِدِّ أسباب زيادة الإيمان نعرف أسباب نقصانه، أسأل الله أن يزيدنا إيمانًا، ويُجَدده في قُلُوبنا.

 
فصل
في الإيمان
50 - قال المصنِّف - رحمه الله -:
"والإيمانُ قوْلٌ باللسان، وعمَلٌ بالأرْكان، وعَقْدٌ بالجَنَان، يزيدُ بالطاعة، وينْقُصُ بالعصيان.
51- قال الله - تعالى -: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ ، فجعَلَ عبادَةَ الله - تعالى - وإخلاص القلب، وإقامَ الصَّلاة، وإيتاءَ الزَّكاة، كُله مِن الدِّين.
52- وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَة، أَعْلاَهَا شَهَادَةُ أَن لاَ إِلَهَ إِلا الله، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَن الطرِيق))، فجعَلَ القَوْلَ والعَمَلَ مِن الإيمان.
53- وقال - تعالى -: ﴿فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ ، وقال: ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا﴾ .
54- وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلهَ إِلاَّ الله وَفِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ بُرَّةٍ أَوْ خَرْدَلَةٍ أَوْ ذَرَّةٍ مِنَ الإيمانِ))، فجعَلَهُ متفاضلاً.
الشرح
الإيمان ومعتقد أهل السنة والجماعة فيه هو من أوائل المسائل التي وقع فيها الخلافُ بعد عصر الصحابةِ والتابعين لهم بإحسان، فاختلَفُوا: هل يدخل العملُ في مسمَّى الإيمان؟ وما الذي يدخل في مسمى الإيمان؟ وهل يزيد وينقص؟ إلى غير ذلك مما سيأتي في المباحث القادمة، ففي هذا الفصل عدة مباحث:
المبحث الأول: معتَقَد أهل السنة والجماعة في الإيمان:
- الإيمان في اللغة: هو التصديق والإقرار، وأما في الشرع فكما سيأتي في معتقد أهل السنة والجماعة.
- معتقد أهل السنة والجماعة في الإيمان: أنه - كما قال المصنِّف -: "الإيمان قولٌ باللسان، وعملٌ بالأركان، وعَقْدٌ بالجَنَان"، والمقصود بالأركان: الجوارح، والجَنان هو: القلب، فيكون الإيمان: اعتقاد وقول وعمل؛ اعتقاد بالقلْب، وقوْل باللِّسان، وعمَل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهذا التعريف مما أجْمَعَ علَيْه السلَف - رحمهم الله - ونقل الإجماع غيرُ واحد من أهل العلم؛ كالشافعي، وأحمد، والبخاري، وابن عبدالبر، والبغَوي، وغيرهم، نقلُوا الإجماع بدُخُول العمل والقول في مفهوم الإيمان.
قال البخاري في كتابه "خلق أفعال العباد": "أدركتُ ألفًا من العلماء، كلُّهم يقولون: الإيمان قول وعمل" .
ومثال ذلك ودليله كما يلي:
- مثال الاعتقاد بالقلْب ودليله: حديث عمر بن الخطاب عند مسلمٍ الطويلُ، وسؤال جبريل - عليه السلام - للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام والإحسان؛ فقال - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان: ((أن تؤمنَ بالله، وملائكته، وكُتُبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدَر خيره وشره)) .
- مثال العمَل بالجوارح ودليله: حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - المتَّفق عليه، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبدالقيس: ((أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وتعطوا الخمس منَ المغنم)).
ووجه الدلالة: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث فسَّر الإيمان بالأعمال الظاهرة؛ كإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وإعطاء الخمس، بينما في الحديث الذي قبله فسَّر الإيمان بالأعمال الباطنة التي يعقد عليها القلْب من المغيبات، وأيضًا ما استدل به المصنِّف وهو قول الله - عز وجل -: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ ، حيث جعل الدين - وهو الإيمان - عمل القلب؛ كالإخلاص، وعمل الجوارح؛ كالصلاة والزكاة.
- مثال القول باللِّسان ودليله: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند مسلم؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((الإيمان بضْع وسبْعون شُعبة؛ فأعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياءُ شُعبة من الإيمان)).
ووجه الدلالة: أنه - صلى الله عليه وسلم - جعل منَ الإيمان ما هو قول باللسان؛ كقول: لا إله إلا الله، وأيضًا هو دليل على أنَّ الإيمان عمل بالجوارح؛ كإماطة الأذى عن الطريق، وهو دليلٌ أيضًا على أنَّ الإيمان عمل القلب كالحياء.
- (يزيد بالطاعة) دليله: ما استدل به المصنِّف، وهو قول الله - تعالى -: ﴿فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ في قول الله - تعالى -: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ ، وأيضًا استدل بقوله - تعالى -: ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا﴾ في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾ .
- (ينقص بالمعصية)، دليله: حديث أنَس - رضي الله عنه - المتَّفق عليه في خروج الموحِّدين من النار، يقول الله - عز وجل - لِمُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم -: "انطلق فأَخْرِجْ منها من كان في قلبه مثقال ذرةٍ أو خردلة من إيمان فأَخْرِجْه" الحديث.
ووجه الدلالة: أنَّ من الناس مَن ينقُص إيمانُه، حتى يصيرَ إلى هذا القدر اليسير، وهو الذرة أو الخردلة من الإيمان، وأيضًا ما جاء في الصحيحَيْن: أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلم - وَعَظَ النِّساء فقال: ((ما رأيتُ مِن ناقصات عقْل ودِين أذهبَ لِلُبِّ الرجل الحازم من إحداكن))، فأثبت نُقصان الإيمان وهو الدِّين، والأدلَّة على كلِّ جزئيَّة في هذا التعريف كثيرةٌ وما تقَدَّم بعضُها.
تنْبيه:
في تعريف الإيمان لا يظنُّ ظانٌّ أنَّ القلب لا يتعَلَّق به إلا الاعتقاد، وأنَّ القول والعمل يكون فقط باللِّسان والجوارح، فهذا ليس هو مُراد السلف، بل هذا فَهم المرجئة وغيرهم، حينما نقلوا معتقد أهل السنة والجماعة في الإيمان، وهذا فَهم خاطئ، فقول القلب وعمله يدخل في مفهوم الإيمان؛ ولذا أثر عن السلف أنهم قالوا: "الإيمان قول وعمل"، ويجعلونه شاملاً للظاهر والباطن؛ فالباطنُ: قول القلب وعمله، والظاهر: قول اللسان وعمله وعمل الجوارح؛ ولذا شيخ الإسلام ابن تيمية في "العقيدة الواسطية" جاءَ بتعريف السلَف مُجمَلاً، ثم فصَّله فقال: "ومِن أُصُول أهل السنة والجماعة أنَّ الدين والإيمان قولٌ وعملٌ، قول القَلْب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح".
- فيقال على التَّفصيل مع التمثيل والاستدلال: إن الإيمان:
قول القلب: وهو الاعتقاد والتصديق.
ويدل عليه: حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - السابق وفيه: ((أن تؤمنَ بالله، وملائكته، وكُتُبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)).
- وعمل القلب: وهي الأعمال القلبية؛ كالإخلاص، والخوف، والرجاء، والحياة، وغيرها من الأعمال القلبية.
ويدل عليه: ما استدلَّ به المصَنِّف قول الله - تعالى -: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ ، فالإخلاص عمَلٌ قلبي، وكذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - السابق، وفيه: ((والحياء شُعْبَةٌ منَ الإيمان))، فالحياء عمل قلبي.
- وقول اللسان وعمله: فقول اللسان هو نطقه، وعمله حركاته التي ينشأ عنها النُّطق، ومن أهل العلم من يجعلهما أمرًا واحدًا.
ويدل عليه: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - السابق وفيه: ((الإيمان بضْع وسبعون شُعبة؛ فأعلاها: قول: لا إله إلا الله...)) الحديث، فقول: لا إله إلا الله من شُعَبِ الإيمان، وكذا ذكر الله بالتهليل والتسبيح، والتحميد والتكبير، وسائر أنواع الذِّكر تدخُل في قول اللسان وعمله.
- وعمل الجوارح: ما يقع مِن عمل في أعضاء البدَن؛ كاليدَيْن، والقدمَيْن، وبقية أجزاء البدَن؛ كالقيام، والرُّكوع، والسجود، والصلاة عامة، والحج، وغيرها من الأعمال البدنية.
ويدل عليه: ما استدل به المصنِّف، وهو قولُ الله - عز وجل -: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5]، وكذلك حديث ابن عباس وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبدالقيس في الإيمان: ((شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصَوْم رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم))، فذكر له أعمالاً بدنية.
وأردتُ بهذا التنبيه أنْ أُبيِّن أنَّ عمَل القلب يدْخُل في مفْهوم الإيمان - كما دلَّ علَيْه التفصيلُ السابق - لأنَّ التعريف السابق والذي جاء به المصَنِّف جعل لبعض الفِرَق مدخلاً في إخراج عمَل القلب من مفهوم الإيمان، ولا يعني هذا أنَّ التعريف الذي جاء به المصنف تعريف ناقص، لا، ولكنه قد يسوِّغ لمن عنده فَهْم ناقص في معرفه اعتقاد السلف في الإيمان أن يدخل فيه ما يدخل، والتعريف الذي جاء به المصنف تعريفٌ مشهورٌ متداوَلٌ عند أهْلِ العلم، ولا يُخْرِجُ أحدٌ منهم عملَ القلب من هذا التعريف، بل قول المصنف: "وعمل بالأركان" - أي: الجوارح - فيه دلالة على عمَل القلب؛ لأنَّ القلب أحد جوارح البدَن - والله أعلم.
المبحث الثاني: المخالفون لأهل السنة في الإيمان:
المخالفون لأهل السنة والجماعة في مفهوم الإيمان عدةُ طوائف ندخلها تحت طائفتَيْن:
الطائفة الأولى المرجئة: وهم على أقسام يتفاوتون في إرجائهم:
أولاً: غُلاة المرجئة:
وهؤلاء يقولون: إن الإيمان هو المعرفة فقط؛ أي: معرفة القلب لا غير.
ويلزم من كلامهم أن إبليس مؤمن؛ لأنه يعرف الله، وكذلك فرعون، وقريش، وأبو طالب، وغيرهم من رؤوس الضلال؛ لأنهم يعرفون الله، وهذه طائفة منغَمِسة في الإرجاء؛ ولذلك سُمُّوا غلاةَ المرجئة، وهذا المفهوم للإيمان مَوْجُود اليوم عند غلاة الصُّوفية والجهمية ومَن وافَقهم.
ثانيًا: الكَرَّامية:
وهم يأتون بعد غلاة المرجئة في مفهوم الإيمان؛ فالإيمان عندهم المعرفة وقول اللسان فقط؛ فلا يُدْخِلُون فيه التصديق فضلاً عن العمل، فعندهم أنَّ مَن عرَف الله ونطَق بلسانه كلمة التوحيد فهو مؤمن، فهم يُدْخِلُون المنافق مع المؤمنين؛ فالمنافقون عندهم مؤمنون في الدُّنيا؛ لأنهم ينْطِقون بكلمة التوحيد، ولو أنَّ تصديقهم بقلُوبهم يخالف قولهم، وأما في الآخرة فكفَّار مُخَلَّدُون، هذا اعتقادهم في المنافقين بناءً على مفهومهم للإيمان.
ثالثًا: الأشاعرة:
فهم يُعْتَبَرُون مرجئة في باب الإيمان، فالإيمان عندهم التصديق - أي: الاعتقاد - ووافقهم في ذلك الماتريدية، فمَن اعتقد وصدَّق بقلبه فهو مؤمن، ولو ترك أقوالاً وأعمالاً عِظَامًا فلا تخرجه من الإيمان، ويقال لهم: بناء على قولكم يكون فِرْعون مؤمنًا؛ لأنه كان مُصَدِّقًا، بل تصديقه كان تصديقًا جازمًا؛ لأنَّ الله - عزَّ وجل - سمَّاه يقينًا، واليقين هو التصديق الجازم؛ فقال - تعالى -: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾ ، وكذا اليهود كانوا مصدِّقين بقلوبهم أنَّ محمدًا رسول الله، ومع ذلك لا شَكَّ في كُفْر هؤلاء.
رابعًا: مرجئة الفقهاء:
ومذهبهم أنَّ الإيمان تصديق وقول، فيخرجون العمل، فالإيمانُ عندهم هو اعتقادٌ بالقلْب وقول باللسان فقط، فلم يُدخلوا العمَل في مُسمَّى الإيمان، وهؤلاء يسمَّون مرجئة الفقهاء؛ لأنه مذهب كثير منَ الحنفية، فقد قال به أبو حنيفة - رحمه الله تعالى.
ويُرَدُّ على طوائف المرجئة بأن النصوص الصريحة دلَّت على دخول الاعتقاد والقول والعمل في مسمى الإيمان، وتقدم بعض النصوص في المبحث الأول.
وهناك مَن يعتقد اعتقاد أهل السنة في الإيمان، إلا أن عنده إرجاء، فالإيمان عنده اعتقادٌ وقولٌ وعملٌ، إلا أنَّ العمل عنده ليس شرطَ صحةٍ، وإنما هو شرط كمال، فلا يكفِّر بالأعمال حتى يستحل.
الطائفة الثانية: الخوارج والمعتزلة:
وهؤلاء الإيمان عندهم كأهل السنة والجماعة اعتقاد وقول وعمل، إلا أن الأعمال عندهم شرطٌ في بقاء الإيمان، فمَن فعل معصيةً من كبائر الذنوب خرَج من الإيمان، لكن الخوارج يقولون: إنه كافر، والمعتزلة يقولون: هو في منْزلة بين منْزلتَيْن، لا نقول مؤمن ولا كافر، بل نقول: خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر؛ فهو في منْزلة بين هاتين المنزلتَيْن.
أما أهل السنة والجماعة فإنَّ الأعمال عندهم منها ما هو شرطٌ يكفر بتَرْكه، ومنها ما هو واجبٌ يفسق بتَرْكه، ومنها ما هو مستحبٌّ يجوز له تركه حسب ما تقْتضيه الأدلة.
ويُرَدُّ على الخوارج والمعتزلة بأنه جاءت النصوص الدالة على أن مَنْ فَعَل بَعَضَ الكبائر يبقى مؤمنًا؛ كالقاتل مثلاً، والزاني، والسارق، وشارب الخمر، فهم مؤمنون وإن أُقِيمَتْ عليهم الحدود التي جاء بها الشرع في حقِّهم، ولو كانوا كفَّارًا لوَجَب قتلهم ارتدادًا عن الدين، وهذا يدل على عدم خروجهم عن الإيمان بما فعلوا.
وأهل السنة والجماعة في مفهوم الإيمان وَسَطٌ بين هاتَيْن الطائفتَيْن، بين المرجئة والخوارج معهم المعتزلة.
المبحث الثالث: المخالفون لأهل السنة في زيادة الإيمان ونقصانه:
أيضًا خالف الخوارج والمرجئة مذهب أهل السنة والجماعة في زيادة الإيمان ونقصانه:
- فالمرجئةُ بجميع أقسامها الإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص؛ فالناس فيه سواءٌ؛ لأنَّ الإيمان عندهم التصديق بالقلب فقط؛ فلا يزيد ولا ينقص، فعندهم العبد التقي الذي يعبد الله آناء الليل وأطراف النهار، هو في إيمانه كمن يعصي الله آناء الليل وأطراف النهار بأعماله، فيزني ويسرق ويشرب الخمر وغيرها من المعاصي؛ لأن الأعمال عندهم غير داخله في الإيمان.
- والخوارج والمعتزلة: أيضًا الإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص، وإنما إما أن يذهب جميعه وذلك بفعل الكبيرة، وإما أن يبقى جميعُه، فهو ليس متفاضلاً يزيد وينقص، هذا هو أصْل اعتقادِهم في زيادة ونُقصان الإيمان، على أنَّ المعتزلة يرَوْن أن الإيمان قد يزيد حسب التكليف؛ فالغني الذي عنده مالٌ، التكليفُ عليه أكثر، فهو إن أدى زكاته فهو أكثر إيمانًا من الفقير الذي لا تَجِب عليه الزكاة.
وتقدَّم مذهبُ أهلِ السنة والجماعة، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وتقدَّم الاستدلال على هذا؛ ولذا فإنَّ أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - أعلى الصحابة إيمانًا، بل لن يصلَ أحدٌ لدرجة إيمانِه - رضي الله عنه - قال بكر المُزَني: "ما فاق أبو بكر أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - بصومٍ ولا صلاة، ولكن بشيءٍ وقَرَ في قلبِه" .
المبحث الرابع: من أسباب زيادة الإيمان ونقصانه:
الإيمان يزيد بأمور وبضدها ينقص الإيمان، فمما يزيد الإيمان عشرة أسباب، أسوقها لك مع أدلَّتِها:
أولًا: معرفة الله - جلَّ وعلا - بأسمائه الحُسْنى وصفاته العلى:
ومما يدلُّ على ذلك: قول الله - عز وجل -: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ ، وَوَجْه ذلك أنَّ العلماء أعرفُ الناس بأسماء الله - تعالى - وصفاته، فاستحضروها في دعائهم وفي جميع شؤون حياتهم، حتى كانوا أخْشى الناس، والخشية أثر لقوة الإيمان في قلوبهم، وإلا فالعلْمُ الذي لا يورث هذه الخشية علم مدخولٌ - نسأل الله السلامة والعافية.
قال ابن رجب: "العلم النافعُ يدل على أمرَيْن:
أحدهما: على معرفة الله، وما يستحقه من الأسماء الحسنى والصفات العُلَى والأفعال الباهرة، وذلك يستلزم إجلاله وإعظامه، وخشْيته ومهابته، ومحبته ورجاءه، والتوَكُّل عليه، والرضا بقضائِه، والصبْر على بلائه.
والأمر الثاني: المعرفة بما يُحبه ويرضاه، وما يكرهه وما يسخطه منَ الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة والأقوال، فيوجب ذلك لِمن علمه المسارَعة إلى ما فيه محبة الله ورضاه، والتباعُد عما يكرهه ويسخطه، فإذا أثْمر العلْم لصاحبه هذا فهو علمٌ نافعٌ، فمتى كان العلم نافعًا ووَقَر في القلْب؛ فقد خشع القلب لله وانْكَسر له، وذلَّ هيبةً، وإجلالاً، وخشيةً، ومحبةً، وتعظيمًا" .
وقال أيضًا: "فالعلم النافع ما عرَّف العبدَ بربِّه، ودلَّه عليه حتى عرفه ووحَّده، وأَنِسَ به واستحى من قربه، وعَبَده كأنه يراه" . اهـ.
وإذا وصل العبد إلى عبادة ربه كأنه يراه، لا شك أنَّه وصل إلى مرتبةٍ عظيمةٍ من الإيمان؛ لأنه وصل إلى أعظم المراتب، وهي الإحسان.
ثانيًا: طلب العلْم الشَّرْعي:
ويدل عليه ما تقَدَّم: قول الله - عز وجل -: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ ، فالعلمُ طريق للخشْية التي هي علامةٌ لِمَا وقَرَ في القلْب من إيمان، وذلك يأتي بالعلم النافع - كما تقدَّم - ولذا يقول الإمام أحمد: "أصل العلم الخشية".
وأيضًا لما تكَلَّم أحد الناس عن الإمام الزاهد العابد معروف الكرخي - رحمه الله - في مجلس الإمام أحمد وقال عنه: إنه قصير العلم، نهره الإمام أحمد، وقال: "أمْسِك - عافاك الله - وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف"؛ ولذا جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - طريقًا إلى الجنة فقال: ((مَن سَلَكَ طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة)) .
ثالثًا: التأمُّل في آيات الله الكونية ومخلوقاته - جل وعلا -:
ويدل على ذلك: قول الله - تعالى -: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ ، وقوله - تعالى -: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ ، وقوله: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ﴾ ، فإن العبدَ إذا تفكَّر في آيات الله - تعالى - في هذا الكون، عرف عظمة الله - تعالى - فازْداد إيمانُه، قال عامر بن عبدقيس: "سمعتُ غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - يقولون: إنَّ ضياء الإيمان - أو نور الإيمان - التفَكُّر" .
رابعًا: قراءة القرآن وتدبُّره:
ففي قراءته وتلاوته يزْداد الإيمان، ويدل على ذلك: قول الله - عز وجل - في وصف المؤمنين الصادقين: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ ، وكذلك تدبُّره؛ ففيه أعظم النفع لزيادة الإيمان.
وأما القلوب الغافلة فلا تتدبَّره؛ ويدل على ذلك قول الله - تعالى -: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ ، قال ابن القيِّم - رحمه الله -: "قراءة آية بتَفَكُّرٍ وتفهُّمٍ خيرٌ من قراءة ختْمة بغير تدبُّر وتفَهُّم، وأنفع للقلب، وأدعى في حصول الإيمان، وذوق حلاوة القرآن"، وقال أيضًا: "فليس شيءٌ أنفع للعبد في معاشِه ومعاده، وأقرب إلى نجاته - من تدبُّر القرآن، وإطالة التأمُّل، وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالِم الخير والشر بحذافيرها، وتُثَبِّت قواعد الإيمان في قلبه، وتُشَيِّد بُنيانه، وتُوَطِّد أركانه" .
فإذا تدبَّر العبدُ آيات الله - تعالى - وما فيها من وعدٍ ووعيد، وجنَّة ونار، والأعمال التي تسوق إليهما - زاد إيمانه ويقينه بوَعْد ربِّه ووعيده.
خامسًا: الإكثار من ذِكْر الله - تعالى -:
ويدل على ذلك: قول الله - تعالى -: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي موسى: ((مَثَلُ الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت)) ، فذِكْر الله - عزَّ وجَلَّ - فيه حياةٌ للقلْب؛ فيزداد إيمان العبْد كلما أَكْثَرَ من ذكر ربِّه، ويموت القلب وينقص إيمانُ العبد كلما كان بعيدًا عن ذِكْر ربه، وفي هذا علامة على الغفْلة؛ قال - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ، وقال في وصْف المنافقين الذين مُلِئَت قلوبُهم كفرًا وبُعدًا عن الله - تعالى -: ﴿وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً﴾ ، قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: "لكل شيء جلاءٌ، وإن جلاء القلوب ذكْر الله - عز وجل" .
قال عمير بن حبيب: "الإيمان يزيد وينقص"، فقيل: فما زيادته وما نقصانه؟ قال: إذا ذكرنا ربَّنا وخشيناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسيناه وضيَّعنا فذلك نقصانه" .
وقال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة: "الذكْر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء" .
سادسًا: تقديم ما يُحبه الله ورسوله على هوى النفس:
ويدل على ذلك: حديث أنس قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثٌ مَن كنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان: أن يكونَ الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرءَ لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقْذَفَ في النار)) ، قال ابنُ حجَر: "قال البَيْضاوي: وإنما جعل هذه الأمور الثلاثة عنوانًا لكَمال الإيمان؛ لأنَّ المرء إذا تأمَّلَ أنَّ المنعم بالذات هو الله - تعالى - وأن لا مانح ولا مانع في الحقيقة سواه، وأن ما عداه وسائط، وأنَّ الرسول هو الذي يُبَيِّن مُراد ربه - اقتضى ذلك أن يَتَوَجَّه بكُليَّته نحوه؛ فلا يحب إلا ما يحب، ولا يحب مَن يحب إلا من أجله..." .
ومِن أعظم علامات محبَّة الله ورسوله: تقديمُ ما يُحبُّه الله ورسوله على هوى نفسه؛ قال - تعالى -: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ، وكذا مما يزيد الإيمان الحب في الله، وكراهة الوقوع في الكفر؛ فيبتعد عن كلِّ ما يهوي به إلى ذلك.
سابعًا: حضور مجالس الذكر، والحرص عليها:
ويدل على ذلك حديث حنظلة الأُسيدي قال: "قلت: نَافَقَ حنظلةُ يا رسول الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((وما ذاك؟)) قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنَّا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافَسْنَا الأزواج والأولادَ والضَّيْعَات، نَسِينا كثيرًا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر، لصافَحَتْكم الملائكة على فُرُشِكم وفي طرُقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة)) .
والضَّيعات: هي معاش الرجل؛ من مال، أو حرفة، أو صناعة.
وقال معاذ بن جبل لأحد أصحابه يتذاكر معه: ((اجلس بنا نؤمن ساعة)) ، وقال ابنُ حجَر في "الفتح": "وهو عنِ الأسود بن هلال قال: قال لي معاذ بن جبل: "اجلِسْ بنا نؤمن ساعة"، وفي رواية: "كان معاذ بن جبل يقول للرجُل من إخوانه: "اجلِس بنا نؤمن ساعة، فيجلسان فيذكران الله - تعالى - ويحمدانه" .
قال أبو الدرداء: "كان ابن رواحة يأخذ بيدي ويقول: "تَعَالَ نؤمن ساعة، إن القلب أسرعُ تَقَلُّبًا من القِدْرِ إذا استجمعت غليانها" .
وفي "شُعَبِ الإيمان" للبيهقي: عن عطاء بن يسار: أن عبدالله بن رواحة قال لصاحب له: "تَعَالَ حتى نؤمن ساعة"، قال: أَوَلَسْنا مؤمنين؟! قال: "بلى، ولكنا نذكر الله، فنَزداد إيمانًا".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى": "كان الصحابة - رضي الله عنهم - يجتمعون أحيانًا: يأمرون أحدهم يقرأ والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: يا أبا موسى ذكِّرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون".
ولأنَّ العبد في مجالس الذكر يسمع ما يحُثُّه على طاعةٍ غفل عنها، وما يذكره في معصيةٍ وَقَع فيها؛ لينتهي.
- ويدخل تحت هذا السبب سببٌ آخر من مقوِّيَات الإيمان، وهو مصاحبة الأخيار، وتقدم نماذج للصحابة في ذلك.
ويدل عليه: قول الله - تعالى -: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ ، وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((المرءُ على دين خليله، فلينظر أحدكم مَن يُخالل)) .
قال المباركفوري: "((على دين خليله))؛ أي: على عادة صاحبه، وطريقته، وسيرته، ((فلْيَنْظُر))؛ أي: فليتأمل وليتدبر، ((مَنْ يُخَالل))؛ من المخالَّة، وهي: المصادقة والإخاء، فمَن رضي دينه وخُلُقه، خالِلْه، ومَن لا، تَجنَّبْه، فإن الطباع سرَّاقةٌ، والصحبة مؤثرةٌ في إصلاح الحال وإفساده، قال الغزالي: مجالسة الحريص ومخالطته تحرك الحرص، ومجالسة الزاهد ومخاللته تزهد في الدنيا؛ لأنَّ الطباع مجبولة على التشبُّه والاقتداء" .
قال الشاعر:
عَنِ الْمَرْءِ لا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ = فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي
وقال آخر :
فَصَاحِبْ تَقِيًّا عَالمًا تَنْتَفِعْ بِهِ = فَصُحْبَةُ أَهْلِ الْخَيْرِ تُرْجَى وَتُطْلَبُ
وَإِيَّاكَ وَالْفُسَّاقَ لا تَصْحَبَنَّهُمْ = فَقُرْبُهُمُ يُعْدِي وَهَذَا مُجَرَّبُ
فَإِنَّا رَأَيْنَا الْمَرْءَ يَسْرِقُ طَبْعَهُ = مِنَ الْإِلْفِ ثُمَّ الشَّرُّ لِلنَّاسِ أَغْلَبُ
وفي المثَل: (الصاحب ساحب)، فصاحب الإيمان يسحبه إلى ما فيه زيادة الإيمان، والعكس بالعكس.
وفي الصحيحَيْن، مِن حديث أبي موسى - رضي الله عنه - عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مثَل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسْك ونافخ الكير؛ فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أنْ تَبْتاع منه، وإما أن تجدَ منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يَحْرِقَ ثيابَك، وإما تَجِد ريحًا خبيثة))، و((يحذيك))؛ أي: يعطيك.
والأدلة وأقوال السلف كثيرةٌ في أثر الصُّحْبة الصالحة في زيادة الإيمان.
ثامنًا: البُعد عن المعاصي:
لا شك أنَّ اقتراف المعاصي سببٌ في نقصان الإيمان، والبُعد عنها ومدافعتها سبب زيادته، فمِنْ عقيدة أهْل السنَّة والجماعة: أنَّ الإيمان يَزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وأنَّ من طاعة الله - تعالى - أن يبتعدَ الإنسان عن المعاصي والفتن، فأيُّ عبدٍ أراد أن يعيشَ قلبُه سليمًا من الأمراض لا تضرُّه الفتن ما دامت السموات والأرض؛ فليبتعدْ عنها ولينكرها.
ويدل عليه: حديثُ حذيفة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((تُعْرَض الفتَن على القلوب كالحصير عُودًا عُودًا، فأيُّ قلبٍ أشربها، نُكِتَ فيه نكتةٌ سوداء، وأيُّ قلبٍ أنكرها نُكِتَ فيه نكتةٌ بيضاء؛ حتى تصير القلوب على قلبين؛ على أبيض مثل الصفا، فلا تَضُرُّه فتنةٌ ما دامت السموات والأرض، والآخر أسودُ مرْبَادًّا، كالكوز مُجَخِّيًا، لا يعرف معروفًا ولا يُنكر منكرًا، إلا ما أُشْرِبَ من هواه)) ، و(مُرْبَادًّا)؛ أي: مخلوطًا حمرة بسواد، (كالكوز مُجَخِّيًا)؛ أي: كالكأس المنكوس المقلوب الذي إذا انصبَّ فيه شيءٌ لا يدخل فيه.
قال القاضي عياض: "ليس تشبيهه بالصفا بيانًا لبياضه، لكن صفة أخرى لشدَّته على عقد الإيمان وسلامته من الخلَل، وأن الفتن لم تلصق به، ولم تؤثِّر فيه، كالصفا: وهو الحجر الأملس" .
وهكذا المؤمن كُلَّما كان من الفتن والمعاصي أبعد، كان حفاظه على سلامة قلبه وازدياد إيمانه أكثر، وكلَّما تهاوَن بالذنوب وتَعَرَّض للفتن، كلما نقص إيمانه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "غَضُّ البصر يُورِث ثلاثَ فوائد: حلاوة الإيمان ولذته، ونور القلب، والفراسة، وقوة القلب وثباته وشجاعته" .
قال ابن المبارك:
رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ = وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ = وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا
تاسعًا: الإكثار من النوافل والطاعات:
فكُلَّما أكثر العبدُ مِنَ النوافل، نال ثمراتٍ كثيرةً؛ منها: محبة الله له ومَعِيته؛ فلا يصدر مِن جوارحه إلا ما يرضي الله - جل وعلا - وأيضًا يكون مُجَابَ الدَّعوة، وإذا نال العبدُ هذه الثمرات، زاد إيمانُه؛ لأنه نال محبَّة الله ورضاه عنه، مع ما في النوافل مِن ثمرات.
ويدل عليه: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند البخاري، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله - عز وجل -: ((وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه، كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذَني لأُعيذنه))، فلْيَجْتَهد العبد ويُكثر من النوافل في الصيام، والصلاة، والذكر، وسائر أعمال البر.
عاشرًا: سؤال الله - تعالى - زيادة الإيمان وتجديده:
ويدل عليه: حديث عبدالله بن عمرٍو - رضي الله عنه - وعبدالله بن عُمر - رضي الله عنه - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الإيمان لَيَخْلَقُ في جَوْف أحدكم كما يَخْلَقُ الثَّوب، فاسألوا الله - تعالى - أن يُجَدِّد الإيمان في قلوبكم)) ، وقوله: ((إن الإيمان ليخلق))؛ أي: إنه ليبْلى، فالمؤمن إذا أَحَسَّ بقسْوة في قلْبِه وفتور ونقص في الإيمان، سأل الله - تعالى - أن يُجَدِّدَ الإيمان ويزيده في قلبه، فقد كان السلفُ يحرصون على هذا الجانب، فيسألون الله - عز وجل - زيادة الإيمان، فهذا عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول: "اللهم زِدْنا إيمانًا، ويقينًا، وفقهًا" ، وتقدَّم قولُ معاذ لبعض أصحابه: "اجلس بنا نؤمن ساعة"، وكذلك قول ابن رواحة لأبي الدرداء: "تَعالَ نؤمن ساعة"، وكان أبو الدرداء يقول: "مِنْ فِقْهِ العبد أن يعلم أمُزْدَادٌ هو أو مُنتَقص - أي: من الإيمان - وإن من فقه العبد أن يعلم نزغات الشيطان أنَّى تأتيه".
