أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير- ط: التفاسير - المجلد الثاني

يوجد طبعة أخرى في نفس الصفحة طبعة مكتبة العلوم والحكم بالمدينة المنورة
http://www.islamland.com/arb/books/view/13460

هذا تفسير موجز لكتاب الله تعالى القرآن الكريم وضعه الإمام "أبو بكر جابر الجزائري" مراعياً فيه حاجة المسلمين اليوم إلى فهم كلام الله تعالى الذي هو مصدر شريعتهم وسبيل هدايتهم هو عصمتهم من الأهواء وشفاؤهم من الأدواء، قال تعالى "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين".

هذا ونظراً لليقظة الإسلامية اليوم فقد عكف المصنف إلى وضع تفسيره هذا محاولاً الجمع فيه بين المعنى المراد من كلام الله، وبين اللفظ القريب من فهم المسلم اليوم. حيث بين فيه العقيدة السلفية المنجية، والأحكام الفقهية الضرورية، هادفاً من وراء هذا التفسير تربية ملكة التقوى في النفوس، بتحبيب الفضائل وتبغيض الرذائل، والحثّ على أداء الفرائض واتقاء المحارم، مع التجمل بالأخلاق القرآنية والتحلي بالآداب الربانية.

وبالعودة لمضمون هذا التفسير نجد أنه جاء متميزاً بالميزات التالية: أولاً: الوسطية بين الاختصار المخل والتطويل الممل، ثانياً: اتباع منهج السلف في العقائد والأسماء والصفات، ثالثاً: الالتزام بعدم الخروج عن المذاهب الأربعة في الأحكام الفقهية، رابعاً: إخلاؤه من الإسرائيليات صحيحها وسقيمها، إلا ما لا بد منه لفهم الآية الكريمة وكان مما تجوز روايته لحديث، خامساً: إغفال الخلافات التقسيمية، سادساً: الالتزام بما رجحه ابن جرير الطبري في تفسيره عند اختلاف المفسرين في معنى الآية، سابعاً: إخلاء الكتاب في المسائل النحوية والبلاغية والشواهد العربية، ثامناً: عدم التعرض للقراءات إلا نادراً حيث يتوقف معنى الآية على ذلك، واقتصار الأحاديث على الصحيح والحسن منها، تاسعاً: خلو التفسير من ذكر الأقوال وإن كثرت والالتزام بالمعنى الراجح الذي عليه جمهور المفسرين من السلف الصالح.

وقد جعل المؤلف الكتاب دروساً منظمة منسقة. فقد يجعل الآية الواحدة أو الآيتين أو الأكثر درساً فيشرح كلماتها ثم يبين معانيها ويذكر هدايتها المقصودة منها للاعتقاد والعمل. وجعل الآيات مشكولة على قراءة حفص.

http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



الكتاب : أيسر التفاسير
المؤلف : أبو بكر الجزائري
مصدر الكتاب : موقع التفاسير
http://www.altafsir.com
[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]

 

مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
شرح الكلمات :
{ ليذر } : ليترك .
{ يمييز } : يميزّ ويبيّن .
{ الخبيث } : من خبثت نفسه بالشرك والمعاصى .
{ الطيب } : من طهرت نفسه بالإِسمان والعمل الصالح .
{ الغيب } : ما غاب فلم يدرك بالحواس .
{ يجتبي } : يختار ويصطفي .
{ يبخلون } : يمنعون ويضنون .
{ يطوقون به } : يجعل طوقا فى عنق أحدهم .
معنى الآيات :
ما زال السيقا فى أحداث وقعة أحد ، وما لازمها من ظروف وأحوال فاختبر تعالى في هذه الآية ( 179 ) انه ليس من شأنه تعالى أن يترك المؤمنين على ما هم عليه فيهم المؤمن الصادق في إيمانه ، والكاذب فيه وهو المنافق . بل لا بد من الابتلاء بالتكاليف الشاقة منها كالجهاد والهجرة والصلاة والزكاة ، وغير الشاقة من سائر العباداة حتى يميز المؤمن الصادق وهو الطيب الروح ، من المؤمن الكاذب وهو المنافق الخبيث الروح ، قال تعالى : { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } وذلك أن الله لم يكن من سنته في خلقه أن يطلعهم على الغيب فيميزُ المؤمن من المنافق ، والبار من الفاجر ، وانما يبتلى بالتكاليف ويظهر بها المؤمن من الكافر والصالح من الفاسد . إلا أنه تعالى قد يجتبي من رسله من يشاء فيطلعه على الغيب ، ويظهره على مواطن الأمور وبناء على هذا فآمنوا بالله ورسوله حق الإِيمان ، فإنكم إن آمنتم صادق الإِيمان واتقيتم معاصي الرحمان كان لكم بذلك أعظم الأجور وهو الجنة دار الحبور والسرور هذا ما دلت عليه الآية ( 179 ) أما الآية الثانية ( 180 ) فإن الله تعالى يخبر عن خطا البخلاء الذين يملكون المال ويبخلون به فيقول : ولا يحسبنَّ أي ولا يظنن الذين يبخلون بما آتاهم الله من المال الذي تفضل الله به عليهم أن بخلهم به خير لأنفسهم كما يظنون بل هو أى البخل شرٌّ لهم ، وذلك لسببين الأولى ما يلحقهم فى الدنيا نم معرة البخل وآثاره السيئة على النفس ، والثانى أن الله تعالى سيعذبهم به بحيث يجعله طوقاً من نار في أعناقهم ، أوبصورة ثعبان فيطوقهم ، ويقول لصاحبه : « أنا مالك أنا كنزك » كما جاء في الحديث . فعلى من يظن هذا الظن الباطل ان يعدل عنه ، ويعلم أن الخير فى الإِنفاق لا فى البخر . وأن ما يبخل به هو ما الله ، وسيرثه ، ولم يجن البخلاء إلا المعرة فى الدنيا والعذاب في الآخرة . قال تعالى : { ولله ميراث السموات والأرض والله بما تعملون خبير } ، فاتقوه فيما آتاكم فآتوا زكاته وتطوعوا بالفضل فإن ذلك خير لكم ، والله يعمل وأنتم لا تعلمون .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين :
1- من حِكم التكليف اظهار المؤمن الصادق من المؤمن الكاذب .
2- استئثار الرب تعالى بعلم الغيب دون خلقه الا ما يطلع عليه رسله لحكمة اقتضت ذلك .
3- ثمن الجنة الإِيمان والتقوى .
4- البخل بالمل شر لصاحبه ، وليس بخير له كما يظن البخلاء .
5- من أوتي مالاً ومنع حق الله فيه عذب به يوم القيامة دلت على ذلك هذه الآية وآية التوبة وحديث البخارى : « من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه - أى شدقيه - يقول أنا مالك أنا كنزك ، ثم تلا الآية { ولا يحسبن الذين . . . } الآية » .
(1/226)
________________________________________
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
شرح الكلمات :
{ عذاب الحريق } : هو عذاب النار المحرقة تحرق أجسادهم .
{ ذلك بما قدمت أيديهم } : أى ذلك العذاب بسبب ما قدمته أيديكم من الجرائم .
{ عهد الينا } : أمرنا ووصانا فى كتابنا ( التوراة ) .
{ ان لا نؤمن لرسول } : أي لا نتابعه ، على ما جاء به ولا نصدقه في نبوته .
{ بقربان تأكله النار } : القربان : ما يتقرب به الى الله تعالى من حيوان وغيره يوضع في مكان فتنزل عليه نار بيضاء من السماء فتحرقه .
{ البينات } : الآيات والمعجزات .
{ وبالذى قلتم } : أي من القربان .
{ فلم قتلتموهم } : الاستفهام للتوبيخ ، وممن قتلوا من الأنبياء زكريا ويحيى عليهما السلام .
{ الزبر } : جمع زبور وهو الكتاب كصحف ابراهيم .
{ الكتاب المنير } : الواضح البين كالتوراة والزبور والإِنجيل .
معنى الآيات :
لما نزل قول الله تعالى : { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له } ودخل أبو بكر الصديق رضى الله عنه بيت ( المقدس ) واليهود به وهم يستمعون لأكبر علمائهم وأجل أحبارهم فنحاص فدعاه أبو بكر الى الإِسلام . فقال فنحاص : إن رباً يستقرض نحن أغنى منه! ينهانا صاحبك عن الربا ويقبله فغضب أبو بكر رضي الله عنه وضرب اليهودي فجاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكا أبا بكر فسأل الرسول أبا بكر قائلا : « ما حملك على ما صنعت » ؟ « فقال إنه قال : إن الله فقير ونحن إغنياء فأنكر اليهودى فأنزل الله تعالى الآية { لقد سمع الله قول الذين قالوا ان الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق } ، أي نكتبه أيضا ، ونقول لهم : { ذوقوا عذاب الحريق } ، وقولنا ذلك بسبب ما قدمته أيديكم من الشر والفساد ، وأن الله ليس بظلام للعبيد ، فلم يكن جزاؤكم مجافيا للعدل ولا مباعدا له أبداً لتنزه الرب تعالى عن الظلم لعباده هذا ما تضمنته الآية الأولى ( 181 ) { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق } والآية الثانية ( 182 ) { ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد } وأما الآية الثالثة ( 183 ) وهى قوله تعالى : { الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلى بالبينات وبالذى قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين } ؟ فقد تضمنت دعوى يهودية كاذبةى باطلة لا صحة لها البتة ، والرد عليها فالدعوى هى قوله إنّ الله قد أمرنا موصياً لنا أن لا نؤمن لرسول فنصدقه نتابعه على ما جاء به ، حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، يريدون صدقة من حيوان أو غيره توضع أمامهم فتنزل عليها نار من السماء فتحرقها فذلك آية نبوته ، وأنت يا محمد ما اتيتنا بذلك فلا نؤمن بك ولا نتبعك على دينك ، وأما الرد فهو قول الله { وبالذى قلتم } وهو قربنا تأكله النار فلم قتلتموهم ، إذ قتلوات زكريا ويحيى وحاولوا قتل عيسى ، إن كنتم صادقين فى دعواكم؟ وأما الآية الرابعة ( 184 ) فانها تحمل العزاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول له ربه تعالى : { فإن كذبوك } فلم يؤمنوا بك ، فلا تحزن ولا تأسى لأنك لست وحدك الذى كُذبت ، فقد كذبت رسل كثر كرام ، جاءوا أقوامهم بالبينات أي المعجزات ، وبالزبر ، والكتاب المنير كالتوراة والإِنجيل وصحف إبراهيم وكذبتهم أممهم كما كذبك هؤلاء اليهود والمشركون معهم فاصبر ولا تحزن .
(1/227)
________________________________________
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- كفر اليهود وسوء أدبهم مع الله تعالى ومع أنبيائهم ومع النس أجمعين .
2- تقرير جريمة قتل اليهود للأنبياء وهى من أبشع الجرائم .
3- بيان كذب اليهود فى دعواهم أن الله عهد إليهم أن لا يؤمنوا بالرسول حتى يأتيهم بقربان تأكله النار .
4- تعزية الرسول صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر والثبات أمام ترهات اليهود وأباطيلهم .
(1/228)
________________________________________
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
شرح الكلمات :
{ ذائقة الموت } : أي ذائقة موت جسدها أما هي فانها لا تموت .
{ توفون } : تعطون جزاء أعمالكم خيراً أو شراً وافية لا نقص فيها .
{ زحزح } : نجّي وأبعد .
{ فاز } : نجا من مرهوبه وهو النار ، وظفر بمرغوبه وهو الجنة .
{ متاع الغرور } : المتاع كل ما يستمتع به ، والغرور : الخداع ، فشبهت الدنيا بمتاع خادع غارٍّ صاحبه ، لا يلبث أن يضمحل ويذهب .
{ لنَبلوُنَّ فى أموالكم وأنفسكم } : لَتُخْتَبرُونَّ في أموالكم بأداء الحقوق الواجبة فيهان أو بذهابها وأنفسكم بالتكاليف الشاقة كالجهاد والحج ، او المرض والموت .
{ اوتوا الكتاب } : اليهود والنصارى .
{ الذين اشركوا } : العرب .
{ فان ذلك من عزم الأمور } : يريد أن يصبر والتقوى من الأمور الواجبة التى هى عزائم وليس فيها رخص ولا ترخيص ولا ترخيص بحال من الأحوال .
معنى الآيات :
ما زال السياق فى تعزية الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لقد جاء في الآية السابقة تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما آلمه من تكذيب اليهود والمشركين له ، وفي هذه الآية تسلية وعزاء ، إذا أخبر تعالى فيها فأن كل نفس مهما علت أو سفلت ذائقة الموت لا محالة ، وإن الدنيا ليست دار جزاء وإنما هى دار كسب وعمل ، ولذا قد يجرم فيها المجرمون ويظلم الظالمون ، ولا ينالهم مروه ، وقد يحسن فيها المحسنون ويصلح المصلحون ولا ينالهم محبوب ، وفى هذا تسلية عظيمة وأخرى : العلم بأن الحياة الدنيا بكل ما فيها لا تعدو كونها متاع الغرور ، أي متاع زائل غار ببهرجه ، وجمال منظره ، ثم لا يلبث ان يذهب ويزول . هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 185 ) أما الآية الثانية ( 186 ) ففيها يخبر تعالى رسوله والمؤمنين بأنهم لا محالة مختبرون في أموالهم وفي أنفسهم في أموالهم بالحوائج ، والواجبات ، وفي أنفسهم بالمرض والموت والتكاليف الشاقة كالجهاد والج والصيام ، وانهم لا بد وأن يسمعوا من أهل الكتاب والمشركين أذىً كبيراً كما قال فنحاص : الله فقير ونحن أغنياء أو كما قال النصارى : المسيح ابن الله ، وكما قال المشركون : اللات والعزى ومناة آلهة مع الله ثم حثهم تعالى على الصبر والتقوى فقال وإن تصروا وتتقوا فإن صبركم وتقواكم مما أوجب الله تعالى عليكم وليس هو من باب الندب والاستحباب بل هو من باب الفرض والوجوب .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- ليست الدار الدنيا بدار جزاء وانما هى دار عمل .
2- تعريف الفوز الحق وهو الزحزحة عن النار ودخول الجنة .
3- بيان حقيقة هذه الحياة وأنها كمتاع خادع لا يلبث ان يتلاى ويضمحل .
4- الابتلاء ضرورى فيجب الصبر والتقوى فإنها من عزائم الأمور لا من رخصها .
(1/229)
________________________________________
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
شرح الكلمات :
{ الميثاق } : العهد المؤكد باليمين .
{ اوتوا الكتاب } : اليهود والنصارى .
{ الكتمان } : إخفاء الشيء وجحوده حتى لا يرى ولا يعلم .
{ فنبذوه وراء ظهورهم } : ألقوه وطرحوه ولم يلتفتوا إليه وهو ما أخذ عليهم العهد والميثاق فيه من الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به عِنَ الإِسلاَم .
{ واشتروا به ثمنا قليلا } : اعتاضوا عنه حطام الدنيا ومتاعها الزائل اذ كتموه ، ابقاء على منافعهم الدنيوية .
{ ان يحمدوا بما لم يفعلوا } : أي يثنى عليه ويذكروا بخير وهم لم يفعلوا ما يوجب لهم ذلك .
{ بمفازة من العذاب } : بمنجاة من العذاب فى الدنيا ، ولهم فى الآخرة عذاب أليم .
معنى الآيات :
ما زال السيقا في اليهود فيقول تعالى لنبيه ، واذكر لهم إذ أخذ اله ميثاق الذين اوتوا الكتاب وهم اليهود والنصارى أخذ على علمائهم العهد المؤكد بأن يبينوا للناس نعوت النبي صلى الله عليه وسلم في كتابهم ، وأن يؤمنوا به ويتابعوه على ما جاء به من الهدى ودين الحق وهو الإِسلام ، ولكنهم كتموه ونبذوه وراء ظهورهم فلم يلتفتوا إليه واستبدلوا بذلك ثمناً قليلاً وهو الجاه والمنصب والمال قال تعالى : { واشتروا به ثمنا قليلاً } وذم الله تعالى الثمن القليل فقال فبئس ما يشترون هذا ما تضمنته الآية الأولى ( 187 ) وأما الآية الثانية ( 188 ) { ولا تحسبن الذين يفرحون بما اتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم } فإن الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم لا تحسبن لا رسولنا الذين يفرحون بما اتوا من الشر والفساد بتحريف كلامنا وتبديل اوامرنا وتغيير شرائعنا وهم مع ذلك يحبون أن يحمدهم الناس أي يشكرهم وثنوا عليهم ، ما لم يفعلوا من الخير والإِصلاح إذ عملهم كان العكس وهو الشر والفساد فهؤلاء من اليهود ولا تحسبنهم بمفازة أي بمنجاة من العذاب ، ولهم عذاب أليم يوم القيامة . وأما الآية الثالثة ( 189 ) فقد أخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض ، وأنه على كل شيء قدير فدلل بذلك على قدرته على البطش بالقوم والانتقام منهم ، وانه منجز وعيده لهم وهو عذاب الدنيا ، وعذاب الآخرة فقال : { ولله ملك السموات والأرض ، والله على كل شيء قدير } .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- أخذ الله الميثاق على علماء أهل الكتاب ببيان الحق يتناول علماء الإِسلام فإن عليهم أن يبثوا الحق ويجهروا به ، ويحرم عليهم كتمان أو تأويله ارضاء للناس ليحوزوا على مكسب دنيوي مالاً أو جاهاً أو سلطاناً .
2- لا يجوز للمسلم ان يحب أن يحمد بما لم يعفل من الخير والمعروف ، بل من الكمال أن لا يرغب المسلم في مدح الناس وثنائهم وهو فاعل لما يستوجب ذلك فكيف بمن لم يفعل ثم يحب أن يحمد . بل بمن يفعل الشر والفساد ويحب ان يحمد عليه بالتصفيق له وكلمة يحيى فلان . . . .
3- ملك الله تعالى لكل شيء وقدرته على كل شيء توجب الخوف منه والرغبة إليه وأكثر الناس عن هذا غافلون ، وبه جاهلون .
(1/230)
________________________________________
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
شرح الكلمات :
{ في خلق السموات والأرض } : أي في وجودهما من العدم .
{ واختلاف الليل والنهار } : تعاقبهما هذا يجىء وذاك يذهب ، هذا مظلم وذال مضىء .
{ لآيات } : دلائل واضحة على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته .
{ لأولي الألباب } : أصحاب العقول التى تُدرك بها الأشياء وتفهم بها الأدلة
{ ربّنا } : يقولون : ربنا الخ . .
{ باطلا } : لا لشىء مقصود منه ، وإنما هو من باب اللعب .
{ سبحانك } : تنزيها لك عن العبث واللعب ، وعن الشريك والولد .
{ فقنا عذاب النار } : أجرنا واحفظنا من عذاب النار بتوفيقك لنا للأعمال الصالحة وتجنيبنا الأعمال الفاسدة الموجبة لعذاب النار .
{ أخزيته } : أذللته وأشقيته .
{ كفر عنا } : استر وامح .
{ الأبرار } : جمع برّ أو بار وهم المتمسكون بالشريعة .
{ على رسلك } : على ألسنة رسلك من النصر والتأييد .
{ الميعاد } : الوعد .
{ هاجروا } : تركوا بلادهم وديارهم وأموالهم وأهليهم فراراً بدينهم .
{ أوذوا في سبيلى } : آ ذاهم المشركون من اجل الإِيمان بى ورسولى وطاعتنا .
{ ثوابا من عند الله } : أي أجراً جزاء كائناً من عند الله ، وهو الجنات بعد تكفير السيئات .
معنى الآيات :
لما قال اليهود تلك المقالة السيئة : ان الله تعالى فقير ونحن أغنياء ، وحرفوا الكتاب وبدلوا وغيروا ويحبون ان يحمدوا على باطلهم كانت مواقفهم هذه دالة على عمى في بصائرهم ، وضلال فى عقولهم ، فذكر تعالى من الآيات الكونيّة ما يدل على غناه ، وافتقار عباده إليه ، كما يدل على ربوبيته على خلقه ، وتدبيره لحياتهم وتصرفه في أمورهم ، وانه ربهم لا رب لهم غيره وإلههم الذي لا إله لهم سواه إلا أن هذا لا يدركه الا أرباب العقول الحصيفة والبصائر النيرة فقال تعالى : { ان في خلق السموات والأرض ، واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب } نعم ان في ايجاد السموات والأرض من العدم وفي اختلاف الليل والنهار بالطول والقصر والظلام والضياء ، والتعاقب بذهاب هذا ومجيء ذاك دلائك واضحات على غنى الله وافتقار عباده وبراهين ساطعة على ربوبيته لخلقه . والوهيته لهم . هذا ما تضمنته الآية الأولى ( 190 ) وأما الآيات الأربع بعدها فقد تضمنت وصفاً لأولى الألباب الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض فيهتدون الى معرفة الربّ تعالى فيذكرونه ويشكرونه . فقال تعالى عنهم : { الذين يذكرون الله قياما وقعوداً وعلى جنوبهم } وهذا شامل لحالهم فى الصلاة وخارج الصلاة . وقال عنهم : { ويتفكرون في خلق السموات والأرض } ، أي في إيجادهما وتكوينهما وإبداعهما ، وعظيم خلقهما ، وما أودع فيهما من مخلوقات . فلا يلبثون أن يقولوا : { ربنا ما خلقت هذا باطلاً } أي لا لحكمة مقصودة ولا لهدف مطلوب ، بل خلقته بالحق وحاشاك ان تكون من اللاعبين العابثين سبحانك تنزيها لك عن العبث واللعب بل خلقت ما خلقت لحكم عالية خلقته لأجل أن تذكر وتشكر ، فتكرم الشاكرين الذاكرين ، فى دار كرمتك وتهين الكافرين في دار عذابك ، ولذا قالوا : في الآية ( 192 ) { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ، وما للظالمين من أنصار } .
(1/231)
________________________________________
والظالمون هم الكافرون . ولذا يعدمون النصير ويخزون بالعذاب المهين ، وقال عنهم في الآية ( 193 ) { ربنا اننا سمعنا منادياً ينادى للإِيمان طالبين أشرف المطالب واسماها مغفرة ذنوبهم ووفاتهم مع الأبرار فقالوا { ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئآتنا وتوفنا مع الأبرار } وهو ما جاء في الآية ( 193 ) وأما الآية الخامسة ( 194 ) فقد سألوا ربهم أن يعطيهم ما وعدهم على ألسنة رسله من النصر والتمكين في الأرض ، هذا في الدنيا ، وأن لا يُحزِيهم يوم القيامة بتعذيبهم في النار ، فقالوا : { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد } ، أي وعدك الحق وفي الآية السادسة ( 195 ) ذكر تعالى استجابته لهم فقال لهم : { إنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى } بل أجازى الكل بعمله لا أنقصه له ذكراً كان أو أنثى لأن بعضكم من بعض الذكر التى السوجبوا بها هذا الإِنعام فقال : { فالذين هاجروا ، واخرجوا من ديارهم ، وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا } ، وواعدهم قائلا : { لأكفرن عنهم سيئآتهم ولأدخلنهم جناتٍ تجرى من تحتها الأنهار } ، وكان ذلك ثوابا منه تعالى على أعمالهم الصالحة ، والله عنده حسن الثواب ، فليُرغَب إليه ، وليَطمَع فيه ، فإنه البر الرحيم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وجوب التفكر في خلق السموات والأرض للحصول على المزيد من الإِيمان والإِيقان .
2- استحباب تلاوة هذه الآيات : إن في خلق السموات الى آخر السورة وذلك عند القيام للتهجد آخر الليل لثبوت ذلك فى الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم .
3- استحباب ذكر الله فى كل حال من قيام أو قعود أو اضطجاع .
4- استحباب التعوذ من النار بل وجوبه ولو مرة فى العمر .
5- مشروعية التوسل الى الله تعالى بالإِيمان وصالح الأعمال .
6- فضل الهجرة والجهاد في سبيل الله .
7- المساواة بين المؤمنين والمؤمنات في العمل والجزاء .
8- استحباب الوفاة بين الأبرار وهم أهل الطاعة لله ولرسوله والصدق فيها وذلك بالحياة معهم والعيش بينهم لتكون الوفاة بإذن الله معهم .
(1/232)
________________________________________
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
شرح الكلمات :
{ لا يغرنك } : لا يكن منك اغترار ، المخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم والمراد أصحابه واتباعه .
{ تقلب الذين كفروا فى البلاد } : تصرفهم فيها بالتجارة والزراعة والأموال والمآكل والمشارب .
{ متاع قليل } : تصرفهم ذلك هو متاع قليل يتمتعون به أعواماً وينتهى .
{ ماواهم جهنم } : مآلهم بعد التمتع القليل الى جهنم يأوون اليها فيخلدون فيها أبداً .
{ نزلاً من عند الله } : النُّزُل : ما يعد للضيف من قرى : طعام وشراب وفراش .
{ الأبرار } : جمع بار وهو المطيع لله ولرسوله الصادق فى طاعته .
{ وما أنزل اليكم } : القرآن والسنة ، وما أنزل اليهم التوراة والإِنجيل .
{ خاشعين لله } : مطيعين مخبتين له عز وجل .
{ لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا } : لا يجحدون أحكام الله وما أمر ببيانه للناس مقابل منافع تحصل لهم .
{ اصبرا وصابروا } : الصبر حبس النفس على طاعة الله ورسوله ، والمصابرة : الثبات والصمود أمام العدو .
{ ورابطوا } : المرابطة : لزوم الثغور منعاً للعدو من التسرب الى ديار المسلمين .
{ تفلحون } : تفوزون بالظفر المرغوب ، والسلامة من المرهوب فى الدنيا والآخرة .
معنى الآيات :
ينهى الله تبارك وتعالى دعاة الحق من هذه الأمة فى شخصية نبيهم صلى الله عليه وسلم أن يَغُرَّهُمْ اى يخدعهم ما يتصرف فيه أهل الكفر والشرك والفساد من مكاسب وأرَباح وما يتمعون به من مطاعم ومشارب ومراكب ، فيظنون أنهم على هدىً أو أن الله تعالى راضٍ عنهم وغير ساخط عليهم ، لا ، لا ، إنما هو متاع في الدنيا قليل ، ثم يردون الى أسوأ مأوى وشر قرار إنه جهنم التى طالما مهدوا لدخولها بالشرك والمعاصى ، وبئس المهاد مهدوه لأنفسهم الخلود فى جهنم . هذا معنى الآيتين الاولى والثانية وهما قوله تعالى : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا فى البلاد متاع قليل ، ثم ماواهم جهنم وبئس المهاد } ، أما الآية الثالثة ( 198 ) ، وهى قوله تعالى : { لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله ، وما عند الله خير للأبرار } فإنها قد تضمنت استدراكاً حسناً وهو لا ذكر في الآية قبلها مآل الكافرين وهو شرمآل جهنم وبئس المهاد ، ذكر في هذه الآية مآلُ المؤمنين وهو خير مآل . { جنات تجرى من تحتها الأنا رخالدين فيها نُزُلاً من عند الله } ، وما عند الله تعالى من النعيم المقيم فى دار السلام خير لأهل الإِيمان والتقوى من الدنيا وما فيها فلا يضرهم ان يكونوا فقراء ، معسرين ، وأهل الكفر أغنياء موسرين أما الآية الرابعة ( 199 ) وهى قوله تعالى : { وإن من أهل الكتب لمن يؤمن بالله } الآية فانها تضمنت الرد الإِلهى على بعض المنافقين الذين انكروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين صلاتهم على النجاشى بعد موته ، إذ قال بعضهم انظروا الى محمد وأصحابه يصلون على علج مات في غير ديارهم وعلى غير ملتهم ، وهم يريدون بهذا الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فرد الله تعالى عليهم بقوله : وإن من أهل الكتاب أي اليهود والنصارى لمن يؤمن بالله ، وما أنزل اليكم أيها المؤمنون ، وما أنزل اليهم في التوراة والانجيل خاشعين لله ، أي خاضعين له عابدين ، لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً كسائر اليهود والنصارى حيث يحرفون كلام الله ويبدلونه ويخفون منه ما يجب ان يظهروه ويبينوه حفاظا على منصب أو سمعة أو منفعة مادية ، أما هؤلاء وهم عبد الله بن سلام من اليهود وأصحمة النجاشى من النصارى ، وكل من أسلم من أهل الكتاب فإنهم المؤمنون حقاً المستحقون للتكريم والإنعام قال تعالى فيهم أولئك لهم أجرهم عند ربهم يوفيهم إياه يوم القيامة إن الله سريع الحساب ، إذ يتم حساب الخلائق كلهم فى مثل نصف يوم من أيام الدنيا .
(1/233)
________________________________________
هذا ما تضمنته الآية الرابعة ( 199 ) أما الآية الخامسة والأخيرة ( 200 ) وهى قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون } فإنها تضمنت دعوة كريمة ونصيحة غالية ثمينة للامة الرحيمة بأن تصبر على الطاعات وعلى الشدائد والملمات فتصابر اعداءها حتى يُستلِموا أو يُسَلموا القياد لها . وترابط بخيولها وآلات حربها في حدودها وثغورها مرهبة عدوها حتى لا يطمع فى غزوها ودخول ديارها . ولتتق الله تقوى تكون سبباً فى فوزها وفلاحها بهذه الرحمة الربانية ختمت سورة آل عمران المباركة ذات الحكم والأحكام وتليها سورة النساء .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تنبيه المؤمنين وتحذيرهم من الاغترار بما يكون عليه الكافرون من سعة الرزق وهناءة العيش فإن ذلك لم يكن عن رضى الله تعالى عنهم ، وإنما هو متاع في الدنيا حصل لهم بحسب سنة الله تعالى في الكسب والعمل ينتج لصاحبه بحسب كدة وحسن تصرفه .
2- ما أعد لأهل الإِيمان والتقوى وهم الأبرار من نعيم مقيم فى جوار ربهم خير من الدنيا وما فيها .
3- شرف مؤمنى أهل الكتاب وبشارة القرآن لهم بالجنة وعلى رأسهم عبد الله بن سلام وأصحمة النجاشى .
4- وجوب الصبر والمصابرة والتقوى والمرابطة للحصول على الفلاح الذى هو الفوز المرغوب والسلامة من المرهوب في الدنيا والآخرة .
(1/234)
________________________________________
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
{ شرح الكلمات } :
{ الناس } : البشر ، واحد الناس من غير لفظه وهو إنسان .
{ اتقوا ربكم } : خافوه ان يعذبكم فامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه .
{ من نفس واحدة } : هى آدم عليه السلام .
{ وخلق منها زوجها } : خلق حواء من آدم من ضلعه .
{ وبث } : نشر وفرق فى الأرض من آدم وزوجه رجلا ونساء كثراً .
{ تساءلون به } : كقول الرجل لأخيه أسألك بالله أن تفعل لى كذا .
{ والأرحام } : الأرحام جمع رحم ، والمراد من اتقاء الأرحام صلتها وعدم قطعها .
{ رقيباً } : الرقيب : الحفيظ العليم .
معنى الآية الكريمة :
ينادى الرب تبارك وتعالى عباده بلفظ عام يشمل مؤمنهم وكافرهم : يا أيها الناس ويأمرهم بقتواه عز وجل وهى اتقاء عذابه في الدنيا والآخرة بالإِسلام التام إليه ظاهراً وباطناً . واصفا نفسه تعالى بأنه ربهم الذى خلقهم من نفس واحدة وهى آدم الذي خلقه من طين ، وخلق من تلك النفس زوجها وهي حواء ، وأنه تعالى بث منهما أى نشر منهما في الأرض رجالاً كثيرا ونساء كذلك ثم كرر الأمر بالتقوى إذ هى ملاك الأمر فلا كمال ولا سعادة بدون الالتزام بها قائلا واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام ، أي اتقوا الله ربكم الذي آمنت به قلوبكم فكنتم إذا أراد أحدكم من أخيه شيئاً قال له أسألك بالله إلا اعطتنى كذا . . واتقوا الأرحام ان تقطعوها فإن في قطعها فساداً فإن في قطعها فساداً كبيراً وخللاً عظيما يصيب حياتكم فيفسدها عليكم ، وتوعدهم تعالى ان لم يمتثلوا أمره بتقواه ولم يصلوا أرحامهم بقوله إن الله كان عليكم رقيباً مراعيا لأعمالكم محصياً لها حافظاً يجزيكم بها ألا أيها الناس فاتقوه .
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة :
1- فضل هذه الآية إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذ خطب في حاجة تلا آية آل عمران { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } وتلا هذه الآية ، ثم آية الأحزاب { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } ثم يقول أما بعد ويذكر حاجته .
2- أهمية الأمر بتقوى الله تعالى اذ كررت في آية واحدة مرتين في أولها وفي آخرها .
3- وجوب صلة الأرحام وحرمة قطعها .
4- مراعاة الأخوة البشرية بين الناس واعتبارها في المعاملات .
(1/235)
________________________________________
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
شرح الكلمات :
{ اليتامى } : جمع يتيم ذكراً كان أو أنثى وهو من مات والده وهو غير بالغ الحلم .
{ ولا تتبدَّلوا الخبيث بالطيب } : الخبيث الحرام والطيب الحلال والمراد بها هنا الردىء والجيد .
{ حوباً كبيراً } : الحوب الاثم الكبير العظيم .
{ ان لا تقسطوا } : ان لا تعدلوا .
{ مثنى وثلاث ورباع } : أي اثنتين أو ثلاث ، أو أربع إذا لا تحل الزيادة على الأربع .
{ ادنى ان لا تعولوا } : أقرب ان لا جوروا بترك العدل بين الزوجات .
{ صدقاتهم نحلة } : جمع صدقة وهى الصداق والمهر ، ونحلة بمعنى فريضة واجبة .
{ هنيئاً } : الهنيء : ما يستلذ به عند أكله .
{ مريئاً } : امريء : ما تحسن عاقبته بأن لا يعقب آثاراً سيئة .
معنى الآيات :
لما أمر تعالى بصلة الأرحام وحرم قطعها في الآية السابقة أمر في هذه الآية أوصياء اليتامى ان يعطوا اليتامى أموالهم إذا هم بلغوا سن الرشد وآنسوا منهم الرشد فقال تعالى وآتوا اليتامى أموالهم . ونهاهم محرماً عليهم أن يستبدلوا أمول اليتام الجيدة بأموالهم الرديئة فقال تعالى : ولا تتبدلوا الخبيث أي الردىء من أموالك بالطيب من أمولهم ، لما في ذلك من أذية اليتيم في ماله ، ونهاهم أيضا أن يأكلوا أمول يتاماهم مخلوطة مع أموالهم لما في ذلك من أكل مال اليتيم بغير حق فقال تعالى : ولا تأكلوا أمولهم إلى أموالكم ، وعلل ذلك بأنه إثم عظيم فقال عز وجل : إنه -أي الأكل- كان حوباً كبيراً . والحوب الإِثم . هذا معنى الآية الأولى ( 2 ) { وآتوا اليتامى أموالهم ، ولا تتبدَّلوا الخبيث بالطيب ، ولا تأكلوا أموالهم الى أموالك إنه كان حوباً كبيراً } وأما الآية الثانية ( 3 ) فقد أرشد الله تعالى أولياء اليتيمات ان هم خافوا ان لا يعدلوا معهن إذا تزوج أحدهم وليته أرشدهم الى أن يتزوجوا ما طالب لهم من النساء غير ولياتهم مثنى ، وثلاث ورباع ، يريد اثنتين اثنتين أو ثلاث ثلاث أو أربع أربع كل بحسب قدرته ، فهذا خير من الزواج بالولية فيهضم حقها وحقها آكد لقرابتها . هذا معنى قوله تعالى : { وان خفتم الا تقسطوا في التيامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } . وقوله { فإن خفتم الا تعدلوا فواحدة أو ما ملك أيمانكم } يريد تعالى وإن خاف المؤمن ألا يعدل بين زوجاته لضعفه فليكتف بواحدة ولا يزد عليه غيرها أو يتسرّى بمملوكته إن كان له مملوكة فإن هذا أقرب الى أن لا يجوز المؤمن ويظلم نساءه . هذا معنى قوله تعالى { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ، أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ان لا تعولوا . وفي الآية الرابعة والأخيرة يأمر تعالى المؤمنين بأن يعطوا النساء مهورهن فرضة منه تعالى فرضها على . الرجل لامرأته ، فلا يحل له ولا لغيره ان يأخذ منها شيئاً إلا برضى الزوجة فإن هى رضيت فلا حرج فى الأكل من الصداق لقوله تعالى فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئا .
(1/236)
________________________________________
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- كل مال حرام فهو خبيث وكل حلال فهو طيب .
2- لا يحل للرجل ان يستبدل جيدا من مال يتيمه بمال رديء من ماله كأن يأخذ شاة سمينة ويعطيه هزيلة أو يأخذ تمراً جيداً ويعطيه رديئاً خسيساً .
3- لا يحل خلط مال اليتيم مع مال الوصي ويؤكلان جميعا لما في ذلك من أكل مال اليتيم ظلما .
4- جواز نكاح أكثر من واحدة إلى أربع مع الأمن من الحيف والجور .
5- وجوب مهور النساء وحرمة الأكل منها بغير طيب نفس صاحبة المهر وسواء في ذلك الزوج وهو المقصود في الآية أو الأب والأقارب .
(1/237)
________________________________________
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
شرح الكلمات :
{ لا تؤتوا } : لا تعطوا .
{ السفهاء } : جمع سفيه وهو من لا يحسن التصرف في المال .
{ قياماً } : القيام : ما يقوم به الشيء فالأموال جعلها الله تعالى قياما أي تقوم عليها معايش الناس ومصالحهم الدنيوية والدينية أيضاً .
{ وابتلوا اليتامى } : أي اختبروهم كي تعرفوا هل اصبحوا يحسنون الصرف في المال .
{ بلغوا النكاح } : أي سن الزواج وهي البلوغ .
{ آنستم } : أبصرتم الرشد في تصرفاتهم .
{ إسرافاً وبداراً } : الإِسراف الإنفاق في غير الحاجة الضرورية ، والبدار : المبادرة والمسارعة إلى الأكل منه قبل أن ينقل إلى اليتيم بعد رشده .
{ فليستفف } : أي يعف بمعنى يكف عن الأكل من مال يتيمه .
{ فليأكل بالمعروف } : أي بقدر الحاجة الضرورية .
{ وكفى بالله حسيبا } : شاهداً لقرينة فأشهدوا عليهم .
معنى الآيتين :
ما زال السياق الكريم في إرشاد الله تعالى عباده المؤمنين الى ما فيه خيرهم وصلاحهم في الدنيا ، ونجاتهم وفلاحهم في الآخرة فقال تعالى في الآية الأولى ( 5 ) ، ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها وأكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً ، فنهاهم تعالى أن يعطوا أموالهم التى هى قوام معاشهم السفهاء من امرأة وولد أو رجل قام به وصف السفه وهو قلة البصيرة بالأمور المالية ، والجهل بطرق التصرف الناجحة مخافة أن ينفقوها في غير وجوهها أو يفسدوها بأي نوع من الإِفساد ، كالإِسراف ونحوه ، وأمرهم أن يرزقوهم فيها ويكسوهم ، وقال فيها ولم يقل منها إشارة الى أن المال ينبغي أن ينمى في تجارة أو صناعة أو زراعة فيبقى رأس المال والأكل يكون من الرح فقط كما أمرهم ان يقولوا لسفائهم الذين منعوهم المال أن يقولوا لهم قولاً معروفاً كالعدة الحسنة والكلمة الطيبة ، هذا ما تضمنته الآية الأولى أما الثانية ( 6 ) فقد أمرهم تعالى باختبار اليتامى إذا بلغوا سن الرشد أو ناهزوا البلوغ بأن يعطوهم شيئاً من المال ويطلبوا منهم أن يبيعوا أو يشتروا فإذا وجدوا منهم حسن تصرف دفعوا اليهم أموالهم وكفى بالله حسيبا أي شاهداً ورقيباً حفيظاً . ونهاهم عز وجل أن يأكلوا أموال اليتامى إسرافاً وبداراً أن يكبروا ويريد لا تأكلوا أموال يتاماكم أيها الولاة والأوصياء بطريقة الإِسراف وهو الانفاق الزائد على قدر الحاجة ، والمبادرة هى المسارعة قبل أن يرشد السفية وينقل إليه المال . ثم أرشدهم الى أقوم الطرق وأسدها في ذلك فقال ومن كان منكم غنيا فليكفّ عن مال اليتيم ولا يأكل منه شيئاً ، ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف وذلك بان يستقرض منه ثم يرده اليه بعد الميسرة ، وإن كان الولى فقيراً جز له أن يعمل بأجر كسائر العمال ، وان كان غنياً فليعمل مجاناً احتساباً وأجره على الله والله لا يضيع أجر من أحسن عملا .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين :
1- مشروعية الحجر على السفيه لمصلحته .
2- استحباب تنمية الأموال في الأوجة الحلال لقرينة { وارزقوهم فيها } .
3- وجوب اختبار السفيه قبل دفع ماله إليه ، إذ لا يدفع إليه المال الا بعد وجود الرشد .
4- وجوب الإِشهاد على دفع المال الى اليتيم بعد بلوغه ورشده .
5- حرمة أكل مال اليتيم والسفية مطلقا .
6- الوالى على اليتيم ان كان غنياً فلا يأكل من مال اليتيم شيئاً ، وإن كان فقيراً استقرض ورد عند الوجد واليسار ، وان كان مال اليتيم يحتاج إلى أجير للعمل فيه جاز للولى ان يعمل بأجرة المثل .
(1/238)
________________________________________
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
شرح الكلمات :
{ نصيب } : الحظ المقدر في كتاب الله .
{ الوالدان } : الأب والأم .
{ الأقربون } : جمع قريب وهو هنا الوارث بسب أو مصاهرة أو ولاء .
{ نصيبا مفروضا } : قدراً واجباً لازماً .
{ أولوا القربى } : أصحاب القرابات الذين لا يرثون لبعدهم عن عمودى النسب .
{ فارزقوهم منه } : أعطوهم شيئا يرزقونه .
{ قولا معروفا } : لا إهانة فيه ولا عتاب ، ولا تأفيف .
{ الخشية } : الخوف فى موضع الأمن .
{ قولا سديداً } : عدلا صائبا .
{ ظلما } : بغير حق يخول له أكل مال اليتيم .
{ وسيصلون سعيرا } : سيدخلون سعيراً ناراً مستعرة يشوون فيها ويحرقون بها .
معنى الآيات :
لقد كان أهل الجاهلية لا يُورَثون النساء ولا الأطفال بحجة أن الطفل كالمرأة لا تركب فرساً ولا تحمل كلاَّ ولا تنكى عدواً ، يُكْسِب ولا تكسب ، وحدث أن امرأة يقال لها أم كُحَّة مات زوجها وترك لها بنتين فمنعهما أخو الهالك من الإِرث فشكت ام كحة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية الكريمة : { للرجال نصيب مما ترك الوالدان ، والأقربون ، واللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } ومن ثم اصبحت المرأة كالطفل الصغير يرثان كالرجال ، وقوله تعالى : ما قل منه ى من المال المتروك او كثر حال كون ذلك نصيباً مفروضاً لا بد من اعطائه الوارث ذكراً كان أو أنثى صغيراً أو كبيراً . والمراد من الوالدين الأب والأم ، والأقربون كالأبناء والإِخوان والبنات والاخوات ، والزوج والزوجات هذا ما تضمنته الآية الأولى ( 7 ) وأما الآية الثانية ( 8 ) فقد تضمنت فضيلة جميلة غفل عنها المؤمنون وهى أن من البر والصلة والمعروف إذا هلك هالك ، وقدمت تركته للقسمة بين الورثة ، وحضر قريب غير وارث لحجبه أو بعده أو حضر يتيم أو مسكين من المعروف ان يعطوا شيئاً من تلك التركة قبل قسمتها وان تعذر العطاء لأن الورثة يتامى أو غير عقلاء يصرف أولئك الراغبون من قريب ويتيم ومسكين بكلمةٍ طيبة كاعتذار جميع تطيب به نفوسهم هذا ما تضمنته الآية الثانية وهى قوله تعالى : { وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه } -أي من المال- المتروك وقولوا لهم قولا معروفا إن تعذر إعطاؤهم لمانع يتم أو عقل . أما الآية الثالثة وهي قوله تعالى : { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله واليقولوا قولا سديداً } فقد تضمنت إرشاد الله تعالى للمؤمن الذى يحضر مريضا على فراش الموت بأن لا يسمح له ان يحيف في الوصية بأن يوصى لوارث أو يوصى بأكثر من الثلث او يذكر دينا ليس عليه وإنما يريد حرمان الورثة . فقال تعالى آمراً عباده المؤمنين وليخش الذين لو تركوا من خلفهم أَىْ من بعد موتهم ، ذرية ضعافاً خافوا عليهم . أي فليخشوا هذه الحال على أولاد غيرهم ممن حضروا وفاته . كما شخشونها على أولادهم .
(1/239)
________________________________________
إذاً فعليهم أن يتقوا الله في أولاد غيرهم . وليقولوا لمن حضروا وفاته ووصيته قولا سديداً : صائباً لا حيف فيه ولا جور معه . هذا ما تضمنته الآية الثالثة ( 9 ) أما الآية الرابعة ( 10 ) فقد تضمنت وعيدا شديداً لمن يأكل مال اليتيم ظلما إذ قال تعالى فيها : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً } والمراد من الظلم انهم أكلوها بغير حق اباح لهم ذلك كأجرة عمل ونحوه ، ومعنى يأكلون في بطونهم ناراً انهم يأكلون النر يوم القيامة فقوله إنما يأكلون في بطونهم ناراً هو باعتبار ما يؤول إليه أمر أكلهم اليوم ، والعياذ بالله من نار السعير .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير مبدأ التوارث في الإِسلام .
2- استحباب إعطاء من حضر قسمة التركة من قريب أو يتيم ومسكين وإن تعذر إعطاؤهم صرُفوا بالكلمة الطيبة ، وفي الحديث الكلمة الطيبة صدقة .
3- وجوب النصح والإِرشاد للمختضر حتى لا يجور في وصيته عن موته .
4-على من يخاف على أطفاله بعد موته أن يحسن الى أطفال غيره فإن الله تعالى يكفيه فيهم .
5- حرمة أكل مال اليتامى ظلمّاً ، والوعيد الشديد فيه .
(1/240)
________________________________________
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
شرح الكلمات :
{ يوصيكم } : يعهد إليكم .
{ في أولادكم } : في شأن أولادكم والولد يطلق على الذكر والأنثى .
{ حظ } : الحظ الحصة أو النصيب .
{ نساء } : بنات كبيرات أو صغيرات .
{ ثلثا ما ترك } : الثلث واحد من ثلاثة ، والثلثان اثنان من ثلاثة .
{ السدس } : واحد من ستة .
{ ان كان له ولد } : ذكراً كان أو أنثى ، او كان له وَلَدُ وَلَدٍ أيضا ذكراً أو أنثى فالحكم واحد .
{ فإن كان له اخوة } : اثنان فأكثر .
{ من بعد وصية } : أي يَخْرُجُ الدين ثم الوصية ويقسم الباقى على الورثة .
{ فريضة } : فرض الله ذلك عليكم فريضة .
{ عليما حكيما } : عليما بخلقه وما يصلح لهم ، حكيما في تصرفه في شؤون خلقه وتدبيره لهم .
معنى الآيات :
هذه الآية الكريمة ( 11 ) { يوصيكم الله في أولادك للذكر مثل حظ الأنثتين } الخ والتي بعدها ( 12 ) وهي قوله تعالى { ولكم نصف ما ترك أزواجكم } إلخ نزلت لتفصيل حكم الآية ( 7 ) والتي تضمنت شرعية التوارث بين الأقارب المسلمين ، فالآية الأولى ( 11 ) يسن تعالى فيها توارث الأبناء مع الآباء فقال تعالى { يوصيكم الله في أولادكم } أي في شأن أولادكم { للذكر مثل حظ الانثتين } يريد إذا مات الرجل وترك أولاداً ذكرا وإناثا فإن التركة تسم على أساس أن للذكر مثلّ نصيب الأنثيين فلو ترك ولداً وبنتاً وثلاثة دنانير فإن الولد يأخذ دينارين والبنت تأخذ دينارً وإنترك بنات أثنتين أو أكثر ولم يترك معهن ذكراً فإن للبنتين فأكثر الثلثين والباقى للعصبة إذ قال تعالى { فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك } . وإن ترك بنتاً فإن لها النصف والباقى للعصبة وهو معنى قوله تعالى { وإن كانت واحدة فلها النصف } ، وإن كان الميت ق ترك أبويه أي أمه وأباه وترك أولاداً ذكوراً إو إناثاً فان لكل واحد من أبويه السدس والباقى للأولاد ، وهو معنى قوله تعالى : { ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك ان كان له ولد } ، يريد ذكراً كان أو أنثى . فإن لم يكن للهالك وُلِدٌ ولاَ وَلَدْ وَلَدٍ فلأمه الثلث وان كان له أخوة اثنان فأكثر فلأمه السدس ، هذا معنى قوله تعالى { فإن كان له اخوة فلأمه السدس } . أي تسقط من الثلث الى السدس وهذا يسمى بالحجب فجبها إخوة ابنها الميت من الثلث الى السدس . وقوله تعالى { من بعد وصية يوصى بها أو دين } يريد أن قسمة التركة على النحو الذى بين تعالى يكون بعد قضاء دين الميت واخراج ما أوصى به ان كان الثلث فأقل وهو معى قوله تعالى { من بعد وصية يوصى بها أو دين } . وقوله تعالى { آباؤكم وابناؤكم لا تدرون ايهم أقرب لكم نفعاً } معناه نفذوا هذه الوصية المفروضة كما علمكم الله ولا تحاولوا ان تفضلوا أحداً على أحد فإن هؤلاء الوارثين آباؤكم وبناؤكم ولا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً في الدنيا والآخرة .
(1/241)
________________________________________
ولذا فاقسموا التركة كما علمكم بلا محاباة فان الله تعالى هو القاسم والمعطى عليم بخلقه وبما ينفعهم أو يضرهم حكيم في تدبيره لشؤونهم فليفوض الأمر إليه ، وليرض بقسمته فإنها قسمة عليم حكيم .
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة :
1- ان الله تعالى تولى قسمة التركات بنفسه فلا يحل لأحد أن يغير منها شيئاً .
2- الاثنان يعتبران جمعا .
3- ولد الولد حكمه حكم الولد نفسه في الحجب .
4- الأب عاصب فقد يأخذ فرضه مع أًحاب الفرائض وما بقى يرثه بالتعصيب لقوله صلى الله عليه وسلم « ألحفوا الفرائض بأهلها فما ابقت الفرائض فالأولى رجل ذكر » .
(1/242)
________________________________________
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
شرح الكلمات :
{ ازواجكم } : الأزواج هنا الزوجات .
{ ولد } : المراد هنا بالولد ابن الصلب ذكراً كان أو أنثى وولد الولد مثله .
{ الربع } : واحد من أربعة .
{ كَلاَلَة } : الكلالة أن يهلك هالك ولا يترك ولداً ولا والداً ويرثه إخوته لأمه .
{ له أخ أو أخت } : أى من الأم .
{ غير مضار } : بهما -أي الوصية والدين- احداً من الورثة .
{ حليم } : لا يعاجل بالعقوبة على المعصية .
معنى الآية الكريمة :
كانت الآية قبل هذه في بيان الوارثة بالنسب وجاءت هذه في بيان الوارثة بالمصاهرة والوارثون بالمصاهرة الزوج والزوجات قال تعالى : ولكم نصف ما ترك أزواجكم فمن ماتت وتركت مالاً ولم تترك وَلَداً ولا وَلَدَ ولدٍ ذكراً كان أو أنثى فإن لزوجها من تركتها النصف ، وإن تركت ولداً او ولد ذكراً كان أو أنثى فإن لزوجها من تركتها الربع لاغير لقول الله تعالى { فان كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن } . وهذا من بعد سداد الدين ان كان على الهالكة دين ، وبعد اخراج الوصية إن أوصت الهالكة بشيء ، لقوله تعالى { من بعد وصية يوصين بها أو دين } . هذا ميراث الزوج أما ميراث الزوجة من زوجها فهو الربع إن لم يترك الزوج ولداً ولا ولد ولد ذكراً أو أنثى فان ترك ولداًأو ولد ولد فللزوجة الثمن ، وهذا معنى قوله تعالى { ولهن الربع مما تركتكم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن ما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين } . هذا وان كان للزوج الهالك زوجتان أو أكثر فإنهن يشتركن في الربع بالتساوي إن لم يكن للهالك ولد ، وان كان له ولد فلهن الثمن يشتركن فيه بالتساوى وقوله تعالتى وان كان رجلٌ يورث كلالة أو امرأة اى تورث كلالة أيضاً ، والموروث كلالة وهو من ليس له والد ولا ولد ، وإنما يرثة إخوته لأمه كما في هذه الآية أو إخوته لأبيه وأمه كم في آية الكلالة في آخر هذه السورة ، فإن كان له أخ من أمه فله السدس وكذا إن كانت له أخت فلها السدس ، وإن كانوا اثنين فأكثر فلهم الثلث لقوله تعالى : وإن كان ذلك فهم شركاء فى الثلث من بعد وصيّة يُوصى بها او دين غير مضار ، بأن يوصى بأكثر من تالثلث ، أو يقر بدين وليس عليه دين وانما حسدا للورثة أو بغضا لهم لا غير ، فإن تبين ذلك فلا تنفذ الوصية ولا يسدد الدين وتقسم التركة كلها على الورثة ، وقوله تعالى : وصّية من الله أى وصاكم أيها المؤمنون بهذا وصيّة فهى جديرة بالاحترام والامتثال . والله عليم بنياتكم وأحوالكم وما يضركم وما ينفعكم فسلموا له قسمته واطيعوه فيها وهو حليم لا يعاجل بالعقوبة فلا يغركم حلمه ان بطشه شديد وعذابه أليم .
هداية الآية
من هداية الآية :
1- بيان ميراث الزوج من زوجته ، والزوجة والزوجات من زوجهن .
2- بيان ميراث الكلالة وهو من لا يترك والداً ولا ولداً فيرثه إخوته فقط يحوطون به إحاطة الإِكليل بالرأس فلذا سُمِيّت الكلالة .
3- إهمال الوصيّة أو الدين ان علم إن الغرض منها الإِضرار بالورثة فقط .
4- عظم شأن المواريث فيجب معرفة ذلك وتنفيذه كما وصى الله تعالى .
(1/243)
________________________________________
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
شرح الكلمات :
{ تلك حدود الله } : تلك اسم إشارة أشير به الى سائر ما تقدم من أحكام النكاح وكفالة اليتامى وتحريم أكل مال اليتيم ، وقسمة التركات . وحدود الله هى ما حده لنا وبينه من طاعته وحرم علينا الخروج عنه والتعدى له .
{ الفوز العظيم } : هو النجاة من النار ودخول الجنة .
{ العذاب المهين } : ما كان فيه اهانة للمعذب بالتقريع والتوبيخ ونحو ذلك .
معنى الآيتين :
لما بين تعالى ما شاء من احكام الشرع وحدود الدين أشار الى ذلك بقوله : تلك حدود الله قد بينتها لكم وأمرتكم بالتزامها ، ومن يطع الله ورسوله فيها وفى غيرها من الشرائع والأحكام فجزاؤه أنه يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار ، أنهار العسل واللبن والخمر والماء ، وهذا هو الفوز العظيم حيث نجاه من النار وأدخله الجنة يخلد فيها أبدا . ومن يعص الله تعالى ورسوله بتعد تلك الحدود وغيرها من الشرائع والأحكام ومات على ذلك فجزاؤه أن يدخله ناراً يخلد فيها وله عذاب مهين . والعياذ بالله من عذابه وشر عقابه .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين :
1- بيان حرمة تعدي حدود الله تعالى .
2- بيان ثواب طاعة الله ورسوله وهو الخلو فى الجنة .
3- بيان جزاء معصية الله ورسوله وهو الخلود فى النار والعذاب المهين فيها .
(1/244)
________________________________________
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
شرح الكلمات :
{ اللاتى } : جمع التى اسم موصول للمؤنث المفرد واللاتى للجمع المؤنث .
{ الفاحشة } : المراد بها هنا الزنى .
{ من نسائكم } : المحصنات .
{ سبيلا } : طريقا للخروج من سجن البيوت .
{ يأتيانها } : الضمير عائد إلى الفاحشة المتقدم ذكرها .
{ فأعرضوا عنهما } : اتركوا أذيتهما بعد أن ظهرت توبتهما .
{ التوبة } : أصل التوبة الرجوع وحقيقتها الندم على فعل القبيح مع تركه . والعزم على عدم العودة إليه .
{ السوء } : كل ما أساء إلى النفس والمراد به هنا السيئات .
{ بجهالة } : لا مع العمد والإِصرار وعدم المبالاة .
{ اعتدنا } : أعددنا وهيأنا .
{ أليما } : موجعاً شديد الإِيجاع .
معنى الآيات :
لما ذكر تعالى بحدوده وذكر جزاء متعديها ، ذكر هنا معصية من معاصيه وهى فاحشة الزنى ، ووضع لها حداً وهى الحبس فى البيوت حتى الموت او الى ان ينزل حكما آخر يخرجهن من الحبسوهذا بالنسبة الى المحصنات . فقال تعالى { واللاتى يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن اربعة منكم } أى من المسلمين يشهدون بأن فلانة زنت بفلان فامسكوهن فى البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا . أما غير المحصنات وهن الأبكرار فقد قال تعالى فى شأنهن . واللذان يأتيهانها منك فآذوها أى بالضرب الخفيف والتقريع والعتاب ، مع الحبس للنساء أما الرجال فلا يحبسون وانما يكتفى بأذاهم الى ان يتوبوا ويصلحوا فحينئذ يعفى عنه ويكف عن أذيتهم هذا معنى قوله تعالى { واللذان يأتيانها منك فأذوهما فإن تابا واصلحا فاعرضوا عنهما ان الله كان توبا رحيما } .
ولم يمض على هذين الحدين الا القليل من الزمن حتى أنجز الرحمن ما وعد وجعل لهن سبيلاً فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم كان جالساً بين أصحبه حتى أنزل الله تعالى عليه الحكم النهائى في جريمة الزنى فقال صلى الله عليه وسلم : خذوا عنى خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام . والمرا من الثيب بالثيب اى إذا زنى نثيب بثيب وكذا البكر بالبكر . وبهذا اوقف الحد الأول فى النساء والرجال معاً ومضى الثانى أما جلد البكرين فقد نزل فيه آية النور : { الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } وأما رجم المحصنين فقد مضت فيه السنة فقد رجم ماعز ، والغامدية بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حد قائم الى يوم القيامة . هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى ( 15 ) والثانية ( 16 ) وأما الآيتان بعدهما وهما ( 17 ) ( 18 ) فقد أخبر تعالى أن الذين يستحقون التوبة وثبتت لهم من الله تعالى هم المذنبون الذين يرتكبون المعصية بسبب جهالة منهم ، ثم يتوبون من قريب لا يسوفون التوبة ولا يؤخرونها أما الذين يجترحون السيآت مع علم منهم وإصرار ، ولا يتوبون إثر غشيان الذنب فلا توبة تضمن لهم فقد يموتون بلا توبة شأنهم شأن الذين يعملون السيئآت ولا يتوبون حتى إذا مرض احدهم وظهرت عليه علامات الموت وأيقن انه ميت لا محالة قال انه تائب كشأن الكفرين اذا تابوا عند معاينة الموت فلا تقبل منهم توبة أبداً .
(1/245)
________________________________________
هذا معنى الآيتين الكريمتين { انما التوبة عل الله للذين يعملون السوء بجالهة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم } أى يقبل توبتهم لأنه عليم بضعف عباده حكيم يضع كل شىء فى موضعه اللائق به ومن ذلك قبول توبة من عصوه بجاهلة لا بعناد ومكابرة وتحد ، ثمتابوا من قريب لم يطيلوا مدة المعاصى والثانية { وليست التوبة للذين يعملون السيئآت حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنى تبت الآن } ، كما هى ليست للذين يعيشون على الكفر فإذا جاء أحدهم الموت قال تبت كفرعون فإنه لما عاين الموت بالغرق قال آمن انه لا إله ال الذى آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين فرد الله تعالى عليه : { الآن وقد عصيت وكنت من الفاسقين } وقوله تعالى { أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما } إشارة الى كل من مات على غير توبة بارتكابه كبائر الذنوب ، أو بكفر وشرك ، الا أن المؤمن الموحد يخرج من النار بإيمانه ، والكافر يخلد فيها . نعوذ بالله من النار وحال أهلها .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- عظم قبح فاحشة الزنى .
2- بيان حد الزنى قبل نسخه بآية سورة النور ، وحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فى رجم الحصن والمحصنة .
3- التوبة التى تفضل الله بها هي ما كان صاحبها أتى ما أتى من الذنوب بجهالة لا بعلم وإصرار ثم تاب من قريب زمن .
4- الذين يسوفون التوبة ويؤخرونها يخشى عليهم أن لا يتوبوا حتى يدركهم الموت وهم على ذلك فيكونون من أهل النار ، وقد يتوب أحدهم ، لكن بندرة وقلة وتقبل توبته اذا لم يعاين امارات الموت لقول الرسول صلى الله عليه وسلم « ان الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر » رواه الترمذى وأحمد وغيرهما واسناده حسن .
5- لا تقبل توبة من حشرجت نفسه وظهرت عليه علامات الموت ، وكذا الكافر من باب أولى لا تقبل له توبة بالإِيمان اذا عاين علامات الموت كما لم تقبل توبة فرعون .
(1/246)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
شرح الكلمات :
{ كرها } : بدون رضاهن .
{ العضل } : المنع بشدة كأنه امساك بالعضلات أو من العضلات .
{ ببعض ما آتيتموهن } : أى من المهور .
{ الفاحشة } : الخصلة القبيحة الشديدة القبح كالزنى .
{ مبيّنة } : ظاهرة واضحة ليست مجرد تهمة أو مقالة سوء .
{ المعروف } : ما عرفه الشرع واجبا أو مندوبا أو مباحا .
{ قنطارا } : اى من الذهب أو الفضة مهرا وصداقا .
{ بهتانا وإثما } : أى كذبا وافتراء ، واثما حراما لا شك فى حرمته لأنه ظلم .
{ افضى بعضكم الى بعض } : اى خلص الزوج الى عورة زوجته والزوجة كذلك .
{ ميثاقا غليظ } : هو العقد وقول الزوج : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان .
معنى الآيات :
تضمنت هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } ابطال ما كانا شائعا بين الناس قبل الاسلام من الظلم اللحق بالنساء فقد كان الرجل إذا مات والده على زوجته ورثها أكبر اولاده من غيرها فان شاء زوجها وأخذ مهرها وان شاء استبقاها حتى تعطيه ما يطلب منها من مال فأنزل الله تعالى قوله : { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم ان ترثوا النساء كرها } ، فبطل ذلك الحكم الجاهلى بهذه الآية الكريمة وأصبحت المرأة إذا مات زوجها اعتدت فى بيت زوجها فاذا انقضت عدتها ذهبت حيث شاءت ولها مالها وما ورثته من زوجها أيضاً وقوله تعالى { ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن الا ان يأتين بفاحشة مبيّنة } فهذا حكم آخر وهو أنه يحرم على الزوج إذا كره زوجته أن يضايقها ويضارها حتى تفتدى منه ببعض مهرها ، اذ من معانى العضل المضايقة والمضارة ، هذا ما لم ترتكب الزوجة فاحشة الزنى ، او تترفع عن الزوج وتتمرد عليه وتبخسه حقه فى الطاعة والمعاشرة بالمعروف أما إن أتت بفاحشة مبينة لا شك فيها او نشزت نشوزاً بيناً فحينئذ للزوج أن يضايقها حتى تفتدى منه بمهرها او بأكثر حتى يطلها . وذلك لقوله تعالى : { إلا ان يأتين بفاحشة مبينة } ، ثم أمر تعالى عباده المؤمنين بمعاشرة الزوجات بالمعروف وهو العدل والاحسان ، فقال : { وعاشروهن بالمعروف } ، وان فرض ان أحدا منكم كره زوجته وهى لم تأت بفاحشة مبينة فلصبر عليها فلعل الله تعالى يجعل فى بقائها فى عصمته خيراً كثيرا له نتيجة الصبر عليها وتقوى الله تعالى فيها وفى غيرها ، فقد يرزق منها ولدا ينفعه ، وقد يذهب من نفسه ذلك الكره ويحل محله الحب والمودة . والمراد أن الله تعالى ارشد المؤمن . ان كره زوجته ان يصبر ولا يطلق لما فى ذلك من العاقبة الحسنة ، لأن الطلاق بغير موجب غير صالح ولا مرغوب للشارع وكم من أمر يكرهه العبد ويصبر عليه فيجعل الله تعالى فيه الخير الكثير . هذا ما تضمنته الآية الأولى ( 19 ) أما الآيتان بعدها فقد تضمنتا : تحريم أخذ شىء من مهر المرأة إذا طلقها الزوج لا لاتيانها بفاحشة ولا لنشوزها ، ولكن لرغبة منه فى طلاقها ليتزوج غيرها فى هذه الحال لا يحل له أن يضارها لتفتدى منه بشىء ولو قل ، ولو كان قد أمهرها قنطاراً فلا يل أن يأخذ منه فلسا فضلا عن دينار أو درهم هذا معنى قوله تعالى : { وان اردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم احداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئا } ، أتأخذونه بهتاناً أى ظلما بغير حق وكذباً وافتراء وإثما مبينا أى ذنبا عظيما ، ثم قال تعالى منكراً على من يفعل ذلك : وكيف تأخذونه أى بأى وجه يحل لكم ذلك ، والحال أنه قد افضى بعضهم إلى بعض أى بالجماع ، اذ ما استحل الزوج فرجها الا بذلك المهر فكيف اذا يسترده أو شيئا منه بهتانا وإثما مبينا ، فقال تعالى : { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم الى بعض } ؟ وقوله تعالى وأخذن منكم ميثاقا غليظا يعنى عقد النكاح فهو عهد مؤكد يقول الزوج نكحتها على مبدأ : إمساك بمعروف أو تسريح باحسان ، فأين التسريح بإحسان إذا كان يضايقها حتى تتنازل له عن مهرها أو عن شيء منه ، هذا ما أنكره تعالى بقوله وكيف تأخذونه إذا هو استفهام إنكارى .
(1/247)
________________________________________
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- إبطال قانون الجاهلية القائم على ان ابن الزوج يرث امرأة أبيه .
2- حرمة العضل من أجل الافتداء بالمهر وغيره .
3- الترغيب فى الصبر .
4- جواز أخذ الفدية من الزوجة بالمهر أو أكثر أو أقل إن هى أتت بفاحشة ظاهرة لا شك فيها كالزنى أو النشوز .
5- جواز غلاء المهر فقد يبلغ القنطار غير أن التيسير فيه أكثر بركة .
6- وجوب مراعاة العهود والوفاء بها .
(1/248)
________________________________________
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
شرح الكلمات :
{ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم } : لا تتزوجوا امرأة الأب أو الجد .
{ إلا ما قد سلف } : إلا ما قد مضى قبل هذا التحريم .
{ إنه كان فاحشة } : أى زواج نساء الآباء فاحشة شديدة القبح .
{ مقتا } : ممقوتاً مبغوضا للشارع ولكل ذى فطرة سليمة .
{ وساء سبيلا } : أي قبح نكاح أزواج الآباء طريقا يسلك .
{ أمهاتكم } : جمع أم فالأم محرمة ومثلها الجدة وإن علت .
{ ورائبكم } : الربائب جمع ربيبة هى بنت الزوجة .
{ وحلائل ابنائكم } : الحلائل جمع حليلة وهى امرأة الابن من الصلب .
معنى الآيتين :
ما زال السياق الكريم فى بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بالرث والنكاح وعشرة النساء .
وفي هاتين الآيتين ذكر تعالى محرمات النكاح من النسب ، والرضاع والمصاهرة فبدأ بتحريم امرأة الأب وان علا فقال : { ولا تنحكوا ما نكح آباؤكم } ، ولم يقل من ليشمل التحريم منكوحة الأب والطريقة التى كانت متبعة عندهم فى الجاهلية . ولذا قال الا ما قد سلف فى الجاهلية فانه معفو عنه بالاسلام بعد التخلى عنه وعدم المقام عليه ، وبهذه اللفظ حرمت امرأة الأب والجد على الابن وابن الابن ولو لم يدخل بها الأب ثم ذكر محرمات النسب فذكر الامهات والبنات والاخوت والعمات والخالات وبنات الأخ ، وبنات الأخت فهؤلاء سبع محرمات من النسب قال تعالى : { حرمت عليكم امهاتكم وبنتكم واخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت } ثم ذكر المحرمات بالرضاع فقال { وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم وإخواتكم من الرضاعة } فمن رضع من ارمأة خمس رضعات وهو سن الحولين تحرم عليه ويحرم عليه امهاتها وبناتها واخواتها وكذا بنات زوجها واخواته وامهاته حتى قيل يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ، ثم ذكر تعالى المحرمات بالمصاهرة فقال : وامهات نسائكم فأم امرأة الرجل محرمة عليه بمجرد ان يعقد على بنتها تصبح أمها حراما .
وقال وربائبكم التى فى حجوركم فالربيبة هى بنت الزوجة اذا نكح الرجل امرأة وبنى بها لا يحل له الزواج من بنتها أما إذا عقد فقط ولم يبن فان البنت تح لله لقوله : من نسائكم اللاتى دخلتم بهن فان لم يتكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم أى لا إثم ولا حرج .
ومن المحرمات بالمصاهرة امرأة الابن بنى بها ام لم يبن لقوله تعالى : وحلائل ابنائكم الذين من اصلابكم أى ليس ابناً بالتبنى ، اما الإِبن من الرضاع فزوجته كزوجة الابن من الصلب ، لأن اللبن الذى تغذى به هو السبب فكان اذاً كالولد للصلب ، ومن المحرمات بالمصاهرة أيضا أخت الزوجة فمن تزوج امرأة لا يحل له أن يتزوج أخته حتى يموت او يفارقها وتنتهى عدتها لقوله تعالى وان تجمعوا بين الاختين الا ما قد سلف فى الجاهلية فانه عفو بشرط عدم الإِقامة عليه .
هداية الآيات
من هداية الآيتين :
1- تحريم مناكح الجاهلية الا ما وافق الإِسلام منها ، وخاصة أزواج الآباء فزوجة الأب محرمة على الابن ولو لم يدخل بها الأب وطلقها او ما عنها .
(1/249)
________________________________________
2- بيان المحرمات من النسب وهن سبع الأمهات والبنات والاخوات ، والعمات والخالات وبنات الأخ وبنت الأخت .
3- بيان المحرمات من الرضاع وهن المحرمات من النسب فالرضيع يحرم عليه امه المرضع له وبناتها وأخواتها وعماته وخالاته ، وبنات أخيه وبنات أخته .
4- بيان المحرمات من المصاهرة وهن سبع أيضا : زوجة الأب بنى بها أو لم يبن ، أم امرأته بنى بابنتها أو لم يبن ، وبنت امرأته وهى الربيبة اذا دخل بأمها ، وأمرأة الولد من الصلب بنى بها الولد أو لم يبن ، وكذا ابنه من الرضاع ، وأخت امرأته ما دامت اختها تحته لم يفارقها بطلاق أو وفاة . والمحصنات من النساء أى المتزوجات قبل طلاقهن أو وفاة أزواجهن وانقضاء عددهن .
(1/250)
________________________________________
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
شرح الكلمات :
{ المحصنات } : جمع محصنة والمراد بها هنا المتزوجة .
{ إلا ما ملكت إيمانكم } : المملوك بالسبي والشراء ونحوهما .
{ ما وراء ذلكم } : أي ما عداه أي ما عدا ما حرم عليكم .
{ غير مسافحين } : المسافح : الزاني ، لأن السفاح هو الزنى .
{ أجورهن فريضة } : مهورهن نحلة .
{ طولاً } : سعة وقدرة على المهر .
{ المحصنات } : العفيفات .
{ أجورهن } : مهورهن .
{ ولا متخذات أخدان } : الخدين الخليل الذي يفجر بالمرأة سراً تحت شعار الصداقة .
{ فإذا أحصن } : بأن أسلمن أو تزوجن إذا الإِحصان يكون بهما .
{ العنت } : العنت الضرر في الدين والبدن .
معنى الآيتين :
ما زال السياق في بيان ما يحرم من النكاح وما يجوز ففي الآية الأولى ( 24 ) عطف تعالى على المحرمات في المصاهرة المرأة المتزوجة فقال { والمحصنات } أي ذوات الأزواج فلا يحل نكاحهن إلا بعد مفارقة الزوج بطلاق أو وفاة ، وبعد انقضاء العدة أيضاً واستثنى تعالى من المتزوجات المملوكة باليمين وهي المرأة تسبى في الحرب الشرعية وهي الجهاد في سبيل الله فهذه من الجائز أن يكون زوجها لم يمت في الحرب وبما أن صلتها قد انقطعت بدار الحرب وبزوجها وأهلها وأصبحت مملوكة أذن الله تعالى رحمة بها في نكاحها ممن ملكها من المؤمنين .
ولذا ورد أن الآية نزلت في سبايا أوطاس وهي وقعت كانت بعد موقعة حنين فسبي فيها المسلمون النساء والذراري ، فتحرّج المؤمنون في غشيان أولئك النسوة ومنهن المتزوجات فإذن لهم غشيانهنّ بعد أن تسلم إحداهن وتستبرأ بحيضة ، أما قبل إسلامها فلا تحل لأنها مشركة ، هذا معنى قوله تعالى : { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت إيمانكم } وقوله : { كتاب الله عليكم } يريد ما حرمه تعالى من المناكح قد كتبه على المسلمين كتاباً وفرضه فرضاً لا يجوز إهماله أو التهاون به . فكتابَ الله منصوب على المصدرية .
وقوله تعالى : { وأحل الله لكم ما وراء ذلكم } أي ما بعد الذي حرمه من المحرمات بالنسب وبالرضاع وبالمصاهرة على شرط أن لا يزيد المرء على أربع كما هو ظاهر قوله تعالى في أول السورة { مثنى وثلاث ورباع } وقوله تعالى { أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين } أي لا حرج عليكم أن تطلبوا بأموالكم من النساء غير ما حرّم عليكم فتتزوجوا ما طاب لكم حال كونكم محصنين غير مسافحين ، وذلك بأن يتم النكاح بشروطه من الولي والصداق والصيغة والشهود ، إذ أن نكاحاً يتم بغير هذه الشروط فهو السفاح أي الزنى وقوله تعالى { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة } يريد تعالى : أيما رجل تزوج امرأة قبل البناء فليس لها إلا نصف المهر المسمى ، وإن لم يكن قد سمى لها فليس لها إلا المتعة ، فالمراد من قوله { فما استمتعتم به منهن } أي بنيتم بهن ودخلتم عليهن . وقوله تعالى : { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفرضة } يريد إذا أعطى الرجل زوجته ما استحل به فرجها وهو المهر كاملاً فليس عليهما بعد ذلك من حرج في أن تسقط المرأة من مهرها لزوجها ، أو تؤجله أو تهبه كله له أو بعضه إذ ذاك لها وهي صاحبته كما تقدم
(1/251)
________________________________________
{ فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً } [ النساء/4 ] .
وقوله تعالى : { إن الله كان عليماً حكيماً } المراد منه إفهام المؤمنين بأن الله تعالى عليم بأحوالهم حكيم في تشريعه لهم فليأخذوا بشرعه ورخصه وعزائمه فإنه مراعى فيه الرحمة والعدل ، ولنعم تشريع يقوم على أساس الرحمة والعدل .
هذا ما تضمنته الآية الأولى ( 24 ) أما الآية الثانية وهي قوله تعالى : { ومن لم يستطع منكم طولاً . . . } فقد تضمنت بيان رحمة الله تعالى المؤمنين إذ رخص لمن لم يستطع نكاح الحرائر لقلة ذات يده ، مع خوفه العنت الذي هو الضرر في دينه بالزنى ، أو في بدنه بإقامة الحد عليه رخص له أن يتزوج المملوكة بشرط أن تكون مؤمنة ، وأن يتزوجها بإذن مالكها وأن يؤتيها صداقها وأن يتم ذلك على مبدأ الإِحصان الذي هو الزواج بشروطه لا السفاح ، الذي هو الزنى العلني المشار إليه بكلمة { غير مسافحات } ، ولا الخفيّ المشار إليه بكلمة { ولا متخذات أخدان } أي أخلاء هذا معنى قوله تعالى { ومن لم يستطع منكم طولاً } أي قدرة مالية أن ينكح المحصنات أي العفائف من { فتياتكم المؤمنات } أي من إمائكم المؤمنات لا الكافرات بحسب الظاهر أما الباطن فعلمه إلى الله ولذا قال : { والله أعلم بإيمانكم } وقوله { بعضكم من بعض } فيه تطييب لنفس المؤمن إذ تزوج للضرورة الأمة فإن الإِيمان تإذهب الفوارق بين المؤمنين وقوله : { فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات } فيه بيان للشروط التي لا بد منها وقد ذكرناها آنفاً .
وقوله تعالى : { فإذا أحصن } - أي الإِماء - بالزواج وبالإِسلام { فإن أتين بفاحشة } أي زنين فعليهن حد هو نصف ما على المحصنات من العذاب وهو جلد خمسين جلدة وتغريب ستة أشهر ، لأن الحرة إن زنت وهي بكر تجلد مائة وتغرب سنة . أما الرجم والذي هو الموت فإنه لا ينصف فلذا فهم المؤمنون في تنصيف العذاب أنه الجلد لا الرجم والذي لا خلاف فيه وقوله : { ذلك لمن خشي العنت منكم } يريد أبحت لكم ذلك لمن خاف على نفسه الزنى إذا لم يقدر على الزواج من الحرة لفقره واحتياجه وقوله تعالى : { وأن تصبروا . . . } أي على العزوبيَّة خير لكم من نكاح الإِماء . وقوله { والله غفور رحيم } أي غفور للتائبين رحيم بالمؤمنين ولذا رخَّص لهم في نكاح الإِماء عند خوف العنت ، وأرشدهم إلى ما هو خير منه وهو الصبر فلله الحمد وله المِنَّة .
هداية الآيتين :
من هداية الآيتين :
1- تحريم المرأة المتزوجة حتى يفاقها زوجها بطلاق أو موت وحتى تنقضي عدتها .
2- جواز نكاح المملوكة باليمين وإن كان زوجها حيّاً في دار الحرب إذا أسلمت ، لأن الإِسلام فصل بينهما .
3- وجوب المهور ، وجواز إعطاء المرأة من مهرها لزوجها شيئاً .
4- جواز التزوج من المملوكات لمن خاف العنت وهو عادم للقدرة على الزواج من الحرائر .
5- وجوب إقامة الحد على من زنت من الإِماء إن أُحْصِنَّ بالزواج والإِسلام .
6- الصبر على العزوبة خير من الزواج بالإِماء لإِرشاد الله تعالى إلى ذلك .
(1/252)
________________________________________
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
{ شرح الكلمات } :
{ يريد الله ليبين لكم } : يريد الله أن يبيّن لكم بما حرم عليكم وأحل لكم ما يكملكم ويسعدكم في دنياكم وأخراكم .
{ سنن الذين من قبلكم } : طرائق الذين من قبلكم من الأنبياء والصالحين لتنهجوا نهجهم فتطهروا وتكملوا وتفلحوا مثلهم .
{ ويتوب عليكم } : يرجع بكم عما كنتم عليه من ضلال الجاهلية إلى هداية الإِسلام .
{ الذين يتبعون الشهوات } : من اليهود والنصارى والمجوس والزناة .
{ أن تميلوا ميلاً عظيماً } : تحيدوا عن طريق الطهر والصفاء إلى طريق الخبث والكدر باتركاب المحرمات من المناكح وغيرها فتبتعدوا عن الرشد بعداً عظيماً .
{ وخلق الإِنسان ضعيفاً } : لا يصبر عن النساء ، فلذا رخّص تعالى لهم في الزواج من الفتيات المؤمنات .
{ معنى الآيات } :
لما حرم تعالى ما حرم من المناكح وأباح ما أباح منها علل لذلك بقوله { يريد الله } أي بما شرع ليبيّن ما هو نافع لكم مما هو ضار بكم فتأخذوا النافع وتتركوا الضار ، كما يريد أن يهديكم طارئق الصالحين من قبلكم من أنبياء ومؤمنين صالحين لتسلكوها فتكلموا وتسعدوا في الحاتين ، كما يريد بما بين لكم أن { يتوب عليكم } أي يرجع بكم من ضلال الجاهلية إلى هداية الإِسلام فتعيشوا على الطهر والصلاح ، وهو تعالى عليم بما ينفعكم ويضركم حكيم في تدبيره لكم فاشكروه بلزوم طاعته ، والبعد عن معصيته .
هذا ما تضمنته الآية الأولى ( 26 ) أما الآية الثانية ( 27 ) فقد تضمنت الإِخابر بأن الله تعالى يريد بما بيّنه من الحلال والحرام في المناكح وغيرها أن يرجع بالمؤمنين من حياة الخبث والفساد التي كانوا يعيشونها قبل الإِسلام إلى حياة الطهر والصلاح في ظل تشريع عادل رحيم . وأنَّ الذين يتَّبعون الشهوات من الزناة واليهود والنصارى وسائر المنحرفين عن سنن الهدى فإنهم يريدون من المؤمنين أن ينحرفوا مثلهم فينغمسوا في الملاذ والشهوات البهيمية حتى يصبحوا مثلهم لا فضل لهم عليهم ، وحينئذ لا حق لهم في قيادتهم أو هدايتهم .
هذا معنى الآية الثانية أما الثالثة ( 28 ) فقد أخبر تعالى أنه بإباحته للمؤمنين العاجزين عن نكاح الحرائر نكاح الفتيات المؤمنات يريد بذلك التخفيف والتيسير عن المؤمنين رحمة بهم وشفقة عليهم لما يعلم تعالى من ضعف الإِنسان وعدم صبره عن النساء بما غرز فيه من غريزة الميل إلى أنثاه فحفظ النوع ولحكم عالية وقال تعالى : { يريد الله أن يخفف عنكم وخُلِقَ الإِنسان ضعيفاً } .
{ هداية الآيات } .
{ من هداية الآيات } :
1- منّة الله تعالى علينا في تعليله الأحكام لنا لتطمئن نفوسنا ويأتي العمل بانشراح صدر وطيب خاطر .
2- منة الله تعالى على المؤمنين بهدايتهم إلى طرق الصالحين وسبيل المفلحين ممن كانوا قبلهم .
3- منتة تعالى في تطهير المؤمنين من الأخباث وضلال الجاهليات .
4- الكشف عن نفسية الإِنسان ، إذ الزناة يرغبون في كون الناس كلهم زناه والمنحرفون يودون أن ينحرف الناس مثلهم ، وهكذا كل منغمس في خبث أو شر أو فساد يود أن يكون كل الناس مثله ، كما أن الطاهر الصالح يود أن يطهر ويصلح كل الناس .
5- ضعف الإِنسان أمام غرائزه لا سيما غريزة الجنس .
(1/253)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
{ شرح الكلمات } :
{ آمنوا } : صدقوا الله والرسول .
{ بالباطل } : بغير حق يبيح أكلها .
{ تجارة } : بيعاً وشراءً فيحل لصاحب البضاعة أن يأخذ النقود ويحل لصاحب النقود أخذ البضاعة ، إذاً لا باطل .
{ تقتلوا أنفسكم } : أي تزهقوا أرواح بعضكم بعضاً .
{ عدواناً وظلماً } : اعتداء يكون فيه ظالماً .
{ نصليه ناراً } : ندخله نار جهنم يحترف فيها .
{ معنى الآيتين } :
ما زال السيقا في بيان ما يحل وما يحرم من الأموال والأعراض والأنفس ففي هذه الآية ( 29 ) ينادي الله تعالى عباده المؤمنين بعنوان الإِيمان فيقول : { يا أيها الذين آمنوا } وينهاهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل بالسرقة أو الغش أو القمار أو الربا وما إلى ذلك من وجوه التحريم العديدة فيقول : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } ، أي بغير عوض مباح ، أو طيب نفس ، ثم يستثنى ما كان حاصلا عن تجارة قائمة على مبدأ التراضي بين البيعين لحديث « إنما البيع عن تراض » و « البيعان بالخيار ما لم يتفرق » فقال تعالى : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } فلا بأس بأكله فإنه حلال لكم . هذا ما تضمنته هذه الآية كما قد تضمنت حرمة قتل المؤمنين لبعضهم بعضاً فقال تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } والنهي شامل لقتل الإِنسان نفسه وقتله أخاه المسلم لأن المسلمين كجسم واحد فالذي يقتل مسلماً منهم كأنما قتل نفسه . وعلل تعالى هذا التحريم لنا فقال إن الله كان بكم رحيماً ، فلذا حرَّم عليكم قتل بعضكم بعضاً .
هذا ما تضمنته الآية الأولى ( 29 ) أما الآية الثانية ( 30 ) فقد تضمنت وعيداً شديداً بالإِصلاء بالنار والإِحراق فيها كل من يقتل مؤمناً عدواناً وظلماً أي بالعمد والإِصرار والظلم المحض ، فقال تعالى : { ومن يفعل ذلك } أي القتل { عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً ، وكان ذلك } أي الإِصلاء والاحراق في النار { على الله يسيراً } لكمال قدرته تعالى فالمتوعد بهذا العذاب إذا لا يستطيع أن يدفع ذلك عن نفسه بحال من الأحوال .
{ هداية الآيتين } :
{ من هداية الآيتين } :
1- حرمة مال المسلم ، وكل مال حرام وسواء حازه بسرقة أو غش أو قمار أو ربا .
2- إباحة التجارة والترغيب فيها والرد على جهلة المتصوفة الذين يمنعون الكسب بحجة التوكل .
3- تقرير مبدأ « إنما البيع عن تراض ، والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا » .
4- حرمة قتل المسلم نفسه أو غيره من المسلمين لأنهم أمة واحدة .
5- الوعيد الشديد لقاتل النفس عدواناً وظلماً بالإِصلاء بالنار .
6- إن كان القتل غير عدوان بأن كان خطأ ، أو كان غير ظلم بأن كان عمداً ولكن بحق كقتل من قتل والده أو ابنه أو أخاه فلا يستوجب هذا الوعيد الشديد .
(1/254)
________________________________________
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
{ شرح الكلمات } :
{ أن تجتنبوا } : تبتعدوا لأن الاجتناب ترك الشيء عن جنب بعيداً عنه لا يقبل عليه ولا يقربه .
{ كبائر ما تنهون } : الكبائر : ضد الصغائر ، والكبيرة تعرف بالحد لا بالعد فالكبيرة ما توعد الله ورسوله عليها ، أو لعن الله ورسوله فاعلها أو شرع لها حدّ يقام على صاحبها ، وقد جاء في الحديث الصحيح بيان العديد من الكبائر ، وعلى المؤمن أن يعلم ذلك ليجتنبه .
{ نكفر } : نغطي ونستر فلا نطالب بها ولا نؤاخذ عليها .
{ مدخلاً كريماً } : المدخل الكريم هنا : الجنة المتقين .
{ معنى الآية الكريمة } :
يتفضل الجبار جل وجلاله وعظم إنعامه وسلطانه فيمن على المؤمنين من هذه الأمة المسلمة بأن وعدها وعد الصدق بأن من اجتنب منها كبائر الذنوب كفر عنه صغائرها وأدخله الجنة دار السلام وخلع عليها حلل الرضوان فقال تعالى { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } ما أنهاكم عنه أنا ورسولي { نكفر عنكم سيئاتكم } التي هي دون الكبائر وهي الصغائر ، { وندخلكم مدخلاً كريماً } الذي هو الجنة ولله الحمد والمنة . لهذا كانت هذه الآية من مبشرات القرآن لهذه الأمة .
{ هداية الآية } :
{ من هداية الآية } :
1- وجوب الابتعاد عن سائر الكبائر ، والصبر على ذلك حتى الموت .
2- الذنوب قسمان كبائر وصغائر ولذا وجب العلم بها لاجتناب كبائرها وصغائرها ما أمكن ذلك ، ومن زل فليتب فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له .
3- الجنة لا يدخلها إلتا ذوُو النفوس الزكية الطاهرة باجتنابهم المدنسات لها من كبائر الذنوب والآثام والفواحش .
(1/255)
________________________________________
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
{ شرح الكلمات } :
{ ولا تتمنوا } : التمني : التشهي والرغبة في حصول الشيء ، وأداته ، ليت ، ولو ، فإن كان مع زوال المرغوب فيه عن شخص ليصل للمتمني فهو الحسد .
{ ما فضل الله بعضكم } : أي ما فضل الله به أحداً منكم فأعطاه علماً أو مالاً أو جاهاً أو سلطاناً .
{ نصيب مما اكتسبوا } : أي حصة وحظ من الثواب والعقاب بحسب الطاعة والمعصية .
{ موالي } : الموالي من يلون التركة ويرثون الميت من أقارب .
{ عقدت إيمانكم } : أي حالفتموهم وتآخيتم معهم مؤكدين ذلك بالمصافحة والميمين .
{ فآتوهم نصيبهم } : من الرفادة والوصيّة والنصرة لأنهم ليسوا ورثة .
{ معنى الآيتين } :
