About the fatwa
نزول آدم عليه السلام إلى الأرض لا يعد عقابا لذريته
Answer
الجواب :
الحمد لله
القاعدة الربانية التي لا استثناء لها ، بل هي من قواعد العدل الإلهية العامة التي لم تتفاوت فيها الشرائع ، ولم تختلف عليها الأديان ، وعلى حد تعبير العلامة محمد رشيد رضا " هي من أعظم أركان الإصلاح للبشر في أفرادهم وجماعاتهم ، لأنها هادمة لأساس الوثنية ، وهادية للبشر إلى ما تتوقف عليه سعادتهم الدنيوية والأخروية " كما في " تفسير المنار " (8/217) هذه القاعدة هي ما ورد في قول الله عز وجل : ( وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) الأنعام/164. وقول الله تعالى : ( مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ) الإسراء/15، وقوله سبحانه : ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) فاطر/18، وكذلك في قوله جل وعلا : ( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى . وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى . أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى . وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى . وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى . ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى ) النجم/36-41.
وذلك ما ينبغي اعتقاده في قصة آدم وذريته والخروج من الجنة ، فقد أهبط آدم عليه السلام منها على وجه الكفارة للذنب الذي وقع فيه ، وحذره الله منه ، كما قال سبحانه : (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) طه/117 – 124 .
فكيف تعاقب الذرية من عهد آدم عليه السلام إلى قيام الساعة على ذنب واحد قد تاب منه صاحبه ، وتاب الله عليه ، وطويت صفحته ، والله عز وجل أرحم من أن يؤاخذ الناس كلهم بأكل والدهم من الشجرة .
ولو تأملنا لوجدنا أنه سبحانه خلق آدم عليه السلام أول ما خلقه ليعبد الله في الأرض ، وليكون خليفة فيها يعمرها بطاعة الله ، قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) البقرة/30. وإنما كان ما جرى له في الجنة ابتلاء واختبار ليكون عبرة لمن بعده إلى قيام الساعة ، وليس عقوبة لذريته على خطيئته السابقة .
ثم إن العقوبة تستلزم أحد أمرين : إما إلحاق العذاب ، أو الحرمان من خير أعطيه ، وكلا المعنيين لم يقع في حال بني آدم ، فالعيش في الأرض ليس عذابا بحد ذاته ، بل هو خير وسعادة إذا كانت بطاعة الله ورضاه وإقامة شرعه ، وإنما هذا قدرهم أن يعيشوا دار الابتلاء ، ليستحقوا دخول الجنة برحمة الله لهم ، ثم باجتيازهم اختبار التكليف الذي تميز به الإنسان والجان عن سائر المخلوقات .
وانظر كيف جاء التعبير القرآني : ( كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ )، ولم يقل جل وعلا ( كما أخرجكم من الجنة )، وذلك في الآية الكريمة : ( يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ) الأعراف/27. فالإخراج على وجه العقوبة إنما وقع لأبينا آدم وأمنا حواء ، وأما ذريتهما من بعدهما فلم يكونوا وجدوا في ذلك الوقت أصلا ، ولم يخرجوا من الجنة على جهة الحقيقة ، وإنما كانت حياتهم على الأرض تبعا لأبويهم ، وقد كان ذلك من حكمة الله في خلقه وتدبره السابق لهم ، وقد هيأ لذلك التقدير والتدبير أسبابه ، كما يقول الدكتور سفر الحوالي حفظه الله : " موضع الاستخلاف أساساً هو الأرض ، وعليها يكون الابتلاء ، وليس ذلك لعنة في ذاته ، بل هو غاية الحكمة " كما في " العلمانية " (ص664) .
فقولك في بداية سؤالك : " لو لم يعص آدم ربه لكان البشر جميعًا في الجنة الآن " غير مسلّم وليس بلازم ، فقد خلق الله عز وجل الإنسان ليعبده بإرادته الحرة ، وأخبر الملائكة أنه سبحانه سيخلق خليفة في الأرض ، يختلف في خلقه وتكوينه عن الملائكة ، فاستخلاف البشر في الأرض أمر مقدر قبل خلق آدم عليه السلام ، وقبل أكله من الشجرة ، وإنما كانت المعصية سببا لهذا المقدور ، فإذا تخلف سبب معين ، فقد يكتب سبب آخر لوقوع المقدور ، المهم أن أحدا لا يمكنه الجزم بالعبارة التي ذكرتها في السؤال .