ما تقدَّم من الأسباب العشرة هي من أهم أسباب زيادة الإيمان، وهناك أسباب أخرى؛ كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وزيارة القبور.
وتأمَّل سيرة النبي - صلَّى الله عليه وسلم - والقراءة في سِيَر السلَف، والاهتمام بأعمال القلوب؛ كالخوف والرجاء، والمحبة والتوكُّل، وغيرها، والدعوة إلى الله - تعالى - والتَّقَلُّل من الدنيا ومن المباحات، والفضول في الطعام والكلام والنظر، وتنويع العبادة، وتَذَكُّر منازل الآخرة، ومناجاة الله - تعالى - والانكسار بين يديه، وتعظيم حُرُماته، والولاء والبَراء.
وبِضِدِّ أسباب زيادة الإيمان نعرف أسباب نقصانه، أسأل الله أن يزيدنا إيمانًا، ويُجَدده في قُلُوبنا.

 
فصلٌ
في الإخبار بكلِّ ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم-:
- قال المصنِّف - رحمه الله -:
"ويجبُ الإيمانُ بكلِّ مَا أَخبَرَ به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وصَحَّ به النَّقلُ عَنْه فيما شَاهَدْناه، أو غابَ عَنَّا نَعْلَمُ أنَّه حَقٌّ وصِدقٌ، وسواءٌ في ذلك ما عقلناه وجَهِلناهُ، ولم نَطَّلِعْ على حقيقةِ معناه، مِثْل: حديث الإسْراء والمعراج، وكان يَقَظَةً لا مَنامًا، فإنَّ قُريْشًا أنْكَرَته وأَكْبَرَته، ولم تُنْكِر المنامات".
الشرْح
هذا الفصْل ذكرَهُ المصنف؛ لأنه يتعلق بمسألة عظيمة من مسائل الإيمان، وهي التَّسليم والإيمان بكل ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواءٌ شاهدها العبد، أو كانت من الأمور الغيبية، وسواء أدركتْها عقولُنا، أو قصرت عقولنا عنها، فعلى العبد الإيمانُ والتسليم دون الدخول في تأويل أو تحريف؛ لأن الدخول في التأويل والتحريف مما خاض فيه المبتدِعة؛ كالفلاسفة، والعقلانيين، والقرآنيين، والحديث على هذا الفصل تحت المباحث الآتية:
المبحث الأول: عقيدة أهل السنة والجماعة في أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - وشرط ذلك:
أهل السنة والجماعة يؤمنون بكلِّ ما أخبر به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سواء كان ذلك مما يشاهده العبد، أو كان من الأمور الغيبية، وسواء أدركتْها عقولُنا وحواسنا، أو قصرت عن ذلك، إنما هو التصديق والتسليم دون الدخول في تأويل أو تحْريف.
وذكر المصنِّف في هذه الأخبار شرطَيْن؛ فقال: "ويجب الإيمان بكلِّ ما أخْبَرَ به النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحَّ به النقل"؛ إذًا لا بد من شرطَيْن في هذه الأخبار:
الأول: أن تأتي هذه الأخبار بالغيبيات من جهة الشرع، وهذا يؤخَذ من قوله: "بكل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم"، وهذا عامٌّ، سواء ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهة القرآن، أو جهة السنة، أو ما جاء به الصحابة منَ الأخبار الغيبية التي لا مجال للرأي فيها، وأما غيرها من الأشياء غير المدركة، ولَم تأتِ مِن جهة الشرع - كأن تأتي عن طريق الظن - فلا يجب الإيمان بها.
الثاني: أن يكونَ هذا الخبرُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صحيحًا، فيشترط أن يكونَ الحديث أو الأثر صحيحًا، وهذا يؤخَذ من قول المصنف: "وصَحَّ النَّقلُ به"، أما الضعيف فلا يكون مقبولاً، أما الحديث الصحيح - ولو كان مِن قبيل الآحاد - فإنه مقبولٌ عند السلَف - رحمهم الله - بخلاف المبتدعة فلا يقبلون إلا الأحاديث المتواترة، ويردُّون الآحاد، وهناك من المتبدعة مَن لا يقبل الاحتجاج بالسنة مطلقًا، ويرد كل ما جاء بها، ويكتفون بالقرآن فقط، وهؤلاء يسمون بالقرآنيين، حجتهم في ذلك: أنَّ السنة فيها الصحيح والضعيف؛ فنتركها لأجْل ذلك، وهم بذلك تركوا القرآن والسنة؛ إذ إنَّ كثيرًا من نُصُوص القرآن تفسرها السُّنَّة.
وهناك طائفة أعظم ضلالاً وإلحادًا، وهم الفلاسفة والعقلانيون، الذين يُنكرون الخلْق والخالق، ويَرُدُّون كلَّ شيء للطبيعة، وأنها هكذا وجدتْ، ورد عليهم حافظ حكمي في منظومته قائلاً:
وَلا نُصِيخُ لِعَصْرِيٍّ يَفُوهُ بِمَا = يُنَاقِضُ الشَّرْعَ أَوْ إِيَّاهُ يَعْتَقِدُ
يَرَى الطَبِيعَةَ فِي الْأَشْيَاءِ مُؤْثِرَةً = أَيْنَ الطَبِيعَةُ يَا مَخْذُولُ إِذْ وُجِدُوا؟!
وهؤلاء يُسَمَّونَ الفلاسفة الطبيعيون، وهناك قسم آخر من الفلاسفة ويُسَمَّون: الفلاسفة الإلهيين، أو فلاسفة إسلاميين؛ أي: ينتسبون للإسلام، وهؤلاء يُقِرُّون بأن هناك إلهًا، ولكنهم لا يؤمنون بالغيب، ولا شك أنَّ مَن كذَّب بآية من كتاب الله، فقد كفَر باتِّفاق العلماء، هذا باختصارٍ مَنْ خالف أهل السنة والجماعة في هذه العقيدة.
المبحث الثاني: الأمور الغيبية التي ذكرها المصنِّف:
المصنِّف ذَكَر جُملةً منَ الأُمُور الغيبية التي لا بدَّ للعبد أن يؤمنَ بها؛ لأنه صَحَّ نقلُ الشرع بها، وهي:
أولاً: الإسراء والمعراج:
والكلام على الإسراء والمعراج من عِدَّة وجوه:
- معنى الإسراء والمعراج:
الإسراء لغة: السير بالشخص ليلاً.
وشرعًا: سير جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى بيت المقدس ليلاً.
ويدل على ذلك: قوله - تعالى -: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ .
والمعراج لغة: الآلة التي يُعرج بها، وهي المصعد.
وشرعًا: عُرُوج النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأرض إلى السماء، والله أعلم بكيفية الآلة التي عرجت به.
ويدل على ذلك: قوله - تعالى - من أول سورة النجم: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ ، إلى قوله: ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ .
- الإسراء والمعراج ثابتٌ بالكتاب والسنة والإجماع:
فمن الكتاب: قوله - تعالى -: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ ، والأقصى يعني: الأبعد، سمي بذلك؛ قيل: لبُعْده عنْ مكَّة.
ومن السُّنَّة: الأحاديث كثيرة؛ منها: حديث مالك بن صعصعة في الصحيحَيْن، وأيضًا حديث أنس، وحديث أبي ذر، وحديث ابن عباس - رضي الله عنهم - وكلها في الصحيحَيْن، وورد في أحاديث أخرى في غير الصحيحَيْن، حتى ذَكَرَ القاسمي أن حادثة الإسراء والمعراج رواها عشرون صحابيًّا.
وأجمع السلَف - رحمهم الله - على أنه - صلى الله عليه وسلم - أُسْرِيَ وعُرِجَ به.
- والإسراء والمعراج باختصار:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بدابة يُقال لها: البُراق، وصفها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها دون البغل وفوق الحمار، فأسري به من مكة إلى بيت المقدس، ثم ربط دابته هناك بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثم دخل المسجد فصلى فيه ركعتين ثم خرج، فجاءه جبريل - عليه السلام - ثم بدأت رحلةُ المعراج، فعرج به إلى السماء، فوجد في السماء الأولى آدم - عليه السلام - وفي السماء الثانية عيسى ويحيى - عليهما السلام - وفي السماء الثالثة يوسف - عليه السلام - وفي السماء الرابعة إدريس - عليه السلام - وفي السماء الخامسة هارون - عليه السلام - وفي السماء السادسة موسى - عليه السلام - وفي السماء السابعة إبراهيم - عليه السلام - مُسْنِدًا ظهره إلى البيت المعمور، كل نبي من الأنبياء يسلم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يُرَحِّبُ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم رفع للنبي البيت المعمور، وسأل جبريل عنه فأخبره جبريل: أن البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودوا مرة أخرى، ورفعت له سِدْرَةُ المنتهى، ووصفها النبي - صلى الله عليه وسلم - وما فيها من أنهار، وعُرِضَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثةُ أقداح، قَدَحٌ فيه لبن، وقَدَحٌ فيه عسل، وقَدَحٌ فيه خمرٌ، فأخذ الذي فيه اللبن فشرب؛ فقيل له: أصبت الفطرة، ودنا الجبارُ - جل وعلا - ففَرَض عليه وعلى أمته خمسين صلاة، ثم نزل إلى موسى، وأمَرَه موسى أن يرجعَ ويسأل الله - جل وعلا – التخفيف، فسأل الله ذلك؛ فجعلها الله أربعين، فجعل النبي- صلى الله عليه وسلم - يتردَّد بين موسى وبين الله - جل وعلا - وفي كل مرة يأمره موسى أن يسأله التخفيف؛ فجعلها الله أربعين، ثم ثلاثين، ثم عشرين، ثم عشرًا، ثم خمسًا، فقال الله - عز وجل -: "إني أَمْضَيْتُ فريضتي، وخَفَّفْتُ عن عبادي، وأَجْزِي الحسنة عشرًا"؛ أي: إن خمس صلوات بخمسين صلاة، وهذا من فضله - جل وعلا - ثم أُهْبِطَ - صلى الله عليه وسلم - ورَجَع من ليلته إلى المسجد الحرام، وكل ما تقدَّم ذكره هو في الصحيحَيْن.
- مكان الإسراء والمعراج ووقته:
مكانه: بالاتِّفاق أن الإسراء كان من مكة إلى بيت المقدس، وبالاتفاق أن المعراج كان من بيت المقدس.
ويدل على ذلك: قوله - تعالى -: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ ، وحديث مالك بن صعصعة، وأيضًا أنس بن مالك في الصحيحَيْن: يدُلاّن على أن المعراج كان من بيت المقدس.
وأما وقته: لَم يثبت دليلٌ صريحٌ صحيحٌ في تحديد تاريخ الإسراء والمعراج، والذي يُعْرَف من كتب السيرة أنَّ الإسراء والمعراج كانت بعد عام الحزن، الذي تُوُفِّي فيه عَمُّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو طالب، وزوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - خديجة، وفيه طُرِدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - من الطائف، وليس في معرفة تاريخ الإسراء والمعراج كبيرُ فائدة؛ لأنه لا يَتَرَتَّب عليه حكمٌ شرعي، والأقوال في تحديدها كثيرةٌ، وليس هناك نصٌّ صحيح صريحٌ؛ فقيل: قبل البعثة، وقيل: بعد الهجرة، وقيل: قبل الهجرة بخمس، وقيل: بست، وقيل: بسنة وشهرين، حتى بلغتْ أكثر من عشرة أقوال .
- والإسراءُ والمعراج كان برُوحه - صلَّى الله عليه وسلم - وبدنه، وكان يقظةً مَرَّة واحدةً لا منامًا.
وهذا قولُ جُمهور العلماء: أنه كان بروحه وجسده يقظةً لا منامًا مرة واحدة.
ويدل عليه: أن لفظ (عبد) يصدق على الجسد والروح، والله - عز وجل - يقول: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ ، وأيضًا لو كان بروحه فقط، لم يستبعده كفارُ قريش ويُنْكِروه ويستهزئوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه يكون كالرُّؤَى المنامية، ولكنها معجزة جعلَها الله لنبيِّه.
وقيل: الإسراءُ كان منامًا، وقيل: كان بروحه دون جسده، وقيل: كان الإسراءُ مرارًا: مرة بروحه، ومرة بجسده، ومرة يقظة، ومرة منامًا، والصواب كما تقدَّم، وهو قولُ الجُمْهُور - والله أعلم.
قال ابن حجر: "وإلى هذا – يعني: الإسراء والمعراج بالروح والجسد - ذَهَب جمهورُ الأمة من العلماء؛ المحدِّثين، والفقهاء، والمتكلِّمين، وتَوَارَدت عليه الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عن ذلك" .
وإلى هذا ذَهَب ابنُ القيِّم في "زاد المعاد"، ونصر القولَ بأنه عُرِج به بجسده وروحه .
- والاحتفال بليلة الإسراء والمعراج بدعة:
وذلك فعل بعض الجُهَّال حيث يتعبَّدون بالاحتفال بليلة سبع وعشرين من شهر رجب؛ زاعمين أنها هي ليلة الإسراء، والاحتفال بتلك الليلة لَمْ يفْعَلْه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا الصحابة ولا التابعون، فضلاً على أنه لا يُعْرَف تَحْديد هذه الليلة؛ إذ لَم يأتِ دليلٌ صريحٌ صحيحٌ في تحديدها كما تقدَّم بيانُه، وهؤلاء يحتفلون بهذه الليلة، فيجتمعون في المساجد، ويأتي القارئ فيقرأ: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ ، وكذلك الإذاعات وبعض القنوات تستفتح ذلك اليوم بسورة الإسراء، والمذهب الحقُّ وسط بين هؤلاء الذين أفرطوا وغالوا فاحتفلوا في تلك الليلة، ومنهم مَن يجعلها سُنَّة أو عيدًا؛ فابتدع، وبين كفار قريش الذين فرَّطوا وكذبوا بالإسراء والمعراج، وعلى المؤمن كما ذكر المصنف أنْ يقول: آمنَّا وصدَّقْنا بما جاء به نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - وثبت في صحيح الأخبار، ومنها حادثة الإسراء والمعراج.
* * * * * * * *
56- قال المصنِّف - رحمه الله -:
"ومِنْ ذلك أنَّ ملَكَ الموْتِ لمَّا جاءَ إلى موسى - عليه السلام - ليَقْبِضَ روحَهُ لَطَمَهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَرَجَعَ إلى ربِّهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ عَيْنَهُ".
الشرح
ثانيًا: مَجيء ملك الموت لِمُوسى - عليه السلام - فلَطَمَه موسى - عليه السلام - وفَقَأ عينه.
والمقصود من إيراد المصنِّف لهذا الخبر: أنه خبرٌ منَ الأخبار الغيبيَّة، التي أخبر بها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وصحَّ بها النقْل؛ فعلى العبد أن يؤمنَ بما جاء بهذا الخبر، ولا يقول: كيف يَلْطِم موسى مَلَكَ الموت، وكيف يفقأ عينه؟ وهل عرفه؟ وإلى غير ذلك من الأسئلة التي أرادوا بها الإنكار والتكذيب، بل على المؤمن التسليمُ والتصديقُ، وما دام أنه صحَّ الخبرُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا بُدَّ من الإيمان به، ولا يشابه المبتدعة من العقلانيين والفلاسفة وغيرهم من المعتزلة الذين أنْكَرُوا هذا الحديث، وحكَّموا عُقُولَهم؛ لأنهم يُنكرون الأمور الغيبية.
ويدل على هذا الخبر: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "أُرْسِلَ ملكُ الموت إلى موسى - عليه السلام - فلما جاءه صكَّه، ففقأ عينه، فرجع إلى ربه، فقال: أرسلتني إلى عبدٍ لا يريد الموت، قال: فردَّ الله عليه عينه، وقال: ارجع إليه، فقُلْ له: يضع يده على مَتْنِ ثَوْرٍ، فله بما غطَّت يدُه بكل شعرة سنة، قال: أي رب، ثم مَهْ؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رميةً بحجر" .
- قال ابن حجر: "قال ابن خُزيمة: أنكر بعضُ المبتدِعة هذا الحديث، وقالوا: إن كان موسى عرفه، فقد استخفَّ به، وإن كان لَم يعرفه، فكيف لَم يقتص له من فقْءِ عينه؟
والجواب: أن الله لَم يبعث ملكَ الموت لموسى، وهو يريد قبض روحه حينئذٍ، وإنما بعثه إليه اختبارًا، وإنما لطم موسى مَلَكَ الموت؛ لأنه رأى آدميًّا دخل داره بغير إذنه، ولم يعلم أنه ملك الموت، وقد أباح الشارع فقْء عين الناظر في دار المسلم بغير إذْنٍ، وقد جاءت الملائكة إلى إبراهيم وإلى لوطٍ في صورة آدميِّين، فلم يعرفاهم ابتداءً، ولو عَرَفَهم إبراهيم، لَمَا قدَّم لهم المأكول، ولو عرفهم لوط لما خاف عليهم من قومه" .
58- قال المصَنِّف - رحمه الله -:
"وعذابُ القبْرِ ونعيمُه حقٌّ، وقد استعاذَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُ، وأَمَرَ بِهِ في كلِّ صلاةٍ.
59- وفِتْنَةُ القَبْرِ حقٌّ، وسُؤالُ مُنْكَر ونَكيرٍ حقٌّ".
الشرح
رابعًا: القبْر: فتنته، عذابُه، ونعيمُه:
فتنة القبْر هي سؤالُ المَلَكَيْن للميت عن: ربِّه، ونبيه، ودينه، وهي فتنةٌ ثابتة بالكتاب والسُّنَّة والإجماع:
فمن الكتاب: قول الله - عز وجل -: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة﴾ .
ومن السُّنَّة: حديث البَراء بن عازب - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((المسلمُ إذا سُئِلَ في القبر يشهد أن لا إله لا الله وأن محمدًا رسول الله))، فذلك قوله - تعالى -: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة﴾ .
وحديث أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - في حديث صلاة الكُسُوف - وفيه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وإنه قد أُوحِيَ إليَّ أنَّكم تُفتنون في القُبُور)) .
وحديث عائشة: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ((اللهم إنِّي أَعُوذُ بك منَ الكَسَل والهرَم، والمأْثَم والمَغْرم، ومِن فتنة القبْر وعذاب القبر)) ، والأحاديث في هذا كثيرةٌ، وأجمع السلَفُ على إثبات فتنة القبْر.
- ما اسم المَلَكَيْن اللذين يَسْألان المَيِّت؟
روى التِّرمذي في "سُنَنه" حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قُبِرَ الميت - أو قال: أحدكم - أتاه مَلَكان أسودان أزرقان، يُقال لأحدهما: المُنْكَر، والآخر: النكير، فيقولان: ما كنتَ تقول في هذا الرجل؟ فيقول ما كان يقول: هو عبدالله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقولان: قد كُنَّا نعلم أنك تقول هذا، ثم يُفْسَح له في قبْره سبعون ذراعًا في سبعين، ثم ينوَّر له فيه، ثم يُقال له: نَمْ، فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم؟ فيقولان: نَمْ كنومة العروس الذي لا يُوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله مِنْ مَضْجعه ذلك.
وإن كان منافقًا؛ قال: سمعتُ الناس يقولون فقلْتُ مثله، لا أدري، فيقولان: قد كُنَّا نعلم أنك تقول ذلك، فيُقَال للأرض: الْتَئِمِي عليه، فتختلف فيها أضلاعه، فلا يزال فيها مُعَذَّبًا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك)) .
- وجاء في حديثٍ: أنَّ اسم الملكين: مبشِّر، وبَشِير، وفي حديث: أنَّ عددهم أربعة، وأن اسم الثالث والرابع: ناكور، ورمان، وكلها أحاديث ضعيفة.
ومن أهل العلم مَن أنكر تسميتهما بـ(مُنكَر، ونكير)؛ لأنهما اسمان لا يليقان بالملائكة الذين وصفهم الله - عز وجل - بأوصاف الثناء؛ فضعَّفوا الحديث السابق، ورُدَّ هذا القول بأن تسميتهما بذلك ليس لأنهما منكران من حيث ذواتهما، وإنما من حيث إنَّ الميت لا يعرفهما فينكرهما، كما قال إبراهيم - عليه السلام - لأضيافه الملائكة: ﴿قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾ ؛ لأنه لا يعرفهم.
فائدة:
كلمة (مُنْكَر) بفتح الكاف على الصحيح؛ ولذا يقول السيوطي:
وَضَبْطُ مُنْكَرٍ بِفَتْحِ الْكَافِ = فَلَسْتُ أَدْرِي فِيهِ مِنْ خِلافِ
- هل فتنة القبْر خاصَّة بهذه الأمة، أو أنها عامَّة؟
القول الأول: إنَّ السؤال في القبْر خاصٌّ بهذه الأمَّة:
واستدلُّوا:
1- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن هذه الأمة تُبتلى في قبورها)) .
2- وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولقد أوحي إليَّ أنكم تُفتَنُون في قبوركم)) .
والقول الثاني: إنَّ السؤال عامٌّ لجميع الأُمَم:
واختاره ابنُ القيِّم، والقُرطبي، واختاره شيخُنا ابن عثيمين في شرحه للواسطية .
واستدلوا بأدلة العموم منها:
1- قول الله - جل وعلا -: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة﴾ .
2- حديث البَراء الطويل، وفيه: ((إنَّ العبد المؤمن...، وإن العبد الكافر...)) الحديث، وفيه سؤال العبد المؤمن والكافر، وكلمة العبْد تَصْدُق على جميع العباد المؤمنين والكافرين من هذه الأمة وغيرها، وكذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - السابق، وفيه سؤال المؤمِن والمنافق، وغيرها من الأدلة العامة، وهذا القولُ هو الأظْهَرُ - والله أعلم.
والخلاف في الأطفال والمجانين: هل يُسْأَلُون في قبورهم؟
فلم يَرِدْ في النصوص أنَّهُم يُسألون، ولم يردْ أنَّهُم لا يُسألون؛ فمِنْ أهْلِ العلم مَن قال: إنهم يُسْأَلُون؛ لأنَّهُم يدْخُلُون في عُمُوم الأحاديث الدالَّة على السؤال، ومنهم مَن قال: إنَّهُم لا يُسْألون؛ لأنهم غير مكلَّفين، وأنهم وُلِدُوا على الفطرة.
- وهل هناك أحد لا يُفتَن؟
هناك مَن يُستَثْنَى فلا يفتن في القبر:
أولاً: شُهداء المعركة:
فعن رجلٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا رسول الله، ما بالُ المؤمنين يُفْتَنُون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: ((كفى ببَارِقة السيوف على رأسه فتنة)) .
وكذلك الأنبياء؛ لأنَّ الأنبياء يُسْأَلُ عنهم في فتنة القبر، فيقال: مَن نبيُّك؟
ثانيًا: المرابط في سيبل الله:
فعن سلْمان - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم -: ((رباط يوم وليلة خيرٌ من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عَمَلُه الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقُه، وأُمِنَ الفتَّان)) .
- وبعدما يُسْأَلُ العبد في قبره يكون المصير إما النعيم وإما العذاب.
- عذاب القبْر ونعيمه ثابتٌ بالكتاب والسنة والإجماع:
فمنَ الكتاب: قوله - تعالى -: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ ، قال ابن كثير في "تفسيره": "هذه الآية أصلٌ كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البَرْزخ في القبور".
ومن السنة: حديث أنس - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ العبد إذا وُضِعَ في قبْرِه، وتولَّى عنه أصحابه، حتى إنه ليسمع قَرْعَ نِعَالهم - أتاه ملكان فأقعداه، فيقولان له: ما كنتَ تقول في هذا الرجل، محمد - صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال: انظر إلى مقعدك من النار، أبْدَلَكَ الله به مقعدًا من الجنة، فيراهما جميعًا، وأما الكافر - أو المنافق - فيقول: لا أدري، كنتُ أقول ما يقوله الناس، فيقال: لا دريتَ ولا تَلَيْتَ، ثم يُضْرَب بمطرقةٍ من حديد ضربة بين أذنيه، فيصيح صيحة يَسْمَعها من يليه إلا الثقلين)) .
وحديث عائشة في الصحيحين: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ((عذاب القبر حق))، وتقَدَّم حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند التِّرمذي، وحديث عائشة المتَّفق عليه، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعاذ من عذاب القبر، والأحاديث في هذا الباب كثيرةٌ.
- وأجْمَعَ السلَف على إثبات عذاب القبر: بل كل المسلمين يقولون في صلاتهم: "اللهم إنا نعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم..."، ولو كان غير مجمع عليه لما قالوه في صلاتهم، وإنما يُنْكِر ذلك الملاحدة والزنادقة، ونقول لهم: الحمد لله، بِمِثْل هذا يتمَيَّز المؤمن من الزنديق المُلْحِد، وسَلَكْتُم هذا المسلك؛ لأنكم حكَّمتُم عقولكم، فكان مِنْ أقوالهم: لو وضعنا الزئبق في عيني هذا الميت ودفناه، وجئنا إليه من الغد؛ لَوَجَدْنا الزئبق لم يَتَأَثَّر، وأنتم تقولون: إنَّ الملَكَيْن يُجْلِسَان الميت، ويسألانه، وبعدها معذَّبٌ أو منعَّم، وهذه التجرِبةُ تُبطل ما تعتقدون، ولكن هذا هو حال مَنْ طَمَس الله قلوبهم؛ فهم يُحاولون التشكيك في عقيدة المسلم، ويقال لهم: إنَّ الله قادرٌ على أن يعيدَ الزئبق مكانه بعد ذلك، وأيضًا هذه الأمور غيبيَّة لا تُدركها العقول، ولو كل شيء من أمور الغيب كُشِفَ للإنسان على ما يدركه عقله، لَمَا تَمَيَّز المؤمنُ منَ المُلحِد، ولكنها صفات المؤمنين: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ .
- عذاب القبر يسمعه كلُّ شيء إلا الجن والإنس:
ويدل على ذلك: ما تقدَّم من حديث أنس - رضي الله عنه - المتفق عليه، وفيه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثم يُضْرَبُ بمطرقة من حديد ضربةً بين أذنيه؛ فيصيح صيحةً يسمعها ما يليه إلا الثقلَيْن)).
- لماذا أخفى الله - عز وجل - عذاب القبر؟
أخفى الله - عز وجل - عذاب القبر لعِدَّة حِكَم؛ منها:
1- رحمته - جل وعلا – بعباده؛ إذ لو كَشَف العذابَ لهم، لتنكَّد عيشهم، وتواصلتْ أحزانُهم.
2- أن في كشف العذاب فضيحة للميت.
3- أن في كشْف العذابِ عدم تدافن الناس بعضهم لبعض، فلو كُشِفَ العذاب لما دَفَن أحدٌ ميتًا؛ خوفًا من سوء العاقبة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لولا ألا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر)) .
- عذاب القبر أو نعيمه حاصل لكلِّ إنسان أيًّا كان:
سواءٌ أُحْرِقَ أو غرق، أو أكلتْه السباعُ والطيور، أو مات على أيَّة حال كان، فإنه بموته ينتقل لحياته البرزخية؛ سواءٌٌ دُفِنَ أو لَم يُدفن؛ وذلك لأنَّ الإنسان مُرَكَّب من جسَد وروح، وهذه الروح بعد الموت تخرج من الجسد، فتبقى إمَّا مُعَذَّبة أو مُنَعَّمَة.
وهل عذاب القبر أو نعيمه على الروح أو البدَن؟
قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة: "مذهبُ سلَف الأمة وأئمتها: أن العذاب والنعيم يحصل لروح الميت وبدنه، وأنَّ الروح تبقى بعد مُفارقة البدَن مُعَذَّبة أو مُنَعَّمَة، وأنها تتَّصل بالبدَن أحيانًا؛ فيحصل له معها النعيم والعذاب" .
فائدة:
تقدَّم أنَّ مذهبَ سلَف الأمة: أن عذاب القبر يكون على البدَن والروح، فالرُّوح تتعَلَّق بالبدَن في خمسة مواطن:
1- تعلقها في بطن الأم جنينًا.
2- تعلقها به بعد ولادته.
3- تعلقها به في حال النوم.
4- تعلقها به في البرزخ.
5- تعلقها به يوم البَعْث.
- وهل يستمر عذاب القبر؟
قال شيخُنا ابن عثيمين: "أمَّا إذا كان الإنسانُ كافرًا - والعياذ بالله - فإنه لا طريق إلى وُصُول النعيم أبدًا، ويكون عذابُه مُسْتَمِرًّا، وأمَّا إن كان عاصيًا وهو مؤمن، فإنه إذا عُذِّب في قبره يعُذَّب على قدْر ذُنُوبه، وربما يكون عذاب ذنوبه أقل من البرزخ الذي بين موته وقيام الساعة، وحينئذ يكون منقطعًا" .
- وهل يستفيد المسلمُ من فتنة القبر بتخفيف سيئاته أو محوها؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "السبب الثامن: ما يحصل في القبر من الفتنة والضغطة والروعة، فإن هذا مما يُكَفَّر به الخطايا" .
وقال أيضًا: "ما يحصل للمؤمن في الدنيا والبَرْزخ والقيامة من الأَلَم التي هي عذاب، فإن ذلك يُكَفِّر الله به خطاياه؛ كما ثبت في الصحيحين، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا حزن ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها إلاَّ كفَّر الله به من خطاياه)) .
- أسباب عذاب القبر:
1- النميمة.
2- عدم التنَزه من البول:
ويدل على ذلك: حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه مَرَّ على قبْرَيْن فقال: ((إنهما ليعذبان، وما يعذَّبان في كبير؛ أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة...)) .
فائدة:
الاسْتِنْزاه من البول يكون بأمرَيْن:
الأول: أن يتحَرَّزَ الإنسان من رَشَاشِ البول أن يصيبه أو يصيب ثيابه، وذلك بأن يتبوَّل في مكانٍ رخو من الأرض، ولا يتبوَّل في مكان صلب؛ فيرجع رذاذ البول على جسمه أو ثيابه.
الثاني: أنه إذا أصابَهُ البولُ يبادر إلى غسله وإزالته؛ لأن هذا من الاستنْزاه، وهذا يجب عليه فِعْله.
3- الغِيبَة:
قال ابن حجَر في "الفتح": "وأخْرَجَ أحمد والطبراني بإسناد صحيح، عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: "مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقَبْرَيْن، فقال: ((إنهما يُعَذَّبان، وما يُعَذَّبان في كبير، وبكى - وفيه -: وما يعذبان إلا في الغيبة والبَوْل))، ولأحمد والطبراني أيضًا من حديث يعلى بن شبابة - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على قبر يُعذَّب صاحبه فقال: ((إن هذا كان يأكل لحوم الناس، ثم دعا بجريدة رطبة)) .
4- الغلول من الغنيمة:
والغلول: هو السَّرِقة مِنْ مال الغنيمة قبل قسمتها، والغلول من الغَنيمة من أسباب عذاب القبْر.
ويدل على ذلك: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خَرَجْنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خَيْبر، فلم نغنم ذهبًا ولا ورقًا، غنمنا المتاع والطعام والشراب، ثم انطلقنا إلى الوادي ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبدٌ له، فلمَّا نزلنا قام عبد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحل رحله، فرُمِيَ بِسَهْمٍ فكان فيه حتفُه، فقلنا: هنيئًا له الشهادةُ يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((كلا، والذي نفس محمد بيده؛ إن الشملة لتلتهب عليه نارًا، أخذها من الغنائم يوم خيبر لَم تصبها المقاسم، ففزع الناس)) .
- وهناك أسبابٌ لعذاب القبر:
جاءتْ في حديث طويل رواه البخاري، من حديث سَمُرة بن جندب، في قصة رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - مع المَلَكَيْن فرأى أنواعًا من عذاب القبْر، وذكر له الملكان سبب كل عذاب رآه ومن ذلك:
5- هجر القرآن الكريم ورفضه.
6- النوم عن الصلاة المكتوبة:
ويدل على ذلك: ما جاء في حديث سمُرة بن جندب - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في قول الملكين: ((أما الرجل الأول الذي أتيتُ عليه يُثلغُ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة))، قال ابن حجَر في "الفتح": "ويحتمل أن يكونَ التعذيبُ على مجموع الأمرين: ترك القراءة، وترك العمل" .
