خطبة الجمعة: فوائد وتنبيهات، ويليها سبع رسائل

كتاب قيّم للدكتور أمين بن عبد الله الشقاوي - أثابه الله -، يتحدث فيه عن فضل يوم الجمعة وآدابه، وعن الصلاة ومكانتها في الإسلام، ووجوب صلاة الجماعة، وحقوق وواجبات الإمامة، وفضل الأذان والمؤذنين، وفضل بناء المساجد ورعايتها، وأخطاء في الطهارة والصلاة، ثم الختم بنصيحة في فضل التبكير إلى الصلوات.

 
خطبة الجمعة: فوائد وتنبيهات
ويليها سبع رسائل

الأولى: فضل يوم الجمعة وآدابه.
الثانية: الصلاة ومكانتها في الإسلام، ووجوب صلاة الجماعة.
الثالثة: الإمامة: حقوق وواجبات.
الرابعة: فضل الأذان والمؤذنين.
الخامسة: فضل بناء المساجد ورعايتها.
السادسة: حديث المسيء صلاته، جمع، وتخريج، وفوائد.
السابعة: أخطاء في الطهارة والصلاة.
ثم الختم بنصيحة في فضل التبكير إلى الصلوات.
 
المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فقد أشار علي بعض الإخوة بضرورة إخراج بعض الكلمات من كتابي موسوعة الدرر، وذلك في رسائل صغيرة لشدة الحاجة إليها، وليسهل طبعها ونشرها، وذلك في موضوعين:
الأول: يتعلق بالمساجد والصلاة وفيه ثماني رسائل: الأولى: خطبة الجمعة: فوائد وتنبيهات والثانية: عن فضل يوم الجمعة وآدابه والثالثة: الصلاة ومكانتها في الإسلام، ووجوب صلاة الجماعة. والرابعة: الإمامة، حقوق وواجبات والخامسة: فضل الأذان والمؤذنين والسادسة: فضل بناء المساجد ورعايتها. والسابعة: حديث المسيء صلاته. جمع، وتخريج، وفوائد. والثامنة: أخطاء في الطهارة والصلاة، ثم الختم بنصيحة في فضل التبكير إلى الصلوات.
الموضوع الثاني: يتعلق بالتجارة والأسواق وفيه ثلاث رسائل: الأولى: الحثُّ على التجارة، وبيان بركتها، وحلول لمشكلة البطالة. والثانية: الأسواق نصائح وأحكام (أ). والثالثة: الأسواق نصائح وأحكام (ب).
ولما سلف من الأسباب فقد تمت طباعة هذه الرسائل، أسأل الله – تعالى- أن ينفع بها الجميع.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
                             المؤلف
الرياض 17/12/1434ه

خطبة الجمعة: فوائد وتنبيهات رقم (1) ( )


الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
«فإن لخطبة الجمعة في الإسلام أهمية عظيمة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلّم أصحابه في خطبته قواعد الإسلام وشرائعه، ويأمرهم وينهاهم في خطبته إذا عرض أمر أو نهي، كما أمر الداخل وهو يخطب أن يصلي ركعتين، ويذكر معالم الشرائع في الخطبة، والجنة، والنار، والمعاد، فيأمر بتقوى الله، ويحذر من غضبه، ويُرَغِّبُ في موجبات رضاه، ويذكرهم بأيام الله»( ).
وخطبة الجمعة من أعظم الوسائل المعينة على إصلاح المجتمع، وحل قضاياه.
وقد أمر الله المؤمنين بحضور ذلك الاجتماع واستماع الخطبة، وإقامة الصلاة، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9].
قال الشيخ علي الطنطاوي: «إني أحاول أن ألقي اليوم خطبة فلا تقولوا قد شبعنا من الخطب، إنكم قد شبعتم من الكلام الفارغ الذي يلقيه أمثالي من مساكين الأدباء، أما الخطب فلم تسمعوها إلا قليلاً، الخطب العبقريات الخالدات التي لا تنسج من حروف، ولا تؤلف من كلمات، ولكنها تنسج من خيوط النور الذي يضيء طريق الحق لكل قلب، وتحاك من أسلاك النار التي تبعث لهب الحماسة في كل نفس ولا تقولوا ماذا تصنع الخطب؟
فخطبة طارق هي التي فُتِحْت بها الأندلس وأُقيمت بها دولة الإسلام قروناً عديدة» ( )، ومعركة الإسلام الفاصلة «بدر الكبرى» قامت على كلمات معدودة ألقاها سيد الأوس سعد بن معاذ > فعندما استشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس في الذهاب إلى ملاقاة المشركين في بدر، قام سعد بن معاذ خطيباً فقال: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: «أجل» قال: فقد آمنَّا بك وصدَّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا، ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض بنا يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصُبرٌ في الحرب، صُدقٌ في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فُسرَّ بنا على بركة الله، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: «سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالى قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَالله لَكَأَنِّي الآنَ أَنْظُرُ إِلى مَصَارِعِ الْقَوْمِ»( ).
ولما ارتدت العرب عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قام سهيل بن عمرو خطيباً في مكة، وكان من عقلائهم، وخطبائهم، فخطب خطبة عصماء، ومما قال فيها: «يا معشر قريش، لا تكونوا آخر من أسلم، وأول من ارتدَّ، والله إن هذا الدين ليمتدنَّ امتداد الشمس والقمر من طلوعهما إلى غروبهما» ( )، فكانت تلك الخطبة من أعظم أسباب ثباتهم على الدين.
«وكان للخطابة أعظم الأثر في الدفاع عن الإسلام والدعوة إليه، وكذلك لها الحظ الأوفى في قتال الأعداء، فقد روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غزوة بدر: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ»، فكان لكلماته صلى الله عليه وسلم أقوى تأثير في نفوسهم فقد جعل أحد المقاتلين – عمير بن الحمام – يستعجل الموت، ويستطيل الحياة، فيقول: «بخٍ بخٍ، لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة»( ).
وبهذه الروح اندفع المؤمنون إلى قتال العدو، ونصرهم -الله تعالى-، وهكذا كان في عهد الخلفاء، والفتوحات الإسلامية، كانت الخطابة تسبق القتال، وكذلك في السّلم، فقد عُني بها كل العناية حتى أصبحت جزءاً من العبادة، فنُصبت لها المنابر في المساجد، وجُعِلت في مقدمة الجُمع والأعياد، واختص بها أفاضل الناس، وأئمتهم في مهام الأمور، للأمر، والنهي، والتوجيه، والبيان.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد بيان أمر، أو جد جديد يحتاج إلى بيان، صعد المنبر وخطب الناس، كما في قصة بريرة لما اشترط أهلها على عائشة< أن تعتقها ويكون الولاء لهم، خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيّن أن كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، الولاء لمن أعتق »( ).
وقد كانت خطبته في حجة الوداع خلاصة عامة جامعة شاملة لمهام الدين وأسس التعامل، واشتملت على البيان والبلاغ في أعظم جمع للمسلمين، وكذلك خطبته بعد صلاة الصبح إلى الظهر، ومن بعد صلاة الظهر إلى العصر، ومن بعد صلاة العصر إلى المغرب، ما ترك شيئاً إلا وعرض له في مقامه ذلك، حفظ من حفظ، ونسي من نسي( ). ثم من بعده خلفاؤه الراشدون }، وهذا كل من جاء بعدهم من الخلفاء، والأمراء، والولاة، ظلت الخطابة في عهدهم موضع العناية وأداة التوجيه.