صح أو لم يصح أن أم سلمة رضي الله عنها قالت : ليتنا كنا رجالاً فجاهدنا وكان لنا مثل أجر الرجال فإن الله سميع عليم ، والذين يتمنون حسداً وغير حسد ما أكثرهم ومن هنا نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة ( 32 ) عباده المؤمنين عن تمني ما فضل الله تعالى به بعضهم على بعض فأعطى هذا وحرم ذاك لحكم اتقضت ذلك ، ومن أظهرها الابتلاء بالشُّكرِ والصبر ، فقال تعالى : { ولا تتمنوا ما فضل الله به } - من علم أو مال . أو صحة أو جاه أو سلطان - { بعضكم على بعض } وأخبر تعالى أن سنته في الثواب والعقاب والكسب والعمل فليعمل من أراد الأجر والمثوبة بموجبات ذلك من الإِيمان والعمل الصالح ، ولا يتمنى ذلك تمنياً ، وليكف عن الشرك والمعاصي من خاف العذاب والحرمان ولا يتمنى النجاة تمنياً كما على من أراد المال والجاه فليعمل له بسننه المنوطة به ولا يتمنى فقط فإن التمنى كما قيل بضائع النوكى أي الحمقى ، فلذا قال تعالى { للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن } ، فرد القضية إلى سنته فيها وهي كسب الإِنسان . كقوله تعالى : { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً ويره ومن يعل مثقال ذرة شراً يره } ثم بين تعالى سنة أخرى في الحصول على المغروب وهي دعاء الله تعالى فقال { واسألوا الله من فضله إ ن الله كان بكل شىء عليما } فمن سأل ربّه وألح عليه موقناً بالاجابة أعطاه فيوفقه للإِتيان بالأسباب ، ويصرف عنه الموانع ، ويعطيه بغير سبب إن شاء ، وهو على كل شىء قدير ، بل ومن الأسباب المشروعة الدعاء والإِخلاص فيه .
هذ ما تضمنته الآية الأولى أما الآية الثانية ( 33 ) فإن الله تعالى يخبر مقرراً حكماً شرعياً قد تقدم في السياق وهو أن لكل من الرجال والنساء ورثة يرثونه إذا مات فقال { ولكل جعلنا موالي } أي أقارب يرثونه إذا مات ، وذلك من النساء والرجال أما الذين هم موالي بالحلف أو الإِخاء فقط أي ليسوا من أولي الأرحام فالواجب إعطاؤهم نصيبهم من النصرة والرفادة . والصية له بشىء إذ لا حظ لهم في الإِرثي لقوله تعالى :
(1/256)
________________________________________
{ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } ولما كان توزيع المال وقسمته تتشوق له النفوس وقد يقع فيه حيف أو ظلم أخبر تعالى أن على كل شىء شهيد فلا يخفى عليه من أمر الناس شىء فليتق ولا يُعص .
فقال : { إن الله كان على كل شيء شهيداً } لا يخفى عليه من أمركم شيء فاتقوه وأطيعوه ولا تعصوه .
{ هداية الآيتين } :
{ من هداية الآيتين } :
1- قبح التمني وترك العمل .
2- حرمة الحسد .
3- فضل الدعاء وأنه من الأسباب التى يحصل بها المراد .
4- تقرير مبدأ التوارث في الإِسلام .
5- من عاقد أحداً على حلف أو آخى أحداً وجب عليه أن يعطيه حق النصرة والمساعدة وله أن يوصي له بما دون الثلث ، أما الإِرث فلا حق له لنسخ ذلك .
6- وجوب مراقبة الله تعالى ، لأنه بكل شىء عليم ، وعلى كل شيء شهيد .
(1/257)
________________________________________
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
{ شرح الكلمات } :
{ قوامون } : جمع قوام : وهو من يقوم على الشيء رعاية وحماية وإصلاحاً .
{ بما فضل الله بعضهم } : بأن جعل الرجل أكمل في عقله ودينه وبدنه فصلح للقوامة .
{ وبما أنفقوا من أموالهم } : وهذا عامل آخر مما ثبتت به القوامة للرجال على النساء فإن الرجل بدفعه المهر وبقيامه بالنفقة على المرأة كان أحق بالقوامة التي هي الرئاسة .
{ الصالحات } : جمع صالحة : وهي المؤدية لحقوق الله تعالى وحقوق زوجها .
{ قانتات } : مطيعات لله ولأزواجهن .
{ حافظات للغيب } : حافظات لفروجهن وأموال أزواجهن .
{ نشوزهن } : النشوز : الترفع عن الزوج وعد طاعته .
{ فعظموهن } : بالترغيب في الطاعة والتنفير من المعصية .
{ فلا تبغوا عليهن سبيلاً } : أي لا تطلبوا لهن طريقاً تتواصلون به إلى ضربهن بعد أن أطعنكم .
{ شقاق بينهما } : الشقاق : المنازعة والخصومة حتى يصبح كل واحد في شق مقابل .
{ حكماً } : الحكم : الحاكم ، والمحكم في القضايا للنظر والحكم فيها .
{ معنى الآيتين } :
يروى في سبب نزول هذه الآية أن سعد بن الربيع رضي الله عنه أغضبته امرأته فلطمها فشكاه وليها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يريد القصاص فأنزل الله تعالى هذه الآية { الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض ، وبما أنفقوا من أموالهم } فقال وليّ المرأة أردنا أمراً الله غيره ، وما أراده الله خير . ورضي بحكم الله تعالى وهو أن الرجل ما دام قواماً على المرأة يرعاها ويربيها ويصلحها بما أوتي من عقل أكمل من عقلها ، وعلم أغزر من علمها غالباً ويُعد نظر في مبادىء الأمور ونهاياتها أبعد من نظرها يضاف إلى ذلك أنه دفع مهراً لم تدفعه ، والتزم بنفقات لم تلتزم هي بشىء منها فلما وجبت له الرئاسة عليها وهي رئاسة شرعية كان له الحق أن يضربا لما لا يشين جارحة أو يكسر عضواً فيكون ضربه لها كضرب المؤدب لمن يؤدبه ويربيه وبعد تقرير هذا السلطان للزوج على زوجته أمر الله تعالى بإكرام المرأة والإِحسان إليها والرفق بها لضعفها وأثنى عليها فقال : { فالصَّالحاتُ } ، وهن : الأئي يؤدين حقوق الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وحقوق أزواجهن من الطاعة والتقدير والاحترام { قَانِتَات } : أي مطيعات لله تعالى ، وللزوج ، { حافِظاتٌ للغَيْبِ } أي حافظاتٌ مالَ الزوج وعرضه لحديث : « وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله » { بما حَفِظَ الله } أي بحفظ الله تعالى لها وإعانته لها إذ لو وكلت إلى نفسها لا تستيطع حفظ شىء وإنْ قَل . وفي سياق الكلام ما يشير إلى محذوف يفهم ضمناً وذلك أن الثناء عليهن من قبل الله تعالى يستوجب من الرجل إكرام المرأة الصالحة والإِحسان إليها والرفق بها لضعفها ، وهذا ما ذكرته أولاً نبهت عليه هنا ليعلم أنه من دلالة الآية الكريمة ، وقد ذكره غير واحد من السلف .
وقوله تعالى : { واللاتي تخافون نشوزهن فعظموهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم ، فلا تبغوا عليهن سبيلاً } .
(1/258)
________________________________________
فإنه تعالى يرشد الأزواج إلى كيفية علاج الزوجة إذا نشزت أي ترفعت على زوجها ولم تؤي إليه حقوقه الوجبة له بمقتضى العقد بينهما ، فيقول { واللائي تخافون نشوزهن } أي ترفُعن بما ظهر لكم من علامات ودلائل كأن يأمرها فلا تطيع ويدعوها فلا تجيب وينهاها فلا تنتهي ، فاسلكوا معهن السبيل الآتي : { فعظموهن } أولاً ، والوعظ تذكيرها بما للزوج عليها من حق يجب أداؤه ، وما يترتب على إضاعته من سخط الله تعالى وعذابه ، وبما قد ينجم من إهمالها في ضربها أو طلاقها فالوعظ ترغيب بأجر الصالحات القانتات ، وترهيب من عقوبة المفسدات العاصيات فإن نفع الوعظ فيها وإلا فالثانية وهي أن يهجرها الزوج في الفراش فلا يكلمها وهو نائم معها على فراش واحد وقد أعطاها ظهره فلا يكلمها ولا يجامعها وليصبر على ذلك حتى تؤوب إلى طاعته وطاعة الله ربهما معاً وإن أصرت ولم يجد معها الهجران في الفراش ، فالثالثة وهي أن يضربها ضرباً غير مبرح لا يشين جارحة ولا يكسر عضواً . وأخيراً فإن هي أطاعت زوجها فلا يحل بعد ذلك أن يطلب الزوج طريقاً إلى أذيّتها لا بضرب ولا بهجران لقوله تعالى : { فإن أطعنكم } أي الأزواج { فلا تبغوا } أي تطلبوا { عليهن سبيلاً } لأذيتهنّ باختلاق الأسباب وإيجاد العلل والمبررات لأذيتهنّ . وقوله تعالى : { إن الله كان علياً كبيراً } تذييل للكلام بما يشعر من أراد أن يعلو على غيره بما أوتي من قدرة بأن الله أعلى منه وأكبر فليخش الله وليترك من علوه وكبريائه .
هذا ما تضمنته هذه الآية العظيمة ( 34 ) أما الآية الثانية ( 35 ) فقد تضمنت حكماً جتماعياً آخر وهو إن حصل شقاق بين زوج وامرأته فأصبح الرجل في شق والمرأة في شق آخر فلا تلاقي بينهما ولا وفاق ولا وئام وذلك لصعوبة الحال فالطريق إلى حل هذا المشكل ما أرشد الله تعالى إليه ، وهو أن يبعث الزوج حكماً وتبعث الزوجة أيضا حكما من قبلها ، أو يبعث القاضي كذلك الكل جائز لقوله تعالى : { فابعثوا } وهو يخاطب المسلمين على شرط أن يكون الحكم عدلا عالماً بصيرا حتى يمكنه الحكم والقضاء . بالعدل . فيدررس الحكمان القضية أولا من طرفي النزاع ويتعرفان إلى أسباب الشقاق وبما في نفس الزوجين من رضى وحب ، وكراهية وسخط ثم يجتمعان على اصلاح ذات البين فإن أمكن ذلك فيها وإلا فرقا بينهما برضا الزوجين . مع العلم أنهما إذا ثبت لهما ظلم أحدهما فإن عليهما أن يطالبا برفع الظلم فإن كان الزوج هو الظالم فليرفع ظلمه وليؤذ ما وجب عليه ، وإن كانت المرأة هي الظالمة فإنها ترفع ظلمها أو تفدي نفسها بمال فيخالعها به زوجها هذا معنى قوله تعالى : { وإن خفتم شقاق بينهما } ، والخوف هنا بمعنى التوقيع الأكيد بما ظهر من علامات ولاح من دلائل فيعالج الموقف قبل التأزم الشديد { فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها } ، لأنهما أعرف بحال الزوجين من غيرهما وقوله تعالى { إن يريدا إصلاحاً } فإنه يعني الحكمين ، { يوفق الله بينهما } أي إن كان قصدهما الإِصلاح والجمع بين الزوجين وإزالة الشقاق والخلاف بينهما فإن الله تعالى يعينهما على مهمتها ويبارك في مسعاهما ويكلله بالنجاح .
(1/259)
________________________________________
وقوله تعالى : { إن الله كان عليما خبيرا } . ذكر تعليلاً لما واعد به تعالى من التوفيق بين الحكمين ، إذ لو لم يكن عليماً خبيراً ما عرف نيات الحكمين وما يجرى في صدورهما من إرادة أو الإِفساد .
{ هداية الآيتين }
{ من هداية الآيتين } :
1- تقرير مبدأ القيومية للرجال على النساء وبخاصة الزوج على زوجته .
2- وجوب إكرام الصالحات والإِحسان إليهن .
3- بيان علاج مشكلة نشوز الزوجة وذلك بوعظها أولاً ثم هجرانها في الفراش ثانيا ، ثم بضربها ثالثا .
4- لا يحل اختلاق الأسباب وإيجاد مبررات لأذية المرأة بضرب وبغيره .
5- مشروعية التحكيم في الشقاق بين الزوجين وبيان ذلك .
(1/260)
________________________________________
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)
شرح الكلمات
{ اعبدوا الله } : الخطاب للمؤمنين ومعنى اعبدوا : أطيعوه في أمره ونهيه مع غاية الذل والحب والتعظيم له عز وجل .
{ لا تشركوا به شيئاً } : أي لا تعبدوا معه غيره بأي نوع من أنواع العبادات التي تعبد الله تعالى بها عباده من دعاء وخشية وذبح ونذر وركوع وسجود وغيرها .
{ ذوي القربى } : أصحاب القرابات .
{ وابن السبيل } : المسافر استضاف أو لم يستضف .
{ والجار ذي القربى } : أي القريب لنسب أو مصاهرة .
{ الجار الجنب } : أي الأجنبي مؤمناً كان أو كافراً .
{ الصاحب بالجنب } : الزوجة ، والصديق الملازم كالتلميذ والرفيق في السفر .
{ وما ملكت أيمانكم } : من الأرقاء العبيد فتيان وفتيات .
{ مختال فخور } : الاختيال : الزهو في المشي ، والفخر والافتخار بالحسب والنسب والمال بتعداد ذلك وذكره .
{ يبخلون } : يمنعون الواجب بذله من المعروف مطلقا .
{ ويكتمون } : يجحدون ، ما أعطاهم الله من علم ومال تفضلا منه عليهم .
{ قريناً } : القرين : الملازم الذي لا يفارق صاحبه كأنه مشدود معه بقرن أي بحبل .
{ وماذا عليهم } : أي أي شىء يضرهم أو ينالهم بمكروه إذا هُمْ آمنوا؟
{ معنى الآيات } :
ما زال السياق الكريم في هداية المؤمنين ، وبيان الأحكام الشرعية لهم ليعملوا بها فيكملوا ويسعدوا ففي الآية الأولى ( 36 ) يأمر تعالى المؤمنين بعبادته وتوحيده فيها وبالإِحسان إلى الوالدين وذلك بطاعتهم في المعروف وإسداء الجميل لهم ، ودفع الأذى عنهم ، وكذا الأقرباء ، واليتامى ، والمساكين ، والجيران مطلقا أقرباء أو أجانب ، والصاحب الملازم الذي لا يفارق كالزوجة والمرافق في السفر والعمل والتلمذة والطلب ونحو ذلك من الملازمة التي لا تفارق إلا نادراً إذ الكل يصدق عليه لفظ الصاحب الجنب . وكذا ابن السبيل وما ملكت اليمين من أمة أو عبد والمذكورون الإِحسان إليهم آكد وإلا فالإِحسان معروف يبذلك لكل الناس كما قال تعالى : { وقولوا للناس حسنا } وقال { وأحسنوا إن الله يحب المحسنين } وقوله تعالى : { إن الله لا يحب من كان مختالاً فخور } دال على أن منع الإِحسان الذي هو كف الأذى وبذل المعروف ناتج عن خلق البخل والكبر وهما من شر الأخلاق هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 36 ) .
وأما الآية الثانية ( 37 ) وقد تضمنت بمناسبة ذم البخل والكبر التنديد ببخل بعض أهل الكتاب وكتمانهم الحق وهو ناتج عن بخلهم أيضاً قال تعالى : { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم من فضله } أي من مال وعلم وقد كتموا نُعوت النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته عليه في التوراة والإنجيل ، وبخلوا بأموالهم وأمروا بالبخل بها ، إذ كانوا يقولون للأنصار لا تنفقوا أموالكم على محمد فإنا نخشى عليكم الفقر ، وخبر الموصل الذين محذوف تقديره هم الكافرون حقاً دلَّ عليه قوله : { وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً } . هذا ما جاء في هذه الآية الثانية .
أما الآيتان الثالثة ( 38 ) والرابعة ( 39 ) فإن الأولى منهما قد تضمنت بيان حال أناسٍ آخرين غير اليهود وهم المنافقون فقال تعالى : { والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس } أ ] مراءاة لهم ليتقوا بذلك المذمة ويحصلوا على المحمدة .
(1/261)
________________________________________
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
شرح الكلمات :
{ الظلم } : وضع شىء في غير موضعه .
{ مثقال ذرة } : المثقال : الوزن مأخوذ من الثقل فكل ما يوزن فيه ثقل ، والذرة أصغر حجم في الكون حتى قيل إنه الهباء أو رأس النملة .
{ الحسنة } : الفعلة الجميلة من المعروف .
{ يضاعفها } : يريد فيها ضعفها .
{ من لدنه } : من عنده .
{ أجرا عظيما } : جزاء كبيرا وثواباً عظيما .
{ الشهيد } : الشاهد على الشىء لعلمه به .
{ يود } : يحب .
{ تسوى بهم الأرض } : يكونون تراباً مثلها .
{ ولا يكتمون الله حديثا } : أي لا يخفون كلاماً .
معنى الآيات :
لما أمر تعالى في الآيات السابقة بعبادته والإِحسان إلى من ذكر من عباده . وأمر بالانفاق في سبيله ، وندد بالبخل والكبر والفخر ، وكتمان العلم ، وكان هذا يتطلب الجزاء بحسبه خيراً أو شراً ذكر في هذه الآية ( 40 ) { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً } ، ذكر عدله في المجازاة ورحمته ، فأخبر أنه عند الحساب لا يظلم عبده وزن ذرة أصغر شيء وذلك بأن لا ينقص من حسناته حسنة ، ولا يزيد في سَيَئاتِه سيئة ، وان توجد لدى مؤمن حسنة واحدة يضاعفها بأضعاف يعلمها هو ويعط من عنده بدون مقابل أجراً عظيما لا يقادر قدره فلله الحمد والمنة هذا ما تضمنته الآية الأولى ( 40 ) أما الآية الثانية ( 41 ) فإنه تعالى ذكر الجزاء والحساب الدالة عليه السياق ذكر ما يدل على هول يوم الحساب وفظاعة الأمر فيه ، فخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم قائلا : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شيهداً؟ } ومعنى الكريمة فكيف تكون حال أهل الكفر والشر والفساد إذا جاء الله تعالى بشهيد من كل أمة ليشهد عليها فيما أطاعت وفيما عصت ليتم الحساب بحسب البينات والشهود والجزاء بحسب الكفر والإِيمان والمعاصي والطاعات ، وجئنا بك أيها الرسول الخليل صلى الله عليه وسلم شهيداً على هؤلاء أى على أمته صلى الله عليه وسلم من آمن به ومن كفر إذ يشهد أنه بلغ رسالته وأدى أمانته صلى الله عليه وسلم . هذا ما تضمنته الآية الثانية أما الآية الثالثة ( 42 ) فإنه تعالى لما ذكر ما يدل على هول يوم القيامة في الآية ( 41 ) ذكر مثلا لذلك الهول وهو أن الذين كفروا يودون وقد عصوا الرسول لويسوون بالأرض فيكونون تراباً حتى لا يحاسبوا ولا يجزوا بجهنم . وأنهم في ذلك اليوم لا يكتمون الله كلاما؛ إذ جوارحهم تنطق فتشهد عليهم . قال تعالى { يومئذ } أى يوم يؤتى من كل أمة بشهيد { يود الذين كفروا لو تسوى بهم الأرض } فيكونون تراباً مثلها . مرادهم أن يسووا هم الأرض فيكونون ترابا وخرج الكلام على معنى أدخلت رأسي في القلنسوة والأصل أدخلت القلنسوة في رأسي وقوله { ولا عليهم بعد أن يختم على أفواههم ، كما قال تعالى من سورة يس
(1/262)
________________________________________
{ اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون } هداية الآيتين
من هداية الآيتين :
1- بيان عدالة الله تعالى ورحمته ومزيد فضله .
2- بيان هول يوم القيامة حتى إن الكافر ليود أن لو سويت به الأرض فكان تراباً .
3- معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بآثار الشهادة على العبد يوم القيامة إذا أخبر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما « إقرأ عليَّ القرآن فقلت أقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال : أحب أن أسمعه من غيري قال : فقرأت { يا أيها الناس اتقوا ربكم } حتى وصلت هذه الآية { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } الآية وإذا عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان الدموع وهو يقول : حسبك أي كفاك ما قرأت علّي » .
(1/263)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
شرح الكلمات :
{ لا تقربوا } : لا تدنوا كناية عن الدخول فيها ، أو لا تدنوا من مساجدها .
{ سكارى } : جمع كسران وهو من شرب مسكراً فستر عقله وغطاه .
{ تعلموا ما تقولون } : لزوال السكر عنكم ببعد شربه عن وقت الصلاة وهذا كان قبل تحريم الخمر وسائر المسكرات .
{ ولا جنباً } : الجنب : من به جنابة وللجنابة سببان جماع ، أو احتلام .
{ عابري سبيل } : مارين بالمسجد مروراً بدون جلوس فيه .
{ الغائط } : المكان المنخفض للتغوط : أي التبرز فيه .
{ لامستم النساء } : جامعتموهن .
{ فتيمموا صعيداً طيباً } : اقصدوا تراباً طاهراً .
{ عفواً غفوراً } : عفواً : لا يؤاخذ على كل ذنب ، غفوراً : كثير المغفرة لذنوب عباده التائبين إليه .
معنى الآية الكريمة :
لا شك أن لهذه الآية سبباً نزلت بمقتضاه وهو أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حسب رواية الترمذي أقام مأدبة لبعض الأصحاب فأكلوا وشربوا وحضرت الصلاة فقاموا لها وتقدم أحدهم يصلي بهم فقرأ بسورة الكافرون وكان ثملان فقرأ : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ، وهذا باطل وواصل قراءته بحذف حروف النفي فنزلت { يا أيها الذين آمنوا . . . . . . . } أي ما من صدقتم بالله ورسوله ، { لا تقربوا الصلاة } أي لا تدخلوا فيها ، والحال أنكم سكارى من الخمر إذ كانت يومئذ حلالاً غير حرام ، حتى تكون عقولكم تامة تميزون بها الخطأ من الصواب حتى تغتسلوا اللهم من كان منكم عابر سبيل ، إذ كانت طرق بعضهم إلى منازلهم على المسجد النبوي . { وإن كنتم مرضى } بجراحات يضرها الماء أو جَاءَ أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء } بمضاجعتهن أو مسستموهن بقصد الشهوة { فلم تجدوا ماءً } تغتسلون به إن كنتم جنباً أو تتوضأون به إن كنتم محدثين حدثاً أصغر { فتيمموا صعيداً طيباً } أي اقصدوا تراباً طاهراً { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } مرة واحدة فإن لك مجزيء لكم عن الغسل والوضوء فإن صح المريض أو وُجد الماء فاغتسلوا أو توضأوا ولا تيمموا لا نتفاء الرخصة بزوال المرض أو وجود الماء . وقوله تعالى في ختام الآية { إن الله كان عفواً غفورا } يخبر تعالى عن كماله المطلق فيصف نفسه بالعفو عن عباده المؤمنين إذا خالفوا أمره ، وبالمغفرة لذنوبهم إذا هم تابوا إليه ، ولذا هو عز وجل لم يؤاخذهم لما صلَّوا وهم سكارى لم يعرفوا ما يقولون ، وغفر لهم وأنزل هذا القرآن تعليماً لهم وهداية لهم .
هداية الآية الكريمة :
من هداية الآية الكريمة :
1- تقرير مبدأ النسخ للأحكام الشرعية في القرآن والسنة .
2- حرمة مكث الجنب في المسجد ، وجواز العبور والاجتياز بدون مكث .
3- وجوب الغسل على الجنب وهو من قامت به جنابة بأن احتلم فرأى الماء أو جامع أهله فأولج ذكره في فرج امرأته ولو لم ينزل ماءً .
(1/264)
________________________________________
وكيفية الغسل : أن يغسل كفيه قائلاً : بسم الله ناوياً رفع الحدث الأكبر ثم يستنجي فيغسل فَرجَيْهِ وما حولهما ، ثم يتوطأ فيغسل كفيه ثلاثاً ، ثم يتمضمض ويستنشق الماء ، ويستثره ثلاثاً ، ثم يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه وأذنيه مرة واحدة ثم يغسل رجليه إلى الكعبين ثم يغمس كفيه في الماء ثم يخلل أصول شعر رأسه ، ثم يحثو الماء على رأسه يغسله بكل حثوة ، ثم يفيض الماء على شقه الأيمن يَغْسِلُه ، ثم على شقه الأيسر يَغْسِله . من أعلاه إلى أسفله ، ويتعهد بالماء إبطيه وكل مكان من جسمه ينبوا عنه الماء كالسرة وتحت الركبتين .
4- إذا لم يجد المرء التراب لمطر ونحوه تيمم بكل أجزاء الأرض من رمل وسبخة وحجارة والتيمم هو أن يضرب بكفه الأرض ثم يمسح وجهه وكفيه بهما لحديث عمار رضي الله عنه في الصحيح .
5- بيان عفو الله وغفرانه لعدم مؤاخذة من صلوا وهم سكارى .
(1/265)
________________________________________
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
شرح الكلمات :
{ ألم تر } : الم تبصر أي بقلبك أي تعلم .
{ نصيباً } : حظاً وقسطاً .
{ يشترون الضلالة } : أي الكفر بالايمان .
{ الأعداء } : جمع عدو وهو من يقف بعيداً عنك يود ضرك ويكره نفعك .
{ هادوا } : أي اليهود قيل لهم ذلك لقولهم : { إنا هدنا إليك } أي تبنا ورجعنا .
{ يحرفون } : التحريف : الميل بالكلام عن معناه إلى معنى باطل للتضليل
{ الكلم } : الكلام وهو كلام الله تعالى في التوراة .
{ واسمع غير مسمع } : أي اسمع ما تقول لا أسمعك الله . وهذا كفر منهم صريح .
{ وطعناً في الدين } : سبهم للرسول صلى الله عليه وسلم هو الطعن الأعظم في الدين .
{ وانظرنا } : وَأمهلنا حتى نسمع فنفهم .
{ أقوم } : أعدل وأصوب .
{ لعنهم الله بكفرهم } : طردهم من رحمته وأبعدهم من هداه بسبب كفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم .
معنى الآيات :
روي أن هذه الآيات نزلت في رفاعة بن زيد بن التابوت أحد عظماء اليهود بالمدينة ، كان إذا كلم رسول صلى الله عليه وسلم لَوَّى لسانه وقال راعنا سمعك يا محمد نفهمك ، ثم طعن في الاسلام وعابه فأنزل الله تعالى هذه الآيات الثلاث إلى قوله { فلا يؤمنون إلا قليلاً ، } وهذا شرحها : قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل } أي ألم ينته إلى علمك وإلى علم أصحابك ما يحملكم على التعجب : العلم بالدين أتوا نصيباً من الكتاب وهم رفاعة بن زيد وإخوانه من اليهود ، أعطوا حظاً من التوراة فعرفوا صحة الدين الإِسلامي ، وصدق نبيه صلى الله عليه وسلم { يشترون الضلالة } وهو الكفر يشترونها بالايمان ، حيث جحدوا نعوت النبي وصفاته في التوراة للإِبقاء على مركزهم بين قومهم وهو الإِيمان بالله ورسوله والعمل بطاعتهما للإِسعاد والإِكمال . { والله أعلم بأعدائكم } الذين يودون ضركم ولا يدودون نفعكم ، ولذا أخبركم بهم لتعرفوهم وتجتنبوهم فتنجوا من مكرهم وتضليلهم . { وكفى بالله ولياً } لكم تعتمدون عليه وتفوضون أموركم إليه { وكفى بالله نصيراً } ينصركم عليهم وعلى غيرهم فاعبدوه وتوكلوا عليه . { من الذين هادوا يحرفون كلام الله تعالى في التوراة وتحريف بالميل به عن القصد ، أو بتبديله وتغييره تضليلاً للناس وإبعاداً لهم عن الحق المطلوب منهم الإِيمان به والنطقُ والعمل به . ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم كفراً وعناداً { سمعنا وعصينا ، واسمع غير مسمع } أي لا أسمعك الله { وراعنا } وهي كلمة ظاهرها أنها من المراعاة وباطنها الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ اليهود يعدونها من الرعونة بألسنتهم وطعناً في الدين } أي يلوون ألسنتهم بالكلمة التي يسبون بها حتى لا تظهر عليهم ، ويطعنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقوله تعالى : { ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا } أي انتظرنا بدل راعنا لكان خيراً لهم وأقوم أي أعدل وأكثر لياقة وأدباً ولكن لا يقولون هذا لأن الله تعالى لعنهم وحرمهم من كل توفيق بسبب كفرهم ومكرهم فهم لا يؤمنون إلا قليلاً .
(1/266)
________________________________________
اي إيماناً لا ينفعهم لقلته فهو لا يصلح أخلاقهم ولا يطهر نفوسهم ولا يهيئهم للكمال في الدنيا ولا في الآخرة .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان مكر اليهود بالمؤمنين بالعمل على إضلالهم في عهد النبوة وإلى اليوم .
2- في كفاية الله للمؤمنين ونصرته ما يغنيهم أن يطلبوا ذلك من أحد غير ربهم عز وجل .
3- الكشف عن سوء نيات وأعمال اليهود إزاء رسول الله صلى الله عليه وسلم .
4- الإِيمان القليل لا يجدي صاحبه ولا ينفعه بحال .
(1/267)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
شرح الكلمات :
{ أوتوا الكتاب } : اليهود والنصارى ، والمراد بهم هنا اليهود لا غير .
{ بما نزلنا مصدقاً } : القرآن .
{ تطمس وجوها } : نذهب آثارها بطمس الأعين وإذهاب أحداقها .
{ فنردها على أدبارها } : نجعل الوجه قفا ، والقفا وجهاً .
{ كما لعنا أصحاب السبت } : لعنهم مسخهم قردة خزياً لهم وعذاباً مهيناً .
{ وكان أمر الله مفعولاً } : أمر الله : مأموره كائن لا محالة لأنه تعالى لا يعجزه شيء .
معنى الآية الكريمة :
ما زال السياق في اليهود المجاورين للرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة ففي هذه الآية ناداهم الله تبارك وتعالى بعنوان العلم والمعرفة وهو نسبتهم إلى الكتاب الذي هو التوراة آمراً إياهم بالإِيمان بكتابه أي بالقرآن الكريم وبمن أنزله عليه محمد صلى الله عليه وسلم إذا الإِيمان بالمنزَّل إيمان بالمنزّل عليه ضمناً . فقال : { آمنوا } بالفرقان المصدق لما معكم من أصول الدين ونعوت الرسول والأمر بالإيما به ونصرته خفّوا إلى الإِيمان واتركوا التردد من قبل أن يحل بكم ما حل ببعض أسلافكم حيث مسخوا قدرة وخنازير { من قبل ان نطمس وجوهاً } فنذهب حدقة أعينها وشاخص أنوفها ونُغلق أفواهها فتصبح الوجوه أقفاء ، والأقفاء وجوهاً يمشون القهقراء وهو معنى قوله : { فنردا على أدبارها ، أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت } أي الذين اعتدوا منكم في السبت حيث صادوا فيه وهو محرم عليهم فمسخهم قردة خاسئين . { وكان أمر الله } أي مأموره { مفعولاً } ناجزاً ، لا يتخلف ولا يتأخر لأن الله تعالى لا يعجزه شىء وهو على كل شيء قدير .
هداية الآية :
من هداية الآية :
1- المفروض أن ذا العلم يكون أقرب إلى الهداية ، ولكن من سبقت شقوته لما يعلم الله تعالى من اختياره الشر والإِصرار عليه لا ينفعه العلم ، ولا يهتدي به هؤلاء اليهود الذين دعاهم الله تعالى إلى الإِيمان فلم يؤمنوا .
2- وجوب تعجيل التوبة قبل نزول العذاب وحلول ما لا يحب الإِنسان من عذاب ونكال .
3- قد يكون المسخ في الوجوه بمسخ الأفكار والعقول فتفسد حياة المرء وتسوء وهذا الذي حصل ليهود المدينة . فنقضوا عهودهم فهلك من هلك منهم وأجلى من أجلى نتيجة إصارارهم على الكفر وعداء الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين .
(1/268)
________________________________________
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
شرح الكلمات :
{ لا يغفر } : لا يمحو ولا يترك المؤاخذة .
{ أن يشرك به } : أي يعبد معه غيره تأليهاً له بحبه وتعظيمه وتقديم القرابين له ، وصرف العبادات له كدعائه والاستعانة به والذبح والنذر له .
{ ويغفر ما دون ذلك } : أي ما دون الشرك والكفر من سائر الذنوب والمعاصي التي ليست شركاً ولا كفراً .
{ لمن يشاء } : أي لمن يشاء المغفرة له من سائر المذنبين بغير الشرك والكفر .
{ افترى إثماً عظيماً } : افترى : اختلق وكذب كذباً بنسبته العبادة إلى غير الرب تعالى ، والإِثم : الذنب العظيم الكبير .
معنى الآية الكريمة :
يروى أنه لما نزل قول الله تعالى من سورة الزمر { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً } قام رجل فقال والشرك يا نبي الله؟ فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فأخبر تعالى عن نفسه بأنه لا يغفر الذنب المعروف بالشرك والكفر ، وأما سائر الذنوب كبيرها وصغيرها فتحت المشيئة إن شاء غفرها لمرتكبها فلم يعذبه بها ، وإن شاء آخذه بها وعذبه ، وأن من يشرك به تعالى فقد اختلق الكذب العظيم إذ عبد من لا يستحق العبادة وأله من لا حق له في التأليه فلذا هو قائل بالزور وعامل بالباطل ، ومن هنا كان ذنبه عظيماً .
هداية الآية الكريمة :
من هداية الآية :
1- عظم ذنب الشرك والكفر وأن كل الذنوب دونهما .
2- الشر كذنب لا يغفر لمن مات بدون توبة منه .
3- سائر الذنوب دون الشرك والكفر لا ييأس فاعلها من مغفرة الله تعالى له وإنما يخاف .
4- الشرك زور وفاعله قائل بالزور فاعلٌ به .
(1/269)
________________________________________
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)
شرح الكلمات :
{ تزكية النفس } : تبرئتها من الذنوب والآثام .
{ يزكي من يشاء } : يطهر من الذنوب من يشاء من عباده بتوفيقه للعمل بما يزكي النفس ، وإعانته عليه .
{ الفتيل } : الخيط الأبيض يكون في وسط النواة ، أو ما يفتله المرء بأصبعيه من الوسخ في كفه أو جسمه وهو أقل الأشياء وأتفهها .
{ الكذب } : عدم مطابقة الخبر للواقع .
معنى الآيتين :
عاد السياق إلى الحديث عن أهل الكتاب فقال تعالى لرسوله والمؤمنين : { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } وهو أمر يحمل على العجب والاستغراب إذ المفروض أن المرء لا يزكي نفسه حتى يزكيه غيره فاليهود والنصارى قالوا { نحن أبناء الله وأبحاؤه } وقالوا : { لن يدخل الجنة إلى من كان هوداً أو نصارى وقالت اليهود لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات } إلى غير ذلك من الدعاوي ولما أنكر تعالى عليهم هذا الباطل الذي يعيشون عليه فعاقهم عن الإِيمان والدخول في الإِسلام وأخبر تعالى أنه عز وجل هو الذي يزكي من يشاء من عباده وذلك بتوفيقه إلى الإِيمان وصالح الأعمال التي تزكو عليها النفس البشرية فقال تعالى : { بل الله يزكي من يشاء ، ولا يظلمون فتيلاً } أي أقل قليل فلا يزاد في ذنوب العبد ولا ينقص من حسناته . ثم أمر الله تعالى رسوله أن يتعجب من حال هؤلاء اليهود والنصارى وهم يكذبون على الله تعالى ، ويختلقون الكذب بتلك الدعاوي التي تقدمت آنفاً . وكفى بالكذب إثماً مبيناً . يغمس صاحبه في النار .
هداية الآيتين :
من هداية الآيتين :
1- حرم تزكية المرء نفسه بلسانه والتفاخر بذلك إما طلباً للرئاسة ، وإما تخلياً عن العبادة والطاعة بحجة أنه في غير حاجة إلى ذلك لطهارته ورضي الله تعالى عنه .
2- الله يزكي عبد ه بالثناء عليه في الملأ الأعلى ، ويزكيه بتوفيقه وإيمانه للعمل بما يزكي من صلاة وصدقات وسائر الطاعات المشروعة لتزكية لنفس البشرية وتطهيرها .
3- عدالة الحساب والجزاء يوم القيامة لقوله تعالى : { ولا يظلمون فتيلاً } .
(1/270)
________________________________________
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
شرح الكلمات :
{ الجبت والطاغوت } : الجبت : اسم لكل ما عبد من دون الله وكذا الطاغوت سواء كانا صنمين أو رجلين .
{ أهدى سبيلاً } : أكثر هداية في حياتهما وسلوكهما .
{ نقيراً } : النقير : نُقْرَةٌ في ظهر النواة يضرب بها المثل في صغرها .
{ الحسد } : تمنى زوال النعمة عن الغير والحرص على ذلك .
{ الحكمة } : السداد في القول والعمل مع الفقه في أسرار التشريع الإِلهي .
معنى الآيات :
روى أن جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب ذهبوا إلى مكة يحزبون الأحزاب لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نزلوا مكة قالت قريش : نسألهم فإنهم أهل كتاب عن ديننا ودين محمد أيهما خير؟ فسألوهم فقالوا لهم دينكم خير من دين محمد وأنتم أهدى منه وممن اتبعه فأنزل الله تعالى هذه الآيات إلى قوله { عظيماً } . وهذا شرحها : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } الم ينته إلى علمك أيها الرسول أن الذين أوتوا حظا من العلم بالتوراة يصدقون بصحة عبادة الجبت والطاغوت ويقرون عليها ويحكمون بأفضلية عبادتها على عبادة الله تعالى { ويقولون للذين كفروا } وهم مشركوا قريش : دينكم خير من دين محمد وأنتم أهدى طريقا في حياتكم الدينية والاجتماعية ألم يك موقف هؤلاء اليهود مثار الدهشة والاستغراب والتعجب لأَهل العِلْمِ والمعرفة بالدين الحق إذ يُقِرُّون الباطل ويصدقون به؟ { أولئك الذين لعنهم الله } أولئك الهابطون في حمأة الرذيلة البعيدون في أغوار الكفر والشر والفساد لعنهم الله فأبعدهم عن ساحة الخير والهدى ، { ومن يلعن الله فلن تجد له } يا رسولنا { نصيرا } ينصره من الخذلان من الخذلان الذي وقع فيه والهزيمة الروحية التي حلت به فأصبح وهو العالم يبارك الشرك ويفضله على التوحيد .
ثم قال تعالى في الآية ( 53 ) { أم لهم نصيب من الملك فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً } .
إليهم ، وهم لشدة بخلهم لو آل الملك لهم لما أعطوا أحداً أحقر الأشياء وأتفهها ولو مقدار نقرة نواة وهذا ذم لهم بالبخل بعد ذمهم بلازم الجهل وهو تفضيلهم الشرك على التوحيد .
وقوله تعالى : { أم يحسدون الناس على آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل ابراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً } أم بمعنى بل كسابقتها بل للاضراب - الانتقالي من حال سيئة إلى أخرى ، والهمزة للإِنكار ينكر تعالى عليهم حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على النبوة والدولة ، وهو المراد من الناس وقوله تعالى { فقد آتينا آل ابراهيم الكتاب } كصحف ابراهيم والتوراة والزبور والانجيل « والحكمة » التي هي السنة التي كانت لأولئك الأنبياء يتلقونها وحياً من الله تعالى وكلها علم نافع وحكم صائب سديد الملك العظيم هو ما كان لدواد وسليمان عليهما السلام كل هذا يعرفه اليهود فلم لا يحسدون من كان لهم ويحسدون محمداً والمسلمين والمراد من السياق ذم اليهود بالحسد كما سبق ذمهم بالبخل والجهل مع العلم .
(1/271)
________________________________________
وقوله تعالى في الآية ( 55 ) { منهم من آمن به ومنهم من صد عنه } يريد أن من اليهود المعاهدين للنبي صلى الله عليه وسلم مَنْ آمن بالنبي محمد ورسالته ، وهم القليل ، { ومنهم من صد عنه } أي انصرف وصرف الناس عنه وهم الأكثرون { وكفى بجهنم سعيراً } لمن كفر حسداً وصد عن سبيل الله بخلا ومكراً ، أي حسبه جهنم ذات السعير جزاءً له على الكفر والحسد والبخل . والعياذ بالله تعالى .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وجوب الكفر بالجبت والطاغوت .
2- بيان مكر اليهود وغشهم وأنهم لا يتورعون عن الغش والكذب والتضليل .
3- ذم الحسد والبخل .
4- إيمان بعض اليهود بالإِسلام ، وكفر أكثرهم مع علمهم بصحة الإِسلام ووجوب الإِيمان به والدخول فيه .
(1/272)
________________________________________
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
شرح الكلمات :
{ نصليهم ناراً } : ندخلهم ناراً يحترقون بها .
{ نضجت جلودهم } : اشتوت فتهرت وتساقطت .
{ ليذوقوا العذاب } : ليستمر لهم العذاب مؤلماً .
{ عزيزا حكيما } : غالبا ، يعذب من يستحق العذاب .
{ تجري من تحتها الأنهار } : تجري من خلال اشجارها وقصورها الأنهار .
{ مطهرة } : من الأذى والقذى مطلقا .
{ ظلا ظليلا } : الظل الظليل ، الوارف الدائم لا حر فيه ولا برد فيه .
معنى الآيتين :
على ذكر الإِيمان والكفر في الآية السابقة ذكر تعالى في هاتين الآيتين الوعيد والوعد والوعيد لأهل الكفر والوعد لأهل الإِيمان فقال تعالى : { إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً } يريد يدخلهم نار جهنم يحترقون فيها ويصطلون بها { كلمة نضجت جلودها } تهرت وسقطت بدلهم الله تعالى فوراً جلوداً غيرها ليتجدد ذوقهم للعذاب وإحساسهم به ، وقوله تعالى { إن الله كان عزيزاً حكيما } تذييل المقصود منه إنفاذ الوعيد فيهم ، لأن العزيز الغالب لا يعجز عن إنفاذ ما توعد به أعداءه ، كما أن الحكيم في تدبيره يعذب أهل الكفر به والخروج عن طاعته هذا ما تضمنته الآية الأولى ( 56 ) من وعيد لأهل الكفر .
وأما الآية الثانية ( 57 ) فقد تضمنت البشرى السارة لأهل الإِيمان وصالح الأعمال ، مع اجتناب الشرك والمعاصي فقال تعالى : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي بعد تركهم الشرك والمعاصي { سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة } يريد نساء من الحور العين مطهرات من كل ما يؤذي أو يُخل بحسنهن وجمالهن نقيات من البول والغائط ودم الحيض . وقوله تعالى : { وندخلهم ظلا ظليلا } وارفا كنيناً يقيهم الحر والبرد وحدث يوما رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجنة فقال : « في الجنة شجرة تسمى شجرة الخلد يسير الراكب في ظلها مائة سنة ما يقطع ظلها » .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين :
1- الكفر والمعاصي موجبات للعذاب الأخروي .
2- بيان الحكمة في تبديل الجلود لأهل النار وهي أن يدوم إحساسهم بالعذاب .
3- الإِيمان والعمل الصالح مع ترك الشرك والمعاصي موجبات للنعيم الأخروى .
4- الجنة دار النعيم خالية من كدرات الصفو والسعادة فيها .
(1/273)
________________________________________
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
شرح الكلمات :
{ أن تؤدوا الأمانات } : أداء الأمانة : تسليمها إلى المؤتمن ، والأمانات جمع أمانة وهي ما يؤتمن عليه المرء من قول أو عمل أو متاع .
{ العدل } : ضد الجور والانحراف بنقص أو زيادة .
{ نعما يعظكم } : نعم شيء يعظكم أي يأمركم به أداء الأمانات والحكم بالعدل .
{ وأولي الأمر منكم } : أولوا الأمر : هم الأمراء والعلماء من المسلمين .
{ تنازعتم في شىء } : اختلفتم فيه كل فريق يريد أن ينتزع الشىء من يد الفريق الآخر
{ ردوه إلى الله والرسول } : أي إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
{ وأحسن تأويلا } : أحسن عاقبة ، لأن تأول الشىء ما يؤول إليه في آخر الأمر .
معنى الآيتين :
روي أن الآية الأولى : { إن الله يأمركم أن تؤديوا الأمانات } نزلت في شأن عثمان بن طلحة الحجبي حيث كان مفتاح الكعبة عنده بوصفه سادناً فطلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم منه صبيحة يوم الفتح فصلى في البيت ركعتين وخرج فقال العباس رضي الله عنه اعطينيه يا رسول الله ليجمع بين السقاية والسدانة فنزل الله تعالى هذه الآية والتى بعدها والتي بعدها فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بخصوص السبب ولذا فالآية في كل أمانة فعلى كل مؤتمن على شىء أن يحفظه ويرعاه حتى يؤديه إلى صاحبه والآية تتناول حكام المسلمين أولا بقرينة { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } الذي هو القسط وضد الجور ومعناه إيصال الحقوق إلى مستحقيها من أفراد الرعايا . وقوله تعالى : { إن الله نعما يعظكم به } يريد أن أمره تعالى أمة الإِسلام حكاما ومحكومين بأداء الأمانات والحكم بالعدل هو شىء حسن ، وهو كذلك إذا قوام الحياة الكريمة هو النهوض بأداء الأمانات والحكم بالعدل وقوله تعالى : { إن الله كان سميعا بصيرا } فيه الحث على المأمور به بإيجاد ملكة مراقبة الله تعالى في النفس ، فإن من ذكر أن الله تعالى يسمع أقواله ويبصر أعماله استقام في قوله فل يكذب وفي عمله فلم يفرط . هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 58 ) .
أما الثانية ( 59 ) ، فإن الله تعالى لما أمر ولاة أمور المسلمين بأداء الأمانات التي هي حقوق الرعية ، وبالحكم بينهم بالعدل أمر المؤمنين المولي عليهم بطاعته وطاعة رسوله أولاً ثم بطاعة ولاة الأمور ثانيا فقال : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم } ، والطاعة لأولى الأمر مُقَيد بما كان معروفاً للشرع أما في غير المعروف فلا طاعة في الاختيار لحديث : « إنما الطاعة في المعروف ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق » .
وقوله تعالى : { فإن تنازعتم في شىء فردوه إلى الله وإلى الرسول } فهو خطاب عام للولاة ، والرعية فمتى حصل خلاف في أمر من أمور الدين والدنيا وجب رد لك إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فِبمَا حكما فيه وجب قبوله حلواً كان أو مراً ، وقوله تعالى : { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } فيه أن الإِيمان يستلزم الإِذعان لقضاء الله ورسوله ، وهو يفيد أن رد الأمور المتنازع فيها إلى غير قادح في إيمان المؤمن وقوله : { ذلك خير وأحسن تأويلا } ، يريد ذلك الرد والرجوع بالمسائل والقضايا المختلف فيها إلى الكتاب والنسة هو خير حالاً ومآلا ، لما فيه من قطع النزاع والسير بالأمة متحدة متحابة متعاونة .
(1/274)
________________________________________
هداية الآيتين
من هداية الآيتين :
1- وجوب رد الأمانات بعد المحافظة عليها .
2- وجوب العدل في الحكم وحرمة الحيف والجور فيه .
3- وجوب طاعة الله وطاعة الرسول وولاة المسلمين من حكام وعلماء فقهاء ، لأن طاعة الرسول من طاعة الله ، وطاعة الوالي من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث : « من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن أطاع أميري فقط أطاعني ، ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أمري فقد عصاني » .
- وجوب رد المتنازع فيه عقيدة أو عبادة أو قضاء إلى الكتاب والسنة ووجوب الرضا بقضائهما .
5- العاقبة الحميدة والحال الحسنة السعيدة في رد أمة الإِسلام ما تتنازع فيه إلى كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم .
(1/275)
________________________________________
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
شرح الكلمات :
{ يزعمون } : يقولون كاذبين .
{ بما أنزل إليك } : القرآن ، وما أنزل من قبلك : التوراة .
{ الطاغوت } : كل ما عبد من دون الله ورضي بالعبادة والمراد به هنا كعب بن الأشرف اليهودي أو كاهن من كهان العرب .
{ المنافقين } : جمع منافق : وهو من يبطن الكفر ويظهر الإِيمان خوفا من المسلمين .
{ يصدون } : يعرضون عنك ويصرفون غيرهم كذلك .
{ مصيبة } : عقوبة بسبب كفرهم ونفاقهم .
{ إن يريدون } : أي ما يريدون .
{ إلا احسانا } : أي صلحاً بين المتخاصمين .
{ وتوفيقا } : جمعا وتأليفا بين المختلفين .
{ فأعرض عنهم } : أي اصفح عنهم فلا تؤاخذهم .
{ وعظهم } : مرهم بما ينبغي لهم ويجب عليهم .
{ قولا بليغا } : كلاما قويا يبلغ شغاف قلوبهم لبلاغته وفصاحته .
معنى الآيات :
روي أن منافقاً ويهوديا اختلفا في شيء فقال اليهودي نتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم لعلمه أنه يحكم بالعدل ولا يأخذ رشوة ، وقال المنافق نتحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي فتاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي فنزلت فيهما هذه الآية : { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك } والمراد بهذا المنافق ، { وما أنزل من قبلك } والمراد به اليهودي والاستفهام للتعجب ألأم ينته إلى علمك موقف هذين الرجلين { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } « كعب بن الأشرف » ، أو الكاهن الجهني ، وقد أمرهم الله أن يكفروا به { ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا } حيث زين له التحاكم عند الكاهن أو كعب اليهودي ، { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول } ليحكم بينكم رأيت ياللعجب المنافقين يعرضون عنك اعراضا هاربين من حكمك غير راضين بالتحاكم إليك لكفرهم بك وتكذيبهم لك { فيكيف إذا أصابتهم مصيبة } وحلت بهم قارعة بسبب ذنوبهم أيبقون معرضين عنك؟ أم ماذا؟ { ثم جاءوك يحلفون بالله } قائلين ، ما أردنا إلا الإِحسان في عملنا ذلك والتوفيق بين المتخاصمين . هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث ، وأما الرابعة وهي قوله تعالى : { أوئلك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا } فإن الله تعالى يشير إليهم بأولئك لبعدهم في الخسة والانحطاط فيقول { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم } أي من النفاق والزيغ فهم عرضة للنقمة وسوء العذاب ، { فأعرض عنهم } فلا تؤاخذهم ، { وعظهم } آمراً إياهم بتقوى الله والإِسلام له ظاهراً وباطناً مخوفا إياهم من عاقبة سوء أفعالهم بترك التحاكم إليك وتحاكمهم إلى الطاغوت ، وقل لهم في خاصة أنفسهم قولا بليغاً ينفذ إلى قلوبهم فيحركها ويذهب عنها غفلتها علهم يرجعون .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- حرمة التحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إذا وُجد عالم بهما .
2- وجوب الكفر بالطاغوت أيا كان نوعه .
3- وجوب الدعوة إلى التحاكم إلأى الكتاب والسنة ووجوب قبولها .
4- استحباب الإِعراض عن ذوي الجهالات ، ووعظهم بالقول البليغ الذي يصل إلى قلوبهم فيهزها .
(1/276)
________________________________________
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
شرح الكلمات :
{ بإذن الله } : إذن الله : إعلامه بالشىء وأمره به .
{ ظلموا أنفسهم } : بالتحاكم إلى الطاغوت وتركهم التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ استغفروا الله } : طلبوا منه أن يغفر لهم بلفظ اللهم اغفر لنا ، أو استغفروا الله .
{ يحكموك } : يجعلونك حكما بينهم ويفوضون الأمر إليك .
{ فيما شجر بينهم } : أي أختلفوا فيه لاختلاط وجه الحق والصواب فيه بالخطأ والباطل . { حرجا } : ضيقاً وتحرُّجاً .
{ مما قضيت } : حكمت فيه .
{ ويسلموا } : أي يذعنوا لقبول حكمك ويسلمون به تسليماً تاماً .
معنى الآيتين :
بعد تقرير خطأ وضلال من أرادا أن يتحكما إلى الطاغوت كعب بن الأشرف اليهودي وهما اليهودي والمنافق في الأيات السابقة أخبر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه ما أرسلَ رسولاً مِن رسله المئات إلا وأمر المرسل إليهم بطاعته واتباعه والتحاكم إليه وتحكيمه في كل ما يختلفون فيه وذلك أمره وقضاؤه وتقديره فما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن كما أخبر تعالى أن أولئك الظالمين لأنفسهم بتحاكمهم إلى الطاغوت وصدودهم عن التحاكم إليك أيها الرسول لَوْ جاءوك متنصلين من خطيئتهم مستغفرين الله من ذنوبهم واستغفرت لهم أنت أيها الرسول أي سألت الله تعالى لهم المغفرة لو حصل منهم هذا لدل ذلك على توبتهم وتاب الله تعالى عليهم فوجدوه عز وجل { توابا رحيماً } . هذا معنى الآية ( 64 ) { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ، ولو أنهم إذا ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله ، واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما .
وأما الآية الثانية ( 65 ) { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما } فإن الله تعالى يقول { فلا } أي ليس الأمر كما يزعمون ، ثم يقسم تعالى فيقول { وربك لا يؤمنون حتى يحكموك } أيها الرسول أي يطلبون حكمك فيما اختلفوا فيه واختلط عليهم من أمورهم ثم بعد حكمك لا يجدون في صدروهم أدنى شك في صحة حكمه وعدالته ، وفي التسليم له والرضا به وهو معنى الحرج
هداية الآيتين
من هداية الآيتين :
1- وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به وينهى عنه .
2- بطلان من يزعم أن في الآية دليلا على جواز طلب الاستغفار من الرسول صلى الله عليه وسلم لأن قوله تعالى { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك } الآية نزلت في الرجلين اللّذين أرادا التحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي وإعراضهما عن رسول الله صل الله عليه وسلم فاشترط توبتهما إتيانهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفارهما الله تعالى ، واستغفار الرسول لهما ، وبذلك تقبل توبتهما ، وإلا فلا توبة لهما أما من عداهما فتوبته لا تتوقف على إيتانه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لاستغفاره له وهذا محل إجماع بين المسلمين .
3- كل ذنب كبر أو صغر يعتبر ظلماً للنفس وتجب التوبة منه بالاستغفار والندم والعزم على عدم مراجعته بحال من الأحوال .
4- وجوب التحاكم إلى الكتاب والسنة وحرمة التحاكم إلى غيرهما .
5- وجوب الرضا بحكم الله ورسوله والتسليم به .
(1/277)
________________________________________
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
شرح الكلمات :
{ كتبنا عليهم } : فرضنا عليهم وأوجبنا .
{ أن اقتلوا أنفسكم } : أي قتل أنفسهم
{ ما فعلوه إلأا قليلٌ منهم } : أي ما فعل القتل إلا قليل منهم .
{ ما يوعظون به } : أي ما يؤمرون به وينهون عنه
{ وأشد تثبيتا } : أي للإِيمان في قلوبهم .
{ الصدقين } : جمع صديق : وهو من غلب عليه الصدق في أقواله وأحواله لكثرة ما يصدق ويتحرى الصدق .
{ والشهداء } : جمع شهيد : من مات في المعركة ومثله من شهد بصحة الإِسلام بالحجة والبرهان .
{ والصالحون } : جمع صالح : من أدى حقوق الله تعالى وإدى حقوق العباد ، وصلحت نفسه وصلح عمله وغلب صلاحه على فساده .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الحديث عن أولئِكَ النفرِ الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به فقال تعالى : { ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم } أي بقتل بعضكم بعضا كما حصل ذلك لبني إسرائيل لمَا فَعَلوا كما أنا لو كتبنا عليه أن يخرجوا من ديارهم مهاجرين في سبيلنا { ما فعلوه إلا قليل } منهم . ثم قال تعالى داعيا لهم مرغبا لهم في الهداية : { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به } أي ما يذكرون به ترغيبا وترهيبا من أوامر الله تعالى لهم بالطاعة والتسليم لكان ذلك خيراً في الحال والمآل ، { وأشد تثبيتا } للإِيمان في قلوبهم وللطاعة على جوارحهم ، لأن الإِيمان يزيد بالطاعة وينقص بالعمعصية والحسنة تنتج حسنة ، والسيئة تتولد عنها سيئة ، ويقول تعالى : { وإذا لآتيناهم من لدنا أجراً عظيما } يريد لو أنهم استجابوا لنا وفعلوا ما أمرناهم به من الطاعات ، وتركوا ما نهيناهم عنه من المعاصي لأعطيناهم من لدنا أجراً عظيماً يوم يلقوننا ولهدايناهم في الدنيا { صراطاً مستقيماً } ألا وهو الإِسلام الذي هو طريق الكمال والإِسعاد في الحاتين وهدايتهم إليه هي توفيقهم للسير فيه وعدم الخروج عنه . هذا ما دلت عليه الآيات ( 66 - 67 - 68 ) .
أما الآية ( 69 ) وهي قوله تعالى : { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا } فقد روى ابن جرير في تفسيره أنها نزلت حين قال بعض الصحابة يا رسول الله ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا فإنك إذا فارقتنا رفعت فوقنا فلم نرك فأنزل الله تعالى : { ومن يطع الله والرسول فأولئك } الآية .
وما أنعم الله تعالى عليه هو الإِيمان بالله تعالى ومعرفته عز وجل ومعرفة محابه ومساخطه والتوفيق فعل المحاب وترك المساخط هذا في الدنيا ، وأما ما أنعم به عليهم في الآخرة فهو الجوار الكريم في دار النعيم . والصديقين هم الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا بكل ما جاء به رسول الله صلى الله علهي وسلم وأخبر به والشهداء جمع شهيد وهو من قتل في سبيل الله والصالحون جمع صالح وهو من أدى حقوق الله تعالى وحقوق عباده كاملة غير منقوصة وقوله تعالى : { وحسن أولئك رفيقا } يريد وحسن أولئك رفقاء في الجنة يستمتعون برؤيتهم والحضور في مجالسهم ، لأنهم ينزلون إليهم ، ثم يعودون إلى منازلهم العالية ودرجاتهم الرفيعة .
(1/278)
________________________________________
وقوله تعالى : { ذلك الفضل من الله } يريد أن ذلك الالتقاء مع مَنْ ذكر تم لهم بفضل الله تعالى ، لا بطاعتهم . وقوله { وكفى بالله عليما } أي بأهل طاعته وأهل معصيته وبطاعة المطيعين ومعصية العاصين ، ولذلك يتم الجزاء عادلاً رحيما .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- قد يكلف الله تعالى بالشاق للامتحان والابتلاء كقتل النفس والهجرة من البلد ولكن لا يكلف بما لا يطاق .
2- الإِيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعصيات .
3- الطاعات تثمر قوة الإِيمان وتؤهل لدخول الجنان .
4- مواكبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الجنة ثمرة من ثمار طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم .
(1/279)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
شرح الكلمات :
{ خذوا حذركم } : الحِذْر والحَذَر : الاحتراس والاستعداد لدفع المكروه بحسبه .
{ فانفروا ثبات } : النفور : الخروج في اندفاع وانزعاج ، والثبات : جمع ثبة وهي الجماعة .
{ ليبطّئن } : أي يتباطأ في الخروج فلا يخرج .
{ مصيبة } : قتل أو جراحات وهزيمة .
{ شهيداً } : أي حاضراً الغزوة معهم .
{ فضل } : نصر وغنيمة .
{ مودة } : صحبة ومعرفة مستلزمة للمودة .
{ فوزا عظيماً } : نجاة من معرة التخلف عن الجهاد ، والظفر بالسلامة والغنيمة .
معنى الآيات :
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا } ينادي الله تعالى عباده المؤمنين وهم في فترة يستعدون فيها لفتح مكة وإدخالها في حضيرة الإِسلام خذوا الأهبة والاستعداد حتى لاتلاقوا عدوكم وأنتم ضعفاء ، قوته أشد من قوتكم { فانفروا ثبات } عصابة بعد عصابة وجماعة بعد أخرى { أو انفروا جميعا } بقيادتكم المحمدية وذلك بحسب ما يتطلبه الموقف وتراه القيادة ثم أخبرهم وهو العليم أن منهم أي من عدادهم وأفراد مواطنيهم لمن والله ليبطئن عن الخروج إلى الجهاد نفسه وغيره معاً لأنه لا يريد لكم نصراً لأنه منافق كافر الباطن وإن كان مسلم الظاهر ويكشف عن حال هذا النوع من الرجال الرخيص فيقول : { فإن أصابتكم } أيها المؤمنون الصادقون { مصيبة } قتل أو جراح أو هزيمة قال في فرح بما أصابكم وما نجامنه : لقد أنعم الله علي إذا لم أكن معهم حاضراً فيصبني ما أصابهم ، { ولئن أصابكم فضل من الله } أي نصر وغنيمة { ليقولن كأن لم يكن بينكم وبينه مودة } أي معرفة ولا صلة يا ليتني متمنياً حاسداً - كنت معهم في الغزاة { فأفوز فوزا عظيما } بالنجاة من معرة التخلف والظفر بالغنائم والعودة سالماً .
هداية الآيات
{ من هداية الآيات } :
1- وجوب أخذ الأهبة والاستعداد التام على أمة الإِسلام في السلم والحرب سواء .
2- وجوب وجود خبرة عسكرية كاملة وقيادة رشيدة مؤمنة حيكمة عليمة .
3- وجود منهزمين روحياً مبطئين حسدة بين المسلمين وهم ضعاف الإِيمان فلا يؤبه لهم ولا يلتفت إليهم .
(1/280)
________________________________________
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
شرح الكلمات :
{ سبيل الله } : الطريق الموصلة إلى إعلاء كلمة الله تعالى بأن يعبد وحده ، ولا يضطهد مسلم في دينه ، ولا من أجل دينه .
{ يشرون } : يبيعون ، إذ يطلق الشراء على البيع أيضا .
{ المستضعفين } : المستضعف الذي قام به عجز فاستضعفه غيره فآذاه لضعفه .
{ القرية } : القرية في عرف القرآن المدينة الكبيرة والجامعة والمرد بها هنا مكة المكرمة .
{ في سبيل الطاغوت } : أي في نصرة الشرك ومساندة الظلم والعدوان ، ونشر الفساد .
معنى الآيتين :
بعد ما أمر الله تعالى عباده المؤمنين بأخذ حذرهم وهو الأهبة للقتال أمرهم أن يقاتلوا فقال : { فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة } أي يبيعون الدنيا ليفوزوا بالآخرة وهم المؤمنون حقاً فيقدمون أمواله وأرواحهم طلبا للفوز بالدار الآخرة تقاتلون من لا يؤمن بالله ولا بلقائه بعد أن يدعوه إلى الإِيمان بربه والتوبة إلأيه ، ثم أخبرهم أن من يقاتل استجابة لأمره تعالى فيُقتل أي يستشهد أو يغلب العدو وينتصر على كلا الحالين فسوف يؤتيه الله تعالى أجراً عظيماً وهو النجاة من النار ودخول الجنة . هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 74 ) .
أما الآية الثانية ( 75 ) فإن الله تعالى بعدما أمر عباده بالجهاد استحثهم على المبادرة وخوض المعركة بقوله : { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله } ليعبد وحده ويعز أولياؤه { و المستضعفين من الرجال والنساء والولدان } الذين يضطهدون من قبل المشركين ويعذبون من أجل دينهم حتى صرخوا وجأروا بالدعاء إلى ربهم قائلين : { ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلا ، واجعل لنا من لدنك وليا } يلي أمرنا ويكفينا ما أهمنا ، { واجعل لنا من لدنك نصيرا } ينصرنا على أعدائنا أي شيء يمنعكم أيها المؤمنون من قتال في سبيل الله ، ليُعبد وحده ، وليتخلص المستضعفون من فتنة المشركين لهم من أجل دينهم؟ ثم في الآية الثالثة ( 75 ) اخبر تعالى عبده المؤمنين حاضا لهم على جهاد أعدائه وأعدائهم بقوله : { الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله } لأنهم يؤمنون به وبوعده ووعيده { والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت } وهو الكفر والظلم لأنهم لا يؤمنون بالله تعالى ولا بما عنده من نعيم ، ولا بما لديه من عذاب ونكال { فقاتلوا أولياء الشيطان } وهم الكفار ، ولا ترهبوهم { إن كيد الشيطان كان } وما زال { ضعيفا } ، فلا يثبت هو وأولياؤه من الكفرة ، أمام جيش الإِيمان أولياء الرحمن .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- فرضية القتال في سبيل الله ولأجل انقاذ المستضعفين من المؤمنين نصرة للحق وإبطالاً للباطل .
2- المقاتل في سبيل الله باع دنياه واعتاض عنها الآخرة ، ولنعم البيع .
3- المجاهد يؤوب بأعظم صفقة سواء قتل ، أو انتصر وغلب وهي الجنة .
4- لا يمنع المؤمنين من الجهاد خوف أعدائهم ، لأن قوتهم من قوة الشيطان وكيد الشيطان ضعيف .
(1/281)
________________________________________
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
شرح الكلمات :
{ كفوا أيديكم } : أي عن القتال وذلك قبل أن يفرض .
{ كتب عليهم القتال } : فرض عليهم .
{ يخشون } : يخافون
{ لولا أخرتنا } : هلاَّ أخرتنا .
{ فتيلا } : القتيل خيط يكون في وسط النواة .
{ بروج مشيدة } : حصون مشيدة بالشيد وهو الجص .
{ من حسنة } : الحسنة ما سرّ ، والسيئة ما ضرّ .
معنى الآيات :
روى أن بضعا من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم طالبوا بالإِذن ولم يؤذن لهم لعدم توفر أسباب القتال فكانوا يؤمرون بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ريثما يأذن الله تعالى لرسوله بقتال المشركين ولما شرع القتال جبن فريق منهم عن القتال وقالوا { لولا أخرتنا إلى أجل قريب } متعللين بعلل واهية فأنزل الله تعالى فيهم هاتين الآيتين ( 77 ) و ( 78 ) { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم } أ عن القتال { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } ريثما يأذن الله بالقتال عندما تتوفر إمكانياته ، فلما فرض القتال ونزل قوله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } جبنوا ولم يخرجوا للقتال ، وقالوا { لولا أخرتنا إلى أجل قريب } يريدون أن يدافعوا الأيام حتى يموتوا ولم يلقوا عدواً خوراً وجبناً فأمر تعالى الرسول أن يقول لهم : { متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى } فعيشكم في الدنيا مهما طابت لكم الحياة هو قليل { والآخرة خير لمن اتقى } الله فعل أمره وترك نهيه بعد الإِيمان به وبرسوله ، وسوف تحاسبون على أعمالكم وتجزون بها { ولا تظلمون فتيلا } بنقص حسنة ولا بزيادة سيئة هذا ما تضمنته الآية الأولى .
أما الثانية فقد قال تعالى لهم ولغيهرم مما يخشون القتال ويجبنون عن الخروج للجهاد : { أينما تكونوا يدركم الموت } إذ الموت طالبكم ولا بد أن يدرككم كما قال تعالى لأمثالهم { قل إن الموت الذيت تفرون منه فإنه ملاقيكم } ولو دخلتم حصونا ما فيها كوة ولا نافذة . فإن الموت يدخلها عليهم ويقبض أرواحكم ولما ذكر تعالى جبنهم وخوفهم ذكر تعالى سوء فهمهم وفساد ذوقهم فقال : { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } يعني أنه إذا أصابهم خير من غنيمة أو خصب ورخاء { قالوا هذه من عند الله لا شكراً لله وإنما لا يريدو أن ينسبوا إلى رسول الله شيئا من خير كان ببركته وحسن قيادته ، وإن تصبهم سيئة فقر أو مرض أو هزيمة يقولون هذه من عندك أي أنت السبب فيها . قال تعالى لرسوله قل لهم { كل من عند الله } الحسنة والسيئة هو الخالق والواضع السنن لوجودها وحصولها . ثم عابهم في نفسياتهم الهابطة فقال : { فمال لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا } هذا ما دلت عليه الآية الثانية .
أما الثالثة والأخيرة في هذا السياق وهي قوله تعالى : { ما أصابك من حسنة فمن الله ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك } الآية فإن الله تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم فيخبره بأن الحسنة من الله تعالى إذ هو الآمر بقولها أو فعلها وموجد أسبابها والموفق للحصول عليها ، أما السيئة فمن النفس إذ هي التي تأمر بها ، وتباشرها مخالفة فيها أمر الله أو نهيه ، فلذا لا يصح نسبتها إلى الله تعالى .
(1/282)
________________________________________
وقوله تعالى : { وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيداً } يُسلى به رسوله عما يلاقيه من أذى الناس وما يصادفه من سوء أخلاق بعضهم كالذين ينسبون إليه السيئة تطيراً به فيخبره بأن مهمته أداء الرسالة وقد أداها والله شاهد على ذلك ويجزيك عليه بما أهله وسيجزي من رد رسالتك وخرج عن طاعتك وكفى بالله شهيدا .
{ هداية الآية } :
من هداية الآيات :
1- قبح الاستعجال والجبن وسوء عاقبتهما .
2- الآخرة خير لمن اتقى من الدنيا .
3- لا مفر من الموت ولا مهرب منه بحال من الأحوال .
4- الخير والشر كلاهما بتقدير الله تعالى .
5- الحسنة من الله والسيئة من النفس إذ الحسنة أمر الله بأسبابها بعد أن أوجدها وأعان عليها ، وأبعد الموانع عنها والسيئة من النفس لأن الله نهى عنها وتوعد على فعلها ، ولم يوفق إليها ولم يعن عليها فهى من النفس لا من الله تعالى .
(1/283)
________________________________________
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
شرح الكلمات :
{ حفيظا } : تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها .
{ طاعة } : أي أمرنا طاعة لك .
{ برزوا } : خرجوا .
{ أفلا يتدبرون } : تدبر القرآن قراءة الآية أو الآيات وإعادتها بعد المرة ليفقه مراد الله تعالى منها .
{ إذاعوا به } : افشوه معلنينه للناس .
{ يستنبطونه } : يستخرجون معناه الصحيح .
معنى الآيات :
في قوله تعالى : { ومن يطع الرسول } إنذار إلى الناس كافة في أن من لم يطع الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم ما أطاع الله تعالى ، إن أمر الله ونهيه من نهي الله تعالى فلا عذر لأحد في عدم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقوله تعالى : { ومن تولى } أي عن طاعتك فيما تأمر به وتنهى عنه فدعه ولا تلتفت إليه إذ لم ترسلك لتحصي عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتجزيهم بها إن عليك إلا البلاغ وقد بلغت فأعذرت . وقوله تعالى { ويقولون طاعة } أي ويقول أولئك المنافقون المتطيرون بك السَّيئُو الفهم لما تقول : طاعة أي أمرنا طاعة لك أي ليس لنا ما نقول إذا قلت ولا ما نأمر به إذا أمرت فنحن مطيعون لك { فإذا برزوا } أي خرجوا من مجلسك بدل طائفة منهم غير الذي تقول واعتزموه دون الذي وافقوا عليه أمامك وفي وعليه { فأعرض عنهم وتوكل على الله } ولا تبال بهم { وكفى بالله وكيلا } فهو حسبك وكافيك ما يبيتونه من الشر لك .
وقوله تعالى في الآية الثانية ( 82 ) { أفلا يتدبرون القرآن } يؤنبهم بإعراضهم وجهلهم وسوء فهمهم إذ لو تدبروا القرآن وهو يُتلى عليهم وسمعوه صباح مساء لعرفوا أن الرسول حق وأن منا جاء به حق فآمنوا وأسلموا وحسن إسلامهم ، وانتهى نفقاتهم الذي أفسد قلوبهم وعفن آراءهم ، إن تدبر القرآن بالتأمل فيه وتكرار آياته مرة بعد أخرى يهدي إلى معرفة الحق من الباطل وأقرب ما يفهمونه لو تدبروا أن القرآن كلام الله تعالى وليس كلام بشر ، إذ لو كان كلام بشر لوجد فيه التناقض والإِختلاف والتضاد ، ولكنه كلام خالق البشر ، فلذا هو متسق الكلم متآلِف الألفاظ والمعاني محكم الآى هادٍ إلى الإِسعاد والكمال ، فهو بذلك كلام الله حقاً ومن شرف بإنزاله عليه رسول حق ولا معنى أبداً للكفر بعد هذا والإِصرار عليه ، ومنافقة المسلمين فيه . هذا معنى قوله تعالى : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه إختلافاً كثيراً } .
وقوله : { وإذا جاءهم أمر من الأمن والخوف أذاعوا به } وهي الآية الرابعة ( 83 ) فإن الله تعالى يخبر عن أولئك المرضى بمرض النفاق ناعياً عليهم ارجافهم وهزائمهم المعنوية فيقول { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف } أي إذا وصل من سرايا الجهاد خبر بنصر أو هزيمة سارعوا فإفشائه وإذاعته ، وذلك عائد إلى مرض قلوبهم لأن الخبر وأطلق عليه لفظ الأمر لأن حالة الحرب غير حالة السلم إذا كان بالنصر المعبر عنه بالأمن فهم يعلنونه حسداً أو طمعاً ، وإذا كان بالهزيمة المعبر عنها بالخوف يعلنونه فزعاً وخوفا لأنهم جبناء كما تقدم وصفهم ، قال تعالى في تعليمهم وتعليم غيرهم ما ينبغي أن يكون عليه المجاهدون في حال الحرب ، { ولو ردوه إلى الرسول } القائد الأعلى ، { وإلى أولي الأمر منهم } وهم أمراء السرايا المجاهدة { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } أي لاستخرجوا سر الخْبَرِ وعرفوا ما يترتب عليه فإن كان نافعاً أذاعوه ، وإن كان ضارا أخوفه .
(1/284)
________________________________________
ثم قال تعالى : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } أيها المؤمنون { لاتبعتم الشيطان } في قبول تلك الإِشاعات المغرضة والإِذاعات المثبطة { إلا قليلا } منكم من ذوى الآراء الصائبة والحصافة العقلية إذ مثلهم لا تثيرهم الدعاوي ، ولا تغيرهم الأراجيف ، ككبار الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم أجمعين .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يطاع لذاته وإنما يطاع لذات الله عز وجل .
2- وجوب تدبر القرآن لتقوية الإِيمان .
3- آية أن القرآن وحي الله وَكلامه سلامته من التناقض والتضاد في الألفاظ والمعاني .
4- تقرير مبدأ أن أخبار الحرب لا تذاع إلا من قبل العليا حتى لا يقع الاضطراب في سفوف المجاهدين والأمة كذلك .
5- أكثر الناس يتأثرون بما يسمعون إلا القليل من ذوي الحصافة العقلية والوعي الساسي .
(1/285)
________________________________________
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
شرح الكلمات :
{ حرض المؤمنين } : حثهم على الجهاد وحرضهم على القتال .
{ بأس الذين كفروا } : قوتهم الحربية .
{ وأشد تنكيلاً } : أقوى تنكيلاً والتنكيل : ضرب الظالم بقوة حتى يكون عبرة لمثله فينكل عن الظلم .
{ الشفاعة } : الوساطة في الخير أو في الشر فإن كانت في الخير فهي الحسنة وإن كانت في الشر فهي السيئة .
{ كفل منها } : نصيب منها .
{ مقيتاً } : مقتدراً عليه وشاهداً عليه حافظاً له .
{ بتحية } : تحية الإِسلام هي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
{ أو ردوها } : أي يقول وعليكم السلام .
{ حسيباً } : محاسباً على العلم مجازياً به خيراً كان أو شراً .
معنى الآيات :
ما زال السياق في السياسة الحربية ففي هذه الآية { فقاتل في سبيل اله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين } يأمر تعالى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يقاتل المشركين لأجل إعلاء كلمة الله تعالى بأن يبعد وحده وينتهي إضطهاد المشركين للمؤمنين وهو المراد من قوله { في سبيل الله } وقوله { لا تكلف إلا نفسك } أي لا يكلفك ربك إلا نفسك وحدها ، أما من عداك فليس عليك تكليفه بالقتال ، ولكن حرض المؤمنين على القتال معك فحثهم على ذلك ورغبهم فيه . وقوله : { عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا } وهذا وعد من الله تعالى بأن يكف بأس الذين كفروا فيسلط عليهم رسوله والمؤمنين فيبددوا قوتهم ويهزموهم فلا يبقى لهم بأس ولا قوة وقد فعل وله الحمد والمنة وهو تعالى { أشد بأساً } من كل ذي بأس { وأشد تنكيلاً } من غيره بالظالمين من أعدائه .
هذا ما دلت عليه الآية ( 84 ) أما الآية ( 85 ) وهي قوله تعالى { من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ، ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شىء مقيتاً } فهو إخبار منه تعالى بأن من يشفع شفاعة حسنة بأن يضم صوته مع مطالب بحق أو يضم نفسه إلى سريّة تقاتل في سبيل الله ، أو يتوسط لأحد في قضاء حاجته فإن للشافع قسطاً من الأجر والمثوبة كما أن { من يشفع شفاعة سيئة } بأن يؤيد باطلاً أو يتوسط في فعل شر أو ترك معروف يكون عليه نصيب من الوزر ، لأن الله تعالى على كل شىء مقتدر وحفيظ عليم . هذا ما دلت عليه الآية المذكورة .
أما الآية الأخيرة ( 86 ) فإن الله تعالى يأمر عباده المؤمنين بأن يردوا تحية من يحييهم بأحسن منها فإن لم يكن بأحسن فبالمثل ، فمن قال : السلام عليكم فليقل الراد وعليكم السلام ورحمة الله ، ومن قال السلام عليكم ورحمة الله فليرد عليه وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، وقوله تعالى : { إن الله كان على كل شىء حسيباً } فيه تطمين للمؤمنين على أن الله تعالى يثيبهم على إحسانهم ويجزيهم به .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم بدليل أنه كلف بالقتال وحده وفعل .
2- ليس من حق الحاكم أن يجند المواطنين تجنيداً إجبارياً ، وإنما عليه أن يحضهم على التجنيد ويرغبهم فيه بوسائل الترغيب .
3- فضل الشفاعة في الخير ، وقبح الشفاعة في الشر .
4- تأكيد سنة التحية ، ووجوب ردّها بأحسن أو بمثل .
5- تقرير ما جاء في السنة بأن السلام عليكم : يعطى عليها المسلم عشر حسنات ورحمة الله : عشر حسنات . وبركاته : عشر كذلك .
(1/286)
________________________________________
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
شرح الكلمات :
{ لا إله إلا هو } : لا معبود بحق إلا هو .
{ فئتين } : جماعتين الواحدة فئة أي جماعة .
{ أركسهم } : الارتكاس : التحول من حال حسنة إلى حال سيئة كالكفر بعد الإِيمان أو الغدر بعد الأمان وهو المراد هنا .
{ سبيلاً } : أي طريقاً إلى هدايتهم .
{ وَليّاً ولا نصيراً } : الولي : من يلي أمرك ، والنصير : من ينصرك على عدوك .
{ يصلون } : أي يتصلون بهم بموجب عقد معاهدة بينهم .
{ ميثاق } : عهد .
{ حصرت صدورهم } : ضاقت .
{ السلم } : الاستسلام والانقياد .
{ الفتنة } : الشرك .
{ ثقفتموهم } : وجدتموهم متمكنين منهم .
{ سلطاناً مبيناً } : حجة بينة على جواز قتالهم .
معنى الآيات :
لما ذكر تعالى الآيات قبل هذه أنه تعالى المقيت والحسيب أي القادر على الحساب والجزاء أخبر عز وجل أنه الله الذي لا إله إلا هو أي المعبود دون سواه لربوبيته على خلقه إذ الإِله الحق ما كان رباً خالقاً رازقاً بيده كل شىء وإليه مصير كل شيء وأنه جامع الناس ليوم لا ريب في إتيانه وهو يوم القيامة .
هذا ما دلت عليه الآية الكريمة { الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه } ولما كان هذا خبراً يتضمن وعداً ووعيداً أكد تعالى إنجازه فقال : { ومن أصدق من الله حديثا } اللهم إنه لا أحد أصدق منك .
أما الآيات الأربع الباقية وهي ( 88 ) و ( 89 ) و ( 90 ) و ( 91 ) فقد نزلت لسبب معين وتعالج مسائل حربية معنية أما السبب الذي نزلت فيه فهو اختلاف المؤمنين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في طائفة من المنافقين أظهروا الإِسلام وهم ضليعون في موالاة الكافرين ، وقد يكونوا في مكة ، وقد يكونون في المدينة فرأى بعض الأصحاب أن من الحزم الضرب على أيديهم وإنهاء نفاقهم ، ورأى آخرون تركهم والصبر عليهم ما داموا يدعون الإِيمان لعلهم بمرور الأيام يتوبون ، فلما اختلفوا واشتد الخلاف في شأنهم أنزل الله تعالى هذه الآيات فقال : { فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ، ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً } ومعنى الآية أي شيء صيركم في شأن المنافقين فئتين؟ والله تعالى قد أركسهم في الكفر بسبب ما كسبوه من الذنوب العظام . أتريدون أيها المسلمون أن تهدوا من أضل الله ، وهل يقدر أحد على هداية من أضله الله؟ وكيف ، ومن يضلل الله حسب سنته في إضلال البشر لا يوجد له هادٍ ، ولا سبيل لهدايته بحال من الأحوال .
ثم أخبر تعالى عن نفسيّة أولئك المنافقين المختلف فيهم فقال وهي الآية الثالثة ( 89 ) { ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء } أي أحبوا من قلوبهم كفركم لتكونوا مثلهم وفيه لازم وهو انتهاء الإِسلام ، وظهرو الكفر وانتصاره .
ومن هنا قال تعالى محرما موالاتهم إلى أن يهاجروا فقال : { فلا تتخذوا منهم أولياء } تعولون عليهم في نصرتكم على إخوانهم في الكفر .
(1/287)
________________________________________
وظاهر هذا السياق أن هؤلاء المنافقين هم بمكة وهو كذلك . وقوله تعالى { حتى يهاجروا في سبيل الله } ، لأن الهجرة إلى المدينة تقطع صلاتهم بدار الكفر فيفتر عزمهم ويراجعوا الصدق في إيمانهم فيؤمنوا فإن هاجروا ثم تولوا عن الإِيمان الصحيح إلى النفاق والكفر فأعلنوا الحرب عليهم { فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ، ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً } لأنه بارتكاسهم لا خير فيهم ولا يعول عليهم .
ثم في الآية ( 90 ) استثنى لهم الرب تعالى صنفين من المنافقين المذكورين فلا يأخذونهم أسرى ولا يقاتلونهم ، الصنف الأولى الذين ذكرهم تعالى قوله { إلا الذين يصلون } أي يلجأون { إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق } فبحكم استجارتهم بهم طالبين الأمان منهم فأمنوهم أنتم حتى لا تنقضوا عهدكم . والصنف الثاني قوم ضاقت صدورهم بقتالكم ، وقتال قومهم فهؤلاء الذين لم يستسيغوا قتالكم ولا قتال قومهم إن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم فلا نأخذوهم ولا تقتلوهم واصبروا عليهم ، إذ لو شاء الله تعالى لسلطهم عليكم فلقاتلوكم هذا الصنف هو المعني بقوله تعالى : { أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ، ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم } فما دام الله تعالى قد كفهم عنكم فكفوا أنتم عنم . هذا معنى قوله تعالى : { فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم } .
أي المسالمة والمهادنة { فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً } لأخذهم وقتالهم . هذا وهناك صنف آخر ذكر تعالى حكم معاملته في الآية الخامسة والأخيرة وهي قوله تعالى : ( 91 ) { ستجدون قوماً آخرين } غير الصنفين السابقين { يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم } فهم إذاً يلعبون على الحبلين كما يقال { كلما ردوا إلى الفتنة } أي إلى الشرك { أركسوا فيها } أي وقعوا فيها منتكسين إذ هم منافقون إذا كانوا معكم عبدوا الله وحده وإذا كانوا مع قومهم عبدوا الأوثان لمجرد دعوة يدعونها يلبون فيرتدون إلى الشرك ، وهو معنى قوله تعالى : { كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها } وقوله تعالى : { فإن لم يتعزلوكم ويلقوا إليكم السلم } أي إن لم يعتزلوا قتالكم ويلقوا إليكم السلام وهو الإِذعان والإِنقياد لكم ، ويكفوا أيديهم فعلاً عن قتالكم { فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً } أي حجة واضحة على جواز أخذهم وقتلهم حيثما تمكنتم منهم وعلى أي حال . هذا ما دلت عليه الآيات الخمس مع العلم أن الكف عن قتال المشركين قد نسخ بآيات براءة إلا أن لإِمام المسلمين أن يخذ بهذا النظام عند الحاجة إليه فإنه نظام رباني ما أخذ به أحد وخاب أو خسر ، ولكن خارج جزيرة العرب إذ لا ينبغي أن يجتمع فيها دينان .