7- الكَذِب:
ويدلُّ على ذلك: ما جاء في حديث سَمُرة بن جندب - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في قول الملكين: ((وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق))، قال ابن حجر: "وإنما استحقَّ التعذيب؛ لما ينشأ عن تلك الكذبة من المفاسد، وهو فيها مختارٌ غير مكره ولا مُلجَأ، قال ابن هُبَيْرَة: لما كان الكاذبُ يساعد أنفه وعينه ولسانه على الكذب بترويج باطله؛ وقعت المشاركة بينهم في العقوبة" .
8- الزنا:
ويدلُّ على ذلك: ما جاء في حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في قول الملكين: ((وأما الرجال والنساء الذين في مثل بناء التَّنُّور، فهم الزُّنَاة والزَّواني))، وفي أول الحديث قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فانطلقنا فأتينا على مثل التنور، فإذا فيه لَغَطٌ وأصواتٌ، قال: فاطَّلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عُراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم))، قال ابن حجر: "مُناسَبة العُرْيِ لهم؛ لاستحقاقهم أن يفضحوا؛ لأن عادتهم أن يستتروا في الخلوة فعوقبوا بالهَتْكِ، والحكمة في إتيان العذاب من تحتهم: كون جنايتهم من أعضائهم السفلى" .
9- أكْل الرِّبا:
ويدلُّ على ذلك: ما جاء في حديث سَمُرة بن جندب - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في قول الملكين: ((وأما الرجل الذي أتيتَ عليه يسبح في النهر ويُلقم الحجر، فإنه آكل الربا))، قال ابنُ حجَر: "قال ابن هُبَيْرَة: إنما عُوقِبَ آكلُ الربا بسباحته في النهر الأحمر وإلقامه الحجارة؛ لأن أصل الربا يجري في الذهب والذهب أحمر، وأما إلقام الملك له الحجرَ، فإنه إشارةٌ إلى أنه لا يُغْنِي عنه شيئًا، وكذلك الربا فإنَّ صاحبَه يتخيَّل أن ماله يزداد، والله من ورائه يمَحَقُه" .
وقد ذَكَر ابنُ القيِّم أسباب عذاب القبر، والأسباب المنجية منه، فانظُر للاستزادة كتابه "الرُّوح".
 
 
قال المصنِّف - رحمه الله -:
"والبَعْثُ بعْدَ الموْتِ حقٌّ، وذلك حين يَنْفُخُ إسرافيلُ - عليه السلام - في الصُّور: ﴿فَإِذَا هُمْ مِنْ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ﴾ .
الشرح
خامسًا: النفْخُ في الصُّور:
الصور لغةً: القرن.
وشرعًا: قرن عظيم التَقَمَه إسرافيل، وينتظر الأمرَ بالنفخ فيه.
- النفخ في الصور ثابتٌ بالكتاب والسُّنَّة والإجْماع:
فمنَ الكتاب: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُون﴾ ، وقوله - تعالى -: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا﴾ ، والآيات في هذا كثيرةٌ.
ومن السُّنَّة: حديث عبدالله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثم ينفخ في الصُّور، فلا يسمعه أحد إلا أصغى لِيتًا، ورفع لِيتًا، ثم لا يبقى أحد إلا صُعِقَ)) .
واللِّيت: بكسر اللام وهي صفحة العنق، وأصغى؛ أي: أمال.
وأجمع السلَف على إثبات النفخ في الصور، وأن إسرافيل - وهو أحد الملائكة - هو الموكَّل بالنفخ فيه.
- عدد النفخات:
اختلفَ أهل العلم في عدد النفخات على قولين:
القول الأول: إنها نفختان: نفخة يصعق فيها الناس، ونفخة يبعثون من قبورهم، نفخة الصعق ونفخة البعث؛ واستدلوا:
1- بقول الله - تعالى -: ﴿مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ﴾ ، ووجه الدلالة: أنَّ في الآية نفختين فقط؛ الأولى: وهي نفخة الصعق في قوله: ﴿مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ﴾ ، والثانية: في قوله: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ﴾ ، وهذه نفخة البَعْث.
2- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما بين النفختين أربعون))، قالوا: يا أبا هريرة أربعين يومًا؟ قال: أبيت، قالوا: أربعين شهرًا؟ قال:أبيت، قالوا: أربعين سنة؟ قال: أبيت .
وموطن الشاهد: ((ما بين النفختين))، وهذا يدل على أنهما نفْختان فقط.
والقول الثاني: إنهما ثلاث نفخات: نفخة الفزَع، ونفخة الصعق، ونفخة البعث.
واستدلوا: بقوله - تعالى -: ﴿وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ ، فقالوا: هذه نفْخة الفزَع، وقوله - تعالى -: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ ، ففي هذه الآية نفختان: نفخة الصعق، ونفخة البعث، ومجموع النفخات الثلاث، والله أعلم بالراجح.
- صاحب الصور التَقَمَ القرن مُسْتَعِدٌّ للنفخ:
ويدل على ذلك: حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كيف أََنْعَم، وقد التقم صاحب القرنِ القرنَ، وحنى جبهته، وأصغى سمعه ينتظر أن يُؤمَرَ أن ينفُخَ فينْفُخَ؟!)) .
* * * * * * * *
قال المصنف - رحمه الله -:
"والبَعْثُ بعْدَ الموت حقٌّ، وذلك حين يَنْفُخُ إسرافيلُ - عليه السلام - في الصُّور: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ﴾ ".
الشرح
سادسًا: البعث:
تعريفه:
البعْث لغةً: الإرسال، والنشر.
وشرعًا: إحياء الأموات يوم القيامة.
- البعث دلَّ عليه الكتاب والسنة والإجماع:
فمن الكتاب: قوله - تعالى -: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ .
ومن السنَّة: حديث جابر عند مسلم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يبعث كل عبد على ما مات عليه)).
وأجمع السلَف على إثبات البعْث ليوم القيامة.
- لعظم أمر البعث؛ جاء إثباتُه في القرآن والسنة بطُرُق كثيرة:
- فتارةً بالتَّصْريح: كقوله - تعالى -: ﴿قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ ، وقوله: ﴿وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾ .
- وتارة بتذكير الإنسان بنشأته الأولى:
كقوله - تعالى -: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾ .
- وتارة بالاستدلال بإنبات النبات على إحياء الأموات:
كقوله - تعالى -: ﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ .
- وتارة بالإشارة والتأمُّل في خلْق السموات والأرض:
كقوله - تعالى -: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ .
- وتارة بتَنْزيه الله عن العبث:
إذ إنَّه لو لَم يكنْ هناك بعث، لكانتِ الأوامر والنواهي والجزاء من العبَث؛ كقوله - تعالى -: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ﴾ .
- وتارة بذِكْر القصص والوقائع التي تدل على البعث:
كقصة الذي مرَّ على قرية، وهي خاويةٌ على عُرُوشِها، فأماتَهُ الله مائة عام ثم بَعَثَهُ، وقصة قتيل بني إسرائيل، وقصة الذين أُخْرِجُوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وقصة إبراهيم والطيور الأربعة، وقصة أصحاب الكهف.
- لابُدَّ من الإيمان بأنَّ البَعْث جَمْع مُتَفَرِّق، لا إيجاد معدوم:
فبَعْثُ الخلْق إنما يُعيد الله خَلْقَ الإنسان الذي تفرَّق، وليس إيجادًا لخَلْقٍ جديدٍ.
ويدل على ذلك: قوله - تعالى -: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ ، وقوله - تعالى -: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ .
- كل إنسان يُبعَثُ على ما مات عليه:
ويدل على ذلك: حديث جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يبعث كلُّ عبدٍ على ما مات عليه)) .
قال النوَوي: "قال العلماء: معناه: يبعث على الحالة التي مات عليها" .
وقال ابن القَيِّم: "الرجل يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه"، ولهذا المعنى أدلَّة وشواهد؛ منها:
1- المحرم إذا مات بُعث يوم القيامة ملبِّيًا؛ لحديث ابن عباس في الصحيحَيْن في الرجل الذي وَقَصَتْه ناقته وهو مُحْرِمٌ مع النبي في حجة الوداع، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اغسلوه بماء وسدر، وكفِّنوه في ثوبين، ولا تُحَنِّطُوه، ولا تُخَمِّروا رأسَه؛ فإنه يُبْعَثُ يوم القيامة مُلَبِّيًا)).
2- الشهيد يُبْعَث يوم القيامة وجُرحه يثعب دمًا، اللون لون الدم، والرِّيح ريح المسك؛ دلَّ عليه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المتفق عليه: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يُكْلَم أحدٌ في سبيل الله - والله أعلم بمن يُكْلم في سبيله - إلا جاء يوم القيامة وجُرحه يَثْعَبُ دمًا، اللون لون دم، والرِّيح ريح مِسْك)).
3- الغالُّ من الغنيمة، يأتي يوم القيامة بما غلَّ؛ لقوله - تعالى -: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ .
قال القرطبي: "﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾؛ أي: يأتي به حاملاً له على ظهره ورقبته، معذبًا بحمْله وثقله، ومرعوبًا بصَوْته، ومُوَبخًا بإظهار خيانته على رُؤُوس الأشهاد" .
4- آكل الرِّبا، يبعث يوم القيامة على حال مُعَينة استحَقَّها لأكلِه الربا، فإنه يُبعث يوم القيامة كالمجنون الذي أصابَه المسّ؛ لقوله - تعالى -: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ .
قال ابن كثير: "أي: لا يقومون مِن قُبُورهم يوم القيامة، إلا كما يقوم المصْرُوع حال صرعه، وتخبُّط الشيطان له، وذلك أنه يقوم قيامًا منكرًا، وقال ابن عباس: آكلُ الرِّبا يُبْعَثُ يومَ القيامة مجنونًا يُخْنَقُ"؛ رواه ابن أبي حاتم، قال: وروي عن عوف بن مالك، وسعيد بن جبير، والسُّدِّي، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان نحو ذلك" .
5- الغادر، فإنه يوم القيامة تُرفَع له راية تُبَيِّن غدرته، لا سيما مَن كانتْ له ولاية عامة؛ بأن كان سُلطانًا على عامَّة الناس؛ لأنه إذا غدر فغدرته يتَعَدَّى ضرَرُها إلى خلْقٍ كبيرٍ؛ ويدل على ذلك حديث ابن عمر - المتَّفق عليه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، يُرْفَعُ لكل غادر لواء، فقيل: هذه غدرة فلان ابن فلان))، وفي رواية لمسلم من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -: ((ألا ولا غادر أعظم غدرًا من أمير على عامَّة)).
فالغالُّ وآكلُ الربا والغادر، كلُّها أعمالٌ استمرَّ عليها أصحابها حتى ماتوا؛ فيُبعَثُون يوم القيامة على حالٍ تُنَاسِبُ ما ماتوا عليه؛ لأنهم لو تابوا قبل الموت لتابَ الله عليهم، وما تقدَّم بعض الشواهد التي دلَّت عليها النصوص وتبقى عمومُ الأعمال تدخل تحت قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يُبعَث كلُّ عبدٍ على ما مات عليه))؛ ولذا ينبغي على المسلم أن يحسنَ العمَل؛ لتحسن الخاتمة، فيحسن الحال التي يبعث عليها.
قال ابنُ القَيِّم: "وهذا من أعظم الفقه أن يخافَ الرجل أن تخدعه ذنوبه عند الموت، فتحول بينه وبين الخاتمة الحسنة".
وقال الحافظ عبدالحق الإشبيلي: "ولسوء الخاتمة - أعاذنا الله منها - أسبابٌ، ولها طُرُق وأبواب، وأعظمها الانكباب على الدُّنيا وطلبها والحِرْص عليها، والإعراض عن الآخرة، والإقدام والجُرْأة على معاصي الله"، والكلام على الخاتمة الحسَنة والسيئة باب تَطُول معه أخبار السلَف خوفًا، وعملاً، وضربًا لأروع الأمثال - والله المستعان.
* * * * * * * *
60- قال المصنف - رحمه الله -:
"ويُحْشَرُ النّاسُ يومَ القيامةِ حُفَاةً عُراةً غُرْلاً بُهْمًا، فيقفون في موْقفِ القيامةِ".
الشرح
سابعًا: الحشر:
- تعريفه: لغة: الجمع.
وشرعًا: جَمْع الخلائق يوم القيامة؛ لحسابهم والقضاء بينهم.
- والحشر الوارد في النصوص أربعة أنواع:
- اثنان في الدنيا:
 أحدهما: المذكور في سورة الحشر: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾ .
والثاني: الحشر المذكور في أشراط الساعة، ويكون في آخر الدنيا؛ كما جاء في حديث حذيفة بن أسيد مرفوعًا: ((إنها لن تقوم الساعة حتى تروا قبلها عشر آيات))، وفي آخر الحديث: ((وآخر ذلك: نارٌ تخرج من اليمن، تَطرُد الناس إلى محشرهم)) ، وعند البخاري من حديث أنس - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((أما أول أشراط الساعة فنارٌ تحشر الناس من المشرق إلى المغرب))، فهي ابتداءً تخرج من اليَمَن، ثم تنتشر من المشرق إلى المغرب، وقيل في الجمع غير ذلك، وجاءت آثار تدل أنها تحشرهم إلى أرض الشام.
- واثنان في الآخرة:
أحدهما: حشر الأموات من قبورهم بعد البعث إلى موقف الغاية، وهو مراد المصنف، وسيأتي الاستدلال عليه.
والثاني: حشر الناس إلى الجنة أو النار؛ كما قال - تعالى -: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا﴾ ، وقوله ﴿وَفْدًا﴾؛ الوافد: من يأتي إلى الملك في أمر عظيم ينتظر منه الكرامة والنعمة والضيافة - نسأل الله من فضله.
هذه الأربعة الأنواع هي الواردة في النصوص في الحشر، ومقصود المصنف هو الثالث، وذكر القرطبي هذه الأنواع الأربعة، ونقلها عنه ابن حجر في "الفتح"، وقال: "إنَّ الحشر الأول ليس حشرًا عامًّا، وإنما هو لفئة مخصوصة، فالحشر إنما يراد به كل من هو موجود في حينه" .
- الحشر ثابت بالكتاب والسنة والإجماع:
- فمن الكتاب: قوله - تعالى -: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ .
- ومن السُّنَّة: حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يُحشَر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء، كقُرْصة النقي ليس فيها علمٌ لأحد)) .
وأَجْمَع المسلمون على ثبوت الحشر يوم القيامة.
- حتى البهائم تحشر يوم القيامة، دلَّ على ذلك الكتابُ والسُّنَّة:
فمن الكتاب: قوله - تعالى -: ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ ، وقوله - تعالى -: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ .
ومن السنة: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ الرَّسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - قال: ((لَتُؤَدَّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)) .
قال النووي: "هذا تصريحٌ بحشْر البهائم يوم القيامة وإعادتها يوم القيامة، كما يُعَادُ أهلُ التكليف من الآدميين، وكما يُعَادُ الأطفال والمجانين ومن لَم تبلغْه دعوة، وعلى هذا تظاهرتْ دلائل القرآن والسنة، قال العلماء: وليس من شرط الحشر والإعادة في القيامة المجازاة والعقاب والثواب، وأما القِصَاصُ من القرناء للجلحاء فليس هو من قِصَاص التكليف؛ إذ لا تكليف عليها بل هو قصاص مقابلة" .
وأيضًا هو قصاصٌ يُبَيِّن مدى العدْل التامِّ في ذلك اليوم، حتى بين البهائم، وأنه كما قال الله - تعالى -: ﴿لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾ .
- يحشر الناس عراة حفاة غرلاً:
لحديث عائشة قالتْ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يُحْشَرُ الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً))، قالتْ: يا رسول الله، الرِّجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: ((يا عائشة، الأمرُ أشدُّ مِنْ أنْ ينظُرَ بعضهم إلى بعض)).
وعن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنكم تُحْشَرُون حفاة عراة غرلاً، ثم قرأ: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ ، وأول من يُكْسَى إبراهيم)) .
ودلَّ حديث ابن عباس: أن الناس يُحشرون عراة، وأنَّ أول مَن يُكسَى إبراهيم - عليه السلام.
واختُلفَ في الحكمة مِن ذلك؛ قال ابن حجَر: "قيل: الحكمة في كون إبراهيم أول من يُكسى: أنَّه جُرِّد حين أُلقِيَ في النار، وقيل: لأنه أول مَن استنَّ التَّسَتُّر بالسراويل، وقيل: إنه لَم يكنْ في الأرض أخوف لله منه، فجُعلَتْ له الكسوة؛ أمانًا له ليَطمئن قلبُه، وهذا اختيار الحليسي، والأول اختيار القرطبي" .
- وإذا حُشِرَ الناس كان في ذلك الجمع هَمٌّ وغَمٌّ وكَرْبٌ ودُنُوُّ للشمس من الناس مقدار ميل؛ كما ثبَتَ في "صحيح مسلم"، من حديث سليم بن عامر، عن المقداد مرفوعًا: ((تُدنى الشمسُ يوم القيامة منَ الخلق، حتى تكون منهم مقدارَ ميل))، قال سليم بن عامر: فوالله ما أدري ما يعني بالميل: أمسافة الأرض، أم الميل الذي تُكحل به العين؟
وماذا يفعل الناس في ذلك الموقف؟
سيأتي بيان ذلك في حديث الشفاعة قريبًا.
* * * * * * * *
قال المصنِّف - رحمه الله -:
حتَّى يَشْفَعَ فيهم نبيُّنَا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم.
الشرح
ثامنًا: الشَّفاعة:
والشفاعة ذَكَرَها المصنِّف في هذا الفصْل مَرَّتَين، فذكر أولاً الشفاعة العُظمى، وهي شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أهل الموقف، وذَكَرَها مرة أخرى، وذكر بعدها شفاعة الأنبياء والمؤمنين والملائكة، وسنذكر هذه الشفاعات جميعًا في هذا الموْضِع.
- معنى الشفاعة:
الشفاعة لغة: من الشفع ضد الوتْر، وهو ضَمُّ الشيء إلى مَثِيله.
واصطلاحًا: التَّوَسُّط للغير بِجَلْب منفعة، أو دفْع مضَرَّةٍ.
- الشفاعة نوعان:
1- شفاعة شرعية (شفاعة مثبتة): وهي الشفاعة المقبولة، ويدخل تحتها أنواع سيأتي بيانُها، وهذه الشفاعة لا بُدُّ فيها مِن توفُّر شرطَيْن:
الأول: الإذن للشافع أن يشْفع.
والثاني: الرضا عن المشفوع له.
ويدل عليهما: قوله - تعالى -: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾ ، وقوله - تعالى -: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ .
2- شفاعة شِرْكية (شفاعة منفية): وهي الشفاعة للكافرين، فهؤلاء لا تنفعهم شفاعة، كما قال المصنِّف: "ولا تنفع الكافر شفاعة الشافعين".
ويدل على ذلك: قوله - تعالى -: ﴿فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾ .
- أنواع الشفاعة الشرعيَّة:
1- الشفاعة العُظمى: وهي أوَّل شفاعة ذَكَرَها المصنِّف بعدما ذكر البعث، والحشر، ووقوف الناس في موقف القيامة، حتى يشفع فيهم نبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي شفاعة خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم.
ويدل عليها: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المتفق عليه، وهو حديث طويل، قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: "أُُتِيَ رسولُ الله يومًا بلحم، فَرُفع إليه الذراع - وكانت تُعْجِبُه - فَنَهَسَ منها نَهْسَةً، فقال: ((أنا سَيِّدُ الناس يوم القيامة، وهل تدرون بِمَ ذاك؟ يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيُسْمِعُهم الدَّاعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمسُ فيبلغ الناس من الغمِّ والكرب ما لا يطيقون، وما لا يَحْتَمِلُون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا تَرَوْنَ ما أنتم فيه؟ ألا تَرَوْنَ ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون مَن يشفع لكم إلى ربِّكم؟ فيقول بعضُ الناس لبعض: ائتوا آدم...)) الحديث، وفيه يأتون آدم، ثم نوحًا، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، وكل واحد منهم يقول: إنَّ ربي قد غضِبَ اليوم غضبًا لَمْ يغضبْ قبله مثله، ولَم يغضب بعده مثله، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، وآخرهم عيسى - عليه السلام -فيقول: "اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فيأتوني فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وغفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر، اشْفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فأنطَلِق فآتِي تحت العرش فأَقَعُ ساجدًا لربِّي، ثم يفتح الله عليَّ، ويلهمني من مَحَامِده وحُسْنِ الثناء عليه شيئًا لَم يفتحه لأحدٍ قبلي، ثم يُقَال: يا محمد، ارفع رأسك، سَلْ تُعْطَه، اشفع تُشَفَّع، فأرفع رأسي، فأقول: ((يا رب، أمتي أمتي)) الحديث، فيشفع - صلى الله عليه وسلم – لأمته، وهذه تسمى الشفاعة العظمى.
2- شفاعته - صلى الله عليه وسلم - بدخول أهل الجنةِ الجنةَ:
دلَّ عليها حديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا أوَّل الناس يشفع في الجنة، وأنا أكثرُ الأنبياء تبعًا))، وفي روايةٍ: ((فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أُمِرْتُ لا أفتح لأحد قبلك)) .
3 - شفاعته - صلى الله عليه وسلم - في عمِّه أبي طالب بأن يُخَفِّفَ عنه العذاب:
وذلك لأنَّ أبا طالب مات كافرًا فلا يخرج من النار، ولكن بشفاعة النبي يُخَفف عنه منَ العذاب.
ويدُلُّ على ذلك: حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله ذُكِرَ عنده عمُّه أبو طالب فقال: ((لعلَّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيُجْعَل في ضَحْضَاحٍ من نار يغلي منه دماغُه))، وفي رواية: ((ولولا أنا، لكان في الدَّرْكِ الأسفل من النار)) .
وهذا الأنواع الثلاثة السابقة خاصَّة بنبِيِّنا - صلَّى الله عليه وسلم.
4- الشَّفاعة في خُرُوج الموحِّدين من النار:
دلَّ عليها حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يخرج من النار مَن قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزْن شعيرة من خير، ويخرج من النار مَن قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزنُ بُرَّة من خير، ويخرج من النار مَنْ قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير)) .
وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: ((لكلِّ نبي دعوةٌ مُستَجابةٌ، فتعجَّل كلُّ نبيٍّ دعوتَه، وإنِّي اختبأتُ دعوتي؛ شفاعةً لأمتي يوم القيامة، فهي نائلةٌ - إن شاء الله - مَنْ مات من أمتي لا يُشرك بالله شيئًا)) .
وحديث أنس - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)) ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
والخوارج والمعتزلة يُنْكِرون هذا النوع منَ الشفاعة؛ لأنه كما تقدَّم من مذهبهم: أنَّ صاحب الكبيرة يخرج من الإيمان؛ فالسارق، والزاني، وغيرهما من أهل الكبائر عندهم خرجوا من الإيمان، فلا تنفعهم الشفاعة، وقولهم قول باطلٌ مردودٌ بالأدلة الكثيرة التي تخالف مُعتقَدهم، ومن هذه الأدلة ما تقدَّم ذكره.
5- الشفاعة فيمَن استحق النار ألا يدخلها:
وهذه من أنواع الشفاعة التي يذكرها أهلُ العلم، وقد يُسْتَدَلُّ لها بحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئًا، إلاَّ شفَّعهم الله فيه)) .
6- الشفاعة في رَفْعِ درجات أقوام من أهْل الجنَّة:
وهذه قد تكون بفَضْل ما جعله الله مِن دُعاء المؤمنين بعضهم لبعض؛ كما في حديث أم سلمة ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي سلمة، حين تُوفِّي؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم اغفرْ لأبي سلَمة، وارْفع درجته في المهْديِّين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفرْ لنا وله يا رب العالَمين، وأفْسح له في قبْرِه ونوِّر له فيه)) .
وهذه الأنواع الثلاثة ليستْ خاصَّةً بالنَّبي - صلى الله عليه وسلم - بل لسائر الأنبياء والصِّديقين والمؤمنين.
7- شفاعة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في قومٍ من أمته يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب:
كشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لعُكاشة بن محصن أن يجعله من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، كما جاء في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - في الصحيحين.
- ومن أهل العلم من يزيد نوعًا ثامنًا، وهي الشفاعة فيمَن استوت حسناتهم وسيئاتهم، وهم أهل الأعراف.
وكما ذكر المصنِّف وتقدَّم بيانه: أن هناك من الشفاعة مَن يشفع فيها الأنبياء والمؤمنون والشهداء والصالحون والملائكة، على قدر مراتبهم ومقاماتهم عند ربهم، فالشهيد مثلاً يُشَفَّع في سبعين من أهل بيته؛ كما ورد عند أبي داود وابن حبان.
- من الأعمال التي ينال بها المسلم الشفاعة ما يلي:
1- قول: "لا إله إلا الله" خالصة من القلب:
لحديث أبِي هريرة - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رسول الله، مَنْ أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: ((لقد ظننتُ يا أبا هريرة ألا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أوَّل منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة مَنْ قال: "لا إله إلا الله خالصًا من قلبه)) .
2- قول الذكر الوارد بعد الأذان:
وهو ما جاء في حديث جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن قال حين يسمع النداء: اللهُمَّ ربِّ هذه الدعوة التامَّة، والصلاة القائمة، آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعَثْه مقامًا محمودًا الذي وعدته - حلَّت له شفاعتي يوم القيامة)) .
3- الصبر على شدة المدينة ولأوَائها:
لحديث أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يصبر على لأْواء المدينة وشدتها أحدٌ من أمتي إلا كنتُ له شفيعًا يوم القيامة أو شهيدًا)) ، والمقصود بـ(لَأْوَائها)؛ أي: شدتها، وضيق العيش فيها.
4- الموت في المدينة:
لحديث ابن عمر - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن استطاع أن يموتَ بالمدينة فلْيَمُتْ بها؛ فإنِّي أشفع لمن يموت بها)) .
فائدة:
هناك من الأعمال ما تمنعُ العبدَ أن يكون شفيعًا لأحدٍ يوم القيامة: ومن ذلك مَنْ يُكْثِرُ اللَّعْن؛ فقد جاء في "صحيح مسلم"، من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يكون اللَّعَّانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة))، قال النووي: "وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنهم لا يكونون شفعاء ولا شهداء))؛ فمعناه: لا يشفعون يوم القيامة حين يشفع المؤمنون في إخوانهم الذين استوجبوا النار، ((ولا شُهداء)): فيه ثلاثة أقوال: أصحها وأشهرها: لا يكونون شهداء يوم القيامة على الأمم بتبليغ رسلهم إليهم الرسالات، والثاني: لا يكونون شهداء في الدنيا؛ أي: لا تُقبل شهادتهم لفِسْقهم، والثالث: لا يرزقون الشهادة؛ وهي: القتل في سبيل الله" .

 
قال المصنف - رحمه الله -:
ويُحاسِبُهُم اللهُ - تبارك وتعالى.
الشرح
تاسعًا: الحساب:
- تعريفه لغة: هو العدد.
وشرعًا: إطْلاع الله عباده على أعمالهم.
- الحساب ثابتٌ بالكتاب والسُّنَّة والإجماع:
فمن الكتاب: قوله - تعالى -: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾ .
ومن السنة: حديث عائشة المتفق عليه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس أحدٌ يُحَاسَب يوم القيامة إلا هَلَك))، قلت: أَوَليس يقول الله: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾ ؟ فقال: ((إنما ذلك العرض، ولكن من نُوقِشَ الحساب يهلك)).
والمقصود: أنَّ العبد إذا حُوسب حسابًا دقيقًا على إعماله التي لا بُدَّ لها من قبولٍ من الله - جل وعلا - هلك؛ لأن أعماله لا تُنْجِيه إلا برحمة الله - جل وعلا - ونسأل الله من واسع فضله.
وأجمع المسلمون على ثبوت الحساب يوم القيامة: ويُستثنى من ذلك السبعون ألفًا كما سيأتي.
- صفة الحساب:
المؤمن يَخْلو بربِّه ويُقَرِّره بذنوبه، فكُلُّ شيء قَدَّمه في الدنيا سيُعْرِض عليه، ثم يسترها الله - عز وجل - ويغفرها له، بخلاف المنافق والكافر، فإنَّ حسابه حساب توبيخٌ على رؤوس الخلائق، فلا يُسْتَر.
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((يُدنَى المؤمن يوم القيامة من ربِّه - عز وجل - حتى يضع عليه كَنَفَه، فيُقرره بذنوبه، فيقول: هل تعرف؟ فيقول: أي رب أعرف، قال: فإنِّي قد سَتَرْتُها عليك في الدنيا، وإنِّي أغفرها لك اليوم، فيُعْطَى صحيفة حسناته، وأما الكفَّار والمنافقون فيُنادَى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على الله)) .
قال الشيخُ ابن عثيمين عن حساب المؤمن: "ومع ذلك، فإنه - سبحانه وتعالى - يضع سِتْرَه، بحيث لا يراه أحدٌ، ولا يسمعه أحدٌ، وهذا من فضْل الله - عزَّ وجلَّ - على المؤمن؛ فإنَّ الإنسان إذا قرَّرك بجناياتك أمام الناس وإنْ سَمَحَ عنك، ففيه شيء من الفضيحة، لكن إذا كان ذلك لوحدك، فإن ذلك ستر منه عليك" .
- الحساب يشمل الجن:
لأنهم مُكَلَّفُون، يدخل كافِرُهم النار بالنص والإجماع؛ كما قال - تعالى -: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ ، وقوله: ﴿قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّار﴾ [الأعراف: 38]، ويدخل مؤمنهم الجنة وهو قول جمهور العلماء؛ لقوله - تعالى -: ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ﴾ [الرحمن: 56]، ولعموم قوله - تعالى -: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: 46].
- وهل تُحَاسَبُ البهائم؟
تقدم في مباحث (الحشر) أنه يكون بين البهائم قصاصٌ فيُقَاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، وتقدَّم أن هذا القصاص ليس قصاصَ تكليفٍ وإنما هو قصاص مقابلة، وأما حساب التكليف فلا تُحَاسب؛ لأنه لا تكليف عليها، وتقدَّم أن هذا اختيار النووي، وهو اختيار شيخنا ابن عثيمين - رحمه الله - تعالى. [انظر: المراجع السابق ص (512)]
- أول ما يحاسب عليه العبد:
أما أول ما يحاسب عليه العبد من الحقوق التي عليه لله - جل وعلا - فهي الصلاة.
ويدل على ذلك: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أول ما يُحاسب عليه العبدُ يوم القيامة الصلاة، فإن صلحتْ صلح سائر عملِه، وإن فسدتْ فسد سائر عملِه)) .
وأما أول ما يُقضى فيه منَ الحُقُوق التي بين الناس هي الدِّماء.
ويدل على ذلك: حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أول ما يُقْضَى بين الناس يوم القيامة في الدماء)) .
وذلك لأنَّ الصلاة عَمُود الدين، وهي أفضل العبادات البدنية، والدماء هي أعظم ما يعتدى به في حقوق الآدميين.
- وهناك أقوام لا تَمُر بهم هذه المرحلة مرحلة (الحساب):
وعددهم سبعون ألفًا، جاء ذكر هذا العدد في حديث ابن عباس؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((عُرِضَتْ عليَّ الأمم، ثم عُرِضَتْ عليَّ أمتي، ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب))، وفي آخر الحديث قال: ((هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يَتَطَيَّرُون، وعلى ربهم يَتَوكَّلون)) .
وجاء في رواية عند مسلم زيادة: ((هم الذين لا يرقون))، وهي روايةٌ شاذة فلا تصح؛ لعدة وجوه منها: أنها مُخالفة لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كان يرقي أصحابه، ولأن في الرقية إحسانًا للغير؛ فإن الراقي مُحسن على غيره، فكيف يُمنَع هذا الفضل؟! ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في آخر الحديث: ((وعلى ربهم يَتَوَكَّلون))، وعمل الراقي لا مُنَافاة بينه وبين التوكُّل، بخلاف المسترقي والمكتوي والمتطير.
لا يسترقون؛ أي: لا يطلبون الرقية، ولا يكتوون؛ أي: لا يتعالَجون بالكَي، ولا يتطيرون، والتطيُّر هو: التشاؤُم.
وسُمِّي بذلك؛ لأنَّ أهل الجاهلية كانوا يتشاءَمون بالطير.
والجامع لهذه الأوصاف الثلاثة قوله: ((وعلى ربِّهم يَتَوَكلون))، والتوكُّل لا بد له من أمرين:
1- تفويض الأمر لله - جل وعلا - واعتماد القلب عليه مع صحة الإيمان والمعتقد.