ولذا وجب العناية بالخطابة عناية فائقة، ولا سيما الخطابة الدينية من وعظ وإرشاد، وتثقيف، وبيان لتعاليم الإسلام في أصول الدين، وفروعه، ومحاسنه في العبادات، والمعاملات، والاجتماعيات، ونظمه العامة والخاصة للأفراد والجماعات كافة»( ).
ونحن بأمسّ الحاجة إلى دعاة خطباء بلغاء يؤثرون في الناس، ويقودونهم إلى طرق الخير والصلاح، وفي الحديث: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا»( ).
قال ابن كثير: «إنما سميت الجمعة جمعة لأنها مشتقة من الجمع، فإن أهل الإسلام يجتمعون فيه كل أسبوع مرة بالمساجد الكبار، وفيه كمُل جميع الخلائق فإنه اليوم السادس من الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض، وفيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إياه، كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحاح»( ).
وقد وردت النصوص الكثيرة بوجوب الإنصات لخطبة الجمعة والفضل العظيم في ذلك، قال البخاري~: باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب وإذا قال لصاحبه: (انصت) فقد لغا، وقال سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم: ينصت إذا تكلم الإمام، ثم روى عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أَنْصِتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ»( ). أي قلت اللغو، واللغو: الإثم، فإذا كان الذي يقول للمتكلم (أنصت) – وهو في الأصل يأمر بمعروف – قد لغا، فغير ذلك من الكلام من باب أولى.
قال ابن حجر: واستدل به على منع جميع أنواع الكلام حال الخطبة، وبه قال الجمهور في حق من سمعها( ).
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري> أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاسْتَاكَ وَمَسَّ مِنْ طِيبٍ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ، وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَسْجِدَ فَلَمْ يَتَخَطَّ رِقَابَ النَّاسِ حَتَّى رَكَعَ مَا شَاءَ أَنْ يَرْكَعَ، ثُمَّ أَنْصَتَ إِذَا خَرَجَ الإِمَامُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِهِ، كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا»( ).
وروى أبو داود في سننه من حديث عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ: رَجُلٌ حَضَرَهَا يَلْغُو وَهُوَ حَظُّهُ مِنْهَا، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا يَدْعُو فَهُوَ رَجُلٌ دَعَا اللَّهَ  إِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِإِنْصَاتٍ وَسُكُوتٍ وَلَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا فَهِيَ كَفَّارَةٌ إِلَى الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَزِيَادَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ  يَقُولُ:  مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ]الأنعام: 160[»( ).
بل إن صلاة الركعتين في المسجد والإمام يخطب تكون خفيفة حتى يتمكن من إدراك الخطبة والاستفادة منها، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر بن عبدالله {قال: جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس، فقال له: «يا سليك: قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما»، ثم قال: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا»( ).
وقد جاء الذمُّ الشديد لمن خرج وترك الإمام يخطب، روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً يوم الجمعة، فجاءت عير من الشام، فانفتل الناس إليها، حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً، فأُنزلت هذه الآية التي في الجمعة:  وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ]الجمعة: 11[( ).
ورتب الشارع الفضل العظيم لمن دنا من الإمام وأنصت ليتمكن من استيعاب ما يلقيه الخطيب، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أوس بن أبي أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الجُمُعةِ، فَغَسَلَ أحَدُكُمْ رأسهُ واغْتَسَلَ ثم غدا أو ابتكرَ، ثم دنَا فاسْتَمَعَ وأنْصَتَ كانَ له بكلِّ خُطْوة خَطاها كَصِيام سنةٍ، وقيامِ سَنَةٍ»( ).
وهذه الأمور السابقة كلها من أجل تهيئة السامع، فعلى الخطيب أن يستشعر أن هذا كله من أجله فليهتم لذلك، وليبذل غاية جهده على ضوء ما يأتي التنبيه عليه، والإشارة إليه.