هداية الآيات
من هداية الآيات
1- وجوب توحيد الله تعالى في عبادته .
2- الإِيمان بالعبث والجزاء .
3- خطة حكيمة لمعاملة المنافقين بحسب الظروف والأحول .
4- تقرير النسخ في القرآن .
(1/288)
________________________________________
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
شرح الكلمات :
{ إلا خطأ } : أي إلا قتلاً خطأ وهو أن لا يتعمد قتله كأن يرمي صيداً فيصيب إنساناً . { رقبة } : أي مملوك عبداً كان أو أمة .
{ مسلمة } : مؤداة وافية .
{ إلا أن يصدقوا } : أي يتصدقوا بها على القاتل فلا يطالبوا بها ولا يأخذوها منه .
{ ميثاق } : عهد مؤكد بالأيمان .
{ متعمداً } : مريداً قتله وهو ظالم له .
معنى الآيتين :
لما ذكر تعالى في الآيات السابقة قتال المنافقين متى يجوز ومتى لا يجوز ناسب ذكر قتل المؤمن الصادق في إيمانه خطأ وعمداً وبيان حكم ذلك فذكر تعالى في الآية الأولى ( 92 ) أنه لا ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا في حال الخطأ أما في حال العمد فلا يكون لذك منه ولا يتأتى له وهو مؤمن لأن الإِيمان نور يكشف عن مدى قبح جريمة قتل المؤمن وما وراءها من غضب الله تعالى وعذابه فلا يقدم على ذلك اللهم إلا في حال الخطأ فهذا وارد وواقع ، وحكم من قتل خطأ أن يعتق رقبة ذكراً كانت أو أنثى مؤمنة وأن يدفع الديّة لأولياء القتيل إلا أن يتصدقوا بها فلا يطالبوا بها ولا يقبلونها والدية مائة من الإِبل ، أو ألف دينار ذهب ، أو إنا عشر ألف درهم فضة . هذا معنى قوله تعالى : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً ، ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى اهله إلا أن يصدقوا } فإن كان القتيل مؤمناً ولكن من قوم هم عدو للمسلمين محاربين فالواجب على القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير ، إذ لا تعطى الدية لعدو يستعين بها على حرب المسلمين وإن كان القتيل من قوم كافرين وهو مؤمن أو كافر ولكن بيننا وبين قومه معاهدة ، على القاتل تحرير رقبة ودية مسلمية إلى أهله ، فمن لم يجد الرقبة صام شهرين متتابعين فذلك توبته لقوله تعالى : { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليماً حكيماً } عليماً بما يحقق المصلحة لعباده حكيماً في تشريعه فلا يشرع إلا منا كان نافعاً غير ضار ، ومحققاً للخير في الحال والمآل .
هذا ما دلت عيله الآية الآولى أما الثانية ( 93 ) فإنها بنيت حكم من قتل مؤمناً عمداً عدواناً ، وهو أن الكفارة لا تغني عنه شيئاً لما قضى الله تعالى له باللعن والخلود في جهنم إذ قال تعالى : { ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خادلاً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً } إلا أن الدية أو القصاص لازمان ما لم يعف أولياء الدم فإن عفو عن القصاص ورضوا بالدية أعطوها وإن طالبوا بالقصاص اقتصوا إذ هذا حقهم وأما حق الله تعالى فإن القتيل عبده خلقه ليعبده فمن قتله فالله تعالى رب العبد خصمه وقد توعه بأشد العقوبات وأفظعها ، والعياذ بالله تعالى وذلك حقه قال تعالى : { ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيماً } .
(1/289)
________________________________________
هداية الآيتين
من هداية الآيتين :
1- بيان أن المؤمن الحق لا يقع منه القتل العمد للمؤمن .
2- بيان جزاء القتل الخطأ وهو تحرير رقبة ودية مسلمة إلى أهله .
3- إذا كان القتيل مؤمناً وكان من قوم كافرين محربين فالجزاء تحرير رقبة ولا دية .
4- إذا كان القتيل من قوم بين المسلمين وبينهم ميثاق فالواجب الدية وتحرير رقبة .
5- من لم يجد الرقبة صام شهرين متتابعين .
6- القتل العمد العدوان يجب له أحد شيئين القصاص أو الديتة حسب رغبة أولياء الدم وإن عفو فلهم ذلك وأجرهم على الله تعالى ، وعذاب الآخرة وعيد إن شاء الله أنجزه وإن شاء عفا عنه .
(1/290)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
شرح الكلمات :
{ إذا ضربتم } : خرجتم تضربون الأرض بأرجلكم غزاة ومسافرين .
{ فتبينوا } : فتثبتوا حتى لا تقتلوا مسلماً تحسبونه كافراً .
{ السلم } : الإِستسلام والانقياد .
{ تبتغون } : تطلبون .
{ منّ الله عليكم } : بالهداية فاهتديتم وأصبحتم مسلمين .
معنى الآية الكريمة :
روي أنم نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا فلقوا رجلاً يسوق غنماً من بني سليم فلما رآهم سلم عليهم قائلاً السلام عليكم فقالوا له ما قلتها إلا تقيّة لتحفظ نفسك ومالك وقتلوه فنزلت هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله } يريد خرجتم مسافرين للغزو والجهاد { فتبّينوا } ممن تلقونهم في طريقكم هل هم مسلمون فتكفوا عنهم أو كافرين فتقاتلوهم ، { ولا تقولوا لمن ألقى إليك السلام } أعلن إسلامه لكم بالشهادة أو بالسلام { لست مؤمناً } فتكذبونه في دعواه الإِسلام لتنالوا منه : { تبتغون } بذلك { عرض الحياة الدنيا } أي متاعها الزائل فإن كان قصدكم الغنيمة فإن عند الله مغانم كثيرة فأطيعوه وأخلصوا له النية والعمل يرزقكم ويغنمكم خير ما تأملون وترجون وقوله { كذلك كنتم من قبل } أي مثل هذا الرجل الذي قتلتموه رغبة في غنمه كنتم تستخفون بإيمانكم خوفاً من قومكم { فمن الله عليكم } بأن أظهر دينه ونصركم فلم تعودوا تخفون دينكم . وعليه فتبينوا مستقبلاً ، ولا تقتلوا أحداً حتى تتأكَّدوا من كفره وقوله : { إن الله كان بما تعملون خبيراً } تذييل يحمل الوعد والوعيد ، الوعد لمن أطاع والوعيد لمن عصى إذ لازم كونه تعالى خبيراً بالأعمال أنه يحاسب عليه ويجزي بها ، وهو على كلِّ شيء قدير .
هداية الآية
من هداية الآية :
1- مشروعية السير في سبيل الله غزوا وجهاداً .
2- وجوب التثبت والتبين في الأمور التي يترتب على الخطأ فيها ضرر بالغ .
3- ذم الرغبة في الدنيا لا سيما إذا كانت تتعارض مع التقوى .
4- الاتعاظ بحال الغير والاعتبار بالأحداث المماثلة .
(1/291)
________________________________________
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
شرح الكلمات :
{ أولوا الضرر } : هم العميان والعرج والمرضى .
{ درجة } : منزلة عالية في الجنة .
{ الحسنى } : الجنة .
معنى الآيتين :
روي أن ابن أم مكتوم رضي الله تعالى عنه لما نزلت هذه الآية بهذه الصيغة { لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله بأمواله وأنفسهم . . . } الآية . أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : كيف وأنا أعمى يا رسول الله فما برح حتى نزلت { غير أولي الضرر } فأدخلت بين جملتي { لا يستوي القاعدون من المؤمنين ، والمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم } ومعنى الآية : إن الله تعالى ينفي أن يستوي في الأجر والمنزرة عنده تعالى من يجهاد بماله ونفسه ومن لا يجاهد بخلاً بماله . وضناً بنفسه ، واستثنى تعالى أولي الأعذار من مرض ونحوه فأن لهم أجر المجاهدين وإن لم يجاهدوا لحسن نياتهم ، وعدم استطاعتهم فلذا قال { وكلاً وعد الله الحسنى } التي هي الجنة ، وقوله : { فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة } أي فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين لعذر درجة ، وإن كان الجميع لهم الجنة وهي الحسنى ، وقوله تعالى : { وفضل الله المجاهدين على القاعدين } لغير عذر { أجراً عظيماً } وهو الدرجات العالية مع المغفرة والرحمة ، وذلك لأن الله تعالى كان أزلاً وأبداً غفوراً رحيما ، ولذا غفر لهم ورحمهم ، اللهم اغفر لنا وارحمنا معهم .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين :
1- بيان فضل المجاهدين على غيرهم من المؤمنين الذين لا يجاهدون .
2- أصحاب الأعذار الشرعية ينالون أجر المجاهدين إن كانت لهم رغبة في الجهاد ولم يقدروا عليه لما قام بهم من أعذار وللمجاهدين فعلاً درجة تخصهم دون ذوي الأعذار .
(1/292)
________________________________________
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
شرح الكلمات :
{ توفاهم } : تقبض أرواحهم عند نهاية آجالهم .
{ ظالمي أنفسهم } : بتركهم الهجرة وقد وجبت عليهم .
{ فيم كنتم } : في أي شيء كنتم من دينكم؟
{ مصيراً } : مأوى ومسكناً .
{ حيلة } : قدرة على التحول .
{ مراغماً } : مكاناً وداراً لهجرته يرغم ويذل به من كان يؤذيه في داره .
{ وسعة } : في رزقه .
{ وقع أجره على الله } : وجب أجره في هجرته على الله تعالى .
معنى الآيات :
لما كانت الهجرة من آثار الجهاد ناسب ذكر القاعدين عنها لضرورة ولغير ضرورة فذكر تعالى في هذه الآيات الهجرة وأحكامها فقال تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } حيث تركوا الهجرة ومكثوا في دار الهوان يضطهدهم العدو ويمنعهم من دينهم ويحول بينهم وبين عبادة ربهم . هؤلاء الظالمون لأنفسهم تقول لهم الملائكة عند قبض أرواحهم { فيم كنتم } ؟ تسألهم هذا السؤال لأن أرواحهم مدساة مظلمة لأنها لم تزك على الصالحات ، فيقولون معتذرين : { كنا مستضعفين في الأرض } فلم نتمكن من تطهير أرواحنا بالإِيمان وصالح الأعمال ، فترد عليهم الملائكة قولهم : { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } وتعبدوا ربكم؟ ثم يعلن الله تعالى عن الحكم فيهم بقوله ، فأولئك البعداء { مأواهم جهنم } وساءت جهنم مصيراً يصيرون إليه ومأوى ينزلون فيه . ثم استثنى تعالى أصحاب الأعذار كما استثناهم في القعود عن الجهاد في الآيات قبل هذه فقال عز من قائل : { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان } ، واستضعاف الرجال يكون بالعلل والنساء والولدان بالضعف الملازم لهم ، هؤلاء الذين لا يستطيعون حيلة أي لا قدرة لهم على التحول والإِنتقال لضعفهم ، { ولا يهتدون سبيلاً } إلى دار الهجرة لعدم خبرتهم بالدروب والمسالك فطمعهم تعالى ورجاهم بقوله : { فأولئك } المذكورون { عسى الله أن يعفوا عنهم } فلا يؤاخذهم ويغفر لهم بعض ما قصروا فيه ويرحمهم لضعفهم وكان الله غفوراً رحيماً .
هذ ما دلت عليه الآيات الثلاث .
أما الآية الرابعة ( 100 ) فقد أخبر تعالى فيها أن من يهاجر في سبيله تعالى لا في سبيل دينا يصيبها أو امرأة يتزوجها يجد بإذن الله تعالى في الأرض مذهباً يذهب إليه وداراً ينزل بها ورزقاً واسعاً يراغم به عدوه الذي اضطهده حتى هاجر من بلاده ، فقال تعالى : { ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة } ثم أخبر تعالى أن من خرج مهاجراً في سبيل الله أي لأجل عبادته ونصره دنيه ثم مات في طريق هجرته وإن لم يصل إلى دار الهجرة فقد وجب أجره على الله تعالى وسيوفاه كاملاً غير منقوص ، ويغفر الله تعالى له ما كان من تقصير سابق ويرحمه فيدخله جنته . إذ قال تعالى : { ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ، ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وجوب الهجرة عندما يحال بين المؤمنين وعبادة ربه تعالى إذ لم يخلق إلا لها .
2- ترك الهجرة كبيرة من كبائر الذنوب يستوجب صاحبها دخول النار .
3- أصحاب الأعذار كما سقط عنهم واجب الجهاد يسقط عنهم واجب الهجرة .
4- فضل الهجرة في سبيل الله تعالى
5- من مات في طريق هجرته أعطى أجر المهاجر كاملاً غير منقوص وهو الجنة .
(1/293)
________________________________________
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
شرح الكلمات :
{ ضربتم في الأرض } : أي مسافرين مسافة قصر وهي أربعة برد أي ثمانين وأربعون ميلاً .
{ إن تقصروا من الصلاة } : بأن تصلوا الظهرين ركعتين ركعتين ، والعشاء ركعتين لطولها .
{ إن خفتم أن يفتنكم } : هذا خرج مخرج الغالب ، فليس الخوف بشرط في القصر وإنما الشرط السفر .
{ حذرهم } : الحيطة والأهبة لما عسى أن يحدث من العدو .
{ وأسلحتكم } : جمع سلاح ما يقاتل به من أنواع الأسلحة .
{ لا جناح عليكم } : أي لا تضييق عليكم ولا حرج في وضع الأسلحة للضرورة .
{ قضيتم الصلاة } : أديتموها وفرغتم منها .
{ فإذا اطمأننتم } : أي ذهب الخوف فحصلت الطمأنينة بالأمن .
{ كتاباً موقوتا } : فرضاً ذات وقت معين تؤدى فيه لا تتقدمه ولا تتأخر عنه .
{ ولا تهنوا } : أي لا تضعفوا .
{ تألموا } : تتألمون .
معنى الآيات :
بمناسبة الهجرة والسفر من لوازمها ذكر تعالى رخصة قصر الصلاة في السفر وذلك بتقصير الرباعية إلى ركعتين فقال تعالى : { وإذا ضربتم في الأرض } أي سرتم فيها مسافرين { فليس عليكم جناح } أي حرج وإثم في { أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } وبينت السنة أن المسافر يقصر ولو أمن فهذا القيد غالبي فقط ، وقال تعالى : { إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً } تذييل أريد به تقرير عداوة الكفار للمؤمنين فلذا شرع لهم هذه الرخصة .
هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 101 ) أما الآيتان بعدها فقد صلاة الخوف وصورتها : أن ينقسم الجيش قسمين يقف تجاه العدو وقسم يصلي مع القائد ركعة ، ويقف الإِمام مكانه فيتمون لأنفسهم ركعة ، ويسلمون ويقفون وجاه العدو ، ويأتي القسم الذين كان واقفاً العدو فيصلي بيهم الإِمام القائد ركعة ويسلم ويتمون لأنفسهم ركعة ويسلمون ، وفي كلا الحالين هم آخذون أسلحتهم لا يضعونها على الأرض خشية أن يميل عليهم العدو وهم عزل فيكبدهم خسائر فادحة هذا معنى قوله تعالى : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم } يريد الطائفة الواقعة تجاه العدو لتحميهم منه { ولتأتِ طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم } وقوله تعالى : { ودَّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة } سيق هذا الكلام لبيان علة الصلاة طائفة بعد أخرى والأمر بالأخذ بالحذر وحمل الأسلحة في الصلاة ، ومن هنا رخص تعالى لهم إن كانوا مرضى وبهم جراحات أو كان هناك مطر فيشق عليهم حمل السلام أن يضعوا أسلحتهم فقال عز وجل : { ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم } وقوله تعالى : { إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً } تذييل لكلام محذوف دل عليه السياق قد يكون تقديره فإن الكفار فجرة لا يؤمن جانبهم ولذا أعد الله لهم عذاباً مهيناً ، وإنما وضع الظاهر مكان المضمر إشارة إلى علة الشر والفساد التي هي الكفر .
(1/294)
________________________________________
وقوله تعالى في آية ( 103 ) { فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم } فإنه تعالى يأمر المؤمنين بذكره في كل الأحيان لا سيما في وقت لقاء العدو لما في ذلك من القوة الروحية التي تقهر القوى المادية وتهزمها فلا يكتفي المجاهدون بذكر الله في الصلاة فقط بل إذا قضوا الصلاة لا يتركون ذكر الله في كل حال وقوله تعالى : { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة } يريد إذا ذهب الخوف وحل الأمن واطمأنت النفوس أقيموا الصلاة بحدودها وشرائطها وأركانها تامة كاملة ، لا تخفيف فيها كما كانت في حال الخوف إذ قد تصلي ركعة واحدة وقد تصلى إيماءً وإشارة فقط وذلك إذا التحم المجاهدون بأعدائهم .
وقوله : { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } تعليل للأمر بإقامة الصلاة فأخبر أن الصلاة مفروضة على المؤمنين وأنها موقوته بأوقات لا تؤدى إلا فيها .
وقوله تعالى في آية ( 104 ) { ولا تهنوا في ابتغاء القوم } أي لا تضعفوا في طلب العدو لإِنزال الهزيمة به . ولا تتعللوا في عدم طلبهم بأنكم تألمون لجراحاتكم { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله } من النصر والمثوبة العظيمة { ما لا يرجون } فأنتم أحق بالصبر والجلد والمطالبة بقاتلهم حتى النصر عليهم وقوله تعالى { وكان الله عليماً حكيماً } فيه تشجيع للمؤمنين على مواصلة الجهاد ، لأن علمهم بأن الله تعالى عليم بأحوالهم والظروف الملابسة لهتم وحكيم في شرعه بالأمر والنهي لهم يطمئنهم على حسن العافية لهم بالنصر على أعدائهم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- مشروعية صلاة القصر وهي رخصة أكدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمله فأصبحت سنة مؤكدة لا ينبغي تركها .
2- مشروعية صلاة الخوف وبيان كيفيتها .
3- تأكد صلاة الجماعة بحيث لا تترك حتى في ساعة الخوف والقتال .
4- استحباب ذكر الله تعالى بعد الصلاة وعلى كل حال من قيام وقعود واضطجاع .
5- تقرير فرضية الصلاة ووجوب أدائها في أوقاتها الموقوتة لها .
6- حرمة الوهن والضعف إزاء حرب العدو الاستعانة على قتاله بذكر الله ورجائه .
(1/295)
________________________________________
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
شرح الكلمات :
{ بما أراك الله } : أي بما علمكه بواسطة الوحي .
{ خصيماً } : أي مخاصماً بالغاً في الخصومة مبلغاً عظيماً .
{ تجادل } : تخاصم .
{ يختانون أنفسهم } : يحاولون خيانة أنفسهم .
{ يستخفون } : يطلبون إخفاء أنفسهم عن الناس .
{ وهو معهم } : بعلمه تعالى وقدرته .
{ يبيتون } : يدبرون الأمر في خفاء ومكر وخديعة .
{ وكيلا } : الوكيل من ينوب عن آخر في تحقيق غرض من الأغراض .
معنى الآيات :
روي أن هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق وإخوته وكان قد سرق درعاً من دار جارٍ له يقال له قتادة وودعها عند يهودي يقال له يزيد بن السمين ، ولما اتهم طعمة وخاف هو وإخوته المعرة رموا بها اليهودي وقالوا هو السارق ، وأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلفوا على براءة أخيهم فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا هو السارق ، لشهادة بني أبيرق عليه وإذا بالآيات تنزل ببراءة اليهودي وإدانة طعمة ، ولما افتضح طعمة وكان منافقاً أعلن عن ردته وهرب إلى لآيات قوله تعالى : { إنا أنزلنا إليك الكتاب } أي القرآن ، أيها الرسول { لتحكم بين الناس بما أراك الله } أي بما أعلمك وعرفك به لا بمجرد رأي رآه غيرك من الخائنين وعاتبه ربه تعالى بقوله { ولا تكن للخائنين خصيماً } أي مجادلاً عنهم ، فوصم تعالى بني أبيرق بالخيانة ، لأنهم خانوا أنفسهم بدفعهم التهمة عنهم بأيمانهم الكاذبة . { واستغفر الله } من أجل ما هممت به من عقوبة اليهودي ، { إن الله كان غفوراً رحيماً } فيغفر لك ما هممت به ويرحمك { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } حيث اتهموا اليهودي كذباً وزوراً ، { إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً } كطعمة بن أبيرق { يستخفون من الناس } حياء منهم ، { ولا يستخفون من الله } ولا يستحيون منه ، وهو تعالى معهم في يحلفون على براءة أخيهم وإتهام اليهودي هذا القول مما لا يرضاه الله تعالى . . وقوله عز وجل : { وكان الله بما يعملون محيط ، فسبحانه من إله عليم عظيم . وقوله تعالى : { ها أنتم هؤلاء } أي يا هؤلاء اليهودي ثم اتهامهم اليهودي ، وحلفهم على براءة أخيهم كل ذلك جرى تحت علم الله تعالى { جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا } هذا الخطاب موجه إلى الذين وقفوا إلى جنب بني أبيرق يدفعون عنهم التهمة فعاتبهم الله تعالى بقوله : { ها أنتم هؤلاء جادلتهم عنهم } ، اليوم في هذه الحياة الدنيا لتدفعوا عنهم تهمة السرقة { فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً } يتولى الدفاع عنهم في يوم لا تملك فيه نفس لنفس شيئاً والأمر كله لله فتضمنت الآية تقريعاً شديداً حتى لا يقف أحد بعد موقفاً مخزياً كهذا .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- لا يجوز الحكم بغير ما أنزل الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .
2- لا يجوز الوقوف إلى جنب الخونة الظالمين نصرة لهم .
3- وجوب الاستغفار من الذنب كبيراً كان أو صغيراً .
4- وجوب بغض الخوَّان الأثيم أيّاً كان .
5- استحباب الوعظ والتذكير بأحوال يوم القيامة .
(1/296)
________________________________________
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
شرح الكلمات :
{ سوءاً } : السوء : ما يسيء إلى النفس أو إلى الغير .
{ أو يظلم نفسه } : ظلم النفس : بغشيان الذنوب وارتكاب الخطايا .
{ إثماً } : الإِثم : ما كان ضاراً بالنفس فاسداً .
{ بريئاً } : البرىء : من لم يجن جناية قد اتهم بها .
{ احتمل بهتاناً } : تحمل بهتاناً : وهو الكذب المحير لمن رمي به .
{ الكتاب والحكمة } : الكتاب : القرآن والحكمة السنة .
معنى الآيات :
هذا السياق معطوف على سابقه في حادثة طعمة بن أبيرق وهو يحمل الرحمة الإِلهية لأولئك الذين تورطوا في الوقوف إلى جنب الخائن ابن أبيرق فأخبرهم تعالى أن من يعمل سوءاً به غيره أو يظلم نفسه بارتكاب ذنب من الذنوب ثم يتوب إلى الله تعالى باستغفاره والإِنابة إليه يتب الله تعالى عليه ويقبل توبته وهو معنى قوله تعالى في الآية ( 110 ) { ومن يعمل سوءاً أيو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً } يغفر له ويرحمه .
قوله تعالى { من يكسب إثما } أي ذنباً من الذنوب صغيرها وكبيرها { فإنهما يكسبه على نفسه } إذ هي التي تتدسَّى به وتؤاخذ بمقتضاه إن لم يغفر لها . ولا يؤاخذ به غيرها وكان الله عليماً أي بذنوب عباده حكيماً أي في مجازاتهم بذنوبهم فلا يؤاخذ نفساً بغير ما اكتسبت ويترك نفساً قد اكتسبت ( 112 ) يخبر تعالى أن من يرتكب خطيئة ضد أحد ، أو يكسب إثماً ويرمي به أحداً خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً } .
وفي الآية ( 113 ) يواجه الله تعالى رسوله بالخطاب ممتناً عليه بما حباه به من الفضل والرحمة فيقول : { ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمّت طائفة التي ذلك تعالى هم بنو أبيرق أخوة طعمة وقوله { وما يضلون إلا أنفسهم } ، فهو كما قال عز وجل ضلالهم عائد عليهم أما الرسول فلن يضره ذلك وقوله تعالى : { وأنزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم ، وكان فضل الله عليك عظيماً } امتنان من الله تعالى على رسوله بأنه أنزل عليه القرآن أعظم الكتب وأهداها وعلمه الحمة وهي ما كشف له من أسرار الكتاب الكريم ، وما أوحي إليه من العلوم والمعارف التي كلها نور وهدى مبين ، وعلمه من المعارف الربانية ما لم يكن يعلم قبل ذلك وبهذا كان فضله على رسوله عظيماً فلله الحمد والمنة .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير مبدأ التوبة تجب ما قبلها ، ومن تاب تاب الله عليه .
2- عظم ذنب من يكذب على البرءاء ، ويتهم الأمناء بالخيانة .
3- تأثير الكلام على النفوس حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كاد يضلله بنو أبيرق فيبرىء الخائن ويدين البرىء إلا أن الله عصمه .
4- عاقبة الظلم عائدة على الظالم .
(1/297)
________________________________________
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
شرح الكلمات :
{ نجواهم } : النجوى : المسارة بالكلام ، ونجواهم : أحاديثهم التي يسرها بعضهم إلى بعض .
{ أو بمعروف } : المعروف : ما عرفه الشرع فأباحه ، أو استحبه أو أوجبه .
{ ابتغاء مرضاة الله } : أي طلباً لمرضاة الله أي للحصول على رضا الله عز وجل .
{ نؤتيه } : نعطيه والأجر العظيم : الجنة وما فيها من نعيم مقيم .
{ يشاقق الرسول } : يحاده ويقاطعه ويعاديه . كمن يقف في شق ، والآخر في شق .
{ ويتبع غير سبيل المؤمنين } : أي يخرج عن إجماع المسلمين .
{ نوله ما تولى } : نخذله فنتركه وما تولاه من الباطل والشر والضلال حتى يهلك فيه .
{ ونصله نار جهنم } : أي ندخله النار ونحرقه فيها .
معنى الآيتين :
ما زال السياق في بني أبيرق ففي الآية الأولى ( 114 ) يخبر تعالى أنه لا خير في كثير من أوئك المتناجين ولا في نجواهم لنفاقهم وسوء طواياهم اللهم إلا في نجوى أمر أصحابها بصدقة تعطى لمحتاج إليها من المسلمين ، أو معروف استحبه الشارع أو أوجبه من البر والإِحسان أو إصلاح بين الناس للإِبقاء على الألفة والمودة بين المسلمين . ثم أخبر تعالى أن من يفعل ذلك المذكور من الصدقة والمعروف والإِصلاح بين الناس طلباً لمرضاة الله تعالى فسوف يثيبه بأحسن الثواب ألا وهو الجنة دار السلام إذ لا أجر أعظم من أجر يكون الجنة .
هذا ما دلت عليه الآية ألاولى أما الثانية ( 115 ) فإن الله تعالى يتوعد أمثال طعمة بن أبيرق فيقول جل ذكره . { ومن يشاقق الرسول } أي يخالفه ويعاديه { من بعد ما تبين له الهدى } أي من بعد ما عرف أنه رسول الله حقاً جاء بالهدى ودين الحق ، ثم هو مع معاداته للرسول يخرج من جماعة المسلمين ويتبع غير سبيلهم هذا الشقي الخاسر { نوله ما تولى } أي نتركه لكفره وضلاله خذلاناً له في الدنيا ثم نصله نار جهنم يحترق فيها ، وبئس المصير جهنم يصير إليها المرء ويخلد فيها .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين :
1- حرمة تناجي إثنين دون الثالث لثبوت ذلك في السنة .
2- الاجتماعات السرية لا خير فيها إلا اجتماعاً كان لجمع صدقة ، أو لأمر بمعروف أو إصلاح بين متنازعين من المسلمين مختلفين .
3- حرمة الخروج عن أهل السنة والجماعة ، واتباع الفرق الضالة التي لا تمثل الإِسلام إلا في دوائر ضيقة كالروافض ونحوهم .
(1/298)
________________________________________
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)
شرح الكلمات :
{ أن يشرك به } : أن يعبد معه غيره من مخلوقاته بأي عبادة كانت .
{ إن يدعون } : أي ما يدعون .
{ إلا إناثاً } : جمع أنثى لأن الآلهة مؤنثة ، أو أمواتاً لأن الميت يطلق عليه لفظ أنثى بجامع عدم النفع .
{ مريداً } : بمعنى ما رد على الشر والإِغواء للفساد .
{ نصيباً مفروضاً } : حظاً معيناً . أو حصة معلومة .
{ فليبتكن } : فليقطعن .
{ خلق الله } : مخلوق الله أي ما خلقه الله تعالى .
{ الشيطان } : الخبيث الماكر الداعي إلى الشر سواء كان جنياً أو إنسياً .
{ يمنيهم } : يجعلهم يتمنون كذا وكذا ليلهيهم عن العمل الصالح .
معنى الآيات :
قوله تعالى { إن الله لا يغفرلا أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } إخبار منه تعالى عن طعمة بن أبيرق بأنه لا يغفر له وذلك لموته على الشرك ، أما إخوته الذين لم يموتوا مشركين فإن أمرهم إلى الله تعالى إن شاء غفر له وإن شاء آخذهم كسائر مرتكبي الذنوب غير الشرك والكفر . وقوله تعالى { ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً } أي ضل عن طريق النجاة والسادة ببعده عن الحق بعداً كبيراً وذلك بإِشراكه بربه تعالى غيره من مخلوقاته .
وقوله تعالى { إن يدعون من دونه إلا إناثاً } هذا بيان لقبح الشرك وسوء حال أهله فأخبر تعالى أن المشركين ما يعبدون إلا أمواتاً لا يسمعون ولا يبصرون ولا ينطقون ولا يعقلون . إذ أوثانهم ميتة وكل ميت فهو مؤنث زيادة على أن أسماءها مؤنثة كاللات والعزى ومناة ونائلة ، كما هم في واقع الأمر يدعون شيطاناً مريداً إذ هو الذي دعاهم إلى عبادة الأصنام فعبدوها فهم إذاً عابدون للشيطان في الأمر لا الأوثان ، ولذا قال تعالى : { وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً } لعنه الله وأبلسه عند إبائه السجود لآدم ، { وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً } أي عدداً كبيراً منه يعبدونني ولا يبعدونك وهم معلومون معروفون بمعصيتهم إياك ، وطاعتهم لي . وواصل العدو تبجحة قائلا : { ولأضلنهم } يريد عن طريق الهدى { ولأمنينهم } يريد أعوقهم عن طاعتك بالأماني الكاذبة بأنهم لا يلقون عذاباً أو أنه سيغفر لهم . { ولآمرنهم } فيطعوني { فليبتكن آذان الأنعام } أي ليجعلون لآلهتهم نصيباً مما رزقتهم ويعلمونها بقطع آذانها لتعرف أنها للآله كالبحائر والسوائب التي يجعلونها للآلهة . { ولآمرنهم } أيضاً فيطيعونني فيغيرون خلق الله بالبدع والشرك ، والمعاصي كالوشم والخصي . هذ ما قاله اليطان ذكره تعالى لنا فله الحمد . ثم قال تعالى { ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً } لأن من والى الشيطان عادى الرحمن ومن عادى الرحمن تم له والله أعظم الخسران يدل على ذلك قوله تعالى { يعدهم ويمنيهم } فيعوقهم عن طلب النجاة والسعادة { وما يعدهم الشيطان إلا غروراً } إذ هو لا يملك من الأمر شيئاً فكيف يحقق لهم نجاة أو سعادة إذاً؟ وهذا حكم الله تعالى يعلن في صراحة ووضوح فليسمعوه : { أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصاً } أي معدلاً أو مهرباً .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- سائر الذنوب كابئرها وصغائرها قد يغفرها الله تعالى لمن شاء إلا الشرك فلا يغفر لصاحبه .
2- عبدة الأصنام والأوهام والشهوات والأهواء هم في الباطن عبدة الشيطان إذ هو الذي أمره فأطاعوه .
3- من مظاهر طاعة الشيطان المعاصي كبيرها وصغيرها إذ هو الذي أمر بها وأطيع فيها .
4- حرمة الوشم والوسم والخصاء إلا ما أذن فيه الشارع .
5- سلاح الشيطان العدة الكاذبة والأمنية الباطلة ، والزينة الخادعة .
(1/299)
________________________________________
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
شرح الكلمات :
{ آمنوا } : صدقوا بالله ورسوله .
{ وعملوا الصالحات } : الطاعات إذ كل طاعة لله ورسوله هي عمل صالح .
{ قيلاً } : أي قولاً .
معنى الآية الكريمة :
لما بين تعالى جزاء الشرك والمشركين عبدة الشيطان بين في هذه الآية جزاء التوحيد والموحدين عبيد الرحمن عز وجل ، وأنه تعالى سيدخلهم بعد موتهم جنات تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار وأن خلودهم مقدر فيها بإذن الله ربهم فلا يخرجون منها أبداً وعدهم ربهم بهذا وعد الصدق ، وليس هناك من هو أصدق وعداً ولا قولا من الله تعالى .
هداية الآية
من هداية الآية
1- الإِيمان الصادق والعمل الصحيح الصالح هما مفتاح الجنة وسبب دخولها .
2- صِدْق وعْدِ الله تعالى ، وصِدق قوله عز وجل .
3- وجوب صِدق الوعد من العبد لأن خلق الوعد من النفاق لحديث « وإذا واعد أخلف » .
- وجوب صدق القول والحديث لأن الكذب من النفاق لحديث وإذا حدث كذب .
(1/300)
________________________________________
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
شرح الكلمات :
{ أمانيكم } : جمع أمنية : وهي ما يقدره المرء في نفسه ويشتهيه مما يتعذر غالباً تحقيقه .
{ أهل الكتاب } : اليهود والنصارى .
{ سوءاً } : كل ما يسىء من الذنوب والخطايا .
{ ولياً } : يتولى أمره فيدفع عنه المكروه .
{ نقيراً } : النقير : نقرة في ظهر النواة .
{ ملة إبراهيم } : عبادة الله وحده لا شريك له بما شرعه الله تعالى .
{ خليلاً } : الخليل : المحب الذي تخلل حبه مسالك النفس فهو أكبر من الحبيب .
{ محيطاً } : علما وقدرة إذ الكون كله تحت قهره ومدار بقدرته وعلمه .
معنى الآيات :
روي أن هذه الآية نزلت لما تلاحى مسلم ويهودي وتفاخرا فزعم اليهودي أن نبيهم وكتابهم ودينهم وجد قبل كتاب ونبي المسلمين ودينهم فهم أفضل ، ورد عليه المسلم بما هو الحق فحكم الله تعالى بينهما بقوله : { ليس بأمانيكم } أيها المسلمون { ولا أماني أهل الكتاب } من يهود ونصارى أي ليس الأمر والشأن بالأماني العذاب ، وإنما الأمر والشأن في هذه القضية أنه سنة الله تعالى في تأثير الكسب الإِرادي على النفس بالتزيكة أو التدسية فمن عمل سوءاً من الشرك والمعاصي ، كمن عمل صالحاً من التوحيد والطاعات يجز بحسبه فالسوء بخبث النفس فيحرمها من مجاورة الأبرار والتوحيد والعمل الصالح يزكيها فيؤهلها لمجاورة الأبرار ، ويبعدها عن مجاورة الفجار . وقوله تعالى : { ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً } لأن سنن الله كأحكامه لا يقدر أحد على تغييرها أو تبديلها بل تمضي كما هي فلا ينفع صاحب السوء أحد ، ولا يضر صاحب الحسنات آخر . وقوله تعالى : { ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً } فإنه تقرير لسنته تعالى في تأثير الكسب على النفس والجزاء بحسب حال النفس زكاة وطهراً وتدسيه وخبثاً ، فإنه من يعمل الصالحات وهو مؤمن تطهر نفسه ذكراً كان أو أنثى ويتأهل بذلك لدخول الجنة ، ولا يظلم مقدار نقير فضلاً عما هو أكثر وأكبر وقوله تعالى : { ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلاً } إشادة منه تعالى وتفضيل للدين الإِسلامي على سائر الأديان إذ هو قائم على أساس إسلام الوجه لله وكل الجوارح تابعة له تدور في فلك طاعة الله تعالى مع الإِحسان الكامل وهو إتقان العبادة وأداؤها على نحو ما شرعها الله تعالى وابتاعه ملة إبراهيم بعبادة الله تعالى فضل الإِسلام الذي هو دين إبراهيم الذي اتخذه ربه خليلاً وقوله تعالى : { ولله ما في السموات وما في الأرض وكان الله بكل شىء محيطاً } زيادة على أنه إخبار بسعة ملك الله تعالى وسعة علمه وقدرته وفضله فإنه رفع لما قد يتوهم من خلة إبرهيم أن الله تعالى مفتقر إلى إبراهيم أو له حاجة إليه ، فأخبر تعالى أن له ما في السموات والأرض خلقاً وملكاً وإبراهيم في جملة ذلك فكيف يفتقر إليه أو يحتاج إلى مثله وهو رب كل شىء وملكه .
(1/301)
________________________________________
هداية الآيات
من هداية الآيات : 1- ما عند الله لا ينال بالتمنى ولكن بالإِيمان والعمل الصالح أو التقوى والصبر والإِحسان .
2- الجزاء أثر طبيعي للعمل وهو معنى { ومن يعمل سوء يجز به } ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة } .
3- فضل الإِسلام على سائر الأديان .
4- شرف إبراهيم عليه السلام باتخاذه ربه خليلاً .
5- غنى الله تعالى عن سائر مخلوقاته ، وافتقار سائئر مخلوقاته إليه عز وجل .
(1/302)
________________________________________
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
شرح الكلمات :
{ يستفتونك } : يطلبون منك الفتيا في شأن النساء وميراثهن .
{ وما يتلى عليكم } : يقرأ عليكم في القرآن .
{ ما كتب لهن } : ما فرض لهن من المهور والميراث .
{ بالقسط } : بالعدل
{ نشوزاً } : ترفعاً وعدم طاعة .
{ وأحضرت الأنفس الشح } : جبلت النفوس على الشح فلا يفارقها أبداً .
{ فتذروها كالمعلقة } : فتتركوها كالمعلقة ما هي بالمزوجة ولا المطلقة .
{ من سعته } : من رزقه الواسع .
{ وكان الله واسعاً حكيما } : واسع الفضل حكيماً يعطي فضله حسب علمه وحكمته .
معنى الآيات :
هذه الآيات الأربع كل آية منها تحمل حكماً شرعياً خاصا فالأولى ( 127 ) نزلت إجابة لتساؤلات من بعض الأصحاب حول حقوق النساء ما لهن وما عليهن لأن العرف الذي كان سائداً في الجاهلية كان يمنع النساء والأطفال من الميراث بالمرة وكان اليتامى لا يراعى لهم جانب ولا يحفظ لهم حق كامل فلذا نزلت الآيات الأولى من هذه السورة وقررت حق المرأة والطفل في الإِرث وحضت على المحافظة على مال اليتامى وكثرت التساؤلات لعل قرآناً ينزل إجابة لهم حيث اضطربت نسوهم لما نزل فنزلت هذه الآية الكريمة تردهم إلى ما في أول السورة وأنه الحكم النهائي في القضية فلا مراجعة بعد هذه ، فقال تعالى وهو يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم { ويستفتونك في النساء } أي وما زالوا يستفتونك في النساء ، أي في شأن ما لهن وما عليهن من حقوق كالإِرث والمهر وما إلى ذلك . قل لهم أيها الرسول { الله فيتيكم فيهن } وقد أفتاكم فيهن وبين لكم ما لهن ما عليهن . وقوله تعالى : { وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء التي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنحكوهن } أي وما يتلى عليكم في يتامى النساء في أول السورة كافٍ لكم لا تحتاجون معه إلى من يفتيكم أيضاً إذ بين لكم أن من كانت تحته يتيمة دميمة لا يرغب في نكاحها فليعطها ما لها وليزوجها غيره وليتزوج هو من شاء ، ولا يحل له أن يحبسها في بيته لأجل مالها ، وإن كانت جميلة وأراد أن يتزوجها فلعطها مهر مثيلاتها ولا يبخسها من مهرها شيئاً . وقوله { والمستضعفين من الولدان } أي وقد أفتاكم بما يتلى عليكم من الآيات في أول السورة في المستضعفين من الولدان حيث قد أعطاهم حقهم وافياً في آية { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } الآية .
فلم هذه المراجعات والاستفتاءات؟؟ وقوله تعالى { وأن تقوموا لليتامى بالقسط } أي وما تلى عليكم في أول السورة كان آمراً إياكم بالقسط لليتامى والعدل في أموالهم فارجعوا إليه في قوله : { وآتوا اليتامى أمواله ولا تبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوباً كبيراً } وقوله تعالى في ختام الآية { وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم } حث لهم على فعل الخير بالإِحسان إلى الضعفين المرأة واليتيم زيادة عل توفيتهما حقوقهما وعدم المساس بها .
(1/303)
________________________________________
هذا ما دلت عليه الآية الكريمة { ويستفتونك . . . . . } إلخ .
أما الآية الثانية ( 128 ) { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً } فقد تضمنت حكماً عادلاً وإرشاداً ربانيا سديداً وهو أن الزوجة إذا توقعت من زوجها نشوزاً أي ترفعاً عليها أو إعراضاً عنها ، وذلك لكبر سنها أو لقلة جمالها وقد تزوج عليها غيرها في هذا الحال في الإِمكان أن تجري مع زوجها صلحاً يحفظ لها بقاءها في بيتها عزيزة محترمة فتتنازل له عن بعض حقها في الفراش وعن بعض ما كان واجباً لها وهذا خير لها من الفراق . ولذا قال تعالى { والصلح خير } وقوله تعالى { واحضرت الأنفس الشح } يريد أن الشح ملازم للنفس البشرية لا يفارقها والمرأة كالرجل في هذا إلا أن المرأة أضن وأشح بنصيبها في الفراش وبباقي حقوقها من زوجها . إذاً فليراع الزوج هذا ولذا قال تعالى { وإن تحسنوا } أيها الأزواج إلى نسائكم { وتتقوا } الله تعالى فيهن فلا تحرموهن ما لهن من من حق في الفراش وغيره فإن الله تعالى يجزيكم بالإِحسان إحساناً بالخير خيراً فإنه تعالى { بما تعملون خبير } .
هذا ما دلت عليه الآية ( 128 ) وأما الآية الثالثة ( 129 ) وهي قوله تعالى : { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفوراً رحيماً } فقد تضمنت حقيقة كبرى وهي عجز الزوج عن العدل بين زوجاته اللائي في عصمته فمهما حرص على العدل وتوخاه فإنه لن يصل إلى منتهاه أبداً والمراد بالعدل هنا في الحب والجماع . أما في القسمة والكساء والغذاء والعشرة بالمعروف فهذا مستطاع له ، ولما علم تعالى هذا من عبده رخص له في ذلك ولم يؤاخذه بميله النفس كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك » والمحرم على الزوج هو الميل الكامل إلى إحدى زوجاته عن باقيهن ، لأن لك يؤدي أن تبقى المؤمنة في وضع لا هي متزوجة تتمتع بالحقوق الزوية ولا هي مطلقة يمكنها أن تتزوج من رجل آخر تسعد بحقوقها معه وهذا معنى قوله تعالى { فتذروها كالمعلقة } وقوله تعالى : { وإن تصلحوا } أي أيها الأزواج في أعمالكم وفي القسم بين زوجاتكم وتتقون الله تعالى في ذلك فلا تميلوا كل الميل ، ولا تجوروا فيما تطيقون العدل فيه فإنه تعالى يغفر لكم ما عجزتم عن القيام به لضعفكم ويرحمكم في دنياكم وأخراكم لأن الهل تعالى كان وما زال غفوراً للتائبين رحيماً بالمؤمنين .
هذا ما دلت عليه الآية الثالثة أما الآية الرابعة ( 130 ) وهي قوله تعالى : { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعاً حكيما } فإن الله تعالى يعد الزوجين الذين لم يوفقا للإِصلاح بينهما لشح كل منهما ماله وعدم التنازل عن شيء من ذلك يعدهما ربهما إن هم تفرقا بالمعروف أن يغني كلا منهما من سعته وهو الواسع الحكيم فالمرأة يرزقها زوجاً خيراً من زوجها الذي فارقته ، والرجل يرزقه كذلك امرأة خيراً مما فارقها لتعذر الصلح بينهما .
(1/304)
________________________________________
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير مبدأ إرث النساء والأطفال ، والمحافظة على مال اليتامى وحرمة أكلها .
2- استحباب الصلح بين الزوجين عند تعذر البقاء مع بعضهما إلا به .
3- تعذر العدل بين الزوجين في الحب والوطء استلزم عدم المؤاخذة به واكتفى الشارع بالعدل في الفراش والطعام والشراب والكسوة والمعاشرة بالمعروف .
4- الترغيب في الإِصلاح والتقوى وفعل الخيرات .
5- الفرقة بين الزوجين إن كانت على مبدأ الإِصلاح والتقوى أعقبت خيراً عاجلاً أو آجلاً .
(1/305)
________________________________________
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
شرح الكلمات :
{ ولله ما في السموات وما في الأرض } : أي خلقاً وملكاً وتصرفاً وتدبيراً .
{ وصينا } : عهدنا إليهم بذلك أي بالتقوى .
{ أوتوا الكتاب } : اليهود والنصارى .
{ الوكيل } : من يفوض إليه الأمر كله ويقوم بتدبيره على أحسن الوجوه .
{ ثواب الدنيا } : جزاء العمل لها .
{ ثواب الآخرة } : جزاء العم لها وهو الجنة .
{ سمعيا بصيراً } : سميعاً : لأقوال العباد بصيراً : بأعمالهم وسيجزيهم بها خيراً أو شراً .
معنى الآيتين :
لما وعد تبارك وتعالى كلا من الزوجين المتفرقين بالإغناء عن صاحبه ذكر أنه يملك ما في السموات وما في الأرض ولذا فهو قادر على اغنائهما لسعة ملكه وعظيم فضله ، ثم واجه بالخطاب الكريم الأمة جمعاء ومن بينها بني أبيرق فقال { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } يريد من اليهود والنصارى وغيرهم أوصاهم بتقواه عز وجل فلا يقدموا على مشاقته ولا يخرجوا عن طاعته بترك ما أوجب أو بفعل ما حرم ، ثم أعلمهم أنهم وإن كفروا كما كفر طعمة وارتد فإن ذلك غير ضائره شيئاً ، لأنه ذو الغنى والحمد ، وكيف وله جميع ما في السموات وما في الأرض من كائنات ومخلوقات وهو ربها ومالكها والمتصرف فيها .
هذ ما تضمنته الآية الأولى ( 131 ) أما الآية الثانية ( 132 ) فقد كرر تعالى فيها الإِعلان عن استحقاقه حافظاً ووكيلاً . وفي الآية الثالثة ( 133 ) يخبر تعالى أنه قادر على إذهاب كافة الجنس البشري واستبداله بغيره وهو على كل ذلك قدير ، فقال تعالى : { إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين } وذلك لعظيم قدرته وكفاية كالته . وفي الآية الرابعة والأخيرة في هذا السياق ( 134 ) يقول تعالى مرغباً عباده فيما عنده من خير الدنيا والآخرة من كان يريد بعمله ثواب الدنيا { فعند الله ثواب الدنيا والآخرة } فلم يقر العبد عمله على ثواب الدنيا ، وهو يعلم أن ثواب الآخرة عن دا لله أيضاً فليطلب الثوابين معاً من الله تعالى ، وذلك بالإِيمان والتقوى والإِحسان ، وسيجزيه تعالى بعلمه ولا ينقصه له وذلك لعلمه تعالى وقدرته ، { وكان الله سميعاً بصيراً } ، ومن كان كذلك فلا يخاف معه ضياع الأعمال .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- الوصية بالتقوى ، وذلك بترك الشرك والمعاصي بعد الإشيمان وعمل الصالحات .
2- غنى الله تعالى عن سائر خلقه .
3- قدرة الله تعالى على إذهاب الناس كلهم والإِتيان بغيرهم .
4- وجوب الإِخلاص في العمل لله تعالى وحرمة طلب الآخرة بطلب الدنيا .
(1/306)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
شرح الكلمات :
{ قوامين } : جمع قوام : وهو كثير القيام بالعدل .
{ بالقسط } : بالعدل وهو الاستقامة والتسوية بين الخصوم .
{ شهداء } : جمع شهيد : بمعنى شاهد .
{ الهوى } : ميل النفس إلى الشيء ورغبتها فيه .
{ تلووا } : أي ألسنتكم باللفظ تحريفاً له حتى لا تتم الشهادة على وجهها .
{ تعرضوا } : تتركوا الشهادة أو بعض كلماتها ليبطل الحكم .
معنى الآيات :
قوله تعالى في هذه الآية ( 135 ) { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط } أي بالعدل { شهداء لله } إذْ بشهادتكم ينتقل الحق من شخص إلى آخر حيث أقامكم الله ربكم شهداء له في الأرض تؤدى بواسطتكم الحقوق إلى أهلها ، وَبناء على هذا فأقيموا الشهادة لله ولو شهادتكم على أنفسكم أو والديكم أو أقرب الناس إليكم وسواء كان المشهود عليه غنياً أو فقيراً فلا يحملنكم غنى الغنى ولا فقر الفقير على تحريف الشهادة أو كتمانها ، فالله تعالى ربهما أولى بهما وهو يعطي ويمنع بشهادتكم فأقيموها وحسبكم ذلك واعلموا أنكم إن تللوا ألسنتكم بالشهادة تحريفاً لها وخروجاً بها عن أداء ما يترتب عليها أو تعرضوا عنها فتتركوها أو تتركوا بعض كلماتها فيفسد معناها ويبطل مفعولها فإن الله بعملكم ذلك وبغيره خبير وسوف يجزيكم به فيعاقبكم في الدنيا أو في الآخرة ألا فاحذروا .
هذه الآية الكريمة يدخل فيها دخولاً أولياً من شهدوا لأبناء أبيرق بالإِسلام والصلح كما هي خطاب للمؤمنين إلى يوم القيامة وهي أعظم آية في هذا الباب فليتق الله المؤمنون في شهادتهم .
أما الآية الثانية ( 136 ) { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله } فهي في خطاب أهل الكتاب خاصة وفي سائر المؤمنين عامة فالمؤمنون تدعوهم إلى تقوية إيمانهم ليبلغوا فيه مستوى اليقين ، أما أهل الكتاب فهي دعوة لهم للإِيمان الصحيح ، لأن إيمانهم الذي هم عليه غير سليم فلذا دعوا إلى الإِيمان الصحيح فقيل لهم { آمنوا بالله ورسوله } محمد { والكتاب الذي نزل على رسوله } وهو القرآن الكريم ، { والكتاب لذي أنزل من قبل } وهو التوراة والإِنجيل ، لأن اليهود لا يؤمنون بالإِنجيل ، ثم أخبرهم محذراً لهم أن { من يكفر بالله وملائكة وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل } طريق الهدى والسعادة { ضلالاً بعيداً } لا ترجى هدايته ، وعليه فسوف يهلك ويخسر خسراناً أبدياً .
ثم أخبرهم تعالى في الآية بعد هذه ( 137 ) مقرراً الحكم بالخسران الذي تضمنته الآية قبلها فقال عز وجل : { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا } بمحمد صلى الله عليه وسلم وكتابه وبما جاء به { لم يكن الله } أي لم يكن في سنة الله أن يغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً ينجون به ويسعدون فيه ألا فليحذر اليهود والنصارى هذا وليذكروه ، وإلا فالخلود في نار جهنم لازم لهم ولا يهلك على الله إلا هالك .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وجوب العدل في القضاء والشهادة .
2- حرمة شهادة الزور وحرمة التخلي عن الشهادة لمن تعينت عليه .
3- وجوب الاستمرار على الإِيمان وتقويته حتى الموت عليه .
4- بيان أركان الإِيمان وهي الإِيمان بالله ، وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر .
5- المرتد يستتاب ثلاثة أيام وإلا قتل كفراً أخذاً من قوله : { ثم آمنوا ثم كفروا } .
(1/307)
________________________________________
بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
شرح الكلمات :
{ بشر المنافقين } : البشارة : الخبر الذي تتأثر به بشرة من يلقى عليه خيراً كان أو شراً .
والمنافق : من يبطن الكفر ويظهر الإيمان تقيّة ليحفظ دمه وماله .
{ أولياء } : يوالونهم محبة ونصرة لهم على المؤمنين .
{ العزة } : الغلبة والمنعة .
{ يستهزأ بها } : يذكونها استخفافاً بها وإنكاراً وجحوداً لها .
{ يخوضوا } : يتكلموا في موضوع آخر من موضوعات الكلام .
{ مثلهم } : أي في الكفر والإِثم .
{ يتربصون بكم } : ينتظرون متى يحصل لكم إنهزام أو إنكسار : فيعلنون عن كفرهم .
{ نصيب } : أي من النصر وعبر عنه بالنصيب القليل لأن انتصارهم على المؤمنين نادر .
{ نستحوذ عليكم } : أي نستول عليكم ونمنعكم من المؤمنين إن قاتلوكم .
{ سبيلا } : أي طريقاً إلى إذلالهم واستعبادهم والتسلط عليهم .
معنى الآيات :
قوله تعالى : { وبشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليما } يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر المنافقين بلفظ البشارة لأن المخبر به يسوء وجوهم وهو العذاب الأليم وقد يكون في الدنيا بالذل والمهانة والقتل ، وأما في الآخرة فهو أسوأ العذاب وأشده وهو لازم لهم لخبث نفوسهم وظلمة أرواحهم ، ثم وصفهم تعالى بأخس صفاتهم وشرها فقال : { الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } فيعطون محبته ونصرتهم وولاءهم للكافرين ، ويمنعون ذلك المؤمنين وذلك لأن قلوبهم كافرة آثمة لم يدخلها إيمان ولم يُنزها عمل الإِسلام ، ثم وبخهم تعالى ناعيا عليهم جهلهم فقال : { أيبغون عندهم العزة } أي يطلبون العزة أي المنعة والغلبة من الكافرين أجهلوا أم عموا فلم يعرفوا { أن العزة لله جميعاً } فمن أعزه الله عز ومن أذله ذل والعزة تُطلب بالإِيمان وصالح الأعمال لا بالكفر والشر والفساد . هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى ( 138 ) والثانية ( 139 ) .
أما الآية الرابعه ( 140 ) فإن الله تعالى يؤدب المؤمنين فيذكرهم بما أنزل عليهم في سورة الأنعام حيث نهاهم عن مجالسة أهل الباطل إذا خاضوا في الطعن في آيات الله ودينه فقال تعالى : { وإذا رأيت الذين يخضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخضوا في حديث غيره ، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } هذا الأدب أخذ الله تعالى به رسوله والمؤمنين ، وهم في مكة قبل الهجرة ، لأن سورة الأنعام مكية ولما هاجروا إلى المدينة ، وبدأ النفاق وأصبح للمنافقين مجالس خاصة ينتقدون فيها المؤمنين ويخوضون فيها في آيات الله تعالى استهزاء وسخرية ذكر الله تعالى المؤمنين بما أنزل عليهم في مكة فقال : { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ، إنكم إذاً } أي إذا رضيتم بالجلوس معهم وهم يخوضون في آيات الله { مثلهم } في الإِثم والجريمة ولاجزاء أيضاً ، { إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً } فهل ترضون أن تكونوا معهم في جهنم ، وإن قلتم لا إذا فلا تجالسوهم .
(1/308)
________________________________________
ثم ذكر تعالى وصفا آخر للمنافقين يحمل التنفير منهم والكراهية والبغض لهم فقال : { الذين يتربصون بكم } أي ينتظرون بكم الدوائر ويتحينون الفرص { فإن كان لكم فتح من الله } أي نصر وغنيمة قالو : { ألم نكن معكم } فأِركونا في الغنيمة ، { وإن كان للكافرين نصيب } في النصر قالوا لهم { ألم نستحوذ عليكم } أي نستول عليكم { ونمنعكم من المؤمنين } أن يقاتلوكم ، فأعطونا مما غنمتم ، وهكذا المنافقون يمسكون العصا من الوسط فأي جانب غلب كانوا معه . ألا لعنة الله على المنافقين وما على المؤمنين إلا الصبر لأن مشكلة المنافقين عويصة الحل فالله يحكم بينهم يوم القيامة . أما الكافرون الظاهرون فلن يجعل الله تعالى له على المؤمنين سبيلا لا لاستئصالهم وإبادتهم ، ولا لاذلالهم والتسلط عليه ما داموا مؤمنين صادقين في إيمانهم وهذا ما ختم الله تعالى به الآية الكريمة إذ قال : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- حرمة اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين .
2- الباعث للناس على اتخاذ الكافرين أولياء هو الرغبة في العزة ورفع المذلة وهذا باطل فالعزة لله ولا تطلب إل منه تعالى بالإِيمان واتباع منهجه .
3- حرمة مجالسة أهل الباطل إذا كانوا يخضون في آيات الله نقداً واستهزاء وسخرية .
4- الرضا بالكفر كفر ، والرضا بالإِثم إثم .
5- تكفل الله تعالى بعزة المؤمنين الصادقين ومنعتهم فلا يسلط عليهم أعداءه فيستأصلونهم ، أو يذلونهم ويتحكمون فيهم .
(1/309)
________________________________________
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
شرح الكلمات :
{ يخادعون الله } : بإظهارهم ما يحب وهو الإِيمان والطاعات ، وإخفائهم الكفر والمعاصي .
{ وهو خادعهم } : بالتستر عليهم وعدم فضيحتهم ، وبعدم إنزال العقوبة بهم .
{ يراءون } : أي يظهرون الطاعات للمؤمنين كأنهم مؤمنون وما هم بمؤمنين .
{ مذبذبين } : أي يترددون بين المؤمنين والكفارين فأى جانبٍ عز وكانوا معه .
{ معنى الآيتين } :
يخبر تعالى أن المنافقين في سلوكهم الخاص يخادعون الله تعالى بإظهارهم الإِيمان به وبرسوله وهم غير مؤمنين إذ الخداع أن تري من تخادعه ما يحبه منك وتستر عليه ما يكرهه والله تعالى عاملهم بالمثل فهو تعالى أراهم ما يحبونه وستر عليهم ما يكرهونه منه وهو العذاب المعد لهم عاجلا أو آجلاً ، كا أخبر عنهم أنه إذا قاموا إلى أداء الصلاة قاموا كسالى متباطئين لأنهم لا يؤمنون بالثواب الأخروى فلذا هم يراءون بالأعمال الصالحة المؤمنين حتى لا يتهمونهم بالكفر ، كما أنهم لا يذكرون الله تعالى إلا ذكراً قليلاً في الصبح وخارج الصلاة ، وذلك لعدم إيمانه بالله تعالى وعدم حبهم له كما أخبر عنهم بأنهم مذبذبون بين الكفر والإِيمان والمؤمنين والكافرين فلا إلى الإِيمان والمؤمنين يسكنون ، ولا إلى الكفر والمنافقين يسكنون فيهم في تردد وحسرة دائمون ، وهذه حال من يضله الله فإن من يضلل الله لا يوجد لهدايته سبيلٌ .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين :
1- بيان صفات المنافقين .
2- قبح الرياء وذم المرائين .
3- ذم ترك الذكر والتقليل منه لأمر الله تعالى بالإِكثار منه في قوله { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً } - ذم الحيرة والتردد في الأمور كلها .
(1/310)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
شرح الكلمات :
{ سلطانا مبينا } : حجة واضحة لتعذيبكم .
{ الدرك الأسفل } : الدرك : كالطابق ، والدركة كالدرجة .
{ وأصلحوا } : ما كانوا قد أفسدوه من العقائد والأعمال .
{ واعصموا بالله } : تمسكوا بدينه وتوكلوا عليه .
{ وأخلصوا دينهم لله } : تخلوا عن النفاق والشرك .
معنى الآيات :
ما زال السياق في إرشاد الله تعالى المؤمنين إلى ما يعزهم ويكملهم ويسعدهم ففي هذه الآية ( 144 ) يناديهم تعالى بعنوان الإِيمان وهو الروح الذي به الحاية ونهاهم عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين فيقول : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين } ومعنى اتخاذهم أولياء موادتهم ومناصرتهم والثقة فيهم والركون إليهم والتعاون معهم ، ولما كان الأمر ذا خطورة كاملة عليهم هددهم تعالى بقوله : { أتريدون أن تجعلوا لله سلطانا مبيناً } فيتخلى عنكم ويسلط عليكم أعداءه الكافرين فيستأصلوكم ، أو يقهروكم ويستذلوكم ويتحكموا فيكم . ثم حذرهم من النفاق أن يتسرب إلى قلوبهم فأسمعهم حكمه العادل في المنافقين الذين هم رؤوس الفتنة بينهم فقال : { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } ، فأسفل طبقة في جهنم هي مأوى المنافقين يوم القيامة ، ولن يوجد لهم ولي ولا نصير أبداً ثم رحمة بعباده تبارك وتعالى يفتح باب التوبة للمنافقين على مصراعيه ويقول لهم { إلا الذين تابوا } إلى ربهم فآمنوا به وبرسوله حق الإِيمان { وأصلحوا } أعمالهم { واعتصموا بالله } ونفضوا أيديهم من أيدي الكافرين ، { وأخلصوا دينهم لله } فلم يبقوا يراءون أحداً بأعمالهم . فأولئك الذين ارتفعوا إلى هذا المستوى من الكمال هم مع المؤمنين جزاؤهم واحد ، وسوف يؤتي الله المؤمنين أجراً عظيماً وهو كرامة الدنيا وسعادة الآخرة .
وأخيراً في الآية ( 147 ) يقرر تعالى غناه عن خلقه وتنزهه عن الرغبة في حب الإِنتقام فإن عبده مهما جنى وأساء ، وكفر وظلم إذا تاب وأصلح فآمن وشكر . لا يعذبه أدنى عذاب إذ لا حاجة إلى تعذيب عباده فقال عز وجل وهو يخاطب عباده { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وأمنتم ، وكان الله شاكراً عليما } لا يضيع المعروف عنده . لقد شكر لبغي سقيها كلباً عطشان فغفر لها وأدخلها الجنة .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- حرمة اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين .
2- إذا عصى المؤمنون ربه فاتخذوا الكافرين أولياء سلط الله عليه أعداءهم فساموهم الخسف .
3- التوبة تجب ما قبلها حتى إن التائب من ذبنه كمن لا ذنب له ومهما كان الذنب الذي غشيه .
4- لا يعذب الله تعالى المؤمن الشاكر لا في الدنيا ولا في الآخرة فالإِيمان وَالشكر أمان الإِنسان .
(1/311)
________________________________________
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
شرح الكلمات :
{ السوء } : ما سوء إلى من قيل فيه أو فعل به .
{ سميعاً عليماً } : سميعاً للأقوال عليماً بالأعمال .
{ إن تبدوا } : تظهروا ولا تخفوا .
{ تعفوا عن سوء } : أي لا تؤاخذوا به .
معنى الآيتين :
يخبر تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء ، ولازم هذا أن عباده المؤمنين يجب أن يكرهوا ما يكره ربهم ويحبوا ما يحب وهذا شرط الولاية وهي الموافقة وعدم المخالفة . ولما حرم تعالى على عباده الجهر بالسوء بأبلغ عبارة وأجمل أسلوب ، استثنى المظلوم فإن له أن يجهر بمظلمته لدى الحاكم ليرفع عنه الظلم فقال تعالى : { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله - ( وما زال ) - سميعا عليما } ألا فليتق فلا يعصى بفعل السوء ولا بقوله . ثم انتدب عباده المؤمنين الى فعل الخير في السر أو العلن ، وإلى العفو عن صاحب السوء فقال : { إن تدبوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفواً قديراً } فسيكسب فاعل الخير خيراً أبداه أو أخفاه وسيعفو عن صاحب العفو حينما تزل قدمه فيجني بيده أو بلسانه ما يستوجب به المؤاخذة فيشكر الله تعالى له عفوه السابق فيعفو عنه { وكان الله عفواً قديراً } .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين :
1- حرمة الجهر بالسوء والسربه كذلك فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن ينطق بما يسوء الى القلوب والنفوس إلا في حالة الشكوى وإظهار الظلم لا غير .
2- استحباب فعل الخير وسره كجهره لا ينقص أجره بالجهر ولا يزيد بالسر .
3- استحباب العفو عن المؤمن إذا بدا منه سوء ، ومن يعف يعف الله عنه .
(1/312)
________________________________________
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
شرح الكلمات :
{ ورسله } : الرسل جمع رسول وهم جَم غفير قيل عددهم ثلثمائة وأربعة عشر رسولاً
{ سبيلاً } : أي طريقاً بين الكفر والإِيمان ، وليس ثم إلا طريق واحد وهو الإِيمان أو الكفر فمن آمن بكل الرسل فهو المؤمن ، ومن آمن بالبعض وكفر بالبعض فهو الكافر كمن لم يؤمن بأحد منهم .
{ ولم يفرقوا } : كما فرق اليهود فآمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وكما فرق النصارى آمنوا بموسى وعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم فهم لذلك كفار .
{ أجورهم } : أجر إيمانهم برسل الله وعملهم الصالح وهو الجنة دار النعيم .
معنى الآيات :
يخبر تعالى مقرراً حكمه على اليهود والنصارى بالكفر الحق الذي لا مرية فيه فيقول إن الذين يكفرون بالله ورسوله ويريدون أن يفرقوا بين الله الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك أي بين الكفر بالبعض والإِيمان بالبعض سبيلاً أي طريقاً يتوصلون به الى مذهب باطل فاسد وهو التخيّر بين رسل الله فمن شاءوا الإِيمان به آمنوا ، ومن لم يشاءوا الإِيمان به كفروةا به ولم يؤمنوا وبهذا كفروا كفراً لا ريب فيه ، ولهم بذلك العذاب المهين الذي يهانون به ويذلون جزاء كبريائهم وسوء فعالهم قال تعالى { أولئك هم الكافرون حقاً واعتدنا للكافرين عذابا مهيناً } فسجل عليه الكفر ثلاث مرات فالمرة الأولى بقوله { إن الذين يكفرون بالله ورسله } والثانية بقوله { أولئك هم الكافرون حقاً } والثالثة بقوله { واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً } حيث لم يقل واعتدنا لهم فأظهر في موضع الإِضمار لتسجيل الكفر عليهم وللإِشارة الى علة الحكم وهي الكفر .
هذا ما تضمنته الآية الأولى ( 151 ) أما الآية الثانية وهى قوله تعالى { والذين آمنوا بالله ورسله } فإنها مقابلة في ألفاظها ومدلولها للآية قبلها فالأولى تضمنت الحكم بالكفر على اليهود والنصارى ، وبالعذاب المهين لهم والثانية تضمنت الحكم بإيمان المسلمين بالنعيم المقيم لهم وهو ما وعدهم به ربهم بقوله { أولئك سوف نؤتيهم أجورهم ، وكان الله غفوراً رحيما } . فغفر لهم ذنوبهم ورحمهم بأن أدخلهم دار كرامته في جملة أوليائه .
هداية الآيتين
{ من هداية الآيتين } :
1- تقرير كفر اليهود والنصرى لفساد عقائدهم وبطلان أعمالهم .
2- كفر من كذب بالله ورسوله ولو فى شىء واحد مما وجب الإيمان به .
3- صحة الدين الإِسلامى وبطلان اليهودية والنصرانية حيث اوعد تعالى اليهود والنصارى بالعذاب المهين ، ووعد المؤمنين بتوفية أجورهم والمغفرة والرحمة لهم .
(1/313)
________________________________________
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
شرح الكلمات :
{ جهرة } : عيانا نشاهده ونراه بأبصارنا .
{ الصاعقة } : صوت حاد ورجفة عنيفة صعقوا بها .
{ بظلمهم } : بسبب ظلمهم بطلبهم ما لا ينبغي .
{ اتخذوا العجل } : أي الهاً فعبدوه .
{ فعفونا عن ذلك } : أي لم يؤاخذهم به .
{ سلطاناً مبيناً } : حجة واضحة وقدرة كاملة قهر بها أعداءه .
{ ورفعنا فوقهم الطور } : أي جبل الطور بسيناء .
{ ادخلوا الباب سجداً } : أي راكعين متواضعين خاشعين لله شكراً لنعمه عليهم .
{ لا تعدوا } : لا تعتدوا أى لا تتجاوزوا ما حد لكم فيه من ترك العمل الى العمل فيه .
{ ميثاقا غليظا } : عهداً مؤكداً بالأَيمان .
معنى الآيتين :
لما نعى الربّ تعالى عن أهل الكتاب قولهم نؤمن ببعض الرسل ونكفر ببعض حيث آمن اليهود بموسى وكفروا بعيسى وآمن النصارى بعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم كما كفر به اليهود أيضاً ذكر تعالى لرسوله أن اليهود إذا سألوا أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فلا تعجب من قولهم ولا تحفل به إذ هذه سنتهم وهذا دأبهم ، فإنهم قد سألوا موسى قبلك أعظم من هذا فقالوا له أرنا الله جهرة فأغضبوا الله تعالى فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون واتخذوا العجل إلهاً يعبدونه في غياب موسى عليهم ، وكان ذلك منهم بعد مشاهداتهم البيّنات حيث فلق الله لهم البحر وأنجاهم وأغرق عدوهم ومع هذا فقد عفا الله عنهم ، وآتى نبيهم سلطانا مبيناً ، ولم يؤثر ذلك في طباعهم هذا ما تضمنته الآية الأولى ( 153 ) وهي قوله تعالى { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البيّنات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطاناً مبيناً } . أما الآية الثانية ( 154 ) فقد أخبر تعالى أنه رفع فوقهم الطور تهديداً لهم ووعيداً وذلك لما امتنعوا ان يتعهدوا بالعمل بما في التوراة ، فلما رفع الجبل فوقهم خافوا فتعهدوا معطين بذلك ميثاقاً غير أنهم نقضوه كما سيأتي الإخبار بذلك . هذا معنى قوله تعالى { ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم } ، وقوله تعالى { وقلنا لهم ادخلوا الباب سجداً . . } كان هذا عندما دخل يوشع بن نون فتى موسى مدينة القدس فاتحاً اوحى الله تعالى إليه أن يأمر بني إسرائيل ان يدخلوا باب المدينة خاضعين متطامنين شكراً لله تعالى على نعمة الفتح فبدل أن يطيعوا ويدخلوا الباب راكعين متطامنين دخلوه زحفاً على استاههم مكراً وعناداً والعياذ بالله . وقوله : { . . وقلنا لهم لا تعدوا فى السبت } أي ونهيناهم عن الصيد فى السبت فتعدوا نهينا وصادوا عصيانا وتمرداً ، وقوله تعالى { . . وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً } أي على أن يعملوا بما شرعنا لهم تحليلاً وتحريما في التوراة ، ومع هذا فقد عصوا وتمردوا وفسقوا ، إذاً فلا غرابة في سؤالهم إياك على رسالتك وليؤمنوا بك أن تنزل عليهم كتاباً من السماء .
(1/314)
________________________________________
هذا معنى قوله تعالى في الآية ( 154 ) { ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجداً ، وقلنا لهم لا تعدوا فى السبت . . } أي لا تتجاوزوا ما أحللنا لكم إلى ما حرمنا عليكم { . . . وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً . . . }
هداية الآيتين :
{ من هداية الآيتين } :
1- تعنت أهل الكتاب ازاء الدعوة الإِسلامية وكفرهم بها على علم انها دعوة حق .
2- بيان قبائح اليهود وخبثهم الملازم لهم طوال حياتهم .
3- نقض اليهود للعهود والمواثيق اصبح طبعا لهم لا يفارقهم أبداً ولذا وجب عدم الثقة في عهودهم ومواثيقهم .
(1/315)
________________________________________
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
شرح الكلمات :
{ فبما نقضهم } : الباء سببية أي فبسبب نقضهم ميثاقهم ، والنقض : الحل بعد الإِبرام
{ بغير حق } : أي بدون موجب لقتلهم ، ولا موجب لقتل الأنبياء قط .
{ غلف } : جمع اغلف وهو ما عليه غلاف يمنعه من وصول المعرفة والعلم إليه .
{ بهتانا عظيما } : البهتان الكذب الذي يحير من قيل فيه والمراد هنا رميهم لها بالزنى .
{ وما صلبوه } : أي لم يصلبوه ، والصلب شدة على خشبة وقتله عليها .
{ وان من أهل الكتاب } : أي وم من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمن عند حضور الموت أن عيسى عبد الله ورسوله فما هو ابن زنى ولا ساحر كما يقول اليهود ، ولا هو الله ولا ابن الله كما يقول النصارى .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الحديث عن اليهود وبيان الجرائم التي كانت سبباً في لعنهم وذلهم ، وغضب الله تعالى عليهم ، وهذا تعداد تلك الجرائم الواردة في الآيات الثلاث الأولى في هذا السياق وهى ( 155- 156- 157 ) .
1- نقضهم العهود والمواثيق وخاصة عهدهم بالعمل بما في التوراة .
2- كفرهم بآيات الله والمنزلة على عبد الله عيسى ورسوله والمنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم .
3- قتلهم الأنبياء كزكريا ويحيى وغيرهم وهو كثير في عهود متباينة .
4- قولهم قلوبنا غلف حتى لا يقبلوا دعوة الإِسلام ، وما أراد الرسول إعلامهم به وكذبهم الله تعالى في هذه الدعوى ، وأخبر أن لا أغطية على قلوبهم ، ولكن بطع الله تعالى عليهم بسبب ذنوبهم فران عليها الران فمنعها من قبول الحق اعتقاداً وقولا وعملا هذا ما تضمنته الآية الأولى وهى قوله تعالى : { فبما نقضهم ميثاقهم . . } ( والباء سببية والميم صلة والأصل فبنقضهم أي بسبب نقضهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم ، { فلا يؤمنون الا قليلا } أي إيماناً قليلا كإيمانهم بموسى وهرون والتوراة والزبور مثلا .
5- كفرهم أي بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم أيضا .
6- قولهم على مريم بهتاناً عظيماً حيث رموها بالفاحشة وقالوا عيسى ابن زنى لعنهم الله .
7- قولهم متبجحين متفاخرين أنهم قتلوا الميح عيسى بن مريم عليه السلام وهو رسول الله ، وأكذبهم الله تعالى في ذلك بقوله { . . وما قتلوه وما صلبوه ، ولكن شبه لهم . . } أى برجل آخر ظنوه انه هو فصلبوه وقتلوه ، وأما المسيح فقد رفعه الله تعالى إليه وهو عنده في السماء كما قال تعالى في الآية ( 158 ) { بل رفعه الله إليه ، وكان الله عزيزاً حكيماً } أي غالباً على أمره حكيما في فعله وتدبيره .
وأما قوله تعالى : { وإن الذين اختلفوا فيه لفى شك منه ما لهم به من علم الا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً } ، هذا إخبار من الله تعالى بحقيقة أخرى وهى أن الذين طوقوا منزل المسيح وهجموا عليه ليلقوا عليه القبض من أجل أن يقتلوه هؤلاء اختلفوا فى هل الرجل الذي ألقي عليه شبه عيسى هو عيسى أو غيره إنهم لم يجزموا أبداً بأن من ألقوا عليه القبض وأخرجوه فصلبوه وقتلوه هو المسيح عليه السلام ، ولذا قال تعالى { . .
(1/316)
________________________________________
وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله اليه وكان الله عزيزا حكيما } .
أما الآية الأخيرة في هذا السياق ( 159 ) فإن الله تعالى أخبر أنه ما من يهودي ولا نصراني يحضره الموت ويكون فى انقطاع عن الدنيا إلا آمن عيسى عبد الله ورسوله ، وليس هو ابن زنى ولا ساحر كما يعتقد اليهود ، ولا هو الله ولا ابن الله كما يعتقد النصارى ، ولكن هذا الإِيمان لا ينفع صاحبه لأنه حصل عند معاينة الموت قال تعالى { . . وليست التوبة للذين يعملون السيئآت حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنى تبت الآن . . } هذا ما دلت عليه الآية الكريمة : { وإن من أهل الكتاب الا ليؤمنن به قبل موته ، ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً } أي يشهد على كفرهم به وبما جاءهم به ، ووصاهم عليه من الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ودين الحق الذي جاء به .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان جرائم اليهود .
2- بطلان اعتقاد النصارى في أن عيسى صلب وقتل ، أما اليهود فإنهم وان لم يقتلوا عيسى فهم مؤاخذون على قصدهم حيث صلبوا وقتلوا من ظنوه أنه عيسى عليه السلام .
3- تقرير رفع عيسى عليه السلام الى السماء ونزلوه فى آخر أيام الدنيا .
4- الإيمان كالتوبة عند معاينة ملك الموت لا تنفع وا تقبل وجودها كعدمها .
(1/317)
________________________________________
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
شرح الكلمات :
{ فبظلم } : الباء سببية أي فبسبب ظلمهم .
{ هادوا } : اليهود إذ قالوا : انا هدنا إليك .
{ طيبات أحلت لهم } : هي كل ذى ظفر وشحوم البقر والغنم .
{ اخذهم الربا } : قبلوه والتعامل به وأكله .
{ الراسخون في العلم } : أصحاب القدم الثابتة في معرفة الله وشرائعه ممن علومهم راسخة في نفوسهم ليست ظنيات بل هي يقيينات .
معنى الآيات :
ما زال السياق في اليهود من أهل الكتاب يبين جرائمهم ويكشف الستار عن عظائم ذنوبهم ففي الآية الأولى ( 160 ) سجل عليهم الظلم العظيم والذي به استوجبوا عقاب الله تعال حيث حرم عليهم طيبات كثيرة كانت حلالالهم ، كما سجل عليهم أقبح الجرائم وهى صدهم أنفسهم وصد غيرهم عن سبيل الله تعالى ، وذلك بجحودهم الحق وتحريفهم كلام الله ، وقبلوهم الرشوة في إبطال الأحكام الشرعية . هذا ما تضمنته الآية الأولى أما الثانية ( 161 ) فقد تضمنت تسجيل جرائم أخرى على اليهود وهى أولا استباحتهم للربا وهو حرام وقد نهوا عنه وثانيا أكلهم أموال الناس بالباطل كالرشوة والفتاوى الباطلة التي كانوا يأكلون بها . وأما قوله تعالى في ختام الآية { . . . واعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما } فهو زيادة على ما عاقبهم به في الدنيا أعد لمن كفر منهم ومات على كفره عذاباً أليماً موجعا يعذبون به يوم القيامة . وأما الآية الثالثة ( 162 ) فقد نزلت في عبد الله بن سلام وبعض العلماء من يهود المدينة فذكر تعالى كالاستثناء من أولئك الموصوفين بأقبح الصفات وهى صفات جرائم اكتسبوها ، وعظائم من الذنوب اقترفوها لجهلهم وعمى بصائرهم . ان الراسخين في العلم الثابتين فيه الذين علومهم الشرعية يقينية لا ظنية هؤلاء شأنهم فى النجاة من العذاب والفوز بالنعيم فى دار السلام شأن المؤمنين من هذه الأمة يؤمنون بما أنزل إليك أيها الرسول وما أنزل من قبلك وخاصة المقمين الصلاة وكذا المؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر هؤلاء جميعا وعدهم الله تعالى بالأجر العظيم الذى لا يقادر قدره ولا يعرف كنهه فقال تعالى : { أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً } .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- المعاصى تورث الحرمان من خير الدنيا والآخرة .
2- حرمة الصد عن الإِسلام ولو بالسلوك الشائن والمعاملة الباطلة .
3- حرمة الربا وانه موب للعقوبة في الدينا والآخرة .
4- حرمة أكل أموال الناس بالباطل كالسرقة والغش والرشوة .
5- من أهل الكتاب صلحاء ربانيون وذلك كعبد الله بن سلام وآخرين .
6- الرسوخ في العلم يأمن صاحبه الزلات والوقوع في المهلكات .
7- فضل إقام الصلاة لِنَصْب والمقيمى الصلاة في الآية على المدح والتخصيص .
(1/318)
________________________________________
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
شرح الكلمات :
{ إنا اوحينا اليك } : الوحى : الإِعلام السريع الخفى ، ووحي الله تعالى الى أنبيائه إعلامهم بما يريد أن يعلمهم به من أمور الدين وغيره .
{ الأسباط } : أولاد يعقوب عليهم السلام .
{ زبوراً } : الزبور أحد الكتب الإِلهية أنزله على نبيه داود عليه السلام .
{ قد قصصناهم عليك } : ورد منهم في سورة الأنعام ثمانية عشر رسولا وسبعة ذكروا في سور أخرى وهم محمد صلى الله عليه وسلم وهود وشعيب وصالح وذو الكفر وإدريس وآدم
{ حجة } : عذر يعتذرون به الى ربهم عز وجل .
معنى الآيات :
روى أن اليهود لما سمعوا ما أنزل الله تعالى فيهم فى الآية السابقة أنكروا أن يكون هذا وحيا وقالوا لم يوح الله تعالى الى غير موسى فرد الله تعالى قولهم بقوله : { إنا أوحينا إليك كما أوحينا لى نوح والنبيين من بعده . . } فذكر عدداً من الأنبياء ، ثم قال ورسلا : أي وأرسلنا رسلاً قدر قصصناهم عليك من قبل أي قص عيله اسماءهم وبعض ما جرى لهم مع أممهم وهم يبلغون دعوة ربم ، وأرسل رسلا لم يقصصهم عليه ، وفوق ذلك أنه كلم موسى تكليما فأسمعه كلاماً بلا واسطة ، فكيف ينكر الهيود ذلك ويزعمون أنه ما أنزل الله على بشرٍ من شىء وقد ارسلهم تعالى رسلا مبشرين من آمن وعمل صالحا بالجنة ، ومنذرين من كفر واشرك وعمل سوءً وما فعل ذلك الا لقطع حجة الناس يوم القيامة حتى لا يقولوا ربنا ما ارسلت الينا رسولاً هذا معنى قوله تعالى { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل . . } أي بعد ارسالهم ، { وكان الله عزيزا } غالبا لا يمانع في شىء اراده { حكيما } في أفعلاه وتدبيره ، هذا بعض ما تضمنته الآيات الثلاث ( 163 - 164 - 165 ) أما لآية الرابعة ( 166 ) وهي قوله تعالى : { لكن الله يشهد بما أنزل اليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً } .
فقد روي أن يهوداً جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم وابلغهم أنه رسول الله صدقا وحقا ودعاهم إلى الإِيمان به وبما جاء به من الدين الحق فقالوا : من يشهد لك بالرسالة إذ كانت الأنبياء توجد في وقت واحد فيشهد بعضهم لبعض ، وأنت من يشهد لك فأنزل الله تعالى قوله : { لكن الله يشهد بما أنزل اليك . . . } يريد إنزال كتاب إليك شهادة منه لك بالنبوة والرسالة ، أنزله بعلمه بأنك أهل للاصطفاء والإِرسال ، وبكل ما تحتاج إليه البشرية في اكمالها واسعادها إذ حوى أعظم تشريع تعجز البشرية لو اجتمع ان تأتى بمثله ، أليس هذا كافيا في الشهادة لك بالنبوة والرسالة ، بلى ، والملائكة أيضاً يشهدون { . . وكفى بالله شهيداً } فلا تطلب شهادة بعد شهادته تعالى لو كانوا يعقلون .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير مبدأ الوحى الإِلهي .
2- أول الرسل نوح عليه السلام وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم .
3- إثبات صفة الكلام لله تعالى .
4- بيان الحكمة في ارسال الرسل وهي قطع الحجة على الناس يوم القيامة .
5- شهادة الرب تبارك وتعالى والملائكة بنبوة خاتم الأنبياء ورسالته صلى الله عليه وسلم .
6- ما حواه القرآن من تشريع وما ضمه بين دفتيه من معارف وعلوم أكبر شهادة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة .
(1/319)
________________________________________
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
كفروا وصدوا :
{ كفروا وصدوا } : كفروا : جحدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدوا : صرفوا الناس عن الإِيمان به صلى الله عليه وسلم .
{ كفروا وظلموا } : جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وظلموا ببقائهم على جحودهم بغياً منهم وحسداً للعرب أن يكون فيهم رسول يخرجهم من الظلمات الى النور .
{ الرسول } : هو محمد صلى الله عليه وسلم في رسالته الصادق في دعوته .
{ فآمنوا خيرا لكم } : أي يكون إيمانكم خيراً لكم .
معنى الآيات :