2- فعل الأسباب التي أمر الله بها؛ سواء كانت دينية؛ كأداء الفرائض، والبُعد عن النواهي، أو كانت دنيويَّة؛ كالحرث، والزراعة، والتجارة، ونحوها؛ لأنَّ النصوص كثيرة في الأمر بالتوَكُّل، ولا بدَّ من فعل السبب.
وأما أن يقولَ الإنسان: لن أفعل السبب؛ لأنني مُتَوَكِّلٌ على الله - جل وعلا - فهذا فَهْمٌ خطأ، فهذا يُسَمَّى: (تَوَاكُلاً)، لا (تَوَكُّلاً).
ومما يدل على فعل السبب:
- قول الله - عز وجل -: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ ، فالعزيمة سببٌ لا بدَّ منه مع التوكُّل.
- وأيضًا أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - تدل على فعله للسبب مع توكُّلِه، وهو إمام المتوكِّلين، فقد كان يَعُدُّ العُدَّة قبل خوضه للمعارك، ويُهَيِّئ أسبابها ويرفع يديه للسماء يدعو: ((اللهم مُنزل الكتاب، ومُجْرِي السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم)) ، وأرشد في طلَب الرزق من الله - جل وعلا - التوكل عليه وفعل السبب؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لَأَنْ يأخذ أحدكم حبله، ثم يغدو فيحتطب، فيبع فيأكل ويتصدق، خيرٌ له من أن يسأل الناس)) ، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة، وأيضًا دلالة العقل عليها، فليس من التوكُّل أن يترك الإنسان الأسباب في جلب الولد مثلاً؛ كالنكاح، ويقول: أريد بتَوَكُّلي على الله - جل وعلا - أن يرزقني ولدًا، وكذا في الرزق، وغيرها من الأمور، فلا بد من الشرطَيْن حقيقة؛ الاعتماد على الله - جل وعلا - مع فِعْل الأسباب.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في "التحفة العراقية": "التوكُّل المأمور به هو ما اجتَمَع فيه مقتضى التوحيد، والعقل، والشرع، فالالتفاتُ إلى الأسباب شركٌ في التوحيد، ومحوُ الأسبابِ أن تكون أسبابًا نَقْصٌ في العقْل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدْح في الشرع".
فعدم طلب الرُّقية والاكتواء والتطيُّر مع التوكُّل على الله - جل وعلا - سببٌ في دخول الجنة، بغير حساب ولا عذاب.
والإنسان مع الرقية على ثلاث مراتب:
1 - أن يطلب الرقية: فهذا يدخل مع الذين (يسترقون)، فيفوته الفضل.
2- ألا يمنع الرقية إذ عُرِضَت عليه: فهذا لا يفوته الفضل؛ لأنه لَم يطلبها، وإنما عرضت عليه.
3- أن يمنعَ الرقية إذا عُرِضَت عليه: فهذا خلاف السنة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لَم يمنع عائشة حين رقته، وكذا الصحابة كان يرقي بعضهم بعضًا، فليس في الرقية حين تُعرض فيقبلها مخالفةٌ؛ فقد رقى جبريلُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كما في "صحيح مسلم" من حديث عائشة قالت: "كان إذا اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقاه جبريل، قال: باسم الله يبريك، ومن كلِّ داء يشفيك، ومِنْ شرِّ حاسد إذا حسد، وشر كلِّ ذي عين".
- لا بد من الإيمان بعدل الله - جل وعلا - التامِّ:
فذلك اليوم يُحاسب الله عباده، وهو سريع الحساب - جل وعلا - ولا يظلم عبده مثقال ذرة؛ قال - تعالى -: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ ، قال - تعالى -: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ .
وقال - تعالى -: ﴿وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ ، وقال: ﴿وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ ، والنصوص في إثبات هذا كثيرةٌ مُستَفِيضة .
* * * * * * * *
قال المصَنِّف - رحمه الله -:
وتُنْصَبُ الموازين".
61- والميزانُ له كِفَّتانِ ولِسانٌ، تُوزَنُ به الأعمال: ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ .
الشرح
عاشرًا: الميزان:
- تعريفه لغة: ما تُقَدَّر به الأشياء خِفَّةً وثقلاً.
وشرعًا: هو ميزانٌ حقيقي له كفتان، يضعه الله - عز وجلَّ - يوم القيامة؛ لوَزْن أعمال العباد.
- الميزان ثابت بالكتاب والسنة والإجماع:
فمن الكتاب: قوله - تعالى -: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ .
ومن السنة: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المتفق عليه؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم))، وأجمع السلف على ثبوت ذلك.
- الميزان حِسِّيٌّ له كفتان حسيتان:
ويدل على ذلك حديث البطاقة، حديث عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله سيُخَلِّصُ رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سِجلاًّ، كل سجل مدّ البصر، ثم يقول: أتُنْكِرُ من هذا شيئًا؟ أَظَلَمَكَ كتَبَتي الحافظون؟ قال: لا يا رب، فيقول: أَلَكَ عذرٌ أو حسنة؟ فيبهت الرجل فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنةً واحدةً، لا ظُلْم اليوم عليك، فتخرج له البطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: أحضروه، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟
فيقال: إنك لا تُظلم، قال: فتُوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، قال: فطاشت السجلات، وثَقُلَت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء)) ، وموطن الشاهد من الحديث قوله: ((فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة)).
- ما الذي يوزن؟
اختلف أهل العلم في ما الذي يوزن على أقوال:
القول الأول: أن الذي يوزن العمل؛ واستدلوا بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - السابق قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)).
وحديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من شيء أثقل في الميزان من حُسن الخلق)) .
القول الثاني: أن الذي يوزن العامل؛ واستدلوا: بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنه ليأتي على الرجل السمين يوم القيامة لا يَزِن عند الله جناح بعوضة)) .
وحديث ابن مسعود: أنه كان دقيقَ الساقين، فجعلت الريح تلقيه؛ فضحك القوم منه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((مِمَّ تضحكون؟))، قالوا: يا نبي الله، من دِقَّة ساقيه، قال: ((والذي نفسي بيده، لَهُمَا أثقل في الميزان من أُحُدٍ)) .
والقول الثالث: أن الذي يوزن الصحف:
واستدلوا: بحديث البطاقة، وتقدم ذكرُه قريبًا.
والأظهر - والله أعلم -: أن كل ذلك يوزن: العمل والعامل والصحف؛ لدلالة الأدلة عليها جميعًا.
قال ابن كثير في تفسيره : "وقد يُمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحًا؛ فتارة توزن الأعمال، وتارة توزن محالها، وتارة يوزن فاعلُها - والله أعلم.
- وهل هو ميزان واحد، أو موازين كثيرة؟
قال شيخُنا ابن عُثَيمين: "واختلف العلماء: هل هو ميزان واحد أو متعدد؟ فقال بعضهم: متعددٌ بحسب الأمم، أو الأفراد، أو الأعمال؛ لأنه لَم يرد في القرآن إلا مجموعًا، وأما إفراده في الحديث فباعتبار الجنس.
وقال بعضهم: هو ميزان واحد؛ لأنه ورد في الحديث مفردًا، وأما جمعه في القرآن فباعتبار الموزون، وكلا الأمرين محتمل، والله أعلم".
* * * * * * * *
قال المصنِّف - رحمه الله -:
"وتُنْشَرُ الدَّواوين، وتَتَطايَرُ صُحُف الأَعْمال إلى الأَيْمان والشَّمائل: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا﴾ .
الشرح
الحادي عشر: نشر الدواوين:
- تعريف نشر الدواوين:
النشر لغة: بَثُّ الشيء، وشرعًا: إظهار صحائف الأعمال يوم القيامة وتوزيعها.
والدواوين لغة: جمع ديوان، وهو الكتاب الذي يُحصَى فيه الجند ونحوهم.
وشرعًا: هي الصحائف التي أحصيت فيها الأعمال التي كتبها الملائكة على العامل.
فنشر الدواوين: إظهارُ صُحُفِ الأعمال يوم القيامة التي كتبتْها الملائكةُ، بما فيها من أعمال العباد.
- ونشر الدواوين ثابت بالنص والإجماع:
فمن النصوص: قوله - تعالى -: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾ .
وأجمع السلف على إثبات نشْر الدواوين في ذلك اليوم.
- المجرمون مشفقون مما في هذا الكتاب؛ لأنه لا يُغادر شيئًا إلا وهو مكتوب؛ قال - تعالى -: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ .
- صفة أخد الكتاب:
فأما السعيد فسوف يأخذ كتابه بيمينه؛ فيفرح ويسْتَبْشِر، وبيَّن الله - جل وعلا - حاله فقال - تعالى -: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ ، وأما الشقي فإنه يأخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره، وبيَّن الله - عز وجل - حاله فقال - تعالى -: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا﴾ .
- كيف نجمع بين قوله - تعالى -: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ﴾ ، وقوله: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ﴾ ؟
قال شيخُنا ابن عُثيمين: "الجمع بينهما أنْ يُقال: يأخذه بشماله لكن تخلع الشمال إلى الخلف من وراء ظهره، والجزاء من جنس العمل، فكما أن هذا الرجل جعل كتاب الله وراء ظهره، أُعْطِي كتابه يوم القيامة من وراء ظهره؛ جزاءً وفاقًا" .

 
- قال المصنف - رحمه الله -:
"ولنبيِّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - حوْضٌ في القِيامَة، ماؤُهُ أشَدُّ بياضًا مِنَ اللَّبَنِ، وأحْلَى مِنَ العَسَل، وأَبَارِيقُهُ عَدَدَ نُجُوم السَّمَاء، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بعْدَها أبدًا".
الشرح
الثاني عشر: الحوض:
- تعريفه لغة: الجمع، ويطلق على مجتمع الماء.
وشرعًا: هو حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مجمع ماء عظيم يَرِدُه المؤمنون في عرصات القيامة.
والعَرَصات: جمع عرصة، وهو المكان الواسع الذي لا بناء فيه ولا شجر.
- الحوض ثابت بنص السنة والإجماع:
فمن الأدلَّةِ على ثبوته: حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا فرطكم على الحوض، مَنْ وَرَدَ شَرِبَ، ومَنْ شَرِبَ لا يظمأ أبدًا، وليردن عليَّ أقوامٌ أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم)) .
وحديث جندب - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا فَرَطُكم على الحوض)) ، والفَرَطُ: هو الذي يسبق إلى الحوض.
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، قال ابن القيم: "قد روى أحاديث الحوض أربعون من الصحابة، وكثيرٌ منها أو أكثرها في الصحيح"، وقال السيوطي: "ورد ذكر الحوض من بضعة وخمسين صحابيًّا؛ منهم الخلفاء الأربعة الراشدون، وحُفَّاظ الصحابة المكثرون - رضوان الله عليهم أجمعين".
وأجمع أهل السنة على إثبات الحوض:
وهو حوض يَرِدُه المؤمنون حينما يَشْتَدُّ عليهم الكرب في الموقف، وتدنو الشمس من رؤوس الخلائق مقدار ميل، فيعرق الناس، ويشتدُّ بهم العطش، فيا رب ارزقنا شربة هنيّة من حوض نبيك - صلى الله عليه وسلم - تروي عطشنا في ذلك اليوم الشديد الكرب والخطب، ولا تجعلنا من الذين أحدثوا في الدين فصُدُّوا عن الحوض.
- أَنْكَرَت المعتزلة الميزان والحوض، فلم يقولوا بثبوتهما، وأيضًا ممن أنكر الحوض الخوارج، ويُرَدُّ عليهم بدلالة النص والإجماع على ثُبُوت الحوض.
- الحوض موجود الآن:
فالحوض مخلوقٌ الآن، يدل على ذلك ما رواه البخاري من حديث عقبة بن عامر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يومًا فصلَّى على أهل أُحُدٍ صلاته على الميت، ثم انصرف على المنبر فقال: ((إني فَرَطٌ لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن)).
قال ابن حجر: "((والله، إنِّي لأنظر إلى حوضي الآن))، يحتمل أنه كُشِفَ له عنه لما خَطَب، وهذا هو الظاهر، ويحتمل أنه يريد رؤية القلب" .
- صفة الحوض:
جاءت أحاديثُ تُبَيِّن صفة الحوض؛ فممَّا ورد:
حديث عبدالله بن عمرو - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((حوضي: مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكِيزانه كنجوم السماء، مَنْ شرب منه لَم يظمأ أبدًا)) ، وفي لفظ: ((حوضي مسيرة شهر، وزواياه سواء، وماؤه أبيض من الورق)).
ولمسلم من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -مرفوعًا: ((ماؤه أشدُّ بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل)).
ولمسلم أيضًا من حديث ثوبان - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((يَغُتُّ فيه ميزابان من الجنة: أحدهما من ذهب، والآخر من وَرِق))، ويغت؛ أي: يصب.
وجاء عند أحمد في بيان مقداره أنه: ((كما بين عدن وعَمَّان))، وفي رواية أخرى: ((كما بين أيلة  إلى مكة))، وفي أخرى: ((كما بين المدينة وصنعاء))، ولمسلم من حديث عقبة: ((وإنَّ عرضه كما بين أَيْلة إلى الجحفة))، وعند مسلم من حديث ابن عمر: ((ما بين ناحيتيه كما بين جربا وأذرح)).
والمسافات المُحَدَّدة في الرِّوايات السابقة بين هذه البلدان كلها متقاربة توافق رواية: ((مسيرة شهر)).
إذًا؛ يَتَلَخَّص في صفة الحوض من الأحاديث السابقة ما يلي:
- سعته: مسيرة شهر، وهذا تحديد بالزمان، ومَن أراد التحديد بالمسافة فليتأمل المسافة بين البلدان السابقة.
- لونه: أبيض من اللبن، وأبيض من الوَرِق؛ أي: الفضة.
- طعمه: أحلى من العسل، ومَنْ يشرب منه لا يظمأ أبدًا.
- رائحته: أطيب من ريح المسك.
- آنيته: كنجوم السماء في العدد والنور واللمعان.
- يصب فيه ميزابان: أحدهما من ذهب، والآخر من فضة.
- يُحرَم من الحوض أقوام: بدَّلوا وغيَّروا في دين الله:
عن أبي مُلَيْكَة، عن أسماء: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إني على الحوض حتى أنظر مَنْ يَرِدُ علىَّ منكم، وسيؤخذ ناسٌ دوني، فأقول: يا رب، مني ومن أمتي))، فيقال: "هل شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم"، وكان ابن أبي مليكة يقول: "اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع أعقابنا، أو نفتن في ديننا" .
وفي لفظ لمسلم عن أم سلمة: ((فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سُحقًا)).
قال النووي: "قال الإمام الحافظ أبو عمرو بن عبدالبر: كلُّ من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض؛ كالخوارج، والروافض، وسائر أصحاب الأهواء، قال: وكذلك الظَّلَمة المسرفون في جَوْرِ وطَمْسِ الحق، والمُعْلِنُون بالكبائر، قال: وكل هؤلاء يُخَاف عليهم أن يكونوا ممن عُنُوا بهذا الخبر - والله أعلم" .
ونقول: اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا بعد إذ هديتنا، أو نفتن في ديننا، أو نحدث فيه ما ليس على أمْرِ رسولِنا - صلى الله عليه وسلم.
- الفرْق بين الكَوْثر والحَوْض:
أ- أنَّ الكوثر في الجنة، والحوض في أرض المحشر.
ب- الكوثر نهرٌ عظيمٌ جارٍ، فهو أصل، والحوض مجمع ماء فرعٌ عن الكوثر؛ لأنه يصب في الحوض ميزابان؛ فقد جاء في "صحيح مسلم" من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عن الكوثر: ((هو نهر وَعَدَنيه ربي - عز وجل - في الجنة عليه الحوض)).
* * * * * * * *
63- قال المصنف - رحمه الله -:
"والصِّراطُ حقٌّ يَجُوزُهُ الأَبْرارُ، ويَزِلُّ عنْهُ الفُجَّارُ".
64- ويَشْفَعُ نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - فيمَنْ دخلَ النّارَ مِنْ أُمَّتِهِ مِنْ أَهْلِ الكَبَائِرِ؛ فيَخْرُجونَ بِشفاعَتِهِ بَعْدَمَا احْتَرَقُوا وصاروا فَحْمًا وحِمَمًا، فيدخلونَ الجنَّةَ بشفاعَتِه.
65- ولسائِرِ الأنبياءِ والمؤمنين والملائكةِ شفاعاتٌ؛ قال - تعالى -: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُون﴾ .
- ولا تَنْفَعُ الكافِرَ شفاعةُ الشافعين".
الشرح
الثالث عشر: الصِّراط:
- تعريف الصراط:
الصراط لغة: الطريق الواضح الواسع.
وشرعًا: جسرٌ ممدود على جهنم، يعبر الناس عليه إلى الجنة.
- الصراط ثابت بالكتاب والسنة والإجماع:
فمن الكتاب: قوله - تعالى -: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ ، فقد فسَّرها عبدالله بن مسعود، وقتادة، وزيد بن أسلم: بالمرور على الصراط، وفسرها جماعةٌ - منهم ابن عباس - بالدخول في النار، لكن ينجون منها.
ومن السنة: حديث أبي سعيد الخدري الطويل وفيه: ((ثم يُضْرَبُ الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة، ويقولون: اللهم سلِّم سلِّم)) .
وأجْمَع أهل السنة على إثبات الصراط.
- وهل الصراط واسع أو ضيق؟
اختُلف في سعة الصراط على قولَيْن:
القول الأول: أن الصراط طريق واسع:
واستدلوا:
1- بأن الصراط في اللغة هو: الطريق الواسع.
2- وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في صفة الصراط: ((مَدْحَضةٌ مَزلَّة عليه خطاطيف وكلاليب)) .
ووجه الدلالة: أنَّ الدحض والمزلة والكلاليب لا تكون إلا في طريق واسع.
والقول الثاني: أنَّ الصراط طريق دقيق ضيق جدًّا:
واستدلوا بما رواه مسلم من حديث أبي سعيد، قال: بلغني أن الجسر أدقُّ من الشعر، وأَحَدُّ من السيف، وبنحوه عند أحمد جاء مرفوعًا من حديث عائشة - رضي الله عنها.
وجاء عند الحاكم من حديث سلمان مرفوعًا: أنه كحَدِّ الموسى - والله أعلم بالراجح - ومن خلال الخلاف السابق تَبَيَّن لنا صفةُ الصراط، وأنه ممدود فوق جهنم، عليه كلاليب وخطاطيف تخطف الناس بحسب أعمالهم - نسأل الله السلامة والتجاوز.
- حال الناس على الصراط وعبورهم عليه:
جاء في "صحيح مسلم"، من حديث أبي هريرة وحذيفة - رضي الله عنهما - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر حديث الشفاعة وفيه: ((فيأتون محمدًا، فيقوم، فيؤذن له، وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالاً، فيمر أولكم كالبرق))، قال: قلت: بأبي أنت وأمي، أيُّ شيء كمرِّ البرق؟ قال: ((أَلَم تَرَوْا إلى البرق كيف يمرُّ ويرجع في طرفة عين؟ ثم كَمَرِّ الرِّيح، ثم كَمَرِّ الطير، وشَدِّ الرجال، وتجري بهم أعمالهم، ونبيُّكم قائم على الصراط يقول: ربِّ سَلِّم سَلِّم، حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفًا، قال: وفي حافَّتي الصراط كلاليبُ مُعَلَّقة، مأمورة بأخذ من أُمِرَتْ به؛ فمخدوشٌ ناج، ومكدوسٌ في النار)).
قال شيخ الإسلام في "عقيدته الواسطية": "يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجَوَاد، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عَدْوًا، ومنهم من يَمْشي مَشْيًا، ومنهم من يزحف زَحْفًا، ومهم من يُخْطَف ويلقى في جهنم".
نسأل الله حسن التجاوز عن ذنوبنا في الدنيا، وعلى الصراط يوم الفرار.
قال ابن حجر عند ذكر الأمانة والرحم في الحديث السابق: "أي: يقفان في ناحية الصراط؛ والمعنى: أن الأمانة والرحم - لعظم شأنهما وفخامة ما يلزم العباد من رعاية حقِّهما - يوقفان هناك للأمين والخائن، والواصل والقاطع، فيحاجَّان عن المُحِقِّ، ويشهدان على المُبْطل" .
- أول من يعبر الصراط من الأنبياء محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن الأمم أمته:
لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فأكون أنا وأمتي أول من يجيزها، ولا يتكلم يومئذٍ إلا الرسل، ودعاء الرسل يومئذٍ: سَلِّم، سلِّم)) .
قال النووي: "((ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل))؛ معناها: لشدة الأهوال، والمراد: لا يتكلم في حال الإجازة، وإلا ففي يوم القيامة مواطن يتكلم الناس فيها، وتُجَادِل كل نفسٌ عن نفسها، ويسأل بعضهم بعضًا، ويتلاوَمون، ويخاصم التابعون المتبوعين - والله أعلم.
- قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ودعوى الرسل يومئذ: سَلِّم، سَلِّم))، هذا من كمال شفقتهم ورحمتهم للخلق، وفيه أنَّ الدعوات تكون بحسب المواطن، فيُدعى في كل موطن بما يليق به - والله أعلم" .
والمرور على الصراط عامٌّ للمؤمنين، ومن ادَّعى الإيمان كالمنافقين؛ ولكن المنافقين لا يجاوزون الصراط، بل الصراط آخر محطة لهم إلى النار - والعياذ بالله.
- ثم بعد الصراط يقف المؤمنون في القنطرة:
والقنطرة مكانٌ خاصٌّ بالمؤمنين ولا يسقط أحد منهم في النار؛ بل هو مكان يُقْتَصُّ لبعضهم من بعض اقتصاصًا، يكون به تهذيب نفوسهم، وإزالة ما في القلوب من الغِلِّ والحسد قبل أن يدخلوا الجنة، وهذا اقتصاصٌ غير الاقتصاص الأول، فيُهَذَّبُون من الشوائب قبل دخول الجنة؛ كما قال - تعالى -: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾ ، وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "إذا خلص المؤمنون من الصراط حُبِسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فاقتصَّ لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا، أُذِنَ لهم بدخول الجنة، فَلَأَحَدُهم أهدى إلى منزله في الجنة من منزله الذي كان في الدنيا" .
* * * * * * * *
67- قال المصنف - رحمه الله -:
"والجنَّةُ والنّارُ مخلوقتان لا تفْنيان، فالجنَّةُ مأوى أوليائه، والنّارُ عِقابٌ لأعدائِه، وأهلُ الجنَّةِ فيها مُخَلَّدونَ: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ ".
68- قال المصنف - رحمه الله -:
"ويُؤْتَى بالموْتِ في صورَةِ كَبْشٍ أَمْلَح، فيُذبَحُ بين الجنَّة والنارِ، ثم يُقال: يا أهل الجنَّة، خلودٌ ولا موْتَ، ويا أَهْلَ النَّارِ، خلودٌ ولا موْتَ".
الشرح
الرابع عشر: الجنة والنار:
- تعريفهما:
الجنة لغة: البستان كثير الأشجار.
وشرعًا: هي الدار التي أعدَّها الله في الآخرة للمتقين؛ وهي: دار الثواب.
والنار لغة: معروفةٌ، فلا ينصرف الذهن إلا لها، حتى في التعريف اللغوي.
وشرعًا: هي الدار التي أعدها الله في الآخرة للكافرين، وهي دار العقاب.
والجنة والنار كل واحدة منهما حقٌّ ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، فالأدلة في إثباتهما كثيرة مستفيضة.
- الجنة والنار موجودتان الآن بدلالة الكتاب والسنة والإجماع:
ويدل على ذلك: من الكتاب قوله - تعالى - عن الجنة: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين﴾ ، وعن النار: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ ، ومعنى ﴿أُعِدَّتْ﴾؛ أي: هُيِّئَت.
ومن السنة: حديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسُ محمد بيده، لو رأيتُم ما رأيتُ، لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا))، قالوا: وما رأيتَ يا رسول الله؟ قال: ((رأيتُ الجنة والنار)) ، وهناك أدلة أخرى.
وأجمع السلف - رحمهم الله - على وجودهما الآن.
- هل الجنة والنار تَفْنَيَان؟
أما الجنة، فلا تَفْنَى باتِّفاق العلماء، ولم يخالف في ذلك إلا المُبْتَدِعة، وإنما الخلاف في النار: هل تفنى؟ والخلاف في هذه المسألة خلافٌ قديمٌ، كان على عهد الصحابة ثم السلف - رضي الله عنهم ورحمهم - وخلاصة المسألة ما يلي:
القول الأول: أن النار تَفْنَى:
واستدلوا:
1- بقوله - تعالى -: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ .
ووجه الدلالة: أن الله - عز وجل - أخبر أن أهل النار سَيَبْقَون فيها إلى مدةٍ يشاؤها الله - جل وعلا - ثم بعد ذلك تفنَى، ولم يأتِ بعد هذه الآية ما يدلُّ على عدم انقطاع النار، بخلاف ما بعدها في حال الذين سُعدوا، فإن الله - عز وجل - قال في بقائهم: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ ؛ أي: غير مقطوع.
ونوقش هذا الاستدلال: بأن قوله - تعالى -: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾، لا يدلُّ على انقطاع النار وفنائِها؛ بل إن معناه: أنهم خالدون في النار أكثر من مدة بقاء السموات والأرض بمدة لا انقطاع لها، مع ما شاء الله لهم من الخلود، فمعنى (إلا)؛ أي: مع ما شاء الله من الخلود أزمانًا متتابعة إلى ما لا نهاية لها، أو يقال: إن الاستثناء في الآية إنما هو لبيان قدرة الله - جل وعلا - وهذا هو الذي يتوافق مع الأدلة الكثيرة المثبِتة لبقاء النار وخلود أهلها فيها.
2- واستدلوا بقوله - تعالى -: ﴿لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾ .
ووجه الدلالة: أن الحقب هو المدة من الزمن، وهذا يدل على أنهم سيلبثون مُدَّةً معينةً، قد تطول؛ لكنها تنتهي.
ونُوقش هذا الاستدلال: بأن الحُقُب – بضمتين - هو الدهر، والكفار يلبثون في جهنم دهورًا متواصلة لا تنتهي، أو يقال - كما قال بعض المفسرين -: إنهم يلبثون في نوعٍ من أنواع العذاب أحقابًا، ثم ينتقلون إلى نوع آخر، لا أنه ينقطع عنهم العذاب بعد مدة معينة.
3- واستدلوا بما رواه عبد بن حميد في "تفسيره": حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حمَّاد بن سلمة، عن ثابت، عن الحسن البصري قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "لو لَبِثَ أهل النار عَدَدَ رَمْل عالج، لكان لهم يومٌ يخرجون فيه".
ونوقش هذا الاستدلال: بأنه أثرٌ ضعيف؛ لأن الحسن البصري لم يُدْرِكْ عمرَ بن الخطاب، كما ذكر الألباني في تخريجه لأحاديث "العقيدة الطحاوية"، وقال بعد أن ضعَّف الأثر: "وجملة القول: أن هذا الأثر لا يصح عن عمر، كما لا يصح عن غيره مرفوعًا، والله ولي التوفيق".
هذا هو أشهر ما استدل به أصحابُ القول الأول، ولهم أدلةٌ أخرى، ولكن أدلتهم بالجملة ليست صريحة في الدلالة على فناء النار؛ بل لا بد من حملها على معنًى يوافق الأدلة الكثيرة التي تدل على خلودهم في النار إلى ما لا نهاية له.
واختار هذا القول ونصَرَه ابنُ تيمية، ومال إليه تلميذُه ابنُ القيم؛ كما في "حادي الأرواح"، و"شفاء العليل"، وردَّ الإمامُ السبكيُّ على شيخ الإسلام ابن تيمية بردٍّ سمَّاه: "الاعتبار ببقاء الجنة والنار"، وكذا ردَّ عليه الألبانيُّ في كتاب أسماه: "رفع الأستار".
والقول الثاني: أن النار لا تفنى؛ بل هي مؤبَّدة:
وهو قول جمهور السلف - رحمهم الله - وهو الصحيح.
واستدلوا بعِدَّةِ أدلة، أشهرها ثلاث آياتٍ صريحاتٍ في أَبَدِيَّة النار، وأنها لا تفنى، وهي:
أولها: في سورة النساء؛ قال - تعالى -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ .
ثانيها: في سورة الأحزاب؛ قال - تعالى -: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ .
ثالثها: في سورة الجن؛ قال - تعالى -: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ .
وأيضًا يُسْتَدَلُّ بأحاديثَ كثيرةٍ؛ منها ما ذَكَرَه المصنِّف وختم به هذا الفصل، وهو حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عند البخاري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يؤتَى بالموت كهيئةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فيُنَادِي منادٍ: يا أهل الجنة، فيَشْرَئِبُّون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت - وكلهم قد رآه - ثم ينادى: يا أهل النار، فيَشْرَئِبُّون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت - وكلهم قد رآه - فيُذْبَح، ثم يقول: يا أهل الجنة، خلودٌ فلا موت، ويا أهل النار، خلودٌ فلا موت))، ثم قرأ: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ .
ففي هذا الحديث بيانٌ أنه لا موت؛ لأن الموت يأتي بصورة كبش فيُذبح، وفيه خلود أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، واختار القولَ الثاني شيخُنا ابن عثيمين في "فتاواه" ، واللجنة الدائمة .
فائدة:
لا يُبدَّع من قال بفناء النار؛ لأنه قول مأثور عن بعض السلف، بخلاف من قال بفناء الجنة؛ فإنه مبتدع ولا شك؛ كالجهم بن صفوان القائل بفناء الجنة والنار.

 
فصلٌ: في حقوق النبي - صلى الله عليه وسلم - وخصائصه
69- قال المصنف - رحمه الله -:
"ومحمدٌ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خاتَمُ النَّبِيِّينَ، وسَيِّدُ المرسلينَ، لا يَصِحُّ إيمانُ عبدٍ حَتَّى يُؤمِنَ برسالته، ويشهَدَ بنبوتِه، ولا يُقْضَى بيْنَ النَّاسِ في القيامَةِ إلاَّ بشفاعَتِهِ، ولاَ يَدْخُلُ الجنّةَ أُمَّةٌ إلاّ بعْدَ دُخولِ أُمَّتِه.
70- صاحِبُ لِواءِ الحمْد، والمقامِ المحمود، والحوْضِ الموْرود، وهوَ إمامُ النَّبِيِّينَ، وخَطِيبُهم، وصاحِبُ شفاعتِهم.
71- أمَّتُه خيْرُ الأممِ، وأصحابُه خيْرُ أصحابِ الأنبياءِ - عليهم السلامُ".
الشرح:
في هذا الفصلِ ذَكَرَ المصنِّفُ حقوقًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك بعدما ذكر فيما تقدَّم ما يتعلَّق بحق الله - جل وعلا - ذكر المُصَنِّفُ حقوقًا وخصائصَ للنبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
1- (خاتم النبيين)؛ أي: ختم اللهُ به النبيين، وختم الله به الرسل، وختم الله به الشرائع، فلا نبيَّ بعد نبينا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - حتى إن عيسى - عليه السلام - ينزل في آخر الزمان يحكم بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - وبما نُبِّئَ به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - لأنه خاتم النبيين.
بدلالة الكتاب: قال - تعالى -: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ .
وبدلالة السنة: فعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَثَلي ومثلُ الأنبياء كمثلِ رجلٍ بنى دارًا فأكملها وأحسنها، إلا مَوْضِعَ لَبِنَة، فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون ويقولون: لولا موضع اللبنة، فأنا موضع اللبنة، جئتُ فخَتَمْتُ الأنبياء)) .
وعن جبير بن مُطْعِم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لي خمسةُ أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحْشَرُ الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبيٌّ)) .
وعن ثَوْبَان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنه سيكون في أمتي كذَّابون ثلاثون، كلُّهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، ولا نبي بعدي)) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((فُضِّلْتُ على الأنبياء بسِتٍّ: أُعْطِيتُ جوامعَ الكَلِم، ونُصِرْتُ بالرُّعْبِ، وأُحِلَّتْ لي الغنائمُ، وجُعِلَتْ لي الأرضُ مسجدًا وطَهُورًا، وأُرْسِلْتُ إلى الخلق كافَّةً، وخُتِمَ بي النبيُّون)) .
2- (سيد المرسلين): فهو - صلى الله عليه وسلم - سيِّدُ وَلَدِ آدمَ، سيِّدُ الأوَّلين والآخرين.