فمن ذلك الإخلاص -لله تعالى- لا ليقال فلان خطيب مصقع، أو خطب فلان خطبة عصماء.. ونحو ذلك، واسمع إلى موسى نبي الله فيما حكاه الله عنه حين دعا ربه فقال:  ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ] طه[ فغاية مراده أن يفهموا عنه ما يريد وحسب.
ومنها أن يكون الخطيب قدوة حسنة ظاهراً وباطناً وأن يصدق قوله فعله لتكون خطبته أبلغ تأثيراً في قلوب السامعين، قال تعالى:  ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ]الصف[. وقال تعالى:  أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ  ]البقرة: 44[.
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك> أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ( ) مِنْ نَارٍ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيل؟ قَالَ: خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ»( ).
وذكر بعض أهل العلم أن من شروط صحتهما: حمد الله، والشهادتين، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوصية بتقوى الله، والموعظة وقراءة شيء من القرآن ولو آية( ). وللأسف أن البعض من الخطباء يختصر في الخطبة الثانية اختصاراً مخلاً وتصبح الخطبة الثانية ألفاظاً تردد وتعاد ويقتصر فيها على الدعاء، مع أن الخطبة الثانية لا تختلف في أصل السنة عن الأولى، وينبغي أن يتنبه لهذا الأمر وينوع الخطيب، فتارة يجعل الخطبة الثانية مكملة للخطبة الأولى، وتارة مساوية لها، وتارة أنقص منها، وتارة في موضوع آخر، كل هذا لا بأس به وإن ما يخشى هو التزام طريقة واحدة يفهم عامة الناس من خلالها أنها هي السنة وما عداها مخالف لها( ).
والدعاء في آخر الخطبة ليس شرطاً من شروطها ولا كان السلف يواظبون عليه، قال الشيخ ابن عثيمين~ عن الدعاء في آخر الخطبة: «وكون الدعاء للمسلمين فيه مصلحة عظيمة موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وما وجد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله فتركه هو السنة، إذ لو كان شرعاً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم، فلابد من دليل خاص يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو للمسلمين، فإن لم يوجد دليل خاص فإننا لا نأخذ به، ولا نقول إنه من سنن الخطبة، وغاية ما نقول إنه من الجائز، وحينئذ لا يتخذ سنة راتبة يواظب عليه، لأنه إذا اتخذ سنة راتبة يواظب عليه فهم الناس أنه سنة، وكل شيء يوجب أن يفهم الناس منه خلاف حقيقة الواقع، فإنه ينبغي تجنبه»( ). أ-ه
«وأما التزام كثير من الخطباء بعض الألفاظ في الخطبة على سبيل الديمومة فلا ينبغي. لأن ذلك يجعل بعض السامعين يظن أن هذه الألفاظ من صلب الخطبة، أو أن الخطبة ناقصة من دون إيرادها، وربما حصل النكير من بعضهم إذا تُرِكَت لكثرة مداومة الخطباء عليها، فمن تلك الألفاظ على سبيل المثال وليس الحصر: اختتام آخر الخطبة الأولى بآية، وقبل أن يختم بهذه الآية يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، في حين أنه لا يستعيذ بالله في إيراد غيرها من الآيات.
ومنها المواظبة على ختم الخطبة الأولى بقول: أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
ومنها الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الخطبة على سبيل الديمومة.
ومنها قول بعضهم في آخر الخطبة الثانية على سبيل الديمومة: عباد الله، اذكرو الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم.. إلخ.
ومنها المواظبة على قراءة قوله تعالى:  إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ  ]النحل: 90[. في آخر الخطبة الثانية.
فالذي ينبغي للخطيب أن ينوع في مثل هذا، لئلا يظن الناس أن هذا من الواجب، بل لو ترك السنة أحياناً إذا ظن بعض الناس من خلال المواظبة عليها أنها واجبة، فإن هذا الترك يكون مستحباً، قال شيخ الإسلام ابن تيمية~: «فإنه إذا ظن العامة أن المواظبة على قراءة السجدة، والإنسان في فجر الجمعة من الواجب، فإنه يستحب تركها أحياناً لإزالة اللبس»( )( ).
ومنها مغايرة بعض الخطباء صوته عند تلاوة الآيات من القرآن لنسق صوته في وعظه وخطبه.
قال الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد~: «وهذا لم يعرف عن السالفين ولا الأئمة المتبوعين، ولا تجده لدى أجلاء العلماء في عصرنا، بل يتنكبونه، وكثير من السامعين لا يرتضونه، والأمزجة مختلفة، ولا عبرة بالفاسد منها، كما أنه لا عبرة بالمخالف لطريقة صدر هذه الأمة وسلفها»( ).
 