بعد أن أقام الله تعالى الحجة على رسالة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بشهادته له بالرسالة وشهادة ملائكته ، وشهادة القرآن لما فيه من العلوم والمعارف الإِلهية بعد هذا أخبر تعالى أن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وهم اليهود قد ضلوا ضلالاً بعيداً قد يتعذر معه الرجوع إلى الحق ، وهذا ما تضمنته الآية الأولى ( 167 ) كما أخبر في الآية الثانية ( 168 ) أن الذين كفروا وظلموا وهم أيضاً اليهود لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً اللهم إلا طريق جهنم وهذا قائم على سنته في خلقه وهي أن المرء إذا كفر كفر عناد وجحود وأضاف إلى الكفر الظلم لم يبق له أي استعداد لقبول الهداية الإِلهية ، لم يبق له من طريق يرجى له سلوكه إلا طريق ، جهنم يخلد فيها خلوداً أبديّاً ، وقوله تعالى : { وكان ذلك على الله يسيراً } في ختام الآية يقرر فيه أن دخول أصحاب هذه الصفات من اليهود جهنم وخلودهم فيها ليس بالأمر الصعب على الله المتعذر عليه فعله بل هو من السهل اليسير أما الآية الأخيرة ( 170 ) فهي تتضمن إعلاناً إلهياً موجهاً إلى الناس كافة مشركين وأهل كتاب { . . . يا أيها الناس قد جاءكم الرسول . . . } الكامل الخاتم جاءكم بالدين الحق من ربكم فآمنوا به خيراً لكم ، وإن أبيتم وأعرضتم ايثاراً للشر على الخير والضلال على الهدى فاعلموا أن لله ما في السموات والأرض خلقاً وملكاً وتصرفاً وسيجزيكم بما اخترتم من الكفر والضلال جهنم وساءت مصيراً فإنه عليم بمن استجاب لندائه فآمن وأطاع ، وبمن أعرض فكفر وعصى حكيم في وضع الجزاء في موضعه اللائق به . فلا يجزي المحسن بالسوء ، ولا المسيء بالإِحسان .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- شر الكفر ما كان مع الصد عن سبيل الله والظلم وهذا كفر اليهود والعياذ بالله تعالى .
2- سنة الله تعالى في أن العبد إذا أبعد في الضلال ، وتوغل في الشر والفساد يتعذر عليه التوبة فيموت على ذلك فيهلك .
3- الرسالة المحمدية عامة لسائر الناس أبيضهم وأصفرهم .
4- إثبات صفتى العلم والحكمة لله تعالى . وبموجبهما يتم الجزاء العادل الرحيم .
(1/320)
________________________________________
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
شرح الكلمات :
{ يا أهل الكتاب } : المراد بهم هنا النصارى .
{ لا تغلوا في دينكم } : الغلو : تجاوز الحد للشيء فعيسى عليه السلام عبد الله ورسوله فغلوا فيه فقالوا هو الله .
{ المسيح } : هو عيسى عليه السلام ولقب بالمسيح لأنه ممسوح من الذنوب أي لا ذنب له قط .
{ كلمته ألقاها } : أي قول الله تعالى له { كن } فكان -ألقاها إلى مريم : أوصلها لها وأبلغها إياها وهي قول الملائكة لها إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم .
{ وروح منه } : أي عيسى كان بنفخة جبريل روح الله في كم درعها .
{ وكيلاً } : حفيظاً وشاهداً عليماً .
{ لن يستنكف } : لا يرفض عبوديته لله تعالى أنفة وكبراً .
{ ويستكبر } : يرى نفسه كبيرة فوق ما طلب منه أن يقوله أو يفعله إعجاباً وغروراً .
{ ولياً ولا نصيراً } : أي لا يجدون يوم القيامة ولياً يتولى الدفاع عنهم ولا نصيراً ينصرهم حتى لا يدخلوا النار ويعذبوا فيها .
معنى الآيات :
ما زال السياق مع أهل الكتاب ففي الآية الأولى ( 171 ) نادى الرب تبارك وتعالى النصارى بلقب الكتاب الذي هو الإِنجيل ونهاهم عن الغلوّ في دينهم من التنطع والتكلف كالترهب واعتزال النساء وما إلى ذلك من البدع التي حمل عليها الغلوّ ، كما نهاهم عن قولهم على الله تبارك وتعالى أبداً غير رسول الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم حيث بعث إليها جبريل فبشرها بأن الله تعالى قد يهبها غلاماً زكياً ، ونفخ وهو روح الله في كم درعها فكان عيسى بكلمة التكوين وهي { كن } وبسبب تلك النفخة من روح الله جبريل عليه السلام فلم يكن عيسى الله ولا ابن الله فارجعوا الى الحق وآمنوا بالله ورسله جبريل وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ، ولا تقولوا زوراً وباطلا : الله ثالث ثلاثة آلهة . انتهوا عن هذا القول الكذب يكن انتهاؤكم خيراً لكم حالاً ومآلاً ، إنما الله سبحانه وتعالى إله واحد لا شريك له ولا ند ولا ولد . سبحانه تنزه وعلا وجل وعظم أن يكون له ولد ، ولم تكن له صاحبة ، ولم يكن ذا حاجة وله ما في السموات وما في الأرض خلقاً وملكاً وحكماً وتدبيراً ، وكفى به سبحانه وتعالى وكيلاً شاهداً عليماً فحسبكم الله تعالى ربّاً وإهلاً فإنه يكفيكم كل ما يهمكم فلا تلتفتون إلى غيره ولا تطلبون سواه .
هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 171 ) وأما الآيتان الثانية ( 172 ) والثالثة ( 173 ) فقد أخبر تعالى أن عبد ه ورسوله المسيح عليه السلام لن يستنكف أبداً أن يعبد الله وينسب إليه بعنوان العبودية فيقال عبد الله ورسوله ، حتى الملائكة المقربون منهم فضلاً عن غيرهم لا يستنكفون عن عبادة الله تعالى وعن لقب العبودية فهم عباد الله وملائكته ، ثم توعد تعالى كل من يستنكف عن عبادته ويستكبر عنها من سائر الناس بأنه سيحشرهم جميعاً ويحاسبهم على أعمالهم فأمّا الذين آمنوا واعملوا الصالحات آمنوا بألوهيّته تعالى وحده وعبدوه وحده بما شرع لهم من أنواع الابدات وهى الأعمال الصالحة فهؤلاء يوفيهم أجورهم كاملة ويزيدهم من فضله الحسنة بعشر أمثالها وقد يضاعف الى سبعمائة ضعف .
(1/321)
________________________________________
وأما الذين استنكفوا واستكبروا أي حملتهم الأنفة والكبر على عدم قبول الحق والرجوع اليه فأصروا على الاعتقاد الباطل والعمل الفاسد فيعذبهم تعالى عذاباً أليماً أي موجعاً ولا يجدون لهم من دونه ولياً ولا ناصراً فينتهي أمرهم إلى عذاب الخلد جزاء بما كانوا يعملون .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- حرمة الغلو في الدين إذ هي من الأسباب الموجبة للابتداع والضلال .
2- حرمة القول على الله تعالى بدون علم مطلقاً والقول عليه بغير الحق بصورة خاصة .
3- بيان المعتقد الحق في عيسى عليه السلام ، وأنه عبد الله ورسوله كان بكلمة الله ونفخة جبريل عليه السلام .
4- حرمة الاستنكاف عن الحق والاستكبار عن قبوله .
5- بيان الجزاء الأخروي وهو إما نعيم وإما جحيم .
(1/322)
________________________________________
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
شرح الكلمات :
{ برهان } : البرهان : الحجة والمراد به هنا محمد صلى الله عليه وسلم .
{ نوراً مبيناً } : هو القرآن الكريم .
{ واعتصموا } : أي تمسكوا بالقرآن وبما يحمله من الشرائع .
{ فى رحمة منه } : الجنة .
{ صراطاً } : طريقاً يفضى بهم الى جوار ربهم في دار الكرامة .
معنى الآيتين :
ينادى الرب تبارك وتعالى سائر الناس مشركين ويهود ونصارى مخبراص إياهم قاطعاً للحجة عليهم بأنه أرسل إليهم رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهو البرهان الساطع والدليل القاطع على وجود الله تعالى وعلمه وقدرته ووجوب الإِيمان به وبرسله ولزوم عبادته بطاعة رسوله وأنه أنزل عليه كتبه شافياً كافياً هادياً نوراً مبيّناً يهدي به الله من ابتع رضوانه سبل السلام ، ويخرجه من الظلمات إلى النور . بهذا قد أعذر الله تعالى إلى الناس كافة وقطع عليهم كل معذرة وحجة ثم هم صنفان مؤمن وكافر فالذين آمنوا بالله ربّاً وإلها وبرسوله نبيّاً ورسولاً واعتصموا بالقرآن فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وصدقا أنباءه والتزموا آدابه فهؤلاء سيدخلهم في رحمة منه وفضل ذلك بأن ينجيهم من النار ويدخلهم الجنان وذلك هو الفوز العظيم كما قال تعالى فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فق فاز . وأما الذين كفروا به وبرسوله وكتابه فمصيرهم معروف وجزاءهم معلوم فلا حاجة الى ذكره : إنه الحرمان والخسران .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- الدعوة الاسلامية دعوة عامة فهي للأبيض والأصفر على حد سواء .
2- إطلاق لفظ البرهان على النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم لأنه بأميته وكمله الذي لا مطمع لبشريّ أن يساميه فيه برهان على وجود الله وعلمه ورحمته .
3- القرآن نور لما يحصل به من الإِهتداء إلى سبيل النجاة وطرق السعادة والكمال .
4- ثمن السعادة ودخول الجنة الإِيمان بالله ورسوله ولقائه والعمل الصالح وهو التمسك بالكتاب والسنة المعبر عنه بالاعتصام .
(1/323)
________________________________________
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
شرح الكلمات :
{ يستفتونك } : يطلبون فتياك في كذا .
{ يفتيكم } : يبيّن لكم ما أشكل عليكم من أمر الكلالة .
{ الكلالة } : أن يهلك الرجل ولا يترك ولداً ولا ولد ولد وإنما يترك أخا أو أختاً .
{ الحظ } : النصيب .
{ أن تضلوا } : كيلا تضلوا أي تخطئوا في قسمة التركة .
معنى الآية الكريمة :
هذه الآية تسمى آية الكلالة ، وآيات المواريث أربع الأولى في شأن الولد والوالد { يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين } والثانية في شأن الزوج والزوجة { ولكم نصف ما ترك أزواجكم } الخ . . وفي شأن الإِخوة لأم { وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت } الخ . . وهاتان الآيتان تقدمتا في أول سورة النساء ، والثالثة هي هذه { يستفتونك } الخ . وهى فى شأن ميراث الاخوة والأخوات عند موت أحدهم ولم يترك ولداً ولا ولد ولد . . وهو معنى الكلالة والرابعة فى آخر سورة الانفال وهي في شأن ذوى الأرحام وهى قوله تعالى : { وألوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } وهذه الآية نزلت عند سؤال بعض الصحابة رضي الله عنهم عن الكلالة فقال تعالى أمرؤ ذكراً كان أو أنثى وليس له ولد ولا ولد ولد وله أخت شقيقة أو لأب فلها نصف ما ترك ، وهو يرثها أيضاً إن لم يكن لا ولد ولا ولد ولد . فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالاً ونساءً أي ذكوراً وإناثاً فللذكر مثل حظ الانثتين وبعد أن بيّن تعالى كيف يورث من مات كلالة قال مبيّناً حكمة هذا البيان { يبين الله لكم أن تضلوا } أي كيلا تضلوا في قسمة التركات فتخطئوا الحق وتجوروا في قسمة أموالكم . { والله بكل شيء عليم } فلا يجهل شيئا ولا يخفى عليه آخر وكيف وقد أحاط بكل شيء علما سبحانه لا إله غيره ولا رب سواه .
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة :
1- جواز سؤال من لا يعلم من يعلم للحصول على العلم المطلوب له .
2- اثبات وجود الله تعالى عليماً قديراً سميعاً بصيراً وتقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إذ سؤال الأصحاب واجابة الرب تعالى بواسطة وحيه المنزل على رسوله يقرر ذلك ويثبته .
3- بيان قسمة تركة من يورث كلالة من رجل أو امرأة فالأخت الواحدة لها من أخيها نصف ما ترك ، والاختان لهما لهما الثلثان ، والاخوة مع الأخوات للذكر يرثون أختهم مثل حظ الأنثيين إذا لم تترك ولداً ولا ولد ولد .
(1/324)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
شرح الكلمات :
{ أوفوا بالعقود } العقود : هي العهود التي بين العبد والرب تعالى وبين العبد وأخيه والوفاء بها : عدم نكثها والاخلال بمقتضاها .
{ بهيمة الانعام } : هي الإِبل والبقر والغنم .
{ وأنتم حرم } : أي محرمون بحج أو عمرة .
{ شعائر الله } : جمع شعيرة وهي هنا مناسك الحج والعمرة ، وسائر أعلام دين الله تعالى .
{ الشهر الحرام } : رجب وهو شهر مضر الذي كانت تعظمه .
{ الهدى } : ما يُهدى للبيت والحرم من بهيمة الأنعام .
{ القلائد } : جمع قلادة ما يقلد الهدى ، وما يتقلده الرجل من لحاء شجر الحرم ليأمن .
{ آمين البيت الحرام : قاصدي يطلبون ربح تجارة أو رضوان الله تعالى .
{ وإذا حللتم } : أي من إحرامكم .
{ ولا يجرمنكم شنآن قوم } : أي لا يحملنكم بغض قوم أن تعتدوا عليهم .
{ أن صدوكم } : أي لأجل أن صدوكم .
{ البر والتقوى } : البر : كل طاعة لله ورسوله والتقوى : فعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهى عنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
{ الإِثم والعدوان } : الإِثم : سائر الذنوب ، والعدوان : الظلم وتجاوز الحدود .
{ شديد العقاب } : أي عقابه شديد لا يطاق ولا يحتمل .
معنى الآيتين :
ينادى الحق تبارك وتعالى عباده المؤمنين بعنوان الإِيمان فيقولٌ يا أيها الذين آمنوا أي ما من آمنتم بي وبرسولي ووعدي ووعيدى أوفوا بالعقود فلا تحلوها وبالعهود فلا تنكثوها ، فلا تتركوا واجباً ولا ترتكبوا منهياً ، ولا تحرموا حلالاً ولا تحلو حراماً أحللت لم بهيمة الأنعام هي الإِبل البقر والغنم الا ما يتلى عليكم وهي الآتية في آية { حرمت عليكم الميتة والدم . . . } فلا تحرموها وحرمت عليكم الصيد وأنتم حرم فلا تحلوه . وسلموا الأمر لي فلا تنازعوا فيما أحل وأحرم فإني أحكم ما أريد . هذا ما تضمنته الآية الأولى { يا ايها الذين آمنوا اوفوا بالعقود احلت لكم بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد وانتم حرم ان الله يحكم ما يريد } .
أما الآية الثانية فقد تضمنت أحكاما بعضها نُسخ العمل به وبعضها محكم يعمل به الى يوم الدين المحكم والواجب العمل به تحريم شعائر الل وهي أعلام دينه من سائر ما فرض وأوجب ، ونهى وحرم . فلا تستحل بترك واجب ، ولا بفعل محرم ، ومن ذلك مناسك بقول الله فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية ، ومن المنسوخ أيضاً هدي المشركين وقلائدهم والمشركون أنفسهم فلا يسمح لهم بدخول الحرم ولا يقبل منهم هدى ، ولا يجيرهم من القتل تقليد أنفسهم بلحاء شجر الحرم ولو تقلدوا شجر الحرم كله . هذا معنى قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ، ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد ولا آمين . البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا } والمراد بالفضل الرزق بالتجارة في الحج ، والمراد يالرضوان ما كان المشركون يطلبونه بحجهم من رضى الله ليبارك لهم في أرزاقهم ويحفظهم في حياتهم .
(1/325)
________________________________________
وقوله تعالى { وإذا حللتم فاصطادوا . . } خطاب للمؤمنين أذن لهم فى الاصطياد الذي كان محرماً وهم محرمون إذن لهم فيه بعد تحللهم من إحرامهم . وقوله تعالى { . . ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا } ينهى عباده المؤمنين أن يحملهم بغض قوم صدوهم يوم الحديبية عن دخول المسجد الحرام أن يعتدوا عليهم بغير ما أذن الله تعالى لهم فيه وهو قتالهم إن قاتلوا وتركهم إن تركوا . ثم أمرهم تعالى بالتعاون على البر والتقوى ، أي على أداء الواجبات والفضائل ، وترك المحرمات والرذائل ، ونهاهم عن التعاون عن ضدها فقال عز وجل : { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإِثم والعدوان } .
ولما كانت التقوى تعم الدين كله فعلاً وتركاً أمرهم بها ، فقال واتقوا الله بالإِيمان به ورسوله وبطاعتهما في الفعل والترك ، وحذرهم من إهمال أمره بقوله { إن الله شديد العقاب } باحذروه بلزوم التقوى .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين :
1- وجوب الوفاء بالعهود التي بين الله تعالى وبين العبد والمحافظة على العقود التي بين العبد وأخيه العبد لشمول الآية ذلك .
2- إباحة أكل لحوم الإِبل والبقر والغنم إلا الميتة منها .
3- تحريم الصيد في حال الإِحرام وحليته بعد التحلل من الإِحرام وهو صيد البر لا البحر .
4- وجوب إحترام شعائر الدين كلها أذاء لما وجب أداؤه ، وتركالما وجب تركه .
5- حرمة الاعتداء مطلقا حتى على الكافر .
6- وجوب التعاون بين المؤمنين على إقامة الدين ، وحرمة تعاونهم على المساس به .
(1/326)
________________________________________
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
شرح الكلمات : { الميتة } : ما مات من بهيمة الأنعام حتف أنفه أي بدون تذكية .
{ وما أهل لغير الله به } : أي ما ذكر عليه اسم غير اسم الله تعالى مثل المسيح ، أو الولي ، أو صنم .
{ المنخنقة } : أي بحبل ونحوه فماتت .
{ الموقوذة } : أي المضروبة بعصا أو حجر فماتت به .
{ المترديّة } : الساقطة من عال إلى أسفل مثل السطح والجدار والجبل فماتت .
{ النطيحة } : ما ماتت بسبب نطح أختها لها بقرونها أو رأسها .
{ وما أكل السبع } : أي ما أكلها الذئب وغيره من الحيوانات المفترسة .
{ إلا ما ذكيتم } : أي أدركتم فيه الروح مستقرة فذكيتموه بذبحة أو نحره .
{ وما ذبح على النصب } : أي ما ذبح على الأصنام التي تمثل إلهاً أو زعيماً أو عظيماً ، ومثلها ما ذبح على أضرحة الأولياء وقبورهم وعلى الجان .
{ وان تستقسموا } : أي وحرم عليكم ما تحصلون عليه بالاستقسام بالأزلام ومثله ما يأخذه صاحب الكهانة والشواقة وقرعة الأنياء . والحروز الباطلة التي فيها طلاسم وأسماء الجن والعفاريت .
{ ذلكم فسق } : أي ما ذكر من أكل الميتة إلى الاستقسام بالأزلام خروج عن طاعة الله تعالى ومعصية له سبحانه تعالى .
{ فمن اضطر } : أي من ألجأته ضرورة الجوع فخاف على نفسه الموت فلا بأس أن يأكل مما ذكر .
{ في مخمصة } : المخمصة شدة الجوع حتى يضمر البطن لقلة الغذاء به .
{ غير متجانف } : غير مائل لإِثم يريد غير راغب في المعصية بأكل ما أكل من الميتة وذلك بأن يأكل أكثر مما يسد به رمقه ويدفع به غائلة الجوع المهلك .
معنى الآية الكريمة :
هذه الآية الكريمة هي تفسير وتفصيل لقوله تعالى في الآية الأولى من هذه السورة وهو قوله : { إلا ما يتلى عليكم } حيث ذكر في هذه الآية سائر المحرمات من اللحوم وهي عشر كما يلي :
الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ، والمنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع ، وما ذبح على النصب .
وقوله تعالى : { إلا ما ذكيتم } يريد ما أدركتم فيه الروح مستقرة . بحيث إذا ذبحتموه اضطراب للذبح وركض برجليه فإن هذا علامة أنه كان حياً وأنه مات بالذبح .
وقوله { وأن تستقسموا بالأزلام } يريد ولا يحل لكم الاستسقام بالأزلام ، ولا أكل ما يعطى عليها وحقيتها أنهم كانوا في الجاهلية يضعون القداح المعبر عنها بالأزلام جمع زلم وهو رمع صغير لازج له ولا ريش فيه ، يضعونها خريطة كالكيس ، وقد كتب على واحد أمرني ربي وآخر نهاني ثم يجيلها المستقسم بها في الخريطة ويخرج زلماً منهاً فإن وجده عليه أمرني ربي مضى في مضى في عمله سفراً أو زواجاً ، أو بيعاً أو شراء ، وإن وجده مكتوباً عليه نهاني ربي ترك ما عزم على فعله فجاء الإِسلام فحرم الاستسقام بالأزلام ، وسنَّ الاستخارة وهي أن يصلي المؤمن ركعتين من غير الفريضة ويقول : اللهم إني استخيرك بعلمك واستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به ، ويسمي حاجته .
(1/327)
________________________________________
ويفعل أو يترك ما عزم عليه ، والذي يأتيه هو الخير بإذن الله تعالى .
وقوله تعالى : { ذلكم فسق } يريد م ذكرت لكم مما حرمت عليكم إتيانه هو الفسق فاتركوه .
وقوله تعالى : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون } يخبر تعالى عباده المؤمنين أن الكافرين من المشركين وغيرهم قد يئسوا مِنْ أي يردوكم عن دينكم كما كان ذلك قبل فتح مكة ودخول ثقيف وهوازن في الإِسلام ، وظهوركم عليهم في كل معركة دارت بينكم وبينهم إذاً فلا تخشوهم بعد الآن أن يتمكنوا من قهركم وردكم إلى الكفر واخشوني أنا بدلهم وذلك بطاعتي وطاعة رسولي ولزوم حدودي والأخذ بسنتي في كوني حتى لا تتعرضوا لنقمتي بسلب عطائي فإن نصرتي لأهل طاعتي وإذلالي لأهل معصيتي .
وقوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإِسلام دنياً } فهو إخبار منه تعالى لعباده المؤمنين بما هو إنعام عليهم منه وامتنان فأولا : إكمال الدين بجميع عقائده وعباداته وأحكامه وآداره حتى قيل أن هذه الآية نزلت عشية يوم عرفة عام حجة الوداع ، ولم يعش بعدها رسول الله عليه وسلم إلا احدى وثمانين ليلة ثم توفاه الله تعالى وثانياً : إتمام نعمته تعالى عليهم فآمنهم بعد الخوف وقواهم بعد ضعف ، ونصرهم وأعزهم بعد قهر وذل وسودهم وفتح البلاد له وأظهر دينهم وأبعد الكفر والكفار عنهم ، فعلمهم بعد جهل وهداهم بعد ضلال فهذه من النعمة التي أتمها عليهم وثالثاً رضاه بالإِسلام ديناً لهم حيث بعث رسوله به وأنزل كتابه فيه فبين عقائده وشارئعه فأبعدهم عن الأديان الباطلة كاليهودية والنصرانية والمجوسية ، وأغناهم عنها بما رضيه لهم ألا وهو الإِسلام القائم على الاستسلام لله تعالى ظاهراً وباطناً وذلك سلم العروج الى الكمالات ومرقى كل الفواضل والفضائل والسعادات فلله الحمد وله المنة .
وقوله تعالى : { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإِثم فإن الله غفور رحيم } يريد تعالى من اضطر أي ألجأته الضرورة وهي شدة الجوع وهي المخمصة والمسبغة إلى أكل ما حرمت عليكم من الميتة وأنواعها فأكل فلا إثم عليه فإني غفور لعبادي المؤمنين رحيم بهم إلا أن يكون قد أكل من الميتة وأنواعها متعمداً المعصية مائلاً إليها غير مبال بتحريمي لها فذاك الذي عصاني وتعرض لنقمتي وعذابي فإن تاب فإني غفور رحيم ، وإن أصر فإن عذابي أليم شديد .
(1/328)
________________________________________
هداية الآية
من هداية الآية :
1- حرمة الميتة وما ذكر معها وهي عشر من المحرمات .
2- حرمة الاستقسام بالأزلام ومثلها قرعة الأنبياء وخط الرمل والكهانة وما أشبه ذلك .
3- حرمة ا لذبح على القبور والقباب والنصب التذكارية وهي من الشرك .
4- جواز أكل ما أدركه المسلم حياً من الحيوان المأكول فذكَّاه وإن كان قد جرح أو كسر أو أشرف على الموت بأي سبب مميت .
5- ووب خشية الله تعالى وحرمة خشية الكفار .
6- حرمة الابتداع في الدين وحرمة التشريع المنافي للشرع الإِسلامي .
7- جواز أكل الميتة للمضطر وهو من لحقه ضرر من شدة الجوع فخاف على نفسه الهلاك على شرط أن لا يكون قاصداً المعصية مائلاً إلى الإِثم .
(1/329)
________________________________________
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
شرح الكلمات :
{ الطيبات } : ما أذن الله تعالى في أكله وأباحه لعباده المؤمنين .
{ الجوارح } : جمع جارحة بمعنى كاسبة تجرح بمعنى تكسب .
{ مكلبين } : أي مرسلين الجارحة على الصيد السواء كانت الجارجة كلباً أو طيراً .
{ طعام الذن أوتوا الكتاب } : ذبائح اليهود والنصارى .
{ المحصنات } : جمع محصنة وهي العفيفة الحرة من النساء .
{ أجورهن } : مهورهن وصدقاتهن .
{ غير مسافحين } : غير مجاهرين بالزنى .
{ أخدان } : جمع خدن وهو الخليل والصاحب السريّ .
{ ومن يكفر بالايمان } : أي يرتد عن الإِيمان فالباء بمعنى عن إذ يقال ارتد عن كذا . . .
{ حبط عمله } : بطل كل ما قدمه من الصالحات فلا يثاب عليه .
معنى الآيتين :
ورد أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أن يدخل لوجود كلب صغير في البيت فقال : ( إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ) فأمر النبي بعدها بقتل الكلاب فقتلت ثم جاء بعضهم يسأل عما يحل لهم من أمة الكلاب فأنزل الله تعالى هذه الآية : { يسألونك ماذا أحل لهم؟ قل أحل لكم الطيبات } وهي كل ما لذ وطاب مما أباحه الله تعالى ولم ينه عنه ، وأحل لكم كذلك صيد ما علمتم من الجوارح وهي الكلاب الخاصة بالاصطياد والفهود والنمور والطيور كالصقور ونحوها . مكلبين أي مرسلين لها على الصيد لتمسكه لكم ، { تعلمونهن مما علمكم الله } . أي تؤدبون تلك الجوارح بالأدب الذي أدبكم الله تعالى به ، وحد الجارحة المؤدبة أنها إذا اشليت أي أرسلت على الصيد ذهبت إليه وإذا زُجرت انزجرت وإذا دعيت أجابت . وقوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه } يفيد شرطين لحلية الصيد زيادة على كون الجارحة معلمة وهما أولاً أن يذكر اسم الله عند إرساله الجارحة بأن يقول : بسم الله هاته مثلا ، والثاني أن لا تأكل الجارحة منه فإن أكلت منه فقد أمسكت لنفسها ولم تمسك لمن أرسلها ، اللهم إلا إذا أدركت حية لم تمت ثم ذكيت فعند ذلك تحل بالتذكية لا بالصطياد ، وقوله تعالى : { واتقوا الله ان الله سريع الحساب } وعيد لمن لم يتق الله في أكل ما حرم أكله من الميتة وأنواعها ، ومن صيد صاده غير معلّم من الجوارح ، أو صاده معلم ولكنه أكل منه فمات قبل التذكية . فلتتق عقوبة الله في ذلك فإن الله سريع الحساب .
هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 4 ) أما الآية الثانية ( 5 ) وهي قوله تعالى : { اليوم أحل لكم الطيبات } أي في هذا اليوم الذي أكمل الله تعالى لكم فيه الدين أحل لكم ما سألتم عنه وهو سائر الطيبات وكذا طعام الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وهم اليهود والنصارى خاصة فطعامهم أي ذبائحهم حل لكم ، وطعامكم حل لهم أي لا بأس أن تطعموهم من طعامكم فإن ذلك جائز لكم ولهم .
(1/330)
________________________________________
وأحل لكم أيضاً نكاح المحصنات أي العفائف من المؤمنات ، والمحصنات من نساء الذين أتوا الكتاب من قبلكم وهن العفائف من اليهوديات والنصرانيات ، على شرط إتيانهن أجورهن أي مهورهن حال كونكم محصنين أي عاقدين عليهم عقدة النكاح المتوقفة على المهر والولي والشهود وصيغة الإِيجاب والقبول ، لا مسافحين بإعطاء المرأة أجرة وطئها فقط بدون عقد مستوف لشروطه ، ولا متخذي أخذان أيضاً بأن تنكحوهن سراً بحكم الصحبة والصداقة والمحبة إذ ذاك هو الزنى فلا يحل بأجرةٍ ولا بغير بأجرةٍ وقوله تعالى : { ومن يكفر بالإِيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين } فيه إشارة إلى أن استباحة المحرمات والجرأة على ذلك قد تؤدي إلى الكفر ، ومن يكفر بعد إيمانه فقد حبط عمله أي بطل ثواب ما عمله في إسلامه ، حتى ولو راجع الإِسلام فليس له إلا ما عمله بعد رجوعه إلى الإسلام ، وإن مات قبل العودة إلى الإِسلام فهو قطعاً في الآخرة من الخاسرين بإلقائهم في نار جهنم خالدين في أبداً .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين :
1- مشروعية سؤال من لا يعلم عما ينبغي له أن يعلمه .
2- حلية الصيد إن توفرت شروطه وهي أن يكون الجارح معلماً وأن يذكر اسم الله تعالى عند إرساله وأن لا يأكل منه الجارح ، ويجوز أكل ما صيد برصاص أو بآلة حادة بشرط ذكر اسم الله عند رميه ولو وجد ميتاً فلم يذك .
3- إباحة طعام وذبائح أهل الكتاب .
4- إباحة نكاح الكتابيات بشرط أن تكون حرة عفيفة وأن يعقد عليها العقد الشرعي وهو القائم على الولي والشهود والمهر والصيغة بأن يقول الخاطب لمن يخطبه من ولي ووكيل زوجني فلانه فيقول له قد زوجتكها .
5- حرمة نكاح المتعة ونكاح الخلة والصحبة الخاصة .
6- المعاصي قد تقود إلى الكفر .
7- المرتد عن الإِسلام يحبط عمله فلو راجع الإِسلام لا يثاب على ما فعله قبل الردة وإن مات قبل العودة إلى الإِسلام خسر نفسه وأهله يوم القيامة وذلك هو الخسران المبين .
(1/331)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
شرح الكلمات :
{ إذا قمتم إلى الصلاة } : أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون أي على غير وضوء .
{ فاغسلوا وجوهكم } : أي بعد غسل الكفين ثلاثاً والمضمضة والاستنشاق والاستنثار ثلاثاً ثلاثاً لبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك .
{ وارجلكم إلى الكعبين } : أي واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين إلا أن يكون عليها خف ساتر فإنه يجوز المسح عليه دون حاجة إلى نزعه وغسل الرجلين ، وذلك إن لبسه بعد وضوء ولم يمض على لبسه أكثر من يوم وليلة إن كان مقيماً ، أو ثلاثة أيام إن كان مسافراً بهذا جاءت السنة .
{ وإن كنتم جنباً } : الجنب من قامت به جنابة وهي شيئآن : غياب رأس الذكر في الفرج ، وخروج المنى بلذة في نوم أو يقظة .
{ فاطهروا } : يعني فاغتسلوا ، والغسل هو غسل سار الجسد بالماء .
{ الغائط } : كنابة عن الخارج من أحد السبيلين من عذرة أو فساء أو ضراط ، أو بول أو مذى .
{ او لامستم النساء } : ملامسة النساء كناية عن الجماع ، كما أن من لامس امرأة ليتلذذ بها أو لامسها لغير قصد اللذة ووجد اللذة فقد انتقض وضوءه ومن هذا مس الفرج باليد لأنه مظنة اللذة لذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم « من افضى منكم بيده إلى فرجه فليتأوضأ » .
{ فتيمموا صعيداً } : اقصدا تراباً أو حجراً أو رملاً أو سبخة مما صعد على وجه الأرض .
{ الحرج } : المشقة والعسر والضيق .
{ ميثاقه } : أي ميثاق الله تعالى وهو عهده المؤكد والمراد به هنا : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، إذ بها وجب الالتزام بسائر التكاليف الشرعية .
معن الآيتين :
نادى الرب تعالى عباده المؤمنين به وبرسوله ووعده ووعيده ليأمرهم بالطهارة إذا هم أرادوا الصلاة وهي مناجاة العبد لربه لحديث المصلي يناجي ربه ، وبين لهم الطهارة الصغرى منها وهي الوضوء ، والكبرى وهي الغسل ، وبين لهم ما ينوب عنهما إذا تعذر وجود الماء الذي به الطهارة أو عجزوا استعماله وهو التيمم فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغتسلوا وجوهكم } وحدُّ الوجه طولاً من منبت الشعر أعلى الجبهة إلى منتهى الذقن أسفل الوجه وحده عرضاً من وتد الأذن اليمنى إلى وتد الأذن اليسرى { وأيديكم الى المرافق } فيشمل الغل الكفين والذراعين إلى بداية العضدين فيدخل في الغسل المفرقان { وامسحوا برؤوسكم } واللفظ محتمل للكل والبعض والسنة بينت أن الماسح يقبل بيديه ويدبر بهما فيمسح جميع رأسه وهو أكل وذلك ببل يكون في كفيه ، كما بينت السنة مسح الأذنين ظاهراً وباطناً بعد مسح الرأس { وأرجلكم الى الكعبين } أي واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين وهما العظمان النائتان عند بداية الساق ، وبينت السنة رخصة المسح عل الخفين بدلاً من غسل الرجلين ، كما بينت غسل الكفين والمضمضة والاستنشاق والاستنثار ، وكون الغسل ثلاثاً ثلاثاً على وجه الاستحباب ، وقول بسم الله عند الشروع أي البدء في الوضوء .
(1/332)
________________________________________
كما بينت السنة وجوب الترتيب بين الأعضاء المغسولة الأولى فالأولى ، ووجوب الفور بحيث لا يفصل بزمن بين أعضاء الوضوء حال غسلها بل يفعلها في وقت واحد إن أمكن ذلك وأكدت وجوب النية حتى لكأنه شرط في صحة الوضوء وقال تعالى : { وإن كنتم جنباً فاطهروا } أي وإن أصبت أحدكم جنابة وهي الجماع والاحتلام فمن جامع زوجته فأولج ذكره في فرجها ولو لم ينزل أي لم يخرج منه المنىّ فقد أجنب كما أن من احتلم فخرج منه منىّ فقد أجنب بل كلّ من خرج منه منىّ بلذة في نوم أو يقظة فقد أجنب وانقطاع دم حيض المرأة ودم نفاسها كالجنابة يجب منه الغسل ، وقوله { فاطهروا } يريد فاغتسلوا وقد بينت السنة كيفية الغسل وهي ينوي المرء رفع الحدث الاكبر بقلبه ويغسل كفيه قائلاً بسم الله ويغسل فرجيه وما حولها ، ثم ينوي المرء رفع الحدث الأصغر المعروف ، ثم يخلل أصوله شعر رأسه ببلل يديه ، ثم يغسل رأسه ثلاث مرات ، ثم يقبض الماء على شق جسده الأيمن كله من أعلاه إلى أسفله ، ثم الأيسر ، ويتعاهد الأمكن التي قد ينبوا عنها الماء فلا يمسها كالسرة وتحت الإبطين ، والرفقين وهما أصل الفخذين ، وقوله تعالى : { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء } ذكر تعالى في هذه الجملة الكريمة نواقض الوضوء وموجب الانتقال منه إلى التيمم فقال : { وإن كنتم مرضى } فالمريض قد يعجز عن الوضوء لضعف جسمه بعدم القدرة على التحرك ، وقد تكون به جراحات أو دماميل يتعذر معها استعمال الماء حيث يزداد المرض بمس الماء ، وقوله { أو على سفر } إذ السفر مظنة عدم وجود الماء هذه موجبات الانتقال من الوضوء إلى التيمم ، وقوله عز وجل : { أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء } .
ذكر في الجملة الأولى نواقض الوضوء إجمالاً وهو الخارج من السبيلين من عذرة وفساء وضراط وبول ومذي كنى عنه بقوله : { أو جاء أحد منكم الغائط } وهو مكان التغوط والتبول وذكر موجب الغسل وهو الجماع وكنىّ عنه بالملامسة تعليماً لعباده المؤمنين الآداب الرفيعة في مخاطباتهم ، وقوله : { فلم تجدوا ماء } للوضوء أو الغسل بعد أن طلبتموه فلم تجدوه فتيمموا ، اقصدوا من أم الشيء إذا قصده صعيداً طيباً يريد ما صعد على وجه الأرض من أجزائها كالتراب والرمل والسبخة والحجارة وقوله : { طيباً } يريد يبه طاهراً من النجاسة والقذر ، وقوله : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } بين فيه كيفية التيمم ، وهي أن يقصد المرء التراب الطاهر وإن تعذر ذلك فما تيسر له من أجزاء الأرض فيضرب بكفيه الأرض فيمسح بهما وجهه وكفيه ظاهراً وباطناً مرة واحدة وقوله تعالى : { منه } أي من ذلك الصعيد وبهذا بين تعالى كيفية التيمم وهي التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر رضي الله عنه وقوله تعالى : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } يخبر تعالى أنه يأمرنا بالطهارة بقسميها الصغرى وهي الوضوء والكبرى وهي الغسل ، وما ينوب عنهما عند العجز وهو التيمم ، ما يريد بذلك إيقاعنا في الضيق والعنت ، ولكنه تعالى يريد بذلك تطهيرنا من الأحداث والذنوب ، لأن الوضوء كفارة لذنب المتوضىء كما جاء بيانه في السنة وهو قوله تعالى : { ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم } أي بهدايتكم إلى الإِسلام وتعليمكم شرائعه فيعدكم بذلك لشكره وهو طاعته بالعمل بما جاء به الإِسلام من الأعمال ابالطنة والظاهرة وهو معنى قوله { لعلكم تشكرون } .
(1/333)
________________________________________
هذ ما دلت عليه الآية الأولى ( 6 ) أما الآية الأخيرة ( 7 ) وهي قوله تعالى : { واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذيى واثقكم به إذ قلتم سمعنا واطعنا ، واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور } فإنه تعالى يأمر عباده المؤمنين أن يذكروا نعمته عليهم بهدايتهم إلى الإِيمان ليشكروه بالإِسلام ، كما يذكروا ميثاقه الذي واثقهم به وهو العهد الذي قطعه المؤمن على نفسه لربه تعالى بالتزامه بطاعته وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم عندما تعهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وأما قوله : { إذ قلتم سمعنا واطعنا } قد قالها الصحابة بلسان القال عندما باعيوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والطاعة في المنشط والمركه ، وقد قالها كل مسلم بلسان الحال لما شهد لله بالوحدانية واللنبي بالرسالة ، وقوله تعالى : { واتقوا الله } أمر بالتقوى التي هي لزوم الشرعية والقيام بها عقيدة وعبادة وقضاء وأدباً وقوله : { إن الله عليم بذات الصدور } يذكَّرهم بعلم الله تعالى بخفايا أمورهم حتى يراقبوه ويخشوه في السر والعلن وهذا من باب تربية الله تعالى لعباده المؤمنين لإِكمالهم وإِسعادهم فله الحمد وله المنة .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين :
1- الامر بالطهارة وبيان كيفية الوضوء وكيفية الغسل ، وكيفية التيمم .
2- بيان الأعذار الناقلة للمؤمن من الوضوء إلى التيمم .
3- بيان موجبات الوضوء والغسل .
4- الشكر هو العلة الإِنعام .
5- ذكر العهود يساعد على التزامها والمحافظة عليها .
(1/334)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
شرح الكلمات :
{ قوامين لله } : جمع قوام وهو كثير القيام لله تعالى بحقوقه وما وجب له تعالى ، وبحقوق الغير أيضاً لا يفرط في شيء من ذلك .
{ شهداء بالقسط } : جمع شهيد بمعنى شاهد والقسط العدل .
{ ولا يجرمنكم } : أي لا يحملنكم .
{ شنآن } : بغض وعداوة .
{ العدل } : خلاف الجور ، وهو المساواة بلا حيف ولا جور .
{ هو أقرب للتقوى } : أي العدل أقرب للتقوى من الجور .
{ همّ قوم } : أرادوا وعزموا على إنفاذ إرادتهم والقوم هم يهود بني النضير .
{ يبسطوا إليكم إيديهم } : أي ليقتلوا نبيكم صلى الله عليه وسلم .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في توجيه المؤمنين وإرشادهم إلى ما يكملهم ويسعدهم ففي الآية ( 8 ) أمر الله المؤمنين أن يكونوا قوامين لله تعالى بسائر حقوقه عليهم من الطاعات ، وأن يكونوا شهداء بالعدل لا يحيفون ولا يجورون في شيء سواء كان المشهود عليه ولياً أو عدواً ، ونهاهم أن يحملهم بغض قوم أو عداوتهم على ترك العدل وقد أمروا به ، ثم أمرهم بالعدل وأعلمهم أن أهل العدل هم أقرب الناس إلى التقوى ، لأن من كانت ملكة العدل صفة له كان أقدر على أداء الحقوق والواجبات ، وعلى ترك الظلم واجتناب المنهيات ثم أمرهم بالتقوى مؤكداً شأنها لأنها ملاك الأمر ، وأعلمهم بأنه خبير بما يعملون لتزداد ملكة مراقبة الله تعالى في نفوسهم فيفوزون بالعدل والتقوى معاً هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 8 ) أما الآية ( 9 ) فقد تضمنت بشرى سارة لهم وهي أن ربهم قد وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالمغفرة لذنوبهم والأجر العظيم لهم وهو الجنة ، وقلت بشرى سارة لهم ، لأنهم هم أهل الإِيمان وصالح الأعمال رضي الله عنهم وارضاهم ، أما الآية الثالثة ( 10 ) فقد تضمنت وعيداً شديداً للكافرين المكذبين بآيات الله وحججه التي أرسل بها رسله وأيدهم بها ، ولازم لكذبهم وكفرهم خبث أرواحهم ولذا فهم لا يلائمهم إلا عذاب النار فكانوا بنعمة عظيمة من نعمه ، هي نجاة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم من قتل أعدائه وأعدائهم وهم اليهود إذ ورد في سبب نزول هذه الآية ما خلاصته .
أن أولياء العامريين الذين قتلا خطأ من قبل مسلم حيث ظنهما كافرين فقتلهما جاءوا يطالبون بدية قتيليهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الخلفاء الراشدون الأربعة وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين خرجوا إلى بني النظري يطالبونهم بتحمل شيء من هذه الدية بموجب عقد المعاهدة إذ من جملة موادها تحمل أحد الطرفين معونة الطرف الآخر في مثل هذه الحالة المالية فلما وصلوا إلى ديارهم شرق المدينة استقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحفاوة والتكريم وأجلسوه مكاناً لائقاً تحت جدار منزل من منازلهم وأفهموه أنهم يعدون الطعام والنقود ، وقد خلوا ببعضهم وتآمروا على قتله صلى الله عليه وسلم وقالوا فرصة متاحة فلا نفوتها أبداً وأمروا أحدهم أن يطلق من سطح المنزل حجر رحى كبيرة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم فتقتله ، وما زالوا يدبرون مكيدتهم حتى أوحى الله إلى رسوله بالمآمرة الدنيئة فقام صلى الله عليه وسلم وتبعه أصحابه ودخلوا إلى المدينة وفاتت فرصة اليهود واستوجبوا بذلك اللعن وإلغاء المعاهدة وإجلاءهم من المدينة ، وقصتهم في سورة الحشر ، والمقصود من هذا بيان المراد من قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم إيديهم } أي بالقتل للنبي صلى الله عليه وسلم { فكف أيديهم عنكم } حيث أوحى إلى رسوله ما دبره اليهود فانصرف وتركهم لم يظفروا بما أرادوا وهو معنى { فكف أيديهم عنكم } .
(1/335)
________________________________________
ثم أمر الله تعالى المؤمنين بتقواه إذ هي سلم كمالهم وسبيل نجاحهم وهي عبارة عن امتثال أمره وأمر رسوله واجتناب نهيهما وأرشدهم إلى التوكل عليه تعالى في جميع أمورهم بقوله { وعلى الله فلتوكل المؤمنون } .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وجوب القيام بحق الله تعالى على العبد وهو ذكره وشكره بطاعته .
2- وجوب العدل في الحكم والقول والشهادة والفعل ومع الولي والعدو سواء .
3- تأكيد الأمر بتقوى الله عز وجل .
4- الترغيب والترهيب بذكر الوعد والوعيد كما في الآيتين ( 9 ) و ( 10 ) .
5- وجوب ذكر النعمة حتى يؤدى شكرها .
6- وجوب التوكل على الله تعالى والمضي في أداء ما أوجب الله تعالى .
(1/336)
________________________________________
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
شرح الكلمات :
{ الميثاق } : العهد المؤكد بالأيمان .
{ بنو إسرائيل } : اليهود .
{ نقيباً } : نقيب القوم : من ينقب عنهم ويبحث عن شؤونه ويتولى أمورهم .
{ وعزرتموهم } : أي نصرتموهم ودافعتم عنهم معظمين لهم .
{ وأقرضتم الله } : أي أنفقتم في سبيله ترجون الجزاء منه تعالى على نفقاتكم في سبيله .
{ لأكفرن عنكم سيئآتكم } : أسترها ولم أوآخذكم بها .
{ لقد ضل سواء السبيل } : أخطأ طريق الهدى الذي يفلح سالكه بالفوز بالمحبوب والنجاة من المرهوب .
معنى الآية الكريمة :
لما طالب تعالى المؤمنين بالوفاء بعهودهم والالتزام بمواثيقهم ذكرهم في هذه الآية بما أخذ على بني إسرائيل من ميثاق فنقضوه فاستوجبوا خزي وعذاب الآخرة ليكون هذا عبرة للمؤمنين حتى لا ينكثوا عهدهم ولا ينقضوا ميثاقهم كما هو إبطال لاستعظام من استعظم غدر اليهود وهمهم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فقال تعالى : { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل } وهو قوله إني معكم الأتي ، { وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً . . } أي من كل قبيلة من قبائلهم الاثني عشرة قبيلة نقيباً يرعاهم ويفتش على أحوالهم كرئيس فيهم ، وهم الذين بعثهم موسى عليه السلام إلى فلسطين لتعرفوا على أحوال الكنعانين قبل قتالهم . وقال الله تعالى { إني معكم } وهذا بند الميثاق { لئن أقمتم الصلاة } أي وعزتي وجلالي { لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي } صدقتموهم فيما جاءوكم به { وعزرتموهم } بنصرتهم وتعظيمهم ، { وأقرضتم الله قرضاً حسناً } أي زيادة على الزكاة الواجبة والعامة في الإِنفاق وفي تزكية النفس بالإِيمان وصالح الأعمال { لأكفرن عنكم سيئآتكم } بإذهاب آثارها من نفوسكم حتى تطيب وتطهر { ولأدخلنكم } بعد ذلك التطهير { جنات تجري من تحتها } أي من تحت أشجارها وقصورها { الأنهار } هذا جزاء الوفاء بالميثاق { فمن كفر } فنقض وأهمل ما فيه فكفر بعده { فقد ضل سواء السبيل } أي أخطأ طريق الفلاح في الدنيا والآخرة ، أي خرج عن الطريق المفضي بسالكه إلى النجاة والسعادة .
هداية الآية
من هداية الآية
1- الحث على الوفاء بالالتزامات الشرعية .
2- إبطال استغراب واستعظام من يستغرب من اليهود مكرهم ونقضهم وخبثهم ويستعظم ذلك منهم .
3- إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإِنفاق في سبيل الله تعبد الله بها من قبل هذه الأمة .
4- وجوب تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ونصرته في أمته ودينه .
(1/337)
________________________________________
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
شرح الكلمات :
{ نقض الميثاق } : حله بعدم الالتزام بما تضمنه من أمر ونهي .
{ لعنّاهم } : طردناهم من موجبات الرحمة ومقتضيات العز والكمال .
{ يحرفون الكلم } : يبدلون الكلام ويؤولون معانيه لأغراض فاسدة ، والكلم من الكلام .
{ ونسوا حظاً مما ذكروا } : تركوا قسطاً كبيراً مما ذكرهم الله تعالى به أي أمرهم به في كتابهم .
{ خائنة } : خيانة أو طائفة خائنة منهم .
{ فاعف عنهم واصفح } : أي لا تؤاخذهم واصرف وجهك عنهم محسناً إليهم بذلك .
{ إنا نصارى } : أي ابتدعوا بدعة النصرانية فقالوا إنا نصارى .
{ أغرينا بينهم العداوة } : الإِغراء : التحريش والمراد أوجدنا لهم أسباب الفرقة والخلاف إلى يوم القيامة بتدبيرنا الخاص فهم أعداء لبعضهم البعض أبداً .
معنى الآيتين :
ما زال السياق الكريم في بيان خبث اليهود وغدرهم فقد أخبر تعالى في هذه الآية الكريمة ( 13 ) أن اليهود الذين أخذ الله ميثاقهم على عهد موسى عليه السلام بأن يعملوا بما في التوراة وأن يقابلوا الكنعانيين ويخرجوهم من أرض القدس وبعث منهم أثني عشر نقيباً قد نكثوا عهدهمونقضوا ميثاقهم ، وإنه لذلك لعنهم وجعل قلوبهم قاسية فهم يحرفون الكلم عن مواضعه فقال تعالى : { فبما نقضهم أي فبنقضهم ميثاقهم الذي أخذ عليهم بأن يعملوا بما في التوراة ويطيعوا رسولهم { لعناهم } أي أبعدناهم من دائرة الرحمة وأفناء الخير والسلام { وجعلنا قلوبهم قاسية } شديدة غليظة لا ترق لموعظة ، ولا تلين لقبول هدى { يحرفون الكلم عن مواضعه } فيقدمون ويأخرون ويحذفون بعض الكلام ويؤولن معانيه لتوافق أهواءهم ، ومن ذلك تأويلهم الآيات الدالة على نبوة كل من عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم في التوراة { ونسوا حظاً مما ذكروا به } وتركوا كثيراً مما أمروا به من الشرائع والأحكام معرضين عنها متناسين لها كأنهم لم يؤمرو بها ، فهل يستغرب ممن كان هذا حالهم الغدر والنقض والخيانة ، ولا تزال يا رسولنا { تطلع لى خائنة منهم } أي على طائفة خائنة منهم كخيانة بني النضير { إلا قليلا منهم } فإنهم لا يخونون كعبد الله بن سلام وغيره ، وبناء على هذا { فاعف عنهم } فلا تؤاخذهم بالقتل ، { واصفح } عنهم فلا تتعرض لمكروههم فأحسن إليهم بذلك { إن الله يحب المحسنين } .
هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 13 ) أما الآية الثانية ( 14 ) في هذا السياق فقد أخبر تعالى بي وبرسلي وبالعمل بشرعي فتركوا متناسين كثيراً مما أخذ عليهم العهد والميثاق فيه ، فكان أن أغرينا بينهم العداوة والبغضاء كثمرة لنقضهم الميثاق فتعصبت كل طائفة لرأيها فثارت بينهم الخصومات وكثر الجدل فنشأ عن ذلك العداوات والبغضاء وستستمر إلى يوم القيامة ، وسوف ينبئهم الله تعالى بما كانوا يصنعون من الباطل والشر والفساد ويجازيهم به الجزاء الموافق لخبث أرواحهم وسوء أعمالهم فإن ربك عزيز حكيم .
هداية الآيتين
من هداية الآينين :
1- حرمة نقض المواثيق ونكث العهود ولا سيما كان بين العبد وربه .
2- الخيانة وصف لازم لأكثر اليهود فقل من سلم منهم من هذا الوصف .
3- استحباب العفو عند القدرة ، وهو من خلال الصالحين .
4- حال النصارى لا تختلف كثيراً عن حال اليهود كأنهم شربوا من ماء واحد . وعليه فلا يستغرب منهم الشر ولا يؤمنون على سر فهم في عداوة الإِسلام والحرب عليه متعاونون متواصون .
(1/338)
________________________________________
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
شرح الكلمات :
{ أهل الكتاب } : هنا هم اليهود والنصارى معاً .
{ قد جاءكم رسولنا } : محمد صلى الله عليه وسلم .
{ تخفون من الكتاب } : الكتاب التوراة والإِنجيل ، وما يخفونه صفات النبي صلى الله عليه وسلم وبعض الأحكام ، المخالفين لها يجحدونها خوف المعرة كالرجم مثلاً .
{ ويعفو عن كثير } : لا يذكرها لكم لعدم الفائدة من ذكرها .
{ نور وكتاب مبين } : النور محمد صلى الله عليه وسلم ، والكتاب القرآن الكريم .
{ إلى صراط مستقيم } : الإِسلام وهو الدين الحق الذي لا نجاة إلا به . والمستقيم الذي لا اعوجاج فيه .
معنى الآيتين :
ما زال السياق في أهل الكتاب فبعد أن بين تعالى باطلهم وما هم عليه نم شر وسوء داعهم وهو ربهم أورحم بهم من أنفسهم إلى سبيل نجاتهم وكمالهم دعاهم إلى الإِيمان برسوله وكتابه ذلك الرسول الذي ما اتبعه أحد وندم وخزى والكتاب الذي ما ائتم به أحد وضل أو شقي ، فقال : { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا } أي محمد صلى الله عليه وسلم { يبين لكم } بوحينا { كثيراً } من مسائل الشرع والدين التي تخفونها خشية الفضيحة لأنها حق جحدتموه وذلك كنعوت النبي الأمي وصفاته حتى لا يؤمن به الناس ، وكحكم الرجم في التوراة وما إلى ذلك . { ويعفو } يترك كثيراً لم يذكرلعدم الداعى إلى ذكره يا أهل الكتاب { قد جاءكم من الله } ربكم { نور } هو رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم { وكتاب مبين } وهو القرآن إذ بين كل شيء من أمور الدين والدنيا وكل ما تتوقف سعادة الإِنسان وكماله عليه دنيا وأخرى { يهدي به الله } تعالى { من اتبع رضوانه } وذلك بالرغبة الصادقة في الحصول على رضا الله عز وجل بوسطة فعل محابه وترك مساخطه عن كل معتقد وقول وعمل يهديه به { سبل السلام } أي طرق السعادة والكمال ، { ويخرجهم } أي المتبعين رضوان الله { من الظلمات } وهي ظلمات الكفر والشرك والشك ، إلى نور الإِيمان الصحيح والعبادة الصحيحة المزكية للنفس المهذبة للشعور بتوفيقه وعونه تعالى ويهديهم أي أولئك الراغبين حقاً في رضا الله { يهديهم الى صراط مستقيم } لا يضلون معه ولا يشقون أبداً وهو دينه الحق الإِسلام الذي لا يقبل ديناً غيره ، والذي ما اهتدى من جانبه ولا سعد ولا كمل من تركه .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين :
1- نصح الله تعالى لأهل الكتاب بدعوتهم إلى سبل السلام بالدخول في الإِسلام .
2- بيان جحود اليهود والنصارى لكثير من الأحكام الشرعية ودلائل النبوة المحمدية مكراً وحسداً حتى لا يؤمن الناس بالإِسلام ويدخلوا فيه .
3- اتباع السنة المحمدية يهدي صاحبه الى سعادته وكماله .
4- القرآن حجة على الناس كافة لبيانه الحق في كل شيء .
5- طالب رضا الله بصدق يفوز بكل خير وينجوا من كل ضير .
(1/339)
________________________________________
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
شرح الكلمات :
{ لقد كفر الذين } : لأنهم جحدوا الحق وقالوا كذباً الله هو المسيح بن مريم .
{ المسيح } : لقب لعيسى بن مريم عبد الله ورسوله عليه السلام .
{ مريم } : بنت عمران من صلحاء بني إسرائيل والدة عيسى عليه السلام .
{ يهلك } : يميت ويبيد .
{ قدير } : قادر على إيجاد وإعدام كل شيء أراد إيجاده أو إعدامه .
{ الأحباء } : واحده حبيب كما أن الأبناء واحده ابن .
{ على فترة } : الفترة زمن انقطاع الوحى لعدم إرسال الله تعالى رسولا .
{ بشير ونذير } : البشير : المبشر بالخير ، والنذير : المنذر من الشر وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر المؤمنين وينذر الكافرين .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في الحديث عن أهل الكتاب ففي الآية الأولى ( 17 ) أخبر تعالى مؤكداً الخبر بالقسم المحذوف الدالة عليه اللام الواقعة في جواب القسم فقال : { لقد كفر الذين قالوا ان الله هو المسيح ابن مريم } ووجه كفرهم أنهم جعلوا الخلوق المربوب هو الله الخالق الرب لكل شيء وهو كفر من أقبح أنواع الكفر ، وهذا وإن لم يكن قول أكثر النصارى فإنهم بانتمائهم إلى النصرانية وقولهم بها وانخراطهم في سلك مبادئها وتعاليمها يؤاخذون به ، لأن الرضا بالكفر كفر .
وقوله تعالى : { قل فمن يملك من الله شيئاً } يعلم رسوله كيف يحتج على أهل هذا الباطل فيقول له : قل لهم فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه عليهما السلام { ومن في الأرض جميعا } والجواب قطعاً لا أحد ، إذاً فكيف يكون عبد الله هو الله أو إلهاً مع الله؟ أليس هذا هو الضلال بعينه وذهاب العقول لكماله؟ ثم أخبر تعالى أنه له { ملك السموات والأرض وما بينهما } خلقاً وتصرفاً ، وأنه { يخلق ما يشاء } خلقه بلا حجر عليه ولا حظر وهو على كل شيء قدير خلق آدم من تراب بلا أب ولا أم ، وخلق حواء من آدم ، وخلق عيسى من مريم بلا أب ، وخيلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير فكون المسيح عليه السلام خلقه بكلمة كن بلا أب لا تستلزم عقلاً ولا شرعاً أن يكون هو الله ، ولا ابنالله ، ولا ثالث ثلاثة مع الله كما هي عقيدة أكثر النصارى ، والعجب من إصرارهم على هذا الباطل ، هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الآية الثانية ( 18 ) فقد تضمنت بيان ضلال اليهود والنصارى معاً وهو دعواهم أنهم { أبناء الله واحباؤه } إذ قال تعالى عنهم { وقالت اليهود والصنارى نحن ابناء الله وأحباؤه } وهو تبجح وسفه وضلال فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم بقوله : قل لهم يا رسولنا { فلم يعذبكم بذنوبكم } فهل الأب يعذب أبناءه والحبيب يعذب محبيه ، وأنتم تقولون نعذب في النار أربعين يوماً بسبب خطيئة عبادة النار إلا أياماً معدودة } والحقيقة أن هذا القول منكم من حملة الترهات والأباطيل التي تعيشون عليها ، وأما أنتم فإنكم بشر ممن خلق الله فنسبتكم إليه تعالى نسبة مخلوق إلى خالق وعبد إلى مالك من آمن منكم وعمل صالحاً غفر له وأكرمه ، ومن كفر منكم وعمل سوءً عذبه كما هو سنته في سائر عباده ، ولا اعتراض عليه فإن له ملك السموات والأرض وما بينهما وأنتم من جملة مملوكيه ، واليه المصير فسوف ترجعون إليه ويجزيكم بوصفكم إنه حكيم عليم .
(1/340)
________________________________________
هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الآية الثالثة ( 19 ) فقد تضمنت إقامة الحجة على أهل الكتاب فقد ناداهم الرب تبارك وتعالى بقوله يا أهل الكتاب وأعلمهم أنه قد جاءهم رسوله محمد صلى الله عليه وسلم يبين لهم الطريق المنجي والمسعد في وقت واحد على حين فترة من الرسل إذا انقطع الوحي منذ رفع عيسى إلى السماء وقد مضى على ذلك قرابة خمسمائة وسبعين سنة أرسلنا رسولنا إليكم حتى لا تقولوا معتذرين عن شرككم وكفركم وشركم وفسادكم : { ما جاءنا من بشير ولا نذير } فها هو ذا البشير محمد صلى الله عليه وسلم فآمنوا به واتبعوه تنجوا وتسعدوا ، وإلا فالعذاب لازم لكم والله على تعذيبكم قدير كما هو على كل شيء قدير .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- كفر من ينسب إلى الله تعالى ما هو منزه عنه من سائر النقائص .
2- بطلان دعوى اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه بالدليل العقلي .
3- نسبة المخلوقات لله تعالى لا تتجاوز كونها مخلوقة له مملوكة يتصرف فيها كما شاء ويحكم فيها بما يريد .
4- قطع عذر أهل الكتاب بإرسال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل .
(1/341)
________________________________________
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
شرح الكلمات :
{ نعمة الله عليكم } : منها نجاتهم من فرعون وملائه .
{ إذ جعل فيكم أنبياء } : منهم موسى وهرون عليهما السلام .
{ وجعلكم ملوكاً } : أي مالكين أمر أنفسكم بعد الاستعباد الفرعوني لكم .
{ العالمين } : المعاصرين لهم والسابقين لهم .
{ المقدسة التي كتب } : المطهرة التي فرض الله عليكم دخولها والسكن فيها بعد طرد الكفار منها .
{ ولا ترتدوا على أدباركم } : أي ترجعوا منهزمين إلى الوراء .
{ قوماً جبارين } : عظام الأجسام أقوياء الأبدان يجبرون على طاعتهم من شاءوا .
{ يخافون } : مخالفة أمر الله تعالى ومعصية رسوله .
{ أنعم الله عليهما } : أي بنعمة العصمة حيث لم يفشوا سر ما شاهدوه لما دخلوا أرض الجبارين لكشف أحوال العدو بها ، وهما يوشع وكالب من النقباء الاثني عشر .
معنى الآيات :
ما زال السياق مع أهل الكتب وهو هنا في اليهود خاصة إذ قال الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم واذكر { إذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء } كموسى وهرون علهيما السلام { وجعلكم ملوكاً } تملكون أنفسكم لا سلطان لأمة عليكم إلا سلطان ربكم عز وجل { يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم } للسَّكَن فيها والاستقرار بها فافتحوا باب المدينة وباغتوا العدو فإنكم تغلبون { ولا ترتدوا على أدباركم } أي ولا ترجعوا إلى الوراء منهزمين فتنقلبوا بذلك خاسرين ، لا أمر الله بالجهاد أطعتم ، ولا المدينة المقدسة دخلتم وسكنتم ، واسمع يا رسولنا جواب القوم ليزول استعظامك بكفرهم بك وهمهم بقتلك ، ولتعلم أنهم قوم بهت سفلة لا خير فيهم ، إذ قالوا في جوابهم لنبيهم موسى عليه السلام : { يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون } !! وكان سبب هذه الهزيمة الروحية ما أذاعه النقباء من أخبرا مهيلة مخيفة تصف العمالقة الكنعانيين بصفات لا تكاد تتصور في العقول اللهم إلا اثنين منهم وهما يوشع بن نون ، وكالب بن يوحنا وهما اللذان قال تعالى عنهما : { قال رجلان من الذين يخافون } أي أمر الله تعالى { أنعم الله عليهما } فعصمهما من إفشاء سر ما رأو من قوة الكنعانيين إلا لموسى عليه السلام قالا للقوم { ادخلةا عليهم الباب } أي باب المدينة { فإذا دخلتموه فإنكم غالبون } وذلك لعنصر المباغتة وهو عنصر مهم في الحروب ، { وعلى الله فتوكلوا } وهاجموا القوم واقتحموا عليهم المدينة { إن كنتم مؤمنين } بما أوجب الله عليكم من جهاد وكتب لكم من الاستقرار بهذه البلاد والعيش بها ، لأنها أرض القدس والطهر . هذا ما تضمنته الآيات الأربع ، وسنسمع رد اليهود على الرجلين في الآيات التالية .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بإعلامه تعالى بخبث اليهود وشدة ضعفهم ومرض قلوبهم .
2- فضح اليهود بكشف الآيات عن مخازيهم مع أنبيائهم .
3- بيان الأثر السيء الذي تركه إذاعة النقباء للأخبار الكاذبة المهولة ، وقد استعملت ألمانيا النازية هذا الأسلوب ونجحت نجاحاً كبيراً حيث اجتاحت نصف أوربا في مدة قصيرة جداً .
4- بيان سنة الله تعالى من أنه لا يخلوا زمان ولا مكان من عبد صالح تقوم به الحجة على الناس .
5- فائدة عنصر المباغتة في الحرب وأنه عنصر فعال في كسب الانتصار .
(1/342)
________________________________________
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
شرح الكلمات :
{ لن ندخلها } : أي المدينة التي أمروا بمهاجمة أهلها والدخول عليهم فيها .
{ الفاسقين } : أي عن أمر الله ورسوله بتركهم الجهاد جبناً وخوفاً .
{ محرمة عليهم } : أي تحريماً كونيا قضائياً لا شرعياً تعبدياً .
{ يتيهون في الأرض } : أي في أرض سينا متحيرين فيها لا يدرون أي يذهبون مدة أربعين سنة .
{ فلا تأس } : أي لا تحزن ولا تأسف .
معنى الآيات :
هذا هو جواب القوم على طلب الرجلين الصالحين باقتحام المدينة على العدو ، إذ قالوا بكل وقاحة ودناء وخسة : { يا موسى إنا لن ندخلها . . } أي المدينة { . . . أبداً ما داموا فيها . . } أي ما دام أهلها فيها يدافعون عنها ولو لم يدافعوا ، { . . فاذهب أنت وربك فقاتلا . . } أهل المدينة أما نحن فها هنا قاعدون . أي تمرد وعصيان أكثر من هذا؟ وأي جبن وخور أعظم من هذا؟ وأي سوء أدب أحط من هذا؟ وهنا قال موسى متبرئاً من القوم الفاسقين : رب أي يا رب { إني لا أملك إلا نفسي وأخي . . } يريد هارون { . . فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } فطلب بهذا البراءة منهم ومن صنيعهم ، إذ قد استوجبوا العذاب قطعاً ، فأجابه ربه تعالى بقوله في الآية الثالثة ( 26 ) { فإنها محرمة عليهم . . } أي الأرض المقدسة أربعين سنة لا يدخلونها وفعلاً ما دخلوها إلا بعد مضي الفترة المذكورة ( أربعين سنة ) أي يأتون ، وعليه فلا تحزن يا رسولنا ولا تأسف على القوم الفاسقين إذ هذا جزاؤهم من العذاب عُجِّل لهم فليذوقوه!! .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان جبن اليهود ، وسوء أدبهم مع ربهم وأنبيائهم .
2- وجوب البراءة من أهل الفسق ببغض عملهم وتركهم لنقمة الله تعالى تنزيل بهم .
3- حرمة الحزن والتأسف على الفاسقين والظالمين إذا حلت بهم العقوبة الإِلهية جزاء فسقهم .
(1/343)
________________________________________
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
شرح الكلمات :
{ واتل عليهم } : وأقرأ على اليهود الذين هموا بقتلك وقتل أصحابك .
{ نبأ ابني آدم } : خبر ابني آدم هابيل وقابيل .
{ قرباناً } : القربان ما يتقرب به الى الله تعالى كالصلاة والصدقات .
{ بسطت إلي يديك } : مددت إليّ يدك .
{ أن تبوء بإثمي وإثمك } : ترجع إلى الله يوم القيامة بإثم قتلك إياي ، وإثمك في معاصيك .
{ فطوعت له نفسه } : شجعته على القتل وزينته له حتى فعله .
{ غراباً } : طائراً أسود معروف يضرب به المثل فى السواد .
{ يواري سوءة أخيه } : يستر بالتراب جسد أخيه ، وقيل فيه سوءة ، لأن النظر إلى الميت تكرهه النفوس ، والسوءة : ما يكره النظر إليها .
معنى الآيات :
ما زال السياق القرآني الكريم في الحديث عن يهود بني النضير الذين هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فالله تعالى يقول لرسوله واقرأ عليهم قصة ابني آدم هابيل وقابيل ليعلموا بذلك عاقبة جريمة القتل الذي هموا به ، توبيخاً لهم ، وإظهاراً لموقفك الشريف منهم حيث عفوت عنهم فلم تقتلهم بعد تمكنك منهم ، وكنت معهم كخير ابني آدم ، { . . إذا قربا قرباناً . . } ، أي قرب كل منهما قرباناً لله تعالى فتقبل الله قربان أحدهما لأنه كان من أحسن ماله وكانت نفسه به طيبة ، { ولم يتقبل من الآخر } وهو قابيل لأنه كان من أردأ ماله ، ونفسه به متعلقة ، فقال لأخيه هابيل لأقتلنك حسداً له - كم حسدتك اليهود وحسدوا قومك في نبوتك ورسالتك - فقال له أخوه إن عدم قبول قربانك عائدٌ إلى نفسك إلى غيرك إنما يتقبل الله من المتقين للشرك فلو اتقيت الشرك لتقبل منك قربانك لأن الله تعالى لا يتقبل إلا ما كان خالصاً له ، وأنت أشركت نفسك وهواك في قربانك ، فلم يتقبل منك . ووالله قسماً به { لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك } ، وعلل ذلك بقوله : { . . إنى أخاف الله رب العالمين } ، أي أن ألقاه بدم أرقته ظلماً . وإن أبيت إلا قتلي فإني لا أقتلك لأني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك أي ترجع إلى ربنا يوم القيامة بإثم قتلك إياي ، وإثمك الذي لا يفارقونها أبداً قال تعالى { وذلك جزاء الظالمين } ، { فطوعت له نفسه قتل أخيه } أي شجعته عليه وزينته له فقتله { فأصبح من الخاسرين } النادمين لأنه لم يدر ما يصنع به فكان يحمله على عاتقه ويمشي به حتى عفن ، وعندئذ بعث الله غراباً يبحث في الأرض أي ينبش الأرض برجليه ومنقاره وينشر التراب على ميت معه حتى واراه : أي عبث الله الغراب ليريه كيف يواري أي يستر سوءة أخيه أي جيفته ، فلما رأى قابيل ما صنع الغراب بأخيه الغراب الميت قال متندماً متحسراً يا ويلتا أي يا ويلتي احضري فهذا أوان حضورك ، ثم وبخ نفسه قائلاً : { أعجزت أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي } ، كما وارى الغراب سوءة أخيه ، وأصبح من النادمين على حمله أو على قتله وعدم دفنه ومجرد الندم لا يكون توبة مع أن توبة القاتل عمداً لا تنجيه من النار .
(1/344)
________________________________________
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- مشروعية التقرب الى الله تعالى بما يحب أن يتقرب به إليه تعالى .
2- عظم جريم الحسد وما يترتب عليها من الآثار السيئة .
3- قبول الأعمال الصالحة يتوقف على الإِخلاص فيها لله تعالى .
4- بيان أول من سن جريمة القتل وهو قابيل ولذا ورد : ما من نفساً ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل « نصيب » ذلك بأنه أول من سن القتل .
5- مشروعية الدفن وبيان زمنه .
6- خير ابني آدم المقتول ظلماً وشرهما القاتل ظلماً .
(1/345)
________________________________________
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
شرح الكلمات :
{ من أجل ذلك } : أي بسبب ذلك القتل .
{ كتبنا } : أوحينا .
{ أو فساد في الأرض } : بحربه لله ورسوله والمؤمنين .
{ ومن أحياها } : قدر على قتلها وهي مستوجبة له فتركها .
{ بالبينات } : الآيات الواضحات حاملة للشرائع والدلائل .
{ لمسرفون } : مكثرون من المعاصي والذنوب .
معنى الآية الكريمة :
يقول تعالى : إنه من أجل قبح جريمة القتل وما يترتب عليها من مفاسد ومضار لا يقادر قدرها أو جبنا على بني إسرائيل لكثرة ما شاع بينهم من القتل وسفك الدماء فقد قتلوا الأنبياء والآمرين بالقسط من الناس لأجل هذه الضراوة على القتل فقد قتلوا رسولين زكريا ويحيى وهموا بقتل كل من المرسلين العظيمين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم من أجل ذلك شددنا عليهم في العقوبة إذ من قتل منهم نفساً بغير نفس أي ظلماً وعدواناً . أو قتلها بغير فساد قامت به في الأرض وهو حرب الله ورسوله والمؤمنين فكأنما قتل الناس جميعاً بمعنى يعذب عذاب قتل الناس جميعاً يوم القيامة ومن أحياها بأن استوجبت القتل فعفا عنها وتركها لله إبقاء عليها فكأنما أحيا الناس جميعاً يعني يُعطى أجر من أحيا الناس جميعاً كل هذا شرعه الله تعالى لهم تنفيراً لهم من القتل الذي أصروا عليه ، وترغيباً لهم في العفو الذي جافوه وبعدوا عنه فلم يعرفوه وقوله تعالى : { ولقد جاءتهم رسولهم بالبينات } يخبر تعالى عن حالهم مسلياً رسوله محمداً عما يحمله من همّ منهم وهم الذين تآمروا على قتله أن الشر الذي لازم اليهود والفساد الذي أصبح وصفاً لازماً لهم وخاصة المؤامرات بالقتل وإيقاد نار الحروب لم يكن عن جهل وعدم معرفة منهم لا أبداً بل جاءتهم رسولهم بالآيات البينات والشرائع القويمة والآدب الرفعية ولكنهم قوم بهت متمردون على الشرائع مسرفون في الشر والفساد ولذا فإن كثيراً منهم والله لمسرفون في الشر والفساد ، وبنهاية هذه الآية ومن قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم ان يبسطوا إليكم أيديهم . . } وهي الآية ( 11 ) انتهى الحديث عن اليهود المتعلق بحادثة همهم بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقد ذكر تسلية لرسول الله وأصحابه ، كما هو تسلية لكل مؤمن يتعرض لمكر اليهود عليهم لعائن الله .
هداية الآية
من هداية الآية :
1- تأديب الرب تعالى لبني إسرائيل ومع الأسف لم ينتفعوا به .
2- فساد بني إسرائيل لم ينشأ عن الجهل وقلة العلم بل كان اتباعاً للأهواء وجريا وراء عارض الدنيا . فلذا غضب الله عليهم ولعنهم لأنهم عالمون .
3- بالرغم من تضعيف جزاء الجريمة على اليهود ، ومضاعفة أجر الحسنة له فإنهم أكثر الناس اسرافاً في الشر والفساد في الأرض .
(1/346)
________________________________________
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
شرح الكلمات :
{ يحاربون الله ورسوله } : بالخروج عن طاعتهما وحمل السلام على المؤمنين وقتلهم وسلب أموالهم والاعتداء على حرماتهم .
{ ويسعون في الأرض فساداً } : بإخافة الناس وقطع طرقهم وسلب أموالهم والاعتداء على أعراضهم .
{ أو يصلبوا } : يشدون على أعواد الخشب ويقتلون ، أو بعد أن يقتلوا .
{ من خلاف } : بأن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى ، والعكس .
{ أو ينفوا من الأرض } : أي من أرض الإِسلام .
{ خزي في الدنيا } : ذل ومهانة .
{ عذاب عظيم } : عذاب جهنم .
{ أن تقدروا عليهم } : أي تتمكنوا منهم بأن فروا بعيداً ثم جاءوا مسلمين .
معنى الآيتين :
لما ذكر تعالى ما أوجبه على اليهود من شدة العقوبة وعلى جريمة القتل والفساد في الأرض كسْرأ لِحِدةٍ جُرءتهم على القتل والفساد ذكر هنا حكم وجزاء من يحارب المسلمين ويسعى بالفساد في ديارهم فقال تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } بالكفر بعد الإِيمان والقتل والسلب بعد الأمان ، { ويسعون في الأرض فساداً } بتخويف المسلمين ، وقطع طرقهم وأخذ أموالهم ، والاعتداء على حرماتهم وأعراضهم ، هو ما أذكره لكم لا غيره فاعلموه أنه { أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض } ومعنى يقتلوا : يقتلون واحداً بعد واحد نكاية لهم وإرهاباً وتعزيراً لغيرهم ، ومعنى يصلبوا بعد ما يقتل الواحد منهم يشد على خشبة مدة ثلاثة أيام ومعنى ينفوا من الأرض يخرجوا من دار الإِسلام ، أو الى مكان ناءٍ كجزيرة في بحر أو يحبسوا حتى ينجو المسلمين من شرهم وأذاهم ، ويكون ذلك الجزاء المذكور خزياً وذلاً لهم في الدنيا { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } وهو عذاب النار ، وقوله تعالى : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } فهذا استثناء متصل من أولئك المحربين بأن من عجزنا عنه فلم نتمكن من من القبض عليه ، وبعد فترة جاءنا تائباً فإن حكمه يختلف عمن قبله ، وقوله تعالى : { فاعلموا أن الله غفور رحيم } يحمل إشارة واضحة إلى تخفيف الحكم عليه ، وذلك فإن كان كافراً وأسلم فإن الإِسلام يجب ما قبله فيسقط عنه كل ما ذكر في الآية من عقوبات . . وإن كان مسلماً فيسقط الصلب ويجب عليه ، رد المال الذي أخذه إن بقي في يده ، وإن قتل أو فجر وطالب بإقامة الحد عليه أقيم عليه الحد ، وإلا ترك لله والله غفور رحيم .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين :
1- بيان حكم الحرابة وحقيقتها : خروج جماعة اثنان فأكثر ويكون بأيديها سلاح ولهم شوكة ، خروجهم إلى الصحراء بعيداً عن والقرى ، يشنون هجمات على المسلمين فيقتلون ويسلبون ويعتدون على الأعراض . هذه هي الحرابة وأهلها يقال لهم المحاربون وحكمهم ما ذكر تعالى في الآية الأولى ( 33 ) .
2- الإِمام مخير في إنزال التي يرى أنها مناسبة لاستتباب الأمن ، إن قلنا أو في الآية للتخيير ، وإلا فمن قتل وأخذ المال وأخاف الناس قتل وصلب ، ومن قتل ولم يأخذ مالاً قتل ، ومن قتل وأخذ مالاً قطعت يده ورجله من خلاف فتقطع يده اليمنى ورجله اليسرى ، ومن لم يقتل ولم يأخذ مالاً ينفى .
3- من تاب من المحاربين قبل التمكن منه يعفا عنه إلا أن يكون بيده مال سلبه فإنه يرده على ذويه أو يطلب بنفسه إقامة الحد عليه فيجاب لذلك .
4- عظم عفو الله ورحمته بعباده لمغفرته لمن تاب ورحمته له .
(1/347)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
شرح الكلمات :
{ اتقوا الله } : خافوا عذابه فمتثلوا أمره رسوله واجتنبوا نهيهما .
{ وابتغوا } : إطلبوا .
{ الوسيلة } : تقربوا إليه بفعل محابه وترك مساخطه تظفروا بالقرب منه .
وجاهدوا في سبيله : أنفسكم بحملها على أن تتعلم وتعمل وتعلِم ، وأَعْدَاءَهُ بدعوتهم إلى الإِسلام وقتالهم على ذلك .
{ تُفْلِحُون } : تنجون من النار وتدخلون الجنة .
{ عذاب مقيم } : دائم لا يبرح ولا يزول .
معنى الآيتين :
ينادي الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين به وبرسوله ووعده ووعيده ليرشدهم إلى ما ينجيهم من العذاب فيجتنبوه ، وإلى ما يدنيهم من الرحمة فيعملوه فيقول : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون } ومعنى اتقوا الله خافوا عذابه فأطيعوه بفعل أوامره وأوامر رسول اجتناب نواهيهما فإن عذاب الله لا يتقى إلا بالتقوى . ومعنى { ابتغوا إليه الوسيلة } اطلبوا إليه القربة ، أي تقربوا إليه بفعل ما يحب وترك ما يكره تفوزوا بالقرب منه . ومعنى { جاهدوا في سبيله } جاهدوا أنفسكم في طاعته والشيطان في معصيته ، والكفار في الإِسلام إليه والدخول في دينه باذلين كل ما في وسعكم من جهد وطاقة ، هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 35 ) أما الآية الثانية ( 36 ) وهي قوله تعالى : { إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه . . الخ } فإنها علة لما دعت إليه الآية الأولى من الأمر بالتقوى وطلب القرب من الله تعالى وذلك بالإِيمان وصالح الأعمال ، لأن العذاب الذي أمروا باتقائه بالتقوى عذاب لا يطاق أبداً ناهيكم أن الذين كفروا { لو أن لهم في الأرض جميعاً } من مال صامت وناطق { ومثله معه } وقبل منهم فداء لأنفسهم من ذلك العذاب لقدموه سخية به نفوسهم ، إنه عذاب أليم موجع أشد الوجع ومؤلم أشد الألم إنهم يتمنون بكل قلوبهم أن يخرجوا من النار { وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم } دائم لا يبرح ولا يزل .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وجوب تقوى الله عز وجل وطلب القربة إليه والجهاد في سبيله .
2- مشروعية التوسل إلى الله تعالى بالإِيمان وصالح الأعمال .
3- عظم عذاب يوم القيامة وشدته غير المتناهية .
4- لا فدية يوم القيامة ولا شفاعة تنفع الكافر فيخرج بها من النار .
5- حسن التعليل للأمر والنهي بما يشجع على الامتثال والترك .
(1/348)
________________________________________
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
شرح الكلمات :
{ السارق } : الذي أخذ مالاً من حرز خفية يقدر بربع دينار فأكثر .
{ السارقة } : التي أخذت مالاً من حرز خفية يقدر بربع دينا فأكثر .
{ فاقطعوا أيديهما } : أي اقطعوا من سرقة منهما يده من الكوع .
{ نكالاً } : عقوبة من الله تجعل غيره ينكل أن يسرف .
{ عزيز حكيم } : عزيز : غالب لا يحال بينه وبين مراده ، حكيم : في تدبيره وقضائه .
{ بعد ظلمه } : بعد ظلمه لنفسه بمعصية الله تعالى بأخذ أموال الناس .
{ وأصلح } : أي نفسه بتزكيتها بالتوبة والعمل الصالح .
{ فإن الله يتوب عليه } : أي يقبل توبته ، ويغفر له ويرحمه إن شاء .
{ له ملك السموات والأرض } : خلقاً وملكاً وتدبيراً .
{ يعذب من يشاء } : أي تعذيبه لأنه مات عاصياً لأمره كافراً بحقه .
{ ويغفر لمن يشاء } : ممن تاب من ذنبه وأناب إليه سبحانه تعالى .
معنى الآيات :
يخبر تعالى مقرراً حكماً من أحكام شرعه وهو أن الذي يسرق مالاً يقدر بربع دينار فأكثر من حرز مثله خفية وهو عاقل بالغ ، ورفع إلى الحاكم ، والسارقة كذلك فالحكم أن تقطع يد السارق اليمنى من الكوع وكذا يد السارعة مجازاة لهما على ظلمهما بالاعتداء على أموال غيرهما ، { نكالاً من الله } أي عقوبة من الله تعالى لهما تجعل غيرهما لا يقدم على أخذ أموال الناس بطريقة السرقة المحرمة ، { والله عزيز حكيم } غالب على أمره حكيم في قضائه وحكمه . هذا معنى قوله تعالى : { والسارقة والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا } من الإِثم { نكالاً من الله والله عزيز حكيم } .
وقوله تعالى في الآية الثانية ( 39 ) { فمن تاب من بعد ظلمه } أي تاب من السرقة بعد أن ظلم نفسه بذلك { وأصلح } نفسه بالتوبة ومن ذلك رد المال المسروق { فإن الله يتوب عليه } لأنه تعالى غفور للتائبين رحيم بالمؤمنين ، وقوله تعالى في الآية الثالثة ( 40 ) { ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض } يخاطب تعالى رسوله وكل من و أهل للتلقي والفهم من الله تعالى فيقول مقرراً المخاطب { ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض } والجواب بلى ، وإذاً فالحكم له تعالى لا ينازع فيه لذا هو يعذب ويقطع يد السارق والسارقة ويغفر لمن تاب من السرقة وأصلح . وهو على كل شيء قدير .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان حكم حد السرقة وهو قطع يد السارق والسارقة .
2- بيان أن التائب من السراق إذا أصلح يتوب الله عليه أن يقبل توبته .
3- إذا لم يرفع السارق إلا الحاكم تصح توبته ولو لم تقطع يده ، وإن رفع فلا توبة له إلا بالقطع فإذا قطعت يده خرج من ذنبه كأن لم ذنب .
4- وجوب التسليم لقضاء الله تعالى والرضا بحكمه لأنه عزيز حكيم .
(1/349)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
شرح الكلمات :
{ لا يحزنك } : الحزن ألم نفس يسببه خوف فوات محبوب .
{ يسارعون في الكفر } : بمعنى يسرعون فيه إذ ما خرجوا منه كلما سنحت فرصة للكفر أظهروه .
{ قالوا آمنا بأفواههم } : هؤلاء هم المنافقون .
{ ومن الذين هادوا } : أي اليهود .
{ سماعون للكذب } : أي كثيروا الاستماع للكذب .
{ يحرفون الكلم } : يبدلون الكلام ويغيرونه ليوافق أهواءهم .
{ إذا أوتيتم هذا } : أي أعطيتم .
{ فتنته } : أي ضلاله لما سبق له من موجبات الضلال .
{ أن يطهر قلوبهم } : من الكفر والنفاق .
{ خزي } : ذل .
{ أكالون للسحت } : كثيروا الأكل للحرام كالرشوة والربا .
{ أو أعرض عنهم } : أي لا تحكم بينهم .
{ بالقسط } : أي صدقاً وحقاً وإن ادعوه نطقاً .
معنى الآيات :
قوله تعالى { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر . . } إلى قوله { . . عذاب عظيم } في نهاية الآية نزل تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتخفيفاً مما كان يجده صلى الله عليه وسلم من ألم نفسي من جراء ما يسمع ويرى من المنافقين واليهود فناداه ربه تعالى بعنوان الرسالة التي كذب بها لامنافقون واليهود معاً : { يا أيها الرسول } الحق ، لينهاه عن الحزن الذي يضاعف ألمه : { لا يحزنك } حال الذين { يسارعون في الكفر } بتكذيبك فإنه ما خرجوا من الكفر بل هم فيه منغمسون فإذا سمعت منهم قول الكفر لا تحفل به حتى لا يسبب لك حزناً في نفسك . { من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا } أي لا يحزنك كذلك حال اليهود الذين يكبون بنبؤتك ويجحدون رسالتك ، { سماعون للكذب } سماعون ليهود آخرين لم يأتوك كيهود خيبر وفدك أي كثيرا السمع للكذب الذي يقوله أحبارهم لما فيه من الإساءة إليك سماعون لأهل قوم آخرين ينقلوبن إليهم أخبارك كوسائط وهم لم يأتوك وهم يهو خيبر إذا أوعزوا إليهم أن يسألوا لهم النبي صلى الله عليه وسلم عن حد الزنى { يحرفون الكلم من بعد مواضعه } ، أي يغيرون حكم الله الذي تضمنه الكلام ، يقولون لهم إن أفتاكم في الزانين المحصنين بالجلد والتحميم بالفحم فاقبلوا ذلك وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا قبول ذلك . هذا معنى قوله تعالى في هذه الآية { يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا } وقال تعالى لرسوله ، { ومن يرد الله فتنته } إي إضلاله عن الحق لما اقترف من عظائم الذنوب وكبائر الآثام { فلن تملك له من الله شيئاً } إذا أراد الله إضلاله إذا ً فلا يحزنك مسارعتهم في الكفر ، { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } من الحسد والشرك والنفاق لسوابق الشر التي كانت لهم فحالت دون قبول الإِيمان والحق ، { لهم في الدنيا خزيْ أي ذل وعار ، { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } جزاء كفرهم وبغيهم . هذا ما دلت عليه الآية ( 41 ) أما الآية الثانية ( 42 ) فقد تضمنت وصف أولئك اليهود بصفة كثرة استماع الكذب مضافاً إليه كثرة أكلهم للسحت وهو المال الحرام أشد حرمة الرشوة والربا ، فقال تعالى عنهم { سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك . .
