يَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ
إن داعي الله في كل ليلة من ليالي رمضان منادياً عباد الله الصائمين ((يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ))(1) يُعَدُّ حافزاً عظيماً ودافعاً قوياً لأهل الإيمان إلى المنافسة في الخيرات والانكفاف عن الشرور والمحرمات ، وأهلُ الإيمان وإن لم يسمعوا هذا النداء بآذانهم في ليالي رمضان المباركة إلا أنهم من وقوعه على يقين ؛ لأن المخبر لهم بذلك هو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه .
وقد مضى معنا حديث عن أهمية الاستباق إلى الخيرات والمبادرة إلى الطاعات في هذا الشهر الفضيل والموسم المبارك حيث تكثر فيه أبواب الخير وسبله ، وهو أيضاً موسم عظيم للانكفاف عن المعاصي والبعد عن الآثام لما يترتب على فعلها من الهلكة ، ولما يجنيه مقترفها من الذنوب والأوزار التي يستحق بها المقت والعقوبة من العزيز الجبّار ولاسيما في هذا الشهر الكريم والموسم العظيم شهر الطاعات ؛ فإنه شهر لتصحيح المسلك والمسار الذي كان يسير عليه الإنسان ، وهو شهرٌ للتوبة والإنابة ، وموسم للاستزادة من فعل الطاعات والاستمرار عليها لمن كان على استقامة قبل دخوله ، فكيف مع ذلك يصر بعض الناس على التمادي في العصيان والانهماك في الطغيان حتى في هذا الشهر العظيم شهر الطاعة والغفران !! وهؤلاء وأمثالهم هم المعنيون بالنداء في الحديث: ((يَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ)) ؛ أي تب إلى الله ودع ما أنت عليه من شر وطغيان لئلا تندم على فعلك الشر في هذا الشهر وتدارك الأمر قبل فوات الأوان ، فإنه قد يختم لك بما أنت عليه الآن، أو تصيبُك دعوةٌ من مؤمن أصابه شرُّك وناله ضررُك فتكون سبباً لهلاكك وشقائك في الدارين ، أو ينسلخ هذا الشهر ويخرج وأنت لم تزدد من الله إلا بعداً ، ويا خيبة من يكون هذا مصيره ومخرجه من هذا الشهر المبارك .
والشر كله محرم في كل وقت وأوان وسواء كان ضرره متعلقاً بالنفس أو بالغير من خلق الله ، وسواء كان قولاً باللسان أو فعلاً بالجوارح أو أمراً منكراً انطوى عليه القلب ، وسواء كان هذا الشر مقروءا أو مرئياً أو مسموعاً قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
قال ابن القيم رحمه الله: (( أصول المعاصي كلها كبارِها وصغارها ثلاثة: تعلقُ القلب بغير الله، وطاعة القوة الغضبية، والقوة الشهوانية، وهي الشرك، والظلم والفواحش، فغاية التعليق بغير الله شرك وأن يدعى معه إلهٌ آخر. وغاية طاعة القوة الغضبية القتل. وغاية طاعة القوة الشهوانية الزنا. ولهذا جمع الله سبحانه بين الثلاثة في قوله : {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان:68] وهذه الثلاثة يدعو بعضها إلى بعض؛ فالشرك يدعو إلى الظلم والفواحش، كما أن الإخلاص والتوحيد يصرفهما عن صاحبه، قال تعالى: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [يوسف:24] ؛ فالسوء: العشق، والفحشاء: الزنا . وكذلك الظلم يدعو إلى الشرك والفاحشة؛ فإن الشرك أظلم الظلم، كما أن أعدل العدل التوحيد . فالعدل قرين التوحيد ، والظلم قرين الشرك؛ ولهذا يجمع سبحانه بينهما. أما الأول ففي قوله : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ } [آل عمران:18] . وأما الثاني فكقوله تعالى: { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان:13]. والفاحشة تدعو إلى الشرك والظلم ولاسيما إذا قويت إرادتها ولم تحصل إلا بنوع من الظلم والاستعانة بالسحر والشيطان. وقد جمع سبحانه بين الزنا والشرك في قوله: { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [النور:3] ، فهذه الثلاثة يجر بعضها إلى بعض، ويأمر بعضها ببعض. ولهذا كلما كان القلبُ أضعفَ توحيداً وأعظمَ شركاً كان أكثرَ فاحشةً وأعظمَ تعلقاً بالصور وعشقاً لها. ونظير هذا قوله تعالى: { فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } [الشورى:36-37]. فأخبر أن ما عنده خير لمن آمن به وتوكل عليه، وهذا هو التوحيد ، ثم قال: { وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ } فهذا اجتناب داعي القوة الشهوانية. ثم قال: { وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } ، فهذا مخالفة القوة الغضبية؛ فجمع بين التوحيد والعفة والعدل التي هي جماع الخير كله)) (2) اهـ.