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


خطبة الجمعة: فوائد وتنبيهات رقم (2) ( )
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد..
فاستكمالاً للحديث السابق عن مكانة خطبة الجمعة وتأثيرها في الناس وما ينبغي للخطيب أن يتجنبه، ومن ذلك أن يحرص على موافقة السنة في خطبته وذلك بالآتي:
1-تقصير الخطبة: روى مسلم في صحيحه من حديث أبي وائل قال: خطب عمار فأوجز وأبلغ، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان، لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفست! فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ، مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَأَقْصِرُوا الْخُطْبَةَ، وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا»( ).
روى أبو داود في سننه من حديث جابر بن سمرة السوائي قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم لَا يُطِيلُ الْمَوْعِظَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِنَّمَا هُنَّ كَلِمَاتٌ يَسِيرَاتٌ»( ).
2-رفع الصوت في الخطبة على نحو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم دون التشنج والصراخ المفزع الذي يذهب بجمال الخطبة ووقعها في نفس المستمع، روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبدالله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول: «صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ»( ). «قال الشاعر:

وإذا خَطَبْتَ فَلِلْمنَاَ بِرِهِزَّةٌ
        تَعرُو النَّدَي ولِلقُلُوب بُكَاءُ


 كما أنه لا يراد به أن يكون احمرار العين وشدة الغضب في كل شيء»( ) قال القاضي عياض: «هذا حكم المحذر والمنذر، وأن تكون حركات الواعظ والمذكر وحالاته في وعظه بحسب الفصل الذي يتكلم فيه ومطابق له حتى لا يأتي بالشيء وضده، وأما اشتداد غضبه فيحتمل أنه عند نهيه عن أمر خولف فيه شرعه، أو يريد أن صفته صفة الغضبان عند إنذاره»( ).
3-وعلى الخطيب أن يُضَمِّنَ خطبته الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والحكم المأثورة عن السلف الصالح، والابتعاد عن الكلام الإنشائي المنمق، والسجع المتكلف إلا ما لابد منه، فتأثير النصوص الشرعية أبلغ في القلوب وأبقى أثراً، وأدوم ذكراً، وما سواها فإنه وإن أثر نوعاً ما فلا بقاء له، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بالقرآن، روى مسلم في صحيحه من حديث أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: ما أخذت  ﭑﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ]ق[. إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس( )، «ومن تأمل خُطب النبي صلى الله عليه وسلم وخُطب أصحابه، وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد، وذكر صفات الرب جل جلاله، وأصول الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله، وذكر -آلائه تعالى- التي تحببه إلى خلقه وأيامه التي تخوفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يحببهم إليه، فيذكرون من عظمة الله وصفاته وأسمائه، ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحببهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم، ثم طال العهد، وخفي نور النبوة، وصارت الشرائع والأوامر رسوماً تقام من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها، فأعطوها صورها، وزينوها بما زينوها به، فجعلوا الرسوم والأوضاع سنناً لا ينبغي الإخلال بها، وأخلوا بالمقاصد التي لا ينبغي الإخلال بها، فرصَّعوا الخطب بالتسجيع والفقر، وعلم البديع، فنقص بل عَدِم حظُّ القلوب منها، وفات المقصود بها» ( ).
قال الشيخ صالح الفوزان: «هذا ما قاله الإمام ان القيم~ في طابع الخطب في عصره، وقد زاد الأمر على ما وصف، حتى صار الغالب على الخطب اليوم أنها حشو من الكلام قليلة الفائدة، فبعض الخطباء يجعل الخطبة كأنها موضوع إنشاء مدرسي يرتجل فيه ما حضره من الكلام بمناسبة وبدون مناسبة، حتى إن بعضهم يهمل شروط الخطبة، أو بعضها، ولا يتقيد بضوابطها الشرعية، فهبطوا بالخطب إلى هذا المستوى الذي لم تعد معه مؤدية للغرض المطلوب من التأثير، والتأثر والفائدة، وبعض الخطباء يقحم في الخطبة مواضيع لا تتناسب مع موضوعها، وليس من الحكمة ذكرها في هذا المقام، وقد لا يفهمها غالب الحضور.
فيا أيها الخطباء، عودوا بالخطبة إلى الهدي النبوي، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. ركزوا موضوعاتها على نصوص من القرآن والسنة التي تتناسب مع المقام، ضَمِّنوها الوصية بتقوى الله والموعظة الحسنة، عالجوا بها أمراض مجتمعاتكم بأسلوب واضح مختصر، أكثروا فيها من قراءة القرآن العظيم الذي به حياة القلوب، ونور البصائر»( ).
4-وعلى الخطيب إعداد الخطبة مسبقاً، وإعادة النظر فيها حيناً بعد حين، ووعظ الخطيب نفسه بخطبته، فإن إعداد الخطبة من الأهمية بمكان كما يفهم من تصريح عمر يوم السقيفة، حيث قال: «لقد زورت كلمات أعجبتني» أي حضرتها وأعددتها، فقال لي أبو بكر: على رسلك يا عمر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها( ).
فهذا علم الملهم، وعمر سفير قريش في الجاهلية، وملهم ومحدّث في الإسلام يزور كلمات يواجه بها الموقف، فمن لم يبال بهذا العمل فإنه لا يسلم من الفشل( ).
وبعض الخطباء هداهم الله ينقل الخطبة من غيره دون تفهم وإدراك، وأعظم من ذلك من يقطع الورقة قبل الخطبة بوقت يسير من أي كتاب تيسر له، أو أي موقع من المواقع الإلكترونية.
5-وعليه أن يختار العبارات الفصيحة الواضحة التي يفهمها السامع والجمل القصيرة التي يدرك فهمها.