يدل على ذلك: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا سَيِّدُ ولد آدم)) ، فكل من كان من ذرية آدم فهو سيِّدُه - صلى الله عليه وسلم - وفي الرواية الأخرى - كما تقدم في حديث الشفاعة -: ((أنا سَيِّدُ الناس يوم القيامة))، ومن كان سيِّدًا يوم القيامة، فهو سَيِّدٌ في الدنيا؛ فالمقدَّم يوم الجزاء هو المقدَّم في الدنيا.
- ظهرت سيادتُه - صلى الله عليه وسلم - حين أَمَّ الأنبياءَ ليلةَ الإسراء والمعراج، ومَرَّ بهم واحدًا واحدًا، كلٌّ في سمائه، وكلٌّ يُرَحِّب به ويسلِّم عليه - صلى الله عليه وسلم.
- وفي يوم القيامة سَتَظْهَر سيادتُه حين يتدافع الشفاعةَ أُولو العزم من الرسل، وهم الخمسة الذين جاء ذِكرهم في قوله - تعالى -: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ ، حين يَتَدَافَع الرُّسُل ونبيُّ الله آدمُ الشفاعةَ وتصيرُ إليه - صلى الله عليه وسلم - فيقول: ((أنا لها، أنا لها))؛ كما في الصحيحين، فيشفع للناس حينئذٍ؛ فهذا يدل على سيادته، وشرفه، وعلوِّ مكانته.
3- (لا يَصِحُّ إيمانُ عبدٍ حتى يؤمن برسالته، ويشهد بنبوته): فمَنْ لم يؤمن برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويشهد بنبوته، فليس بمؤمن؛ لأن مفتاح الدخول في الإسلام شهادةُ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ لحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أُمِرْتُ أن أقاتل الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله)) .
ولا بد أن يؤمن بأنه - صلى الله عليه وسلم - رسولٌ لجميع الناس، وأن شريعته نَسختْ ما قبلها من الشرائع.
ويدل على ذلك: قوله - تعالى -: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ .
وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه – السابق: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فُضِّلْتُ على الأنبياء بسِتٍّ))، وذكر منها: ((وأُرْسِلْتُ إلى الخلق كافَّة)) .
فهو رسولٌ لكل مخلوق؛ يهوديًّا كان، أو نصرانيًّا، أو مجوسيًّا، أو غير ذلك، فهو رسولهم، ويجب عليهم الإيمانُ برسالته؛ لأنه أُرْسِل للخلق كافَّة، ففي الآية والحديث ردٌّ على من قال: إنه رسول العرب، أو رسولٌ لفئة من الناس دون غيرهم، وردٌّ على من قال: دينكم صحيح، وديننا صحيح، أو سَعَى لتقارب الأديان؛ بل على كل يهوديٍّ ونصراني ومجوسي، وغيرهم من أطياف الكفرِ - الإيمانُ برسالته، وإلا فهو كافر، وعلى دينٍ باطل، إن مات على ذلك مأواه جهنمُ وبئس المصير؛ يدل عليه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسُ محمدٍ بيده، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهوديٌّ ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرْسِلْتُ به، إلا كان من أصحاب النار)) .
4- (لا يُقضى بين الناس في القيامة إلا بشفاعته): وتقدم الكلام على الشفاعة، وتلك الشفاعة العظمى هي المقام المحمود - كما سيأتي بيانه.
5- (ولا يدخل الجنةَ أمةٌ إلا بعد دخول أُمَّتِه): ويدل على ذلك: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نحن الآخِرُون الأوَّلون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة)) .
فدلَّ هذا الحديث على أن أمة محمد، وإن كانوا الآخرين في الدنيا، إلا أنهم هم الأولون يوم القيامة؛ وذلك بأنهم أول من يدخل الجنة، فلا تدخل أمةٌ الجنةَ إلا بعد أمة محمد - صلى الله عليه وسلم.
قال النووي: "قال العلماء: معناه: الآخِرُون في الزمان والوجود، السابقون بالفضل ودخول الجنة، فتدخل هذه الأمة الجنة قبل سائر الأمم" .
6- (صاحب لواء الحمد): واللِّواء: هو الراية التي يحملها قائدُ الجيش، ويدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صاحب لواء الحمد حديثُ أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذٍ - آدم فمن سواه - إلا تحت لوائي، وأنا أوَّل من تنشقُّ عنه الأرض ولا فخر)) .
- واختلف في لواء الحمد: هل هو لواء حقيقي؟
القول الأول: إنه لواء معنوي.
القول الثاني: إنه لواء حقيقي، وهذا هو الأقرب - والله أعلم - لأن الأصل فيما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - الحقيقةُ لا المجاز، فهو لواءٌ حقيقي - والله أعلم - والحمد يشمل ما يفتحه الله - عز وجل - على نبيِّه من المحامد؛ كما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - حديث الشفاعة، وفيه: ((فأنطَلِق، فآتي تحتَ العرش، فأَقَع ساجدًا لربي - عز وجل - ثم يفتحُ الله عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحدٍ قبلي)).
ويشمل ما للنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك اليوم من الفضائل والمكانة؛ كالشفاعة العظمى، وافتتاح الجنة، وكون أمته أولَ الداخلين إلى الجنة - والله أعلم.
7- (والمقام المحمود)؛ أي: وصاحب المقام المحمود.
ويدل عليه: قول الله - تعالى -: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء: 79].
- وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في حديث جابر - رضي الله عنه - عند البخاري: ((مَنْ قال حين يسمع النداء: اللهم ربَّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدتَه - حلَّتْ له شفاعتي يوم القيامة)).
والمقام المحمود جاء بيانه في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه هو الشفاعة العظمى للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد جاء في روايةٍ معلَّقة عند البخاري بعد ذكر الشفاعة، قال: "ثم تلا: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء: 79]، قال: ((وهذا المقام المحمود الذي وُعِده نبيُّكم - صلى الله عليه وسلم))، ويدخل في المقام المحمود مناقبُه - صلى الله عليه وسلم - الأخرى غير الشفاعة.
8- (والحوض المورود)؛ أي: وصاحب الحوض المورود، الذي تَرِدُ عليه أمَّتُه، وتقدم الكلام على الحوض ومباحثه.
9- (وهو إمام النبيين وخطيبهم): أما إمامته - صلى الله عليه وسلم - للأنبياء، فهي إمامته في الدنيا والآخرة، ويقال فيها ما قيل في سيادته - صلى الله عليه وسلم.
ظهرت إمامته للأنبياء في الدنيا حين أمَّهم ليلة الإسراء والمعراج، وتظهر إمامته لهم في الآخرة حين يتدافع أولو العزم من الرسل الشفاعةَ، ثم تصير إليه - صلى الله عليه وسلم - فيشفع.
وأما كونه خطيبَ الأنبياء، فلِمَا رواه الترمذي من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((أنا أول الناس خروجًا إذا بُعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا...)) ، وجاء حديثٌ آخر رواه الترمذي، وابن ماجه، وأحمد، وقال الألباني: إسناده حسنٌ من حديث أُبَيِّ بن كعب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا كان يوم القيامة كنتُ إمام النبيين وخطيبَهم، وصاحب شفاعتهم غيرَ فخر)).
10- (وصاحب شفاعتهم)؛ أي: الذي تصير إليه الشفاعة في ذلك الموقف، وتقدم الكلام عن الشفاعة ومباحثها.
11- (أمته خير الأمم)؛ أي: إن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خيرُ الأمم، وهذه من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - وأيضًا هي من خصائص أمته - صلى الله عليه وسلم - حيث جعلها الله خيرَ الأمم.
ويدل على ذلك:
1- قوله - تعالى -: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ ، وذكر ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية بأنها نص في أن أمة محمد خير الأمم.
2- ما رواه أحمد في "مسنده" من حديث علي في بيان ما خص الله به نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - وفيه: ((وجُعِلَت أمتي خيرَ الأمم)) .
وخيرية أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ كثيرة في الدنيا والآخرة على سائر الأمم؛ فخيريَّتُها في العمل، وفي الثواب، وفي الشريعة؛ بأن شرع لها من التيسير ما لم يشرع لغيرها، وفي الآخرة بتقدُّمِهم إلى فضائل كثيرة، أبرزها: أن أمته أوَّل الداخلين للجنة، وأكثر الأمم دخولاً الجنة؛ فخيريتها في الدنيا والآخرة.
12- (وأصحابه خير أصحاب الأنبياء - عليهم السلام): وهذه من خصائصه بأن أصحابه - صلى الله عليه وسلم - خيرُ الأصحابِ، وسيأتي في الفصل القادم ما يبين فضْلَهم على التفصيل، وأما في الجملة، ففضلهم جاء في نصوص كثيرة، منها:
1- قوله - تعالى -: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ .
2- قوله - تعالى -: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ .
3- حديث أبي بردة عن أبيه - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((النجوم أَمَنَةٌ للسماء، فإذا ذهبت النجوم، أتى السماءَ ما تُوعَد، وأنا أَمَنَةٌ لأصحابي، فإذا ذهبتُ، أتى أصحابي ما يُوعَدون، وأصحابي أَمَنَةٌ لأمتي، فإذا ذهب أصحابي، أتى أمتي ما يُوعَدون)) .
4- حديث البراء - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الأنصار لا يُحِبُّهم إلا مؤمنٌ، ولا يُبغِضهم إلا منافقٌ، من أحبَّهم أحبَّه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)) .
5- حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((خيرُ القرون قرني، ثم الذين يَلُونهم)) .
6- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تَسُبُّوا أصحابي، لا تَسُبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مِثْلَ أُحُدٍ ذهبًا، ما أدرك مُدَّ أَحَدِهم ولا نَصِيفَه)) .
والأحاديث في فضلهم كثيرة، وهم بالجملة ليسوا على مرتبة واحدة.
قال اللَّقَّاني - وهو أَحَدُ شيوخ المالكية - في "شرح جوهرة التوحيد": "أفضل الصحابة: أهلُ الحديبية، وأفضل أهل الحديبية: أهل أُحُد، وأفضل أهل أُحُد: أهل بدر، وأفضل أهل بدر: العشرة، وأفضل العشرة: الخلفاء الأربعة، وأفضل الخلفاء الأربعة: أبو بكر الصديق - رضي الله عنهم أجمعين".
وسيأتي بيان فضل الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم أجمعين - وأما جملة الصحابة فهم يتفاضلون:
- فالمهاجرون أفضل من الأنصار:
يدل على ذلك:
1- أن المهاجرين جَمَعوا بين الهجرة والنُّصرة، بخلاف الأنصار الذين أَتَوا بالنصرة فقط، وللتعريف بهم يقال: المهاجرون: هم الذين هاجروا إلى المدينة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل فتح مكة، والأنصار: هم الذين هاجر إليهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في المدينة.
2- تقديم الله - جل وعلا - المهاجرين على الأنصار في قوله: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ﴾ [التوبة: 100]، وقوله: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ﴾ [التوبة: 117].
- أهل بدر مرتبتهم أعلى من مراتب كل الصحابة:
يدل على ذلك: حديث علي - رضي الله عنه - وفيه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وما يُدْرِيك؟ لعل الله اطَّلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتُم فقد غفرتُ لكم)) .
- مَنْ أَنْفَق وقَاتَل قبل صلح الحديبية، أفضل ممن أنفق وقاتل بعد الصلح:
ويدل على ذلك: قوله - تعالى -: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ ، ويُعْرَف ذلك بمعرفة تاريخ إسلامهم؛ كأنْ نرجع للكتب كـ"الإصابة"؛ لابن حجر.

 
فصلٌ: في حقوق النبي - صلى الله عليه وسلم - وخصائصه
69- قال المصنف - رحمه الله -:
"ومحمدٌ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خاتَمُ النَّبِيِّينَ، وسَيِّدُ المرسلينَ، لا يَصِحُّ إيمانُ عبدٍ حَتَّى يُؤمِنَ برسالته، ويشهَدَ بنبوتِه، ولا يُقْضَى بيْنَ النَّاسِ في القيامَةِ إلاَّ بشفاعَتِهِ، ولاَ يَدْخُلُ الجنّةَ أُمَّةٌ إلاّ بعْدَ دُخولِ أُمَّتِه.
70- صاحِبُ لِواءِ الحمْد، والمقامِ المحمود، والحوْضِ الموْرود، وهوَ إمامُ النَّبِيِّينَ، وخَطِيبُهم، وصاحِبُ شفاعتِهم.
71- أمَّتُه خيْرُ الأممِ، وأصحابُه خيْرُ أصحابِ الأنبياءِ - عليهم السلامُ".
الشرح:
في هذا الفصلِ ذَكَرَ المصنِّفُ حقوقًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك بعدما ذكر فيما تقدَّم ما يتعلَّق بحق الله - جل وعلا - ذكر المُصَنِّفُ حقوقًا وخصائصَ للنبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
1- (خاتم النبيين)؛ أي: ختم اللهُ به النبيين، وختم الله به الرسل، وختم الله به الشرائع، فلا نبيَّ بعد نبينا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - حتى إن عيسى - عليه السلام - ينزل في آخر الزمان يحكم بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - وبما نُبِّئَ به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - لأنه خاتم النبيين.
بدلالة الكتاب: قال - تعالى -: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ .
وبدلالة السنة: فعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَثَلي ومثلُ الأنبياء كمثلِ رجلٍ بنى دارًا فأكملها وأحسنها، إلا مَوْضِعَ لَبِنَة، فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون ويقولون: لولا موضع اللبنة، فأنا موضع اللبنة، جئتُ فخَتَمْتُ الأنبياء)) .
وعن جبير بن مُطْعِم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لي خمسةُ أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحْشَرُ الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبيٌّ)) .
وعن ثَوْبَان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنه سيكون في أمتي كذَّابون ثلاثون، كلُّهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، ولا نبي بعدي)) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((فُضِّلْتُ على الأنبياء بسِتٍّ: أُعْطِيتُ جوامعَ الكَلِم، ونُصِرْتُ بالرُّعْبِ، وأُحِلَّتْ لي الغنائمُ، وجُعِلَتْ لي الأرضُ مسجدًا وطَهُورًا، وأُرْسِلْتُ إلى الخلق كافَّةً، وخُتِمَ بي النبيُّون)) .
2- (سيد المرسلين): فهو - صلى الله عليه وسلم - سيِّدُ وَلَدِ آدمَ، سيِّدُ الأوَّلين والآخرين.
يدل على ذلك: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا سَيِّدُ ولد آدم)) ، فكل من كان من ذرية آدم فهو سيِّدُه - صلى الله عليه وسلم - وفي الرواية الأخرى - كما تقدم في حديث الشفاعة -: ((أنا سَيِّدُ الناس يوم القيامة))، ومن كان سيِّدًا يوم القيامة، فهو سَيِّدٌ في الدنيا؛ فالمقدَّم يوم الجزاء هو المقدَّم في الدنيا.
- ظهرت سيادتُه - صلى الله عليه وسلم - حين أَمَّ الأنبياءَ ليلةَ الإسراء والمعراج، ومَرَّ بهم واحدًا واحدًا، كلٌّ في سمائه، وكلٌّ يُرَحِّب به ويسلِّم عليه - صلى الله عليه وسلم.
- وفي يوم القيامة سَتَظْهَر سيادتُه حين يتدافع الشفاعةَ أُولو العزم من الرسل، وهم الخمسة الذين جاء ذِكرهم في قوله - تعالى -: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ ، حين يَتَدَافَع الرُّسُل ونبيُّ الله آدمُ الشفاعةَ وتصيرُ إليه - صلى الله عليه وسلم - فيقول: ((أنا لها، أنا لها))؛ كما في الصحيحين، فيشفع للناس حينئذٍ؛ فهذا يدل على سيادته، وشرفه، وعلوِّ مكانته.
3- (لا يَصِحُّ إيمانُ عبدٍ حتى يؤمن برسالته، ويشهد بنبوته): فمَنْ لم يؤمن برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويشهد بنبوته، فليس بمؤمن؛ لأن مفتاح الدخول في الإسلام شهادةُ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ لحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أُمِرْتُ أن أقاتل الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله)) .
ولا بد أن يؤمن بأنه - صلى الله عليه وسلم - رسولٌ لجميع الناس، وأن شريعته نَسختْ ما قبلها من الشرائع.
ويدل على ذلك: قوله - تعالى -: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ .
وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه – السابق: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فُضِّلْتُ على الأنبياء بسِتٍّ))، وذكر منها: ((وأُرْسِلْتُ إلى الخلق كافَّة)) .
فهو رسولٌ لكل مخلوق؛ يهوديًّا كان، أو نصرانيًّا، أو مجوسيًّا، أو غير ذلك، فهو رسولهم، ويجب عليهم الإيمانُ برسالته؛ لأنه أُرْسِل للخلق كافَّة، ففي الآية والحديث ردٌّ على من قال: إنه رسول العرب، أو رسولٌ لفئة من الناس دون غيرهم، وردٌّ على من قال: دينكم صحيح، وديننا صحيح، أو سَعَى لتقارب الأديان؛ بل على كل يهوديٍّ ونصراني ومجوسي، وغيرهم من أطياف الكفرِ - الإيمانُ برسالته، وإلا فهو كافر، وعلى دينٍ باطل، إن مات على ذلك مأواه جهنمُ وبئس المصير؛ يدل عليه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسُ محمدٍ بيده، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهوديٌّ ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرْسِلْتُ به، إلا كان من أصحاب النار)) .
4- (لا يُقضى بين الناس في القيامة إلا بشفاعته): وتقدم الكلام على الشفاعة، وتلك الشفاعة العظمى هي المقام المحمود - كما سيأتي بيانه.
5- (ولا يدخل الجنةَ أمةٌ إلا بعد دخول أُمَّتِه): ويدل على ذلك: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نحن الآخِرُون الأوَّلون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة)) .
فدلَّ هذا الحديث على أن أمة محمد، وإن كانوا الآخرين في الدنيا، إلا أنهم هم الأولون يوم القيامة؛ وذلك بأنهم أول من يدخل الجنة، فلا تدخل أمةٌ الجنةَ إلا بعد أمة محمد - صلى الله عليه وسلم.
قال النووي: "قال العلماء: معناه: الآخِرُون في الزمان والوجود، السابقون بالفضل ودخول الجنة، فتدخل هذه الأمة الجنة قبل سائر الأمم" .
6- (صاحب لواء الحمد): واللِّواء: هو الراية التي يحملها قائدُ الجيش، ويدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صاحب لواء الحمد حديثُ أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذٍ - آدم فمن سواه - إلا تحت لوائي، وأنا أوَّل من تنشقُّ عنه الأرض ولا فخر)) .
- واختلف في لواء الحمد: هل هو لواء حقيقي؟
القول الأول: إنه لواء معنوي.
القول الثاني: إنه لواء حقيقي، وهذا هو الأقرب - والله أعلم - لأن الأصل فيما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - الحقيقةُ لا المجاز، فهو لواءٌ حقيقي - والله أعلم - والحمد يشمل ما يفتحه الله - عز وجل - على نبيِّه من المحامد؛ كما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - حديث الشفاعة، وفيه: ((فأنطَلِق، فآتي تحتَ العرش، فأَقَع ساجدًا لربي - عز وجل - ثم يفتحُ الله عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحدٍ قبلي)).
ويشمل ما للنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك اليوم من الفضائل والمكانة؛ كالشفاعة العظمى، وافتتاح الجنة، وكون أمته أولَ الداخلين إلى الجنة - والله أعلم.
7- (والمقام المحمود)؛ أي: وصاحب المقام المحمود.
ويدل عليه: قول الله - تعالى -: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء: 79].
- وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في حديث جابر - رضي الله عنه - عند البخاري: ((مَنْ قال حين يسمع النداء: اللهم ربَّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدتَه - حلَّتْ له شفاعتي يوم القيامة)).
والمقام المحمود جاء بيانه في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه هو الشفاعة العظمى للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد جاء في روايةٍ معلَّقة عند البخاري بعد ذكر الشفاعة، قال: "ثم تلا: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء: 79]، قال: ((وهذا المقام المحمود الذي وُعِده نبيُّكم - صلى الله عليه وسلم))، ويدخل في المقام المحمود مناقبُه - صلى الله عليه وسلم - الأخرى غير الشفاعة.
8- (والحوض المورود)؛ أي: وصاحب الحوض المورود، الذي تَرِدُ عليه أمَّتُه، وتقدم الكلام على الحوض ومباحثه.
9- (وهو إمام النبيين وخطيبهم): أما إمامته - صلى الله عليه وسلم - للأنبياء، فهي إمامته في الدنيا والآخرة، ويقال فيها ما قيل في سيادته - صلى الله عليه وسلم.
ظهرت إمامته للأنبياء في الدنيا حين أمَّهم ليلة الإسراء والمعراج، وتظهر إمامته لهم في الآخرة حين يتدافع أولو العزم من الرسل الشفاعةَ، ثم تصير إليه - صلى الله عليه وسلم - فيشفع.
وأما كونه خطيبَ الأنبياء، فلِمَا رواه الترمذي من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((أنا أول الناس خروجًا إذا بُعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا...)) ، وجاء حديثٌ آخر رواه الترمذي، وابن ماجه، وأحمد، وقال الألباني: إسناده حسنٌ من حديث أُبَيِّ بن كعب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا كان يوم القيامة كنتُ إمام النبيين وخطيبَهم، وصاحب شفاعتهم غيرَ فخر)).
10- (وصاحب شفاعتهم)؛ أي: الذي تصير إليه الشفاعة في ذلك الموقف، وتقدم الكلام عن الشفاعة ومباحثها.
11- (أمته خير الأمم)؛ أي: إن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خيرُ الأمم، وهذه من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - وأيضًا هي من خصائص أمته - صلى الله عليه وسلم - حيث جعلها الله خيرَ الأمم.
ويدل على ذلك:
1- قوله - تعالى -: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ ، وذكر ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية بأنها نص في أن أمة محمد خير الأمم.
2- ما رواه أحمد في "مسنده" من حديث علي في بيان ما خص الله به نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - وفيه: ((وجُعِلَت أمتي خيرَ الأمم)) .
وخيرية أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ كثيرة في الدنيا والآخرة على سائر الأمم؛ فخيريَّتُها في العمل، وفي الثواب، وفي الشريعة؛ بأن شرع لها من التيسير ما لم يشرع لغيرها، وفي الآخرة بتقدُّمِهم إلى فضائل كثيرة، أبرزها: أن أمته أوَّل الداخلين للجنة، وأكثر الأمم دخولاً الجنة؛ فخيريتها في الدنيا والآخرة.
12- (وأصحابه خير أصحاب الأنبياء - عليهم السلام): وهذه من خصائصه بأن أصحابه - صلى الله عليه وسلم - خيرُ الأصحابِ، وسيأتي في الفصل القادم ما يبين فضْلَهم على التفصيل، وأما في الجملة، ففضلهم جاء في نصوص كثيرة، منها:
1- قوله - تعالى -: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ .
2- قوله - تعالى -: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ .
3- حديث أبي بردة عن أبيه - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((النجوم أَمَنَةٌ للسماء، فإذا ذهبت النجوم، أتى السماءَ ما تُوعَد، وأنا أَمَنَةٌ لأصحابي، فإذا ذهبتُ، أتى أصحابي ما يُوعَدون، وأصحابي أَمَنَةٌ لأمتي، فإذا ذهب أصحابي، أتى أمتي ما يُوعَدون)) .
4- حديث البراء - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الأنصار لا يُحِبُّهم إلا مؤمنٌ، ولا يُبغِضهم إلا منافقٌ، من أحبَّهم أحبَّه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)) .
5- حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((خيرُ القرون قرني، ثم الذين يَلُونهم)) .
6- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تَسُبُّوا أصحابي، لا تَسُبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مِثْلَ أُحُدٍ ذهبًا، ما أدرك مُدَّ أَحَدِهم ولا نَصِيفَه)) .
والأحاديث في فضلهم كثيرة، وهم بالجملة ليسوا على مرتبة واحدة.
قال اللَّقَّاني - وهو أَحَدُ شيوخ المالكية - في "شرح جوهرة التوحيد": "أفضل الصحابة: أهلُ الحديبية، وأفضل أهل الحديبية: أهل أُحُد، وأفضل أهل أُحُد: أهل بدر، وأفضل أهل بدر: العشرة، وأفضل العشرة: الخلفاء الأربعة، وأفضل الخلفاء الأربعة: أبو بكر الصديق - رضي الله عنهم أجمعين".
وسيأتي بيان فضل الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم أجمعين - وأما جملة الصحابة فهم يتفاضلون:
- فالمهاجرون أفضل من الأنصار:
يدل على ذلك:
1- أن المهاجرين جَمَعوا بين الهجرة والنُّصرة، بخلاف الأنصار الذين أَتَوا بالنصرة فقط، وللتعريف بهم يقال: المهاجرون: هم الذين هاجروا إلى المدينة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل فتح مكة، والأنصار: هم الذين هاجر إليهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في المدينة.
2- تقديم الله - جل وعلا - المهاجرين على الأنصار في قوله: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ﴾ [التوبة: 100]، وقوله: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ﴾ [التوبة: 117].
- أهل بدر مرتبتهم أعلى من مراتب كل الصحابة:
يدل على ذلك: حديث علي - رضي الله عنه - وفيه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وما يُدْرِيك؟ لعل الله اطَّلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتُم فقد غفرتُ لكم)) .
- مَنْ أَنْفَق وقَاتَل قبل صلح الحديبية، أفضل ممن أنفق وقاتل بعد الصلح:
ويدل على ذلك: قوله - تعالى -: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ ، ويُعْرَف ذلك بمعرفة تاريخ إسلامهم؛ كأنْ نرجع للكتب كـ"الإصابة"؛ لابن حجر.
* * * * * * * *
فصلٌ: في حقوق أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وفضائلهم
قال المصنف - رحمه الله -:
"وأفضلُ أمَّتِه أبو بكْرٍ الصِّدِّيقُ، ثُم عمرُ الفاروقُ، ثُم عثمانُ ذو النُّورَينِ، ثُم عَليٌّ المُرْتَضَى - رَضِيَ الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ - لِمَا رَوى عبداللهِ بنُ عُمَرَ - رَضِي الله عنهما - قال: كنَّا نقولُ والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حيٌّ: أَفْضَلُ هذه الأمَّةِ بعْدَ نبيِّها أبو بكرٍ، ثمَّ عمرُ، ثم عثمانُ، ثم عليٌّ، فيبلغَ ذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فلا يُنْكرُه.
72- وصحَّتِ الرِّوايَةُ عنْ عليٍّ - رضي الله عنه - أنَّهُ قالَ: خَيْرُ هذهِ الأمةِ بعد نبيِّها أبو بكرٍ ثم عمرُ، ولو شئْتُ لسميْتُ الثَّالثَ.
73- وروى أبو الدَّرْدَاء عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: ((مَا طَلَعَتِ الشَمْسُ وَلاَ غَربَتْ بَعْدَ النَّبِيِّينَ والمُرْسَلِينَ عَلَى أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ))".
هذا فصلٌ ذكر فيه المصنِّف فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا سيَّما الخلفاء الراشدين منهم، وذكر فيه ما يجب على المؤمن اعتقادُه فيهم، والحديثُ عن فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وحقوقهم مما ذَكَره المصنف، يتضمن عدةَ مباحث:
المبحث الأول: فضائل الخلفاء الراشدين:
عن العِرْبَاض بن سارية قال: "صلى بنا رسولُ الله ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعَظَنا موعظةً بليغة، ذَرَفَتْ منها العيون، ووَجِلَتْ منها القلوبُ، فقال قائل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مُوَدِّع، فما تعهد إلينا؟ فقال: ((أُوصِيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن عبدًا حبشيًّا، فإنه من يَعِشْ منكم بعدي، فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديِّين الراشدين، تمسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))" .
أولاً: أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -:
وهو - كما قال المصنف - أفضل الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم.
ويدل على ذلك:
1- قول ابن عمر - رضي الله عنهما -: "كنَّا نخيِّر بين الناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فنخيِّر أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان"  ، وعند أبي داود قال ابن عمر: "كنا نقول ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيٌّ: أفضلُ أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان"، زاد الطبراني في رواية: "فيسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فلا ينكره" .
2- وعن محمد بن الحنفية - وهو ابن علي بن أبي طالب، وأمه خَوْلَةُ بنت جعفر الحنفية، ونُسِبَ إلى أمه؛ تمييزًا عن أخويه الحسن والحسين - قال: "قلتُ لأبي: أيُّ الناس خيرٌ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟ قال: "أبو بكر"، قلت: ثم من؟ قال: "ثم عمر"، وخَشِيتُ أن يقول: عثمان؛ قلتُ: ثم أنت؟ قال: "ما أنا إلا رجلٌ من المسلمين" .
من فضائله:
جاءت نصوص كثيرة تُبَيِّنُ فضله ومصاحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - منها:
- قوله - تعالى -: ﴿إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ ؛ والمراد بصاحبه: أبو بكر - رضي الله عنه.
- حديث أنس - رضي الله عنه - عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -: قلتُ للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنا في الغار: لو أنَّ أحدهم نَظَر تحت قدميه لأبصرنا؟ فقال: ((ما ظنُّك باثنين اللهُ ثالثهما؟!)) .
- حديث ابن عباس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لو كنتُ مُتَّخِذًا خليلاً لاتَّخَذْتُ أبا بكر)) ، وفي رواية عند البخاري: ((ولكن أخي وصاحبي))، وفي روايةٍ أخرى له: ((لو كنتُ مُتَّخِذًا خليلاً، لاتَّخَذْتُه خليلاً، ولكن أُخُوَّة الإسلامِ أفضل)).
- حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -: "قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبتَ، وقال أبو بكر: صدقتَ، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟! فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟!))، فما أُوذِي بعدها"؛  ولذا سمي بالصِّدِّيق؛ لأنه صدَّق النبي - صلى الله عليه وسلم - حين كذَّبه الناس.
- حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّ الناس أحبُّ إليك؟ قال: ((عائشة))، فقلتُ: مِن الرجال؟ قال: ((أبوها))، قلت: ثم مَنْ؟ قال: ((ثم عمر بن الخطاب))، فعَّد رجالاً" .
- حديث أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صَعدَ أُحُدًا، وأبو بكر، وعمرُ، وعثمانُ، فَرَجَف بهم، فقال: ((اثْبُت أُحُد؛ فإنما عليك نبيٌّ، وصدِّيق، وشهيدان)) ، والأحاديث في فضله - رضي الله عنه - كثيرة.
ثانيًا: عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:
وهو أفضل الصحابة بعد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - دلَّ على ذلك أدلَّةٌ كثيرة، منها حديثُ عمرو بن العاص السابق، وكذا حديثُ محمد بن الحنفيَّة، وقبله حديث ابن عمر، وجاء عند البخاري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كثيرًا ما يقول: ((كنتُ وأبو بكر وعمر، وفعلتُ وأبو بكر وعمر، وانطلقتُ وأبو بكر وعمر)).
من فضائله:
وأيضًا في عمر بن الخطاب فاروق هذه الأمة - رضي الله عنه - جاءتْ نصوصٌ كثيرة تُبَيِّن فضله، منها:
- حديث أنس - رضي الله عنه - الذي تقدَّم قريبًا، وفيه: ((اثْبُت أُحُد؛ فإنما عليك نبي، وصديق، وشهيدان)).
- قول ابن مسعود - رضي الله عنه -: "ما زلنا أَعِزَّةً مند أسلم عمرُ" .
- حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((بَيْنَا أنا نائمٌ، إذ رأيتُ الناس عُرِضُوا عليَّ وعليهم قُمُصٌ، فمنها ما يبلغ الثديَ، ومنها ما يبلغ دُون ذلك، وعُرض عليَّ عمرُ وعليه قميصٌ يجرُّه))، قالوا: فما أوَّلْتَ ذلك يا رسول الله؟ قال: ((الدِّين)) .
- حديث ابن عمر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((بَيْنَا أنا نائم، إذ رأيتُ قَدحًا أُتِيتُ به، فيه لبنٌ، فشربتُ منه حتى إني لأرى الرِّيَّ يخرج في أظفاري، ثم أَعْطَيتُ فَضْلِي عمرَ بن الخطاب))، قالوا: ماذا أَوَّلتَ ذلك يا رسول الله؟ قال: ((العلم)) .
- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "بينا نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: ((بينا أنا نائم رأيتُنِي في الجنة، فإذا امرأةٌ تتوضأ إلى جانب قصرٍ، فقلتُ: لِمَنْ هذا القصر؟ قالوا: لعمر، فذكرتُ غَيْرَتَه؛ فولَّيتُ مُدْبِرًا))، فبكى عمرُ، وقال: أعَلَيك أَغَارُ يا رسول الله؟!" .
- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد كان فيمن قبلكم مُحَدَّثون، فإن يَكُن من أمَّتي أحدٌ، فعمرُ)) .
- حديث سعد: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إيهٍ يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده، ما لَقِيَك الشيطانُ سالكًا فَجًّا قطُّ إلا سلك فَجًّا غيرَ فَجِّك)) .
والأحاديث في فضله - رضي الله عنه - كثيرة.
ثالثًا: عثمان بن عفان - رضي الله عنه -:
وهو أفضل الصحابة بعد أبي بكر الصديق وعمر - رضي الله عنهما - دلَّ على ذلك حديثُ ابن عمر السابق، ويُلَقَّبُ بذي النورين؛ لأنه تزوَّج ابنتي النبي - صلى الله عليه وسلم - رقية حتى ماتت، ثم أم كلثوم، حتى قيل: إنه لا يُعلم أحدٌ تزوج بابنتَيْ نبيٍّ غير عثمان.
من فضائله:
- وردت أحاديث في فضائله، منها:
- حديث أنس - رضي الله عنه - الذي تقدم، وفيه: ((اثبت أحد؛ فإنما عليك نبي، وصديق، وشهيدان)).
- حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - وفيه تخلُّف عثمان عن بيعة الرضوان؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم - بعثه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده اليمنى: ((هذه يد عثمان))، فضرب بها على يده .
- قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ يحفِر بئر رُومَة وله الجنة؟))، فحفرها عثمان ، وعند النسائي موصولاً: ((مَنْ ابتاع بئر رُومَة، غفر الله له)) .
- قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ جهَّز جيشَ العسرة، فله الجنة)) ، وعند أحمد والنسائي موصولاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظر في وجوهِ القوم يوم جيش العسرة، فقال: ((مَنْ يجهِّز هؤلاء، غَفَرَ الله له))، فجهزهم عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وعند الترمذي من حديث عبدالرحمن بن سَمُرة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما ضَرَّ عثمانَ ما عمل بعد اليوم)).
- حديث عائشة وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في عثمان - رضي الله عنه -: ((ألا أستحي من رجلٍ تستحي منه الملائكة؟!)) .
رابعًا: علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -:
ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزوجُ ابنته فاطمة - رضي الله عنها - وأبو سيِّدَيْ شباب أهل الجنة: الحسن، والحسين.
- من فضائله:
وردت أحاديث تبيِّن فضائله، منها:
- حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر: ((لأعطينَّ الرايةَ غدًا رجلاً يحبُّ اللهَ ورسوله، ويحبُّه اللهُ ورسوله، يفتح الله على يديه))، فدعا عليًّا فأعطاه الراية .
- حديث سعد - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعليٍّ: ((أمَا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟!)) .
والأظهر أن المصنِّف قال: (علي المرتضى)؛ لهذا الحديث، من التَّرَضِّي.
- حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: "والذي فَلَق الحبَّة وبرأَ النسمة، إنه لعهد النبي الأمِّيِّ إليَّ: "ألاّ يحبني إلا مؤمنٌ، ولا يبغضني إلا منافق" .
هذه بعض فضائل الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - الذين بشَّرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة كما في حديث أبي موسى - رضي الله عنه - عند البخاري وغيره، والحديث عن فضائلهم يطول به المقام، وما تقدَّم نزرٌ من بحر، وغَيْضٌ من فَيْض، وإلا ففضلُهم أُلِّفت فيه مجلدات، وابن كثير أحدهم، كما ذكر هو أنه كتب كتابًا بلغ ثلاثة مجلدات في فضل الشيخين أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - والمصنفات كثيرة في فضلهم - رضي الله عنهم.
* * * * * * * *
74- قال المصنف - رحمه الله -:
"وَهُو أَحَقُّ خَلْقِ اللهِ بالخِلافَةِ بعْدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لفَضْلِهِ وسَابِقَتِه، وتَقْدِيمِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - له في الصَّلاةِ على جميع الصَّحابةِ - رضي الله عنهم - وإجماعِ الصَّحابة على تقْديمِه ومُبايَعَتِه، ولم يكنِ اللهُ ليَجْمَعَهم على ضَلالةٍ.
75- ثم مِنْ بعده عمرُ - رضي الله عنه - لفضْلِه وعَهْدِ أَبي بكرٍ إليه.
76- ثم عثمانُ - رضي الله عنه - لتقْديم أهلِ الشُّورى له.
77- ثم عليٌّ - رضي الله عنه - لفَضلِه، وإجماعِ أهلِ عصْرِه عليه.
78- وهؤلاءِ الخلفاءُ الرَّاشدون المهديُّون الذين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم: ((عَلَيْكُم بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ مِن بَعْدِي، عضُّوا عَلَيْها بِالنَّوَاجِذ)).
79- وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((الخِلاَفَةُ مِن بَعْدِي ثَلاَثُونَ سَنَةً))، فكان آخرُها خلافةَ عليٍّ - رضي الله عنه".
المبحث الثاني: أحقية الخلافة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم".
الشرح:
- الأحق بالخلافة أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -:
فأبو بكر الصديق أحقُّ الأمة بالخلافة عند أهل السنة والجماعة، يدل على ذلك:
1- حديث عائشة وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه: ((مُرُوا أبا بكر فليصلِّ بالناس)) .
2- حديث جبير بن مُطْعِم قال: أتت امرأةٌ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأمَرَها أن ترجع إليه، فقالتْ: أرأيتَ إن جئتُ فلم أَجِدْك؟ كأنها تريد الموت، قال: ((إن لم تجديني، فأتي أبا بكر)) .
3- حديث عائشة وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لها: ((ادعي لي أباك وأخاك؛ حتى أكتب لأبي بكر كتابًا))، ثم قال: ((يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر)) .
4- حديث حذيفة - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اقتَدُوا باللَّذَيْنِ من بعدي: أبي بكر، وعمر)) .
5- والإجماع: فقد أجمع الصحابة - رضي الله عنهم - على مبايعته - رضي الله عنه - في سَقِيفَة بني ساعدة، حين اجتمعوا فيها، كما جاء في "صحيح البخاري" من حديث عائشة.
- واختلف أهل العلم، هل كانت خلافة أبي بكر وأحقيَّتُه بالخلافة ثابتة بالنص أو الإجماع؟
القول الأول: أنها ثابتة بالنص، واستدلوا بالأحاديث السابقة.
القول الثاني: أنها بالإجماع، واستدلوا بالإجماع السابق.
والأظهر - والله أعلم - القول الثاني، وأنها ثابتة بالإجماع تصريحًا، ولكن النصوص السابقة دالَّة على أحقيته بها، ولكن الاستخلاف إنما ثَبَتَ بالإجماع.
ويدل على ذلك: حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "حضرتُ أبي حين أُصِيبَ، فأثْنَوا عليه، وقالوا: جزاك الله خيرًا، فقال: راغبٌ وراهبٌ، قالوا: اسْتَخْلِف، فقال: أتحمَّل أمرَكم حيًّا وميتًا؟! لوددتُ أنَّ حظِّي منها الكفاف، لا عليَّ ولا لي، فإن أستَخْلِف فقد اسْتَخلَف مَنْ هو خيرٌ مِنِّي - يعني: أبا بكر - وإن أتركُكم فقد تركَكُم من هو خيرٌ مني؛ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ابنُ عمر: فعرفتُ أنه حين ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير مستخلِف" .
فهذا الحديث يؤخذ منه ما يلي:
أولاً: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستخلف؛ لقول عمر - رضي الله عنه -: "وإن أترككم، فقد ترككم مَنْ هو خير مِنِّي؛ رسول الله - صلى الله عليه وسلم"، فهذا نصٌّ في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تُوُفِّي ولم يستخلف أحدًا، فدلَّ ذلك على أن ثبوت خلافة أبي بكر وأحقيَّته بها كان بإجماع الصحابة، الذين فَهِمُوا أحقيته بالخلافة من النصوص الكثيرة الدالة على فضله وأحقيَّتِه.
ثانيًا: أن أحقية عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بالخلافة بعد أبي بكر كانت بالنَّص، حيث استخلفه أبو بكر - رضي الله عنه - يدلُّ على ذلك قول عمر - رضي الله عنه -: "فإن أستخلِف، فقد استخلَف مَنْ هو خيرٌ مني - يعني: أبا بكر"، وهذا يدل على أن أبا بكر استخلف عمرَ بعده على الخلافة، وأيضًا أجمع الصحابة على عمر - رضي الله عنه.
ثالثًا: أن أحقيَّةَ عثمان بالخلافة بعد عمر كانت بإجماع الصحابة - رضي الله عنهم - لا سيَّما أهل الشورى منهم، دَلَّ على ذلك الحديثُ السابق، حيث لم يستخلِف عمرُ، حتى قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: "فعرفتُ أنه حين ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير مستخلِف"، فأحقيَّة عثمان بالخلافة ثبتتْ بإجماع الصحابة ابتداءً من أهل الشورى؛ لِمَا رواه البخاري من حديث عمرو بن ميمون - وهو حديثٌ طويل - وفيه: "فقالوا لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أَوْصِ يا أمير المؤمنين، استخلف، قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النَّفَر الذين تُوُفِّي رسولُ الله وهو عنهم راضٍِِ، فسمَّى: عليًّا، وعثمان، والزبير، وطلحة، وسعدًا، وعبدالرحمن، وقال: يَشْهَدُكُم عبدالله بن عمر، وليس له من الأمر شيء..." الحديث، وفيه مبايعةُ النَّفَر الذين عدَّهم عمرُ لعثمان، والنصُّ على مبايعة عليٍّ لعثمان - رضي الله عن الجميع - ومن ثَمَّ بَايَعَ الناسُ عثمانَ بعد مبايعة أهل الشورى له.
وبعد وفاة عثمان، أجمع الصحابة على مبايعة علي - رضي الله عنه - بالخلافة؛ فكان أحقَّ بها بعد عثمان - رضي الله عنه.
فترتيب الخلفاء الراشدين بالأحقيَّة في الخلافة: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي - رضي الله عنهم أجمعين - هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، وإجماعهم على ذلك، ولم يخالف في ذلك إلا المبتدعة.
رابعًا: في حديث ابن عمر - رضي الله عنه - السابق ردٌّ على الرافضة، الذين يَرَوْنَ أن أحقية الخلافة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - لعليٍّ - رضي الله عنه - والردُّ عليهم من وجوه عِدَّةٍ، منها:
1- ما تقدَّم من إجماع الصحابة على أبي بكرٍ، وكان مع مَنْ أجمع على ذلك عليٌّ - رضي الله عنه - أفلا يَسَعُهم ما وَسِعَ عليًّا - رضي الله عنه - الذي هو صاحب الشأن فيما يَرَوْنه، وعليٌّ - رضي الله عنه - دخل في إجماع الصحابة في استخلاف أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان قبله؟!
2- قول ابن عمر - رضي الله عنهما -: "كُنَّا نخيِّر بين الناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فنخيِّر أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان" ، وفي رواية أبي داود: "أفضل أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان"، زاد الطبراني: "فيسمع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك فلا ينكره".
3- أن عليًّا - رضي الله عنه، وهو صاحب الشأن في الخلافة على حدِّ زعمهم - خَطَب الناس على المنبر في الكوفة فقال: "أفضل هذه الأمة بعد نبيِّها أبو بكر، ثم عمرُ، ولو شئتُ لسميت الثالث" .
4- حديث محمد بن الحنفية السابق، حيث قال لعلي: "أيُّ الناس خيرٌ بعد رسول الله؟ قال: أبو بكر، قلتُ: ثم مَنْ؟ قال: ثم عمر، وخَشِيتُ أن يقول: عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجلٌ من المسلمين" .
وهذه بعض الوجوه في الرد على من أعمى الله بصيرتَه من المبتدعة الرافضة، وهناك وجوه أخرى نكتفي بما سبق، ولم يخالف أحدٌ من أهل السنة والجماعة في أن أحقَّ الناسِ بالخلافة أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي - رضي الله عنهم أجمعين.
- فأبو بكر - رضي الله عنه - كانت خلافتة سنتين وثلاثة أشهر، وكانت وفاته وعمره (63) عامًا، سنة (13) من الهجرة النبوية.
- وعمر - رضي الله عنه - كانت خلافته عشر سنوات وستة أشهر، وكانت وفاته وعمره (63) عامًا، سنة (23) من الهجرة النبوية.
- وعثمان - رضي الله عنه - كانت خلافتة ثِنْتَيْ عشرة سنة، وكانت وفاتُه وقد تجاوز عمره (82) عامًا، سنة (35) من الهجرة النبوية.
- وعلي - رضي الله عنه - كانت خلافته أربع سنوات وتسعة أشهر، وكانت وفاتة وعمره (63) عامًا، سنة (40) من الهجرة النبوية.
ومجموع خلافتهم - رضي الله عنهم - تسعٌ وعشرون سنة وستة أشهر، ثم بُويِع بعد ذلك للحسن بن علي بعد موت أبيه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ستة أشهر، فتمَّت ثلاثون سنة، وهذا مِصْدَاقُ ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكره المصنف، وهو حديث سفينة أبي عبدالرحمن مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الخلافة من بعدي ثلاثون سنة)) .
مسألة:
تقدَّم معرفةُ ترتيب الخلفاء الراشدين في الخلافة: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، فهل ترتيبهم في الأفضلية كذلك؟
بالإجماع أن أفضلهم: أبو بكر، ثم عمر، ولم يخالف في ذلك أحدٌ، وإنما الخلاف في الثالث والرابع من حيث الأفضلية، لا من حيث الخلافة؛ فالخلافة سبق الإجماعُ عليها.
القول الأول: أن الثالث في الأفضلية عثمان ثم علي، فيكون الترتيب في الأفضلية على هذا القول كالترتيب في الخلافة، وهذا قول جمهور السلف؛ وذلك لما يلي:
1- أن عثمان من المهاجرين الأوَّلين، وكذلك هاجر إلى الحبشة.
2- أنَّه تزوج بابنتين من بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - فلُقِّب بذي النورين.
3- جهَّز جيش العسرة على نفقته الخاصة.
4- اشترى بئر رومة من اليهود، وجعله سبيلاً للمسلمين.
5- الآثار التي سبقتْ في تقديم عثمانَ على عليٍّ، بالإضافة إلى فضائله الأخرى.
والقول الثاني: أن الثالث علي، ثم عثمان، من حيث الأفضلية، مع تقديم عثمان في الخلافة، وهذا قولُ قلَّةٍ من السلف في الكوفة؛ وذلك لفضائله، ومنها:
1- أنَّه قريب النبي - صلى الله عليه وسلم - ويجتمع معه في الجد الأول عبدالمطلب.
2- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - له: ((أَمَا تَرْضَى أن تكون مِنِّي بمنزلة هارون من موسى؟!))، إلى غير ذلك من فضائله.
وهناك من يفضل أبا بكر، ثم عمر، ثم يسكت عن الثالث والرابع.
كان هذا الخلافُ موجودًا في القرن الأول، ثم استقرَّ قول أهل السنة بقول عامَّتهم بأن عثمان أفضل من عليٍّ، وهو الصواب؛ أي: إن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة.
تنبيه:
ينبغي التفريق بين مسألة الخلافة ومسألة التفضيل؛ فالخلافة ليس فيها خلافٌ في ترتيبهم، ومن قدَّم عليًّا على عثمانَ في الخلافة، فهو مبتدِع، وأما الأفضليَّة، فهي مسألة اجتهادية سبق بيانُها، وأن الصحيح أن ترتيبهم في الأفضلية كترتيبهم في الخلافة.




 
80- قال المصنف - رحمه الله -:
"ونَشْهَدُ للعشَرةِ بالجنَّةِ، كما شَهِدَ لهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أبُو بَكْرٍ فِي الجَنَّةِ، وعُمَرُ فِي الجنَّةِ، وعُثْمَانُ في الجنَّةِ، وعَلِيٌّ في الجنَّةِ، وطَلْحَةُ فِي الجَنَّةِ، والزُّبَيْرُ فِي الجَنَّةِ، وسَعْدٌ فِي الجنَّةِ، وسَعِيدٌ في الجنَّةِ، وعبدُالرحمن بنُ عوفٍ في الجنَّةِ، وأبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ في الجَنَّةِ)).
81- وكُلُّ مَنْ شَهِدَ له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالجنَّةِ، شَهِدْنَا له بها، كقوله: ((الحَسَنُ والحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ))، وقولِه لثابِتِ بنِ قيْسٍ: ((إنَّهُ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ)).
82- ولا نَجْزِمُ لأَحَدٍ مِنْ أهلِ القِبْلَةِ بجنَّةٍ ولا نَارٍ، إلاَّ مَنْ جَزَمَ لَهُ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - لَكِنَّا نَرجو للمُحْسِنِ، ونَخَافُ على المُسيءِ".
المبحث الثالث: الشهادة بالجنة:
الشهادة بالجنة على نوعين: شهادة عامة، وشهادة خاصة.
- أما الشهادة العامة، فهي شهادة لكلِّ مؤمن بأنه في الجنة؛ كما قال - تعالى -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ﴾ .
- وأما الشهادة الخاصة، وهي التي أرادها المصنف، فإننا نشهد لمن شهد له رسولُ الله بالجنة، وذكر بعضًا منهم المصنفُ، وممن شهد له رسول الله:
1- العشرة المبشرون بالجنة: وهم الخلفاء الراشدون الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعهم: سعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وعبدالرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيدالله، والزبير بن العوام، وأبو عبيدة عامر بن الجراح - رضي الله عنهم أجمعين.
إذًا؛ هم الخلفاء الأربعة، ومعهم الستة الذين جاء ذكرهم في قول الناظم:
سَعِيدٌ وسَعْدٌ وَابْنُ عَوْفٍ وطَلْحَةُ = وعَامِرُ فِهْرٍ والزُّبَيْرُ المُمَدَّحُ
ويدُلُّ على تبشيرهم بالجنة: حديث سعيد بن زيد، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أبو بكرٍ في الجنَّة، وعمرُ في الجنة، وعثمانُ في الجنة، وعليٌّ في الجنة، وطلحةُ في الجنة، والزبيرُ في الجنة، وعبدالرحمن بن عوف في الجنة، وسعدُ بن أبي وقاص في الجنة، وسعيدُ بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة)) .
2- الحسن والحسين: لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنة)) .
3- ثابت بن قيس: لحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "لمَّا نزلت هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ...﴾ إلى آخر الآية ، جَلَسَ ثابتُ بن قيس في بيته، وقال: أنا من أهل النار، واحتبس ثابت بن قيس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سعدَ بن معاذ، فقال: ((يا أبا عمرو، ما شأن ثابت؟ أَشْتَكَى؟))، قال سعد: إنه لجاري، وما علمتُ له بشكوى، وقال: فأتاه سعدٌ فذَكَر له قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ثابتٌ: أُنْزِلَت هذه الآيةُ، ولقد علمتُم أني من أرفعكم صوتًا على رسول الله؛ فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعدٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بل هو من أهل الجنة)) .
4- بلال بن رباح: لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلالٍ عند صلاة الفجر: ((يا بلال، حدِّثني بأرجى عملٍ عملتَه في الإسلام؛ فإني سمعتُ دفَّ نعليك بين يدي في الجنة))، قال: "ما عملتُ عَمَلاً أَرْجَى عندي أني لم أَتَطَهَّر طهورًا في ساعةِ ليلٍ أو نهار، إلا صلَّيتُ بذلك الطُّهور ما كُتِبَ لي أن أصلي" .
5- عكاشة بن محصن: لحديث ابن عباس في السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ففي آخره قال عُكَّاشة بن مِحْصَن للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ادْعُ الله أن يجعلني منهم، قال: ((أنت منهم)) .
6- عبدالله بن سلام: لحديث سعد - رضي الله عنه - قال: "ما سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأحدٍ يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة، إلا لعبدالله بن سلام" .
7- حارثة بن سُرَاقَة: لحديث أنس - رضي الله عنه -: أن أم حارثة أَتَتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا نبيَّ الله، أَلاَ تحدثني عن حارثة؟ - وكان قتل يوم بدر، أصابه سهم غرب - فإن كان في الجنة، صبرتُ، وإن كان غير ذلك، اجتهدتُ عليه في البكاء، قال: ((يا أمَّ حارثة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوسَ الأعلى)) .
8- سعد بن معاذ: لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: أُهْدِي للنبي جُبَّة سندس، وكان يَنْهَى عن الحرير، فعجب الناس منها، فقال: ((والذي نفسُ محمدٍ بيده، لَمَناديلُ سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا)) .
9- خديجة بنت خويلد: لحديث عائشة، قالت: "بَشَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خديجةَ بنتَ خويلد ببيتٍ في الجنة" ، وغير ما تقدم، كأمَّهات المؤمنين عامة.
- وهل نشهد لأحدٍ غير الذين شهد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة؟
قال شيخنا ابن عثيمين بعدما ذكر من شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة: "نشهد لهم بالجنة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شهد لهم، وألحق شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - من اتَّفقتِ الأمة - أو جُلُّ الأمة - على الثناء عليه، مثل: الأئمة الأربعة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا مَرَّت جنازةٌ وأَثْنَوْا عليها خيرًا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وَجَبَتْ))؛ أي: وجبت له الجنة، ومرت جنازة أخرى فأَثْنَوْا عليها شرًّا، فقال: ((وَجَبَتْ))، ثم قال لهم: ((أنتم شهداء الله في أرضه))، وعلى هذا فنشهد لهؤلاء الأئمة الذين أجمعت الأمة - أو جُلُّها - على الثناء عليهم بالجنة، لكن ليست شهادتُنا لهم بالجنة، كشهادتنا لمَنْ شهد له الرسول - صلى الله عليه وسلم" .
- وكذلك الشهادةُ بالنار، فإنها على نوعين: شهادة عامة، وشهادة خاصة.
- أما الشهادة العامة، فهي شهادةٌ لكل كافر يموت على كفْره بالنار؛ كما قال - تعالى -: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ﴾ ، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ .
- وأما الشهادة الخاصة، فإننا نشهد لمن شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه في النار، أو دلَّت النصوص عليه، ومنهم:
1- أبو لهب وامرأته أم جميل: لقوله - تعالى -: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ .
وأبو لهب هو عَمُّ النبي - صلى الله عليه وسلم - واسمه عبدالعُزَّى بن عبدالمطلب، وامرأته أم جميل أَرْوَى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان.
2- أبو طالب: لحديث العباس بن عبدالمطلب أنه قال: يا رسول الله، هل نفعتَ أبا طالبٍ بشيء؛ فإنه كان يَحُوطُك ويَغْضَبُ لك؟ قال: ((نعم، هو في ضَحْضَاح من نار، ولولا أنا لكان في الدَّرْك الأسفل من النار)) .
وأبو طالب هو عَمُّ النبي - صلى الله عليه وسلم - واسمه عبدمناف بن عبدالمطلب.
3- عمرو بن عامر بن لُحَيٍّ الخُزَاعي: لحديث عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رأيتُ جهنم يَحْطِم بعضُها بعضًا، ورأيتُ عَمرًا يجرُّ قُصْبَه، وهو أوَّل من سيَّب السَّوَائِب)) .
وهناك غيرُهم جاءت النصوصُ في بيان استحقاقهم للنار على الخصوص.
- وأما المسيء في الدنيا من أهل الإيمان، فإننا نخاف عليه، كما نرجو للمحسن، والإيمان لا يكون إلا بشرطين:
1- شرطُ إيجاب: وهو أن يأتي بالتوحيد، يأتي بالشهادتين وما يتعلق بهما.
2- شرط سَلْب: وهو ألاَّ يأتي بناقض من نواقض الإسلام.
فمَنْ لم يَأْتِ بالتوحيد، فليس بمؤمن؛ لأنه لم يدخل دائرةَ الإسلام، ومَنْ كان على التوحيد ثم أتى بناقضٍ من نواقض الإسلام، فقد خرج من دائرة الإسلام، بعد انتفاء الموانع، وتحقُّق الشروط.
وأما المؤمنون الذين معهم معاصٍ وذنوبٌ لا تصل لحدِّ الكفر، فإننا لا نكفِّرهم بهذه الذنوب، ولا نجزم لهم بالنار، كما أن أصحاب الطاعات لا نجزم لهم بالجنة، وإنما نرجو للمحسنين، ونحاف على المذنبين.
* * * * * * * *
83- قال المصنف - رحمه الله -:
"ولاَ نُكفِّرُ أحدًا مِنْ أهلِ القِبلةِ بذَنْبٍ، ولاَ نُخْرِجُهُ عَنِ الإسلامِ بِعَمَلٍ".
الشرح:
المبحث الرابع: تكفير أهل القبلة بالمعاصي:
أهل القبلة هم المسلمون الذين يصلُّون إليها، قال المصنف مبيِّنًا عقيدة أهل السنة والجماعة: "ولا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب، ولا نخرجه عن الإسلام بعمل"، وهذه مسألةٌ من مسائل الإيمان المهمة، وهي مسألة التكفير، فبيَّن المصنف عقيدةَ أهل السنة والجماعة، وأنهم لا يكفِّرون أحدًا بذنب، ولكن لا بد أن نعرف أن مقصود المصنف هنا هو الذنب الذي دون الشرك والكفر، وليس كلَّ ذنب، فليس معناه أن أهل السنة والجماعة لا يكفرون أحدًا ولو فعل مُكَفِّرًا؛ لأن هذه عقيدة المرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان عمل؛ أي: ولو كان مُكَفِّرًا، فمقصود المصنف أنهم لا يكفرون بذنب؛ أي: من المعاصي والكبائر دون الكفر والشرك، فمن فعل كبيرةً من كبائر الذنوب دون الكفر، لا يُحْكَم بكفره؛ لأن هذه عقيدة الخوارج.
فأهل السنة والجماعة وَسَطٌ بين طائفتين:
الأولى: المرجئة: الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان عملٌ، فلو جاء بأي عمل، ولو كان ناقضًا من نواقض الإسلام؛ كأن يسبَّ اللهَ - تعالى - أو يسجد لغيره عالمًا، وغير ذلك من نواقض الإسلام، فلا يقولون بكفره، لا سيما الغلاة من المرجئة، وأما أهل السنة والجماعة، فإنهم يُكَفِّرون من جاء بمكفِّرٍ، وتحقَّقتْ فيه الشروط، وانتفتْ عنه الموانع.
والثانية: الخوارج: وهم الذين يكفِّرون صاحبَ الكبيرة، فمَنْ سَرَقَ، أو زنى، أو شرب الخمر، أو نحو ذلك من الكبائر، فالخوارج يحكمون بكفره وخروجه عن دائرة الإسلام، وكذلك المعتزلة الذين يحكمون بخروجه عن دائرة الإسلام، وأما مُعْتَقَد أهل السنة والجماعة، فإنهم لا يُكَفِّرون أحدًا بذنب أو بكبيرة من كبائر الذنوب، سواء كان قولاً أو عملاً، ما دام أنه دون الكفر والشرك، وهذا ما أراده المصنف، أن يبيِّن عقيدة أهل السنة والجماعة في صاحب الكبيرة دون الكفر، فإنه لا يخرج عن دائرة الإسلام، فلا نكفِّره، والأدلة على ذلك كثيرة، منها:
1- قوله - تعالى -: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون﴾ .
ووجه الدلالة: أن القتل من كبائر الذنوب، ومع ذلك فإن الله أمَرَ بالإصلاح بينهما، وأبقى عليهم اسم الإيمان والأخُوَّة؛ مما يدل على أن صاحب الكبيرة لا يكفر بارتكابه الكبائر.
2- حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أن رجلاً كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان اسمه عبدالله، وكان يُلقَّب حمارًا، وكان يُضحِك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وقد جَلَدَه في الشراب، فأُتي به يومًا فأمر به فجُلد، فقال رجلٌ من القوم: اللهم الْعَنْه، ما أكثرَ ما يؤتى به! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تلعنوه؛ فوالله ما علمتُ إلا أنه يحب الله ورسوله)) .
ووجه الدلالة: أن شرب الخمر من كبائر الذنوب، ومع ذلك أثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - له بقاء محبته لله ورسوله، التي هي من أعظم دلائل الإيمان القلبي.
قال ابن حجر: "وفيه الرَّدُّ على من زعم أن مرتكب الكبيرة كافرٌ؛ لثبوت النهي عن لعنه، والأمر بالدعاء له" .
3- حديث أبي ذر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أتاني جبريل - عليه السلام - فبشَّرني أنه مَنْ مات من أمَّتِك لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، قلتُ: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق)) .
ووجه الدلالة: أن الزنا والسرقة من كبائر الذنوب، ومع ذلك أثبت لمن فعل ذلك الجنةَ؛ مما يدل على أن صاحب الكبيرة لا يكفر؛ لأن الجنة محرَّمة على الكافرين.
قال النووي: "((وإن زنى وإن سرق)): فيه دلالة لمذهب أهل الحق أنه لا يخلد أصحاب الكبائر في النار، خلافًا للخوارج والمعتزلة" .
والأدلة في بيان أن أصحاب الكبائر دون الكفر لا يكفرون كثيرةٌ، وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة، الذين هم وَسَطٌ بين:
1- المرجئة الذين أخذوا بنصوص الوعد؛ كحديث: ((مَنْ مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله، دخل الجنة)) ، فقالوا: لا يضر مع الإيمان معصية.
2- والخوارج والمعتزلة الذين أخذوا بنصوص الوَعِيد؛ كحديث: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) ، فقالوا: نُخْرِجه من الإيمان، ونحكم بخلوده في النار إذا فعل كبيرة من كبائر الذنوب؛ كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وغيرها من الكبائر؛ والمعنى: أنه لا يكون كامل الإيمان حين فعل هذه الكبائر، وكلا الطائفتين - المرجئة والخوارج - ومعهم المعتزلة، ضَلُّوا في هذه المسألة من الإيمان.
* * * * * * * *
84- قال المصنف - رحمه الله -:
"ونَرَى الحَجَّ والجِهَادَ ماضيًا مع طاعَةِ كلِّ إمامٍ، بَرًّا كان أو فَاجِرًا، وصلاةُ الجمعةِ خلفَهم جائزةٌ".
الشرح:
المبحث الخامس: طاعة ولي الأمر في غير معصية:
وهذه مسألة ذَكَرها المصنف تتعلَّق بالإمامة، حيث قال: "ونرى الحج والجهاد ماضِيَيْن مع كل إمام، برًّا كان أو فاجرًا"، وجاء بالحج والجهاد وصلاة الجمعة؛ لأنها غالبًا لا تُفْعَل إلا مع الأئمة، لا سيما في الزمن السابق، فقد كانوا لا يحجُّون وحدهم؛ لأنهم يخافون من قطَّاع الطريق، فإذا ذهبوا مع الإمام أَمِنُوا على أنفسهم؛ لأن الإمام معه قوةٌ ومَنَعَةٌ وجماعة، والإمام الذي ذكره المصنف هو إمام المسلمين؛ لأن الأئمة ثلاثة: بَرٌّ، وفاجرٌ، وكافرٌ؛ فالبَرُّ: هو إمام المسلمين الصالح التقي، والفاجر: هو إمام المسلمين الفاسق، وقد يكون فسقُه على نفسه؛ كالذي يشرب الخمر، ويَزْني، ويأكل الربا، ونحوها، وقد يكون فِسْقُه متعديًا؛ كأئمة الظلم والجور للناس في الأموال والأحكام، والثالث: هو الإمام الكافر، فهذا لا طاعة له؛ ولذا لم يذكره المصنف؛ لأنه لا طاعة له؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إلا أن تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا، عندكم من الله فيه برهان)).
- ومذهب أهل السنة والجماعة: وجوب السمع والطاعة للإمام المسلم؛ سواءً كان برًّا أو فاجرًا، وطاعته إنما هي في المعروف، وأما في المعصية، فلا طاعة له.
ومما يدل على طاعة الإمام:
1- قوله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59].
2- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني)) .
3- حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع، وإن كان عبدًا حبشيًّا مُجَدَّعَ الأطراف)) ، وعند البخاري: ((ولو لحبشيٍّ كأن رأسه زبيبة)).
4- حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ رأى من أميره شيئًا يكرهه، فليصبر؛ فإنه من فارق الجماعة شِبرًا فمات، فَمِيتَتُه جاهلية)) .