(1/350)
________________________________________
} أي للتحاكم عندك فأنت مخير بين أن تحكم بينهم بحكم الله . أو تعرض عنهم وتتركهم لأحبارهم يحكمون بينهم كما شاءوا وإن تعرض عنهم فلم تحكم بينهم لن يضروك شيئاً أي من الضرر ولو قل ، لأن الله تعالى وليك وناصرك ، وإن حكمت بينهم فاحكم بينهم بالقسط أي بالعدل ، لأن الله تبارك وتعالى يحب ذلك فافعله لأجله إنه يحب القسط والمقسطين ، وقوله تعالى في الآية الثالثة ( 43 ) { وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله } . أي إنه مما يتعجب منه أن يحكموك فتحكم بينهم برجم الزناة . وعندهم التوراة فيها نفس الحكم فرفضوه معرضين عنه اتّباعاً لأهوائهم ، { وما أولئك بالمؤمنين } لا بك ولا بحكمك ولا بحكم التوراة .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- استحباب ترك الحزن باجتناب أسبابه ومثيراته .
2- حرمة سماع الكذب لغير حاجة تدعو إلى ذلك .
3- حرمة تحريف الكلام وتشويهه للإِفساد .
4- الحاكم المسلم مخير في الحكم بين أهل الكتاب إن شاء حكم بينهم وإن شاء أحالهم على علمائهم .
5- وجوب العدل في الحكم ولو كان المحكوم عليه غير مسلم .
6- تقرير كفر اليهود وعدم إيمانهم .
(1/351)
________________________________________
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
شرح الكلمات :
{ التوراة } : كتاب موسى عليه السلام .
{ هدى ونور } : الهدى : ما يوصل إلى المقصود والنور : ما يهدي السائر إلى غرضه .
{ هادوا } : اليهود .
{ الربانيون } : جمع رباني : العالم المربي الحكيم .
{ الأحبار } : جمع حبر : العالم من أهل الكتاب .
{ وكتبنا } : فرضنا عليهم وأوجبنا .
{ قصاص } : مساواة .
{ وقفينا } : أتبعناهم بعيسى بن مريم .
{ الفاسقون } : الخارجون عن طاعة الله ورسله .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في الحديث على بني إسرائيل إذ قال تعالى مخبراً عما آتى بني إسرائيل { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } هدى من كل ضلالة ونور مبين للأحكام مُخرج من ظلمات الجهل { يحكم بها النبيون } من بني إسرائيل { النبيون الذين أسلموا } لله قلوبهم ووجوهم فانقادوا لله ظاهراً وباطناً ، { للذين هادوا } ، ويحكم بها الربانيون من أهل العلم فلا يبدلونه ولا يغيرون فيها ، { وكانوا عليه شهداء } بأحقيته وسلامته من النقص والزيادة بخلافكم أيها اليهود فقد حرفتم الكلم عن مواضعه وتركتم الحكم به فما لكم؟ فأظهروا الحق من نعت محمد صلى الله عليه وسلم والأمر بالإِيمان به ، ومن ثبوت الرجم وإنفاذه في الزناة ولا تخشوا الناس في ذلك واخضوا الله تعالى فهو أحق أن يخشى ، ولا تشتروا بآيات الله التي هي أحكامه فتعطلوها مقابل ثمن قليل تأخذونه ممن تجاملونهم وتداهنونهم على حساب دين الله وكتابه . { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } فكيف ترضون بالكفر بدل الأَيمان .
هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 44 ) أما الآية الثانية ( 45 ) { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس . . } فقد أخبر تعالى أنه فرض على بني إسرائيل في التوراة القود في النفس والقصاص في الحراحات فالنفس تقتل بالنفس ، العين تفقأ بالعين والأنف يجدع بالأنف ، والأذن تقطع بالأذن والسن تكسر إن كسرت بالسن ، وتقلع به إن قلع ، والجروع بمثلها قصاص ومساواة وأخبر تعالى أن من تصدق على الجاني بالعفو عنه وعدم المؤاخذة فإن ذلك يكون كفارة لذنوبه ، وإن لم يتصدق عليه واقتص منه يكون ذلك كفارة لجنايته بشرط وذلك بأن يقدم نفسه للقصاص تائباً أي نادماً على فعله مستغفراً ربه . وقوله تعالى في ختام الآية : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } ، وذلك بأن قتل غير القاتل أو قتل بالواحد اثنين أوفقأ بالعين عينين كما كان بنو النضير يعاملون به قريظة بدعوى الشرف عليهم .
هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الثالثة ( 46 ) وهي قوله تعالى : { وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم } فقد أخبر تعالى أنه أتبع أوئلك الأنبياء السابقين من بني إسرائيل عيسى بن مريم عليه السلام أي أرسله بعدهم مباشرة { مصدقاً لما بين يديه من التوراة } لم ينكرها أو يتجاهلها ، { وآتيناه الإِنجيل } ، أي وأعطيناه الإِنجيل وحياً أوحيناه إليه وهو كتاب مقدس أنزله الله تعالى عليه فيه أي في الإِنجيل هدى من الضلال ونور لبيان الأحكام من الحلال والحرام ، { ومصدقاً } أي الإِنجيل لما قبله من التوراة أي مقرراً أحكامها مثبتاً لا إلا ما نسخه الله تعالى منها بالإِنجيل ، { وهدى وموعظة للمتقين } أي يجد فيه أهل التقوى الهداية الكافية للسير في طريقهم الى الله تعالى والمواعظة التامة للاتعاظ بها في الحياة .
(1/352)
________________________________________
هذا ما دلت عليه الآية الثالثة أما الآية ( 47 ) وهى قوله تعالى : { وليحكم أهل الإِنجيل بما أنزل الله فيه } أي وقلنا ليحكم أهل الإِنجيل يريد وأمرنا أهل الإِنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه من الأحكام ، وأخبرناهم أن من { لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } عن أمره الخارجون عن طاعته وقد يكون الفسق ظلماً وكفراً .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وجوب خشية الله بأداء ما أوجب وترك ما حرم .
2- كفر من جحد أحكام الله فعطلها أو تلاعب بها فحكم بالبعض دون البعض .
3- وجوب القود في النفس والقصاص في الجراحات لأن ما كتب على بني إسرائيل كتب على هذه الأمة .
4- من الظلم أن يعتدى في القصاص بأن يقتل بالواحد اثنان أو يقتل غير القاتل أو يفقأ بالعين الواحدة عينان مثلا وهو كفر الاستحلال وظلم في نفس الوقت .
5- مشروعية القصاص في الإِنجيل وإلزام أهله بتطبيقه وتقرير فسقهم إن عطلوا تلك الأحكام وهم مؤمنون بها .
(1/353)
________________________________________
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
شرح الكلمات :
{ الكتاب } : القرآن الكريم .
{ من الكتاب } : اسم جنس بمعنى الكتب السابقة قبله كالتوراة والإِنجيل .
{ مهيمناً عليه } : حاكما عليه أي محققاً للحق الذي فيه ، مبطلاً للباطل الذي الْتَصق به .
{ شرعة ومنهاجاً } : شريعة تعملون بها وسبيلاً تسلكونه لسعادتكم وكمالكم من سنن الهدى .
{ أمة واحدة } : لا اختلاف بينكم فى عقيدة ولا في عبادة ولا قضاء .
{ فاستبقوا } : أي بادروا فعل الخيرات ليفوز السابقون .
{ أن يفتنوك } : يضلوك عن الحق .
{ فإن تولوا } : أعرضوا عن قبول الحق الذي دعوتهم إليه وأردت حكمهم به .
{ حكم الجاهلية } : هو ما عليه أهل من الأحكام القبلية التي لا تقوم على وحي الله تعالى وإنما على الآراء والأهواء .
معنى الآيات :
لما ذكر تعالى إنزاله التوراة وأن فيها الهدى والنور وذكر الإِنجي وأنه أيضاً فيه الهدى والنور ناسب ذكر القرآن الكريم فقال : { وأنزلنا إليك الكتاب } أي القرآن { بالحق } متلبساً به لا يفاقره الحق والصدق لخلوه من الزيادة والنقصان حال كونه { كونه مصدقاً لما بين يديه } من الكتب السابقة ، ومهيمناً حفيظاً حاكما فالحق ما أحقه منا والباطل ما أبطله منها .
وعليه { فاحكم } يا رسولنا بين اليهود والمتحاكمين إليك { بما أنزل الله } إليك بقتل القاتل ورجم الزاني لا كما يريد اليهود { ولا تتبع أهواءهم } في ذلك وَتَرُكَ ما جاءك من الحق ، واعلم أنا جعلنا لكل أمة شرعة ومنهاجاً أي شرعاً وسبيلاً خاصاً يسلكونه في إسعادهم وإكمالهم ، { ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة } على شريعة واحدة لا تختلف في قضاياها شريعة أخرى من أجل أن يبتليكم فيما أعطاكم وأنزل عليكم ليتبين المطيع من المعاصي والمهتدي من الضال ، وعليه فَهَلُمَّ { فاستبقوا الخيرات } أي بادروا الأعمال الصالحة وليجتهد كل واحد أن يكون سابقاً ، فإن مرجعكم إليه تعالى { فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } ، ثم يجزيكم الخير بمثله والشر إن شاء كذلك . هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الآية الثانية ( 49 ) فقد أمر الله تعالى فيها رسوله ونهاه وحذره وأعلمه وندد بأعدائه وأمره أن يحكم بين من يتحاكمون إليه بما أنزل عليه من القرآن فقال : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } ونهاه أن يتبع أهواء اليهود فقال : { ولا تتبع أهواءهم } وحذره من أن يتبع بعض آرائهم فيترك بعض ما أنزل عليه ولا يعمل به وعيمل بما اقترحوه عليه فقال : { واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } وأعلمه أن اليهود إن تولوا أي أعرضوا عن قبول حكمه وهو الحكم الحق العادل فإنما يريد الله تعالى أن ينزل بهم عقوبة نتيجة ما قارفوا من الذنوب وما ارتكبوا من الخايا فقال : { فإن تولوا فاعلم أنَّما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم } . وندد بأعدائه حيث أخبر أن أكثرهم فاسقون أي عصاة خارجون عن طاعة الله تعالى ورسله فقال : { وإن كثيراً من الناس لفاسقون } .
(1/354)
________________________________________
فسلاه بذلك وهون عليه ما قد يجده من ألم تمرد اليهود والمنافقين وإعراضهم عن الحق الذي جاءهم به ودعاهم إليه . هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الآية الثالثة ( 50 ) فقد أنكر تعالى فيها على اليهود طلبهم حكم أهل الجاهلية حيث لا وحي ولا تشريع إلهي وإنما العادات والأهواء والشهوات معرضين عن حكم الكتاب والسنة حيث العدل والرحمة فقال تعالى : { أفحكم الجاهلية يبغون } . ثم أخبر تعالى نافياً أن يكون هناك حكم أعدل أو أرحم من حكم الله تعالى للمؤمنين به الموقنين بعدله تعالى ورحمته فقال : { ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } ؟ .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وجوب الحكم وفي كل القضايا بالكتاب والسنة .
2- لا يجوز تحكيم أية شريعة أو قانون غير الوحي الإِلهي الكتاب والسنة .
3- التحذير من اتباع أهواء الناس خشية الإِضلال عن الحق .
4- بيان الحكمة من اختلاف الشرائع وهو الابتلاء .
5- أكثر المصائب في الدنيا ناتجة بعض الذنوب .
6- حكم الشرعية الإِسلامية أحسن الأحكام عدلاً ورحمة .
(1/355)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
شرح الكلمات :
{ آمنوا } : صدقوا بالله ورسوله ووعد الله ووعيده .
{ أولياء } : لكم توالونهم بالنصرة والمحبة .
{ بعضهم أولياء بعض } : أي اليهود ولي أخيه اليهودي ، والنصراني ولي أخيه النصراني .
{ الظالمين } : الذين يوالون أعداء الله ورسوله ويتركون موالاة الله ورسوله والمؤمنين .
{ مرض } : نفاق وشك وشرك .
{ يسارعون فيهم } : أي في البقاء على موالاتهم أي موالاة اليهود والنصارى .
{ دائرة } : تدور علينا من جدب ، أو انتهاء أمر الإِسلام .
{ بالفتح } : نصر المؤمنين على الكافرين والقضاء لهم بذلك كفتح مكة .
{ جهد أيمانهم } : أقصاها وأبلغها .
{ حبطت أعمالهم } : بطلت وفسدت فلم ينتفعوا منها بشيء لأنها ما كانت لله تعالى .
معنى الآيات :
ورد في سبب نزول هذه الآية أن عبادة بن الصامت الأنصاري ، وعبد الله بن أبي كان لكل منهما حلفاء من يهود المدينة ، ولما انتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون في بدر اغتاظ اليهود وأعلنوا سوء نياتهم فتبرأ عبادة بن الاصمت من حلفائه ورضي بموالاة الله ورسوله والمؤمنين وأبى ابن أبي ذلك وقال بعض ما جاء في هذه الآيات فأنزل الله تعالى قوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } أي لكم من دون المؤمنين وقوله تعالى { بعضهم أولياء بعض } تعليل لتحريم موالاتهم ، لأن اليهودي ولي لليهودي والنصارني ولي للنصراني عل المسلمين فكيف تجوز إذاً موالاتهم ، وكيف يصدقون أيضاً فيها فهل من المعقول أن يحبك النصراني ويكره أخاه ، وهل ينصرك على أخيه؟ وقوله تعالى : { ومن يتولهم منكم } أي أيها المؤمنين { فإنه منهم } ، لأنه بحكم موالاتهم سيكون حرباً على الله ورسوله والمؤمنين وبذلك يصبح منهم قطعاً وقوله : { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } جمل تعليلة تفيد أن من والى اليهود والنصارى من المؤمنين أصبح مثلهم فيحرم هداية الله تعالى لأن الله لا يهدي القوم الظالمين ، والظلم وضع الشيء في غير محله وهذا الموالي لليهود والنصارى قد ظلم بوضع الموالاة في غير محلها حيث عادى لله ورسوله والمؤمنين ووالى اليهود والنصارى أعداء الله ورسوله والمؤمنين . هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الآية الثانية ( 52 ) فقد تضمنت بعض ما قال ابن أبي مبرراً به موقفه المخزي وهو الإِبقاء على موالاته لليهود إذ قال تعالى { يسارعون فيهم } أي في موالاتهم ولم يقل يسارعون إليهم لأنهم ما خرجوا من دائرة موالاتهم حتى يعود إليها بل هم في داخلها يسارعون ، يقولون كالمعتذرين { نخشى أن تصيبنا دائرة } من تقلب الأحوال فنجد أنفسنا مع أحلافنا ننتفع بهم . وقوله تعالى : { فعسى الله أن يأتي بالفتح } وعسى من الله تفيد تحقيق الوقوع فهي بشرى لرسول الله والمؤمنين يقرب النصرب والفتح { أو أمر من عنده فيصبحوا } أي أولئك الموالون لليهود { على ما أسروا في أنفسهم } من النفاق وبغض المؤمنين وحب الكافرين { نادمين } حيث لا ينفعهم ندم .
(1/356)
________________________________________
هذا ما تضمنته الآية الثانية أما الآية الثالثة ( 53 ) وهي قوله تعالى : { ويقول الذين آمنوا } عندما يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده فيه نصرة المؤمنين وهزيمة الكافرين ، ويصبح المنافقون نادمين يقول المؤمنون مشيرين إلى المنافقين : { أهؤلاء الذين أقسموا بالله } أغلظ الأَيمان { إنهم لمعكم حبطت أعمالهم } لأنها لم تكن لله { فأصبحوا خاسرين } .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- حرمة موالاة اليهود والنصارى وسائر الكافرين .
2- موالاة الكافر على المؤمن تعتبر ردة عن الإِسلام .
3- موالاة الكافرين ناجمة عن ضعف الإِيمان فلذا تؤدي إلى الكفر .
4- عاقبة النفاق سيئة ونهاية الكفر مريرة .
(1/357)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
شرح الكلمات :
{ من يرتد } : أي يرجع إلى الكفر بعد إيمانه .
{ إذلة على المؤمنين } : أرقاء عليهم رحماء بهم .
{ أعزة عل الكافرين } : أشداء غلاظ عليهم .
{ لومة لائم } : عذل عاذل .
{ حزب الله } : أنصار الله تعالى .
معنى الآيات :
هذه الآية الكريمة ( 54 ) { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه } تضمنت خبراً من أخبار الغيب التي يخبر بها القرآن فتتم طبق ما أخبر به فتكون آية أنه كلام الله حقاً وأن المنزل على رسوله صدقا فقد أخبر تعالى أن من يرتد من المؤمنين سوف يأتي الله عز وجل بخير منه ممن يحبون الله ويحبهم الله تعالى رحماء بالمؤمنين أشداء على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لوم من يلوم ، ولا عتاب من يعتب عليهم . وما إن مات الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ارتد فئات من أجلاف الأعراب ومنعوا الزكاة وقاتلهم أبو بكر الصديق مع الصاحبة رضوان الله عليهم حتى أخضعوهم للإِسلام وحسن إسلامهم فكان أبو بكر وأصحابه ممن وصف الله تعالى يحبون الله ويحبهم الله يجاهدون في سبيله ولا يخافون لومة لائم ، وقد روي بل وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية وتلاها صلى الله عليه وسلم وأبو موسى الأشعري أمامة فأشار إليه وقال قوم هذا ، وفعلاً بعد وفاة الرسول جاء الأشعريون وظهرت الآية وتمت المعجزة وصدق الله العظيم ، وقوله تعالى : { ذلك فضل الله } الإِشارة إلى ما أولى أولئك المؤمنين من أبي بكر الصديق والصحابة والأشعريين من تلك الصفات الجليلة من حب الله والرقة على المؤمنين والشدة على الكافرين ، والجهاد في سبيل الله ، وقوله تعالى : { والله واسع عليم } أي واسع الفضل عليم بمن يستحقه . هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الثانية ( 55 ) فقد تضمنت طمائنة الرب تعالى لعباده بن صامت وعبد الله بن سلام ومن تبرأ من حلف اليهود ووالى الله ورسوله فأخبرهم تعالى أنه هو وليهم ورسوله والذين آمنوا { الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } أي خاشعون متطامنون وأما ولاية اليهود والنصارى فلا خير لهم فيها وهم منها براء فقصرهم تعالى على ولايته وولاية رسوله والمؤمنين الصادقين وفي الآية الثالثة أخبرهم تعالى أن من يتول الله ورسوله والذين آمنوا ينصره الله ويكفه من يهمه ، لأنه أصبح من حزب الله ، وحزب الله أي أولياؤه وأنصاره هم الغالبون هذا ما دلت عليه الآية الكريمة وهي قوله تعالى : { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } .
هداية الأيات :
من هداية الآيات :
1- إخبار القرآن الكريم بالغيب وصدقه في ذلك فكان آية أنه كلام الله .
2- فضيلة أبي بكر والصحابة والأشعريين قوم أبي موسى الأشعري وهم من أهل اليمن .
3- فضل حب الله والتواضع للمؤمنين وإظهار العزة على الكافرين ، وفضل الجهاد في سبيل الله وقول الحق والثبات عليه وعدم المبالاة بمن يلوم ويعذل في ذلك .
4- فضيلة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والخشوع والتواضع .
5- ولاية الله ورسوله والمؤمنين الصادقيت توجب لصاحبها النصر والغلبة على أعدائه .
(1/358)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
شرح الكلمات :
{ هزواً ولعباً } : الهزء : ما يُهزأ به ويسخر منه . واللعب : ما يلعب به .
{ أوتوا الكتاب } : هم اليهود في هذا السياق .
{ الكفار } : المشركون .
{ إذا ناديتم إلى الصلاة } : أذنتم لها .
{ هل تنقمون منا } : أي ما تنقمون منا ، ومعنى تنقمون هنا تنكرون منا وتعيبون علينا .
{ مثوبة } : جزاء .
{ فاسقون } : خارجون عن طاعة الله تعالى بالكفر والمعاصي .
{ القردة } : جمع قرد حيوان معروف مجبول على التقليد والمحاكاة .
{ والخنازير } : جمع خنزير حيوان معروف محرم الأكل .
{ شر مكاناً } : أي منزلة يوم القيامة في نار جهنم .
معنى الآيات :
ما زال السياق في تحذير المؤمنين من موالاة وأعداء الله ورسوله فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا } بالله رباً وبمحمد رسولاً وبالإِسلام ديناً { لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم } الإِسلامي { هزواً } شيئاً يهزءون به ، ولعباً أي شيئاً يلعبون به { من الذين أوتوا الكتاب } يعني اليهود ، والكفار وهم المنافقون والمشركون ( أولياء ) أنصاراً وأحباء وأحلافاً واتقوا الله في ذلك أي في اتخاذهم أولياء إن كنتم مؤمنين صادقين في إيمانكم فإن حب الله ورسوله والمؤمنين يتنافى معه حب أعدائه الله ورسوله والمؤمنين . هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 57 ) أما الآية الثانية ( 58 ) فقد تضمنت إخبار الله تعالى بما يؤكد وجوب معاداة من يتخذ دين المؤمنين هزواً ولعباً وهم أولئك الذين إذا سمعوا الأذان ينادى للصلاة اتخذوه هزواً فهذا يقول ما هذا الصوت وآخر يقول هذا نهيق حمار قبح الله قولهم وأقمأهم . فقال تعالى عنهم : { وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } . حقاً انهم لا يعقلون فلو كانوا يعقلون لكان النداء إلى الصلاة من أطيب منا يسمع العقلاء لأنه نداء إلى الطهر والصفاء وإلى الخير والمحبة والألفة نداء إلى ذكر الله وعبادته ، ولكن القوم كما أخبر تعالى عنهم : { لا يعقلون } شأنهم شأن البهائم والبهائم أفضل منهم . هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الآية الثالثة ( 59 ) فقد تضمنت تعليم الله تعالى لرسوله أن يقول لأولئك اليهود والكفرة الفجرة يا أهل الكتاب إنكم بمعاداتكم لنا وحربكم علينا ما تنقمون منا أي ما تكرهون منا ولا تعيبون علينا إلا إيماننا بالله وما أنزل علينا من هذا القرآن الكريم وما أنزل من قبل من التوراة والإِنجيل ، وكون أكثركم فاسقين فهل مثل هذا ينكر من صاحبه ويعاب عليه؟ اللهم لا ، ولكنكم قوم لا تعقلون هذا معنى قوله تعالى في هذه الآية : { قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل الينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون } أما الآية الرابعة في هذا السياق ( 60 ) فقد تضمنت تعليم الله لرسوله كيف يرد على أولئك اليهود إخوان القردة والخنازير قولهم : لا نعلم ديناً شراً من دينكم ، وذلك أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم : بمن تؤمن؟ فقال أؤمن بالله وبما أنزل إلينا وما أنزل على موسى وما أنزل على عيسى فلما قال هذا ، قالوا : لا نعلم ديناً شراً من دينكم بغضاً لعيسى عليه السلام وكرهاً له ، فأنزل الله تعالى : { قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة } أي ثواباً وجزاء { عند الله؟ } أنه { من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير } إذ مسخ طائفة منهم قردة ، وأخرى خنازير على عهد داود عليه السلام ، وقوله { وعبد الطاغوت } أي وجعل منهم من عبد الطاغوت وهو الشيطان وذلك بطاعته الانقياد لما يجلبه عليه ويزينه له من الشر والفساد ، إنه أنتم يا معشر يهود ، إنكم لشر مكاناً يوم القيامة وأضل سبيلاً اليوم في هذه الحياة الدنيا .
(1/359)
________________________________________
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- حرمة اتخاذ اليهود والنصارى والمشركين أولياء لا سيما أهل الظلم منهم .
2- سوء أخلاق اليهود وفساد عقولهم .
3- شعور اليهود بفسقهم وبعد ضلالهم جعلهم يعملون على إضلال المسلمين .
4- تقرير وجود مسخ في اليهود قردة وخنازير .
5- اليهود شر الناس مكانا يوم القيامة ، وأضل الناس في هذه الدنيا .
(1/360)
________________________________________
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
شرح الكلمات :
{ يكتمون } : أي يضمرون في نفوسهم ويخفونه فيها .
{ في الإِثم والعدوان } : الإِثم كل ضار وفاسد وهو ما حرمه الله تعالى من اعتقاد أو قول أو عمل ، والعدوان : الظلم .
{ السحت } : المال الحرام كالرشوة والربا ، وما يأخذونه من مال مقابل تحريف الكلم وتأويله .
{ الربانيون والأحبار } : الربانيون هنا العباد المربون كمشايخ التصوف عندنا .
والأحبار : العلماء .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في فضح وبيان خبثهم زيادة في التنفير من موالاتهم فأخبر تعالى في الآيةالأولى عن منافقيهم فقال : { وإذا جاءكم } يريد : غشوكم في مجالسكم ، { قالوا آمنا } وما آمنوا ولكنهم ينافقون لا غير فقد دخلوا بالكفر في قلوبهم وخرجوا به ، { والله أعلم بما كانوا يكتمون } من الكفر والكيد لكم . هذا معنى قوله تعالى في الآية الأولى ( 61 ) { وإذا جاءكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون } وأما الآية الثانية ( 62 ) فقد أخبر تعالى رسوله أنهم لكثرة ما يرتكبون من الذنوب ويغشون من المعاصي ترى كثراً منهم يسارعون في الإِثم والعدوان وأكلهم السحت علناً لا يستترون به ولا يخفونه ثم ذمهم الله تعالى على ذلك وقبح فعلهم فقال { لبئس ما كانوا يعملون } . وفي الآية الأخيرة : أنكر على عباده وعلمائهم سكوتهم عن جرائم عوامهم ورضاهم بها مصانعة لهم ومداهنة فقال تعالى : { لولا ينهاهم الربانيون والأحبار } أي لم لا ينهونهم عن قولهم الإِثم أي الكذب وأكلهم السحت الرشوة والربا ، ثم ذم تعالى سكوت العلماء عنهم بقوله { لبئس ما كانوا يصنعون } أي وعزتي وجلالي لبئس صنيع هؤلاء من صنيع حيث أصبح السكوت المعتمد لمنافع خاصة يحصلون عليها صنعة لهم أتقنوها وحذقوها . والعياذ بالله .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وجود منافقين منَ اليهود على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة .
2- بيان استهتار اليهود وعدم مبالاتهم بارتكابهم الجرائم علانية .
3- قبح سكوت العلماء على المنكر وإغضائهم على فاعليه ، ولذا قال كثير من السلف في هذه الآية أشد آية وأخطرها على العلماء .
(1/361)
________________________________________
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
شرح الكلمات :
{ يد الله مغلولة } : يريدون أنه تعالى ضيق عليهم الرزق ولم يوسع عليهم .
{ غلت أيديهم } : دعاء عليهم بأن يحرموا الإِنفاق في الخير وفيما ينفعهم .
{ لعنوا بما قالوا } : طردوا من رحمة الله بسبب وصفه الرب تعالى بالبخل .
{ بل يداه مبسوطتان } : لا كما قالوا لعنهم الله : يد الله مغلولة أي ممسكة عن الإِنفاق .
{ طغياناً } : تجاوزاً لحد الاعتدال في قولهم الكاذب وعملهم الفاسد .
{ وألقينا بينهم } : أي بين اليهود والنصارى .
{ أوقدوا ناراً } : أي نار الفتنة والحريش والإِغراء والعداوات للحرب .
{ ولو أن أهل الكتاب } : اليهود والنصارى .
{ من فوقهم ومن تحت ارجلهم } : كناية عن بسط الرزق عليهم .
{ أمة مقتصدة } : معتدلة لا غالية مفرطة ، ولا جافية مفرطة .
معنى الآيات :
يخبر تعالى عن كفر اليهود وجرأتهم على الله تعالى بباطل القول وسيء العمل فيقول : { وقالت اليهود يد الله مغلولة } يريدون أنه تعالى أمسك عنهم الرزق وضيقه عليهم ، فرد الله تعالى عليهم بقوله : { غلت أيديهم } وهو دعاء عليهم بأن لا يوفقوا للإِنفاق فيما ينفعهم { ولعنوا بما قالوا } . ولعنهم تعالى ولعنهم كل صالح في الأرض والسماء بسبب قولهم الخبيث الفساد . وأكذبهم تعالى في قولهم { يد الله مغلولة } فقال : { بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } كما قال عنه رسوله في الصحيح « يمين الله سَحَّاء تنفق الليل والنهار » ثم أخبر تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ليسليه ويخفف عنه ما يجد في نفسه من جراء كفر اليهود وخبثهم فقال : { وليزيدن كثيراً منهم } أي من اليهود { ما أنزل إليك } من الآيات التي تبين خبثهم وتكشف النقاب عن سوء أفعالهم المخزية لهم . { طغياناً وكفراً } أي إبعاداً في الظلم والشر وكفراً بتكذيبك وتكذيب ما أنزل إليك وذلك دفعاً للحق ليبرروا باطلهم وما هم عليه من الاعتقاد الفاسد والعمل السيء ، ثم أخبر تعالى رسوله بتدبيره فيهم انتقاماً منهم فقال عز من قائل : { والقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } أي أن العداوة بين اليهود والنصارى لا تنتهي إلى يوم القيامة ، ثم أخبر عن اليهود أنهم { كلما أوقدوا ناراً للحرب } وذلك بالتحريش بين الأفراد والجماعات وحتى الشعوب والأمم ، وبالإِغراء ، وقالة السوء ، { أطفأها الله } تعالى فلم يفلحوا فيما أرادوه وقد أذلهم الله على يد رسوله والمؤمنين وأخزاهم وعن دار الإِيمان أجلاهم وأخبر تعالى أنهم يشعون دائماً وأبداً في الأرض بالفساد فلذا أبغضهم الله وغضب عليهم ، لأنه تعالى لا يحب المفسدين ، هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 64 ) أما الآية الثانية ( 65 ) وهي قوله تعالى { ولو أن أهل الكتاب } من يهود ونصارى { آمنوا } بالله ورسوله وبما جاء من الدين الحق وعملوا به ، { واتقوا } الكفر والشرك وكبائر الذنوب الفواحش ، لكفر الله عنهم سيئآتهم فلم يؤاخذهم ولم يفضحهم بها ولأدخلهم جنات النعيم .
(1/362)
________________________________________
وهذا وعد الله تعالى لليهود والنصارى فلو أنهم آمنوا واتقوا لأنجزه لهم قطعاً . وهو لا يخلف الميعاد .
أما الآية الأخيرة ( 66 ) في هذا السياق فهي تتضمن وعداً إلهياً آخر وهو أن اليهود والنصارى لو أقامة التوراة والإِنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ومن ذلك القرآن الكريم ، ومعنى أقاموا ذلك آمنوا بالعقائد الصحيحة الواردة في تلك الكتب وعملوا بالشرائع السليمة والآدب الرفيعة والأخلاق الفاضلة التي تضمنتها تلك الكتب لو فعلوا ذلك لبسط الله تعالى عليه الرزق وأسبغ عليهم النعم ولأصبحوا في خيرات وبراكات تحوطهم من كل جانب هذا ما وعدهم الله به . ثم أخبر تعالى عن واقعهم المرير فقال : { منهم أمة مقتصدة } لم تغل ولم تحف فلم تقل في عيسى أنه ابن الله ولا هو ابن زنى ، ولكن قالت عبد الله ورسوله ولذا لما جاء النبي الأمي بشارة عيسى عليه هو ابن زنى ، ولكن قالت عبد الله ورسوله الحق وهم عبد الله بن سلام وبعض اليهود ، والنجاشى من النصارى وخلق كثير لا يحصون عداً . وكثير من أهل الكتاب ساء أي قبح ما يعملون من أعمال الكفر والشرك والشر والفساد .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- قبح وصف الله تعالى بما لا يليق بجلاله وكماله .
2- ثبوت صفة اليدين لله تعالى ووجوب الإِيمان بها على مراد الله تعالى ، وعلى ما يليق بجلاله وكماله .
3- تقرير ما هو موجود بين اليهود والنصارى من عداوة وبغضاء وهو من تدبير الله تعالى .
4- سعي اليهود الدائم في الفساد في الأرض فقد ضربوا البشرية بالمذهب المادي الإِلحادي .
الشيوعي ، وضربوها أيضاً بالإِباحة ومكائد الماسنية .
5- وعد الله لأهل الكتاب على ما كانوا عليه لو آمنوا واتقوا لأدخلهم الجنة .
6- وعده تعالى لأنه الكتاب ببسط الرزق وسعته لو أقاموا التوراة والإِنجيل وما أنزل إليهم من ربهم أي لو أنهم أخذوا بما في التوراة والإِنجيل من دعوتهم إلى الإِيمان بالنبي الأمي والدخول في الإِسلام لحصل لهم ذلك كما حصل للمسليمن طيلة ثلاثة قرون وزيادة . وما زال العرض كما هو لكل الأمم والشعوب أيضاً .
(1/363)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
شرح الكلمات :
{ الرسول } : ذكر من بني آدم أوحي إليه شرع وأمر بتبليغه وهو هنا محمد صلى الله عليه وسلم .
{ بلغ ما أنزل إليك } : من التوحيد والشرائع والأحكام .
{ يعصمك } : يحفظك حفظاً لا يصل إليك معه أحد بسوء .
{ فلا تأس } : لا تأسف ولا تحزن .
{ هادوا } : اليهود .
{ الصابئون } : جمع صابىء وهم فرقة من أهل الكتاب . معنى الآيات :
في الآية الأولى ( 67 ) ينادي الرب تبارك وتعالى رسوله معظماً له بقوله : { يا أيها الرسول } المبجل ليأمره بإبلاغ ما أوحاه إليه من العقائد والشرائع والأحكام فيقول { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } . ويقول له : { وإن لم تفعل } أي إن قصرت في شيء لم تبلغه لاي اعتبار من الاعتبارات { فما بلغت رسالته } أي فكأنك لم تبلغ شيئاً ، وقوله تعالى : { والله يعصمك من الناس } أي يمنعك من أن يمسوك بشيء من الأذى ، ولذا فلا عذر لك في ترك إبلاغ أي شيء سواء كان مما يتعلق بأهل الكتاب أو بغيرهم ولذا فلم يكتم رسول الله شيئاً مما أمر بإِبلاغه البتة . وقوله تعالى : { إن الله لا يهدي القوم الكفارين } تقرير لوعده تعالى بعصمة رسوله صلى الله عليه وسلم إذ هو تعالى لا يوفق الكافرين لما يريدون ويرغبون فيه من أذية رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم « لاتحرسوني فإن الله قد عصمني » هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الثانية ( 68 ) وهي قوله تعالى : { قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإِنجيل وما أنزل إليكم من ربكم } لقد تقدم هذا السياق وأعيد هنا تقريراً له وتأكيداً وهو إعلام من الله تعالى أن اليهود والنصارى ليسوا على شيء من الدين الحق ولا من ولاية الله تعالى حتى يقيموا ما أمروا به وما نُهوا عنه وما انتدبوا إليه من الخيرات والصالحات مما جاء في التوراة والإِنجيل والقرآن أيضاً . وقوله تعالى : { وليزيدنَّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً } هذا إخبرا من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن كثيراً من اليهود والنصارى يزيدهم ما يوحي الله تعالى إلى رسوله وما ينزله عليه في كتابه من أخبار أهل الكتاب مما هو بيان لذنوبهم وضلالهم . ومما هو أمر لهم بالإِيمان بالنبي الأمبي واتباعه على الدين الحق الذي أرسل به يزيدهم ذلك طغياناً أي علوا وعتواً وكفراً فوق كفرهم . ولذا فلا تأس أي لا تحزن على عدم إيمانهم بك وبما جئت به لأنهم قوم كافرون . أما الآية الثالثة ( 69 ) وهي قوله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى } فالذين آمنوا هم المسلمون واليهود والنصارى والصابئون وهم فرقة منهم هم أهل الكتاب فجميع هذه الطوائف من آمن منهم الإِيمان الحق بالله وباليوم الآخر وأتى بلازم الإِيمان وهو التقوى وهي ترك الشرك والمعاصي أفعالاً وتروكاً فلا خوف عليه في الدنيا ولا في البرزخ ولا يوم القيامة ولا حزن يلحقه في الحيوات الثلاث وعد الله حقاً ومن أصدق من الله حديثاً!
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وجوب البلاغ على الرسل ونهوض رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الواجب على أكمل وجه وأتمه .
(1/364)
________________________________________
2- عصمة الرسول المطلقة .
3- كفر أهل الكتاب إلا من آمن منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم واتبع ما جاء به من الدين الحق .
4- أهل العناد والمكابرة لا تزيدهم الأدلة والبراهين إلا عتواً ونفوراً وطغياناً وكفراً .
5- العبرة الإِيمان والعمل الصالح وترك الشرك والمعاصي لا بالانتساب إلى دين من الأديان .
(1/365)
________________________________________
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)
شرح الكلمات :
{ المثاق } : العهد المؤكد باليمين .
{ بما لا تهوى أنفسهم } : بما لا يحبونه ولا تميل إليه أنفسهم المريضة .
{ فريقاً كذبوا } : أي كذبوا طائفة من الرسل وقتلوا طائفة أخرى .
{ أن لا تكون فتنة } : أي أن لا يبتلوا بذنوبهم بالشدائد والمحن .
{ فعموا وصموا } : عموا عن العبر وصموا عن سماع المواعظ .
{ من يشرط بالله } : أي يشرك بالله غيره تعالى من سائر الكائنات فيعبده مع الله بأي نوع من أنواع العبادات .
{ حرم الله عليه الجنة } : حكم بمنعه من دخولها أبداً إلا أن يتوب من الشرك .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في الحديث عن أهل الكتاب فقد أقسم تعالى على أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل وذلك في التوراة بأن يعبدوا الله وحده بما شرع لهم فيطيعوه في أمره ونهيه وأرسل إليهم رسله تترا كلما جاءهم رسول بما لا يوافق أهواءهم كذبوه فيما جاءهم به ودعاهم إليه . أو قتلوه . وحسبوا أن لا يؤاخذوا بذنوبهم فعموا عن الحق وصموا عن سماع المواعظ فابتلاهم ربهم وسلط عليهم من سامهم سوء العذاب ، ثم تاب الله عليهم فتابوا واستقام أمرهم وصلحت أحوالهم هم عموا وصموا مرة أخرى إلا قليلاً منهم فسلط عليهم من سامهم سوء العذاب أيضاً وها هم أولاء في عمى وصمم والله بصير بما يعملون وسوف ينزل بهم بأساءه ، إن لم يتوبوا فيؤمنوا بالله ورسوله ويدينوا بالدين الحق الذي هو الإِسلام .
هذا ما تضمنته الآياتان الأولى والثانية ( 70 - 71 ) أما الآية الثالثة ( 72 ) وهي قوله تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم } فقد أخبر تعالى مقرراً حكمه بالكفر على من افترى عليه وعلى رسوله فادعى أن الله جل جلاله وعظم سلطانه هو المسيح بن مريم تعالى الله ان يكون عبداً من عباده ، وحاشا عيسى عبد الله ورسوله أن يرضى أن يقال له أنت الله . وكيف وهو القائل : { يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } فهل مثل هذا القول يصدر عمن يدعي أنه الله أو ابن الله؟ سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان تاريخ بني إسرائيل ، والكشف عن مختبئات جرائمهم من الكفر والقتل .
2- إكرام الله تعالى لبني إسرائيل ولطفه بهم مع تمردهم عليه ورفض ميثاقه وقتل أنبيائه وتكذيبهم ، والمكر بهم .
3- تقرير كفر النصارى بقولهم المسيح هو الله .
4- تقرير عبودية عيسى عليه السلام لربه تعالى .
5- تحريم الجنة على من لقي ربه وهو يشرك به سواه .
(1/366)
________________________________________
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
شرح الكلمات :
{ ثالث ثلاثة } : الثلاثة هي الأب والابن وروح القدس : وكلها إله واحد .
{ خلت من قبله الرسل } : مضت قبله رسل كثيرون .
{ وأمه صديقة } : أي مريم كانت صديقة كثيرة الصدق في قولها وعملها .
{ أنى يؤفكون } : أي كيف يصرفون عن الحق وقد ظهر واضحاً .
معنى الآيات :
ما زال السياق في بيان كفر النصارى ففي السياق الأول ورد كفر من قالوا إن الله هو المسيح بن مريم ، وفي هذا السياق كفر من قالوا إن الله ثالث ثلاثة إذ قال تعالى في هذه الآية ( 73 ) لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة يعنون الآب والابن وروح القدس ، وبعضهم يقول الأب والابن والأم ، والثلاثة إله واحد فأكذبهم تعالى في قيلهم هذا فقال راداً باطلهم ، { وما من إله إلا إله واحد } أي وليس الأمر كما يكذبون ، وإنما الله إله واحد ، وأما جبريل فأحد ملائكته وعيسى عبده ورسوله ومريم أمته فالكل عبد الله وحده الذي لا ليمسن الذين كفرا منهم عذاب أليم . فأقسم تعالى أنه إن لم ينتهوا عن قولهم الباطل وهو كفر ليمسنهم عذاب أليم موجع غاية الإِيجاع . ثم لكمال رحمته عز وجل دعاهم في الآية الثانية ( 74 ) إلى التوبة ليتوب عليه ويغفر لهم وهو الغفور الرحيم فقال عز وجل : { أفلا يتوبون إلى الله } بترك هذا الكفر والباطل ويستغفرون الله منه والله غفور للتائبين رحيم بالمؤمنين ، وفي الآية الثالثة ( 75 ) أخبر تعالى معلماً رسوله الاحتجاج على باطل النصارى فقال : { ما المسيح بن مريم ، إلا رسول } ، فلم يكن رباً ولا إلهاً وإنما هو رسول مفضل قد خلت من قبله رسل مفضلون كثيرون وأمه مريم لم تكن أيضاً إلهاً كما يزعمون ، وإنما هي امرأة من نساء بني إسرائيل صديقة كثيرة الصدق في حياتها لا تعرف الكذب ولا الباطل وأنها وولدها عيسى عليهما السلام بشر ان كسائر البشر يدل على ذلك أنهما يأكلان الطعام احياجاً إليه لأن بنيتهما لا تقوم إلا عليه فهل آكل الطعام افتقاراً إليه ، ثم يفرز فضلاته يصلح أن يكون إلهاً . اللهم لا . وهنا قال لرسوله صلى الله عليه وسلم أنظر يا رسولنا كيف نبين لهم الآيات الدالة بوضوح على بطلان كفرهم ، ثم انظر كيف يؤفكون عن الحق أي كيف يصرفون عنه وهو واضح بين . وفي الآية الأخيرة ( 76 ) أمر رسوله ان يقول لأولئك المأفوكين عن الحق المصروفين عن دلائله لا ينظرون فيها أمره أن يقول لهم موبخاً لهم : { أتعبدون من دون الله مالا يملك لكم ضراً ولا نفعاً } وعيسى وأمه ، وتتركون عبادة من يملك ذلك ، وهو الله السميع العليم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- إبطال التثليث في عقيدة النصارى وتقرير التوحيد .
2- إبراء عيسى ووالدته عليهما السلام من دعوى الألوهية للناس .
3- فتح باب التوبة في وجه النصارى لو أنهم يتوبون .
4- تقرير بشرية عيسى ومريم عليهما السلام بدليل احتياجهما إلى الطعام لقوام بنيتهما ، ومن كان مفتقراً لا تصح ألوهيته عقلاً وشرعاً .
5- ذم كل من يعبد غير الله إذ كل الخلائق مفتقرة لا تملك لنفسها ولا لعبادها ضراً ولا نفعاً ، ولا تسمع دعاء من يدعوها ، ولا تعلم عن حاله شيئاً ، والله وحده السمع لأقوال كل عباده العليم بسائر أحوالهم وأعمالهم ، فهو المعبود بحق وما عداه باطل .
(1/367)
________________________________________
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
شرح الكلمات :
{ لا تغلوا في دينكم } : الغلو : الإِفراط في الشيء ومجاوزة الحد فيه فمثلاً أمرنا بغسل اليدين في الوضوء إلى المرفقين فغسلهما إلى الكتفين غلو أمرنا بتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم فدعاؤه غلو في الدين .
{ أهوالء قوم قد ضلوا } : جمع هوى ، وصاحب الهوى هو الذي يعتقد ويقول ويعمل بما يهواه لا بما قامت به الحجة وأقره الدليل من دين الله تعالى .
{ وأضلوا كثيراً } : أي أضلوا عدداً كثيراً من الناس بأهوائهم وأباطيلهم .
{ عن سواء السبيل } : سواء السبيل : وسط الطريق العدل لا ميل فيه إلى اليمين ولا إلى اليسار .
{ لعن } : دعى عليهم باللعنة التي هي الإِبعاد من الخير والرحمة وموجباتها .
{ بما عصوا وكانوا يعتدون } : أي بسبب عصيانهم لرسلهم ، واعتدائهم في دينهم .
{ لا يتناهون } : أي لا ينهي بعضهم بعضاً عن ترك المنكر .
{ لبئس ما كانوا يعملون } : قبح عملهم من عمل وهو تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
{ يتولون الذين كفروا } : يوادونهم ويتعاونون معهم دون المؤمنين .
{ ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي } : أي لو كانوا صادقين في إيمانهم بالله والنبي محمد صلى الله عليه وسلم ما اتخذوا المشركين في مكة والمدينة من المنافقين أولياء .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الحديث عن أهل الكتاب يهوداً ونصارى فقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم { قل } يا رسولنا : { يا أهل الكتاب } والمراد بهم النصارى { لا تغلوا في دينكم غير الحق } ، أي لا تتشددوا في غير ما هو حق شرعه الله تعالى لكم ، فتبتدعون البدع وتتغالوا في التمسك بها والدفاع عنها ، التشدد محمود في الق الذي أمر الله به اعتقاداً وقولاً وعملاً لا في المحدثات الباطلة ولا تتبعوا أهواء قوم ضلوا من قبل كثيراً من الناس بأهوائهم المتولدة عن شهواتهم ، وضلوا أي وهم اليوم ضالون بعيدون عن جادة الحق والعدل في عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم . هذا ما تضمنته الآية الأولى ( 77 ) أما الآيات بعد فقد أخبر تعالى في الآية الثانية أن بني إسرائيل لعن منهم الذين كفروا على لسان كل من داود في الزبور ، وعلى لسان عيسى بن مريم في الإِنجيل وعلى لسان محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن قال تعالى : { لعن الذين كفرا من بني اسرائيل على لسان داود } . فقد مسخ منهم طائفة قردة ، { وعيسى بن مريم } حيث مسخ منهم نفر خنازير كما لعنوا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم في غير آية من القرآن الكريم ، وهذا اللعن الذي هو إبعاد من كل خير ورحمة ومن موجبات ذلك في الدنيا والآخرة سببه ما ذكر تعالى بقوله : { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } . أي بسبب عصيانهم لله تعالى ورسله بترك الواجبات وفعل المحرمات ، واعتدائهم في الدين بالغلو والابتداع ، وبقتل الأنبياء والصالحين منهم : وأخبر تعالى في الآية الثالثة بذكر نوع عصيانهم واعتدائهم الذي لعنوا بسببه فقال : { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه } أي كانوا عندما استوجبوا اللعن يفعلون المنكر العظيم ولا ينهى بعضهم بعضاً كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :
(1/368)
________________________________________
« إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده » فلما فعلوا ذلك ضرب الله على قلوب بعضهم ببعض ثم قال صلى الله عليه وسلم : « لعن الذين كفروا - إلى قوله فاسقون » ثم قال « كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ثم لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه ( تعطفنه ) على الحق أطراً ولتقسرنه على الحق قسراً أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض بعضكم ثم يلعنكم كما لعنهم » وفي آخر الآية قبح الله تعالى عملهم فقال : { لبئس ما كانوا يفعلون } ثم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم { ترى كثيراً منهم } أي من اليهود في المدينة يتولون الذين كفروا يعنى من المشركين والمنافقين في مكة والمدينة يصاحبونهم ويوادونهم وينصرونهم وهم يعلمون أنهم كفار تحرم موالاتهم في دينهم وكتابهم ، ثم قبح تعالى عملهم فقال : { لبئس ما قدمت لهم أنفسهم } نتيجة ما حملتهم عليه من الشر والكفر والفساد ، وهو سخط الله تعالى عليهم وخلودهم في العذاب من موتهم إلى مالا نهاية له فقال تعالى : { لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون } لا يخرجون منه أبداً . ثم زاد تعالى تقرير كفرهم وباطلهم وشرهم وفسادهم فقال : { ولو كانوا يؤمنون بالله } كما يجب الإِيمان به وبالنبي محمد وبما جاء به من الهدى ودين الحق وما أنزل إليه من القرآن والآيات البينات ما اتخذوا الكفار المشركين والمنافقين أولياء ، ولكن علة ذلك أنهم فاسقون إلا قليلاً منهم ، والفاسق عن أمر الله الخارج عن طاعته لا يقف في الفساد عند حد أبداً ، هذا معنى قوله تعالى : { ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون } .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- حرمة الغلو والابتداع في الدين ، واتباع أهل الأهواء .
2- العصيان والاعتداء ينتجان لصاحبهما الحرمان والخسران .
3- حرمة السكوت عن المنكر ووخامة عاقبته على المجتمع .
4- حرمة موالاة أهل الكفر والشر والفساد .
5- موالاة أهل الكفر بالمودة والنصرة دون المؤمنين آية الكفر وعلامته في صاحبه .
(1/369)
________________________________________
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
شرح الكلمات :
{ عداوة } : العداوة : بغض نفسي تجعل صاحبها بعيداً ممن يعاديه فلا يصله بخير ، ولا يقربه بمودة ، وقد تحمله على إرادة الشر بالعدو .
{ مودة } : المودة . حب نفس يجعل صاحبه يتقرب إلى من يوده بالخير ودفع الشر .
{ قسيسين } : جمع قسيس : وهو الرئيس الديني لعلمه عند النصارى .
{ ورهباناً } : الرهبان : جمع راهب : مشتق من الرهبة وهو الرجل فى النصارى يتبتل وينقطع للعبادة في دير أو صومعة .
{ ما أنزل إلى رسول } : الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل إليه آيات القرآن الكريم الدالة على تشريف عيسى ووالدته مريم عليهما السلام ، وأن عيسى عبد الله .
{ الشاهدين } : جمع شاهد : من شهد لله بالوحدانية وللنبي محمد بالرسالة واستقام على ذلك .
{ الصالحين } : جمع صالح : وهو من أدّى حقوق الله تعالى كاملة من الإِيمان به وشكره على نعمه بطاعته ، وأدّى حقوق الناس كاملة من الإِحسان إليهم ، وكف الأذى عنهم .
{ فأثابهم الله بما قالوا } : جزاهم بما قالوا من الإِيمان ووُفِّقوا له من العمل جنات تجري من تحتها الأنهار .
معنى الآيات : يخبر تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بعداوة كل من اليهود والمشركين للمؤمنين وأنهم أشد عداوة من غيرهم ، فيقول { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } أما اليهود فلما توارثوه خَلفاً عن سلف من إنكار الحق . والوقوف في وجه دعاته ، إضافة إلى أن أملهم في إعادة مجدهم ودولتهم يتعارض مع الدعوة الإِسلامية وأما المشركون فلجهلهم وإسرافهم في المحرمات وما ألفوه لطول العهد من الخرافات والشرك والضلالات . كما أخبر تعالى أن النصارى هم أقرب مودة للذين آمنوا فقال : { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } وعلل تعالى لهذا القرب من المودة بقوله : { ذلك . . . } أي كان ذلك بسبب أن منهم قسِّيسين ورهباناً فالقسيسون علماء بالكتاب رؤساء دينيّون غالباً ما يؤثرون العدل والرحمة والخير على الظلم والقسوة والشر والرهبان لانقطاعهم عن الدنيا وعدم رغبتهم فيها ويدل عليه قوله : { وأنهم لا يستكبرون } عن الحق وقبوله والقول به ولذا لما عمت المادية المجتمعات النصرانّية ، وانتشر فيها الإِلحاد والإِباحية قلّت تلك المودة للمؤمنين إن لم تكن قد انقطعت . أما قوله تعالى : { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين } فالمعنيُّ بها من أسلم من النصارى بمجرد أن تُلي عليهم القرآن وسمعوه كأصحمة النجاشى وجماعة كثيرة ومعنى قولهم { فاكتبنا مع الشاهدين } أنهم بعد ما سمعوا القرآن تأثروا به فبكوا من أجل ما عرفوا من الحق وسألوا الله تعالى أن يكتبهم مع الشاهدين ليكونوا معهم في الجنة ، والشاهدون هم الذين شهدوا لله تعالى بالوحدانية ولنبيه بالرسالة ، وأطاعوا الله ورسوله من هذه الأمة وقولهم : { وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين } فإن معناه : أي شيء يمنعنا من الإِيمان بالله رباً وإلهاً واحداً لا شريك له ولا ولد ولا والد .
(1/370)
________________________________________
وبما جاء من الحق في توحيده تعالى ونبّوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن الطمع في أن يدخلنا ربنا الجنة مع الصالحين من هذه الأمة . ولما قالوا هذا أخبرهم تعالى أنه أثابهم به { جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } ، وأخبر تعالى أن ذلك الجزاء الذي جزاهم به هو { جزاء المحسنين } وهم الذين أحسنوا القول والعمل مع سلامة عقائدهم ، وطهارة أرواحهم حيث لم يتلوثوا بالشرك والمعاصي ثم أخبر تعالى بأن الذين كفروا بالله إلهاً واحداً وبرسوله نبياً ورسولاً ، وكذبوا بآياته القرآنية أولئك البعداء هم أصحاب الجحيم الذين لا يفارقونها أبداً .
هداية الآيات
{ من هداية الآيات } :
1- عظم عداوة اليهود والمشركين للإِسلام والمسلمين .
2- قرب النصارى الصادقين في نصارنيتهم من المسلمين .
3- فضيلة التواضع ، وقبح الكبر .
4- فضل هذه الأمة وكرامتها على الأمم قبلها .
5- فضل الكتابي إذا أسلم . وحسن إسلامه .
6- بيان مصير الكافرين والمكذبين وهو خلودهم في نار جهنم .
7- استعمال القرآن أسلوب الترغيب والترهيب بذكره الوعيد بعد الوعد .
(1/371)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
شرح الكلمات :
{ لا تحرموا } : التحريم : المنع أي لا تمتنعوا .
{ ما أحل الله لكم } : أي ما أباحه لكم وأذن لكم فيه من نكاح وطعام وشراب .
{ حلالاً طيباً } : مباحاً غير مستقذر ولا مستخبث .
{ لا يؤاخذكم الله باللغو } : لا يعاقبكم الله باللغو الذي هو ما كان بغير قصد اليمين .
{ عقدتم الأيمان } : عزمتم عليها بقلوبكم بأن تفعلوا أو لا تفعلوا .
{ من أوسط } : أغلبه ولا هو من أعلاه ، ولا هو من أدناه .
{ أهليكم } : من زوجة وولد .
{ تحرير رقبة } : عتقها من الرق القائم بها .
{ يبين الله لكم آياته } : المتضمنة لأحكام دينه من واجب وحلال وحرام .
معنى الآيات :
الآيتان الأولى ( 87 ) والثانية ( 88 ) نزلتا في بعض الصحابة منهم عبد الله بن مسعود وعثمان بن مظعون وغيرهما قد حضروا موعظة وعظهم إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم فزهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة . وعزموا على التبتل والانقطاع عن الدنيا فأتوا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وسألوها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيامه فكأنهم تقالْوه ذلك فقال أحدهم : أنا لا آتي النساء ، وقال آخر : أنا أصوم لا أفطر الدهر كله وقال آخر : أنا أقوم فلا أنام ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب الناس ، وقال : « ما بال أقوام يقولون كذا وكذا وإني وأنا رسول الله لآكل اللحم ، وأصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني » ونزلت هذه الآية ، { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } من طعام وشراب ونساء ، { ولا تعتدوا } بمجاوزة ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم فإن الله تعالى ربكم { لا يحب المعتدين } { وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباٌ } أما الحرام فلا يكون رزقاً لكم ، { واتقوا الله } أي خافوهبترك الغلوّ والتنطع المفضى بكم إلى الترهيب ولا رهانية في الإِسلام . { الذي أنتم به مؤمنون } أي رباً يشرع فيحلل ويحرم ، وإلهاً يطاع ويعبد ، هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية أما الآية الثالثة وهي قوله تعالى : { لا يؤاذخك الله باللغو في عزمنا عليه من التبتل فماذا نصنع بأيماننا } فبين لهم تعالى ما يجب عليهم في أيمانهم لما حنثوا فيها بعدولهم عما حلفوا عليه فقال : { لا يؤاخذكم باللغو في أيمانكم } وهو ما لا قصد للحلف فيه وإنما جرى لفظ اليمين على اللسان فقط نحو : لا والله أو بلى والله ، ومثله أن يحلف على الشيء يظنه كذا فيظهر على خلاف ما ظن ، { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } أي قصدتموها عازمين عليها ، فمن حنث بعد الحلف فالواجب في حقه خروجاً من الإِثم كفَّارة وهي { إطعام عشرة مساكين } لكل مسكين نصف صاع أي مدَّان من أعدل { ما تطعمونأهليكم } ما هو بالأجود الغالي ، ولا بالأرادأ الرخيض ، { أو كسوتهم } كقميص وعمامة ، أو إزار ورداء ، { أو تحرير رقبة } أي عتق رقبة مؤمنة ذكراً كان أو أنثى صغيرة أو كبيرة فهذه الثلاثة المؤمن مخّير في التكفير بأيها شاء ، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام مفرقة أو متتابعة كما شاء هذا معنى قوله تعالى { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } ، وقوله { ذلك كفارة أيمانكم } أي هذا الذي بين لكم هو ما تكفِّرون به ما علق بنفوسكم من إثم الحنث .
(1/372)
________________________________________
وقوله { واحفظوا أيمانكم } أي لا تكثروا الحلف فتحنثوا فتأثموا فتجب عليكم الكفارة لذلك . وقوله تعالى : { كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون } معناه مثل هذا التبيين الذي بينه لكم في مسألة الحنث في اليمين والكفارة له يبين لكم آياته المتضمنة لشرائعه وأعلام دينه ليعدكم بذلك لشكره بطاعته بفعل ما يأمركم به وترك ما ينهاكم عنه ، فله الحمد والمنة .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- حرمة تحريم ما أباح الله ، كحرمة تحليل ما حرم الله عز وجل .
2- بيان مدى حرص الصحابة على طاعة الله خوفاً من عقابه وطمعاً في إنعامه .
3- حرمة الغلو في الدين والتنطع فيه .
4- بيان كفراة اليمين بالتفصيل .
5- كراهة الإِكثار من الحلف . وحرمة الحلف بغير الله تعالى مطلقاً .
6- استحباب حنث من حلف على ترك مندوب أو فعل مكروه ، وتكفيره على ذلك أما إذا . حلف أن يترك واجباً أو يأتي محرماً فإن حنثه واجب وعليه الكفارة .
7- الأيمان ثلاثة : لغو : يمين لا كفارة لها إذا لم إثم فيها ، الغموس : وهي أن يحلف متعمداً الكذبن ولا كفارة لها إلا التوبة ، اليمين المكفَّرة : وهي التي يتعمد فيها المؤمن الحلف ويقصده ليفعل أو لا يفعل ثم يحنث فهذه التي ذكر تعالى كفارتها وبينها .
(1/373)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
شرح الكلمات :
{ الخمر الميسر } : الخمر : كل مسكر كيفما كانت مادته وقلّت أو كثرت ، والميسر : القمار .
{ والأنصاب } : الأنصاب : جمع نصب . ما ينصب للتقرب به إلى الله أو التبرك به ، أو لتعظيمة كتماثيل الرؤساء والزعماء في العهد الحديث .
{ الأزلام } : جمع زلم : وهي عيدان يستقسمون بها في الجاهلية لمعرفة الخير من الشر والربح من الخسارة ، ومثلها قرعة الأنبياء ، وخط الرمل ، والحساب بالمسبحة .
{ رجس } : الرجس : المستقذر حساً كان أو معنى ، إذ لمحرمات كلها خبيثة وإن لم تكن مستقذرة .
{ من عمل الشيطان } : أي مما يزينّة للناس ويحببه إليهم ويرغبهم فيه ليضلهم .
{ فاجتنبوه } : اتركوه جانباً فلا تقبلوا عليه بقلوبكم وابتعدوا عنه بأبدانكم .
{ تفلحون } : تكملون وتسعدون في دنياكم وآخرتكم .
{ ويصدكم } : أي يصرفكم .
{ فهل أنتم منتهون } : أي انتهوا فالإِستفهام للأمر لا للإِستخبار .
{ جناح فيما طعموا } : أي إثم فيما شربوا من الخمر وأكلوا من الميسر قبل تحريم ذلك .
معنى الآيات :
لمَّا نهى الله تعالى المؤمنين عن تحريم ما أحل الله تعالى لهم بَيَّنَ لَهُم ما حرَّمه عليهم ودعاهم إلى تركه واجتنابه لضرره بهم ، وإفساده لقلوبهم وأرواحهم فقال تعالى : { ي أيها الذين آمنوا } أي يا من صدقتم بالله رباً وبالإِسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً اعلموا { انما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس } أي سخط وقذر مما يدعوا إليه الشيطان ويزيّنه للنفوس ويحسنه لها لترغيب فيه ، وهو يهدف من وراء ذلك إثارة العداوة والبغضاء بين المسلمين الذين هم كالجسم الواحد . وإلى صدهم عن ذكر الله الذي هو عصمتهم وعن الصلاة التي هي معراجهم إلى الله ربهم ، وآمرتهم بالمعروف وناهيتهم عن المنكر ، ثم أمرهم بأبلغ أمر وأنفذه إلى قلوبهم لخطورة هذه المحرمات الأربع وعظيم أثهرا في الفرد والمجتمع بالشر والفساد فقال : { فهل أنتم منتهون؟! } وأمرهم بطاعته وطاعة رسوله وحذرهم من مغبة المعصية وآثارها السيئة فقال { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا } مغبة ذلك ثم أعلمهم أنّهم إن تولوا عن الحق بعدما عرفوه فالرسول لا يضيره توليهم إذ ما عليه إلا البلاغ المبين وقد بلّغ وأما هم فإن جزاءهم على توليهم سيكون جزاء الكافرين وهو الخلود في العذاب المهين . هذا معنى قوله : { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين } وقوله تعالى في الآية الأخيرة ( 93 ) { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين } فقد نزلت لقول بعض الأصحاب لرسول الله صلى عليه وسلم ( يا رسول الله ما بال الذين ماتوا من إخواننا وهم يشربون الخمر ويلغبون الميسر؟ ) أي كيف حالهم فهل يؤاخذون أو يعفى عنهم من إخواننا وهم هذه الآية فأعلم أنهم ليس عليهم جناح أي إثم أو مؤاخذة فيما شربوا وأكلوا قبل نزول التحريم بشرط أن يكونوا قد اتقوا الله في محارمه وآمنوا به وبشرائعه ، وعملوا الصالحات استجابة لأمره وتقرباً إليه .
(1/374)
________________________________________
فكان رفع الحرج عليهم مقيداً بما ذكر . وقوله : { ثم اتقوا . . . } كما لا جناح على الأحياء فيما طعموا وشربوا قبل التحريم وبشرط الإِيمان ، والعمل الصالح والتقوى لسائر المحارم ، ودوام الإِيمان والتقوى والإِحسان في ذلك بالإِخلاص فيه لله تعالى .
هداية الآيات
من هداية آلايات :
1- حرم الخمر والقمار ، وتعظيم الأنصاب والاستقسام بالأزلام .
2- وجوب الانتهاء من تعاطي هذه المحرمات فوراً وقول انتهينا يا ربنا كما قال عمر رضي الله عنه .
3- بيان علة تحريمشرب الخمر ولعب الميسر وهي إثارة العداوة والبغضاء بين الشاربين واللاعبين والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهما قوام حياة المسلم الروحية .
4- وجوب طاعة الله والرسول والحذر من معصيتهما .
5- وجوب التقوى حتى الموت ووجوب الإِحسان في المعتقد والقول والعمل .
(1/375)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
شرح الكلمات :
{ ليبلونكم } : ليختبرنكم .
{ الصيد } : ما يصاد .
{ تناله أيديكم } : كبيض الطير وفراخه .
{ ورماحكم } : جمع رمح ، وما ينال به هو الحيوان على اختلافه .
{ ليعلم الله من يخافه بالغيب } : ليظهر الله تعالى بذلك الاختبار من يخافه بالغيب فلا يصيد .
{ فمن اعتدى ( بعد التحريم ) } : بأن صاد بعد ما بلغه التحريم .
{ وأنتم حرم } : جمع حرام والحرام : المُحرم لحج أو عمرة ويقال رجل حرام وامرأة حرام .
{ من النعم } : النعم : الإِبل والبقر والغنم .
{ ذوا عدل منكم } : أي صاحبا عدالة من أهل العلم .
{ وبال أمره } : ثقل جزاء ذنبه حيث صاد والصيد حرام .
{ وللسيارة } : المسافرين يتزوّدون به في سفرهم . وطعام البحر ما يقذف به إلى الساحل .
معنى الآيات :
ينادي الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين ليعلمهم مؤكدا خبره بأنه يبلوهم اختباراً لهم ليظهر المطيع من العاصي فقال : { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب } فحرم عليهم تعالى الصيد وهم حرم ثم ابتلاهم بوجوده بين أيديهم بحيث تناله أيديهم ورماحهم بكل يسر وسهولة على نحو ما ابتلى به بني إسرائيل في تحريم الصيد يوم السبت فكان السمك يأتيهم يوم سبتهم شُرّعاً ويوم لا يسبتون لا يأتيهم كذلك بلاهم ربهم بما كانوا يفسقون بيد أن المسلمين استجابوا لربهم وامتثلوا أمره ، على خلاف بني إسرائيل فإنهم عصوا وصادقوا فمسخهم قردة خاسئين . وقوله تعالى { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } ، أي فمن صاد بعد هذا التحريم فله عذاب أليم هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 94 ) . أما الآية ا لثانية ( 95 ) وهي قوله تعالى : { يا أيها الذين أمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } فأكد لهم تحريم الصيد وبيّن لهم ما يترتب على ذلك من جزاء فقال { ومن قتله منكم متعمداً } فالحكم الواجب على من قتله جزاءً { مل ما قتل من النعم } وهى الإِبل والبقر تشبه الجمل وبقرة الوحش تشبه البقرة ، والغزال يشبه التيس وهكذا فإن شاء من وجب عليه بعير أو بقرة أو تيس أو يسوقه إلى مكة الفقراء الحرم فليفعل وإن شاء اشترى بثمه طعاماً وتصدق به ، إن شاء صام بدل كل نصف صاع يوماً لقوله تعالى : { هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً } وقوله تعالى : { هدياً بالغ الكعبة أو مخالفته وقوله تعالى : { عفا الله عما سلف } وقوله تعالى : { ليذوق وبال أمره } أي ثقل جزاء فإنه تعالى يقول { ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام } ومعناه أنه يعاقبه على معصيته ولا يحول دون مراده تعالى حائل ألا فاتقوه واحذروا الصيد وأنتم حرم ، هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الثالثة ( 96 ) فقد أخبر تعالى بعد أن حرم على المؤمنين الصيد وهم حرم وواجب الجزاء على من صاد .
(1/376)
________________________________________
أخبر أنه امتناناً منه عليهم أحل لهم صيد البحر أي ما يصيدونه من البحر وهم حرم كما أحل لهم طعامه وهو ما يقذفه البحر من حيوانات ميتة على ساحله { متاعاً لكم وللسيارة } وهم المسافرون يتزودون به في سفرهم ويحرم عليهم صيد البر ما داموا حرماً ، وأمرهم بتقواه أي بالخوف من عقوبته فيلزموا طاعته بفعل ما أوجب وترك ما حرم ، وذكرهم بحشرهم جميعاً إليه يوم القيامة للحساب والجزاب فقال : { واتقو الله الذي إليه تحشرون } .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- اتبلاء الله تعالى لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية بكثرة الصيد بين أيديهم . وحرم عليهم صيده فامتثلوا أمر الله تعالى ولم يصيدوا فكانوا خيراً من بني إسرائيل وأفضل منهم على عهد انبيائهم .
2- تحريم الصيد على المحرم إلا صيد البحر فإنه مباح له .
3- بيان جزاء من صاد وهو محرم وانه جزاء مثل ما قتل من النعم .
4- وجوب التحكيم فيما صاده المحرم ، ولا يصح أن يكفر الصائد بنفسه .
5- صيد الحرم حرام على الحرام من الناس والحلال .
(1/377)
________________________________________
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
شرح الكلمات :
{ الكعبة } : الكعبة كل بناء مربع والمراد بها هنا بيت الله الحرام .
{ قياماً للناس } : يقوم به أمر دينهم بالحج إليه والاعتمار ودنياهم بأمن داخله وجبي ثمرات كل شيء إليه .
{ الشهر الحرام } : أي المحرم والمراد به الأشهر الحرم الأربعة رجب والقعدة والحجة ومحرم .
{ الهدي } : ما يهدى إلى البيت من أنواع الهدايا .
{ والقلائد } : جمع قلادة ما يقلده البعير أو البقرة المهدى إلى الحرم .
{ البلاغ } : بلاغ ما أمره بإبلاغه .
{ ما تبدون وما تكتمون } : أي ما تظهرون وما تخفون .
{ الخبيث } : مقابل الطيب وهو الحرام وهو عام في المحسوسات والمعقولات .
{ أولي الألباب } : أصحاب العقول .
معنى الآيات :
قوله تعالى : { جعل الله الكعبة البيت الحرام للناس } المراد من الناس العرب في جاهليتهم قبل الإِسلام ومعنى قياماً : أن مصالحهم قائمة على وجود البيت يحج ويعتمر يأمن الآتى إليه والداخل في حرمه ، وكذا الشهر الحرام وهي أربعة أشهر القعدة والحجة ومحرم ورجب ، وكذا الهدي وهو ما يهدى إلى الحرم من الأنعام ، وكذا القلائد جمع قلادة وهي ما يقلده الهدي إشعاراً بأنه مهدى إلى الحرم ، وكذا ما يقلده الذاهب إلى الحرم نفسه من لِحَاءَ شجرة الحرم إعلاماً بأنه آت من الحرم أو ذاهب إليه فهذا الأربعة البيت الحرام والشهر الحرام والهدى والقلائدة كانت تقوم مقام السلطان بين العرب فتحقق الأمن والرخاء في ديارهم وخاصة سكان الحرم من قبائل قريش فهذا من تدبير الله تعالى لعباده وهو دال على علمه وقدرته وحكمته ورحمته ولذا قال تعالى : { ذلك لتعلموا ان الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم } أي حقق ذلك الأمن والرخاء في وقت لا دولة لكم فيه ولا نظام ليعلمكم أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض من سائر الكائنات وشتى . المخلوقات لا يخفى عليه من أمرها شيء ، وأنه بكل شيء عليم فهو الإِله الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه فاعبدوه ، وتوكلوا عليه واتركوا عبادة غيره والنظر إلى سواه ، وإن لم تفعلوا فسوف يعاقبكم بذلك أشد العقوبة وأقساها فإنه عز وجل شديد العقاب فاعلموا ذلك واتقوه .
هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى ( 97 ) والثانية ( 98 ) أما الآية الثالثة ( 99 ) فقد أكدت مضمون قوله تعالى في الآية الثانية { اعلموا أن الله شديد العقاب وهو وعيد شديد فقال تعالى { ما على الرسول إلا البلاغ } وفد بلَّغ ، فأنذر وأعذر ، وبقي الأمر إليكم إن أنبتم إلى ربكم وأطعتموه فإنه يغفر لكم ويرحمكم لأنه غفور رحيم ، وإن أعرضتم وعصيتم فإنه يعلم ذلك منكم ويؤاخذكم به ويعاقبكم عليه وهو شديد العقاب وقوله { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } وعد ووعيد لأن علمه تعالى بالظواهر والبواطن يترتب عليه الجزاء فإن كان العمل خيراً كان الجزاء خيراً وإن كان العمل شراً كان الجزاء كذلك .
(1/378)
________________________________________
هذا مضمون الآية الثالثة أما الرابعة ( 100 ) فإنه تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم قل للناس أيها الناس أنه { لا يستوي الخبيث } من المعتقدات والأقوال والأعمال والرجال والأموال ، { والطيّب } منها ، ولو أعجبتكم أي سرتكم كثرة الخبيث فإن العبرة ليست بالكثرة والقلة وإنما هي بالطيّب النافع غير الضار ولو كان قليلاً ، وعليه { فاتقوا الله يا أولي الألباب } أي خافوه فامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه رجاء حصول الفلاح لكم بالنجاة من المرهوب والحصول على المرغوب المحبوب .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان عظيم تدبير الله تعالى لخلقه ، إذ أمّن مصالح قريش والعرب فاوجد لهم أمناً واستقراراً وتبع ذلك هناءة عيش وطيب حياة بما ألقى عباده من احترام وتعظيم للبيت الحرام والشهر الحرام ، والهدي والقلائد ، الأمر الذى لا يقدر عليه إلا الله .
2- بيان الحكمة القائلة العبرة بالكيف لا بالكم فمؤمن واحد أنفع من عشرة كفرة ودرهم حلال خير من عشرة حرام وركعتان متقبلتان خير من عشرة لا تقبل .
4- الأمر بالتقوى رجاء فلاح المتقين .
(1/379)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
شرح الكلمات :
إن تبد لكم : تظهر لكم تضركم .
{ عفا الله عنها } : سكت عنها فلم يذكرها أو لم يؤاخذكم بها .
{ سألها قوم } : طلبها غيركم من الأمم السابقة .
{ ما جعل الله } : أي ما شرع .
{ بحيرة ولا سائبة } : البحيرة : الناقة تبحر أذنها أي تشق ، والسائبة : الناقة تسيّب .
{ ولا وصيلة ولا حام } : الوصيلة : الناقة يكون أول إنتاجها أنثى ، والحام : الجمل يحمى ظهره للآلهة .
{ ما أنزل الله } : من الحق والخير .
{ ما وجدنا عليه آباءنا } : من الباطل والضلال .
معنى الآيات :
لقد أكثر بعض الصحابة من سؤال رسول الله صلى الله عليه حتى تضايق منهم فقام خطيباً فيهم وقال : « لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم » فقام رجل يدعى عبد الله بن حذاقة كان إذا تلامى مع رجل دعاه إلى غير أبيه فقال من أبي يا رسول الله؟ فقال « أبوك حذاقة » وقال أبو هريرة : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ولو قلت نعم ، لو جبت ، ولو وجبت لما استطعتم ، ثم قال : ذروني ما تركتكم » فنزلت : { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } أي تظهر لكم جواباً لسؤالكم يحلص لكم بها ما يسؤكم ويضركم ، { وإن تسألوا عناه حين ينزل القرآن تبد لكم } أي يبنها رسولنا لكم . أما أن تسألوا عنها قبل نزول القرآن بها فذلك مالا ينبغي لكم لأنه من باب أحفاء رسول الله وأذيته ثم قال تعالى لهم : { عفا الله عنها } أي لم يؤاخذكم بما سألتم { والله غفور حليم } ، فتوبوا إليه يتب عليكم واستغفروه يغفر لكم ويرحمكم فإنه غفور رحيم . وقوله تعالى : { قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } أي قد سأل أسئلتكم التنطعية المحرجة هذه قوم من قبلكم { فأصبحوا بها كافرين } ، لأنهم كلفوا ما لم يطيقوا وشق عليهم جزاء تعنتهم في أسئلتهم لأنبيائهم فتركوا العمل بها فكفروا . هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى ( 101 ) والثانية ( 102 ) وأما الثالثة ( 103 ) فقد قال تعالى : { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } ومن الجائز أن يكون هناك من يسأل الرسول عن البحيرة وما بعدها فأنزل الله تعالى قوله : { ما جعل الله من بحيرة } أي ما بحر الله بحيرة ولا سيب سائبة ولا وصل وصيلة ولا حَمَى حَامِيةً ، ولكن الذين كفروا هم الذين فعلوا ذلك افتراء على اله وكذباً عليه { وأكثرهم لا يعقلون } ، ولو عقلوا ما افتروا على الله وابتدعوا وشرعوا من أنفسهم ونسبوا ذلك إلى الله تعالى ، وأول من سيب السوائب وغير دين اسماعيل عليه السلام عمرو بن لحي الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجرُّ قَصْبه في النار أي أمعاءه في جهنم .
(1/380)
________________________________________
هذا ما بما اتبدعوه من الشرك إذ قيل لهم { تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول } ليبين لكم كذبكم وباطلكم في بحر البحائر وتسييب السوائب ، يرفضون الرجوع إلى الحق ويقولون : { حسبنا } أي يكفينا { ما وجدنا عليه آباؤنا } فلسنا في حاجة إلى غيره فرد تعالى عليهم منكراً عليهم قولهم الفاسد { أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً } أي يتبعونهم ويحتجون بباطلهم ولو كان أولئك الآباء جهالاً حمقاً لا يعقلون شيئاً من الحق ، { ولا يهتدون } إلى خير أو معروف .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- كراهية الإِلحاف في السؤال والتقعر في الأسئلة والتنطع فيها .
2- حرمة الابتداع في الدين وأنه سبب وجود الشرك في الناس .
3- وجوب رد المختلف فيه إلى الكتاب والسنة والرضا بحكمهما .
4- حرمة تقليد الجهال واتباعهم في أباطيلهم .
(1/381)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
شرح الكلمات : { آمنوا } : صدقوا الله ورسوله واستجابوا لهما بفعل المأمور وترك المنهي .
{ عليكم أنفسكم } : ألزموا هدايتها وإصلاحها .
{ إذا اهتديتم } : إلى معرفة الحق ولزوم طريقه .
{ إلى الله مرجعكم جميعاً } : ضلاّلاً ومهتدين .
{ فينبئكم } : يخبركم بأعمالكم ويجازيكم بها .
معنى الآية الكريمة :
ينادي الله تعالى عباده المؤمنين فيقول : { يا أيها الذين آمنوا } أي صدقوا بالله ورسوله ووعد الله ووعيده { عليكم أنفسكم } ألزموها الهداية والطهارة بالإِيمان والعمل الصالح وإبعادها عن الشر والمعاصي ، { لا يضكم من ضل إذا اهتديتم } : اي أن ضلال غيركم غير ضار بكم إن كنتم مهتدين إذ لا تزر وازرة وزر أخرى ، كل نفس تجزى بما كسبت أو بما كسب غيرها ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها إلا أن من الاهتداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن ترك المؤمنون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعتبرون مهتين إذ بالسكوت عن المنكر يكثر ونتشر ويؤدِّي حتماً إلى أن يضلّ المؤمنون فيفقدون هدايتهم ولذا قام أبو بكر الصديق رضى الله عنه طيباً يوماً فقال : { يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآياية : { يا أيها الذين أمنوا عليكم أنفسكم . . الخ } وإنكم تضعونها على غير موضعها ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب » وقوله تعالى : { إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون } فيه وعد ووعيد ، وعد لمن أطاع الله ورسوله ، ووعيد لمن عصاهما .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وجوب إصلاح المؤمن نفسه وتطهيرها من آثار الشرك ولمعاصي وذلك بالإِيمان والعمل الصالح .
2- ضلالا الناس لا يضر المؤمن إذا أمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر .
3- للعمل أكبر الأثر في سعادة الإِنسان أو شقائه .
(1/382)
________________________________________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
شرح الكلمات :
{ شهادة بينكم } : الشهادة : قول صادر عن علم حاصل بالبصر أو البصيرة ، وبينكم : أي شهادة بعضكم على بعض .
{ إن أنتم ضربتم في الأرض } : أي بأن كنتم مسافرين .
{ من بعد الصلاة } : صلاة العصر .
{ إن ارتبتم } : شككتم في سلامة قولهما وعدالته .
{ فإن عثر } : أي وقف على خيانة منهما فيما عهد به إليهما حفظه .
{ أدنى } : أقرب .
{ على وجهها } : أي صحيحة كما هي لا نقص فيما ولا زيادة .
{ الفاسقين } : الذين لم يلتزموا بطاعة الله ورسوله في الأمر والنهي .
معنى الآيات :
ما زال السياق في إرشاد المؤمنين وتعليمهم وهدايتهم إلى ما يكملهم ويسعدهم ففي هذه الآيات الثلاث ( 106 ) ، ( 107 ) ، ( 108 ) ينادى الله تعالى عباده المؤمنين فيقول : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذ حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم } أي ليشهد اثنان { ذوا عدل منكم } أي من المسلمين على وصية أحدكم إذا حضرته الوفاة ، أو ليشهد اثنان من غيركم أي من غير المسلمين { إن أنتم ضربتم في الأرض } أي كنتم مسافرين ولم يوجد مع من حضره الموت في السفر إلى كافر ، فإن ارتبتم في صدق خبرهما وصحة شهادتهما فاحبسوهما أي أوقفوهما بعد صلاة العصر في المسجد ليحلفا لكم فيقسمان بالله فيقولان والله لا نشتري بأيماننا ثمناً قليلاً ، ولو كان المقسم عليه أو المشهود عليه ذا قربى أي قرابة ، { ولا نكتم شهادة الله ، إنا إذاً } أي إذا كتمنا شهادة الله { لمن الآثمين } { فإن عثر على أنهما استحقا إثماً } أي وإن وجد أن الذين حضرا الوصي وحلفا على صدقهما فيما وصاهما به من حضره الموت إن وجد عندهما خيانة أو كذب فيما حلفا عليه ، { فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان } فيقسمان بالله قائلين والله : لشهادتنا أحق من شهادتهما أي لأيماننا أصدق وأصح من ايمانهما ، { وما اعتدينا } أي عليهما باتهام باطل ، إذ لو فعلنا ذلك لكنا من الظالمين ، فإذا حلفا هذه اليمين استحقا ما حلفا عليه ورد إلى ورثة الميت وما كان قد أخفاه وجحده وشاهدا الوصية عند الموت ، قال تعالى : { ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها } أي أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة ادلة لا حيف فيها ولا جور وقوله { أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم } ، أي وأقرب إلى أن يخافوا أن ترد أيمانهم فلا يكذبوا خوف الفضيحة ، وقوله تعالى : { واتقوا الله } أي خافوه أيها المؤمنون فلا تخرجوا عن طاعته ، { واسمعوا } ما تؤمرون به واستجيبوا لله فيه ، فإن الله لا يهدي إلى سبيل الخير والكمال الفاسقين الخارجين عن طاعته ، فاحذروا الفسق اجتنبوه .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- مشروعية الوصية في الحضر والسفر معاً والحث عليها والترغيب فيها .