6- وعليه أن يحرص على صحة إظهار الحروف، ثم قوة التعبير، واختيار الألفاظ المؤثرة، وأن يجتنب اللتغ( )، والتأتأة.
7- أن يكون متفاعلاً مع خطبته متدبراً لما يقول، مؤمناً بفكرته ونجاحه، فإن ذلك من أعظم أسباب نجاح خطبته وتأثر الناس بها.
8-أن يلقيها إلقاء مفصلاً، فيقف على معاني جمل الآيات، ويفصل بين الآية والحديث، وبين جملة وأخرى، فقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عائشة أنه كان «يُحَدِّثُ الحَدِيث، لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ»، وقالت لم يكن يسرد الحديث كسردكم( ).
9-أن يبيَّن ما يشكل من الكلمات، أو معاني النصوص التي يضطر إلى ذكرها.
10-أن يضرب الأمثال المقربة للمعاني دون غلو، فإنه ينبغي أن ترتكز جميع الخطب على تعظيم الله وإجلاله، وذكر ممادحه، وحمده، وتمجيده، والثناء عليه، وبهذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في أول ما أنزل إليه، فقال تعالى: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ  ]المدثر: 4[.
11-أما الموضوعات التي ينبغي للخطيب أن يحرص عليها، فقد قال ابن القيم~: «وكذلك كانت خطبته صلى الله عليه وسلم إنما هي تقرير لأصول الإيمان، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائه، وذكر الجنة والنار، وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعدَّ لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب من خطبته إيماناً وتوحيداً، ومعرفة بالله وأيامه، لا كخطب غيره التي إنما تفيد أموراً مشتركة بين الخلائق، وهي النوح على الحياة، والتخويف بالموت، فإن هذا أمر لا يُحصِلُ في القلب إيماناً بالله، ولا توحيداً له، ولا معرفة خاصة به، ولا تذكيراً بأيامه، ولا بعثاً للنفوس على محبته والشوق إلى لقائه، فيخرج السامعون ولم يستفيدوا فائدة، غير أنهم يموتون، وتقسَّم أموالهم، ويُبلي التراب أجسامهم، فيا ليت شعري أي إيمان حصل بهذا؟ وأي توحيد ومعرفة وعلم نافع حصل به؟»( ).
وكلام ابن القيم محمول على ذكر الموت مجرداً، أما ربطه بما أمر الله بفعله، أو تركه فهو أمر محمود، قال صلى الله عليه وسلم: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ – يعني الموت»( ).
«ولذلك ينبغي للخطيب أن يعمل لإصلاح الأفراد، وإصلاح الأسر، والبيوت، ثم يبحث في الإصلاح العام، ويبدأ في كل ذلك بما بدأ الله به من تحقيق التوحيد، وتثبيت الإيمان في القلوب، ثم يعظ الناس بترغيبهم في فعل الفرائض، وترك المناهي، والمحرمات، وبيان ذلك لا بيان الفقيه الذي يعدد الشروط، والأركان، والسنن، والمكروهات، بل بيان المرشد الذي يذكر صالح الأعمال، وما فيها من الفضائل، وما أُعدَّ لها من الأجور، والأعمال السيئة وما يترتب عليها من العقوبات الدنيوية، والأخروية»( ).
وعلى الخطيب أن يتجنب توجيه الخطاب للسامعين حال ذكر ما يذم من الأمور، وعليه ألا يخاطبهم مخاطبة المدرس لطلابه، والأفضل أن يقول لهم: إن كثيراً منكم يعرف هذا الأمر، وإنما أردت التذكير، وعليه أن يجتنب الأحاديث الموضوعة، والضعيفة، والقصص الخرافية، أو التي لم توثق، أو فيها غرابة، أو كذب، أو بترك ما لا يدركه عامة السامعين.
قال علي>: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله( ).
وقال ابن مسعود: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة( ).
ومن أوجب ما يجب اجتنابه ما يفعله بعض الخطباء من إلقاء الطُّرف المضحكة في الخطبة ويخشى أن يكون هذا مفسداً لها.
وعليه أن يجتنب الموضوعات التي تدل على المنكر، والمواقف التي فيها إشاعة الفواحش وإن ظن أن ذلك مؤثر في السامعين.
«وعليه أن يجتنب الحديث عن موضوعات كثيرة في خطبته، فبعض الخطباء يخوض في الخطبة الواحدة في كل شيء يتنقل من موضوع إلى موضوع، فلا يوفي موضوعاً منها حقه من البحث، فإذا جاءت الجمعة الثانية عاد إلى مثل ما كان منه في الجمعة الأولى، فتكون الخطب كلها متشابهة متماثلة، وكلها لا ثمرة لها ولا يخرج السامع له بنتيجة عملية، ولو أن الخطيب اقتصر على موضوع واحد – جل أو دق، كبر أو صغر – فتكلم فيه ولم يجاوزه إلى غيره لكان لخطبته معنى، ولأخذ السامع منها عبرة، وحصل منها فائدة، إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك كما في خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.
ومن ذلك أن بعضهم يريد أن يصلح الدنيا كلها بخطبة واحدة، فلا يخاطب الناس على قدر عقولهم، ولا يكلمهم على مقتضى أحوالهم، ولا يسير بهم في طريق الصلاح خطوة خطوة، بل يريد أن يبلغوا الكمال بقفزة واحدة»( ).
وعلى الخطيب أن يجتنب التكلُّف في الإلقاء، والتشدُّق في الألفاظ، وخير الإلقاء ما كان طبيعياً لا تكلُّف فيه، والرسول صلى الله عليه وسلم كره المتشدقين وذمهم، وكذلك يبتعد عن التمطيط، وتلحين الخطبة والترنم فيها، قال النووي: «يستحب كون الخطبة فصيحة، بليغة، مرتبة، مبينة من غير تمطيط، ولا تقعير»( ).
وقال البغوي: «ولا يمد الكلمات مداً يجاوز الحد، ويحترز عن التغني وتقطيع الكلام»( ).
«وعلى الخطيب أن يتذكر أنه يقوم مقام الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتكلم بلسان الشرع، وأن عليه أن يبين حكم الله فقط لا آراءه هو وخطرات ذهنه، ويحرص على رضا الله وحده لا على رضا الناس، ولا يتزلف إلى أحد، ولا يجعل الخطبة وسيلة إلى الدنيا وسبباً للقبول عند أهلها»( ).
وعليه أن يبتعد عن الخلافات الفقهية، ويقتصر على المسائل الواضحة بأدلتها الشرعية، ولا يخرج بالخطبة عن أصل موضوعها وهو الوعظ والتذكير، فإذا احتاج إلى ذكر حكم من أحكام الفقه بيَّن الحكمة في ذلك التشريع.

