الحمد لله الذي جعل الجنة والنار لعباده جزاءً وعقاباً، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له حذرنا اتباع الشيطان حجةً علينا وبلاغاً، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بعثه ربه للعالمين نذيراً وبشيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه المتبعين للحق جماعاتٍ وآحادً، وبعد:
الناس في هذه الدنيا في العبادة والطاعة، والمعصية والجحود على عدة طرائق، فمنهم المهتدي والعاصي، والمؤمن والجاحد، وبين ذلك كثير. ومرجع المؤمنين والمهتدين إلى يقينهم التام بوعد الله ووعيده، وأما العصاة والجاحدون والمشركون، فإما لتزعزع ذات اليقين أو لانعـدامه بالكـلية. وسبب ذلك ومرجعه الأصيل إلى وسواس الشيـطان الرجيم وتعـهده بإغواء أبينا آدم عليه السلام وذريته من بـعده، قال تعالى: ﴿ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ﴾([1])، وقال تعالى: ﴿ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ ﴾([2])، ومع هذا التهديد الصريح والوعيد الشنيع، نجد أن كثيراً من الناس ينكر ويجحد وجود الخالق، وينكر كذلك باطله ولا يراه إلا حقاً، ولذا هو كذلك منكر لوجود أبليس وأثره ووسواسه عليه وإضلاله إياه.
ولعلنا ننتقل بكم الآن من دار الدنيا إلى بعض مشاهد الدار الآخرة لعلها تُفتح القلوب وتلينها، حيث تستوقفنا هنالك عدة مشاهد وأحداث.
نرى أهل الجنة، أهل الإيمان والطاعة والعبادة، يتنعمون في النعيم الدائم الأبدي، في قصورٍ عاليةٍ مشيدةٍ، جدرانها من ذهبٍ وفضةٍ، ملاطها([3]) المسك والعنبر، وحصباؤها([4]) اللؤلؤ والياقوت، وهاهي الأنهار تجري من تحتهم، أنهار من ماءٍ وأنهار من لبنٍ وأنهار من خمرٍ لذيذٍ وأنهار من عسلٍ صافٍ نقي([5]). يُطاف عليهم بأنواع النعيم من طعامٍ وشرابٍ، يخدمهم ولدان مخلدون كأنهم اللؤلؤ المنثور([6])، على الأرائك متكئون، في ظل ظليل يتسامرون ويتضاحكون، ناضرة وجوههم، مستبشرة بكرم الله ورحمته وغفرانه.
وعلى النقيض من ذلك نرى أهل النار، أهل الكفر والجحود والمعصية، في العذاب المقيم، وجوه مغبرة، ظلام دامس، أجسادٌ نتنة وروائح منتنة، الصراخ والعويل يُسمع في كل مكان، الأصفاد والأغلال في أعناقهم وأيديهم وأرجلهم، طعامهم الزقوم([7])، يسقون بماءٍ حميمٍ تغلي منه البطون، لا راحة ولا نوم ولا موت، خلود أبدي سرمدي في العذاب والشقاء والعياذ بالله.
وفي خضم هذه الأحداث وقد استقر بكِلا الفريقين المقام، وإذا بداعٍ يدعو أهل النار لسماع خطابٍ بليغ، هل يا ترى يكون لهم فيه خلاصهم من العذاب؟!، أو تخفيفٌ لهم من بعض معاناتهم؟!. يا ترى من الخطيب فيهم! أهو مالك خازن النار؟، أم هو أحد ملائكة العذاب؟، أم من يا ترى؟!.
اجتمع أهل النار وها هي الأعناق تشرئب لرؤية الخطيب، ياللعجب إنه أبليس اللعين!! هذا الذي أنكره البعض في الدنيا، ولم يصدقوا بغوايته ووسواسه لهم، يقف الآن على منبر من نار يسمعونه جميعاً. يا ترى ما الخطب؟! ماذا يريد منهم بعد إضلاله لهم وغوايته إياهم؟! ودخولهم النار بسببه!!، تساؤلات تجول في خواطرهم.
وها هو القرآن الكريم الذي بين أيدينا اليوم يُصوّر لنا ذلك الحدث كما لو أننا نشاهده على الهواء مباشرة رأي العين -أعاذنا الله جميعاً من رؤيته على الحقيقة، حيث قال تعالى وهو أصدق القائلين: ﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾([8]).
إنه خطاب بليغ فيه اعتراف بالمذلّة والمهانة للشيطان نفسه، ولكل من تبعه، وفيه إظهار للحق وإبطال للباطل، غاية في التقريع والتوبيخ، ليزيد أهل النار حزناً على حزنهم، وغماً على غمهم، وحسرةً إلى حسراتهم، بدءه بإقرار حقيقة الحقائق، الحقيقة المرة التي عَميت أبصارهم عن رؤيتها، وصمت آذانهم عن سماعها في الدنيا، ألا وهي أن الله هو الحق، وعدكم وعد الحق، وهو الفوز بالجنة والنجاة من النار إن أنتم أطعتموه وأقررتم له بالعبادة، والعذاب والعقاب في النار إن أنتم كفرتم به وعصيتم أوامره، وها أنتم الأن ترون وعده إياكم حقاً، أما أنا فوعدتكم بالنُصرة وألا عقاب ولا عذاب في حال المعصية والجحود والنكران للخالق والإله المعبود، ولكني أخلفتكم ما وعدتكم، وما كان لي عليكم من سلطة أو أمر، ولكن مجرد أن دعوتكم للعصيان والغواية والضلال أطعتموني واستجبتم لي، قال تعالى: ﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾([9])، فلا تلومني على إجابتكم دعوتي ولوموا أنفسكم بذلك، ﴿ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ ﴾ ما أنا بمغيثكم من العذاب ولا أنتم بمغيثي منه، وإني جَحدْت أن أكون شريكًا لله فيما أشركتموني فيه من عبادتكم من قبل في الدنيا، وإن الكافرين بالله لهم عذاب موجع أليم من الله(10).
نعــوذ بـالله مــن وساوس الشيـطان وشَـركِه وحـبـائـله، وأســأل الله أن يعصـمنا مـــن غـوايته وإضـلالـه، وأن يـتـوفـانـا وهـو راضٍ عنا، وصل اللهم على نبينا محمد ﷺ.
آمــــــــــــــــــين.
السيد / حكم زَمُّو العَقِيلي ( ١٤٤6 - ٢٠٢5 )
(1) سورة الاسراء آية 62.
(2) سورة النساء آية 119.
(3) الملاط هو مادة تستخدم لربط الطوب أو الطابوق أو الحجر ولملء الفراغات بينها مثل الطين أو الاسمنت.
(4) الحصباء هي الحصى الصغيرة.
(5) قال تعالى: ﴿ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ۖ ﴾ سورة محمد آية 15.
(6) قال تعالى: ﴿ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا ﴾ سورة الإنسان آية 19.
(7) شجرة الزقوم تنبت في أصل جهنم (قيل قعر جهنم)، طعام أهل النار، مرة الطعم، كريهة الرائحة ﴿ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ﴾ سورة الصافات.
(8) سورة ابراهيم آية 22.
(9) سورة الحشر آية 16.
(10) من تقسير الطبري ببعض التصرف.
© Copyright Islam land أرض الإسلام . All Rights Reserved 2017