5- حديث عَوْف بن مالك - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خِيَار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتُصَلُّون عليهم ويصلون عليكم، وشِرَارُ أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم))، فقلنا: يا رسول الله، أفلا نُنَابِذُهم بالسيف عند ذلك؟ قال: ((لا؛ ما أقاموا الصلاة فيكم، أَلاَ من ولي عليه والٍ، فرآه يأتي شيئًا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعنَّ يدًا من طاعة)) .
6- حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: دعانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبايعناه، فكان مما أخذ علينا: أن بايعَنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعُسْرنا ويُسْرنا، وأَثَرة علينا، وألاّ ننازع الأمرَ أهلَه، قال: ((إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان)) .
7- حديث حذيفة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأَطِع)) .
- وأهل السنة والجماعة يُصَلُّون خلف الأمراء ويحجُّون، ولو كانوا فُجَّارًا، وكذلك يجاهدون معهم؛ ويدل على ذلك:
1- فعل جمعٍ من الصحابة - رضوان الله عليهم - ففي "صحيح البخاري": أن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان يُصَلِّي خلف الحَجَّاج ين يوسف الثَّّقَفي، وكذلك أنس بن مالك - رضي الله عنه - وكان الحَجَّاج فاسقًا ظالمًا، وكذلك ابن مسعود - رضي الله عنه - صلى خلف الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيْط، وكان يشرب الخمر.
2- لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يصلُّون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطؤوا فلكم وعليهم)) .
- ولكن لا طاعة لهم في معصية الله، ويدل على ذلك:
1- حديث علي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث جيشًا وأمَّر عليهم رجلاً، فأوقد نارًا، وقال: ادخلوها، فأرادوا أن يدخلوها، وقال آخرون: إنما فررْنا منها، فذَكَروا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: ((لو دخلوها، لم يزالوا فيها إلى يوم القيامة))، وقال للآخرين: ((لا طاعة في المعصية؛ إنما الطاعة في المعروف)) .
2- حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أَحَبَّ وكَرِه، ما لم يُؤْمَر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة))  .
* * * * * * * *
85- قال المصنف - رحمه الله -:
"قال أنَسٌ: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((ثَلاَثٌ مِنْ أصْلِ الإيمَانِ: الكَفُّ عمَّن قَالَ: لاَ إلَهَ إلاَّ الله، وَلاَ نُكَفِّرهُ بِذَنْبٍ، وَلاَ نُخْرِجُهُ مِنَ الإسْلاَمِ بِعَمَلٍ، وَالجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَني الله - عز وجل - حتى يُقَاتِلَ آخِرُ أُمَّتِي الدجالَ، لاَ يُبْطِلُه جَوْرُ جَائِرٍ، وَلاَ عَدْلُ عَادِلٍ، وَالإيمَانُ بالأقْدَارِ))؛ رواه أبو داود".
فائدة:
استدلَّ المصنفُ بحديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثٌ من أصل الإيمان: الكفُّ عمَّن قال: لا إله إلا الله، ولا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله - عز وجل - حتى يُقَاتِل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جَوْرُ جائر، ولا عَدْلُ عادل، والإيمان بالأقدار))؛ وهو حديث ضعيفٌ، رواه أبو داود بسند ضعيف؛ لأن فيه يزيد بن أبي نشبة، وهو مجهول كما في "التقريب"، وضعَّف إسناده المنذري في "مختصر أبي داود" (3/ 380)، وضعَّفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (2532).

 
86- قال المصنف - رحمه الله -:
"ومِنَ السُّنَّةِ: تَوَلِّي أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ومحبَّتُهُم، وذِكْرُ محاسنِهم، والتَّرَحُّمُ عليهم، والاستغفارُ لهم، والكَفُّ عن ذِكْرِ مسَاوئِهِم، ومَا شَجَرَ بَيْنَهُم، واعتِقادُ فَضْلِهِم، ومعرِفةُ سابِقَتِهم؛ قال الله - تعالى -: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمان وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ ، وقال - تعالى -: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ ".
الشرح:
المبحث السادس: ما ينبغي على المسلم للصحابة وما جرى بينهم:
- تعريف الصحابي:
الصحابة: جمع صحابي، واختُلِف في تعريف الصحابي، وأصح ما قيل، وهو المعتمد عند المحدثين، وذكره ابن حجر، حيث قال: وأصح ما وقفتُ عليه من ذلك أن الصحابي: من لَقِيَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مؤمنًا به، ومات على ذلك.
فيدخل فيمن لقيه: من طالتْ مجالستُه له أو قَصرتْ، ومن روى عنه أو لم يَرْوِ عنه، ومن غزا معه أو لم يَغْزُ، ومن رآه رؤيةً ولو لم يجالسه، ومن لم يره لعارضٍ كالعمى.
ويخرج بقيد الإيمان: من لقيه كافرًا ولو أسلم بعد ذلك، إذا لم يجتمع معه مرة أخرى.
وقولنا: مؤمنًا به: يخرج من لقيه من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة.
وخرج بقولنا: ومات على الإسلام: من لَقِيَه مؤمنًا به، ثم ارتدَّ، ومات على ردَّتِه - والعياذ بالله - وقد وُجِدَ من ذلك عددٌ يسير؛ كعُبَيِدالله بن جحش، وعبدالله بن خَطَل.
ويدخل فيه - أي: في مفهوم الصحابي - من ارتدَّ وعاد إلى الإسلام قبل أن يموت، سواء اجتمع به - صلى الله عليه وسلم - مرة أخرى أم لا.
وهذا هو القول المعتمد، وهذا التعريفُ مبنيٌّ على الأصحِّ المختار عند المحققين؛ كالبخاري، وشيخه أحمد بن حنبل، ومن تبعهما، ووراء ذلك أقوال أخرى شاذَّة"، انتهى كلام ابن حجر - رحمه الله .
- ما ينبغي للصحابة على المسلم:
ينبغي على المسلم أن يُدْرِك فضْلَ الصحابة، وعِظَم شأنهم، وتقدَّم بعضُ النصوص في فضلهم، فللصحابة فضلٌ عظيم على هذه الأمة؛ حيث قاموا بنصرة الله ورسوله، والجهاد في سبيله بأموالهم وأنفسهم، حَفِظوا الدين بحفظ الكتاب والسنة، فكانت حياتهم على الكتاب والسنة، عِلمًا وعَمَلاً ونقلاً حتى بلَّغوا الأمة؛ ولذا أثنى الله عليهم بقوله: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ ، ودافع عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((لا تَسُبُّوا أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدُكم مِثْلَ أُحُدٍ ذهبًا، ما بلغ مُدَّ أَحَدِهم ولا نَصِيفَه)) .
ولذا فإن حقوقهم تتلخص فيما يلي:
1- محبتهم بالقلب، والثناء عليهم باللسان بما قدموه من معروف، وبيان فضلهم.
2- الترحُّم عليهم، والتَّرَضِّي عنهم، والاستغفار لهم؛ لقول الله - جل وعلا -: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ ، وقوله - تعالى -: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ ، ففي هذه الآية بيانُ رِضا الله - جل وعلا - عليهم، وتزكية بواطنهم وما في قلوبهم، وهذه لا يقدر عليها إلا اللهُ - جل وعلا - قال جابر - كما عند البخاري -: "كُنَّا ألفًا وأربعمائة".
3- الكف عمَّا جرى بينهم من خلاف، وكذا الكف عن مساوئهم التي تُعْتَبَرُ قليلةً جدًّا، تغيب في ظل محاسنهم وفضائلهم، وما صدر عنهم من خطأ، فهو صادرٌ عن اجتهادٍ مغفورٍ، وعملٍ معذورٍ؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تَسُبُّوا أصحابي))، وبيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية في "العقيدة الواسطية" أن الآثار الواردة في مساوئ الصحابة على ثلاثة أقسام:
1- قسم كذب محض لم يقع منهم، وإنما اتُّهِموا به، كما يوجد في بعض مرويات الرافضة.
2- وقسم له أصلٌ، ولكن زِيدَ فيه، ونقص منه، وغُيِّر عن وجهه الصحيح.
3- وقسم صحيح كما نُقِلَ، وهم فيه معذورون؛ لأنهم مجتهدون، والمجتهد في دائرة الأجر والثواب؛ إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجرٌ واحد؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجر)) ، وهذا مِثْل ما حدث بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - في وقعة صِفِّين، وكذا في وقعة الجمل بين عائشة وعلي - رضي الله عنهما.
- ونوع هم فيه غير معذورين؛ أي: إنها أخطاء ليست عن اجتهاد ولا تأويل، فأهل السنة والجماعة لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصومٌ عن كبائر الإثم وصغائره؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوَّابون)) .
ومثل هذا ما حصل من مِسْطَح بن أَثَاثه، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش في قصة الإفك، ولكنهم تطهَّروا بإقامة الحد عليهم.
- فالذي يهمنا القسم الصحيح، ويقال فيه: إنه على نوعين:
النوع الأول: ما وقع منهم من خطأ وهم فيه غير معذورين؛ أي: ليس عن اجتهاد ولا تأويل:
فأهل السنة والجماعة لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصومٌ عن كبائر الإثم وصغائره؛ لأن كل بني آدم خطَّاء، ولكن لهم من السوابق والفضائل ما يُوجِبُ مغفرةَ ما يصدر عنهم - إن صَدَر - وليس لكل واحد منهم العصمةُ عن الخطأ، ولكن العصمة في إجماعهم، فلا يمكن أن يُجْمِعوا على ذنب فيستحلوه أو يفعلوه، سواء كان كبيرة أو صغيرة.
الثاني: ما وقع منهم من خطأ وهم فيه معذورون لاجتهادهم:
فأهل السنة والجماعة يُمْسِكون عما شجر بينهم، فلا يخوضون فيما وقع بينهم من حروب وخلافات على سبيل التَّوَسُّع والتفصيل، ونشر ذلك بين العامَّة، والتعرض بالتنقُّص من فئةٍ، والانتصار لأخرى؛ بل يُمسِكون عما شَجَر بينهم، وهم مأجورون؛ فالمصيب له أجران، والمخطئ له أجر؛ لأنهم مجتهدون.
- ولا بد أن يُعْلَم عدة أمور:
الأمر الأول: أن جمهور الصحابة، وجمهور أفاضلهم لم يدخلوا ويشاركوا في الفتن بين الصحابة؛ ويدل على ذلك ما يلي:
1- في وقعة صِفِّين: عن إسماعيل بن عُلَيَّة قال: حدثنا أيوب، عن محمد بن سيرين قال: "هاجت الفتنةُ وأصحاب رسول الله عشرة آلاف، فما حضر فيها مائة؛ بل لم يبلغوا ثلاثين" .
2- في وقعة الجمل: عن ابن عُلَيَّة، عن منصور بن عبدالرحمن، عن الشعبي قال: "لم يشهد الجملَ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من المهاجرين والأنصار إلا عليٌّ وعمار وطلحة والزبير، فإن جاؤوا بخامس، فأنا كذَّاب" .
والأمر الثاني: أن مَنْ شارك من الصحابة حَزِنَ ونَدِمَ على ما جرى؛ ويدل على ذلك:
1- ما رواه الزهري قال: قالت عائشة: "إنما أريد أن يحجز بين الناس مكاني، ولم أحسب أن يكون بين الناس قتالٌ، ولو عَلِمتُ ذلك، لم أقف ذلك الموقف أبدًا" .
وكانت إذا قرأت: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ ، تبكي حتى يبتل خمارُها .
2- ما رواه الشعبي قال: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: لما قُتِل طلحةُ ورآه مقتولاً، جعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: عزيزٌ عليَّ أبا محمد أن أراك مجندلاً تحت نجوم السماء، ثم قال: إلى الله أشكو عُجَرِي وبُجَرِي - أي: همومي وأحزاني - وبكى عليه هو وأصحابه، وقال: يا ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة .
وكان عليٌّ - رضي الله عنه - يقول: "لله درُّ مقام عبدالله بن عمر، وسعد بن مالك - وهم ممن اعتزل الفتنة - إن كان بدًّا - أي: لا بد منه حين اعتزلوا - إن أجره لعظيم، وإن كان إثمًا، إن خطره ليسير" .
فهذا هو قول علي - رضي الله عنه - وهو الذي كان أقرب إلى الحق في القتال؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وَيْحَ عمَّار، تقتله الفئة الباغية)) ، والباغية الخارجة على الإمام لكنهم متأوِّلون، والذي قتل عمارًا أصحابُ معاوية، ومع ذلك قال عليٌّ ما تقدم.
3- وهذا معاوية - رضي الله عنه - لما جاءَه نعي عليِّ بن أبي طالب، جلس وهو يقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، وجعل يبكي، فقالت امرأته: أنت بالأمس تقاتله، واليوم تبكيه؟ فقال: وَيْحَك، إنما أبكي لما فقد الناس من حلمه وعلمه وفضله، وسوابقه وخيره"، وفي رواية: "وَيْحَك، إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم" .
الأمر الثالث: أن ما حصل بين الصحابة من قتال في صِفِّين والجمل، لم يكن على الإمامة؛ فكلهم متَّفقون على إمامة علي - رضي الله عنه - وإنما كان القتال فتنةً - على قول كثير من العلماء - بسبب اختلافهم في كيفية القصاص من قاتلي عثمان - رضي الله عنه.
ويدل على ذلك: ما قاله عمر بن شبة: "إن أحدًا لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا عليًّا في الخلافة، ولا دعوا أحدًا ليُوَلُّوه الخلافة، وإنما أَنْكروا على عليٍّ منعه من قتال قَتَلَةِ عثمان، وترك الاقتصاص منهم" .
ومما يؤكد ذلك ما رواه ابن كثير قال: "جاء أبو مسلم الخولاني وأناسٌ إلى معاوية، وقالوا: أنت تنازع عليًّا أم أنت مثله؟ فقال: لا والله، إني لأعلمُ أنه أفضل مني، وأحقُّ بالأمر مني، ولكن أَلَسْتُم تعلمون بأن عثمان قُتِلَ مظلومًا، وأنا ابن عمه، والطالب بدمه؟ فائتوه فقولوا له، فليدفع إليَّ قَتَلَة عثمان، وأسلم له، فأتَوْا عليًّا، فكلَّموه، فلم يدفعهم إليهم" .
وفي رواية: "فعند ذلك صمَّم أهل الشام على القتال مع معاوية" .
وبناءً على ما تقدم؛ فإنه يجب على المسلم أن يمسك عما شَجَر بين الصحابة - رضي الله عنهم - فإن هذا هَدْي السلف - رحمهم الله - روى ابنُ بَطَّة عن بكير بن الأَشَجِّ قال: "أَمَا إن رجالاً من أهل بدرٍ لَزِموا بيوتهم بعد قتل عثمان - رضي الله عنه - فلم يخرجوا إلا لقبورهم، إلا ما كان لصلاة الفريضة، والجمعة، والعيدين".
وسُئِلَ أحمد بن حنبل - رحمه الله -: "ما تقول فيما كان من أمر طلحة والزبير وعلي ومعاوية - رضي الله عنهم؟ فقال: مَنْ أنا أقول في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان بينهم شيء؟! الله أعلم".
وكان عمر بن عبدالعزيز إذا سُئِل عن صفِّين والجمل يقول: "ذاك أمرٌ أخرج الله يدي منه، لا أدخل لساني فيه".
- ولكن إذا اختُلِق على أصحاب رسول الله من الآثار والأفعال والأقوال ما لم يعملوه، ودعت الحاجة إلى ذكر ما شَجَر بينهم، فلا بأس، ولا بُدَّ من التحقُّق والتثبُّت في ذلك، فيُنْظَر في الروايات المذكورة الصحيحة حول الفتن بين الصحابة؛ ليتبيَّن ما كان صوابًا ويُرَدّ على من اختلق وحرَّف؛ لقول الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ ، فلا بُدَّ من التحقُّق والنظر فيها، خصوصًا ونحن نعلم أن كثيرًا من هذه الروايات دخلها اختلاقٌ وتحريف، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية بعدما ذكر نحوًا مما سبق، قال: "وأكثر النقول من المطاعن الصريحة، هو من هذا الباب، يرويها الكذَّابون المعروفون بالكذب مثل أبي مخنف لوط بن يحيى، ومثل هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وأمثالهما" .
- إذًا؛ الأصل فيما شجر بينهم الإمساكُ، إلا إذا دعتِ الحاجة كما سبق، ولله دَرُّ القحطاني حيث يقول في نونيته:
قُلْ خَيْرَ قَوْلٍ فِي صَحَابَةِ أَحْمَـدٍ = وَامْـدَحْ جَمِيعَ الآلِ والنِّسْوَانِ
دَعْ مَا جَرَى بَيْنَ الصَّحابَةِ فِي الوَغَى = بِسُيُوفِهِمْ يَوْمَ الْتَقَـى الجَمْعَانِ
فَقَتِيلُهُمْ مِنْهُمْ وَقَاتِلُهُمْ لَهُمْ = وَكِلاَهُمَا فِي الحَشْرِ مَرْحُومَانِ
وَاللَّهُ يَوْمَ الحَشْرِ يَنْزِعُ كُلَّ مَا = تَحْوِي صُدُورُهُمُ مِنَ الأَضْغَانِ
* * * * * * * *
87- قال المصنف - رحمه الله -:
"وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تَسُبُّوا أصحابي؛ فلو أنَّ أحدَكم أنفقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، ما بَلغَ مُدَّ أحدِهم ولا نَصِيفَه))".
المبحث السابع: سب الصحابة - رضي الله عنهم - وتكفيرهم:
والكلام على هذا المبحث من وجهين:
أولهما: ماذا يستلزم سب الصحابة وتكفيرهم؟
وثانيهما: حكم من سب الصحابة.
- ماذا يستلزم سب الصحابة وتكفيرهم؟
سبُّ الصحابة - رضي الله عنهم - وتكفيرهم كما يفعل بعض الرَّوافض ومَنْ سار في نهجهم - يستلزم عدة أمور، منها:
أوَّلاً: القدح والطعن في الصحابة الذين نقلوا لنا الدين بأقوالهم وأفعالهم.
ثانيًا: نسبة الجهل أو العبث لله - جل وعلا - تعالى الله عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا.
ووجه ذلك: أن الله - تعالى - أثنى عليهم، فكيف يثني عليهم ويَعِدُهم الحسنى وهم سيكفرون؟! فإما أن يكون الله - جل وعلا - لا يعلم بكفرهم؛ لأنه أثنى عليهم، وفي هذا نسبة الجهل إليه - تعالى الله عن ذلك - وإما أنه يعلم - سبحانه - أنهم سيكفرون، وأثنى عليهم ووعدهم الحسنى، وهذا عبثٌ - وتعالى الله عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا - ولكن الحماقة عند مَنْ يسبُّهم أَعْيَت من يُدَاوِيها.
ثالثًا: الطعن في حكمة الله - جل وعلا - حيث إن الله - جل وعلا - اختارهم أنصارًا لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - فنصروه وجاهدوا معه، وصاهرهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فزوَّج ابنتيه لعثمان، وتزوَّج هو ابنتي أبي بكر وعمر، فكيف يختار لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أنصارًا وأصهارًا مع علمه أنهم سيكفرون؟!
رابعًا: الطعن في حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: ((خير القرون قَرْني))، فأيُّهما أصح: قولهم، أو قول نبينا - صلى الله عليه وسلم؟!
خامسًا: الطعن في الشريعة والقرآن والسنة؛ لأنهم هم الذين نقلوه إلينا، ومن طعن في النقلة فهو طعن في المنقول؛ إذ كيف نَثِقُ بكتابٍ وسنةٍ نقلها إلينا مُرْتَدُّون وفسقة؟ - نسأل الله السلامة والعافية من عَمَى البصيرة.
وهناك أوجهٌ أخرى يستلزمها الطعن فيهم - رضي الله عنهم - وتقدَّم بعضُها.
- حكم سب الصحابة - رضي الله عنهم -:
سب الصحابة - رضي الله عنهم - على عدَّة أنواع:
1- أن يسب جميع الصحابة أو أكثرهم، أو يتَّهمهم بالنفاق والردة، أو بالفسق، فهذا كَفَرَ وارْتَدَّ بإجماع العلماء، وقد حكى الإجماعَ على ذلك غيرُ واحد من العلماء؛ منهم: ابنُ حزمٍ، والقاضي أبو يَعْلَى، وابنُ تيمية، وابنُ كثير، وغيرهم؛ لأن من يعتقد ذلك في الصحابة فقد تضمَّن سبه إياهم ما تقدَّم، فلا شَكَّ في كفره؛ بل لا شَكَّ في كفر من لم يُكَفِّره، أو شك في كفره.
2- أن يسبَّهم بسبٍّ مصحوبٍ بأمرٍ كُفْريٍّ، فهذا لا شك أنه كُفْرٌ أيضًا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أما من اقترن بسبه دعوى أن عليًّا إله، أو أنه كان هو النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما غلط جبريلُ في الرسالة، فهذا لا شكَّ في كفره؛ بل لا شك في كفر من تَوَقَّف في تكفيره".
2- أن يَسُبَّ بعض الصحابة سبًّا يطعن في دينهم؛ كاتهامهم بالكفر، أو الفسق، وكان الذي وقع عليه السبُّ من الصحابة مما تواترت النصوص في فضله؛ كالخلفاء الراشدين، فهذا كفر أيضًا على القول الصحيح؛ لأن في سبهم تكذيبًا لأمرٍ متواتر، وذهب بعض العلماء إلى عدم تكفيره؛ وإنما اعتبروا فعله من كبائر الذنوب التي يستحق عليها التأديب والتعزير.
3- أن يسُبَّ من الصحابة مَنْ لم يتواتر النقل بفضله على وجه الخصوص، سبًّا يقدح في دينه، فجمهور العلماء على عدم تكفيره؛ وذلك لأنه لم يُنْكِر أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة، ولكن وقع في كبيرة لا بد أن يؤدَّب عليها.
4- أن يسب بعضَهم سبًّا لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم، فهذا محرَّمٌ وليس بكفر؛ كاتهام بعضهم بالبخل، أو الجبن، أو قلة العلم، ونحو ذلك، ولكن قائل ذلك يستحق التأديب والتعزير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما من سبَّهم سبًّا لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم، فهذا محرَّمٌ وليس بكفر؛ كاتهام بعضهم بالبخل، أو الجبن، أو قلة العلم، أو عدم الزهد، ونحو ذلك، فهذا الذي يستحق التأديب والتعزير، ولا يحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يُحْمَلُ كلامُ مَنْ لم يكفرهم من العلماء".
 
88- قال المصنف - رحمه الله -:
"ومِنَ السُّنَّةِ التَّرَضِّي عَنْ أَزْواجِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أُمَّهاتِ المؤمنينَ المُطهَّراتِ، المُبَرَّآتِ مِنْ كلِّ سوءٍ، أفضلُهنَّ خديجةُ بنتُ خُوَيْلِد، وعائشةُ الصِّديقةُ بنتُ الصِّدِّيقِ التي بَرَّأَهَا اللهُ فِي كتابِهِ، زوْجُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرةِ، فمَنْ قَذَفَهَا بما بَرَّأَها اللهُ مِنْهُ، فَقَدْ كَفَرَ باللهِ العظيم".
الشرح:
المبحث الثامن: حقوق زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم -:
ولأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - حقوقٌ؛ وذلك بمعرفة فضلهن، والتَّرضِّي عليهن، واعتقاد أنهن مُطَهَّرَاتٌ ومُبَرَّآتٌ من كل سُوء، وأنهن أُمَّهاتُ المؤمنين؛ كما قال - تعالى -: ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ ؛ أي: في الاحترام والتقدير.
- وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عددهن إحدى عشرة، وهن:
1- خديجة بنت خويلد: أم أولاده إلا إبراهيم.
2- وعائشة بنت أبي بكر الصديق: لم يتزوج بِكْرًا غيرها.
3- وسَوْدَةُ بنت زمعة العامرية.
4- وحفصة بنت عمر بن الخطاب.
5- وزينب بنت خزيمة الهلاليَّة: أم المساكين، تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد استشهاد زوجها عبدالله بن جحش في غزوة أُحد.
6- وأم سلمة هند بنت أبي أمية المخزومية.
7- وزينب بنت جحش الأسدية: بنت عمة النبي - صلى الله عليه وسلم.
8- وجويرية بنت الحارث الخزاعية.
9- وأمُّ حبيبة رَمْلة بنت أبي سفيان: تزوَّجها بعد زوجٍ لها أسلم ثم ارتدَّ وتنصر، وهو عبيدالله بن جحش.
10- وصَفِيَّة بنت حُيَيِّ بن أَخْطَب: من بني النضير، أعتقها النبي - صلى الله عليه وسلم - وجعل عِتْقَها صداقَها.
11- وميمونة بنت الحارث الهلالية.
هؤلاء زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - اثنتان منهنَّ تُوُفِّين قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهما: خديجة بنت خويلد - ولم يتزوَّج عليها حتى ماتت - وزينب بنت خزيمة، وبقية التسع تُوُفِّي عنهنَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وهن البواقي.
ما تقدم هن أمهات المؤمنين، وبَقِي اثنتان تزوجهما ولم يدخل بهما النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يثبت لهما من الفضل والأحكام ما يثبت للسابقات، وهما:
1- أسماء بنت النعمان الكندية: واختُلِف في سبب مفارقتها وقال ابن إسحاق: إنه وجد في كشحها بياضًا ففارقها، وقيل غير ذلك.
2- وابنة الجَوْن أميمة بنت النعمان بن شراحيل الجَونية: هي التي قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "أعوذ بالله منك"؛ كما عند البخاري، فقال لها: ((لقد عُذْتِ بِمعَاذٍ))، ففارقها.
- اتفق أهل العلم على أن أفضل زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - خديجة وعائشة، واختلفوا أيهما أفضل:
فقيل: خديجة أفضل؛ والتعليل:
1- لأنها هي التي آزرت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أو النبوة، وجاهدتْ معه وواسَتْه.
2- لأن الله - تعالى - أرسل إليها السلام مع جبريل، وهي خاصية ليست لامرأة سواها.
3- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتزوج عليها حتى ماتت؛ إكرامًا لها.
4- لها السبق في الإسلام.
وقيل: عائشة أفضل؛ والتعليل:
1- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وفضل عائشة على النساء كفضل الثَّرِيد على سائر الطعام)) .
2- أن عبدالله بن عمرٍو سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أيُّ الناس أحب إليك؟ قال: ((عائشة))  .
3- أن الله - عز وجل - برَّأها من الإفك، فأنزل فيها آيات تتلى.
4- أنه لا يُعلَم امرأةٌ عالمة في الأمة مثلها إلى وقتنا الحاضر، فلها السبق في نشر العلم، لا سيما أمور النبي - صلى الله عليه وسلم - والأحكام الخاصة.
وقيل: كل واحدة أفضل من جهة؛ فلخديجة في أول الإسلام ما ليس لعائشة من: السَّبْقِ في الإسلام، والمؤازرة، والنصرة، ولعائشة في آخر الأمر ما ليس لخديجة من: نشر العلم، ونفع الأمة، وتبرئتها من الإفك، واختار هذا القولَ شيخُنا ابن عثيمين.
قال ابن كثير: "والحق أن كلاًّ منهما لها من الفضائل ما لو نظر الناظر فيه، لبهره وحيَّره، والأحسن التوقُّف في ذلك؛ فالطريق الأَقْوَمُ، والمسلك الأسلم أن يقول: الله أعلم" .
وقال الذهبي في ترجمة عائشة: "وكانت امرأةً بيضاءَ جميلة، ولم يتزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بِكرًا غيرها، ولا أحبَّ امرأةً حُبَّها، ولا أعلمُ في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بل ولا في النساء امرأةً أعلم منها، ونشهد أنها زوجة نبيِّنا في الدنيا والآخرة، فهل فوق ذلك مَفْخَرٌ؟! وإن كان للصِّدِّيقة خديجة شأن لا يُلحق، وأنا واقفٌ في أيَّتِهما أفضل، نعم جزمتُ لأفضلية خديجة عليها بأمورٍ ليس هذا موضعها" .
- حكم من سبَّ أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -:
- أما سبُّ عائشةَ وقذفها، فكفرٌ بلا خلاف بين أهل العلم، والتعليل:
1- لأن مَن قذَفَها فقد خالف القرآن وكذَّب به، ومن كذَّب بآية من القرآن، فقد كَفَر باتفاق الأئمة، ونزلت آيات في براءتها.
2- أن في ذلك عارًا وإيذاءً للنبي - صلى الله عليه وسلم - والله - عز وجل - يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾ .
وأما سبُّ بقيَّة أزواجه، ففيه قولان: أصحهما أنه يكفر أيضًا، واختاره أكثر العلماء، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية، واختاره شيخنا ابن عثيمين؛ والتعليل:
1- أن في ذلك عارًا وإيذاءً للنبي - صلى الله عليه وسلم - والله - عز وجل - يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾.
2- أن في ذلك قدحًا في النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الله - عز وجل - يقول: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ﴾ .
- قال ابن تيمية: "فأمَّا مَن سبَّ أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال القاضي أبو يَعْلَى: مَن قَذَفَ عائشةَ بما برَّأها الله منه، كَفَرَ بلا خلاف، وقد حكى الإجماعَ على هذا غيرُ واحد... وأما من سبَّ غيرَ عائشة من أزواجه - صلى الله عليه وسلم - ففيه قولان... والثاني - وهو الأصحُّ -: أن مَنْ قَذَفَ واحدةً من أمهات المؤمنين - رضي الله عنهن - فهو كقذف عائشة - رضي الله عنها" .
89- قال المصنف - رحمه الله -:
"ومعاويةُ خالُ المؤمنينَ، وكاتِبُ وحْيِ اللهِ، أحدُ خلفاءِ المسلمينَ - رضي الله عنه".
الشرح:
المبحث التاسع: فضل معاوية - رضي الله عنه -:
والمتأمِّل لما ذَكَره المصنف يجدُه أَسْهَب وأطال في الحديث عن الصحابة، وختم بهذا المبحث، وهو الحديث عن فضل معاوية - رضي الله عنه - وما ذاك إلا لأنه في عصر المؤلف - كما تقدَّم في أوَّل الشرح - يوجد من الرافضة من يسبُّ الصحابة، ويلعنهم، ويتنقصهم، ولاسيما معاوية - رضي الله عنه - فإنهم يَزِنُون المكيال بمِكْيَالَيْنِ في سبِّه؛ بسبب ما حصل بينه وبين عليٍّ - رضي الله عنهما - في موقعة صِفِّين، فأراد المصنف أن يبيِّن فضل معاوية - رضي الله عنه.
وهو أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب، وُلِد قبل البعثة بخمس سنين، وأسلم عام الفتح، وقيل: أسلم بعد الحديبية، وكَتَم إسلامه، ولاَّه عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - على الشام، وأحبَّه أهلُ الشام، وبعد مقتل عثمان حزن حزنًا شديدًا، وأخذ هو وأهل الشام على أنفسهم أن ينتصروا لعثمان، ثم حدثت موقعة صِفِّين بين معاوية ومعه أهل الشام، وعليٍّ ومعه أهل العراق.
وبعد وفاة علي - رضي الله عنه - تَنَازَل الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية، وذلك سنة 41هـ، وتوفي سنة 60هـ.
من فضائله:
1- أنه كاتب الوحي بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
دلَّ على ذلك: حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يُقاعدونه، فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا نبي الله، ثلاث أعطِنِيهِنَّ، قال: ((نعم))، قال: عندي أحسنُ العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوِّجُكَها، قال: ((نعم))، قال: ومعاوية تجعله كاتبًا بين يديك، قال: ((نعم))، قال: وتُؤمِّرني حتى أقاتل الكفار، كما كنتُ أقاتل المسلمين، قال: ((نعم))" .
2- دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالهداية له وبه: روى الترمذي في فضائل معاوية أنه لما تَوَلَّى أمرَ الناس، كانت نفوسهم لا تزال مشتعلة عليه، فقالوا: كيف يتولى معاوية وفي الناس من هو خيرٌ منه مثل الحسن والحسين؟! قال عمير - وهو أحد الصحابة -: لا تذكروه إلا بخير؛ فإني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((اللهم اجعله هاديًا مهديًّا وَاهْدِ به)) .
3- خال المؤمنين:
ووجه ذلك: أنه أخٌ لأمِّ حبيبةَ زوجِ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى أمهات المؤمنين؛ فهو خال لهم من هذا الباب، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية نِزاعًا بين أهل العلم: هل يقال لإخوة أمهات المؤمنين: أخوال المؤمنين أو لا؟
4- ولاه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على الشام:
وتولى خلافة المسلمين بعد الحسن بن علي، وتقدم بيان ذلك.