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يستعيذ بالله من الشرور والآثام ويرشد إلى ذلك ، وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الحاجة (( إِنَّ الْحَمْد لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا))(3) ، وكما مر في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه أن يقول إذا أصبح وإذا أمسى : ((أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ))(4)
وينبغي للمسلم أن يعلم أن تركه للشر والذنوب والمعاصي فيه من الثمرات والفوائد ما لا يحصيه إنسان ولا يعبِّر عنه لسان ، قال ابن القيم رحمه الله : (( سبحان الله ربِّ العالمين ! لو لم يكن في ترك الذنوب والمعاصي إلا إقامة المروءة، وصونُ العِرض، وحفظُ الجاه، وصيانة المال الذي جعله الله قواماً لمصالح الدنيا والآخرة ، ومحبةُ الخلق وجوازُ القول بينهم، وصلاح المعاش، وراحة البدن، وقوةُ القلب، وطيبُ النفس، ونعيمُ القلب، وانشراح الصدر، والأمن من مخاوف الفجّار والفسّاق، وقلة الهم والغمّ والحزن، وعزّ النفس عن احتمال الذل، وصونُ نورِ القلب أن تطفئه ظلمة المعصية، وحصولُ المخرج له مما ضاق على الفساق والفجار وتيسر الرزق عليه من حيث لا يحتسب ، وتيسير ما عسر على أرباب الفسوق والمعاصي ، وتسهيل الطاعات عليه ، وتيسير العلم ، والثناء الحسن في الناس ، وكثرة الدعاء له والحلاوة التي يكتسبها وجهه ، والمهابة التي تلقي له في قلوب الناس ، وانتصارهم وحميتهم له إذا أوذي وظلم ، وذبهم عن عرضه إذا اغتابه مغتاب ، وسرعة إجابة دعائه ، وزوال الوحشة التي بينه وبين الله ، وقرب الملائكة منه ، وبُعد شياطين الإنس والجن منه ، وتنافس الناس على خدمته وقضاء حوائجه ، وخطبتهم لمودته وصحبته وعدم خوفه من الموت بل يفرح به لقدومه على ربه ولقائه له ومصيره إليه ، وصغر الدنيا في قلبه وكبر الآخرة عنده ، وحرصه على الملك الكبير والفوز العظيم فيها ، وذوق حلاوة الطاعة ، ووجد حلاوة الإيمان ودعاء حملة العرش ومن حوله من الملائكة له ، وفرح الكاتبين به ودعائهم له كل وقت ، والزيادة في عقله وفهمه وإيمانه ومعرفته ، وحصول محبة الله له وإقباله عليه وفرحه بتوبته ، وهكذا يجازيه بفرح وسرور لا نسبة له إلى فرحه وسروره بالمعصية بوجه من الوجوه . فهذه بعض آثار ترك المعاصي في الدنيا ، فإذا مات تلقَّته الملائكة بالبشرى من ربه بالجنة ، وبأنه لا خوف عليه ولا حزن ، وينتقل من سجن الدنيا وضيقها إلى روضة من رياض الجنة ينعم فيها إلى يوم القيامة ، فإذا كان يوم القيامة كان الناس في الحرِّ والعَرَقِ وهو في ظلِّ العرشِ ، فإذا انصرفوا من بين يدي الله أُخذَ به ذات اليمين مع أوليائه المتقين وحزبه المفلحين، و { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [الحديد:21] )) (5) اهـ .
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين ، اللهم إنا نسألك من كلّ خير خزائنه بيدك ، ونعوذ بك من كلّ شر خزائنه بيدك.
*****
-------------------
(1) رواه الترمذي (682)، وابن ماجه (1642) .
(2) الفوائد لابن القيم (ص:116-118).
(3) رواه الترمذي (1105) .
(4) تقدم تخريجه .
(5) الفوائد (ص: 224ـ 225).
© Copyright Islam land أرض الإسلام . All Rights Reserved 2017