وقد أطال علماء الإسلام في دحض هذه الشبهة ، التي كانت أحد أساسات بناء النصارى عقيدة الفداء والصلب ، ولهم كلام طويل في مقامات متعددة في هذا الموضوع ، ننقل منه بعض ما يحقق المقصود .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" إن الله لا يجعل الذنب ذنبا لمن لم يفعله ؛ فإنه هو القائل : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى )، فمن الممتنع أن يضاف إلى محمد صلى الله عليه وسلم ذنب آدم صلى الله عليه وسلم ، أو أمته ، أو غيرهما . وقد قال تعالى : ( فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم )، وقال تعالى : ( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك )، ولو جاز هذا لجاز أن يضاف إلى محمد ذنوب الأنبياء كلهم " انتهى من " مجموع الفتاوى " (10/ 314)
ويقول أيضا رحمه الله :
" معلوم أن إبراهيم كان أبوه كافرا ولم يؤاخذه الله بذنب أبيه ، فكيف يؤاخذه بذنب آدم وهو أبوه الأبعد ، هذا لو قدر أن آدم لم يتب ؛ فكيف وقد أخبر الله عنه بالتوبة ؟ ثم يزعمون أن الصلب الذي هو من أعظم الذنوب والخطايا : به خلَّص الله آدم وذريته من عذاب الجحيم ، وبه عاقب إبليس ، مع أن إبليس ما زال عاصيا لله مستحقا للعقاب ، من حين امتنع من السجود لآدم ، ووسوس لآدم ، إلى حين مبعث المسيح ، والرب قادر على عقوبته ، وبنو آدم لا عقوبة عليهم في ذنب أبيهم !!
فمن كان قولهم مثل هذه الخرافات ، التي هي مضاحك العقلاء ، والتي لا تصلح أن تضاف إلى أجهل الملوك وأظلمهم : فكيف يدعون مع هذا أنهم يصفون الله بالعدل .. " .
انتهى من " الجواب الصحيح " (2/ 107-108) .
ويقول سيد قطب رحمه الله :
" ومن رحمة الله به كذلك أن جعل باب التوبة مفتوحاً له في كل لحظة . فإذا نسي ثم تذكر ، وإذا عثر ثم نهض ، وإذا غوى ثم تاب .. وجد الباب مفتوحاً له ، وقبل الله توبته ، وأقال عثرته . فإذا استقام على طريقه بدّل الله سيئاته حسنات ، وضاعف له ما شاء . ولم يجعل خطيئته الأولى لعنة مكتوبة عليه وعلى ذريته . فليست هنالك خطيئة أبدية . وليست هنالك خطيئة موروثة ، ولا تزر وازرة وزر أخرى .
وهذه الحقيقة في التصور الإسلامي تنقذ كاهل البشرية من أسطورة الخطيئة الموروثة التي تقوم عليها التصورات الكنسية في المسيحية ، والتي يقوم عليها ركام هائل من الطقوس والتشكيلات ، فوق ما يقوم فوقها من الأساطير والخرافات .. خطيئة آدم التي تلازم البشرية كاللعنة المصلتة على الرقاب ! حتى يتمثل الإله في صورة ابن الإنسان ( المسيح ) ويصلب ، ويحتمل العذاب للتكفير عن هذه الخطيئة الموروثة ، ومن ثم يكتب (الغفران) لمن يتحد بالمسيح الذي كفَّر بدمه عن خطيئة آدم التي ورثتها البشرية !
إن الأمر في التصور الإسلامي أيسر من هذا بكثير.. لقد نسي آدم وأخطأ.. ولقد تاب واستغفر. ولقد قبل الله توبته وغفر له .. وانتهى أمر تلك الخطيئة الأولى ، ولم يبق منها إلا رصيد التجربة الذي يعين الجنس البشري في صراعه الطويل المدى .. أية بساطة ! وأي وضوح ! وأي يسر في هذه العقيدة ! " انتهى من " في ظلال القرآن " (3/ 1274) .
وللتوسع ينظر جواب السؤال رقم : (42573) .
والله أعلم .