عن المقال

المؤلف :

Saleh Bin Fawzaan al-Fawzaan

التاريخ :

Mon, Oct 24 2016

التصنيف :

الأداب والأخلاق

تحميل

في الأخوة الدينية

في الأُخُوَّة الدينية
للشيخ صالح بن فوزان الفوزان


الحمد لله الذي جعل المؤمنين إخوةً، وشَرَع بمُوجَبِ هذه الأُخُوَّة لبعضهم على بعضٍ حقوقًا واجبةً ومستحبَّةً، ونهى عن كل ما يُضْعِف هذه الأُخُوَّة أو يقطعها من الأقوال والأفعال الذميمة، أحمده على نعمه التي لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بيَّن ما يجبُ للمسلم على أخيه المسلم، وأوصَى بالتِزَام ذلك لما يترتَّبُ عليه من مصالح الدنيا والآخرة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين ضَرَبوا أروَعَ الأمثلةَ للأُخُوَّة الصادقة، فكانوا كالجسد الواحد وكالبُنْيان الواحد يشدُّ بعضُه بعضًا، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، أيها الناس:
اتقوا الله، وامتَثِلوا أمر ربكم، يقول الله - سبحانه وتعالى -: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثم وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2 ]، ويقول تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71 ]، ويقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10  ].
ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمنُ للمؤمنِ كالبُنْيَان يشُدُّ بعضُه بعضًا». وشبَّك بين أصابعه.
ومن هذه النصوص - يا عباد الله - ندرك ما ينبغي أن يكون عليه المسلم نحو أخيه المسلم، إنها أُخُوّة أعظم من أُخُوّة النسب، أُخُوّة تجمع بين المسلمين وإن تباعَدَت أقطارهم ونَأَت دِيَارَهم، أُخُوَّة تُوجِبُ التناصُحَ والتناصُرَ والتواصِي بالحق والصبر عليه، أُخُوَّة تمنعُ المسلمَ أن يغُشَّ أخاه المسلم أو يخدعه أو يخذله أو يؤذيه بأيِّ أذًى في دمه وماله وعرضه، فقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58 ].
إن الله - سبحانه - قد رَسَمَ لهذه الأُخُوَّة طريقًا تسير عليه يُثبِّت قواعدها، ويُنمِّي ثمراتها، ويدفع كل ما يتنافَى معها، أو يقِف في طريقها.
وفي سورة الحجرات ما يوضح هذا النهج الرباني، فهو - سبحانه - قد أمرنا بالتثبُّت حينما يُنقَل إلينا خبرٌ سيِّئٌ عن فرد أو جماعة من المسلمين، فلا نتعجَّل بقبوله حتى نعلَمَ مدى صحَّتَه بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6 ].
ثم يأمرنا - سبحانه - بحَسْم النزاع وتلافِي الفُرقة بين المُتنازعين من المسلمين خصوصًا عندما يكون النزاع مُسلَّحًا؛ لئلا تذهب فيه أرواحٌ بريئةٌ وتُراقُ فيه دماءٌ معصومة، وأن مثل هذا النزاع يحسم بأحد أمرين: الإصلاح أولاً بالقضاء على أسبابه وإزالة آثاره، أو التأديب للفئة المعتدية التي لا تقبل الصلح والوقوف بجانب الفئة المُعتدَى عليها.
يقول تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 9، 10 ].
ثم إنه سبحانه ينهى المسلم أن يسخر ويحُطّ من قدر المسلم، وقدرُ المسلم عند الله عظيم، إن السخرية تُوجِبُ النفرةَ بين الأخَوَيْن المسلِمَيْن، ثم ما يدريك لعلَّ هذا الذي سخرتَ منه خيرٌ منك عند الله، فتكون قد حقَّرتَ ما عظَّم الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} [الحجرات: 11 ].
فالسخرية لا تقع إلا من قلب ممتلئ من مساوئ الأخلاق، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بحسب امرئٍ من الشرِّ أن يحقِرَ أخاه المسلم».
ثم نهى - سبحانه - عن تلمُّس العيوب للمسلم وإعلانها على الناس، ونهى - سبحانه - عن تعيير المسلم بلقبٍ يكرهه؛ لأن ذلك مما يُسِيء إلى المسلم ويُورِث العداوة، وربما يُسبِّب الرد بالمِثْل، فيكون الإنسان قد جَنَى على أخيه وجَنَى على نفسه، قال تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات: 11 ]، واعتبر ذلك فسوقًا وظلمًا ممن لم يتب منه، فقال: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11 ].