2- وجوب الإِشهاد على الوصية .
3- يجوز شهادة غير المسلم على الوصية إذا تعذر وجود مسلم .
4- استحباب الحلف بعد صلاة العصر تغليظاً في شأن اليمين .
5- مشروعية تحليف الشهود إذ ارتاب القاضي فيهم أو شك في صدقهم .
(1/383)
________________________________________
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
شرح الكلمات :
{ يوم يجمع الله الرسل } : أي اذكر يوم يجمع الله الرسل وذلك ليوم القيامة .
{ الغيوب } : جمع غيب : وهو ما غاب عن العيون فلا يدرك بالحواس .
{ أيدتك } : قويتك ونصرتك .
{ بروح القدس } : جبريل عليه السلام .
{ المهد } : سرير الطفل الرضيع .
{ الكهل } : من تجاوز سن الشباب أي ثلاثين سنة .
{ الكتاب } : الخط والكتابة .
{ والحكمة } : فهم أسرار الشرع ، والإِصابة في الأمور كلها .
{ تخلق كهيئة الطير } : أي توجد وتقدر هيئة كصور الطير .
{ الأكمه والأبرص } : الأكه : من ولد أعمى ، والأبرص : من به مرض البرص .
{ تخرج الموتى } : أي أحياء من قبورهم .
{ كففت } : أي منعت .
{ الحواريون } : جمع حواري : وهو صادق الحب في السر والعلن .
معنى الآيات :
يحذر الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين من أهول البعث الآخر يوم يجمع الرسل عليهم السلام ويسألهم وهو أعلم بهم : { فيقول : ماذا أجبتم؟ } أطاعتكم أصمكم أم عصتكم؟ فيرتج عليهم ويذهلون ويفوضون الأمر إليه تعالى ويقولون : { لا علم لنا : انك أنت علام الغيوب } ، إذا كان هذا حال الرسل فكيف بمن دونهم من الناس ويخص عيسى عليه السلام من بين الرسل بالكلام في هذا الموقف العظيم ، لأن أمتين كبيرتين غوت فيه وضلت اليهود ادعوا أنه ساحر وابن زنى ، والنصارى ادعوا أنه الله وابن الله ، فخاطبه الله تعالى وهم يسمعون : { يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك } فأنت عبدي ورسولي وأمك أمتي ، وذكر له أنواع نعمه عليه فقال : { إذ أيدتك بروح القدس } ، جبريل عليه السلام { تكلم الناس في المهد } وأنت طفل . إذ قال وهو في مهده { إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً والسلام علي يوم ولدت أموت ويوم أبعث حياً } وقوله { وكهلاً } أي وتكلمهم وأنت كهل أيضاً وفيه بشرى لمريم أن ولدها يكبر ولا يموت صغيراً وقد كلم الناس وهو شاب وسيعود إلى الأرض ويكلم الناس وهو كهل ويعدد نعمه عليه فيقول : { وإذ علمتك الكتاب والحكمة } ، فكنت تكتب الخط وتقول وتعمل بالحكمة ، وعلمتك التوراة كتاب موسى عليه السلام والإِنجيل الذي أوحاه إليه { وإذا تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني } فيكون طيراً بإذني أي اذكر لما طالبك بنو إسرائيل بآية على نبوتك فقالوا لك اخلق لنا طيراً فأخذت طيناً وجعلته على صورة طائر وذلك بإذني لك ونفخت فيه بإذني فكان طائراً ، واذكر أيضاً { إذ تبرىء الأكمة } وهو الأعمى الذي لا عينين له ، { والأبرص بإذني } أي بعوني لك وإقداري لك على ذلك { وإذ تخرج الموتى } من قبورهم أحياء فقد أحياء عليه السلام عدداً من الأموات بإذن الله تعالى ثم قال بنو إسرائيل أحيي لنا سام بن نوح فوقف على قبره وناداه فقام حياً من قبره وهم ينظرون ، واذكر { إذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات } فكذبوك وهموا بقتلك وصلبك ، { فقال الذين كفروا منه إن هذا إلا سحر مبين } ، واذكر { إذ أوحيت إلى الحواريين } على لسانك { أن آمنوا بي وبرسولي } أي بك يا عيسى { قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون } أي منقادون مطيعون لما تأمرنا به من طاعة ربنا وطاعتك .
(1/384)
________________________________________
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- شدة هول يوم القيامة وصعوة الموقف حتى إن الرسل ليذهلون .
2- وجوب الاستعداد لذلك اليوم بتقوى الله تعالى .
3- توبيخ اليهود والنصارى بتفريط اليهود في عيسى وغلو النصارى فيه .
4- بيان إكرام الله تعالى لعيسى وما حباه به من الفضل والإِنعام .
5- ثبوت معجزات عيسى عليه السلام وتقريرها .
(1/385)
________________________________________
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
شرح الكلمات :
{ هل يستطيع } : هل يطيع ويرضى .
{ مائدة من السماء } : المائدة : الخوان وما يوضع عليه أو الطعام والمراد بها هنا الطعام .
{ وتطمئن قلوبنا } : أي تسكن بزيادة اليقين فيها .
{ ونكون عليها من الشاهدين } : أي نشهد أنها نزلت من السماء .
{ عيداً } : أي يوماً يعود علينا كل عام نذكر الله تعالى فيه ونشكره .
{ وآية منك } : علامة منك على قدرتك ورحمتك ، ونبوة نبيك .
{ فمن يكفر بعد منكم } : فمن يكفر بعد نزول المائدة منكم أيها السائلون للمائدة .
{ أحداً من العالمين } : أي من الناس أجمعين .
معنى الآيات :
يقول تعالى لعبده ورسوله عيسى واذكر { إذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون } ، { إذ قال الحواريون } : { هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ } ولما كان قولهم هذا دالاً على شك في نفوسهم وعدم يقين في قدرة ربهم قال لهم عيسى عليه السلام { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } فلا تقولوا مثل هذا القول . فاعتذروا عن قيلهم الباطل { وقالوا : نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ، ونعلم أن قد صدقتنا ، ونكون عليها من الشاهدين } أنها نزلت من السماء بسؤالك ربك ذلك وهنا قال عيسى عليه السلام داعياً ربه ضارعاً إليه { اللهم } أي يا الله { بنا أنزل علينا مائدة من السماء ، تكون لنا عيداً لأولنا } أي للموجودين الآن منا { وآخرنا } أي ولمن يأتون بعدنا ، { وآية منك } ، أي وتكون آية منك طأي علامة على وحدانيتك وعظيم قدرتك ، وعلى صدقي في إرسالك لي رسولاً إلى بني إسرائيل ، { وارزقنا } وأدم علينا رزقك وفضلك { وأنت خير الرازقين } ، فأجابه تعالى قائلا : { إني منزلها عليكم } ، وحقاً قد أنزلها ، { فمن يكفر بعد منكم } يا بني إسرائيل السائلين المائدة بأن ينكر توحيدي أو رسال رسولي ، أو عظيم قدرتي { فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين } ، ولذا مسخ من كفروا منهم قردة وخنازير .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- جفاء اليهود وغطرستهم وسوء أدبهم مع أنبيائهم إذ قالوا لموسى { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون } وقالوا لعيسى { هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء } .
2- في قول عيسى لهم { اتقوا الله } دال على أنهم قالوا الباطل كما أن قولهم { ونعلم أن قد صدقتنا } دال على شكهم وارتيابهم .
3- مشروعية الأعياد الدينية لعبادة الله بالصلاة والذكر شكراً لله تعالى وفي الإِسلام عيدان : الأضحى الفطر .
4- من أشد الناس عذاباً يوم القيامة آل فرعون والمنافقون ومن كفر من أهل المائدة .
(1/386)
________________________________________
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
شرح الكلمات :
{ إلهين } : معبودين يعبدان من دوني .
{ سبحانك } : تنزيهاً لك وتقديساً .
{ ما يكون لي } : ما ينبغي لي ولا يتأتي لي ذلك .
{ شهيداً } : رقيباً .
{ الرقيب } : الحفيظ .
{ إن تعذبهم } : أي بنارك فإنهم عبادك تفعل بهم ما تشاء .
{ وإن تغفر لهم } : أي تستر عليه وترحهم بأن تدخلهم جنتك .
{ العزيز الحكيم } : العزيز : الغالب الذي لا يحال بينه وبين مراده ، الحكيم ، الذي يضع كل شيء في موضعه فيدخل المشرك النار ، والموحد الجنة .
{ الصادقين } : جمع صادق : وهو من صدق ربه في عبادته وحده .
{ ورضوا عنه } : لأنه أثابهم بأعمالهم جنات تجري من تحتها الأنهار .
{ على كل شيء قدير } : أي على فعل أي شيء تعلقت به إرادته وأراد فعله فإنه يفعله ولا يعجزه بحال من الأحوال .
معنى الآيات :
يقول الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم واذكر لقومك { إذ قال الله } تعالى يوم يجمع الرسل ويسألهم ماذا أجبتم ، ويسأل عيسى بمفرده توبيخاً للنصارى على شركهم { يا عيسى بن مريم أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين } أي معبودين يقرره بذلك فينفي عيسى ذلك على الفور ويقول منزهاً ربه تعالى مقدساً { سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } ، ويؤكد تفصيه مما وجه إليه توبيخاً لقومه : { إن كنت قلته فقد علمته } يا ربي ، إنك { تعلم ما في نفسي } فكيف بقولي وعملي ، وأنا { لا ألعم ما في نفسك } إلا أن تعلمني . شيئاًً ، لأنك { أنت علام الغيوب } ما { قلت لهم إلا ما أمرتني به } أن أقوله لهم وهو { اعبدوا الله ربي وربكم ، وكنت عليهم شهيداً } أي رقيباً { فلما توفيتني } برفعي إليك { كنت أنت الرقيب عليهم } ترقب أعمالهم وتحفظها لهم لتجزيهم بها . { وأنت على كل شيء شهيد } رقيب وحفيظ . { إن تعذبهم } أي من مات على الشرك بأن تصليه نارك فأنت على ذلك قدير ، { وإن تغفر لهم } أي لمن مات على التوحيد فتدخله جنتك فإنه لذلك أهل فإنك أنت العزيز الغالب على أمره الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه فلا ينعم من أشرك به ولا يعذب من أطاعه ووحده . فأجابه الرب تبارك وتعالى قائلا : { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } : صدقوا الله تعالى في إيمانهم به فعبدوه وحده لا شريك له ولم يشركوا سواه . ونفعه لهم أن أُدْخِلُوا به جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها لا يخرجون منها أبداً ، مع رضى الله تعالى ورضاهم عنه بما أنعم به عليهم من نعيم لا يفنى ولا يبيد ، { ذلك الفوز العظيم } إنّه النّجاة من النار ودخول الجنات . وفي الآية الأخيرة ( 120 ) يخبر تعالى أنه ل { ملك السموات والأرض وما فيهن } من سائر المخلوقات والكائنات خلقاً وملكاً وتصرفاً يفعل فيها ما يشاء فيرحم ويعذب { وهو على كل شيء قدير } لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم .
(1/387)
________________________________________
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- توبيخ النصارى في عرصات القيامة على تأليه عيسى ووالدته عليهما السلام .
2- براءة عيسى عليه السلام مِنْ مشركي النصارى وأهل الكتاب .
3- تعذيب المشركين وتنعيم الموحدين قائم على مبدأ الحكمة الإِلهية .
4- فضيلة الصدق وأنه نافع في الدنيا والآخرة ، وفي الحديث : « عليكم بالصدق فإنه يدعو إلى البر وأن البر يهدي إلى الجنة ، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً » .
5- سؤال غير الله شيئاً ضرب من الباطل والشرك ، لأن غير الله لا يملك شيئاً ، ومن لا يملك كيف يعطي ومن أين يعطي؟
(1/388)
________________________________________
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
شرح الكلمات :
{ الحمد } : الثناء باللسان على المحمود بصفات الجمال والجلال .
{ خلق } : أنشأ وأوجد .
{ يعدلون } : يسوون به غيره فيعبدونه معه .
{ الأجل } : الوقت المحدد لعمل ما من الأعمال يتم فيه أو ينتهي فيه ، والأجل الأولى أجل كل إنسان ، والثاني أحل الدنيا .
{ تمترون } : تشكُّون في البعث الآخرة والجزاء : كما تشكون في وجوب توحيده بعبادته وحده دون غيره .
{ وهو الله فى السموات } : أي معبود في السموات وفي الأرض .
{ ما تكسبون } : أي من خير وشر ، وصلاح فساد .
{ معنى الآيات } :
يخبر تعالى بأنه المستحق للحمد كله وهو الوصف بالجلال والجمال والثناء بهما عليه وضمن ذلك يأمر عباده أن يحمدوه كأنهما قال قولوا الحمد لله ، ثم ذكر تعالى موجبات حمده دون غيره فقال : { الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور } ، فالذي أوجد السموات والأرض وما فيهما وما بينهما من سائر المخلوقات وجعل الظلمات والنور وهما من أقوى عناصر الحياة هو المستحق للحمد والثناء لا غيره ومع هذا فالذين كفروا من الناس يعدلون به أصناماً وأوثاناً ومخلوقات فيعبدونها معه يا للعجب!! .
هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 1 ) أما الآية الثانية ( 2 ) فإنه تعالى يخاطب المشركين موبخاً لهم على جهلهم مندداً بباطلهم فيقول : { هو الذي خلقكم من طين } لأن آدم أباهم خلقه من طين ثم تناسلوا منه فباعتبار أصلهم هم مخلوقون من طين ثم الغذاء الذي هو عنصر حياتهم من طين ، ثم قضى لكلٍ أجلاً وهو عمره المحدد له وقضى أجل الحكاية كلها الذي تنتهي فيه وهو مسمى عنده معروف له لا يعرفه غيره ولا يطلع عليه سواه ولحكم عالية أخفاه ، ثم أنتم أيها المشركون الجهلة تشكُّون في وجوب توحيده ، وقدرته على إحيائكم بعد موتكم لحسابكم ومجازاتكم على كسبكم خيره وشره ، حسنه وسيئه ، وفي الآية الثالثة ( 3 ) يخبر تعالى أنه هو الله المعبود بحق في السموات وفي الأرض لا إله غيره ولا رب سواه { يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون } من خير وشر فهو تعالى فوق عرشه بائن من خلقه ويعلم سر عباده وجهرهم ويعلم أعمالهم وما يكتسبون بجوارحهم يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، لذا وجبت الرغبة فيما عنده من خير ، والرهبة مما لديه من عذاب ، ويحصل ذلك لهم بالإِنابة إليه وعبادته والتوكل عليه .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وجوب حمد الله تعالى والثناء عليه بما هو أهله .
2- لا يصح حمد أحد بدون ما يوجد لديه من صفات الكمال ما يحمد عليه .
3- التعجب من حال من يسوون المخلوقات بالخالق عز وجل في العبادة .
4- التعجب من حال من يرى عجائب صنع الله ومظاهر قدرته ثم ينكر البعث والحياة الآخرة .
5- صفة العلم لله تعالى وأنه تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء يعلم السر وأخفى .
(1/389)
________________________________________
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
شرح الكلمات :
{ من آية } : المراد بالآية هنا آيات القرآن الكريم الدالة على توحيد الله تعالى والإِيمان برسوله ولقائه يوم القيامة .
{ معرضين } : غير ملتفتين إليها ولا مفكرين فيها .
{ الحق } : الحق هنا هو النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الدين الحق .
{ أنباء } : أخبار ما كانوا به يستهزئون وهو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة .
{ من قرن } : أي أهل قرن من الأمم السابقة ، والقرن مائة سنة .
{ مكنا لهم في الأرض } : أعطيناهم من القوة المادية ما لم نعط هؤلاء المشركين .
{ مدراراً } : مطراً متواصلاً غزيراً .
{ بذنوبهم } : أي بسبب ذنوبهم وهي معصية الله ورسله .
{ وأنشأنا } : خلقنا بعد إهلاك الأولين أهل قرن آخرين .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الحديث عن أولئك الذين يعدلون بربهم غيره من مخلوقاته فيقول تعالى عنهم : وما تأتيهم من آية من آيات ربهم التي يوحيها إلى رسوله ويضمها كتابه القرآن الكريم ، إلا قابلوها بالإِعراض التام ، وعدم الالتفات إلى ما تحمله من هدى ونور ، وسبب ذلك أنهم قد كذبوا بالحق لما جاءهم وهو الرسول وما معه من الهدى ، وبناء على ذلك { فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستزئون } وقد استهزأوا بالوعيد وسينزل بهم العذاب الذي كذبوا به واستهزأوا ، وأول عذاب نزل بهم هزيمتهم يوم بدر ، ثم القحط سبع سنين ، ومن مات منهم على الشرك فسوف يعذب في نار جهنم أبداً ، ويقال لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تستهزئون وقوله تعالى : { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن } أي كثيراً من أهل القرون الماضية مكن الله تعالى لهم في الأرض من الدولة والسلطان والمال والرجال ما لم يمكن لهؤلاء المشركين من كفار قريش ، وأرسل على أولئك الذين مكن لهم السماء مدراراً بغزير المطر وجعل لهم في أرضهم الأنهار تجري من تحت أشجارهم وقصورهم ، فلما أنكروا توحيدي وكذبا رسولي ، وعصوا أمري { فأهلكناهم بذنوبهم } ، لا ظلماً منا ولكن بظلمهم هم لأنفسهم ، وأوجدنا بعدهم قوماً آخرين ، وكان ذلك علينا يسيراً .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- التكذيب بالحق هو سبب الإِعراض عنه فلو آمنوا به لأقبلوا عليه .
2- الاستهزاء والسخرية بالدين من موجبات العذاب وقرب وقوعه .
3- العبرة بهلاك الماضين ، ومصارع الظالمين .
4- هلاك الأمم كان بسبب ذنوبهم ، فما من مصيبة إلا بذنب .
(1/390)
________________________________________
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
شرح الكلمات :
{ قرطاساً } : القرطاس : ما يكتب عليه جلداً أو كاغداً .
{ لمسوه بأيديهم } : مسوه بأصابعهم ليتأكدوا منه .
{ ملك } : الملك أحد الملائكة .
{ لقضي الأمر } : أي أهلكوا وانتهت حياتهم .
{ لا ينظرون } : لا يمهلون .
{ ولو جعلناه ملكاً } : ولو جعلنا الرسول إليهم ملكاً لإِنكارهم البشر .
{ لبسنا } : خلطنا عليهم .
{ استهزىء } : سخر وتهكم واستخف .
{ حاق بهم } : نزل بهم العذاب وأحاط بهم فأهلكوا .
معنى الآيات :
ما زال السياق في شأن العادلين بربهم أصنامهم التي يعبدونها ويزعمون أنها تشفع لهم عند الله يقول تعال : { ولو نزلنا عليك } أيها الرسول { كتاباً } أي مكتوباً في ورق جلد أو كاغد ورأوه منزلاً من السماء ولمسوه بأيديهم وحسوه بأصابعهم ما آمنوا ولقالوا : { إن هذا إلا سحر مبين } . أي سحر واضح سحركم به محمد صلى الله عليه وسلم وإلا كيف ينزل الكتاب من السماء ، { وقالوا : لولا أنزل عليه ملك } أي هلا أنزل عليه ، لم لا ينزل عليه ملك يساعده ويصدقه بأنه نبي الله ورسوله ، فقال تعالى : { ولو أنزلنا ملكاً } ، وليس من شأن الله أن ينزل الملائكة ولو أنزل ملكاً فكذبوه لأهلكهم ، إذ الملائكة لا تنزل إلا لإِحقاق الحق وعليه فلو نزل ملك لقضي أمرهم بإهلاكهم وقطع دابرهم وهذا ما لا يريده الله تعالى لهم . وقوله : { ثم لا ينظرون } أي لا يمهلون ولو ساعة ليتوبوا أو يعتذروا مثلا . وقوله تعالى : { ولو جعلناه ملكاً } أي الرسول ملكاً لقالوا كيف نفهم عن الملك ونحن بشر فيطالبون بأن يكون بشراً وهكذا كما قال تعالى : { ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً ، وللبسنا عليهم } خلطنا وشبهنا ما يخلطون على أنفسهم ويشبهون . ثم أخبر تعالى رسوله مسلياً له قائلاً { ولقد استهزىء برسل من قبلك } كما استهزيء بك فاصبر ، فقد حاق بالمستهزئين ما كانوا به يستهزئون ، كانوا إذا خوفهم الرسل عذاب الله سخروا منهم واستخفوا بهم وبالعذاب الذي خوفهم به ، ثم أمر الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول لأولئك المستهزئين بما يعدهم من عذاب ربهم وهم أكابر مجرمي قريش : { قل سيروا في الأرض } جنوباً لتقفوا على ديار عاد أو شمالاً لتقفوا على ديار ثمود ، أو غرباً لتقفوا على بحيرة لوط فتعرفوا { كيف كان عاقبة المكذبين } من أمثالكم لعلكم تحققون من طغيانكم وتكذيبكم فيسهل عليكم الرجوع .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- الآيات بمعنى المعجزات والخوارق لا تستلزم الإِيمان بل قد تكون سبباً للكفر والعناد ، ولذا لم يستجب الله لقريش ولم يعط رسوله ما طالبوه من الآيات .
2- إنكار رسالة البشر عام في كل الأمم وقالوا ما هذا إلا بشر مثلكم في آيات كثيرة في حين أن إرسال الملائكة لا يتم معه هدف لعدم قدرة الانسان على التلقي عن الملائكة والتفاهم معهم ، ولو أنزل الله ملكاً رسولاً لقالوا نريده بشراُ مثلنا ولحصل الخلط واللبس بذلك .
3- الاستهزاء بالرسل والدعاة سنة بشرية لا تكاد تتخلف ولذا وجب على الرسل والدعاة الصبر على ذلك .
4- عاقبة التكذيب والاستهزاء هلاك المكذبين المستهزئين .
5- مشروعية زيادة القبور للوقوف على مصير الإِنسان ومآل أمره فإن في ذلك ما يخفف شهوة الدنيا والنهم فيها والتكالب عليها وهو سبب الظلم والفساد .
(1/391)
________________________________________
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
شرح الكلمات :
{ كتب على نفسه الرحمة } : أي أوجب على نفسه رحمة خلقه .
{ لا ريب فيه } : لا شك في مجيئه وحصوله في أجله المحدد له
. { خسروا أنفسهم } : حيث لوثوها بأوضار الشرك ولمعاصى فلم ينتفعوا بها .
{ وله ما سكن في الليل والنهار } : أي ما استقر فيها من ساكن ومتحرك أي له كل شيء .
{ ولياً } : أحبه من العذاب بمعنى يبعد عنه .
{ من يصرف عنه } : أي الواضح إذ النجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الحديث مع العادلين بربهم غيره من أهل الشرك فيقول تعالى لرسوله سلهم قائلاً : { لمن ما في السموات والأرض } خلقاً وإيجاداً أو ملكاً وتصرفاً وتدبيراً ، واسبقه إلى الجواب فقل لله ، إذ ليس لهم من جواب إلا هذا : { لله } ، أي هو الله الذي { كتب على نفسه الرحمة } قضى بها وأوجبها على نفسه ، ومظاهرها متجلية في الناس : إنهم يكفرونه ويعصونه وهو يطعمهم ويسقيهم ويكلؤهم ويحفظهم ، وما حمدوه قط . ومن مظاهر رحمته جمعه الناس ليوم القيامة ليحاسبهم ويجزيهم بعملهم الحسنة بعشر أمثالها أما السيئة فبسيئة مثلها فقط وهو ما دل عليه قوله : { ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه } أى الكائن الآتى بلا ريب ولا شك ، وقوله تعالى : { الذين خسروا أنفسهم فيهم لا يؤمنون } يخبر تعالى أنَّ الذين كتب خسرانهم أزلاً في كتاب المقادير فهم لذلك لا يؤمنون وما كتب أزلاً لعلم تام بموقفهم هذا الذي هم وافقوه من الكفر والعناد والشرك والشر والفساد ، بذلك استوجبوا الخسران هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 12 ) أما الآية الثانية ( 13 ) { وله ما سكن في الليل والنهار } وهذا تقرير بأنه رب كل شيء والمالك لكل شيء إذ ما هناك إلا ساكن ومتحرك وهو رب الجميع ، وهو السميع لأحوال عباده وسائر مخلوقاته العليم فأفعالهم الظاهرة والباطنة ولذا لا يسأل عما يفعل ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ومن هنا وجب اللجأ إليه والتوكل عليه ، والانقياد لأمره ونهيه . وقوله تعالى في الآية الثالثة ( 14 ) { قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السموات والأرض وهو يُطْعِم ولا يُطْعَم } يأمر تعالى رسوله أن يرد على المشركين المطالبين منه أن يوافقهم على شركهم ويعبد معهم آلهتهم فيقول : أفغير الله فاطر السموات والأرض الذي يطعم غيره لافتقاره إليه ، ولا يطعم لغناه المطلق أغيره تعالى أتخذ ولياً أعبده كما اتخذتم أنتم أيها المشركون أولياء تعبدونهم . إن هذا لن يكون أبداً كما أمره ربه تعالى أن يقول في صراحة ووضوح ، { إني أمرت أن أكون أول من أسلم } أي وجهه لله ، وأقبل عليه بعبده بما شرع له ، ونهاني أن أكون من المشركين بقوله : { ولا تكونن من المشركين } الذين يعبدون مع الله غيره من مخلوقاته وأمره في الآية ( 15 ) أن يقول للمشركين الراغبين في تركه التوحيد : { إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } وهو عذاب يوم القيامة .
(1/392)
________________________________________
إنه عذاب أليم لا يطاق من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه أي أدخله الجنة والنجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم كما قال تعال { فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } نعم فاز وأي فوز أكبر من الخلوص من العذاب ودخول في دار السلام .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- عموم رحمة الله تعالى .
2- تقرير مبدأ الشقاوة والسعادة في الأزل قبل خلق الخلق .
3- الله رب كل شيء وملكيه .
4- تحريم ولاية غير الله ، وتحريم الشرك به تعالى .
5- بيان الفوز الأخروي وهو النجاة من العذاب ودخول الجنة .
(1/393)
________________________________________
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
شرح الكلمات :
{ يمسسك } : يصبك .
{ بضر } : الضر : ما يؤلم الجسم أو النفس كالمرض والحزن .
{ بخير } : الخير : كل ما يسعد الجسم أو الروح .
{ القاهر } : الغالب المذل المعز .
{ شهادة } : الشهادة : إخبار العالم بالشيء عنه بما لا يخالفه .
{ لأنذركم به } : لأخوفكم بما فيه من وعيد الله لأهل عداوته .
{ إله واحد } : معبود واحد لأنه رب واحد ، إذ لا يعبد إلا الرب الخالف الرازق المدير .
معنى الآيات :
ما زال السياق في توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم وتقوية من أولئك العادلين بربهم المشركين به . فيقول له ربه تعالى : { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو } أي إن أصابك الله بما يضرك في بدنك فلا كاشف له عنك بإِنجائك منه إلا هو . { وإن يمسسك بخير } أي وإن يردك بخير فلا راد له { فهو على كل شيء قدير } ، والخطاب وإن كان موجهاً للرسول صلى الله عليه وسلم عام في كل أحد فلا كاشف للضر إلا هو ، ولا راد لفضله أحد ، ومع كل أحد ، وقوله تعالى في الآية الثانية ( 18 ) { وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير } تقرير لربوبيته المستلزمة لألوهيتة فقهره لكل أحد ، وسلطانه على كل أحد مع علو كلمته وعلمه بكل شيء الثالثة ( 19 ) { لألوهيته وطاعته وطلب ولايته ، وبطلان ولاية غيره وعبادة سواه وقوله تعالى في الآية بمن يشهد لك بالنبوة فإن أهل الكتاب أنكروها فأمره ربه تعالى أن يقول لهم رداً عليهم . أي شيء أكبر شهادة؟ ولما كان لا جواب لهم إلا أن يقولوا الله أمره ربه تعالى أن يقول لهم رداً عليهم . بيني وبينكم } . فشهادة الله تعالى لي بالنبوّة إيحاؤه إليّ بهذا القرآن الذي أنذركم به . وأنذر كل من بلغه وسم به بأن من بلغه ولم يؤمن به ويعمل بما جاء فيه من العقائد والعبادات والشرائع فإنه خاسر لنفسه يوم القيامة . ثم أمره أن ينكر عليهم الشرك بقوله : أئنكم لتشهدون مع الله آلهة أخرى ، وذلك بإيمانكم بها وعبادتكم لها أما أنا فلا أعترف بها بل أنكرها فضلاً عن أن أشهد بها . ثم أمره بعد إنكار آلهة المشركين أن يقرر أوهيته الله وحده وأن يتبرأ مع آلهتهم المدعاة فقال له قل : { إنما هو إله واحد ، وإنني برىء مما تشركون } .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وجوب اللجأ إلى الله تعالى دون غيره من سائر خلقه إذ لا يكشف الضر إلا هو .
2- شهادة الله تعالى لرسوله بالنبوة وما أنزل عليه من القرآن وما أعطاه من المعجزات .
3- نذارة الرسول بلغت كل من بلغه القرآن الكريم إلى يوم الدين .
4- تقرير مبدأ التوحيد لا إله إلا الله ، ووجوب البراءة من الشرك .
(1/394)
________________________________________
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
شرح الكلمات :
{ الذين أوتوا الكتاب } : علماء اليهود والنصارى .
{ يعرفونه } : يعرفون محمداً نبياً لله ورسولاً له .
{ افترى على الله كذباً } : اختلق الكذب وزوّره في نفسه وقال .
{ لا يفلح الظالمون } : لا ينجون من عذاب الله يوم القيامة .
{ أين شركاؤكم } : استفهام توبيخي لهم .
{ تزعمون } : تدعون أنهم شركاء يشفعون لكم عند الله .
{ وضل عنهم } : غاب عنهم ولم يحضرها ما كانوا يكذبونه .
معنى الآيات :
قوله تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب } أي علماء اليهود والنصارى { يعرفونه } أي النبي محمداً صلى الله عليه وسلم أنه نبي الله وأن القرآن كتاب الله أوحاه إليه يعرفونه بما ثبت من أخباره ونعوته معرفة كمعرفة أبنائهم ، رد الله تعالى بهذا على العرب الذين قالوا : لو كنت نبياً لشهد لك بذلك أهل الكتاب ثم أخبر تعالى أن الذين خسروا أنفسهم في قضاء الله وحكمه الأزلي لا يؤمنون ، وإن علموا ذلك في كتبهم وفهموه واقتنعوا به ، فهذا سر عدم إيمانهم ، فلن يكون إذاً عدم إيمانهم حجة ودليلاً على النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأنه غير نبي ولا رسول هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 20 ) وفي الآية الثانية نداء الله تعالى لكلَّ من مشركي العرب وكفار أهل الكتاب بقوله { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } وهم المشركون بزعمهم أن الأصنام تشفع لهم عند الله ولذا عبدوها ، أو كذبوا بآياته وهم أهل الكتاب ، وأخبر أن الجميع في موقفهم المعادي للتوحيد والاسلام ظالمون ، وإن الظالمون لا يفلحون فحكم بخسران الجميع إلا من آمن منهم وعبد الله ووحده وكان من المسلمين وقوله تعالى في الآية الثالثة ( 22 ) { ويوم نحشرهم جميعاً } مشركين وأهل كتاب أي لا يفلحون في الدنيا ولا يوم نحشرهم وهو يوم القيامة لأنهم ظالمون ، ثم أخبر تعالى بمناسبة ذكر يوم القيامة أنه يسأل المشركين منهم فيقول لهم : { أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون } أنهم يشفعون لكم في هذا اليوم؟ ثم لم تكن نتيجة هذه الفتنة أي الاختبار إلا قولهم : { والله ربنا ما كنا مشركين } يكذبون هذا الكذب لأنهم رأوا أن المشركين لا يغفر لهم ولا ينجون من النار . ثم أمر الله رسوله أن يتعجب من موقفهم هذا المخزي لهم فقال له : { أنظر كيف كذبوا على أنفسهم } أما ربهم فهو عليم بهم { وضل عنهم } أي غاب فلم يروه . { ما كانوا يفترون } أي يكذبون .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- لم يمنع أهل الكتاب من الدخول في الاسلام إلا إيثار الدنيا على الآخرة .
2- سببان في عظم الجريمة الكاذب على الله المفتري والمكذب الجاحد به وبكتابه وبنبيه .
3- تقرير عدم فلاح الظالمين في الحياتين .
4- الشرك لا يغفر لصاحبه إذا لم يتب منه قبل موته .
(1/395)
________________________________________
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
شرح الكلمات :
{ أكنة } : جمع كنان ما يكن فيه الشيء كالغطاء .
{ وقرأ } : ثقلاً وصمماً فهم لا يسمعون .
{ يجادلونك } : يخاصمونك .
{ أساطير الأولين } : جمع أسطورة : ما يكتب ويحكى من أخبار السابقين .
{ ونأون عنه } : أي ويبعدون عنه .
{ بل بدا لهم } : بل ظهر لهم .
{ إن هي إلا حياتنا } : ما هي إلا حياتنا .
{ مبعوثين } : بعد الموت أحياء كما كنا قبل أن نموت .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الحديث عن أولئك العادلين بربهم المشركين به سواه فيخبر تعالى عن بعضهم فيقول { ومنهم ومن يستمع إليك } حال قراءتك القرآن ولكنه لا يعيه قلبه ولا يفقه ما فيه من أسرار وحكم تجعله يعرف الحق ويؤمن به ، وذلك لما جعلنا حسب سنتنا في خلقنا من أكنة على قلوبهم أي أغطية ، ومن وقر أي ثقل وصمم في آذانهم ، فلذا في يستمعون ولا يسمعون ، ولا يفقهون وتلك الأغطية وذلك الصمم هما نتيجة ما يحملونه من بغض للنبي صلى الله عليه وسلم وكره لما جاء به من التويحد ولذا فهم لو يرون كل آية مما يطالبون من المعجزات كإحياء الموتى ونزول الملائكة عياناً لا يؤمنون بها لأنهم لا يريدون يؤمنوا ولذا قال تعالى : { وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك } أي في شأن التوحيد وآلهتهم { يقول الذين كفروا إن هذا } أي ما هذا { إلا أساطير الأولين } ، أمليت عليك أو طلبت كتابتها فأنت تقصها ، وليس لك من نبوة ولا وحي ولا رسالة . هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 25 ) أما باقي الآيات فإن الثانية ( 26 ) تضمنت أخبار الله تعالى عنهم بأنهم ينهون الناس عن الإِيمان بالنبي وبما جاء به وعن متابعته والدخول في دينه ، وينأون هم بأنفسهم أي يبعدون عنه فلا إيمان ولا متابعة . وهذه شر الصفات يصفه مالله تعالى بهم وهي البعد عن الحق والخير ، وأمر الناس بالبعد عنهما ونهيهم عن قربهما ولذا قال تعالى : { وإن يهلكون إلا أنفسهم } بهذا الموقف الشائن المعادى للرسول والتوحيد ، وما يشعرون بذلك لو شعروا لكفوا ، والذي أفقدهم الشعور هو حب الباطل والشر الذي حملهم على عداوة الرسول وما جاء به من عبادة الله وتوحيده وها هم أولاً قد حشروا في جهنم ، والله تعالى يقول للرسول : { ولو ترى إذ وقفوا على النار } ولا بد لهم من دخولها والاصطلاء بحرها والاحتراق بلهبها ، فقالوا وهم في وسطها { يا ليتنا نرد } إلى الحياة الدنيا { ولا نكذب بآيات ربنا ، ونكون من المؤمنين } ، وما هم والله بصادقين وإنما هي تمنيات حمل عليها الإِشفاق من العذاب والخوف من نار جهنم ، والفضيحة حين ظهر لهم ما كانوا يخفون في الدنيا من جرائم وفواحش وهم يغشونها الليل والنهار قال تعالى وهو العليم الخبير : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون } ، وصدق الله لو ردوا لعادوا وفي الآية الأخيرة ( 29 ) يسجل الله تعالى عليهم سبب بلائهم ومحنتهم ، وإقدامهم في تلك الجرأة الغريبة على الشرك ومحاربة التوحيد ، ومحاربة الموحدين بالضرب والقتل والتعذيب إنه كفرهم بالبعث والجزاء إذ قالوا ما أخبر تعالى به عنهم : { إن هي إلا حياتنا الدنيا ، وما نحن بمبعوثين } .
(1/396)
________________________________________
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان سنة الله تعالى فى أن العبد إذا كره أحداً وأبغضه وتغالى في ذلك يصب لا يسمع ما يقول له ، ولا يفهم معنى ما يسمع منه .
2- شر دعاة الشر من يعرض عن الهدى ويأمر بالإِعراض عنه ، وينهى من يقبل عليه .
3- سبب الشر في الأرض الكفر بالله ، وإنكار البعث والجزاء الآخر .
(1/397)
________________________________________
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
شرح الكلمات :
{ وقفوا على ربهم } : جيء بهم ووقفوا على قضائه وحكمه تعالى فيهم .
{ بلى وربنا } : أي إنه للحق والله .
{ خسر الذين كذبوا } : أي خسروا أنفسهم في جهنم .
{ الساعة بغتة } : ساعة : البعث ليوم القيامة وبغتة : أي فجأة .
{ يا حسرتنا } : الحسرة : التندم التحسر على ما فات ينادون حسرتهم زيادة في التألم والتحزن .
{ أوزارهم } : أحمال ذنوبهم إذ الوزر الحمل الثقيل .
{ لعب ولهو } : اللعب : العمل الذي لا يجلب درهماً للمعاش ، ولا حسنة للمعاد .
وللهو : ما يشغل الإنسان عما يعنيه مما يكسبه خيراً أو يدفع عنه ضيراً .
معنى الآيات :
يقول تعالى لرسوله : ولو ترى إذ أولئك لمنكرون للبعث القائلون { إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين } ، لو تراهم وقد حبسوةا لقضاء الله وحكمه فيهم وقيل لهم وهم يشاهدون أهوال القيامة وما فيها من حساب وجزاء وعذاب { أليس هذا بالحق } أي الذي كنتم تكذبون فيسارعون بالإِجابة قائلين { بلى ، وربنا } ، فيحلفون بالله تعالى تأكيداً لصحة جوابهم فيقال لهم : { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } لا ظلماً منا ولكن بسبب كفركم إذ الكفر منع من طاعة الله ورسوله ، والنفس لا تطهُر إلا على تلك الطاعة ، هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 30 ) أما الآية الثانية ( 31 ) فقد أعلن تعالى عن خسارة صفقة الكافرين الذين باعوا الإِيمان بالكفر والتوحيد بالشرك ، والطاعة بالمعاصي فقال تعالى : { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله } أي بالحياة بعد الموت وهذا هو سبب المحنة والكارثة { حتى إذا جاءتهم الساعة } ساعة فناء هذه الحياة وإقبال الحياة الآخرة { بغتة } أي فجأة لم يكونوا يفكرون فيها لكفرهم بها ، وعندئذ صاحوا بأعلى أصواتهم معلنين عن تندمهم { يا حسرتنا على ما فرطنا } أي في صفقتنا حيث اشترينا الكفر بالإِيمان والشرك وبالتوحيد قال تعالى : { وهم يحملون أوزارهم } من الجائز أن تصور لهم أعمالهم من الكفر والشرك والظلم والشر والفساد في صورة رجل قبيح أشوه فيحملونه على ظهورهم في عرصات القيامة وقد ورد به خبر . ولذا قال تعالى : { ألا ساء ما يزرون } أي قبح ما يحملونه! وفي الآية ( 32 ) الأخيرة يخبر تعالى مذكراً واعظاً ناصحاً فيقول يا عباد الله : { وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو } فانتبهوا فلا تغتروا بما فيها من ملذات فإن نعيمها إلى زال ما شأنها إلا شأن من يلعب أو يلهو ، ثم لا يحصل على طائل من لعبه ولهوه ، أما الدار الآخرة فإنها خير ولكن للذين يتقون الشرك والشر . والماصي ، فما لكم مقبلين على الفانى معرضين عن الباقي { أفلا تعقلون؟! } .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير مبدأ البعث والجزاء بذكر صور ومشاهد له .
2- قبح الذنوب وأنها أسوأ حمل يحمله صاحبها يوم القيامة .
3- حكم الله تعالى بالخسران على من كذب بلقائه فلم يؤمن ولم يعمل صالحا .
4- الساعة لا تأتي إلا بغتة ، ولا ينافي ذلك ظهور علاماتها ، لأن الزمن ما بين العلامة والعلامة لا يعرف مقداره .
5- نصيحة القرآن للعقلاء بأن لا يغتروا بالحياة الدنيا . ويهملوا شأن الآخرة وهي خير للمتقين .
(1/398)
________________________________________
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
شرح الكلمات :
{ ليحزنك } : أي ليوقعك في الحزن الذي هو ألم النفس من جراء فقد ما تحب من هدايتهم أو من أجل ما تسمع منهم من كلم الباطل كتكذيبك وأذيتك .
{ فإنهم لا يكذبونك } : أي لا ينسبونك إلى الكذب في بواطنهم ومجالسهم السرية لعلمهم اليقيني أنك صادق .
{ كذبت رسل } : أي كذبتهم أقوامهم وأممهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام .
{ ولا مبدل لكلمات الله } : التي تحمل وعده بنصر أوليائه وإهلاك أعدائه .
{ من نبإ المرسلين } : أي أخبارهم في دعواتهم مع أممهم .
{ تبتغي نفقاً } : تطلب سرباً تحت الأرض .
{ أو سلماً في السماء } : أي مصعداً تصدع به الى السماء .
{ بآية } : أي خارقة من خوارق العادت وهى المعجزات .
{ فلا تكونن من الجاهلين } : أي فلا تقف موقف الجاهلين بتدبير الله في خلقه .
معنى الآيات :
هذه الآيات من تربة الله تعالى لرسوله وإرشاده لما يشد من عزمه ويزيد في ثباته على دعوة الحق التي أناط به بلاغها وبيانها فقال له تعالى : { قد نعلم إنه } أي الحال والشأن ، { ليحزنك الذي يقولون } أي الكلام الذي يقولون لك وهو تكذيبك واتهامك بالسحر ، والتقول على الله ، وما إلى ذلك مما هو إساءة لك وفي الحقيقة إنهم لا يكذبونك لما يعلمون من صدقك وهم يلقبونك قبل إنبائك لهم وإرسالك بالأمين ولكن الظالمين هذا شأنهم فهم يرمون الرجل بالكذب وهم يعلمون أنه صادق ويقرون هذا في مجالسهم الخاصة ، ولكن كي يتوصلوا إلى تحقيق أهدافهم في الإِبقاء على عادتهم وما ألفوا من عبادة أوثانهم يقولون بألسنتهم من نسبتك إلى الكذب وهم يعلمون أنك صادق غير كاذب فإذا عرفت هذا فلا تحزن لقولهم . هذا أولاً وثانياً فقد كذبت رسل من قبلك وأوذوا كما كُذبت أنت وأوذيت ، وصبروا حتى أتاهم نصرنا فاصبر أنت حتى يأتيك النصر فإنه لا مبدل لكلمات الله التي تحمل وعده لأوليائه ووعيده لأعدائه ، ولقد جاءك في هذا الكتاب الذي أوحينا إليك من نبأ المرسلين وأخبارهم من يكون عوناً لك على الصبر حتى النصر فاصبر ، وثالثاً { إن كان كبر عليك إعراضهم } عن دعوتك وعدم إيمانهم بها حتى تأتيهم بآية تلجئهم إلى الإِيمان بك وبرسالتك كما يطلبون منك ويُلِحُون عليك وهم كاذبون فإن استطعت أن تطلب لهم آية من تحت الأرض أو من السماء فافعل ، وهذا ما لا تطيقه ولا تستطيعه لأنه فوق طاقتك فلا تكلف به وإذاً فما عليك إلا بالصبر هذا معنى قوله تعالى : { وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض } أي سرباً ، { أو سلماً في السماء } أي مصعداً { فتأتيهم بآية } أي فافعل وما أنت بقادر فاصبر إذاً ورابعاً إن الله قادر على أن يجمعهم كلهم على الإِيمان بك وبرسالتك والدخول في دينك ، ولكنه لم يشأ ذلك لحكم عالية فلا تطلب أنت ما لا يريده ربك ، فإنك إن فعلت كنت من الجاهلين ، ولا نريد لك ذلك .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- ثبوت بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم ولذا هو يحزن لفوت محبوب كما يحزن البشر لذلك .
2- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر حتى يأتيه موعود ربه بالنصر .
3- بيان سنة الله في الأمم السابقة .
4- إرشاد الرب تعالى رسوله إلى خير المقامات وأكمل الحالات بإبعادة عن ساحة الجاهلين .
(1/399)
________________________________________
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
شرح الكلمات :
{ إنما يستجيب } : أي لدعوة الحق التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيؤمن ويهتدي .
{ يبعثهم الله } : أي يوم القيامة .
{ لولا نزل عليه آية } : هلا أداة تحضيض لا لولا الشرطية .
{ آية من ربه } : آية : خارقة تكون علامة على صدقه .
{ لا يعلمون } : أي ما يترتب على إيتائها مع عدم الإِيمان بعدها من هلاك ودمار .
{ من دابة } : الدابة كل ما يدب على الأرض من إنسان وحيوان .
{ في الكتاب } : كتاب المقادير أم الكتاب اللوح المحفوظ .
{ صم وبكم في الظلمات } : صم : لا يسمعون وبكم : لا ينطقون في الظلمات لا يبصرون .
{ صراط مستقيم } : هو الدين الإِسلامي المفضي بالآخذ به إلى سعادة الدارين .
معنى الآيات :
بعدما سلى الرب تعالى رسوله في الآيات السابقة وحمله على الصبر أعلمه هنا بحقيقة علمية تساعده على الثبات والصبر فأعلمه أن الذين يستجيبون لدعوته صلى الله عليه وسلم هم الذين يسمعون لأن حاسة السمع عندهم سليمة ما أصابها ما يخل بأداء وظيفتها من كره الحق . وبغض أهله والداعين إليه فهؤلاء هم الذين يستجيبون لأنهم أحياء أما الأموات فإنهم لا يسمعون ولذا فهم لا يستجيبون ولكن سيبعثهم الله يوم القيامة أحياء ثم يرجع الجميع إليه من استجاب ، لحياة قلبه ، ومن لم يستجب لموت قلبه ويجزيهم بما عملوا الجزاء الأوفى وهو على كل شيء قدير ، هذا ما دلت عيله الآية الأولى ( 36 ) أما الآية الثانية ( 37 ) فقد أخبر تعالى رسوله بقولهم { لولا نزل عليه آية } ، وعلمه أن يقول لهم { إن الله قادر على أن ينزل آية } وهي الخارقة كإحياء الموتى أو تسيير الجبال أو إنزال الملائكة يشاهدونهم عياناً ، ولكن لم ينزلها لحكم عالية وتدبير حكيم ، { ولكن أكثرهم لا يعلمون } الحكمة فى ذلك ، ولو علموا أنها إذا نزلت كانت نهاية حياتهم لما سألوها . هذا ما تضمنته الآية الثانية أما الآية الثالثة ( 38 ) وهي قوله تعالى : { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم } سبقت هذه الآية لبيان كمال الله تعالى وشمول علمه وعظيم قدرته ، وسعة تدبيره تدليلاً على أنه تعالى قادر على إنزال الآيات ، ولكن منع ذلك حكمته تعالى في تدبير خلقه فما من دابة تدب في الأرض ولا طائر يطير في السماء إلا أمم مثل الأمة الإِنسانية مفتقرة إلى الله تعالى في خلقها ورزقها وتدبير حياتها ، والله وحده القائم عليها ، وفوق ذلك إحصاه عملها عليها ثم بعثها يوم القيامة ومحاسبتها ومجازاتها ، وكل ذلك حواه كتاب المقادير وهو يقع فى كل ساعة ولا يخرج شيء عما كتب في كتاب المقادير ، اللوح المحفوظ { وما فرطنا في الكتاب من شيء } فهل يعقل مع هذا أن يعجز الله تعالى عن إنزال آية ، وكل مخلوقاته دالة على قدرته وعلمه ووحدانيته ، ووجوب عبادته وفق مرضاته ، وقوله { ثم إلى ربهم يحشرون } كل دابة وكل طائر يموت أحب أم كره ، ويبعث أحب أم كره ، والله وحده مميته ومحييه ومحاسبه ومجازيه ، { ثم إلى ربهم يحشرون } ، ومن هنا كان المكذبون بآيات الله { صم وبكم في الظلمات } أموات غير أحياء إذ الأحياء يسمعون وينطقون ويبصرون وهؤلاء صم بكم في الظلمات فه أموات غير أحياء وما يشعرون .
(1/400)
________________________________________
وأخيراً أعلم تعالى عباده أن هدايتهم كإضلالهم بيده فمن شاء هداه ومن شاء أضله ، وعليه فمن أراد الهداية فليطلبها في صدق من الله جل جلاله وعظم سلطانه ومن رغب عنها فلن يعطاها .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- الإِيمان بالله ورسوله ولقائه حياة والكفر بذلك موت فالمؤمن حي والكافر ميت .
2- سبب تأخر الآيات علم الله تعالى بأنهم لو أعطاهم الآيات ما أمنوا وبذلك يستوجبون العذاب .
3- تعدد الأمم في الأرض وتعدد أجناسها والكل خاضع لتدبير الله تعالى مربوب له .
4- تقرير ركن القضاء والقدر وإثباته في أم الكتاب .
(1/401)
________________________________________
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
شرح الكلمات :
{ أرأيتكم } : أخبروني .
{ الساعة } : يوم القيامة .
{ يكشف } : يزيل ويبعد وينجي .
{ البأساء والضراء } : البأساء : الشدائد من الحروب والأمراض ، والضراء : الضر .
{ يتضرعون } : يتذللون في الدعاء خاضعون .
{ بغتة } : فجأة وعلى حين غفلة .
{ مبلسون } : آيسون قنطون متحسرون حزنون .
{ دابر القوم } : آخرهم أي أهلكوا من أولهم إلى آخرهم .
{ الحمد لله } : الثناء بالجميل والشكر لله دون سواه .
معنى الآيات :
ما زال السياق في طلب هداية المشركين العادلين بربهم أصناماً وأحجاراً ، فيقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم قل يا رسولنا لأولئك الذين يعدلون بنا الأصنام { أرأيتكم } أي أخبرونى ، { إن أتاكم عذاب الله } اليوم انتقاما منكم ، { أو أتتكم الساعة } وفيها عذاب يوم القيامة ، { أغير الله تدعون } ليقيكم العذاب ويصرفه عنكم { إن كنتم صادقين } في أن آلهتكم تنفع تضر ، تقي السوء وتجلب الخير؟ والجواب معلوم أنكم لا تدعونها ليأسكم من أجابتها بل الله وحده هو الذي تدعونه فيكشف ما تدعونه له إن شاء ، وتنسون عندها ما تشركون به من الأصنام فلا تدعونها ليأسكم من إجابتها لضعفها وحقارتها . هذا ما تمضنته الآيتان الأولى ( 40 ) والثانية ( 41 ) وأما الآيات الأربع بعدهما فإن الله تعالى يخبر رسوله بقوله { ولقد أرسنا إلى أمم من قبلك } أي أرسلنا رسلاً من قبلك إلى أممهم فأمروهم بالإِيمان والتوحيد والعبادة فكفروا وعصوا فأخذناهم بالشدائد من حروب ومجاعات وأمراض لعلهم يتضرعون إلينا فيرجعون إلى الإِيمان بعد الكفر والتوحيد بعد الشرك والطاعة بعد العصيان ولما لم فعلوا وبخهم تعالى بقوله : { فلوا لا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا } أي فهلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا إلينا { ولكن } حصل العكس حيث { قست قلوبهم وزين لهم الشيطان } أي حسن لهم { ما كانوا يعملون } من الشرك والمعاصى . وهنا لما نسوا ما ذكرتهم به رسلهم فتركوا العمل به معرضين عنه غير ملتفتين إليه فتح الله تعالى عليهم أبواب كل شيء من الخيرات حتى إذا فرحوا بذلك وسكنوا إليه واطمأنوا ولم يبق بينهم من هو أهل للنجاة . قال تعالى { أخذناهم بغتة } أي فجأة بعذاب من أنواع العذاب الشديدة { فإذا هم مبلسون } آيسون من الخلاص متحسرون { فقطع دابر القوم الذين ظلموا } أي استؤصلوا بالعذاب عن آخرهم . وانتهى أمرهم { والحمد لله رب العالمين } ناصر أوليائه ومهلك أعدائه فاذكر هذا لقومك يا رسولنا لعلهم يثوبون إلى رشدهم ويعودون إلى الحق الذي تدعوهم إليه وهم معرضون .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- من غريب أحوال الإِنسان المشرك أنه في حال الشدة الحقيقية يدعو الله وحده ولا يدعو معه الآلهة الباطلة التي كان في حال الرخاء والعافية يدعوها .
2- بيان سنة الله تعالى في إهلاك الأمم .
3- إذا رأيت الأمة قد فسقت عن أمر ربها ورسوله فعوقبت فلم تتعظ بالعقوبة واستمرت على فسقها وبسط الله تعالى لها في الرزق وأغدق عليها الخيرات فاعلم أنها قد استدرجت للهلاك وأنها هالكة لا محالة .
4- شؤم الظلم هلاك الظالمين .
5- الإِرشاد إلى حمد الله تعالى عند نهاية كل عمل ، وعاقبة كل أمر .
(1/402)
________________________________________
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)
شرح الكلمات :
{ أرأيتم } : أخبروني وفي هذه الصيغة نوع من التعجب .
{ أخذ سمعكم وأبصاركم } : أي أصمكم وأعماكم .
{ وختم على قلوبكم } : جعلنا لا تعى ولا تفهم .
{ نصرف الآيات } : ننوع الأساليب لزيادة البيان والإِيضاح .
{ يصدفون } : يعرضون .
{ بغتة أو جهرة } : بغتة : بدون إعلام ولا علامة سابقة ، والجهرة ، ما كان بإعلام وعلامة تدل عليه .
{ هل يهلك } : أي ما يهلك .
معنى الآيات :
ما زال السياق في دعوة العادلين بربهم الأصنام والأوصان إلى التوحيد فقال لنبيه يلقنه الحجج التي تبطل باطل المشركين { قل أرأيتم } أي أخبروني يا قوم { إن أخذ الله سمعكم } وجعلكم صماً لا تسمعون وأخذ { أبصاركم } فكنتم عمياً لا تبصرون { وختم على قلوبكم } أي طبع عليها فأصبحتم لا تعقلون ولا تفهمون . أي إله غير الله يأتيكم بالذي أخذ الله منكم؟ والجواب لا أحد ، إذاً فكيف تتركون عبادة من يملك سمعكم وأبصاركم وقلوبكم ويملك كل شيء فيكم وعندكم ، وتعبدون مالا يملك من ذلكم من شيء؟ أي ضلال أبعد من هذا الضلال! ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم { أنظر } يا رسولنا { كيف نصرف الآيات } أي ننوع أساليبها زيادة في بيانها وإظهار الحجة بها { ثم هم يصدفون } أي يعرضون عادلين بربهم ما لا يملك نفعاً ولا ضراً ثم أمره في الآية الثانية ( 47 ) أن يقول لهم وقد أقام الحجة عليهم في الآية الأولى ( 46 ) قل لهم { أرأيتكم } أي أخبرونى { إن أتاكم عذاب الله } وقد استوجبتموه بصدفوكم عن الحق وإعراضكم عنه { بغتة } أي فجأة بدون سابق علامة ، { أو جهرة } بعلامة تقدمته تنذركم به أخبروني من يهلك منا ومنكم؟ { هل يهلك إلا القوم الظالمون } بصرف العبابة إلى من لا يستحقها وترك من وجبت له وهو الله الذي لا إله إلا هو ثم عزى الرحمن جل جلاله رسوله بقوله : { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين } أي ما نكلفهم بغير حمل البشارة بالنجاة ودخول الجنة لمن آمن وعمل صالحاً والنذارة لمن كفر وعمل سوءاً ، فقال تعالى : { فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } { والذين كذبوا بآياتنا } التي نرسل بها المرسلين فلم يؤمنوا ولم يعملوا صالحاً { يمسهم العذاب عذاب النار { بما كانوا يفسقون } بسبب فسقهم عن طاعتنا وطاعة رسلنا الفسق الذي أثم لهم التكذيب بالآيات ، إذ لوآمنوا بآيات الله لما فسقوا عن طاعته وطاعة رسوله فشؤمهم تكذيبهم ، وذلك جزاؤهم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- افتقار العبد إلى الله في سمعه وبصره وقبله وفى كل حياته موجب عليه عبادة الله وحده دون سواه .
2- هلاك الظالمين لا مناص منه عاجلاً أو آجلاً .
3- بيان مهمة الرسل وهي البشارة لمن أطاع والنذارة لمن عصى والهداية والجزاء على الله تعالى .
4- الفسق عن طاعة الله ورسوله ثمرة التكذيب ، والطاعة ثمرة الإِيمان .
(1/403)
________________________________________
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
شرح الكلمات :
{ خزائن } : جمع خزانة أو خزينة ما يخزن فيه الشيء ويحفظ .
{ الغيب } : ما غاب عن العيون وكان محصلاً فى الصدور وهو نوعان غيب حقيقي وغيب إضافي فالحقيقي ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، والإِضافي ما يعلمه أحد ويجهله آخر .
{ أنذر به } : خوّف به أي بالقرآن .
{ الغداة } : من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، والعشي من صلاة العصر إلى غروب الشمس .
{ فتطردهم } : تبعدهم من مجلسك .
{ فتنا } : ابتلينا بعضهم ببعض الغني بالفقير ، والشريف بالوضيع .
{ من الله علينا } : أي أعطاهم الفضل فهذاهم إلى الإِسلام دوننا .
{ بالشاكرين } : المستوجبين لفضل الله ومنته بسبب إيمانهم وصالح أعمالهم .
معنى الآيات :
ما زال السياق مع العادلين بربهم الأصنام المنكرين للنبوة المحمدية فأمر الله تعالى رسوله أن يقول لهم : { لا أقول لكم عندي خزائن الله } أي خزائن الأرزاق { ولا أعلم الغيب } أي ولا أقول لكم إني أعلم الغيب ، { ولا أقول لكم إني ملك } من الملائكة ما أنا إلا عبد رسول أتبع ما يوحي إلي ربي فأقول وأعمل بموجب وحيه إلي . ثم قال له سألهم قائلاً { هل يستوي الأعمى والبصير؟ } والجواب لا ، فكذلك لا يستوي المؤمن والكافر ، والمهدي والضال { أفلا تتفكرون } أي ما لكم لا تتفكرون فتهتدوا للحق وتعرفوا سبيل النجاة . هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 50 ) أما الآية الثانية ( 51 ) فإن الله تعال يأمر رسوله أن ينذر بالقرآن المؤمنين العاصين فقال { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم } يوم القيامة وهم مذنبون ، وليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع فهؤلاء ينفعهم إنذارك بالقرآن أما الكفرة المكذبون فهم كالأموات لا يستجيبون وهذا كقوله تعالى من سورة ق { فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } فهؤلاء إن أنذرتهم يرجى لهم أن يتقوا معاصي الله ومعاصيك أيها الرسول وهو معنى قوله تعالى : { لعلهم يتقون } . هذا ما تضمنته الآية الثانية ( 51 ) أما الآية الثالثة ( 52 ) وهي قوله تعالى { ولا تطرد الذين دعون ربهم بالغداة والعشي ، يريدون وجهه } فإن بعض المشركين في مكة اقترحوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعد من مجلسه فقراء المؤمنين كبلال وعمار وصهيب حتى يجلسوا إليه ويسمعوا عنه فهمَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفعل رجاء هداية أولئك المشركين فنهاه الله تعالى عن ذلك بقوله { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } في ولايته وكرامته ، ومبالغة في الزجر عن هذا الهم قال تعالى : { ما عليك من حسابهم من شيء } أي ما أنت مبسؤول عن خطاياهم إن كانت لهم خطايا ، ولا هم بمسئولين عنك فلم تطردهم إذاً؟ { فتطردهم فتكون من الظالمين } أي فلا تفعل ، ولم يفعل صلى الله عليه وسلم وصبر عليهم وحبس نفسه معهم وفي الآية الأخيرة ( 53 ) يقول تعالى : { وكذلك فتنا بعضهم ببعض } أي هكذا ابتلينا بعضهم ببعض هذا غني وذاك فقير ، وهذا وضيع وذاك شريف ، وهذا قوي وذاك ضعيف ليؤول الأمر ويقول الأغنياء الشرفاء للفقراء الضعفاء من المؤمنين استخفافاً بهم واحتقاراً لهم : أهؤلاء الذين من الله عليهم بيننا بالهداية والرشد قال تعالى : { أليس الله بأعلم بالشاكرين } .
(1/404)
________________________________________
بلى فالشاكرون هم المستحقون لإِنعام الله بكل خير وأما الكافرون فلا يعطون ولا يزادون لكفرهم النعم ، وعدم شكرهم لها .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم .
2- تقرير مبدأ أن الرسول لا يعلم الغيب ، وأنه لا يتصرف في شيء من الكون .
3- نفي مساواة المؤمن والكافر إذ المؤمن مبصر والكافر أعمى .
4- استحباب مجالسة أهل الفاقة وأهل التقوى والايمان .
5- بيان الحكمة في وجود أغنياء وفقراء وأشراف ووضعاء ، وأقوياء وضعفاء وهي الاختبار .
6- الشاكرون مستوجبون لزيادة النعم ، والكافرون مستوجبون لنقصانها وذهابها .
(1/405)
________________________________________
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
شرح الكلمات :
{ سلام عليكم } : دعاء بالسلامة من كل مكروه ، وهي تحية المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة في الجنة .
{ كتب ربكم على نفسه الرحمة } : أي أوجب الرحمة على نفسه فلذا لا يعذب إلا بعد الإِنذار ، ويقبل توبة من تاب .
{ سوءاً } : أي ذنباً أساء به إلى نفسه .
{ بجهالة } : الجهالة أنواع منها : عدم تقدير عاقبة الذنب ، ونسيان عظمة الرب .
{ تستبين } : تتضح وتظهر .
{ نهيت } : أي نهاني ربي أي زجرني عن عبادة أصنامكم .
{ تدعون } : تعبدون .
{ بينة } : البينة : الحجة الواضحة العقلية الموجبة للحكم بالفعل أو الترك .
{ إن الحكم } : أي ما الحكم إلا لله .
{ يقص الحق } : أي يخبر بالحق .
{ خير الفاصلين } : الفصل في الشيء : القضاء والحكم فيه ، والفاصل في القضية : الحاكم فيها ومنهيها .
معنى الآيات :
يرشد الله تبارك وتعالى رسوله إلى الطريقة الملثلى في الدعوة إليه ، بعد أن نهاء عن الطريقة التي ه بها وهي طرد المؤمنين من مجلسه ليجلس الكافرون رجاء هدايتهم فقال تعالى : { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا } أي يصدقون بنبوتك وكتابك وما جئت به من الدين الحق فهؤلاء رحب بهم وقل سلام عليكم ومهما كانت ذنوبهم التي ارتكبوها ، وأخبرهم أن بالإِيمان به وتوطين النفس على طاعته ، { أنه من عمل منكم سوءً بجهالة ثم تاب من بعده } أي أقلع عن الذنب نادماً مستغفراً ، وأصلح نفسه بالصالحات فإن ربه غفور رحيم فسيغفر له ويرحمه . هكذا يستقبل كل عبد جاء مؤمناً مستفتياً يسأل عن طريق النجاة يستقبل بالبشر والطلاقة والتحية والسلام لا بالعنف والتقريع والتوبيخ . هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 54 ) أما الآية الثانية ( 55 ) فإنه تعالى بعد أن نهى رسوله عن الاستجابة لاقتراح المشركين المتكبرين ، وعن طرد المؤمنين وعن حكمته فى وجود أغنياء وفقراء وأقواياء وضعفاء في الناس وعن الطريقة المثلى في استقبال التائبين المستفتين بعد هذا كله قال تعالى : { وكذلك نفصل الآيات } أي مثل هذا التفصيل نفصل الآيات مستقبلاً لبيان الهداية الإِليهة ليهتدي من أراد الله له الهداية وقد طلبها ورغب فيها ، ولتستبين وتتضح سبيل المجرمين ، فلا تُتبع وَيَنْهى عن اتباعها ، لأنها طريق الهلاك والدمار . هذا ما أفادته الآية الثانية أما الآية الثالثة والرابعة والخامسة في هذا السياق فهي تحمل الهداية الإِلهية للرسول صلى الله عليه وسلم في طريق دعوته إلى ربه فكل من تلك الآيات مفتتحة بكلمة ( قل ) أي قل أيها الرسول لأولئك المشركين الذين يدعونك إلى موافقته على شركهم وعبادة غيري معهم { أني نهيت } أي نهاني ربي أن أبعد ما تدعون من الأصنام والأوثان ، قول لهم : لا أتبع أهواءكم في عبادة غير الله تعالى الموروثة لكم عن آبائكم الضلال مثلكم إني إن فعل أكون قد ضللت إذاً وما من المهتدين إلى سبل الفوز والفلاح .
(1/406)
________________________________________
وقل : { إني على بينة من ربي } أي على علم يقيني من وجوب الإِيمان بالله ووجوب توحيده وطاعته ووجوب الدعوة إلى ذلك ، وكذبتم أنتم بهذا كله ، وبالعذاب إذا أنذرتكم به وأنا ما عندي ما تستعجلون به من العذاب ، ولو كان عندي لحل بكم والنتهى أمركم ، ولكن الحكم لله ليس لأحد غيره وقد قص عليكم أخبار السابقين المطالبين رسلهم بالعذاب ورأيتم كيف حل بهم العذاب ، { والله يقص الحق وهو خير الفاصلين } فإذا أراد أن يحكم بيني وبينكم فإنه نعم الحكم والعدل وهو خير الحاكمين . وقل لهم يا رسولنا { لو أن عندي ما تستعجلون به } من العذاب { لقضي الأمر بيني وبينكم } بتدمير الظالم منا ، { والله أعلم بالظالمين } ، ولا يهلك غيرهم لأنهم المستوجبون للعذاب بظلمهم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وجوب الرفق والتلطف بالمستفتين وعدم الشدة والغلظة عليهم .
2- اتباع أهواء أهل الأهواء والباطل يضل ويهلك .
3- على المسلم الداعي إلى ربه أن يكون على علم كاف بالله تعالى وبتوحيده ووعده ووعيده وأحكام شرعه .
4- وجوب الصبر والتحمل مما يلقاه الداعي من أهل الزيغ والضلال من الاقتراحات الفاسدة .
(1/407)
________________________________________
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
شرح الكلمات :
مفاتح الغيب : المفاتح : جمع مفتح بفتح الميم أي المخزن .
{ البر والبحر } : البر ضد البحر ، وهو اليابس من الأرض ، والبحر ما يغمره الماء منها .
{ ورقة } : واحدة الورق والورق للشجر كالسعف للنخل .
{ حبة } : واحدة الحب من ذرة أو بر أو شعير أو غيرها .
{ ولا رطب } : الرطب ضد اليابس من كل شيء .
{ في كتاب مبين } : أي في اللوح المحفوظ كتاب المقادير .
{ يتوفاكم بالليل } : أي ينيمكم باستتار الأرواح وحجبها عن الحياة كالموت .
{ جرحتم } : أي كسبتم بجوارحكم من خير وشر .
{ ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى } : أي يوقظكم لتواصلوا العمل إلى نهاية الأجل المسمى لكم .
{ حفظة } : الكرام الكاتبين .
{ رسلنا } : ملك الموت وأعوانه .
معنى الآيات :
لما ذكر تعالى في نهاية الآية السابقة أنه أعلم بالظالمين المستحقين للعقوبة أخبر عز وجل أن الأمر كما قال ودليل ذلك أنه عالم الغيب والشهادة ، إذ { عنده مفاتح الغيب } أي خزائن الغيب وهو الغيب الذي استأثر بعلمه فلا يعلمه سواه ويعلم ما في البر والبحر وهذا من عالم الشهادة ، إضافة إلى ذلك أن كل شيء كان أو يكون من أحداث العالم قد حواه كتاب له اسمه اللوح المحفوظ ، وهو ما دل عليه قوله : { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } وما كتبه قبل وجوده فقد علمه إذاً فهو عالم الشهادة ، إضافة إلى ذلك أن كل شيء كان أو يكون من أحداث العالم قد حواه كتاب له اسمه اللوح المحفوظ ، وهو ما دل عليه قوله : { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } وما كتبه قبل وجوده فقد علمه إذاً فهو عالم الغيب والشهادة أحصى كل شيء عدداً وأحاط بكل شيء علماً ، فكيف إذاً لا يعبد ولا يرغب فيه ولا يرهب منه وأين هو في كماله وجلاله من أولئك الأموات من أصنام وأوثان . ؟؟ هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 59 ) وأما الآية الثانية ( 60 ) فقد قررت ما دلت عليه الآية قبلها من قدرة الله وعلمه وحكمته فقال تعالى مخبراً عن نفسه { وهو الذي يتوفاكم بالليل } حال نومكم إذ روح النائم تقبض ما دام نائماً ثم ترسل إليه عند إرادة الله بعثه من نومه أي يقظته ، وقوله { ثم يبعثكم فيه } أي في النهار المقابل لليل ، وعلة هذا أن يقضي ويتم الأجل الذى حدده تعالى للإِنسان يعيشه وهو مدة عمره طالت أو قصرت ، وهو معنى قوله { ثم يبعثكم فيه ليُقضى أجل مسمى } وقوله تعالى { ثم إليه مرجعكم } لا محالة وذلك بعد نهاية الأجل ، { ثم ينبئكم } بعلمه { بما كنتم تعملون } من خير وشر ويجازيكم بذلك وهو خير الفاصلين .
(1/408)
________________________________________
وفي الآية الثالثة يخبر تعالى عن نفسه أيضاً تقريراً لعظيم سلطانه الموجب وهو خير بالعبادة والرغبة الرهبة إذ قال مخبراً عن نفسه { وهو القاهر فوق عباده } ، ذو القهر التام والسلطان الكامل على الخلق أجمعين { ويرسل عليكم } أيها الناس { حفظة } بالليل والنهار يكتبون أعمالكم وتحفظ لكم لتجزوا بها { حتى إذا جاء أحدكم الموت } لانقضاء أجله { توفته رسلنا ملك الموت وأعوانه ، { وهم لا يفرطون } أي لا يضيعون ولا يقصرون وأخيراً يقول تعالى مخبراً بالأمر العظيم إنه الوقوف بين يدي الرب تعالى المولى الحق الذي يجب أن يعبد دون سواه ، وقد كفره أكثر الناس وعصوه ، وفسقوا عن أمره وتركوا طاعته وأدهى من ذلك عبدوا غيره من مخلوقاته فكيف يكون حسابهم والحكم عليهم؟ والله يقول : { ثم ردوا الى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين } .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان مظاهر القدرة والعلم والحكمة لله تعالى .
2- استئثار الله تعالى بعلم الغيب .
3- كتاب المقادير حوى كل شيء حتى سقوط الورقة من الشجرة وعلم الله بذلك .
4- صحة إطلاق الوفاة على النوم ، وبهذا فسر قوله تعالى لعيسى إني متوفيك .
5- تقرير مبدأ المعاد والحساب والجزاء .
(1/409)
________________________________________
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
شرح الكلمات :
{ ينجيكم } : يخلصكم مما تخافون .
{ تضرعاً } : التضرع : الدعاء بتذلل وخفية بدون جهر بالدعاء .
{ من هذه } : أي الهلكة .
{ من الشاكرين } : المعترفين بفضلك الحامدين لك على فعلك .
{ كرب } : الكرب : الشدّة الموجبة للحزن وألم الجسم والنفس .
{ تشركون } : أي به تعالى بدعائهم أصنامهم وتقربهم إليها بالذبائح .
{ من فوقكم } : كالصواعق ونحوها .
{ من تحت أرجلكم } : كالزلزال والخسف ونحوهما .
{ أو يلبسكم شيعاً } : أي يخلط عليكم أمركم فتختلفون شيعاً وأحزاباً .
{ ويذيق بعضكم بأس بعض } : أي يقتل بعضكم بعضاً فتذيق كل طائفة الأخرى ألم الحرب .
{ يفقهون } : معاني ما نقول لهم .
{ وكذب به قومك } : أي قريش .
{ الوكيل } : من يوكل إليه الشيء أو الأمر يدبره .
{ لكل نبأ مستقر } : المستقر : موضع الاستقرار والنبأ : الخبر العظيم .
معنى الآيات :
ما زال السياق مع المشركين العادلين بربهم فيقول الله تعالى لرسوله قل لهم : { من ينجيكم من ظلمات البر والبحر } إذا ضل أحدكم طريقه في الصحراء ودخل عليه ظلام الليل ، أو ركب البحر فغشيته ظلمة السحاب والليل والبحر واضطربت نفسه من الخوف يدعو من؟ إنه يدعو الله وحده لعلمه أنه لا ينجيه إلا هو يدعوه ويتضرع إليه جهراً وسراً قائلا وعزتك لئن أنجيتنا من هذه الهلكة التي حاقت بنا لنكونن من الشاكرينلك . ثم إذا نجاكم استجابة لدعائكم وأمنتم الخاوف عدتم فجأة الى الشرك به بدعاء غيره . هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 63 ) { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخيفة ، لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين } ، وفي الآية الثانية ( 64 ) يأمر الله تعالى رسوله أن يقول لهم جواباً لقوله من ينجيكم : { الله ينجيكم منها } أي من تلك الحالة التي اضطربت لها نفوسكم وخشيتم فيها الهلاك وينجيكم أيضاً من كل كرب ، ثم مع هذا يا للعجب أنتم تشركون به تعالى أصنامكم . قل لهم يا رسولنا أن الله الذي ينجيكم من كل كرب هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً منالسماء فوقكم ، أو من الأرض تحتكم ، أو يخلط عليكم أمركم فتتنازعوا فتختلفوا فتصبحوا شيعاً وطوائف وفرقاً متعادية يقتل بعضكم بعضا ، فيذيق بعضكم بأس بعض ، ثم قال الله تعالى لرسوله انظر يا رسولنا كيف نفصل الآيات بتنويع الكلام وتوضيح معانيه رجاء أن يفقهوا معنى ما نقول لهم فيهتدوا إلى الحق فيؤمنوا بالله وحده ويؤمنوا بلقائه وبرسوله وما جاء به فيكملوا ويسعدوا وفي الآية ( 65 ) يخبر تعالى بواقع القوم : أنهم كذبوا بهذا القرآن وما أخبرهم به من الوعيد الشديد وهو الحق الذي ليس بباطل ولا يأتيه الباطل ، ويأمر رسوله أن يقول لهم بعد تكذيبهم له { لست عليكم بوكيل } فأخاف من تبعة عدم إيمانكم وتوحيدكم { ولكل نبأ مستقر } وقد أنبأتكم بالعذاب على تكذيبكم وشرككم { وسوف تعلمون } ذلك يوم يحل بكم وقد استقر نبأه يوم بدر والحمد لله .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- لا برهان أعظم على بطلان الشرك من أن المشركين يخلصون الدعاء لله تعالى في الشدة .
2- لا منجى من الشدائد ولا منقذ من الكروب إلا الله سبحانه وتعالى .
3- التحذير من الاختلاف المفضي إلى الانقسام والتكتل .
4- { لكل نبأ مستقر } . أجري مجرى المثل ، وكذا { سوف تعلمون } .
(1/410)
________________________________________
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
شرح الكلمات :
{ يخوضون في آياتنا } : يتكلمون في القرآن طعناً فيه ونقداً له ولما جاء فيه .
{ فأعرض عنهم } : قم محتجاً على صنيعهم الباطل ، غير ملتفت إليهم .
{ بعد الذكرى } : اي بعد التذكر .
{ ولكن ذكرى } : أي موعظة لهم .
{ وذر الذين } : أي اترك الكافرين .
{ لعباً ولهواً } : كونه لعباً لأنه لا يجنون منه فائدة قط ، وكونه لهواً لأنهم يتلهون به وشغلهم عن الدين الحق الذي يكملهم ويسعدهم .
{ أن تبسل نفس } : أي تسلم فتؤخذ فتحبس في جهنم .
{ كل عدل } : العدل هنا : الفداء .
{ أبسلو } : حبسوا في جهنم بما كسبوا من الشرك والمعاصي .
{ من حميم } : الحميم الماء الشديد الحرارة الذي لا يطاق .
{ وعذاب أليم } : أي شديد الألم والإِيجاع وهو عذاب النار .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الحديث مع أولئك العادلين المكذبين فيقول الله تعالى لرسوله { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا } يستهزئون بالآيات القرآنية ويسخرون مما دلت عليه من التوحيد والعذاب للكافرين { فأعرض عنهم } أي فصد عنهم وانصرف { حتى يخوضوا في حديث غيره } وإن أنساك الشيطان نهينا هذا فجلست ثم ذكرت فقم ولا تقعد مع القوم الظالمين ، وقوله تعالى : { وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء } أي وليس على المؤمنين المتقين أنت وأصحابك يا رسولنا من تعبة ولا مسئولية ولكن إذا خاضوا في الباطل فقوموا ليكون ذلك ذكرى لهم فيكفون عن الخوض في آيات الله تعالى . وهذا كان بمكة قبل قوة الإِسلام ، ونزل بالمدينة النهي عن الجلوس مع الكافرين والمنافقين إذا خاضوا في آيات الله ومن جلس معهم يكون مثلهم وهو أمر عظيم قال تعالى : { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم } هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية .
أما الثالثة ( 70 ) فإن الله تعالى يأمر رسوله أن يترك اتخذوا دينهم الحق الذي جاءهم به رسول الحق لعباً ولهواً يلعبون به أو يسخرون منه ويستهزئون به وغرتهم الحياة الدنيا قال تعالى : { وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا } اتركهم فلا يهمك أمرهم وفى هذا تهديد لهم على ما هم عليه من الكفر والسخرية والاستهزاء ، وقد أخبر تعالى فى سورة الحجر أنه كفاه أمرهم إذ قال { إنا كفيناك المستهزئين } ، وقوله تعالى { وذكر به } أي بالقرآن { أن تبسل نفس } أي كي لا تبسل { بما كسبت } أي كي لا تسلم نفس للعذاب بما كسبت من الشرك والمعاصي . { ليس لها } يوم تسلم للعذاب { من دون الله ولي } يتولى خلاصها ، { ولا شفيع } يشفع لها فينجيها من عذاب النار { وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها } أي وإن تقدم ما أمكنها حتى ولو كان ملء الأرض ذهباً فداء لها لما نفعها ذلك ولم نجت من النار ، ثم قال تعالى : { أولئك الذين أبلسوا بما كسبوا لهم شراب في جهنم شراب من ماء حميم حار وعذاب موجع أليم .
(1/411)
________________________________________
وذلك بسبب كفرهم بالله وآياته ورسوله . حيث نتج عن ذلك خبث أرواحهم فما أصبح يلائم وصفهم إلا عذاب النار قال تعالى من هذه السورة سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- حرمة الجلوس في مجالس يسخر فيها من الإِسلام وشرائعه وأحكامه وأهله .
2- وجوب القيام احتجاجاً من أي مجلس يعصى فيه الله ورسوله .
3- مشروعية الإِعراض في حال الضعف عن المستهزئين بالإِسلام الذين غرتهم الحياة الدنيا من أهل القوة والسلطان وحسب المؤمن أن يعرض عنهم فلا يفرح بهم ولا يضحك لهم .
4- وجوب التذكير بالقرآن وخاصة المؤمنين الذي يرجى توبتهم .
5- من مات على كفره لم ينج من النار إذ لا يجد فداء ولا يجد فداء ولا شفيعاً يخلصه من النار بحال .
(1/412)
________________________________________
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
شرح الكلمات :
{ أندعوا } : أي نعبد .
{ ما لا ينفعنا ولا يضرنا } : أي ما لا يقدر على نفعنا ولا على ضرنا لو أراد ذلك لنا .
{ ونرد على أعقابنا } : أي نرجع كفاراً بعد أن كنا مؤمنين .
{ استهوته الشياطين } : أي أضلته في الأرض فهوى فيها تائه حيران لا يدري أين يذهب .
{ واتقوه } : أي اتقوا الله بتوحيده في عبادته وترك معصيته .
{ ويوم يقول كن فيكون } : أي في يوم القيامة .
{ الصور } : بوق كالقرن ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام .
{ الحكيم } : في أفعاله الخبير بأحواله عباده .
معنى الآيات :
يدل السياق على أن عرضا من المشركين كان لبعض المؤمنين لن يعبدوا معهم آلهتهم فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم عرضه الرخيص منكراً عليه ذلك أشد الإِنكار { قل أندعوا من دون الله } ، الاستفهام للإنكار ، { ما لا ينفعنا } إن عبدناه ، { ولا يضرنا } إن تركنا عبادته بذلك نصبح وقد رددنا على أعقابنا من التوحيد إلى الشرك بعد إذ هدانا الله إلى الإِيمان به ومعرفته ومعرفة دينه ، فيكون حالنا كحال من أضلته الشياطين في الصحراء فتاه فيها فلا يدرى أين يذهب ولا أين يجيىء ، { وله أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا } وهو لا يقدر على إجابتهم ولا الاتيان إليهم لشدة ما فعل استهواء الشياطين في عقله . ثم أمره أن يقول أيضاً قل إن الهدى الحق الذي لا ضلال ولا خسران فيه هدى الله الذي هدانا إليه ألا إنه الإِسلام ، وقد أمرنا ربنا أن نسلم له قلوبنا ووجوهنا لأنه رب العالمين فأسلمنا ، كما أمرنا أن نقيم الصلاة فأقمناها وأن نتقيه فاتقيناه وأعلمنا أنا سنحشر إليه يوم القيامة فصدقناه في ذلك ثم هدانا فلن نرجع بعد إلى الضلالة . هذا ما تضمنته الآيتان الأولى والثانية أما الثالثة ( 73 ) فقد تضمنت تمجيد الرب بذكر مظاهر قدرته وعلمه وعدله فقال تعالى : { وهو } أي الله رب العالمين الذي أمرنا أن نسلم له فأسلمنا { الذي خلق السموات والأرض بالحق } فلم يخلقهما عبثاً وباطلاً بل خلقهما ليذكر فيهما ويشكر ، ويوم يقول لما أراد إيجاده أو إعدامه أو تبديله كن فهو يكون كما أراد في قوله الحق دائماً { وله الملك يوم ينفخ فى الصور } نفخه الفناء فلا يبقى شيء إلا هو الواحد القهار فيقول جل ذكره { لمن الملك اليوم } يجيبه أحد فيجيب نفسه بنفسه قائلا : { لله الواحد القهار } { عالم الغيب والشهادة } أي يعلم ما غاب في خزائن الغيب عن كل أحد ، ويعلم الشهادة والحضور لا يخفي عليه أحد وهو الحكيم في تصرفاته وسائر أفعاله وتدابيره لمخلوقاته الخبير ببواطن الأمور وظواهرها لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء بهذا كان المعبود الحق الذي لا يجوز أن يعبد سواه بأي عبادة من العبادات التي شرعها سبحانها وتعالى ليُعْبَد بها .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- قبح الردة وسوء عاقبتها .
2- حرمة إجابة أهل الباطل لما يدعون إليه من الباطل .
3- لا هدى إلا هدى الله تعالى أي لا دين إلا الإِسلام .
4- وجوب الإِسلام لله تعالى وإقامة الصلاة واتقاء الله تعالى بفعل المأمور وترك المنهي .
5- تقرير المعاد والحساب والجزاء .
(1/413)
________________________________________
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
شرح الكلمات :
{ إبراهيم } : هو إبراهيم خليل الرحمن بن آزر من أولاد سام بن نوح عليه السلام .
{ أصناماً } : جمع صنم تمثال من حجر .
{ آلهة } : جمع إله بمعنى المعبود .
{ في ضلال } : عدول عن طريق الحق .
{ ملكوت } : مُلك .
{ جن عليه الليل } : أظلم .
{ فلما أفل } : أي غاب .
{ بازغا } : طالعاً والبزوغ الطلوع .
{ الضالين } : العادلين عن طريق الحق إلى طريق الباطل .
{ وجهت وجهي } : أقبلت بقلبي على ربى وأعرضت عما سواه .
{ حنيفاً } : مائلاً عن الضلال إلى الهدى .
معنى الآيات :
ما زال السياق في بيان الهدى للعادلين بربهم أصناماً يعبدونها لعلهم يهتدون فقال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر } ، أي واذكر لهم قول إبراهيم لأبية آزر : { أتتخذ أصناماً آلهة } أي أتجعل تماثيل من حجارة آلهة . أرباباً تعبدها أنت وقومك { إني أراك } يا أبت { وقومك في ضلال مبين } عن طريق الذي ينجو ويفلح سالكه هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 74 ) أما الآية الثانية ( 75 ) فإن الله تعالى يقول : { وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السموات } والأرض أي كما أريناه الحق في بطلان عبادة أبيه للأصنام نريه أيضاً مظاهر قدرتنا وعلمنا وحكمنا الموجبة لألوهيتنا في ملك السموات والأرض ، ليكون بذلك من جملة الموقنين ، واليقين من أعلى مراتب الإِيمان . هذا ما دلت عليه الآية الثانية في الثالثة ( 76 ) فصّل الله تعالى ما أجمله فى قوله { نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض } فقال تعالى { فلما جن عليه الليل } أي أظلم { رأى كوكباً } قد يكون الزهرة { قال هذا ربي فلما أفل } أي غاب الكوكب { قال لا أحب الآفلين } ، { فلما رأى القمر بازغاً } أي طالعاً { قال هذا ربي ، فلما أفل } أي غاب { قال لئن لم يهدنى ربي لأكونن من القوم الضالين } ، في معرفة ربهم الحق . { فلما رأى الشمس بازغة } أي طالعة { قال هذا ربي هذا أكبر } يعني من الكوكب والقمر { فلما أفلت } أي غابت بدخول الليل { قال يا قوم إني برىء مما تشركون } . هكذا واجه إبراهيم قومه عبدة الكواكب التي تمثلها أصنام منحوته واجههم بالحقيقة التي أراد أن يصل إليهم معهم وهي إبطال عبادة غير الله تعالى فقال { إني وجهت وجهي للذي فطر السموات السموات والأرض حنيفاً } لا كما توجهون أنتم وجوهكم لأصنام نحتموها بأيديكم وعبدتموها بأهوائكم لا بأمر ربكم ، وأعلن براءته في وضوح وصراحة : فقال : { وما أنا من المشركين } .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- إنكار الشرك على أهله ، وعدم إقرارهم ولو كانوا أقرب الناس إلى المرء .
