أبناء الملتزمين

في كتابه "أبناء الملتزمين"، يضع الكاتب (عبدالرحمن ضاحي) النجارَ في مواجهة بابه الـ(مخلَّع)، إن الكاتب في كتابه هذا، الموجَّه للملتزمين بالأساس، يَردُّهم إلى الداخل، إلى أضيق دوائر التحدي، وهذه المرة لا تُشبِه تلك المرات الكثيرة السابقة التي ردَّ فيها المؤلفون والخطباء والباحثون على مرِّ الأجيال هؤلاء الملتزمين إلى الداخل لمعالجة شكل ومشاكل العلاقة الزوجية، إنما هنا صرف جهده إلى الهمِّ الآخر، الذي لا يَقِل إلحاحًا عن ضبْط العلاقة بين زوجينِ ملتزمين، لقد تكلَّم عن الشيء الذي يُصيب زوجين ملتزمين يَشعران بدرجةٍ ما من الرضا عن الذات، بألمٍ مُزمِنٍ ومُحرِج، ناتجٍ عن خيبة رجائهم في تلك النظرية المبسَّطة التي تصوَّراها، والتي مُفادها أن أبناء الملتزمين هم في الغالب سيختارون الالتزام ببساطة تحت تأثير العدوى الحميدة، إنهم سيجدون أنفسهم ملتزمين بشكلٍ تلقائيٍّ تمامًا.

 

وقد حمَل الملتزمون دومًا همَّ اختيار شريك/ شريكة الحياة، بل كانت هذه المسألة إحدى أهم نوافذهم على الحياة، بهداياها المتوقَّعة للطيبين، نافذة الطموح والفأل الحسن والرجاء الطيب، وظلَّت مادة أساسية لمرحهم وسمرهم في مرحلة (العزوبية) تحت مظلَّة الانتظار المُبتهِج، وكانوا على ثقةٍ تامةٍ من أن سلامة هذا الإجراء؛ إجراء اختيار الشريك/الشريكة، يجعل من إنجاب ذريةٍ صالحةٍ سهلة القياد هو تحصيل حاصل؛ إنه وهمُ الوصول السهل والأكيد للعيش في (تبات ونبات)، العيش الذي يُمثِّل هديةً رائعةً غلَّفها الغيبُ للصالحين، ولم يضعوا في اعتبارهم أن التمكن من تنشئة جيلٍ صالحٍ وذريةٍ نجيبةٍ هو اختبارٌ طويلٌ ومُضنٍ، لا يتوقَّف على اختيارٍ صحيحٍ لمرةٍ واحدةٍ كاختيار شريك/ شريكة الحياة؛ إنما هم - هنا - في مواجهة اختبارٍ جِديٍّ على مدى طويل، عبارة عن سلسلة من القرارات التربوية، آخذة في التعقيد والتحدِّي مع نمو الأبناء، تختبر حتى قدرتَهم على تحمُّل أغرب أنواع المفاجآت غير السارة.

 

لقد خصَّص (عبدالرحمن ضاحي) كتابَه لمشكلة انحراف أبناء الملتزمين، تلك المشكلة التي يشعر أصحابها أن لديهم مشكلةً استثنائيةً بغير تفسير؛ لأن (الولد كان يجب ألا يكون على هذه الشاكلة على الإطلاق)، يشعرون أنهم في مواجهة ابتلائهم الخاص، المُحرِج، الخافض للرُّوح المعنوية، الذي يَستحِقُّ أن يَهمِسوا به خُفيةً لأحد الثقات؛ بحثًا عن وصفة مضمونة وسريعة المفعول.

 

ولقد تكرَّر هذا الهمس في أُذِن المؤلف من أبناء وآباء، للدرجة التي استوعب منها تمامًا أن هذا الجُرْح الشخصي هو جرحٌ نمطيٌّ مُتكرِّر، يحتاج في المقابل إلى تنميطٍ يتَّسِم بالسهولة والبراعة في تقديم النصائح الوقائية والعلاجية؛ مما حدا به، وحرَّضه تحريضًا خلاقًا، تحت غلبة إحساسٍ ناضجٍ بالمسؤولية تُجاه بيوت المسلمين، ورحمةً بهم على ما يعيشون تحت وطأته من صدماتٍ تربويةٍ متراوحة الفداحة - على تأليف مادة هذا الكتاب الضروري الرشيق، والذي يتحرَّك فيه في كل بابٍ إلى هدفه بسرعةِ وجِديَّة سيارة إسعاف، وبغير صخبها؛ ليسدَّ به فراغًا في المكتبة العربية، ولينهض بما لم يشمِّر له الإسلاميون أكمامَهم من أغراض التأليف الاجتماعي، وليجمع أسسًا تربويةً ودينيةً لإصلاح أبواب عددٍ ضخمٍ من النجارين.