ثم نهى - سبحانه - عن سوء الظن بالمسلم ما لم يتبيَّن منه ما يُوجِب ذلك، فإن الأصل في المسلم العدالة والخيرية، وسوء الظن به يُسبِّب الابتعاد عنه، وعداوته وبغضه، وهذا يتنافى مع الأخوة الإيمانية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12 ].
ونهى - سبحانه – عن البحث عن عورات المسلم وتطلُّب عَثَراته التي قد سَتَرَها الله عليه؛ لأن في البحث عن عورات المسلم وتطلُّب عَثَراته التي قد سَتَرَها الله عليه إشاعةٌ للمنكر، وتشويهًا للمجتمع المسلم، وزعزعةً للثقة بين المسلمين، فقال تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12 ].
كما نهى سبحانه عن الغِيْبَة - وهي ذِكْرُك أخاك بما يكره في حال غيْبته -؛ لأن في ذلك انتهاكًا لحرمته، وتدنيساً لعرضه، وخيانةً له في غيبته.
ثم ذكر سبحانه مثلاً مُنفِّراً عن الغيبة، وذلك بأن شَبَّه الذي يغتاب أخاه المسلم بالذي يأكل لحمه وهو ميت، وذلك مكروهٌ للنفوس غاية الكراهية منفّر للطباع؛ فالذي يغتاب أخاه كالذي يأكل لحمه وهو ميت، قال تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12 ]؛ فكيف يكره أكل لحمه ميتًا، ويأكل لحمه حيًّا؟!
عباد الله:
هذا نموذج مما رسمه الله لمسار الأخوة بين المسلمين وما ينبغي أن يكون عليه مجتمعهم، وكم في كتاب الله وفي سنة رسوله حول هذا الموضوع من الأوامر والنواهي التي لو رعاها المسلمون وعملوا بمقتضاها في عصرنا هذا لسادوا العالم كله وقادوه، كما ساده وقاده صدر هذه الأمة، كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران: 110 ].
عباد الله:
إنه لا يكمل إيمان المرء حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحِبَّ لنفسه، وأقل درجات الأُخُوَّة أن يُعَامِل أخاه بما يحبُّ أن يُعامِلَه به، ولا شك أنك تنتظر من أخيك أن يستر عورتك، وأن يسكت عن مساوِيك؛ فكيف تنتظرُ منه ما لا تفعله معه؟!
إنك لا ترضى أن يصدُر من أخيك أدنى إساءةٍ في حقِّك، فكيف ترضى أن تُسِيء إليه؟
إنك تنتظر من أخيك أن يصدُق معك في المعاملة ولا يخدعك ولا يغُشّك؛ فكيف تعامله بضد ذلك؟
إنك إذا طلبت من إخوانك أن يُنصِفوك من أنفسهم وأنت لا تُنصِفهم من نفسك دخلتَ في قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 1- 3 ].
إن دين الإسلام يُحرِّم المُضارّة بالمسلم والتعدِّي على حقوقه؛ ففي مجال بيعه وشرائه يُحرِّم النَّجَش عليه، وهو أن يزيد عليه في السّوم من لا يريد شراء السلعة؛ بل يريد رفع قيمتها عليه.
ويُحرِّم البيع على بيعه؛ فإذا باع سلعةً فلا يجوز لآخر أن يقول للمشتري منه: اتركها وأنا أبيعك مثلَها بثمنٍ أقلّ.
ويُحرِّم الإسلام الخِطْبة على خِطبة المسلم؛ فإذا خَطَبَ امرأةً فلا يجوز آخر أن يخطِب تلك المرأة حتى يتركها الخاطب الأول أو يرُدّ.
ويُحرِّمُ الإسلام تخبِيب المرأة على زوجها - أي: إفسادها عليه - حتى تطمح عنه أو تنفِر منه، وحتى تُسِيء خُلُقها حتى يُطلِّقها.
اسمعوا إلى هذه الأحاديث:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَحَاسَدوا، ولا تَنَاجَشوا، ولا تَبَاغَضوا، ولا تَدَابَروا، ولا يَبِعْ بعضُكم على بَيْع بعضٍ وكونوا عبادَ الله إخوانًا»؛ رواه مسلم.
وعنه - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: «ليس مِنَّا من خَبَّبَ امرأةً على زوجها أو عبدًا على سيده»؛ رواه أبو داود، والنسائي، وابن حبان في «صحيحه».
وعن ثوبان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: «أيّما امرأةٍ سألَت زوجَها طلاقها من غير ما بأسٍ فحرامٌ عليها رائحةُ الجنة».
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع حاضرٌ لبَاد، ولا تناجشوا، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطِب على خِطْبة أخيه، ولا تسأل المرأةُ طلاقَ أختِها لتكفَأ ما في إنائها»؛ متفق عليه.
فاتقوا الله - عباد الله -، وراعوا إخوانكم، واحفظوا حقوقكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ ...} الآيات إلى قوله: {... وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 102- 105 ].