تنبيهات:
«1-إن كان الخطيب لديه القدرة على الارتجال والتحدث بطلاقة دون التلعثم، واللحن في اللغة، وتكرار الكلام، والخروج عن الموضوع إلى موضوعات كثيرة، فلا شك أن الارتجال أفضل وأقوى تأثيراً في السامعين، وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ومن جاء من بعدهم، أما إن كان الأمر غير ذلك فإن الإلقاء بالورق هو الأنفع حتى لا يزل الخطيب، أو يلحن، أو يخرج عن الموضوع»( ).
2-الأصل في خطبة الجمعة عدم التفات الخطيب يميناً وشمالاً، روى الترمذي في سننه من حديث عبدالله بن مسعود> قال: كَانَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَوَى عَلَى الْمِنْبَرِ اسْتَقْبَلْنَاهُ بِوُجُوهِنَا( )، قال الشافعي: «ولا أحب أن يلتفت يميناً ولا شمالاً ليسمع الناس خطبته، لأنه إن كان لا يسمع أحد الشقين إذا قصد بوجهه تلقاءه فهو لا يلتفت ناحية يسمع أهلها إلا خفي كلامه على الناحية التي تخالفها مع سوء الأدب من التلفت»( ).
وقد ذكر ابن قدامه وغيره أن من سنن الخطبة أن يقصد الخطيب تلقاء وجهه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، ولأنه أبلغ في سماع الناس، وأعدل بينهم، فإنه لو التفت إلى أحد جانبيه لأعرض عن الجانب الآخر( ).
3-الأصل في خطبة الجمعة عدم تحريك اليدين، فإن ذلك لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الشيخ ابن عثيمين~: «ليس في السنة أن يحرك يديه وإن كان بعض الخطباء بلغني أنهم يفعلون ذلك.. إلى أن قال: أما خطبة الجمعة فإن المغلب فيها التعبد، ولهذا أنكر الصحابة على بشر بن مروان حيث رفع يديه في الدعاء، مع أن الأصل في الدعاء رفع اليدين فلا يشرع فيها إلا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ( ). وبذلك يتضح أن الأصل في اليدين عدم الحركة بالنسبة لخطبة الجمعة، وأنه لا يشغلها أو يشغل إحداهما إلا في الأمور التالية:
أ- أن يشير بالسبابة حال الدعاء، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث عمارة بن رؤيبة قال: رأى بشر ابن مروان على المنبر رافعاً يديه، فقال: قبَّح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا وأشار بإصبعه المسبحة( ).
ب- أن يمسك العصا بإحدى اليدين على القول بسنيتها، ويمسك بالأخرى الورقة إن كان غير مرتجل، أو يمسك بحرف المنبر.
ج- إذا أراد الخطيب أن يمثل بيديه عن شيء ما، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل حينما قرن بين السبابة والوسطى في خطبته، كما في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه وفيه يقول: «بُعثِتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَينِ»ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى»( )( ).
4-على المصلين أن يعلموا أن سماع الخطبة ليس للبركة فقط، بل للاتعاظ بها والعمل بما يتعلمه منها، والحكمة ضالة المؤمن يأخذها من حيث وجدها( ).
5- بعض الخطباء يبدأ الخطبة قبل دخول الزوال، وقد سُئل الشيخ ابن باز~ عن صلاة الجمعة قبل زوال الشمس، فأجاب: «الأفضل بعد الزوال خروجاً من خلاف العلماء؛ لأن أكثر العلماء يقولون لابد أن تكون صلاة الجمعة بعد الزوال، وهذا هو قول الأكثرين، وذهب قوم من أهل العلم إلى جوازها قبل الزوال في الساعة السادسة، وفيه أحاديث وآثار تدل على ذلك صحيحه فإذا صلى قبل الزوال بقليل فصلاته صحيحة، ولكن ينبغي ألا تفعل إلا بعد الزوال عملاً بالأحاديث كلها، وخروجاً من خلاف العلماء وتيسيراً على الناس حتى يحضروا جميعاً، وحتى تكون الصلاة في وقت واحد، هذا هو الأولى والأحوط»( ). أه
وأفتى الشيخ ابن عثيمين~ بعدم جواز صلاة المرأة في بيتها صلاة الظهر يوم الجمعة إذا كانت تصلي عند دخول الخطيب، وهو يدخل قبل الزوال كما يفعل بعض الخطباء( )؛ ولذلك ينبغي للخطيب ألا يتساهل في الدخول قبل الزوال لما يترتب عليه من صلاة المرأة، والمريض، وغيرهم من أصحاب الأعذار قبل الوقت، ولما يترتب عليه من مفاسد أخرى، كفتح بعض المحال التجارية قبل خروج الناس من صلاة الجمعة بحجة أنهم صلوا الجمعة مع المسجد الفلاني وهو يخطب قبل الزوال.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