2- فضل الله تعالى وتفضله على من يشاء بالهداية الموصلة إلى أعلى درجتها .
3- مطلب اليقين وأنه من أشرف المطالب وأعزها ، ويتم بالتفكر والنظر في الآيات .
4- الاستدلال بالحدوث على وجود الصانع الحكيم وهو الله عز وجل .
5- سنة التدريج في التربية والتعليم .
6- وجوب البراءة من الشرك وأهله .
(1/414)
________________________________________
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
شرح الكلمات :
حاجة قومه : جادلوه وحاولوا غلبه بالحجة ، والحجة : البينة والدليل القوي .
{ أتحاجّوني في الله } : أتجادلونني في توحيد الله وقد هداني إليه ، فكيف أتركه وأنا منه على بينة .
{ سلطاناً } : حجة وبرهاناً .
{ الأمن } : خلاف الخوف .
{ ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } : أي لم يخلطوا إيمانهم بشرك .
معنى الآيات :
لما أقام إبراهيم الدليل على بطلان عبادة غير الله تعالى وتبرأ من الشرك والمشركين حاجه قومه فى ذلك فقال منكراً عليهم ذلك : { أتحاجوني في الله وقد هدان } أي كيف يصح منكم جدال لي في توحيد الله وعبادته وترك عبادة من سواه من الآلهة المدعاة وهي لم تخلق شيئاً ولم تنفع ولم تضر ، ومع هذا فقد هداني إلى معرفته وتوحيده وأصبحت على بينة منه سبحانه وتعالى ، هذا ما دل عليه قوله تعالى ، { وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان } . ولا شك أنهم لما تبرأ من آلهتم خوفوه بها وذكروا له أنها قد تصيبه بمكروه فرد ذلك عليهم قائلا : { ولا أخاف ما تشركون به } من آلهة أن تصيبني بأذى ، { إلا إن يشاء ربي شيئاً } فإنه يكون قطعاً فقد { وسع ربي كل شيء علماً } ، ثم وبخهم قائلا { أفلا تتذكرون } فتذكروا ما أنتم عليه هو الباطل ، وأن ما أدعوكم إليه هو الحق ، ثم رد القول عليهم قائلا { وكيف أخاف ما أشركتم } وهي أصنام جامدة لا تنفع ولا تضر لعجزها وحقارتها وضعفها ، ولا تخافون أنتم الرب الحق الله الذي لا إله إلا هو المحيي المميت الفعال لما يريد ، وقد أشركتم به أصناماً ما أنزل عليكم في عبادتها حجة ولا برهاناً تحتجون به على عبادتها معه سبحانه وتعالى . ثم قال لهم استخلاصاً للحجة وانتزاعا لها منهم فأي الفريقين أحق بالأمن من الخوف : أنا الموحد للرب ، أم أنتم المشركون به؟ والجواب معروف وهو من يعبد رباً واحداً أحق بالأمن ممن يعبد آلهة شتى جمادات لا تسمع ولا تبصر . وحكم الله تعالى بينهم وفصل فقال : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } أي ولم يخلطوا إيمانهم بشرك ، { أولئك لهم الأمن } أي في الدنيا والآخرة { وهم مهتدون } في حياتهم إلى طريق سعادتهم وكمالهم وهو الإِسلام الصحيح ثم قال تعالى : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } إشارة إلى ما سبق من محاجة ابراهيم قومه ودحض باطلهم وإقامة الحجة عليهم . وقوله { نرفع درجات من نشاء } تقرير لما فضَّل به إبراهيم على غيره من الإِيمان واليقين والعلم المبين . ثم علل تعالى لذلك بقوله : { إن ربك حكيم عليم } . حكيم في تدبيره عليم بخلقه .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- مشروعية جدال المبطلين والمشركين لإِقامة الحجة عليهم علهم يهتدون .
2- بيان ضلال عقول أهل الشرك في كل زمان ومكان .
3- التعجب من حال مذنب لا يخاف عاقبة ذنوبه .
4- أحق العباد بالأمن من الخوف من آمن بالله ولم يشر به شيئاً .
5- تقرير معنى { الله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور . }
(1/415)
________________________________________
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)
شرح الكلمات :
{ وهبنا له } : أعطيناه تكرماً منا وإفضالا .
{ اسحق ويعقوب } : اسحاق بن إبراهيم الخليل ويعقوب ولد إسحاق ويلقب بإسرائيل .
{ كلا هدينا } : أي كل واحد منهما هداه إلى صراطه المستقيم .
{ ومن ذريته } : أي ذرية إبراهيم .
{ داود وسليمان } : داود الوالد وسليمان الولد وكل منهما ملك ورسول .
{ وزكريا ويحيى } : زكريا الوالد ويحيى الولد وكل منهما كان نبياً رسولا .
{ على العالمين } : أي عالمي زمانهم لا على الإِطلاق ، لأن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء .
{ ومن ذرياتهم } : أي من بعض الآباء والذرية والإِخوة لا الجميع .
{ اجتبيناهم } : اخترناهم للنبوة والرسالة وهديناهم إلى الإِسلام .
معنى الآيات :
بعد أن ذكر تعالى ما آتى إبراهيم خليله من قوة الحجة والغلبة على أعدائه ذكر منَّة أخرى منَّ بها عليه وهي أنه وهبه اسحق ويعقوب بعد كبر سنه ، اسحق الولد ويعقوب الحفيد وأنه تعالى هدى كلاً منهم الوالد والولد والحفيد ، كما أخبر تعالى أنه هدى من قبلهم نوحاً ، وهدى من ذريته أي إبراهيم ، وإن كان الكل من ذرية نوح ، أي هدى من ذرية إبراهيم داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون ، وأشار تعالى إلى أنهم كانوا محسنين ، فجزاهم جزاء المحسنين والإِحسان هو الإِخلاص في العل وأداؤه على الوجه الذي يرضي الرب تبارك وتعالى مع الإِحسان العام لسائر المخلوقات بما يخالف الإِساءة إليهم في القول والعمل . هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 84 ) وأما الآية الثانية ( 85 ) فقد ذكر تعالى أنه هدى كذلك إلى حمل رسالته والدعوة إليه والقيام بواجباته وتكاليف شرعه كلاً من زكريا ويحيى وعيسى وإلياس ، وأخبر أن كل واحد منهم كان من الصالحين الذين يؤدون حقوق الله كاملة وحقوق عباده كذلك كاملة غير ناقصة وكانت المجموعة الأولى داود وسليمان ومن ذكر بعدها الصفة الغالبة عليهم الإِحسان لأنه كان فيهم ملك وسلطان ودولة ، والمجموعة الثانية وهي زكريا ويحيى وعيسى وإلياس الصفة الغالية عليهم الصلاح لأنهم كانوا أهل زهد في الدنيا وأعراضها ، والمجموعة الثالثة والأخيرة في الآية الثالثة ( 86 ) وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط لم يغلب عليهم وصف به المجموعتان الأولى والثانية ، لأنهم وسط بين المجموعتين ، فذكر تعالى أن كل واحد منهم فضله على عالمى زمانه ، وكفى بذلك شرفاً وكرماً وخيراً . وأما الآية الأخيرة ( 87 ) فإن الله تعالى يقول فيها ، ومن آباء المذكورين من الأنبياء ومن ذرياتهم وإخوانهم هديناهم أيضاً وإن لم نذكر اسماءهم فهم كثير هديناهم إلى ما هدينا إليه آباءهم من الحقِّ والدين الخالص الذي لا شائبة شرك به ، واجتبينا الجميع اخترناهم للنبوة والرسالة { وهديناهم إلى صراط مستقيم } وهو الدين الإِسلامي .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- سعة فضل الله .
2- خير ما يعطى المرء في هذه الحياة الهداية إلى صراط مستقيم .
3- فضيلة كل من الإِحسان والصلاح .
4- لا منافاة بين الملك والنبوة أو الإِمارة والصلاح .
5- فضيلة الزهد في الدنيا ، والرغبة في الآخرة .
(1/416)
________________________________________
ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
شرح الكلمات :
{ هدى الله } : الهدى ضد الضلال ، وهدى الله ما يهدي إليه من أحب من عباده وهو الإِيمان والاستقامة .
{ حبط عنهم ما كانوا يعملون } : أي بطلت أعمالهم فلم يثابوا عليها بقليل ولا كثير .
{ الحكم } : الفهم للكتاب مع الاصابة في الأمور والسداد فيها .
{ يكفر بها هؤلاء } : يجحد بها أي بدعوتك الإِسلامية هؤلاء : أي أهل مكة .
{ قوما ليسوا بها بكافرين } : هم المهاجرون والأنصار بالمدينة النبوية .
{ اقتده } : اقتد : أى اتبع وزيدت الهاء للسكت .
{ عليه أجراً } : أي على إبلاغ دعوة الإِسلام ثمناً مقابل الإِبلاغ .
{ ذكرى } : الذكرى : ما يذكر به الغافل والناسي فيتعظ .
معنى الآيات :
ما زال السياق في ذكر ما وهب الله تعالى لمن شاء من عباده من هدايات وكمالات لا يقدر على عطائها إلا هو فقال ذلك في الآية الأولى ( 88 ) ذلك المشار إليه ما وهبه أولئك الرسل الثمانية عشر رسولاً وهداهم إليه من النبوة والدين الحق هو هدى الله يهدي به من يشاء من عباده . وقوله تعالى : { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } يقرر به حقيقة علمية ، وهي أن الشرك محبط للعمل فإن أولئك الرسل على كمالهم وعلو درجاتهم لو أشركوا بربهم سواه فعبدوا معه غيره لبطل كل عمل عملوه ، وهذا من باب الافتراض ، وإلا فالرسل معصومون ولكن ليكون هذا عظة وعبرة للناس . هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الثانية ( 89 ) فقد أشاد الله تعالى بأولئك الرسل السابقي الذكر مخبراً أنهم هم الذين آتاهم الكتاب وهي صحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داوود وإنجيل عيسى والحكم وهو الفهم والإِصابة والسداد فى الأمور كلها . ثم قال تعالى فإن يكفر بهذه الآيات القرآنية وما تحمله سن شرائع وأحكام وهداية الإِسلام { إن يكفر بها هؤلاء } من أهل مكة { فقد وكلنا بها قوماً } من قبل وهم الرسل المذكورون في هذا السياق وقوماً هم موجودون وهم المهاجرون والأنصار من أهل المدينة ، ومن يأتي بع من سائر البلاد والأقطار وقوله تعالى : { أولئك الذين هدى الله فبهدام قتده } ، يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بأولئك الأنبياء المرسلين في كمالاتهم كلها حتى يجمع صلى الله عليه وسلم كل كمال فيهم فيصبح بذلك أكملهم على الإطلاق . وكذلك كن ، وقوله تنعالى في ختام الآية الكريمة : { قل لا اسألكم عليه أجراً } يأمره تعالى أن يقول لأولئك العادلين بربهم الأصنام والأوثان المكذبين بنبوته وكتابه : ما أسألكم على القرآن الذي أمرت أن أقرأه عليكم لهدايتكم أجراً أي مالاً مقابل تبليغه إياكم { إن هو إلا ذكرى للعالمين } أي ما القرآن إلا موعظة للعالمين يتعظون بها إن هم القوا أسماعهم وتجردوا من أهوائهم وأرادوا الهداية ورغبوا فيها .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- الشرك محبط للعمل كالردة والعياذ بالله تعالى .
2- فضل الكتاب الكريم والسنة النبوية .
3- وجوب الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم وأهل العلم والصلاح من هذه الأمة .
4- حرمة أخذ الأجرة على تبليغ الدعوة الإسلامية .
5- القرآن الكريم ذكري لكل من يقرأه أو يستمع إليه وهو شهيد حاضر القلب .
(1/417)
________________________________________
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
شرح الكلمات :
{ وما قدروا الله حق قدره } : ما عظموه اللائق به ولا عرفوه حق معرفته .
{ على بشر } : أي إنسان من بني آدم .
{ الكتاب الذي جاء به موسى } : التوراة .
{ قراطيس } : جمع قرطاس : وهو ما يكتب عليه من ورق وغيره .
{ تبدونها } : تظهرونها .
{ قل الله } : هذا جواب : من أنزل الكتاب؟
{ ذرهم } : اتركهم .
{ في خوضهم } : أي ما يخوضون فيه من الباطل .
{ مبارك } : أي مبارك فيه فخبره لا ينقطع ، وبركته لا تزول .
{ أم القرى } : مكة المكرمة .
{ يحافظون } : يؤدونها بطهارة في أوقاتها المحددة لها في جماعة المؤمنين .
معنى الآيتين :
ما زال السياق مع العادلين بربهم أصنامهم وأوثانهم فقد أنكر تعالى عليهم إنكارهم للوحى الإِلهي تكذيبهم بالقرآن الكريم إذ قالوا : { ما أنزل الله على بشر من شيء } ، ومن هنا قال تعالى { وما قدروا الله حق قدره } أي ما عظموه كما ينبغي تعظيمه لما قالوا : { ما أنزل الله على بشر من شيء } ، ولقن رسوله الحجة فقال له قل لهم : { من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً } يستضاء به في معرفة الطريق إلى الله تعالى وهدى يهتدى به إلى ذلك وهو التوراة جعلها اليهود قراطيس يبدون بعضها ويخفون بعضها حسب أهوائهم وأطماعهم ، وقوله : { وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } أي وعلمكم الله بهذا القرآن من الحقائق العلمية كتويحد الله تعالى وأسمائه وصفاته ، والدار الآخرة وما فيها من نعيم مقيم ، وعذاب أليم ، ثم أمر الرسول أن يجيب عن السؤال الذي وجهه إليهم تبكيتاً : { قل الله } أي الذي أنزل التوراة على موسى هو لله . { ثم ذرهم } أي اتركهم { في خوضهم } أي في الباطل { يلعبون } حيث لا يحصلون من ذلك الخوض في الباطل على أي فائدة تعود عليهم فهم كاللاعبين من الأطفال . هذا ما تضمنته الآية الأولى ( 91 ) أما الآية الثانية ( 93 ) فقد تضمنت أولاً الرد على قول من قال : { ما أنزل الله على بشر من شيء } أي كيف يقال ما أنزل الله على بشر من شيء وهذا القرآن بين أيديهم يتلى عليهم أنزله الله مباركاً لا ينتهي خيره ولا يقل نفعه ، مصدقاً لما سبقه من الكتب كالتوراة والإِنجيل أنزلناه ليؤمنوا به ، { ولتنذر أم القرى } أي أهلها { ومن حولها } من المدن والقرى القريبة والبعيدة لينذرهم عاقبة الكفر والضلال فإنها الخسران التام والهلاك الكامل ، وثانياً الإِخبار بأن الذين يؤمنون بالآخرة أي بالحياة في الدار الآخرة يؤمنون بهذا القرآن ، وهم على صلاتهم يحافظون ذلك مصداق إيمانهم وثمرته التي يجنيها المؤمنون الصادقون .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- كل من كذب الله تعالى أو أشرك به أو صفه بوصف لا يليق بجلاله فإنه لم يقدر الله حق قدره .
2- بيان تلاعب اليهود بكتاب الله في إبداء بعض أخباره وأحكامه وإخفاء بعض آخر وهو تصرف ناتج من الهوى واتباع الشهوات وإيثار الدنيا على الآخرة .
3- بيان فضل الله على العرب بإنزال هذا الكتاب العظيم عليهم بلغتهم لهدايتهم .
4- تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم كيفية الحجاج والر على المجادلين والكاذبين .
5- بيان علة ونزول الكتاب وهي الايمان وإنذار المكذبين والمشركين .
6- الإِيمان بالآخرة سبب لكل خير ، والكفر به سبب لكل باطل وشر .
(1/418)
________________________________________
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
شرح الكلمات :
{ افترى على الله كذباً } : اختلق على الله كذباً قال عليه ما لم يقل ، أو نسب له ما هو منه براء .
{ أوحي إلي } : الوحي : الإِعلام السريع الخفي بواسطة الملك وبغيره .
{ غمرات الموت } : شدائده عند نزع الروح .
{ باسطوا أيديهم } : للضرب وإخراج الروح .
{ عذاب الهون } : أي عذاب الذل والمهانة .
{ فرادى } : واحداً واحداً ليس مع أحدكم مال ولا رجال .
{ ما خولناكم } : ما أعطيناكم من مال ومتاع .
{ وراء ظهروكم } : أي في دار الدنيا .
{ وضل عنكم } : أي غاب .
{ تزعمون } : تدعون كاذبين .
معنى الآيات :
ما زال السياق مع المشركين والمفترين الكاذبين على الله تعالى بإتخاذ الأنداد والشركاء فقال تعالى : { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً } بأن ادَّعَى أن الله نبأه وأنه نبيه ورسوله كما ادعى سعد بن ابي سرح بمكة ومسيلمه في بني حنيفة بنجد والعنسى باليمن : اللهم لا أحد هو أظلم منه ، وممن قال أوحى إلّى شيء من عند الله ، ولم يوح إليه شيء وممن قال : { سأنزل مثل ما أنزل الله } من الوحى والقرآن ، ثم قال تعالى لرسوله : { ولو ترى } يا رسولنا { إذ الظالمون في غمرات الموت } أي في شدائد سكرات الموت ، { والملائكة } ملك الموت وأعوانه { باسطوا بأيديهم } بالضرب وإخراج الروح ، وهم يقولون لأولئك المحتضرين تعجيزاً وتعذيباً لهم : { أخرجوا أنفسكم ، اليوم تجزون عذاب الهون } بسبب استكباركم في الأرض بغير الحق إذ الحامل للعذرة وأصله نطفة قذرة ، ونهايته جيفة قذرة ، استكباره في الأرض حقا إنه استكباراٌ باطلٌ لا يصح من فاعله بحال من الأحوال . هذا ما دلت عيه الآية الأولى ( 93 ) أما الآية الثانية ( 94 ) فإن الله تعالى يخبر عن حال المشركين المستكبرين يوم القيامة حيث يقول لهم { لقد جئتمونا فرادى } أي واحد واحداً { كما خلقناكم } حفاة عراة غُزْلاً { وتركتم ما خولناكم } أي ما وهبناكم من مال وولد { وراء ظهوركم } أي في دار الدنيا ، { وما نرى معكم شفعاءكم الذي زعمتم أنهم فيكم شركاء } وأنتم كاذبون في زعمكم مبطلون في اعتقادكم { لقد تقطع بينكم } أي انحل حبل الولاء بينكم ، { وضل عنكم ما كنتم تزعمون } أي ما كنتم تكذبون به في الدنيا .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين :
1- قبح الكذب عل الله تعالى في أي شكل ، وأن صاحبه لا أظلم منه قط .
2- تقرير عذاب القبر ، وسكرات الموت وشدتها ، وفي الحديث : أن للموت سكرات .
3- قبح الاستكبار وعظم جرمه .
4- تقرير عقيدة البعث الآخرة الجزاء على الكسب في الدنيا .
5- انعدام الشفعاء يوم القيامة إلا ما قضت السنة الصحيحة من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم والعلماء والشهداء بشروط هي : أن يأذن الله للشافع أن يشفع وأن يرضى عن المشفوع له .
(1/419)
________________________________________
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
شرح الكلمات :
{ فالق الحب والنوى } : شاق الحب كحب البر ليخرج منه الزرع ، والنوى واحده نواة وشقها ليخرج منها الفسيلة ( النخلة الصغيرة ) .
{ يخرج الحي من الميت } : الدجاجة من البيضة .
{ ومخرج الميت من الحي } : البيضة من الدجاجة .
{ فأنى تؤفكون } : كيف تصرفون عن توحيد الله الذي هذه قدرته إلى عبادة الجمادات .
{ فالق الإِصباح } : الإِصباح : بمعنى الصبح وفلقه : شقه ليتفجر منه النور والضياء .
{ سكنا } : يسكن فيه الناس ويخلدون للراحة .
{ حسباناً } : أي حسابا بهما تعرف الأوقات الأيام والليالي والشهور والسنون .
{ تقدير العزيز العليم } : إيجاد وتنظيم العزيز الغالب على أمره العليم بأحوال وأفعال عباده .
{ لتهتدوا بها } : أي ليهتدي بها المسافرون في معرفة طرقهم في البر والبحر .
{ من نفس واحدة } : هي آدم أبو البشر عليه السلام .
{ فمستقر } : أي في الأرحام .
{ ومستودع } : أي في أصلاب الرجال .
{ يفقهون } : أسرار الأشياء وعلل الأفعال فيهتدوا لما هو حق وخير .
{ خضراً } : هو أول ما يخرج من الزرع ويقال له القصيل الأخضر .
{ متراكبا } : أي بعضه فوق بعض وهو ظاهر في السنبلة .
{ طلع النخل } : زهرها .
{ قنوان } : واحده قنو وهو العِذْق وهو العُرْجون بلغة أهل المغرب .
{ مشتبهاً وغير متشابه } : في اللون وغير مشتبه في الطعم .
{ وينعه } : أي نضجه واستوائه .
معنى الآيات :
ما زال السياق في بيان الدليل على وجب توحيد الله تعالى وبطلان عبادة غيره فقال تعالى واصفاً نفسه بأفعاله العظيمة الحكيمة التي تثبت ربوبيته وتقرر ألوهيته وتبطل ربوبية وألوهية غيره ما زعم المشركون أنها أرباب لهم وآلهة : { إن الله فالق الحب والنوى } أي هو الذي يفلق الحق ويخرج منه الزرع لا غيره وهو الذي يفلق النوى ، ويخرج منه الشجر والنخل لا غيره فهو الإِله الحق إذاً وما عداه باطل ، وقال : { يخرج الحىّ من الميت } فيخرج الزرع الحيّ من الحب الميت { ويخرج الميت من الحيّ } فيخرج الحب من الزرع الحيّ ، والنخلة والشجرة من النواة الميتة ثم يقول : { ذلكم الله } أي المستحق للإِلهية أي العبادة وحده { فأنى تؤفكون } أي فكيف يا للعجب تصرفون عن عبادته وتأليه إلى تأليه وعبادة غيره : ويقول : { فالق الإِصباح } أي هو الله الذي يفلق ظلام الليل فيخرج منه ضياء النهار { وجعل الليل سكناً } : أي ظرف سكن وسكون وراحة تسكن فيه الأحياء من تعب النهار والعمل فيه ليستريحوا ، وقوله : { والشمس والقمر حسباناً } أي وجعل الشمس والقمر يدوران في فلكيهما بحساب تقدير لا يقدر عليه إلا هو ، وبذلك يعرف الناس الأوقات وما يتوقف عليها من عبادات وأعمال وآجال وحقوق ثم يشير الى فعله ذلك فيقول : { ذلك تقدير العزيز } الغالب على أمره { العليم } بسائر خلقه وأحوالهم وحاجاتهم وقد فعل ذلك لأجلهم فكيف إذاً لا يستحق عبادتهم وتأليههم؟ عجباً لحال بني آدم ما أضلهم؟!
ويقول تعالى في الآية الثالثة ( 97 ) { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر } هذه منة أخرى من مننه على الناس ومظهراً آخر من مظاهر قدرته حيث جعل لنا النجوم ليهتدي به مسافرونا في البر والبحر حتى لا يضلون طريقهم فيهلكوا فهي نعمة لا يقدر على الإِنعام بها إلا الله ، فلم إذاً يكفر به ويعبد سواه؟ وقوله : { قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون } يخبر به تعالى على نعمة أخرى وهي تفصيله تعالى للآيات وإظهارها لينتفع بها العلماء الذي يميزون بنور العلم بين الحق والباطل والضار والنافع ويقول في الآية الرابعة ( 98 ) { وهو الذي أنشأكم - أي خلقكم - من نفس واحدة } هي آدم عليه السلام ، فبعضكم مستقر في الأرحام وبعضنا مستودع في الأصلاب وهو مظهر من مظاهر إنعامه وقدرته ولطفه وإحسانه ، ويختم الآية بقوله { قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون } لتقوم لهم الحجة على ألوهيته تعالى دون ألوهية ما عداه من سائر المخلوقات لفهمهم أسرار الكلام وعلل الحديث ومغزاه .
(1/420)
________________________________________
ويقول في الآية ( 99 ) { وهو الذي أنزل من السماء ماءً } وهو ماء المطر ويقول { فأخرجت به نبات كل شيء } أي ينبت أي قابل للإِنبات من سائر للزروع والنباتات ويقول فأخرجنا من ذلك النبات خضراً وهو القصيل للقمح والشعير ، ومن الخضر يخرج حباً متراكباً في سنابله ، ويقول عز وجل : { ومن النخْل من طلعها قنوان دانية } أي ويخرج بإذن الله تعالى من طلع النخل قنوان جمع قنو العذق دانية متدلية وقريبة لا يتكلف مشقة كبيرة من أراد جنيها والحصول عليها ، وقوله { وجنات من إعناب } يقول وأخرجنا به بساتين من نخيل وأعناب ، وأخرجنا به كذلك الزيتون والرمان حال كونه مشتبهاً في اللون وغير متشابه في الطعم ، كلوا من ثمره إذا أثمر وينعه ينبت لديكم ذلك التشابه وعدمه ، وختم الآية بقوله : إن في ذلكم المذكور كله { لآيات } علامات ظهرات تدل على وجوب ألوهية الله تعالى وبطلان ألوهية غيره { لقوم يؤمنون } لأنهم أحياء يفعلون ويفكرون ويهمون أما غيره ممن أهل الكفر فهم أموات القلوب لما ران عليها من أوضار الشرك والمعاصي فهم لا يعقلون ولا يفقهون فأنى لهم أن يجدوا في تلك الآيات ما يدلهم على توحيد الله عز وجل؟
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- الله خالق كل شيء فهو رب كل شيء ولذا وجب أن يؤله وحده دون ما سواه .
2- تقرير قدرة الله على كل شيء وعلمه بكل شيء وحكمته في كل شيء .
3- فائدة خلق النجوم وهي الاهتداء بها في السير في الليل في البر والبحر .
4- يتم إدراك ظواهر الأمور وبواطنها بالعقل .
5- يتم إدراك أسرار الأشياء بالفقه .
6- الإِيمان بمثابة الحياة ، والكفر بمثابة الموت في إدراك الأمور .
(1/421)
________________________________________
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
شرح الكلمات :
{ شركاء } : جمع شريك في عبادته تعالى .
{ الجن } : عالم كعالم الإِنس إلا أنهم أجسام خفية لا ترى لنا إلا إذا تشكلت بما يُرى .
{ وخرقوا } : اختلقوا وافتاتوا .
{ يصفون } : من صفات العجز بنسبة الولد والشريك إليه .
{ بديع السموات والأرض } : مبدع خلقهما حيث أوجدها على غير مثال سابق .
{ أنى يكون له ولد } : أي كيف يكون له ولد؟ كما يقول المبطلون .
{ ولم تكن له صاحبة } : أي زوجة .
{ لا تدركه الأبصار } : لا تراه في الدنيا ، ولا تحيط به في الآخرة .
{ وهو يدرك الأبصار } : أي محيط علمه بها .
{ وهو اللطيف } : الذي ينفذ علمه إلى بواطن الأمور وخفايا الأسرار فلا يحجبه شيء .
معنى الآيات :
لقد جاء في الآيات السابقة من الأدلة والبراهين العقلية ما يبهر العقول ويذلها لقبول التوحيد ، وأنه لا إله إلا الله ، ولا رب سواه ، ولكن مع هذا فقد جعل الجاهلون لله من الجن شركاء فأطاعوهم فيما زينوا لهم من عبادة الأصنام والأوثان ، وهذا ما أخبر به تعالى في هذه الآية الكريمة ( 100 ) إذ قال { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون } ومعنى الآية وجعل العادلون بربهم الأصنام والجن شركاء لله في عبادته ، وذلك بطاعتهم فيما زينوا لهم من عبادة الأصنام ، والحال أنه قد خلقهم فالكل مخلوق له العابد والمعبود من الجن والأصنام ، وزادوا في ضلالهم شوطاً آخر حيث اختلقوا له البنين والبنات وهذا كله من تزيين الشياطين لهم وإلا فأي معنى في أن يكون لخالق العالم كله بما فيه الإِنس والجن والملائكة أبناء وبنات . هذا ما عناه تعالى بقوله : { وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون } فنزه الرب تبارك وتعالى نفسه عما وصفوه به كذباً بحتاً وتخرّصاً كاملاً من أن له بنين وبنات وليس لهم على ذلك أي دليل علمى لا عقلي ولا نقلي ، وق شارك في هذا الباطل العرب المشركون حيث قالوا الملائكة بنات الله ، واليهود حيث قالوا عزير ابن الله ، والنصارى إذ قالوا المسيح ابن الله ، تعالى الله عما يقول المبطلون . هذا ما تضمنته الآية الأولى أما الآية الثانية ( 101 ) فقد تضمنت إقامة الدليل الذي لا يرد على بطلان هذه الفرية المنكرة فرية نسبة الولد لله سبحانه وتعالى ، فقال تعالى : { بديع السموات والأرض } أي خالقهما على غير مثال سابق { أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة } أي لا للعجب كيف يكون لله ولد ولم تكن له زوجة إذ النوالد يكون بين ذكر وأنثى لحاجة إليه لحفظ النوع وكثرة النسل لعمارة الأرض بل ولعبادة الرب تعالى بذكره وشكره ، أما الرب تعالى فهو خالق كل شيء ورب كل شيء فأي معنى لاتخاذ ولد له ، لولا تزيين الشياطين للباطل حتى يقبله أولياؤهم من الإِنس ، وقوله تعالى : { وهو بكل شيء عليم } دليل آخرة على بطلان ما خرق أولئك الحمقى لله من ولد ، إذ لو كان لله وهي قوله تعالى : { ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء } أي ذلكم الله الذي هو بديع السموات والأرض والخالق لكل شيء بكل شيء هو ربكم الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه ولا تشركوا به سواه .
(1/422)
________________________________________
وإنه لكفيل برزقكم وحفظكم ومجازاتكم على أعمالكم وهو على كل شيء قدير . والآية الأخيرة في السياق الكريم ( 103 ) يقرر تعالى حقيقة كبرى وهى أن الله تعالى مباين لخلقه في ذاته وصفاته ليس مثله شيء فكيف يشرك به وكيف يكون له ولد ، وهو لا تدركه الأبصار وهو يدركها وهو اللطيف الذي ينفذ علمه وقدرته في كل ذرات الكون علويِّة وسفليِّة الخبير بكل خلقه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وهو العزيز الحكيم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- أن من الإِنس من عبد الجن بطاعتهم وقبول ما يأمرونهم به ويزينونه لهم .
2- تنزه الرب تعالى عن الشريك والصاحبة والولد . 3- مباينة الرب تبارك وتعالى لخلقه .
4- استحالة رؤية الرب في الدنيا ، وجوازها في الآخرة لأوليائه في دار كرامته .
(1/423)
________________________________________
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
شرح الكلمات :
{ بصائر من ربكم } : البصائر جمع بصيرة : والمراد هنا الآيات المعرفة بالحق المثبتة له بطريق الحجج العقلية فهي في قوة العين المبصرة لصاحبها .
{ حفيظ } : وكيل مسئول .
{ نصرف الآيات } : نجريها في مجاري مختلفة تبياناً للحق وتوضيحاً للهدى المطلوب .
{ وليقولوا درست } : أي تعلمت وقرأت لا وحياً أوحي إليك .
{ وأعرض عن المشركين } : أي لا تلتفت إليهم وامضِ في طريق دعوتك .
{ ولو شاء الله ما أشركوا } : أي لو شاء أن يحول بينهم وبين الشرك حتى لا يشركوا لَفَعَلَ وما أشركوا .
معنى الآيات :
ما زال السياق في طلب هداية المشركين وبيان الطريق لهم ففي هذه الآية يقول { قد جاءكم } أي أيها الناس { بصائر من ربكم } وهي آيات القرآن الموضحة لطريق النجاة { فمن أبصر } بها وهي كالعين المبصرة { فليفسه } إبصاره إذ هو الذي ينجو ويسعد { ومن عمي } فلم يبصر فعلى نفسه عماه إذ هي التي تهلك وتشقى وقل لهم يا رسولنا { وما أنا عليكم بحفيظ } أي بوكيل مسئول عن هدايتكم ، وفي الآية الثانية ( 105 ) يقول تعالى : { وكذلك نصرف الآيات } أي بنحو ما صرفناها من قبل في هذا القرآن نصرفها كذلك لهداية مريدي الهداية والراغبين فيها أما غيرهم فسيقولون درست وتعلمت من غيرك حتى يحرموا الإِيمان بك وبرسالتك والعياذ بالله تعالى ، وفي الآية الثالثة ( 106 ) يأمر الله تعالى رسوله باتباع ما يوحى إليه من الحق والهدى ، والإِعراض عن المشركين المعاندين الذي يقولون درست حتى لا يأخذوا بما أُتيتهم به ودعوتهم إليه من آيات القرآن الكريم إذ قال تعالى له : { اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين } وفي الآية الرابعة ( 107 ) يسلي الرب تعالى رسوله ويخفف عنه آلام إعراض المشركين عن دعوته ومحاربته فيها فيقول له : { ولو شاء الله ما أشركوا } أي لو يشاء الله عدم إشراكهم لما قدروا على أن يشركوا إذاً فلا تحزن عليهم ، هذا أولاً ، وثانياً { وما جعلناك عليهم حفيظاً } تراقبهم وتحصي عليهم أعمالهم وتجازيهم بها ، وما أرسلناك عليهم وكيلا تولى هدايتهم بما فوق طاقتك { إن عليك الا البلاغ } وقد بلغت إذاً فلا أسى ولا أسف!! .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- آيات القرىن بصائر من يأخذ بها يبصر طريق الرشاد وينجو ويسعد .
2- ينتفع بتصريف الآيات وما تحمله من هدايات العالمون لا الجاهلون وذلك لقوله تعالى في الآية الثانية ( 105 ) { ولنبينه لقوم يعلمون } .
3- بيان الحكمة في تصريف الآيات وهي هادية من شاء الله هدايته .
4- وجوب اتباع الوحي المتمثل في الكتاب والسنة النبوية .
5- بيان بطلان مذهب القدرية « نفاة القدر » .
(1/424)
________________________________________
وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
شرح الكلمات :
{ ولا تسبوا } : ولا تشتموا آلهة المشركين حتى لا يسبوا الله تعالى . { عدواً } : ظلماً .
{ زينا لكم أمة عملهم } : حسناه لهم خيراً كان أو شراً حتى فعلوه .
{ جهد أيمانهم } : أي غاية اجتهادهم في حلفهم بالله .
{ آية } : معجزة كإحياء الموتى ونحوها .
{ وما يشعركم } : وما يدريكم .
{ ونذرهم } : نتركهم .
{ يعمهون } : حيارى يترددون .
معنى الآيات :
عندما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبح يصدع بالدعوة جهراً كانت سراً أخذ بعض أصحابه يسبون أوثان المشركين ، فغضب لذلك المشركون وأخذوا يسبون الله تعالى إله المؤمنين وربهم فنهاهم تعالى عن ذلك أي عن سب آلهة المشركين بقوله : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } أي لا تسبوا آلهتهم { فيسبوا الله عدوا } أي ظلماً واعتداء بغير علم ، إذ لو علموا جلال الله وكماله لما سبوه ، وقوله تعالى : { وكذلك زينا لكل أمة عملهم } بيان منهتعالى لسنته في خلقه وهي أن المرء إذا أحب شيئاً ورغب فيه وواصل ذلك الحب وتلك الرغبة يصبح زيناً له ولو كان في الواقع شيئاً . ويراه حسناً إن كان في حقيقة الأمر قبيحاً ، ومن هنا كان دفاع المشركين عن آلهتهم الباطلة من هذا الباب فلذا لم يرضوا أن تسب لهم وهددوا الرسول والمؤمنين بأنهم لو سبوا آلهتهم لسبوا لهم إلههم وهو الله تعالى ، وقوله تعالى { ثمإلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون } يخبر تعالى أن مرجع الناس المزين لهم أعمالهم خيرها وشرها ورجوعهم بعد نهاية حياتهم إلى الله ربهم فيخبرهم بأعمالهم ويطلعهم عليها ويجزيهم بها الخير بالخير والشر بالشر . هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 108 ) وأما الآيتان الثانية ( 109 ) والثالثة ( 110 ) فقد أخبر تعالى أن المشركين أقسموا بالله أبلغ أيمانهم وأقصاها أنهم إذا جاءتهم آية كتحويل جبل الصفا إلى ذهب آمنوا عن آخرهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته واتبعوه على دينه الذي جاء به ، قال هذا رؤساء المشركين ، والله يعلم أنهم إذا جاءتهم الآية لا يؤمنون ، فأمر رسوله أن يرد عليهم قائلا : { إنما الآيات عند الله } هو الذي يأتي بها إن شاء أما أنا فلا أملك ذلك . إلا أن المؤمنين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم رغبوا في مجيء الآية حتى يؤمن المشركون وينتهي الصراع الدائر بينالفريقين فقال تعالى لهم : { وما يشعركم } أيها المؤمنون { أنها إذا جاءت لا يؤمنون } أي وما يدريكم أن الآية لو جاءت لا يؤمن بها المشركون؟ وبين علة عدم إيمانهم فقال : { ونقلب أفئدتهم } فلا تعي ولا تفهم { وأبصارهم } فلا ترى ولا تبصر . فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا بالقرآن أول مرة لما دعوا إلى الإِيمان به { ونذرهم في طغيانهم يعمهون } أي ونتركهم في شركهم وظلمهم حيارى يترددون لا يعرفون الحق من الباطل ولا الهداية من الضلال .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- حرمة قول أو فعل ما يتسبب عنه سب الله ورسوله .
2- بيان سنة الله في تزيين الأعمال لأصحابها خيراً كانت أو شراً .
3- بيان أن الهداية بيد الله تعالى وأن المعجزات قد لا يؤمن عليها من شاهدها .
(1/425)
________________________________________
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
شرح الكلمات :
{ الملائكة } : أجسام نورانية يعمرون السموات عباد مكرمون لا يعصون الله تعالى ويفعلون ما يؤمرون لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة .
{ الموتى } : جمع ميت : من فارقته الحياة أي خرجت منه روحه .
{ حشرنا } : جمعنا .
{ قبلا } : معاينة .
{ يجهلون } : عظمة الله وقدرته وتدبيره وحكمته .
{ شياطين } : جمع شيطان : وهو من خبث وتمرد من الجن والإِنس .
{ يوحي بعضهم } : يعلم بطريق سريع خفي بعضهم بعضاً .
{ زخرف القول } : الكذب المحسن والمزين .
{ غروراً } : للتغرير بالإِنسان .
{ يفترون } : يكذبون .
{ ولتصغى إليه } : تميل إليه .
{ وليقترفوا } : وليرتكبوا الذنوب والمعاصي .
معنى الآيات :
ما زال السياق في أولئك العادلين ببهم المطالبين بالآيات الكونية ليؤمنوا إذا شاهدوها بأخبر تعالى في هذه الآيات أنه لو نزل إليهم الملائكة من السماء ، وأحيى لهم الموتى فكلموهم وقالوا لهم لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وحشر عليهم كل شىء أمامهم يعاينونه معاينة أو تأتيهم المخلوقات قبيلاً بعد قبيل وهم يشاهدونهم ويقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ما كانوا ليؤمنوا بك ويصدقوك ويؤمنوا بما جئت به إلا أن يشاء الله ذلك منهم . ولكن أكثر أولئك العادلين بربه الأصنام والأوثان يجهلون أن الهداية بيد الله تعالى وليست بأيديهم كما يزعمون وأنهم لو رأوا الآيات آمنوا .
هذا ما دلت عليه الآية ( 111 ) أما الآية الثانية ( 112 ) فإن الله تعالى يقول وكما كان لك يا رسولنا من هؤلاء العادلين أعداء يجادلونك ويحاربونك جعلنا لكل نبي أرسلناه أعداء يجادلونه ويحاربونه ( شياطين الإِنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ) أي القول المزين بالباطل المحسن بالكذب { غرورا } أي للتغرير والتضليل ، { ولو شاء ربك } أيها الرسول عدم فعل ذلك الإِيحاء والوسواس { ما فعلوه } إذاً { فذرهم } أي اتركهم { وما يفترون } من الكفر والكذب والباطل .
هذا ما لت عيه الآية الثانية أما الآية الثالثة ( 113 ) وهي قوله تعالى : { ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون } هذه الآية بجمالها الأربع معطوفة على قوله { زخرف القول غروراً } إذ إيحاء شياطين الجن والإِنس كان للغرور أي ليغتر به المشركون ، { ولتصغى إليه } أي تميل { أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة } وهم المشركون العادلون بربهم { وليرضوه } ويقتنعوا به لأنه مموه لهم مزين ، ونتيجة لذلك التغرير والميل إليه وهو باطل والرضا به والاقناع بفائدته فهم يقترفون من أنواع الكفر وضروب الشرك والمعاصي والإِجرام ما يقترفون! .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- ما شاء الله كان ومان لم يشأ لم يكن أبداً ، وبهذا تقررت ربوبيته وألوهيته للأولين والآخرين .
2- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وكل داع إلى الله تعالى بإعلامه أنه ما من نبي ولا داع إلا وله أعداء من الجن والإِنس يحاربونه حتى ينصره الله عليهم .
3- التحذير من التمويه والتغرير فإن أمضى سلاح للشياطين هو التزيين والتغرير .
4- القلوب الفارغة من الإِيمان بالله ووعده وعيده في الدار الآخرة أكثر القلوب ميلاً إلى الباطل والشر والفساد .
(1/426)
________________________________________
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
أبتغي : أطلب .
{ حكماً } : الحكم الحاكم ومن يتحاكم إليه الناس .
{ أنزل إليكم الكتاب } : أي أنزله لأجلكم لتهتدوا به فتكْمُلُوا عليه وتسعدوا .
{ مفصلاً } : مبيناً لا خفاء فيه ولا غموض .
{ والذين آتيناهم الكتاب } : أي علماء اليهود والنصارى .
{ الممترين } : الشاكين ، إذ الامتراء الشك .
{ صدقاً وعدلاً } : صدقاً في الأخبار فكل ما أخبر به القرآن هو صدق ، وعدلاً في الأحكام فليس في القرآن حكم جور وظلم أبداً بل كل أحكامه عادلة .
{ لا مبدل لكلماته } : أي لا مغير لها لا بالزيادة والنقصان ، ولا بالتقديم والتأخير .
{ السميع العليم } : السميع لأقوال العباد العليم بأعمالهم ونياتهم وسيجزيهم بذلك .
{ سبيل الله } : الإِسلام إذ هو المفضي بالمسلم إلى رضوان الله تعالى والكرامة في جواره .
{ يخرصون } : يكذبون الكذب الناتج عن الحزر والتخمين .
{ من يضل } : بمن يضل .
{ بالمهتدين } : في سيرهم إلى رضوان الله باتباع الإِسلام الذي هو سبيل الله .
معنى الآيات :
ما زال السياق مع العادلين بربهم الأصنام والأوثان لقد كان المراد في طلبهم الآية الحكم بها على صحة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أنه نبي الله وأن القرآن كلام الله وأنه لا إله الله ، ولم يكن هذا منهم إلا من قبيل ما توسوس به الشياطين لهم وتزينه لهم تغريراً بهم وليواصلوا ذنوبهم فلا يؤمنون ولا يتوبون ، ومن هنا أنزل تعالى قوله : { أفغير الله أبتغي حكماً } وهو تعليم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوله للمشركين أأميل إلى باطلكم وأقتنع به فغير الله أطلب حكماً بيني وبينكم في دعواكم أني غير رسول الله وأن ما جئت به ليس وحياً من الله؟ ينكر صلى الله عليه وسلم تحكيم غير ربه تعالى وعلى ماذا يكون الحكم والله هو الذي أنزل إليهم الكتاب مفصلاً فأي آية تغلب القرآن وهو آلاف الآيات هذا أولاً وثانياً أهل الكتاب من قبلهم وهم علماء اليهود والنصارى مقرون ومعترفون بأن ما ينفيه المشركون حق لا مرية فيه إذاً فامض أيها الرسول في طريق دعوتك ولا تكونن من الممترين فإنك عما قريب تظهر على المشركين ، لقد تمت كلمة ربك أي في هذا القرآن الذي أوحي إليك صدقاً في كل ما تحمله من أخبار ومن ذلك نصرك وهزيمة أعدائك ، وعدلاً في أحكامها التي تحملها ، ولا يستطيع أحد تبديلها بتغيير لها بإخلاف وعدٍ ولا بإبطال حكم ، وربك هو السميع لأقوال عباده العليم بمقاصدهم وأفعالهم فما أقدره وأضعفهم فلذا لن يكون إلا مراده ويبطل جميع إراداتهم . واعلم يا رسولنا أنك { إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } أي لو أنك تسمعلهم وتأخذ بآرائهم وتستجيب لاقتراحاتهم لأضلوك قطعاً عن سبيل الله ، والعلة أن أكثرهم لا بصيرة له ولا علم حق لديه وكل ما يقولونه هو هوى نفس ، وَوسواس شيطان .
(1/427)
________________________________________
إنهم ما يتبعون إلا أقوال الظن وما هم فيما يقولون إلا خارصون كاذبون . وحسبك علم ربك بهم فإنه تعالى هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- حرمة وبطلان التحاكم إلى غير الوحي الإِلهي .
2- تقرير صحة الدعوة الإِسلامية بأمرين الأول : القرآن الكريم ، الثاني : شهادة أهل الكتاب ممن أسلموا كعبد الله بن سلام القرظي وأصحمة النجاشي وغيرهم .
3- ميزة القرآن الكريم : أن أخباره كلها صدق وأحكامه كلها عدل .
4- وعود الله تعالى لا تتخلف أبداً ، ولا تتبدل بتقديم ولا تأخير .
5- اتباع أكثر الناس يؤدي إلى الضلال فلذا لا يتبع إلا أهل العلم الراسخون فيه لقوله تعالى : { ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون . }
(1/428)
________________________________________
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
شرح الكلمات :
{ مما ذكر اسم الله عليه } : أي قيل عند ذبحه أو نحره بسم الله والله أكبر .
{ فصل لكم ما حرم عليكم } : أيبين لكم ما حرم عليكم مما أحل لكم وذلك في سورة النحل .
{ إلا ما ضطررتم إليه } : أي ألجأتكم الضرورة وهي خوف الضرر من الجوع .
{ المعتدين } : المتجاوزين الحلال إلى الحرام ، والحق والحق إلى الباطل .
{ ذروا ظاهر الإِثم } : اتركوا : الإِثم الظاهر والباطن وهو كل ضار فاسد قبيح .
{ يقترفون } : يكسبون الآثام والذنوب .
{ وإنه لفسق } : أي الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه . فسق عن طاعة الله تعالى .
{ إلى أوليائهم ليجادلوكم } : أي من الإِنس ليخاصموكم في ترك الأكل من الميتة .
{ لمشركون } : حيث أحلوا لكم ما حرم عليكم فاعتقدتم حله فكنتم بذلك عابديهم وعبادة غير الله تعالى شرك .
معنى الآيات :
مما أوحى به شياطين الجن إلى إخوانهم من شياطين الإِنس أن قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين . كيف تأكلون ما تقتلونه أنتم وتمتنعون عن أكل ما يقتله الله؟ فأنزل الله تعالى قوله { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين } . فأمر المؤمنين بعدم الاستجابة لما يقوله المشركون ، وقال { وَمالكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه } أي : أي شيء يمنعكم من الأكل مما ذكر اسم الله عليه؟ { وقد فصل لكم } أي بين لكم غاية التبيين { ما حرمه عليكم } من المطاعم { إلا ما ضطررتم إليه } أي ألجأتكم الضرورة إليه كمن خاف على نفسه الهلاك من شدة الجوع فإنه يأكل مما حرم في حال الإِختيار . ثم أعلمهم أن كثيراً من الناس يضلون غيرهم بأهوائهم بغير علم فيحلون ويحرمون بدون علم وهم في ذلك ظلمة معتدون لأن التحريم والتحليل من حق الرب تعالى لا من حق أي أحد من الناس وتوعدهم بما دل عليه قوله : { إن ربك هو أعلم بالمعتدين } ولازمة أنه سيجازيهم باعتدائهم وظلمهم بما يستحقون من العذاب على اعتدائهم على حق الله تعالى في التشريع بالتحليل والتحريم . وقوله تعالى في الآية الثالثة : ( 120 ) { وذروا ظاهر الإِثم وباطنه } يأمر تعالى عباده بترك ظاهر الإِثم كالزنى العلني وسائر المعاصي ، وباطن الإِثم كالزنى السري وسائر الذنوب الخفية وهو شامل لأعمال القلوب وهي باطنة وأعمال الجوارح وهي ظاهرة ، لأن الإِثم كل ضار فاسد قبيح كالشرك ، والزنى وغيرهما من سائر المحرمات .
ثم توعد الذين لا يمتثلون أمره تعالى بترك ظاهر الإِثم وباطنه بقوله : { إن الذين يكسبون الإِثم بما كانوا يقترفون } أي سيجزيهم يوم القيامة بما اكتسبوه من الذنوب والآثام ولا ينجو إلا من تاب منهم وصحت توبته وفي الآية الأخيرة في هذا السياق ( 121 ) يقول تعالى ناهياً عباده عن الأكل مما لم يذكر اسم الله تعالى عليه من ذبائح المشركين والمجوس فقال : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } وأخبر أن الأكل مما لم يذكر اسم الله تعالى عليه وهو ذبائح المشركين والمجوس فسق خروج عن طاعة الرب تعالى وهو مقتّضٍ للكفر لما فيه من الرضا بذكر اسم الآلهة التي تعبد من دون الله تعالى ، ثم أخبرهم تعالى بأن الشياطين وهم المردة من الجن يوحون إلى الأخباث من الإِنسان من أوليائهم الذي استجابوا لهم في عبادة الأوثان يوحون إليهم بمثل قولهم : كيف تحرمون ما قتل الله تحلون ما قتلتم أنتم؟ ليجادلوكم بذلك ، ويحذر تعالى المؤمنين من طاعتهم وقبول وسواسهم فيقول { وإن أطعتموهم } فأكلتم ذبائحهم أو تركتم أكل ما ذبحتم أنتم وقد ذكرتم عليه اسم الله ، { إنكم لمشركون } لأنكم استجبتم لما تأمر به الشياطين تاركين ما يأمر به رب العالمين .
(1/429)
________________________________________
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- حِلُّ الأكل من ذبائح المسلمين .
2- وجوب ذكر اسم الله على بهيمة الأنعام عند تذكيتها .
3- حرمة اتباع الأهواء ووجوب اتباع العلماء .
4- وجوب ترك الإِثم ظاهراً كان أو باطناً وسواء كان من أعمال القلوب أو أعمال الجوارح .
5- حرمة الأكل من ذبائح المشركين والمجوس والملاحدة البلاشفة الشيوعيين .
6- اعتقاد حل طاعة الشياطين شرك والعياذ بالله تعالى .
(1/430)
________________________________________
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
شرح الكلمات :
{ ميتاً } : الميت فاقد الروح ، والمراد روح الإِيمان .
{ أحييناه } : جعلناه حياً بروح الإِيمان .
{ مثله } : صفته ونعته امرؤ في الظلمات ليس بخارج منها .
{ قرية } : مدينة كبيرة .
{ ليمكروا فيها } : يفعل المنكرات والدعوة إلى ارتكابها بأسلوب الخديعة والاحتيال .
{ وما يمكرون إلا بأنفسهم } : لأن عاقبة المكر تعود على الماكز نفسه لآية { ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله } .
{ وإذا جاءتهم آية } : أي من القرآن الكريم تدعوهم إلى الحق .
{ صغار } : الصغار : الذل والهوان .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في حرب العادلين بربهم الأصنام الذين يزين لهم الشيطان تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم فقال تعالى : { أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس } أي أطاعة هذا العبد الذي كان ميتاً بالشرك والكفر فأحييناه بالإِيمان والتوحيد وهو عمر بن الخطاب أو عمار بن ياسر كطاعة من مثله رجل في الظلمات ظلمات الشرك والكفر والمعاصي ليس بخارج من تلك الظلمات وهو أبو جهل والجواب لا ، إذاً كيف أطاع المشركون أبا جهل وعوا عمر رضى الله عنه والجواب : أن الكافرين لظلمة نفوسهم واتباع أهوائهم لا عقول لهم زُين لهم عملهم الباطل حسب سنة الله تعالى في أن من أحب شيئاً وغالى في حبه على غير هدى ولا بصيرة يصبح في نظره زيْناً وهو شيْن وحسناً وهو قبيح ، فلذا قال تعالى : { وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها } فيهلكوا أيضا . قوله : { وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون } هو كما قال : قوله الحق وله الملك ، فالماكر من أكابر المجرمين حيث أفسدوا عقائد الناس وأخلاقهم وصرفهم عن الهدى بزخرف القول والاتيال والخداع ، هم في الواقع يمكرون بأنفسهم إذ سوف تحل بهم العقوبة في الدنيا وفي الآخرة ، إذ لا يحيق المكر السيء إلا بأهله ولكنهم لا يشعرون أي لا يدرون ولا يعلمون أنهم يمكرون بأنفسهم ، وقوله تعالى في الآية الثالثة ( 124 ) { وإذا جاءتهم آية . . } أي حجة عقلية مما تحمله آيات القرآن تدعوهم إلى تصديق الرسول والإِيمان بما جاء به ويدعو إليه من التوحيد بدل أن يؤمنوا { قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } أي من المعجزات كعصا موسى وطير عيسى الذي نفخ فيه فكان طائراً بإذن الله فرد الله عليهم هذا العلو والتكبر قائلاً : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } فإنه يجعلها في القلوب المشرقة والنفوس الزكية ، لا في القلوب المظلمة والنفوس الخبيثة ، وقوله تعالى { سيصيب الذين أجرموا } على أنفسهم بالشرك والمعاصي وعلى غيرهم حيث أفسدا قلوبهم وعقولهم ، { صغار } : أي ذل وهوان { عند الله } يوم يلقونه { وعذاب شديد } قاس لا يطاق { بما كانوا يمكرون } : أي بالناس بتضليلهم وإفساد قلوبهم وعقولهم بالشرك والمعصي التي كانوا يجرئونهم عليها ويغرونهم بها .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- الإِيمان حياة ، والكفر موت ، المؤمن يعيش في نور والكافر في ظلمات .
2- بيان سنة الله تعالى في تزيين الأعمال القبيحة .
3- قل ما تخلو مدينة من مجرمين يمكرون فيها .
4- عاقبة المكر عائدة على الماكر نفسه .
5- بيان تعنت المشركين في مكة على عهد نزول القرآن .
6- الرسالة توهب لا تكتسب .
7- بيان عقوبة أهل الإِجرام في الأرض .
(1/431)
________________________________________
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
شرح الكلمات :
{ شرح صدره } : شرح الصدر توسعته لقبول الحق وتحمل الوارد عليه من أنوار الإِيمان وعلامة ذلك ، الإِنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله .
{ حرجاً } : ضيقاً لا يتسع لقبول الحق ، ولا لنور الإِيمان .
{ كأنما يصعد } : يصعب عليه قبول الإِيمان حتى كأنه يتكلف الصعود إلى السماء .
{ الرجس } : النَّجس ومالا خير فيه كالشيطان .
{ فصلنا الآيات } : بيناها وأوضحناها غاية البيان والتوضيح .
{ يذكرون } : يذكرون فيتعظون .
{ دار السلام } : الجنة ، والسلام اسم من أسماء الله تعالى فهي مضافة إلى الله تعالى .
{ استكثرتم } : أي من إضلال الإِنس وإغوائهم .
{ استمتع بعضنا ببعض } : انتفع كل منَّا بصاحبه أي تبادلنا المنافع بيننا حتى الموت .
{ أجلنا الذي أجلت لنا } : أي الوقت الذي وقت لنا وهو أجل موتنا فمتنا .
{ مثواكم } : مأواكم ومَقر بقائكم وإقامتكم .
{ حكيم عليم } : حكيم في وضع كل شيء في موضعه فلا يخلد أهل الإِيمان في النار ، ولا يخرج أهل الكفر منها ، عليهم بأهل الإِيمان وأهل الكفران .
معنى الآيات :
بعدذلك البيان والتفصيل لطريق لهداية في الآيات من أول السورة إلى قوله تعالى حكاية عن المدعوين إلى الحق العادلين به الأصنام إذ قالوا : { لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله } أعلم تعالى عباده أن الهداية بيده وأن الإِضلال كذلك يهدي من يشاء برحمته ويضل من يشاء بعدله ، وأن لكل من الهداية والإِضلال سنناً تتبع في ذلك فمن طلب الهداية ورغب فيها صادقاً علم تعالى منه وسهل له طرقها وهيأ له أسبابها ، ومن ذلك أنه يشرح صدره لقبول الإِيمان وأنواره فيؤمن ويسلم ويحسن فيكمل ويسعد ، ومن طلب الغواية ورغب فيها صادقاً علم الله تعالى ذلك منه فهيأ له أسبابها وفتح له بابها فجعل صدره ضيقا حرجاً لا يتسع لقبول الإِيمان وحلول أنواره فيه حتى لكأنه يتكلف الصعود إلى السماء وما هو بقادر هذه سنته في الهداية والإِضلال ، وقوله تعالى { كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون } أي كذلك الفعل في الهداية والإِضلال يجعل الله الرجس أي يلقي بكل ما لا خير فيه على قلوبهم من الكبر والحسد والشرك والكفر والشيطان لقبول المحل لكل ذلك نتيجة خلوه من الإِيمان بالله ولقائه .
وقوله تعالى { وهذا صراط ربك مستقيماً } يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم مشيراً إلى ما بيّنه من الهدى وهذا طريق ربك مستقيماً فاسلكه والزمه فإنه يفضي بك إلى كرامة ربك وجواره في جنات النعيم . وقوله : { قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون } يمتن تعالى وله الحمد والمنة بما أنعم به على هذه الأمة من تفصيل الآيات حججاً وبراهين وشرائع ليهتدي طالبوا الهدى المشار إليهم بقوله { لقوم يذكرون } فيذكرون فيؤمنون ويعملون فيكملون ويسعدون في دار السلام إذ قال تعالى { لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم } أي متوليهم بالنصر والتأييد في الدنيا والإِنعام والتكريم في الآخرة { بما كانوا يعملون } من الصالحات .
(1/432)
________________________________________
هذا ما دلت عليه الآيات الأولى والثانية والثالثة أما الآية الرابعة ( 128 ) فقد تضمنت عرضاً سريعاً ليوم القيامة الذي هو ظرف للجزاء على العمل في دار الدنيا فقال تعالى : { ويوم يحشرهم جميعاً } إنسهم وجنهم ويقول سبحانه وتعالى { يا معشر الجن قد استكثرتم من الإِنس } أي في إغوائهم وإضلالهم ، { وقال أولياؤهم من الإِنس } أي الذين كانوا يوالونهم على الفساد والشر والشرك والكفر { ربنا } أي يا ربنا { استمتع بعضنا ببعض } أي كل منا تمتع بخدمة الآخر له وانتفع بها ، يريدون أن الشياطين زينت لهم الشهوات وحسنت لهم القبائح وأغرتهم بالمفاسد فهذا انتفاعهم منهم وأما الجن فقد انتفعوا من الإِنس بطاعتهم والاستجابة لهم حيث خبثوا خبثهم وضلا ضلالهم . وقولهم { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } أي واستمر ذلك منا إلى أن انتهينا إلى أجلنا الذي أجلته لنا وهو نهاية الحياة الدنيا وها نحن بين يديك ، كأنهم يعتذرون بقولهم هذا فرد الله تبارك وتعالى عليهم بإصدار حكمه فيهم قائلا : { الناس مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله } ومعنى مثواكم : مقامكم الذي تقيمون فيه أبداً .
ومعنى قوله { إلا ما شاء الله } هو استثناء لبيان إرادة الله الطلقة التي لا يقيدها شيء ، إذ لو شاء أن يخرجهم من النار لأخرجهم أي ليس هو بعاجز عن ذلك ، ومن الجائز أن يكون هذا الاستثناء المراد به من كان منهم من أهل التوحيد ودخل النار بالفسق والفجور وكبير الذنوب بإغواء الشياطين له فإنه يخرج من النار بإيمانه ، ويكون معنى ( ما ) ( من ) أي إلا من شاء الله . والله أعلم بمراده ، وقوله في ختام الآية ، { إن ربك حكيم عليم } ، ومن مظاهر حكمته وعلمه إدخال أهل الكفر والمعاصي النار أجمعين الإِنس والجن سواء .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان سنة الله تعالى في الهداية والإِضلال .
2- بيان صعوبة وشدة ما يعاني الكافر إذا عرض عليه الإِيمان .
3- القلوب الكافر يلقى فيها كل ما لا يخر فيه من الشهوات والشبهات وتكون مقراً للشيطان .
4- فضيلة الذكر المنتج للتذكر الذي هو الإِتعاظ فالعمل .
5- ثبوت التعاون بين أخباث الإِنس والجن على الشر والفساد .
6- إرادة الله مطلقة يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فلا يؤثر فيها شيء .
(1/433)
________________________________________
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
شرح الكلمات :
{ بعضاً } : أي نجعل بعضهم أولياء بعض بجامع كسبهم الشر والفساد .
{ بما كانوا يكسبون } : أي من الظلم والشر والفساد .
{ ألم يأتكم رسل منكم } : الإِستفهام للتوبيخ والرسل جمع رسول من أوحى الله تعالى إليه شرعه وأمره بإبلاغه للناس ، هذا من الإِنس أما من الجن فهم من يتلقون عن الرسل من الإِنس ويبلغون ذلك إخوانهم من الجن ، ويقال لهم النُّذُر .
{ يقصون عليكم آياتي } : يخبرونكم بما فيها من الحجج متتبعين ذلك حتى لا يتركوا شيئاً إلا بلغوكم إياه وعرفوكم به .
{ وينذركم لقاء يومكم } : اي يخوفونكم بما في يومكم هذا وهو يوم القيامة من العذاب والشقاء .
{ وأهلها غافلون } : لم تبلغهم دعوة تعرفهم بربه وطاعته ، ومالهم عليها من جزاء .
معنى الآيات :
قوله تعالى : { وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون } إخبار منه تعالى بسنته في أهل الظلم وهي أن يجعل بعضهم أولياء بعض بمعنى يتولاه بالنصرة والمودة بسبب الكسب السيء الذي يكسبونه على نحو مولاة شياطين الإِنس للجن فالجامع بينهم الخبث واشر وهؤلاء الجامع بينهم الظلم والعدوان ، ولا مانع من حمل هذا اللفظ عل تسليط الظالمين بعضهم على بعض على حد : ولا ظالم إلا سيبتلى بأظلم . كما أنه تعالى سيوالي يوم القيامة إدخالهم النار فريقاً بعد فريق وكل هذا حق وصالح لدلالة اللفظ عليه .
وقوله تعالى : { يا معشر الجن والإِنس } إخبار منه تعالى بأنه يوم القيامة بنادي الجن والإِنس موبخاً لهم فيقول : { ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا } أي ألم يأتكم رسل من جنسكم تفهمون عنهم ويفهمون عنكم { يقصون عليكم آياتي } أي تلونها عليكم ويخبرونكم بما تحمله آياتي من حجج وبراهين لتؤمنوا بي وتبعدوني وحدي دون سائر مخلوقاتي ، وينذرونكم أي يخوفونكم ، لقاء يومكم هذا الذي أنتم الآين فيه وهو ويوم القيامة والعرض على الله تعالى . وما يتم فيه من جزاء على الأعمال خيرها وشرها ، وأن الكافرين هم أصحاب النار . فأجابوا قائلين : شهدنا على أنفسنا - وقد سبق أن غرتهم الحياة الدنيا فواصلوا الكفر والفسق والظلم - { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } .
هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية أما الثالثة ( 131 ) فقد تضمنت الإِشارة إلى علة إرسال الرسل إلى الإِنس والجن إذ قال تعالى { ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون } أي ذلك الإِرسال كان الأجل أنه تعالى لم يكن من شأنه ولا مقتضى حكمته أنه يهلك أهل القرى بظلم منه وما ربك بظلام للعبيد ولا بظلم منه وهو الشرك والمعاصي وأهلها غافلون لم يؤمروا ولم ينهوا ، ولم يعلموا بعاقبة الظلم وما يحل بأهله من عذاب .
وفي الآية الأخيرة ( 132 ) أخبر تعالى أن لكل عامل من خير أو شر درجات من عمله إن كان العمل صالحاً فهي درجات في الجنة ، وإن كان العمل سيئاً فاسداً فهي دركات في النار ، وهذا يتم حسب علم الله تعالى بعمل كل عامل وهو ما دل عليه قوله ، { وما ربك بغافل عما يعملون } .
(1/434)
________________________________________
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان سنة الله تعالى في أن الأعمال هي سبب الموالاة بين الإِنس والجن فذو العمل الصالح يوالي أهل الصلاح ، وذو العمل الفاسد يوالي أهل الفساد .
2- التحذير من الإِغترار بالحياة الدنيا .
3- بيان العلة في إرسال الرسل وهي إقامة الحجة على الناس ، وعدم إهلاكهم قبل الإِرسال إليهم .
4- الأعمال بحسبها يتم الجزاء فالصالحات تكسب الدرجات ، والظلمات تكسب الدركات .
(1/435)
________________________________________
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
شرح الكلمات :
{ الغنى } : عن كل ما سواه ، فغناه تعالى ذاتي ليس بمكتسب كغنى غيره .
{ ذو الرحمة } : صاحب الرحمة العامة التي تشمل سائر مخلوقاته والخاصة بالمؤمنين من عباده .
{ ويستخلف } : أي ينشىء خلقاً آخر يخلفون الناس في الدنيا .
{ إن ما توعدون لآت } : إن ما وعد الله تعالى به عباده من نعيم أو جحيم لآت لا محالة .
{ على مكانتكم } : أي على ما أنتم متمكنين منه من حال صالحة أو فسادة .
{ عاقبة الدار } : أي الدار الدنيا وهي سعادة الآخرة القائمة على الإِيمان والعمل الصالح .
{ إنه لا يفلح الظالمون } : أي لا يفوز الظالمون بالنجاة من النار ودخول الجنان لأن ظلمهم يوبقهم في النار .
معنى الآيات : بعد تلك الدعوة إلى عبادة الله تعالى وتوحيده فيها وبيان جزاء من أقام بها ، ومن ضيعها في الدار الآخرة .
خاطب الرب تبارك وتعالى رسوله قائلاً : { وربك الغني ذو الرحمة } أي ربك الذي أمر عباده بطاعته ونهاهم عن معصيته هو الغني عنهم وليس في حاجة إليهم ، بل هم الفقراء إليه المحتاجون إلى فضله ، ورحمته قد شملتهم أولهم وآخرهم ولم تضق عن أحد منهم ، ليعلم أولئك العادلون بربهم الأصنام والأوثان أنه تعالى قادر على إذهابهم بإهلاكهم بالمرة ، والإِتينان بقوم آخرين أطوع لله تعالى منهم ، وأكثر استجابة لهم منهم : { إن يشاء يذهبكم من البعث والحساب والجزاء لآت لا محالة وما أنتم بمعجزين الله تعالى ولا فائتينه بحال ، ولذا سوف يجزيكم كلاً بعمله خيراً كان أو شراً وهو على ذلك قدير .
هذا ما دالت عليه الآيتان الأولى والثانية أما الآية الثالثة ( 135 ) فقد تضمنت أمر الله تعالى للرسول أن يقول للمشركين من قومه وهم كفار قريش بمكة { اعملوا على مكانتكم } ما دمتم مصرين على الكفر والشرك { إنى عامل } على مكانتي فسوف تعلمون من تكون له عاقبة دار الدنيا وهي الجنة دار السلام أنا أم أنتم مع العلم أن الظالمين لا يفلحون بالنجاة من النار ودخول الجنان ، ولا شك أنكم أنتم الظالمون بكفركم بالله تعالى وشرككم به .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير غنى الله تعالى المطلق عن سائر خلقه .
2- بيان قدرة الله تعالى على إذهاب الخلق كلهم وَالإِتيان بآخرين غيرهم .
3- صدق عد الله تعالى وعدم تخلفه .
4- تهديد المشركين بالعذاب إن هم أصروا على الشرك والكفر والذي دل عليه قوله { اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار } الدنيا { إنه لا يفلح الظالمون } .
(1/436)
________________________________________
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
شرح الكلمات :
{ مما ذرأ } : مما خلَقَ .
{ من الحرث والأنعام } : الحرث كل ما يحرث له الأرض من الزروع ، والأنعام : الإِبل والبقر والغنم .
{ نصيباً } : حظاً وقدراً معيناً .
{ لشركائنا } : شركاؤهم أوثانهم التي أشركوها في عبادة الخالق عز وجل .
{ سا ء ما يحكمون } : قبح حكمهم في ذلك إذ آثروا أوثانهم على الله .
{ ليردوهم } : اللام لام العاقبة ومعنى يردوهم : يهلكوهم .
{ وليلبسوا } : ليخلطوا عليهم دينهم .
{ حجر } : أي ممنوعة على غير من لم يأذنوا له في أكلها .
{ حرمت ظهورها } : أي لا يركبونها ولا يحملون عليها .
{ افتراء على الله } : أي كذباً على الله عز وجل .
{ على أزواجنا } : أي إن ولد ما في بطن الحيوان ميتاً فهم شركاء الذكور والإِناث سواء .
{ سفهاً بغير بعلم } : حمقاً وطيشاً وعدم رشد وذلك لجهلهم .
معنى الآيات :
ما زال السياق في التنديد بأفعال العادلين بربهم أصنامهم وأوثانهم فأخبر تعالى عما كانوا يبتدعونه من البدع ويشرعون من الشرائع بدون علم ولا هدى ولا ولا كتاب مبين فقال تعالى عنهم { وجعلوا لله مما ذراً من الحرث والأنعام نصيباً } أي جعل أولئك العادلون بربهم لله تعالى مما خلق من الزرع والأنعام نصيباً أي قسماً كما جعلوا للآلهة التي يؤلهونهم مع الله سبحانه وتعالى نصيباً ، { فقالوا هذا لله بزعمهم ، وهذا لشركائنا } . وقوله تعالى : { بزعمهم } لأنه سبحانه وتعالى ما طلب منهم ذلك ولا شرعه لهم وإنما هم يكذبون على الله تعالى ثم إذا أنبت أو أنتج ما جعلوه لله ، ولم ينبت أو ينتج ما جعلوه للشركاء حولوه إلى الشركاء بدعوى أنها فقيرة وأن الله غني ، وإذا حصل العكس لم يحولوا ما جعلوه للآلهة لله بنفس الحجة وهي أن الشركاء فقراء ، والله غني .
هذا معنى قوله تعالى : { فما كان لشركائهم فلا يصل إلى لله ، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم } وهو تحيز ممقوت وتحكم فاسد فلذا قبح تعالى ذلك عليهم فقال { ساء ما يحكمون } أي بئس الحكم حكمهم هذا وقبح صنيعاً ، صنيعهم هذا ، وما جعلوه لله ينفقون على الضيفان والفقراء ، وما جعلوه للشركاء ينفقونه على السدنة والمقيمين على الأصنام والأوثان .
هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الثانية ( 137 ) وهي قوله تعالى { وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم } يريد وكذلك التحكم الباطل والإِدعاء الكاذب في جعل لله شيئاً مما ذرأ من الحرث والأنعام ، ثم عدم العدل بين الله تعالى وبين شركائهم زين لكثير من المشركين شركاؤهم وهم شياطينهم من الجن والإِنس قتل أولادهم كالمؤودة من البنات خوف العار ، وكقتل الأولاد الصغار خوف الفقر ، أو لنذرها للآلهة ، وفعل الشياطين ذلك من أجل أن يردوهم أي يهلكوهم ، ويلبسوا عليهم دينهم الحق أن يخلطوه لهم بالشرك ، وهو معنى قوله تعالى { ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم } وقوله تعالى : { ولو شاء الله ما فعلوه } هو كما قال إذ لو أراد تعالى منعهم من ذلك لمنعهم وهو على كل شيء قدير ، إذاً فذرهم أيها الرسول وما يفترون من الكذب في هذا التشريع الجاهلي الباطل القبيح .
(1/437)
________________________________________
هذا ما دلت عيه الآية الثانية أما الثالثة ( 138 ) وهي قوله تعالى : { وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم ، وأنعام حرمت ظهروها ، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه } .
فقد تضمنت هذه الآية ثلاثة ضروب من تشريع الجاهلية وأباطيلهم .
الأول : تحريمهم بعض الأنعام والحرث وجعلها لله وللآلهة التي يعبدونها مع الله .
الثاني : أنعام أي إبل حرموا ركوبها كالسائبة والحام .
الثالثة : إبلٌ لا يذكرون اسم الله عليها فلا يحجون عليها ولا يذكرون اسم الله عليها إن ركبوها بحال ولا إن حملوا عليها .
وقوله تعالى في ختام الآية { افتراء عليه } أي كذباً على الله تعالى لأنه تعالى ما حرم ذلك عليهم وإنما حرموه هم بأنفسهم وقالوا حرمه الله علينا ، ولذا توعدهم الله تعالى على كذبهم هذا بقوله : { سيجزيهم بما كانوا يفترون } أي سيثيبهم الثواب الملائم لكذبهم وهو العذاب الأخروي .
هذا ما دلت عليه الآية الثالثة أما الآية الرابعة ( 139 ) { وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ، وإن يكن ميتاً فهم فيه شركاء } فقد تضمنت تشريعاً آخر باطلاً اختلقوه بأنفسهم وزعموا أن الله شرعه لهم وهو أنهم حرموا ما في بطون بعض الأنعام على الإِناث ، وجعلوها حلالاً للذكور خالصة له دون النساء فلا يشرب النساء من ألبانها ولا يأكلن لحوم أجنتها إن ذبحوها ولا ينتفعن بها بحال ، اللهم إلا أن ولد الجنين ميتاً فإنهم لا يحرمونه على النساء ولا يخصون به الذكور فيحل أكله للنساء والرجال معاً ، ولذا توعدهم تعالى بقوله { سيجزيهم وصفهم إنه حيكم عليم } أي سيثيبهم على هذا الكذب بما يستحقون من العذاب إنه حكيم في قضائه عليم بعباده .
هذا ما دلت عليه الآية الرابعة أما الخامسة ( 140 ) فقد أخبر تعالى بخسران أولئك المشرعين وضلالهم وعدم هدايتهم بقوله { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً } أي جهلاً { بغير علم ، وحرموا ما رزقهم الله } مما سبق ذكره { افتراءً على الله } كذباً { قد ضلوا وما كانوا مهتدين } .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- حرمة الابتداع في الدين والتشريع المنافي لشرع الله تعالى وإن لم ينسب إلى الله تعالى .
2- ما ينذره الجهال اليوم من نذرو للأولياء وإعطائهم شيئاً من الأنعام والحرث والشجر هو من عمل المشركين زينه الشيطان لجهال المسلمين .
3- حرمة قتل النفس لأي سبب كان وتحديد النسل اليوم وإلزام الأمة به من بعض الحكام من عمل أهل الجاهلية الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم كقتل البنات خشية العار والأولاد خشية الفقر .
(1/438)
________________________________________
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
شرح الكلمات :
{ أنشأ جنات } : خلق جنات جمع جنة وهي البستان .
{ معروشات } : ما يعمل له العريش . من العنب ، وما لا يعرش له من سائر الأشجار .
{ مختلفاً أكله } : أي ثمره الذي يأكله منه .
{ متشابهاً } : في الورق وغيره متشابه في الحب والطعم .
{ حقه } : ما وجب في من الزكاة .
{ يوم حصاده } : يوم حصاده إن كان حباً وجذاذه إن كان نخلاً .
{ ولا تسرفوا في إخراجه } : أي بأن لا تبقوا لعيالكم منه شيئاً .
{ حمولة } : الحمولة ما يحمل عليها من الإِبل .
{ وفرشا } : الفرش الصغار ما يحمل عليها من الإِبل .
{ خطوات الشيطان } : مسالكه في التحريم والتحليل للإِضلال والغواية .
{ أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } : أنثى الضأن وأنثى الماعز ذكراً كان أو أنثى .
{ نبئوني بعلم } : خبروني بأيهما حرم بعلم صحيح لا بوسواس الشياطين .
{ أم كنتم شهداء } : أي حاضرين وقت تحريمه تعالى ذلك عليكم إن كان قد حرمه كما تزعمون .
معنى الايات :
لما توعد الحق تبارك وتعالى المفترين عليه حيث حرموا وحللوا ما شاءوا ونسبوا ذلك إليه إفتراء عليه تعالى ، وما فعلوه ذلك إلا لجهلهم بالله تعالى وعدم معرفتهم بعلمه وقدرته وإلا لما اتخذوا له أنداداً من الأحجار وقالوا : شركاؤنا ، وشفعاؤنا عند الله . ذكر تعالى في هذه الآيات الأربع مظاهر قدرته وعلمه وحكمته وأمره ونهيه وحجاجه في إبطال تحريم المشركين ما أحل الله لعباده فقال تعالى : { وهو الذي أنشأ جنا } أي بساتين وحدائق من العنب معروشات أي محمول شجرها على العروش التي توضع للعنب ليرتفع فوقها وغَير معروشات أي غير معرش لها ، وأنشأ النخل والزرع مختلفاً ثمره وطعمه ، وأنشأ الزيتون والرمان متشابهاً في الورق ، وغير متشابه في الحب والطعم أيضاً . وأذن تعالى في أكله وأباحه وهو مالكه وخالقه فقال : { كلوا من ثمره إذا أثمر } أي نضج بعض النضج وأمر بإخراج الواجب فيه وهو الزكاة فقال { وآتوا حقه يوم حصاده } أي بعد درسه وتصفيته إذ لا يعطى السنبل ، ونهى عن الإِسراف وهو تجاوز الحد في إخراج الزكاة غلو حتى لا يبقوا لمن يعولوا ما يكفيهم ، فقال : { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } وأنشأ من الأنعام : الإِبل والبقر والغنم { حمولة } وهو ما يحمل عليها بكبرها { وفرشاً } وهي الصغار التي لا يحمل عليها ، وأذن مرة أخرى في الأكل مما رزقهم سبحانه وتعالى من الحبوب والثمار واللحوم وشرب الألبان ، فقال : { كلوا مما رزقكم الله } ونهى عن اتباع مسالك الشيطان في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم فقال : { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } وعلل للنهي فقال : { إنه لكم عدو مبين } ومَن عرف عدوه اتقاهولو بالعبد عنه ، وأنشأ { ثمانية أزواج من الضأن اثنين } وهما الكبش والنعجة ، { ومن المعز اثنين } وهما لتيس والعنزة ، وأمر رسوله أن يحاج المفترين في التحريم والتحليل فقال له { قل } يا رسولنا لهم { آلذّكرين حرم } الله عليكم { أم الأنثيين أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } أي النعجة والعنزة { نبؤني بعلم إن كنتم صادقين } فإن قلتم حرم الذكرين فلازم ذلك جميع الذكور حرام ، وإن قلتم حرم الأنثيين فلازمه أن جميع الإِناث حرام وإن قلتم حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين فكل ما ولد منهما حرام ذكراً كان أو أنثى فكيف إذا حرمتم البعض وحللتم البعض فبأي علم أخذتم نبوئوني به إن كنتم صادقين قوله تعالى { ومن الإِبل الثنين } وهما الناقة والجمل ، { ومن البقر اثنين } وهما الثور والبقرة { قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أمّا اشتملت عيه أرحام الأنثيين } ، فهل حرم الذكرين أو الأنثيين هذه الأزواج الأربعة فإن حرم الذكرين فسائر الذكور محرمة ، وإن حرم الأنثيين فسائر الإِناث محرمة ، أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين وحينئذ يكون كل مولود منهما محرماً ذكراً كان أو أنثى ، وبهذا تبين أنكم كاذبون على الله مفترون فالله تعالى لم يحرممن هذه الأزواج الثمانية شيئاً ، وإنما حرم الميتة ، وما لم يذكر اسم الله عليه .
(1/439)
________________________________________
وقوله تعالى { أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله } بهذا التحريم فهو تبكيت لهم وتقريع ، إذ لم يحرم الله تعالى هذا الذي حرموه ، ولم يوصهم بذلك ولم يكونوا حال الوصية حضوراً ، وإنما هو الإِفتراء والكذب على الله تعالى .
وأخراً سجل عليهم أنهم كذبة ظالمون مضلون لغيرهم بغير علم ، وأنهم لا يستحقون الهداية فقال عز وجل : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- إباحة أكل التمر والعنب والرمان والزيتون .
2- وجوب الزكاة في الزيتون والتمر والحبوب إذا بلغت النصاب وهو خمسة أوسق والوسق ستون صاعاً ، والصاع أربع حفنات .
3- جواز الأكل من الثمر قبل جذاذه وإخراج الزكاة منه .
4- حرمة الإِسراف في المال بأن ينفقه فيما لا يعني ، أو ينفقه كله ولم يترك لأهله شيئاً .
5- إباحة أكل بهيمة الأنعام وهي ثمانية أزواج ، شأن وماعز ، وإبل وبقر وكلها ذكر وأنثى .
6- إبطال تشريع الجاهلية في التحريم والتحليل ، فالحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله .
7- جواز الجدال والحجاج لإِحقاق الحق أو إبطال الباطل .
8- لا أظلم من يكذب على الله تعالى ، فيشرع لعباده ما لم يشرع لهم .
(1/440)
________________________________________
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
شرح الكلمات :
{ محرماً على طاعم يطعمه } : محظوراً ممنوعاً على آكل يأكله .
{ ميتة أو دماً مسفوحاً } : الميتة : ما مات دون تزكية ، والدم المسفوح : المصبوب صباً لا المختلط باللحم والعظام .
{ رجس } : نجس وقذر قبيح محرم .
{ أو فسقا أهل لغير الله به } : الفسق الخروج عن طاعة الله والمراد ما ذبح ولم يذكر اسم الله عليه وإنما ذكر عليه اسم الأصنام أو غيرها ، والإِهلال رفع الصوت باسم المذبوح له .
{ فمن اضطر غير باغٍ ولا عاد } : اضطر : ألجأته الضرورة وهي خوف الهلاك ، والباغ الظالم ، والعادي : المعتدي المجاوز للحد .
{ هادوا } : اليهود .
{ ذي ظفر } : صاحب ظفر . وهو الحيوان الذي لا يفرق أصباعه كالإِبل والنعام .
{ ما حملت ظهورها أو الحوايا } : أي الشحم العالق بالظهر . والحوايا : المباعر والمصارين والأمعاء .
{ أو ما اختلط بعظم } : أي عفى لهم عن الشحم المختلط بالعظم كما عفي عن الحوايا والعالق بالظهر .
{ ببغيهم } : أي بسبب ظلمهم .
{ ولا يرد بأسمه } : بطشه وعذابه .
معنى الآيات :
ما زال السياق في الحجاج مع أولئك المحرمين ما لم يحرم الله ففي أولى هذه الآيات يأمر الله تعالى رسوله أن يقول للذين يحرمون افتراءً على الله ما لم يحرم { لا أجد فيما أوحي إلي } -وأنا رسول الله- { محرماً } أي شيئاً محرماً { على طاعم يطعمه } أي آكلٍ يأكله اللهم { إلا أن يكون ميتة } وهي مامات من الحيوان حتف أنفه أي لم يذك الذكاة الشرعية ، { أو دماً مسفوحاً } أي مصبوباً صباً لا الدم المختلط بالعظم واللحم كالكبد والطحال ، { أو لحم خنزير فإنه } أي لحم الخنزير { رجس } أي نجس قذر حرام ، { أو فسقاً أهل لغير الله به } أي ما ذبح ولم يذكر اسم الله عليه أو ذكر اسم الأصنام عليه فهو فسق أي خروج عن طاعة الرب الذي أمر من أراد ذبح بهيمة أن يذكر عليها اسمه ليحل له أكلها .
هذا معنى قوله تعالى : { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلى أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به } .
وقوله تعالى { فمن اضطر غير باغ ولا عاد } أي غير ظالم بأكل الميتة وما ذكر معها وذلك بأن يأكلا تلذذاً بها لا دفعاً لغائلة الموت وهو كاره لأكلها { ولا عاد } أي غير متجاوز القدر الذي أبيح له وهو ما يدفع به غائلة الموت عن نفسه { فإن ربك غفور رحيم } ومن مظاهر مغفرته ورحمته أنه أذن للمضطر بالأكل مما هو حرام في الضرورة .
هذا ما دلت عليه الآية الأولى ( 145 ) أما الآية الثانية فبعد أن بين تعالى أنه لم يحرم على المؤمنين غير ما ذكر من الميتة وما ذكر بعدها أخبر أنه حرم على اليهود أكل كل ذي ظفر وهو ما ليس له أصابع مفرقة مثل الإِبل والنعام والبط والإِوز ومن البقر والغنم حرم عليهم شحومهما وهو الشحم اللاصق بالكرش والكلى ، وأباح لهم من الشحوم ما حملته البقرة أو الشاة على ظهرها ، وما كان لاصقاً بالمباعر وهي الحوايا جمع حاوية وكذا الشحم المختلط بالعظام كشحم الليلة ، وشحم الجانب والأذن والعين وما إلى ذلك .
(1/441)
________________________________________

در این جلد

أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير- ط: التفاسير - المجلد الثاني

دانلود

درباره کتاب

نویسنده :

أبو بكر جابر الجزائري

ناشر :

www.altafsir.com

دسته بندی :

About Quran & Hadith