5- أوَّل من قاد حملةً بحرية، وهي التي شبَّهها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالملوك على الأسرَّة؛ روى البخاري في "صحيحه" حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن خالته أم حرام بنت ملحان قالت: "نام النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا قريبًا مني، ثم استيقظ يبتسم، فقلت: ما أضحكك؟ قال: ((أناس من أمتي عُرِضُوا عليَّ يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأَسِرَّة))، قالت: فادعُ الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم نام الثانية، ففعل مثلها، فقالت قولها، فأجابها مثلها، فقالت: ادعُ الله أن يجعلني منهم، فقال: ((أنت من الأوَّلين))، فخرجتْ مع زوجها عبادة بن الصامت غازيًا أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية، فلمَّا انصرفوا من غزوتهم قافلين، فنزلوا الشام فقُرِّبت إليها دابة لتركبها، فصرعتْها فماتتْ".
قال ابن حجر في تعليقه على قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قوله: ((ناسٌ من أمتي عُرِضوا عليَّ غزاةً...)) يُشْعِر بأن ضَحِكَه كان إعجابًا بهم، وفرحًا لما رأى منهم من المنزلة الرفيعة" .
وأخرج البخاري أيضًا حديث أم حرام بنت ملحان - رضي الله عنها - قالت: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يقول: ((أول جيش من أمتي يغزون البحر، قد أوجبوا))، قالت أم حرام: قلت: يا رسول الله، أنا فيهم؟ قال: ((أنتِ فيهم))، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أول جيشٍ من أمتي يغزون مدينة قيصر - أي: القسطنطينية - مغفورٌ لهم))، فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: ((لا)) .
قال المهلب بن أحمد الأسدي: "إن في هذا الحديثِ منقبةً لمعاوية؛ لأنه أوَّل من غَزَا البحر" .
وفتح جزيرة قبرص وغزو البحر كان في سنة (27هـ) في إمارة معاوية على الشام أثناء خلافة عثمان ، وبعد ذلك قاتَل المسلمون أهل القسطنطينية.
قال سعيد بن عبدالعزيز: "لما قُتِلَ عثمان ووقع الاختلاف، لم يكن للناس غزوٌ، حتى اجتمعوا على معاوية، فأغزاهم مراتٍ، ثم أغزى ابنه في جماعة من الصحابة برًّا وبحرًا، حتى أجاز بهم الخليج، وقاتلوا أهل القسطنطينية على بابها، ثم قفل" .

 
فصلٌ: في الخلافة
90- قال المصنف - رحمه الله -:
"ومِنَ السُّنَّةِ السَّمْعُ والطاعَةُ لأئمةِ المسلمينَ، وأُمَرَاءِ المؤمنينَ بَرِّهِمْ وفَاجرِهمْ، ما لم يأمُروا بمعصيةِ اللهِ؛ فإنَّه لا طاعةَ لأحدٍ في معصيةِ اللهِ.
91- ومَنْ وَلِي الخلافةَ، واجتمعَ عليه الناسُ، ورَضُوا بِهِ، أوْ غلبَهُم بسيْفِهِ حتَى صَارَ الخليفةَ، وسُمِّيَ أميرَ المؤمنينَ، وجبَتْ طاعتُهُ، وحَرُمَتْ مُخَالفَتُهُ والخُروجُ عَلَيهِ وشَقُّ عصَا المسلمينَ".
الشرح:
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: السمع والطاعة لأمير المؤمنين في غير معصية:
فأهل السنة والجماعة معتقدُهم السَّمْعُ والطاعة لأئمة المسلمين، سواء كان بَرًّا أو فاجرًا، وتقدَّم بيانُ ذلك في الفصل السابق، في المبحث الخامس منه، بالأدلة الكثيرة في إثبات هذا الأمر، وأن الطاعة في المعروف، ولا طاعة لأحد في معصية الله.
وذكر المصنف هنا أنه يجب لأئمة المسلمين أمران، وهما: السمع، والطاعة، ويَحْرُم أمران، وهما: الخروج عليهم، ومخالفتهم.
المبحث الثاني: حصول الخلافة يكون بأمور:
- ثم ذكر المصنف كيفية حصول الخلافة وأنها تكون بإحدى ثلاثة أمور:
الأول: النص عليه من الخليفة الذي قبله:
مثاله: حصولُ الخلافة لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فإنها بنَصٍّ من أبي بكر - رضي الله عنه.
الثاني: اتفاق أهل الحل والعقد عليه:
مثاله: حصولُ الخلافة لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فإنها بالإجماع كما تقدم.
وكذلك حصولُ الخلافة لعثمان بن عفان - رضي الله عنه - فإنها بإجماع أهل الحل والعقد - وهم أهل الشورى النفر الستة الذين عيَّنهم عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - فإن هؤلاء أهل حلٍّ وعَقْد؛ أي: أصحاب الشأن من الصحابة.
الثالث: أن يغلب بسيفه حتى يصير خليفة:
مثاله: حصول الخلافة لعبدالملك بن مروان، فعلى قول بعض العلماء أنها حصلتْ بالسيف والغلبة، وذلك بعد قتله ابن الزبير على يد الحجَّاج بن يوسف.
ومقصود المصنِّف أنه متى حصلت الخلافة لشخص بأي طريق من الطرق الثلاثة، وجبتِ الطاعةُ له في غير معصية.
* * * * * * * *
فصلٌ: في هجران أهل البدع
92- قال المصنف - رحمه الله -:
"ومِنَ السُّنَّةِ هجْرانُ أهْلِ البِدعِ، ومُبَايَنَتُهُم، وتَرْكُ الجِدَالِ والخُصُومَاتِ في الدِّينِ، وتَرْكُ النَّظَرِ في كُتُبِ المبتدعةِ، والإصْغاء إلى كلامِهِم، وكلُّ مُحْدَثَةٍ في الدِّينِ بِدْعَةٌ".
الشرح:
الهَجْر في اللغة: التَّرك، والمقصود بهجران أهل البدع، الابتعاد عنهم وعن مجالسهم، وترك محبتهم، والسلام عليهم، وزيارتهم، وعيادتهم، وسواءٌ كانت بدعهم عقدية؛ كالطوائف التي ذكرها المصنف، أو عملية؛ كالصوفية الذين يبتدعون في الأوراد والأذكار ونحوها.
وهجر المبتدع من منهج أهل السنة والجماعة؛ لأن في هجرهم رَدْعًا لهم وتأديبًا.
وتحت هذا الفصل عدة مباحث:
المبحث الأول: هجر المبتدع في الدين دلَّ عليه الكتاب والسنة والإجماع:
1- فمن الكتاب: قوله - تعالى -: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ ، قال الشَّوكاني: "وفي هذه الآية موعظةٌ لِمَن يتسمَّح بمجالسة المبتدعة الذين يُحَرِّفُون كلامَ الله، ويتلاعبون بكتابه وسنة رسوله، ويردُّون ذلك إلى أهوائهم المُضِلَّة، وبِدَعِهم الفاسدة، فإذا لم ينكر عليهم، ويغيِّر ما هم فيه، فأقلُّ الأحوال أن يترك مجالستهم، وذلك يَسِيرٌ عليه غيرُ عسيرٍ، وقد يجعلون حضورَه معهم مع تنزُّهِه عمَّا يتلبَّسُون به، شبهةً يُشَبِّهون بها على العامة، فيكون في حضوره مفسدةٌ زائدةٌ على مجرَّد سماع المنكر" .
وقوله - تعالى -: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ ، قال القرطبي: "استدلَّ مالكٌ - رحمه الله - من هذه الآية على معاداةِ القدرية، وترك مجالستهم" .
وقوله - تعالى -: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾ ، قال القرطبي: "الصحيحُ في معنى هذه الآية: أنها دالَّةٌ على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم، فإن صُحبتَهم كُفْرٌ أو معصيةٌ؛ إذِ الصحبةُ لا تكون إلا عن مودة" .
ومن السنة: حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سيكون في آخر أمتي ناسٌ يُحَدِّثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم)) .
وحديث عائشة في قول الله - تعالى -: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فإذا رأيت الذين يتَّبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمَّى الله، فاحذروهم)) .
وحديث علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((المدينة حَرَمٌ ما بين عير إلى ثور، فمَنْ أَحْدَثَ فيها حَدَثًا، أو آوَى مُحْدِثًا، فعليه لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أجمعين)) .
والأحاديث في هذا الباب كثيرةٌ، ومن ذلك الوقائع التي فيها هجر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل المعاصي حتى يتوبوا، منها:
أ- هجر النبي - صلى الله عليه وسلم - كعبَ بن مالك وصاحبيه حين تخلَّفوا عن غزوة تبوك، واستمر الهجر خمسين يومًا، والحديث متفق عليه.
ب- ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً في يده خاتمًا من ذهب، فهَجَرَه حتى طرحه، وهَجْرُه له كان بالإعراض عنه، والحديث رواه مسلم.
ج- وهَجَر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - زينبَ بنت جحش قريبًا من الشهرين حين وصفَتْ صفيةَ باليهودية، والحديث رواه أبو داود.
وهناك أمثلةٌ أخرى يطولُ المقام بذكرها، وعلى هذا جرى فعلُ الصحابة؛ فهجر ابنُ عمر رجلاً رآه يخذف بالحصى بعدما أخبره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن الخذف، وقال: "والله لا أكلِّمك أبدًا" ، وكذا فعل مثلَه عبدُالله بن المغفل مع رجل رآه يخذف؛ كما في الصحيحين، وهَجَر عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - رجلاً رآه يضحك في جنازة، فقال: "والله لا أكلمك أبدًا" ، وابن عمر لما أخبره يحيى بن يعمر عن القدرية، قال له: "إذا رجعتَ إليهم فقل لهم: ابن عمر يقول لكم: إنه منكم بريء، وأنتم منه برآء" .
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يهجر بعض أصحابه من أجل بعض المعاصي، والاستدلال بهذا على هجر المبتدع من باب أَوْلى.
3- وأما الإجماع فقد حكاه غيرُ واحد من أهل العلم؛ منهم: القاضي أبو يعلى، والبغوي، والغزالي.
قال القاضي أبو يعلى - رحمه الله -: "أجمع الصحابة والتابعون على مقاطعة المبتدِعة".
وقال البغوي  بعد حديث كعب بن مالك - رضي الله عنه -: "وفيه دليلٌ على أن هجران أهل البدع على التأبيد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاف على كعب بن مالك وأصحابه النفاقَ حين تخلفوا من الخروج معه؛ فأمر بهجرانهم إلى أن أنزل الله توبتهم، وعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - براءتهم، وقد مضى الصحابةُ والتابعون وأتباعُهم وعلماءُ السنة على هذا مُجْمِعِين مُتَّفِقِين على معاداة أهل البدعة ومهاجرتهم".
المبحث الثاني: صفات الهجر:
الأصل في الهَجْرِ أن يبتعد الهاجر عن المبتدِع بالكلية، ومن صُوَرِ الهجر وصفاته: عدمُ مجالسته، والابتعادُ عن مجاورته، وتركُ توقيره، وترك مكالمته، وترك السلام عليه، وعدمُ بَسْطِ الوَجْه له، وعدم هجر السلام والكلام، وعدم سماع كلامه، وعدم مشاورته، ونحو هذا من الصفات التي يكون بها زجرٌ له.
المبحث الثالث: المقاصد والفوائد الشرعية من هجر المبتدعة:
1- أن الزجر بالهجر عقوبةٌ شرعية للمهجور، وهذا من جنس الجهاد في سبيل الله.
2- بعث اليقظة في نفوس المسلمين؛ ليحذروا من الوقوع في البدعة.
3- الحدُّ من انتشار البدعة.
4- قمعُ المبتدع وزجره؛ ليضعف عن نشْر بدعته.
5- تنقية السُّنَّة، والحفاظ عليها من شائبة البدعة.
المبحث الرابع: الضوابط الشرعية للهجر:
لا بد في الهجر من ركنين: الإخلاص، والمتابعة، فمَنْ كان هَجْرُه هوى نفس، فقد انتقض عنده الركن الأول، وهو الإخلاص، ومن كان هجره مخالفًا لسُنَّةِ النبي، فقد انتقض عنده الركنُ الثاني، فالركن الأول معيارٌ للأعمال الباطنة، والركن الثاني معيار للأعمال الظاهرة، وبعد معرفة الرُّكْنَيْن فإنه يقال في الضوابط ما قاله الشيخ بكر أبو زيد - رحمه الله -: "الأصل في الشرع هو: هجر المبتدع، لكن ليس عامًّا في كل حال، ومن كل إنسان، ولكل مبتدع، وتركُ الهجر والإعراض عنه بالكلية تفريطٌ على أيَّة حالٍ، وهجرٌ لهذا الواجبِ الشرعي المعلوم وجوبه بالنص والإجماع، وأن مشروعية الهجر هي في دائرة ضوابطه الشرعية المبنية على رعاية المصالح ودرء المفاسد، وهذا مما يختلف باختلاف البدعة نفسها، واختلاف مبتدعها، واختلاف أحوال الهاجرين، واختلاف المكان، والقوة والضعف، والقلة والكثرة، وهكذا من وجوه الاختلاف والاعتبار التي يراها الشرع، وميزانها للمسلم الذي به تنضبط المشروعية هو: مدى تحقُّق المقاصد الشرعية من الهجر، من الزجر، والتأديب، ورجوع العامة، وتحجيم المبتدع وبدعته، وضمان السنة من شائبة البدعة.
هذا مُحَصَّل الضوابط الشرعية للهَجْر، لكن ليحذر كلُّ مسلم من توظيف (هوى نفسه)، وتأمير حظوظها على نفسه؛ فإن هذا هلكةٌ في الحق، وهو شرٌّ ممن يترك الهجر عصيانًا".
المبحث الخامس: من أقوال السلف في التحذير من المبتدعة:
قال ابن المبارك: وإياك أن تجالس صاحب بدعة.
وقال الفضيل بن عياض: أدركتُ خيارَ الناس كلهم أصحاب سنة ينهَوْن عن أصحاب البدع.
وقال يونس بن عبيد: لا نجالس سلطانًا ولا صاحب بدعة.
وعن يحيى بن كثير قال: إذا لَقِيتَ صاحب بدعة في طريق، فَخُذ غيره.
وعن إبراهيم بن مَيْسَرة قال: مَنْ وَقَّر صاحب بدعة، فقد أعان على هدم الإسلام.
وقال سلاَّم: وقال رجلٌ من أصحاب الأهواء لأيوب: أسألك عن كلمة، فولَّى أيوبُ وهو يقول: ولا نصف كلمة، مرَّتين يشير بإصبعه.
وقال أبو قلابة: لا تجالسوهم، ولا تخالطوهم؛ فإنه لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبِّسوا عليكم كثيرًا مما تعرفون .
المبحث السادس: الجِدَال على قسمين:
الأول: جدال محمود: وهو الجدال الذي يكون عن حُسْنِ قَصْدٍ؛ لطلب الحق وإظهاره، بغَضِّ النظر عن قائله، لا انتصارًا للنفس، وإرادة للمخاصمة؛ وإنما بالتي هي أحسن، فهذا هو الذي قال الله فيه: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ ، وقال: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ ، وهذا النوع مطلوب، قد يكون واجبًا أو مستحبًّا، وفَعَلَه جمعٌ من الصحابة؛ كابن عباس حين جادل الخوارج ورجع منهم خلقٌ كثير.
النوع الثاني: جدال مذموم: وهو الجدال الذي يُراد به الخصومة واللجاجة، والغلبة وانتصار النفس، فهذا مَنْهِيٌّ عنه، وعليه تُحْمَل النصوصُ الواردة في النهي عن الجدال؛ كالمجادلة بالباطل؛ قال - تعالى -: ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾ ، وكالجدال مع ردِّ الدليل الذي يخالفه ولو كان حقًّا، وفي "مسند الإمام أحمد"، و"سنن الترمذي"، و"سنن ابن ماجه" من حديث أبي أمامة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما ضَلَّ قومٌ بعد هدًى كانوا عليه، إلا أُوتُوا الجدل))، ثم تلا قوله - تعالى -: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ ، وهذا الجدل المذموم هو المُمَارَاة، وهي من سمات أهل الأهواء الذين يُجَادِلُون بالباطل، وتقدَّم كيف أن السلف يُحَذِّرون من مجالستهم؛ لأنهم يُلَبِّسون على الناس الحق، ولا يتَّبعون الحق.
* * * * * * * *
93- قال المصنف - رحمه الله -:
"وكلُّ مُتَسَمٍّ بِغَيْرِ الإسلامِ والسُّنَّةِ مبتدعٌ؛ كالرافضةِ والجهميَّة، والخوارِجِ والقَدَريَّة، والمرجئةِ والمعتزلةِ، والكَرَّامية والكُلاَّبيَّة، ونُظَرَائِهم، فَهَذِهِ فِرَقُ الضَّلال، وطَوَائفُ البِدَع - أعاذَنَا اللهُ منها".
المبحث السابع: ما ذكره المصنف من طوائف المبتدعة:
ذكر المصنف - رحمه الله - جملةً من طوائف المبتدعة؛ وذكرها لأنها أكثر طوائف المبتدعة انتشارًا وبثًّا لسمومهم، وتبشيرًا بما هم عليه من البدع، فذكر من الطوائف:
أولاً: الرافضة:
وهم طائفةٌ تُغَالي في آل البيت، ويُكَفِّرون من عدَاهم من الصحابة، أو يفسقونهم، وسُمُّوا رافضةً؛ لأنهم رفضوا زيدَ بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، حين سألوه عن أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - فتَرَحَّم عليهما، فرفضوه وأبعدوه؛ فسُمُّوا رافضةً، وهم يُسَمُّون أنفسهم شيعةً؛ لأنهم يزعمون أنهم يتشيَّعون لآل البيت؛ أي: ينتصرون لهم، ويطالبون بحقهم، وهم فِرَقٌ شَتَّى، منهم مُتَعَصِّبةٌ، ومنهم دون ذلك، ومذاهبهم في الصفات تختلف؛ فمنهم المشبِّهة، ومنهم المعطِّلة، ومنهم المعتدل، وعندهم أصولٌ كفرية كثيرةٌ تُخْرِج عن دائرة الإسلام.
ثانيًا: الجهمية:
نسبة إلى الجهم بن صفوان، الذي قتله سَلْمُ بن أَحْوَز سنة 121هـ، بعد أن ظهرتْ زندقتُه، والجهمية طائفة ضالة أشدَّ الضلال في الأسماء والصفات؛ فهم ينكرونها؛ فمذهبهم التعطيل في الأسماء والصفات، وفي القدر يقولون بالجَبْر؛ فالعبد لا قدرة له ولا إرادة، وإنما هو كالريشة في مهبِّ الريح، ومذهبهم في الإيمان مجرَّد المعرفة؛ أي: إن من عرَف الله - جل وعلا - فهو مؤمن، فهم من غلاة المرجئة في هذا الباب؛ وبناء عليه يدخل في إيمانهم إبليسُ، وفرعون، والملاحدة، والطواغيت؛ لأنهم كلهم يعرفون الله - جل وعلا - ومن باب أَوْلَى أن يكون فاعلُ الكبيرة - ولو كانت شِرْكًا وكفرًا - مؤمنًا، ومن لطيف ما قيل في بيان اعتقادهم أنهم جمعوا ثلاث جيمات: جيم التجهم، الذي هو إنكارُ الصفات، وجيم الإرجاء، وجيم الجبر؛ فهم جهمية، مرجئة، جبرية.
ثالثًا: الخوارج:
وهم الذين خرجوا على عليٍّ - رضي الله عنه - فقاتلوه؛ ولذا سُمُّوا خوارجَ، وتَبَرَّؤوا من عثمانَ وعلي - رضي الله عنهما - وكفَّروهما، وكفَّروا الزبيرَ، وعائشة، وطلحة، ومعاوية، وعمرو بن العاص، وغيرهم من الصحابة، وأهمُّ ما يميز عقيدتهم أنهم يُكَفِّرون صاحبَ الكبيرة، ويَرَوْنَه خالدًا مخلدًا في النار، سكنوا بلدةً يقال لها حَرُوراء؛ فسُمُّوا بالحروريَّة أيضًا.
رابعًا: القدرية:
وهم نُفَاةُ القدر عن الله - جل وعلا - وأن العبد مُسْتَقِلٌّ بقدرته وإرادته، ليس لله - تعالى - فيها خلقٌ ولا مشيئةٌ؛ بل العبد هو الذي يخلق أفعالَ نفسه، فأنكروا عن الله - تعالى - مرتبتَي: المشيئة والخلق، وهناك طائفةٌ أخرى منهم - وهم غلاة القدرية - الذين يُنْكِرُون مرتبة العلم، ومن باب أَوْلَى إنكار المراتب الأربعة الأخرى من مراتب القدر كما تقدم، ولكن غلاة القدرِ طائفةٌ انقرضتْ، وبقي القدرية الذين يُنْكِرون المشيئةَ والخلق، مع إيمانهم بالعلم والكتابة، وهم القدرية غير الغلاة.
وأول من أظهر القول بنفي القدر عن الله - جل وعلا - مَعْبَدٌ الجُهَنِيُّ في أواخر عصر الصحابة.
خامسًا: المرجئة:
وسُمُّوا بذلك؛ لأنهم يقولون بإرجاء العمل - أي: تأخيره - عن الإيمان، فليس العمل عندهم من الإيمان؛ فيقولون: لا يضر مع الإيمان عملٌ؛ أي: معصية، ولو كانت مُكَفِّرة، ولا تَرْك؛ أي: طاعة؛ لأن العمل لا يدخل في مفهوم الإيمان؛ إذ الإيمان عندهم مُجَرَّدُ الإقرار بالقلب، وهم يختلفون في مفهوم الإيمان، وتقدَّم الكلام على مراتبهم في ذلك، والإرجاء يدخل في مذهب الجهمية كما تقدَّم، وهو مذهب على نقيض مذهب الخوارج.
سادسًا: المعتزلة:
وسُمُّوا بذلك؛ لاعتزال واصل بن عطاء حلقة الحسن البصري - رحمه الله - حين جاء الكلام على مرتكب الكبيرة، قال واصل بن عطاء ما يخالف معتقد أهل السنة والجماعة في صاحب الكبيرة، فقال واصل: لا أقول: إن صاحب الكبيرة مؤمنٌ، ولا أقول: هو كافرٌ؛ لكنه في منزلة بينهما، فاعتزل حلقة الحسن البصري، وبدأتْ حركتهم؛ فسُمُّوا بذلك، وهم يشتركون مع الخوارج في أن صاحب الكبيرة خارجٌ من دائرة الإيمان، ولكن الخوارج يقولون بكفره، والمعتزلة يجعلونه بين منزلتين؛ لا مؤمن، ولا كافر، وهو مُخَلَّدٌ في النار عندهم كمعتقد الخوارج، فهم شابهوا الخوارجَ في صاحب الكبيرة، أما في الصفات فهم كالجهمية؛ فمذهبهم تعطيلُ الصفات وإنكارها، وأما في القدر فهم كالقدرية يُنْكِرون تَعَلُّقَ قضاء الله وقدره بأفعال العبد.
وبناء على ما سبق نعرف أصول المعتزلة الخمسة، وهي:
1- العدل: وهو نفْي القدر عن الله - تعالى - فينفون مَرْتَبَتَي المشيئة والخلق، وأن الله - تعالى - ليس له قضاء وقدر بأفعال العبد.
2- التوحيد: وهو نفي الصفات وتعطيلها عن الله - تعالى.
3- المنزلة بين منزلتين: وهذا في صاحب الكبيرة، فهو خارج عن الإيمان، لكنه بين منزلتين؛ لا مؤمن، ولا كافر.
4- إنفاذ الوعيد: وهو إن مات صاحب الكبيرة من غيرِ توبة، فلا بُدَّ أن ينفذ فيه الوعيد، فهو خالدٌ مُخَلَّد في النار.
5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وأرادوا به جواز الخروج على الحكام إذا أظهروا المعاصي والظلم.
سابعًا: الكَرَّاميَّة:
وهم أتباع محمد بن كَرَّام، ومن أشهر بِدَعِهم الغلوُّ في صفات الله - تعالى - يميلون إلى التشبيه، ويقولون: لله جسم، ويقولون: إن الإيمان هو قول باللسان فقط، فهم مرجئة في هذا الباب، فالمنافق عندهم مؤمنٌ في الحقيقة، وهذا في الدنيا، إلا أنه إذا مات على ذلك فهو مخلَّد في النار، فوافقوا أهلَ السنة في حكمه في الآخرة، وخالفوهم في اسمه في الدنيا وأنه مؤمن، ولا شَكَّ في بطلان هذا.
ثامنًا: الكُلاَّبية:
وهم أتباع عبدالله بن سعيد بن كلاَّب، الذين نَفَوْا بعضَ الصفات، وأثبتوا بعضها، ويثبتون سبع صفات، هي التي يثبتها الأشاعرة، وهي: السمع، والبصر، والكلام، والحياة، والقدرة، والإرادة، والعلم، ويَنْفون بقية الصفات، وأخذ عنهم الأشاعرةُ مذهبَ الصفات، ثم اختلفوا عنهم بعد ذلك، وإلا في أول الأمر كان الأشاعرة - وهم أتباع أبي الحسن الأشعري - يوافقون الكلابية في ما أثبتوه من الصفات وما تتضمنه، ثم خالفوهم في المضمون، وأبو الحسن الأشعري - رحمه الله - تاب بعد سِنِّ الأربعين، وأعلن توبته، وتمسَّك بمذهب أهل السنة والجماعة.
تاسعًا: السالمة:
وهم أتباع أبي عبدالله محمد بن أحمد بن سالم، وهم طائفة يغلب عليها التصوف والدفاع عن الصوفية، فيثبتون أن الله - تعالى - يتجلَّى عيانًا لأوليائه في الدنيا.
هذا بإيجاز ما يخص الطوائف المبتدعة التي ذكرها المصنف، ومن هذه البدع بدعٌ مكفرة، ومنها ما لا يصل إلى حد الكفر؛ لكننا نتبرأ منها، ونهجرها، ونهجر أهلها.
* * * * * * * *
94- قال المصنف - رحمه الله -:
"وأمَّا بِالنِّسْبَةِ إلى إمامٍ في فُروعِ الدِّينِ؛ كالطَّوَائِفِ الأرْبَعِ، فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ، فَإنَّ الاخْتِلافَ في الفُروعِ رَحْمةٌ، وَالمخْتَلِفونَ فِيهِ مَحْمُودُونَ فِي اخْتلافِهمْ، مُثَابُونَ في اجْتِهَادِهمْ، وَاخْتِلاَفُهُمْ رَحْمَةٌ وَاسِعَةٌ، وَاتِّفَاقُهُمْ حُجَّةٌ قاطِعَةٌَ".

المبحث الثامن: الخلاف بين الأئمة في الفروع ليس من الخلاف المذموم:
الفروع في اللغة: جمع فرع، وهو: ما بُنِي على غيره، واصطلاحًا: ما لا يتعلَّق بالعقائد؛ كمسائل الطهارة، والصلاة، والزكاة، ونحوها من المسائل الفرعية.
والمُصَنِّف - رحمه الله - ختم بالكلام عن الخلاف بين الأئمة في فروع الدين؛ ليبيِّن أن هذا الخلاف ليس كالخلاف مع الفِرَق الأخرى في العقائد؛ لأن هؤلاء خلافُنا معهم في الأصول والعقائد التي تجرُّ الإنسانَ إلى الضلال، وأما الخلاف بين الأئمة - كأصحاب المذاهب الأربعة - فهو ليس خلافًا مذمومًا؛ لأنه خلافٌ في فروع الدين حسبما أدَّى إليه اجتهادُه، والمختلفون فيه محمودون في اختلافهم؛ أي: إنهم مأجورون فيه، وإلا فالاجتماع - لا شك - أنه أفضل من الاختلاف حتى في فروع الدين، ولكن مقصود المصنف بقوله: "المختلفون فيه محمودون في اختلافهم"؛ أي: إنهم مأجورون فيه؛ لأنهم في دائرة الاجتهاد: إن أصابوا، فلهم أجران، وإن أخطؤوا، فلهم أجرٌ واحدٌ، وهم فيه معذورون، ولهم في ذلك سَلَفٌ، وهم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يُنْكِر النبي عليهم اختلافهم.
ويدل على ذلك: حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - حين قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لجماعة من الصحابة: ((لا يُصَلِّينَّ أحدٌ العصرَ إلا في بني قُرَيْظة))، فحضرتِ الصلاةُ قبل وصولهم، فأخَّر بعضُهم الصلاة حتى وصلوا بني قُرَيْظة، وصلَّى بعضهم حين خافوا خروج الوقت، ولم يُنْكِر النبي - صلى الله عليه وسلم - على واحد منهم؛ والحديث رواه البخاري، وهذا يدل على أن الاختلاف في الفروع لا يُفْضِي إلى التنازع أو التفسيق، ما دام أن الشخص لم يتَّبِع هواه، وإنما اتبع مذهبًا بنى قوله على دليل واجتهاد؛ ولذا قال المصنف: "فإن الاختلاف في الفروع رحمة"، وليس المعنى أن الخلاف رحمة على الإطلاق، وهذا فهمٌ يُخْطِئ فيه كثيرٌ من الناس؛ بل الخلاف شَرٌّ وفُرْقَة، والاجتماع هو الرحمة، ومن تأمَّلَ النصوص الشرعية الكثيرة التي تَحُثُّ على الاجتماع، أدرك ذلك، ولكن مراد مَن قال: إن خلاف العلماء رحمة؛ أي: إن فتح باب الخلاف، والنظر فيه، والاجتهاد - رحمةٌ بالأمة، حتى يكون التكليف والأوامر - لا سيما في التي يسوغ فيها الخلاف - مرتبطًا بما يراه المجتهد بعد النظر في الأدلة، فهذا فيه توسيعٌ على الناس، ولعلَّ هذا مُرَادُ المصنف، فليس كل خلاف معتبرًا، ومن الخلاف ما هو شَرٌّ، وتأمَّل ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود قال: صليتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتَيْن، ومع عمر ركعتين، ومع عثمان صدرًا من إمارته، ثم أتمَّها، قال: ثم تفرَّقَت بكم الطرق، فلَوَددتُ أن لي من أربع ركعات ركعتين متقبَّلتين، ثم إن عبدالله صلى أربعًا، فقيل له: عِبْتَ على عثمان، ثم صليتَ أربعًا؟ قال: الخلاف شَرٌّ؛ وأصل الحديث في الصحيحين.
وسُئِلَ الشيخُ ابن باز: هل ورد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه قال فيما معناه: إن اختلاف العلماء والأئمة رحمة، أَفْتُونا في ذلك؟
فأجاب: لم يأتِ هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هذا من كلام بعض السلف: "الاختلاف في الصحابة رحمة"، والصواب أن الاختلاف ابتلاءٌ وامتحان، والرحمة في الجماعة والاتِّفاق، ولكن الله - سبحانه - يبتلي عبادَه بالخلاف؛ حتى يتبيَّن الراغب في الحق، والحريص على التفقُّه في الدين ومعرفة الدليل؛ قال - جل وعلا -: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّك﴾ ، فجعل الرحمة للمجتمعين؛ قال - تعالى -: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ ؛ فالاختلاف ابتلاء وامتحان، والتعاون على البر والتقوى من الرحمة، وفَّق الله الجميع.
* * * * * * * *
95- قال المصنف - رحمه الله -:
"نَسْأَلُ الله أَنْ يَعْصِمَنا مِنَ البِدَعِ وَالفِتْنَة، وَيُحْييَنا عَلَى الإسْلامِ وَالسُّنة، وَيَجْعَلَنا مِمَّنْ يَتَّبِعُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في الحَياة، وَيَحْشُرنا في زُمْرَتِهِ بَعْدَ المَمَاتِ، بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، آمِينَ.
وَهَذَا آخِرُ المعْتَقَدِ، وَالحَمْدُ لله وَحدهُ، وَصلَّى الله علىَ سَيِّدنَا مُحمدٍ وَآلهِ وَصَحْبِهِ، وَسَلََّمَ تَسْلِيمًا".
ثم ختم المصنِّف بدُعاء الله العصمةَ من البدع والفتن، وبسؤال الله - جل وعلا - الحياةَ والممات على السنة، وهكذا ينبغي أن يدعو العبدُ دائمًا.

والحمدُ لله الذي بنعْمَتِه تتمُّ الصالحات.