        
 
الخاتمـــة
فضل التبكير إلى الصلوات
فضل التبكير إلى الصلوات( )


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن من فضل الله ورحمته بعباده أن يسَّر لهم من الطاعات والعبادات ما يتقربون بها إليه سبحانه، ومن تلك الطاعات والقربات التبكير إلى الصلوات الخمس التي جعلهن بفضله خمسًا في العمل، وخمسين في الأجر والثواب.
والتبكير إلى الصلوات الخمس من الطاعات التي غفل عنها كثير من المصلين في هذا الزمان، فلا يحضرون إلا عند الإقامة، أو بعد الشروع في الصلاة.
ولقد ضرب سلفنا الصالح أروع الأمثلة، وأصدقها في التبكير إلى الصلاة، يقول عدي بن حاتم>: «ما دخل وقت صلاة حتى أشتاق إليها، وما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء»( )، قال ربيعة ابن يزيد: «ما أذن المؤذن لصلاة الظهر منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد، إلا أن أكون مريضاً أو مسافراً»( ).
قال الذهبي: «هكذا كان السلف في الحرص على الخير»( ).
روى الترمذي في سننه من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ صَلَّى لله أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى، كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ، بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ، وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ»( ).

ومن فضائل التبكير إلى الصلوات:
أولاً: استغفار الملائكة لمن ينتظر الصلاة، وكونه في حكم المصلي، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة> أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الـمَلاَئِكَةَُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُم( ) مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ مَا لَم يُحْدِثْ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، لاَ يَزَالُ أَحَدُكُم فِي صَلاَةٍ مَا دَامَتِ الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ، لاَ يَمْنَعُهُ أَن يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ الصَّلاَةُ»( ).
ثانيًا: إدراك الصف الأول، وما فيه من الفضل العظيم، والثواب الجزيل، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة> أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا»( ).
ثالثًا: إدراك تكبيرة الإحرام، وهي من أفضل التكبيرات، ومفتاح الصلاة، روى الترمذي من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ صَلَّى لِلَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ، يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الأُولَى، كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ: بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ، وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ»( ).
رابعًا: الدعاء بين الأذان والإقامة مستجاب، روى أبو داود في سننه من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدُّعَاءُ لاَ يُرَدُّ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ»( ).
خامسًا: الدنو والقرب من الإمام، وهذه فضيلة عظيمة، روى الإمام أبو داود من حديث سمرة بن جندب> أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «احْضُرُوا الذِّكْرَ، وَادْنُوا مِنَ الإِمَامِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لاَ يَزَالُ يَتَبَاعَدُ حَتَّى يُؤَخَّرَ فِي الجَنَّةِ وَإِن دَخَلَهَا»( ).
سادسًا: إدراك السنن القبلية التي قبل الصلاة، كسنة الفجر، روى مسلم من حديث عائشة < أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رَكْعَتَا الفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا»( ). وَكَانَ النَّبِيُّ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ( ).
وروى أبو داود في سننه من حديث أم حبيبة < أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن حَافَظَ عَلَى أَرْبَعٍ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا، حَرُمَ عَلَى النَّار»( )، وروى أيضًا من حديث ابن عمر> أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رَحِمَ اللهُ امْرَأً صَلَّى قَبْلَ العَصْرِ أَرْبَعًا»( ).
سابعًا: الحضور إلى المسجد بسكينة ووقار، فالسعي الذي يفعله كثير من الناس لإدراك الصلاة يفوتهم السكينة والوقار، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة> أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا سَمِعْتُمُ الإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلاَةِ، وَعَلَيْكُمُ بالسَّكِينَةِ وَالوَقَارِ، وَلاَ تُسْرِعُوْا، فَمَا أَدْرَكْتُم فَصَلُّوْا، وَمَا فَاتَكُم فَأَتِمُّوا»( ).
ثامنًا: قراءة الأذكار والاستغفار، وذكر الله  بين الأذان والإقامة، فلو حضر المصلي إلى المسجد مبكرًا لأمكنه على أقل تقدير أن يقرأ عشرين آية، وفي اليوم مئة آية، وفي الأسبوع سبعمئة آية، وفي الشهر ثلاثة آلاف آية، وهذا خير كثير، والحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمئة ضعف، والله يضاعف لمن يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وينبغي للمؤمن أن يُعَوِّدَ نفسه على التبكير إلى المسجد حتى يسهل عليه، ويجد الراحة، والسعادة في ذلك، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «...لاَ يَزَالُ قَومٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ»( ).
 
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


 

فهرس الموضوعات


الموضوع
المقدمــة    
خطبة الجمعة: فوائد وتنبيهات رقم (1)     
خطبة الجمعة: فوائد وتنبيهات رقم (2)     
الرسالة الأولى: فضل يوم الجمعة وآدابه     
الرسالة الثانية: الصلاة ومكانتها في الإسلام، ووجوب صلاة الجماعة     
الرسالة الثالثة: الإمامة: حقوق وواجبات     
الرسالة الرابعة: فضل الأذان والمؤذنين     
الرسالة الخامسة: فضل بناء المساجد ورعايتها     
الرسالة السادسة: حديث المسيء صلاته: جمع، وتخريج، وفوائد     
الرسالة السابعة: أخطاء في الطهارة والصلاة     
1- أخطاء في الطهارة     
2- أخطاء في الصلاة (أ)     
3- أخطاء في الصلاة (ب)     
الخاتمـــة: فضل التبكير إلى الصلوات